باب 5- حقيقة النفس و الروح و أحوالهما

الآيات الإسراء وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا الزمر اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ الواقعة فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ الملك الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. تفسير وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قال الطبرسي روح الله روحه اختلف في الروح المسئول عنه على أقوال أحدها أنهم سألوه عن الروح الذي في بدن الإنسان ما هو و لم يجبهم و سأله عن ذلك قوم من اليهود عن ابن مسعود و ابن عباس و جماعة و اختاره الجبائي و على هذا فإنما عدل النبي ص عن جوابهم لعلمه بأن ذلك أدعى لهم إلى الصلاح في الدين و لأنهم كانوا بسؤالهم متعنتين لا مستفيدين فلو صدر   الجواب لازدادوا عنادا و قيل إن اليهود قالت لقريش سلوا محمدا عن الروح فإن أجابكم فليس بنبي و إن لم يجبكم فهو نبي فإنا نجد في كتبنا ذلك فأمر الله سبحانه بالعدول عن جوابهم و أن يكلمهم في معرفة الروح إلى ما في عقولهم ليكون ذلك علما على صدقه و دلالة لنبوته. و ثانيها أنهم سألوه عن الروح أ هي مخلوقة محدثة أم ليست كذلك فقال سبحانه قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من فعله و خلقه و كان هذا جوابا لهم عما سألوه عنه بعينه و على هذا فيجوز أن يكون الروح الذي سألوه عنه هو الذي به قوام الجسد على قول ابن عباس و غيره أم جبرئيل على قول الحسن و قتادة أم ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بجميع ذلك على ما روي عن علي ع أم عيسى ع فإنه سمي بالروح. و ثالثها أن المشركين سألوه عن الروح الذي هو القرآن كيف يلقاك به الملك و كيف صار معجزا و كيف صار نظمه و ترتيبه مخالفا لأنواع كلامنا من الخطب و الأشعار و قد سمى الله سبحانه القرآن روحا في قوله وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا فقال سبحانه قل يا محمد إن الروح الذي هو القرآن من أمر ربي أنزله علي دلالة على نبوتي و ليس من فعل المخلوقين و لا مما يدخل في إمكانهم و على هذا فقد وقع الجواب أيضا موقعه و أما على القول الأول فيكون معنى قوله الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي هو الأمر الذي يعلمه ربي و لم يطلع عليه أحدا. و اختلف العلماء في مهية الروح فقيل إنه جسم رقيق هوائي متردد في مخارق الحيوان و هو مذهب أكثر المتكلمين و اختاره المرتضى قدس الله روحه و قيل هو جسم هوائي على بنية حيوانية في كل جزء منه حياة عن علي بن عيسى قال فلكل حيوان روح و بدن إلا أن منهم من الأغلب عليه الروح و منهم من الأغلب

    عليه البدن و قيل إن الروح عرض ثم اختلف فيه فقيل هو الحياة التي يتهيأ بها المحل لوجود العلم و القدرة و الاختيار و هو مذهب الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه و البلخي و جماعة من المعتزلة البغداديين و قيل هو معنى في القلب عن الأسواري و قيل إن الروح الإنسان و هو الحي المكلف عن ابن الإخشيد و النظام. و قال بعض العلماء إن الله خلق الروح من ستة أشياء من جوهر النور و الطيب و البقاء و الحياة و العلم و العلو أ لا ترى أنه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيا يبصر بالعينين و يسمع بالأذنين و يكون طيبا فإذا خرج من الجسد نتن البدن و يكون باقيا فإذا فارقه الروح بلي و فني و يكون حيا و بخروجه يصير ميتا و يكن عالما فإذا خرج منه الروح لم يعلم شيئا و يكون علويا لطيفا توجد به الحياة بدلالة قوله تعالى في صفة الشهداء بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ و أجسادهم قد بليت في التراب. و قوله وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قيل هو خطاب للنبي ص و غيره إذ لم يبين له الروح و معناه و ما أوتيتم من العلم المنصوص عليه إلا قليلا أي شيئا يسيرا لأن غير المنصوص عليه أكثر فإن معلومات الله تعالى لا نهاية لها و قيل خطاب لليهود الذين سألوه فقالت اليهود عند ذلك كيف و قد أعطانا الله التوراة فقال التوراة في علم الله قليل. و قال الرازي للمفسرين في الروح المذكورة في هذه الآية أقوال و أظهرها أن المراد منه الروح الذي هو سبب الحياة ثم ذكر رواية سؤال اليهود و إبهام النبي ص قصة الروح و زيفها بوجوه ضعيفة ثم قال بل المختار عندنا أنهم سألوه عن الروح و أنه ص أجابهم عنه على أحسن الوجوه و تقريره أن المذكور في الآية أنهم سألوه عن الروح و السؤال عنه يقع على وجوه كثيرة أحدها أن يقال ماهية الروح أ هو   متحيز أو حال في المتحيز أو موجود غير متحيز و لا حال في المتحيز و ثانيها أن يقال الأرواح قديمة أو حادثة و ثالثها أن يقال الأرواح هل تبقى بعد موت الأجساد أو تفنى و رابعها أن يقال ما هي حقيقة سعادة الأرواح و شقاوتها. و بالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة و قوله وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ليس فيه ما يدل على أنهم عن أي هذه المسائل سألوا إلا أن جوابه تعالى لا يليق إلا بمسألتين من المسائل التي ذكرناها إحداهما السؤال عن ماهية الروح و الثانية عن قدمها و حدوثها. أما البحث الأول فهو أنهم قالوا ما حقيقة الروح و ماهيته أ هو عبارة عن أجسام موجودة في داخل هذا البدن متولدة من امتزاج الطبائع و الأخلاط أو عبارة عن نفس هذا المزاج و التركيب أو هو عبارة عن عرض آخر قائم بهذه الأجسام أو هو عبارة عن موجود مغاير لهذه الأجسام و لهذه الأعراض فأجاب الله عنه بأنه موجود مغاير لهذه الأجسام و لهذه الأعراض و ذلك لأن هذه الأجسام و هذه الأعراض أشياء تحدث من امتزاج الأخلاط و العناصر و أما الروح فإنه ليس كذلك بل هو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث قوله كن فيكون فقالوا لم كان شيئا مغايرا لهذه الأجسام و لهذه الأعراض فأجاب الله بأنه موجود يحدث بأمر الله و تكوينه و تأثيره في إفادة الحياة لهذا الجسد و لا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء و ماهياتها مجهولة و لم يلزم من كونها مجهولة نفيها و هذا هو المراد بقوله وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. و أما البحث الثاني فهو أن لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال تعالى وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ و قال لَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي فعلنا فقوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي من فعل ربي و هذا الجواب يدل على أنهم سألوا أن الروح قديمة أو حادثة فقال بل هي حادثة و إنما حصلت بفعل الله و تكوينه و إيجاده ثم احتج على حدوث الروح بقوله وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا بمعنى أن الأرواح في مبدإ الفطرة تكون خالية عن العلوم ثم تحصل فيها المعارف و العلوم فهي لا تزال تكون في التغير من حال

    إلى حال و في التبديل من نقصان إلى كمال و التغير و التبدل من أمارات الحدوث فقوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي يدل على أنهم سألوا أن الروح هل هي حادثة أم لا فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله و تكوينه ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال فهذا ما نقوله في هذا الباب و الله أعلم بالصواب أقول ثم ذكر الأقوال الأخرى في تفسير الروح في هذه الآية فمنها أنه القرآن كما مر و منها أنه ملك من الملائكة هو أعظمهم قدرا و قوة و هو المراد من قوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا

 و نقلوا عن علي ع أنه قال هو ملك له سبعون ألف وجه و لكل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها و يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة قالوا و لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش و لو شاء الله يبتلع السماوات السبع و الأرضين السبع بلقمة واحدة

ثم اعترض على هذا الوجه و على الرواية بوجوه سخيفة ثم ذكر من الوجوه أنه جبرئيل ع و وجها رابعا عن مجاهد أنه خلق ليسوا بالملائكة على صورة بني آدم يأكلون و لهم أيد و أرجل و رءوس و قال أبو صالح يشبهون الناس و ليسوا بالناس و لم أجد في القرآن و لا في الأخبار الصحيحة شيئا يمكن التمسك به في إثبات هذا القول. ثم قال في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان اعلم أن العلم الضروري حاصل بأن هاهنا شيئا إليه يشير الإنسان بقوله أنا و إذا قال الإنسان علمت و فهمت و أبصرت و سمعت و ذقت و شممت و لمست و غضبت فالمشار إليه لكل أحد بقوله أنا إما أن يكون جسما أو عرضا أو مجموع الجسم و العرض أو ما تركب من الجسم و العرض و ذلك الشي‏ء الثالث فهذا ضبط معقول أما القسم الأول و هو أن يقال الإنسان جسم فذلك الجسم إما أن يكون هو هذه البنية أو جسما داخلا في هذه   البنية أو جسما خارجا عنها أما القائلون بأن الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة و هذا الهيكل المجسم المحسوس فإذا أبطلنا كون الإنسان عبارة عن هذا الجسم و أبطلنا كون الإنسان محسوسا فقد بطل كلامهم بالكلية. و الذي يدل على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وجوه الأول أن العلم البديهي حاصل بأن أجزاء هذه الجثة متبدلة بالزيادة و النقصان تارة بحسب النمو و الذبول و تارة بحسب السمن و الهزال و العلم الضروري حاصل بأن المتبدل المتغير مغاير للثابت الباقي و يحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاث العلم القطعي بأنه ليس عبارة عن مجموع هذه الجثة. الثاني أن الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر متوجه الهمة نحو أمر مخصوص فإنه في تلك الحالة غير غافل عن نفسه المعينة بدليل أنه في تلك الحالة قد يقول غضبت و اشتهيت و سمعت كلامك و أبصرت وجهك و تاء الضمير كناية عن نفسه المخصوصة فهو في تلك الحالة عالم بنفسه المخصوصة و غافل عن جملة بدنه و عن كل واحد من أعضائه و أبعاضه. الثالث أن كل أحد يحكم بصريح عقله بإضافة كل واحد من هذه الأعضاء إلى نفسه فيقول رأسي و عيني و يدي و رجلي و لساني و قلبي و بدني و المضاف غير المضاف إليه فوجب أن يكون الشي‏ء الذي هو الإنسان مغايرا لجملة هذا البدن و لكل واحد من هذه الأعضاء فإن قالوا فقد يقول نفسي و ذاتي فيضيف النفس و الذات إلى نفسه فيلزم أن نفس الشي‏ء و ذاته مغايرة لنفسه و ذاته و ذلك محال قلنا قد يراد بنفس الشي‏ء و ذاته هذا البدن المخصوص و قد يراد بنفس الشي‏ء و ذاته الحقيقة المخصوصة التي إليها يشير كل أحد بقوله أنا فإذا قال نفسي و ذاتي كان المراد منه البدن و عندنا أنه مغاير لجوهر الإنسان. الرابع أن كل دليل يدل على أن الإنسان يمتنع أن يكون جسما فهو أيضا يدل على أنه يمتنع أن يكون عبارة عن هذا الجسم و سيأتي تقرير تلك الدلائل. الخامس أن الإنسان قد يكون حيا حال ما يكون البدن ميتا فوجب   كون الإنسان مغايرا لهذا البدن و الدليل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فهذا النص صريح في أن أولئك المقتولين أحياء و الحس يدل على أن هذا الجسد ميتة. السادس أن قوله تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا و قوله أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً يدل على أن الإنسان حي بعد الموت

 و كذلك قوله ص الأنبياء لا يموتون و لكن ينقلون من دار إلى دار

 و كذلك قوله ص القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران

 و كذلك قوله ص من مات فقد قامت قيامته

و أن كل هذه النصوص يدل على أن الإنسان حي يبقى بعد موت الجسد و بديهة العقل و الفطرة شاهدتان بأن هذا الجسد ميت و لو جوزنا كونه حيا كان يجوز مثله في جميع الجمادات و ذلك عين السفسطة و إذا ثبت أن الإنسان حي ما كان الجسد ميتا لزم أن الإنسان شي‏ء غير هذا الجسد. السابع

 قوله ص في خطبة طويلة له حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش و يقول يا أهلي و يا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله و من غير حله فالمهنأ لغيري و التبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي

وجه الاستدلال أن النبي ص صرح بأن حال كون الجسد محمولا على النعش بقي هناك شي‏ء ينادي و يقول يا أهلي و يا ولدي جمعت المال من حله و غير حله و معلوم أن الذي كان الأهل أهلا له و كان الولد ولدا له و كان جامعا للمال من الحرام و الحلال و الذي بقي في ربقته الوبال ليس إلا ذلك الإنسان فهذا تصريح بأن في الوقت الذي كان الجسد ميتا محمولا على النعش كان ذلك الإنسان حيا باقيا فاهما و ذلك تصريح بأن الإنسان شي‏ء مغاير لهذا الجسد و الهيكل.   الثامن قوله تعالى يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً و الخطاب بقوله ارْجِعِي إنما يتوجه إليها حال الموت فدل هذا على أن الشي‏ء الذي يرجع إلى الله بعد موت الجسد يكون راضيا مرضيا عند الله و الذي يكون راضيا مرضيا ليس إلا الإنسان فهذا يدل على أن الإنسان بقي حيا بعد موت الجسد و الحي غير الميت فالإنسان مغاير لهذا الجسد. التاسع قوله تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أثبت كونهم مردودين إلى الله الذي هو مولاهم الحق عند كون الجسد ميتا فوجب أن يكون ذلك المردود إلى الله مغايرا لذلك الجسد الميت. العاشر ترى جميع فرق الدنيا من الهند و الروم و العرب و العجم و جميع أرباب الملل و النحل من اليهود و النصارى و المجوس و المسلمين و سائر فرق العالم و طوائفهم يتصدقون عن موتاهم و يدعون لهم بالخير و يذهبون إلى زياراتهم و لو لا أنهم بعد موت الجسد بقوا أحياء لكان التصدق لهم عبثا و لكان الدعاء لهم عبثا و لكان الذهاب إلى زيارتهم عبثا فإطباق الكل على هذه الصدقة و الدعاء و الزيارة يدل على أن فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأن الإنسان شي‏ء غير هذا الجسد و أن ذلك الشي‏ء لا يموت بموت هذا الجسد. الحادي عشر أن كثيرا من الناس يرى أباه و ابنه في المنام و يقول له اذهب إلى الموضع الفلاني فإن فيه ذهبا دفنته لك و قد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه ثم عند اليقظة إذا فتش عنه كان كما رآه في النوم من غير تفاوت و لو لا أن الإنسان باق حي بعد الموت لما كان كذلك و لما دل هذا الدليل على أن الإنسان حي بعد الموت و دل الحس على أن الجسد ميت كان الإنسان مغايرا لهذا الجسد. الثاني عشر أن الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه و رجلاه

    و تقلع عيناه و تقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإن ذلك الإنسان يجد من قلبه و عقله أنه هو عين ذلك الإنسان من غير تفاوت البتة حتى أنه يقول أنا ذلك الإنسان الذي كنت موجودا قبل ذلك إلا أنهم قطعوا يدي و رجلي و ذلك برهان يقيني على أن ذلك الإنسان شي‏ء مغاير لهذه الأعضاء و الأبعاض و ذلك يبطل قول من يقول الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة. الثالث عشر أن القرآن و الأحاديث يدلان على أن جماعة من اليهود قد مسخهم الله و جعلهم في صورة القردة و الخنازير فنقول ذلك الإنسان هل بقي حال ذلك المسخ أو لم يبق فإن لم يبق كان هذا إماتة لذلك الإنسان و خلق خنزير أو قردة و ليس هذا من المسخ في شي‏ء و إن قلنا إن ذلك الإنسان بقي حال حصول ذلك المسخ فنقول فعلى هذا التقدير الإنسان باق و تلك البنية و ذلك الهيكل غير باق فوجب أن يكون ذلك الإنسان شيئا مغايرا لتلك البنية. الرابع عشر أن رسول الله ص كان يرى جبرئيل في صورة دحية الكلبي و كان يرى إبليس في صورة الشيخ النجدي فهنا بنية الإنسان و هيكله و شكله حاصل مع أن الحقيقة الإنسانية غير حاصلة و هذا يدل على أن الإنسان ليس عبارة عن هذه البنية و هذا الهيكل. الخامس عشر أن الزاني يزني بفرجه و يضرب على ظهره فوجب أن يكون الإنسان شيئا آخر سوى الفرج و سوى الظهر و يقال إن ذلك الشي‏ء يستعمل الفرج في عمل و الظهر في عمل آخر فيكون الملتذ و المتألم هو ذلك الشي‏ء إلا أنه يحصل اللذة بواسطة ذلك العضو و يتألم بواسطة الضرب على هذا العضو السادس عشر أني إذا تكلمت مع زيد و قلت له افعل كذا و لا تفعل كذا فالمخاطب بهذا الخطاب و المأمور و المنهي ليس هو جبهة زيد و لا حدقته و لا أنفه و لا فمه و لا شي‏ء من أعضائه بعينه فوجب أن يكون المأمور و المنهي و المخاطب شيئا مغايرا لهذه الأعضاء و ذلك يدل على أن ذلك المأمور و المنهي غير هذا الجسد فإن قالوا   لم لا يجوز أن يكون المأمور و المنهي جملة هذا البدن لا شي‏ء من أجزائه و أبعاضه قلنا توجيه التكليف إلى الجملة إنما يصح لو كانت الجملة فاهمة عالمة فنقول لو كانت الجملة عالمة فإما أن يقوم بمجموع البدن علم واحد أو يقوم بكل واحد من أجزاء البدن علم على حده و الأول يقتضي قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة و هو محال و الثاني يقتضي أن يكون كل واحد من أجزاء البدن عالما فاهما على سبيل الاستقلال و قد بينا أن العلم الضروري حاصل بأن الجزء المعين من البدن ليس عالما فاهما مدركا بالاستقلال فسقط هذا السؤال. السابع عشر الإنسان يجب أن يكون عالما و العلم لا يحصل إلا في القلب فيلزم أن يكون الإنسان عبارة عن الشي‏ء الموجود في القلب و إذا ثبت هذا بطل القول بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل و هذه الجثة إنما قلنا إن الإنسان يجب أن يكون عالما لأنه فاعل مختار و الفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد إلى تكوينه و هما مشروطان بالعلم لأن ما لا يكون متصورا امتنع القصد إلى تكوينه فثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالما بالأشياء و إنما قلنا إن العلم لا يوجد إلا في القلب للبرهان و القرآن أما البرهان فلأنا نجد العلم الضروري بأنا نجد علومنا من ناحية القلب و أما القرآن فآيات نحو قوله تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها و قوله كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ و قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ و إذا ثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالما و ثبت أن العلم ليس إلا في القلب ثبت أن الإنسان شي‏ء في القلب أو شي‏ء له تعلق بالقلب و على التقديرين فإنه بطل قول من يقول إن الإنسان هو هذا الجسد و هذا الهيكل. و أما البحث الثاني و هو بيان أن الإنسان غير محسوس هو أن حقيقة الإنسان شي‏ء مغاير للسطح و اللون و كل ما هو مرئي فهو إما السطح و إما اللون و هما مقدمتان

    قطعيتان ينتج هذا القياس أن حقيقة الإنسان غير مرئية و لا محسوسة و هذا برهان يقيني. ثم قال في شرح مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفلي إما أن يكون أحد العناصر الأربعة أو ما يكون متولدا من امتزاجها و يمتنع أن يحصل في البدن الإنساني جسم عنصري خالص بل لا بد و أن يكون الحاصل جسما متولدا من امتزاجات هذه الأربعة فنقول أما الجسم الذي تغلب عليه الأرضية فهو الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم و العصب و الوتر و الرباط و الشحم و اللحم و الجلد و لم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا إن الإنسان شي‏ء مغاير لهذا الجسد بأنه عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء و ذلك لأن هذه الأعضاء كثيفة ثقيلة ظلمانية فلا جرم لم يقل أحد من العقلاء بأن الإنسان عبارة عن أحد هذه الأعضاء و أما الجسم الذي تغلب عليه المائية فهو الأخلاط الأربعة و لم يقع في شي‏ء منها أنه الإنسان إلا في الدم فإن فيهم من قال إنه لروح بدليل أنه إذا خرج لزمه الموت أما الجسم الذي تغلب عليه الهوائية و النارية فهي الأرواح و هي نوعان أحدهما أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزية متولدة إما في القلب أو في الدماغ و قالوا إنها هي الروح الإنساني ثم إنهم اختلفوا فمنهم من يقول الإنسان هو الروح الذي في القلب و منهم من يقول إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ و منهم من يقول الروح عبارة عن أجزاء نارية مختلطة بهذه الأرواح القلبية و الدماغية و تلك الأجزاء النارية هي المسماة بالحرارة الغريزية و هي الإنسان و من الناس من يقول الروح عبارة عن أجسام نورانية سماوية لطيفة الجوهر على طبيعة ضوء الشمس و هي لا تقبل التحلل و التبدل و لا التفرق و التمزق فإذا تكون البدن و تم استعداده و هو المراد بقوله فَإِذا سَوَّيْتُهُ نفذت تلك الأجسام الشريفة السماوية الإلهية في داخل أعضاء البدن نفاذ النار في الفحم و نفاذ دهن السمسم في   السمسم و نفاذ ماء الورد في جسم الورد و نفاذ تلك الأجسام السماوية في جوهر البدن هو المراد بقوله وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ثم إن البدن ما دام يبقى سليما قابلا لنفاذ تلك الأجسام الشريفة فيه بقي حيا فإذا تولد في البدن أخلاط غليظة منعت تلك الأخلاط الغليظة من سريان تلك الأجسام الشريفة فانفصلت عن هذا البدن فحينئذ يعرض الموت فهذا مذهب قوي و قول شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الموت و الحياة فهذا تفصيل مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن و أما أن الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحدا ذهب إلى هذا القول. و أما القسم الثاني و هو أن يقال الإنسان عرض حال في البدن فهذا لا يقوله عاقل لأنه من المعلوم بالضرورة أن الإنسان جوهر لأنه موصوف بالعلم و القدرة و التدبير و التصرف و كل من كان هذا شأنه كان جوهرا و الجوهر لا يكون عرضا بل الذي يمكن أن يقال له عاقل هو الإنسان بشرط أن يكون موصوفا بأعضاء مخصوصة و على هذا التقدير فللناس فيه أقوال القول الأول أن العناصر الأربعة إذا امتزجت و انكسرت سورة كل واحد منها بسورة أخرى حصلت كيفية معتدلة هي المزاج و مراتب هذا المزاج غير متناهية فبعضها هي الإنسانية و بعضها هي الفرسية فالإنسان عبارة عن أجسام موصوفة بكيفيات مخصوصة متولدة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص و هذا قول جمهور الأطباء و منكري بقاء النفس و من المعتزلة قول أبي الحسين البصري. و القول الثاني أن الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة بشرط كونها موصوفة بصفة الحياة و العلم و القدرة و الحياة عرض قائم بالجسم و هؤلاء أنكروا الروح و النفس

    و قالوا ليس هاهنا إلا أجسام مؤتلفة موصوفة بصفة الحياة و بهذه الأعراض المخصوصة و هي الحياة و العلم و القدرة و هذا مذهب أكثر شيوخ المعتزلة. و القول الثالث أن الإنسان عبارة عن أجسام مخصوصة بأشكال مخصوصة و بشرط أن تكون أيضا موصوفة بالحياة و العلم و القدرة و الإنسان إنما يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده و هيئة أعضائه و أجزائه إلا أن هذا مشكل فإن الملائكة قد يتشبهون بصور الناس فهنا صورة الإنسان حاصلة مع عدم الإنسانية و في صورة المسخ معنى الإنسانية حاصلة مع أن هذه الصورة غير حاصلة فقد بطل اعتبار هذا الشكل و الصورة في حصول معنى الإنسانية طردا و عكسا. أما القسم الثالث و هو أن يقال الإنسان موجود ليس بجسم و لا جسماني و هذا قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة القائلين ببقاء النفس المثبتين للنفس معادا روحانيا و ثوابا و عقابا روحانيا ذهب إليه جماعة من علماء المسلمين مثل الشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني و الشيخ أبي حامد الغزالي و من قد ماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي و من الشيعة الملقب عندهم بالشيخ المفيد و من الكرامية جماعة. و اعلم أن القائلين بإثبات النفس فريقان الأول و هم المحققون منهم قالوا الإنسان عبارة عن هذا الجوهر المخصوص و هذا البدن آلته و منزله و مركبه و على هذا التقدير فالإنسان غير موجود في داخل العالم و لا في خارجه و غير متصل بالعالم و لا منفصل عنه و لكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير و التصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعالم إلا على سبيل التصرف و التدبير. و الفريق الثاني الذين قالوا النفس إذا تعلقت بالبدن اتحدت بالبدن فصارت النفس عين البدن و البدن عين النفس و مجموعهما عند الاتحاد هو الإنسان فإذا جاء وقت الموت بطل هذا الاتحاد و بقيت النفس و فسد البدن فهذا جملة مذاهب الناس في الإنسان و كان ثابت بن قرة يثبت النفس و يقول إنها متعلقة بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون و الفساد و التفرق و التمزق و أن تلك الأجسام تكون سارية في البدن و هن موجودات في داخل البدن و أما أن

    الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحدا ذهب إلى ذلك أقول ثم ذكر حججا عقلية طويلة الذيل على إثبات النفس و مغايرتها للبدن. منها أن النفس واحدة و متى كانت واحدة وجب أن تكون مغايرة لهذا البدن و لكل واحد من أجزائه أما كونها واحدة فتارة ادعى البداهة فيه و تارة استدل عليه بوجوه منها أنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين يكون كل واحد منهما مستقلا بفعله الخاص امتنع أن يصير اشتغال أحدهما بفعله الخاص به مانعا لاشتغال الآخر بفعله الخاص به و إذا ثبت هذا فنقول لو كان محل الإدراك و الفكر جوهرا و محل الغضب جوهرا آخر و محل الشهوة جوهرا ثالثا وجب أن لا يكون اشتغال القوة الغضبية بفعلها مانعا للقوة الشهوانية من الاشتغال بفعلها و لا بالعكس لكن التالي باطل فإن اشتغال الإنسان بالشهوة و انصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب و الانصباب إليه و بالعكس فعلمنا أن هذه الأمور الثلاثة ليست مبادئ مستقلة بل هي صفات مختلفة لجوهر واحد فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال عائقا له عن الاشتغال بالفعل الآخر. و منها أن حقيقة الحيوان أنه جسم ذو نفس حساسة متحركة بالإرادة فالنفس لا يمكنها أن تتحرك بالإرادة إلا عند حصول الداعي و لا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه و هذا يقتضي أن يكون المتحرك بالإرادة هو بعينه مدركا للخير و الشر و الملذ و الموذي و النافع و الضار فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شي‏ء واحد و ثبت أن ذلك الشي‏ء هو المبصر و السامع و الشام و الذائق و اللامس و المتخيل و المتفكر و المتذكر و المشتهي و الغاضب و هو الموصوف بجميع الإدراكات لكل المدركات و هو الموصوف بجميع الأفعال الاختيارية و الحركات الإرادية. ثم قال و أما المقدمة الثانية فهي في بيان أنه لما كانت النفس شيئا واحدا وجب أن لا يكون النفس هذا البدن و لا شيئا من أجزائه و أما امتناع كونها جملة هذا البدن فتقريره أنا نعلم بالضرورة أن القوة الباصرة غير سارية في كل البدن   و كذا القوة السامعة و كذا سائر القوى كالتخيل و التذكر و التفكر و العلم بأن هذه القوى غير سارية في جملة أجزاء البدن علم بديهي بل هو من أقوى العلوم البديهية و أما بيان أنه يمتنع أن يكون النفس جزء من أجزاء البدن فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس في البدن جزء واحد هو بعينه موصوف بالإبصار و السماع و الفكر و الذكر بل الذي يتبادر إلى الخاطر أن الإبصار مخصوص بالعين لا بسائر الأعضاء و السماع مخصوص بالأذن لا بسائر الأعضاء و الصوت مخصوص بالحلق لا بسائر الأعضاء و كذلك القول في سائر الإدراكات و سائر الأفعال فأما أن يقال أنه حصل في البدن جزء واحد موصوف بكل هذه الإدراكات و كل هذه الأفعال فالعلم الضروري حاصل أنه ليس الأمر كذلك فثبت بما ذكرناه أن النفس الإنسانية شي‏ء واحد موصوف بجملة هذه الإدراكات و بجملة هذه الأفعال و ثبت بالبديهة أن جملة البدن ليست كذلك و ثبت أيضا أن شيئا من أجزاء البدن ليس كذلك فحينئذ يحصل اليقين بأن النفس شي‏ء مغاير لهذا البدن و لكل واحد من أجزائه و هو المطلوب. و لنقرر هذا البرهان بعبارة أخرى نقول إنا نعلم بالضرورة أنا إذا أبصرنا شيئا عرفناه و إذا عرفناه اشتهيناه و إذا اشتهيناه حركنا أبداننا إلى القرب منه فوجب القطع بأن الذي أبصر هو الذي عرف و أن الذي عرف هو الذي اشتهى و أن الذي اشتهى هو الذي حرك إلى القرب منه فيلزم القطع بأن المبصر لذلك الشي‏ء و العارف به و المشتهي إليه و المحرك إلى القرب منه شي‏ء واحد إذ لو كان المبصر شيئا و العارف شيئا ثانيا و المشتهي شيئا ثالثا و المحرك شيئا رابعا لكان الذي أبصر لم يعرف و الذي عرف لم يشته و الذي اشتهى لم يحرك لكن من المعلوم أن كون شي‏ء مبصرا لشي‏ء لا يقتضي صيرورة شي‏ء آخر عالما بذلك الشي‏ء و كذلك القول في سائر المراتب و أيضا فإنا نعلم بالضرورة أن الرائي للمرئيات أنا و أني لما رأيتها عرفتها و لما عرفتها اشتهيتها و لما اشتهيتها طلبتها و حركت الأعضاء إلى القرب منها و نعلم أيضا بالضرورة أن الموصوف بهذه الرؤية و بهذا العلم و بهذه الشهوة و بهذا التحريك أنا لا غيري و أيضا العقلاء قالوا الحيوان لا بد و أن يكون حساسا متحركا بالإرادة

    فإن لم يحس بشي‏ء لم يشعر بكونه ملائما و بكونه منافرا و إذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريدا للجذب أو الدفع فثبت أن الشي‏ء الذي يكون متحركا بالإرادة فإنه بعينه يجب أن يكون حساسا فثبت أن المدرك لجميع المدركات بجميع أنواع الإدراكات و أن المباشر لجميع التحريكات الاختيارية شي‏ء واحد. و أيضا فإنا إذا تكلمنا بكلام لقصد تفهيم الغير معاني تلك الكلمات فقد عقلناها و أردنا تعريف غيرنا تلك المعاني و لما حصلت هذه الإرادة في قلوبنا حاولنا إدخال تلك الحروف و الأصوات في الوجود لنتوسل بها إلى تعريف غيرنا تلك المعاني. إذا ثبت هذا فنقول إن كان محل العلم و الإرادة و محل تلك الحروف و الأصوات جسما واحدا لزم أن يقال إن محل العلوم و الإرادات هو الحنجرة و اللهاة و اللسان و معلوم أنه ليس كذلك و إن قلنا إن محل العلوم و الإرادات هو القلب لزم أن يكون محل الصوت هو القلب أيضا و ذلك باطل أيضا بالضرورة و إن قلنا إن محل الكلام هو الحنجرة و اللهاة و اللسان و محل العلوم و الإرادات هو القلب و محل القدرة هو الأعصاب و الأوتار و العضلات كنا قد وزعنا هذه الأمور على هذه الأعضاء المختلفة لكنا أبطلنا ذلك و بينا أن المدرك لجميع الإدراكات و الإرادات و المحرك لجميع الأعضاء بجميع أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئا واحدا فلم يبق إلا أن يقال محل الإدراك و القدرة على التحريك شي‏ء سوى هذا البدن و سوى أجزاء هذا البدن و أن هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات و الأدوات فكما أن النجار يفعل أفعالا مختلفة بواسطة آلات مختلفة فكذلك النفس تبصر بالعين و تسمع بالأذن و تتفكر بالدماغ و تعقل بالقلب فهذه الأعضاء آلات النفس و أدوات لها و ذات النفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف و التدبير و هذا البرهان برهان شريف يقيني في هذا المطلوب و بالله التوفيق. و منها أنه لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان إما أن يقوم بكل واحد من الأجزاء حياة و علم و قدرة على حدة أو يقوم بجميع الأجزاء حياة و علم و قدرة واحدة و القسمان باطلان أما الأول فلأنه يقتضي كون كل واحد من أجزاء الجسد حيا

    عالما قادرا على سبيل الاستقلال فوجب أن لا يكون الإنسان الواحد حيوانا واحدا بل أحياء عالمين قادرين و حينئذ لا يبقى فرق بين الإنسان الواحد و بين أشخاص كثيرين من الناس ربط بعضهم بالبعض بالسلسلة لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأني أجد ذاتي ذاتا واحدة و حيوانا لا حيوانات كثيرين و أيضا فبتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيوانا واحدا على حدة فحينئذ لا يكون لكل واحد منها خبر عن حال صاحبه فلا يمتنع أن يريد هذا الجزء أن يتحرك إلى هذا الجانب و يريد الجزء الآخر أن يتحرك إلى الجانب الآخر فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء بدن الإنسان الواحد كما يقع بين الشخصين و فساد ذلك معلوم بالبديهة و أما الثاني فلأنه يقتضي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة و ذلك معلوم البطلان بالضرورة مع أنه يعود المحذور السابق أيضا. و منها أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم و ذلك يدل على أن النفس ليست جسما و تقرير هذه المنافاة من وجوه الأول أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى عنه زوالا تاما مثاله أن البصر إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع و التدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه ثم إنا وجدنا الحال في قبول النفس لصور المعقولات بالضد من ذلك فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتة يعسر قبولها لشي‏ء من الصور العقلية فإذا قبلت صورة واحدة كان قبولها للصورة الثانية أسهل و إذا قبلت الصورة الثانية صار قبولها للصورة الثالثة أسهل ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف البتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر كان قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل و أسرع و لهذا السبب يزداد الإنسان فهما و إدراكا كلما ازداد تخريجا و ارتياضا للعلوم فثبت أن قبول النفس للصورة العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة و ذلك يوهم أن النفس ليست بجسم. و الثاني أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس و أثر في البدن أما   أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس عن القوة إلى الفعل في التعقلات و الإدراكات و كلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل و ذلك غاية كمالها و نهاية شرفها و جلالتها و أما أثرها في البدن فهو أنها توجب استيلاء اليبس على البدن و استيلاء الذبول عليه و هذه الحالة لو استمرت لانتهت إلى الماليخوليا و موت البدن فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس و شرفها و توجب نقصان البدن و موته فلو كانت النفس هي البدن لصار الشي‏ء الواحد بالنسبة إلى الشي‏ء الواحد سببا لكماله و نقصانه معا و لحياته و موته معا و إنه محال. و الثالث أنا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفا نحيفا فإذا لاح نور من الأنوار القدسية و تجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جرأة عظيمة و سلطنة قوية و لم يعبأ بحضور أكبر السلاطين و لم يقم له وزنا و لو لا أن النفس شي‏ء سوى البدن و النفس إنما تحيا و تبقى بغير ما به يقوى البدن و يحيا لما كان الأمر كذلك. و الرابع أن أصحاب الرياضات و المجاهدات كلما أمعنوا في قهر القوى البدنية و تجويع الجسد قويت قواهم الروحانية و أشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية و كلما أمعن الإنسان في الأكل و الشرب و قضاء الشهوات الجسدانية صار كالبهيمة و بقي محروما عن آثار النظر و العقل و الفهم و المعرفة و لو لا أن النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك. و الخامس أنا نرى النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية فإنها تبصر بالعين و تسمع بالأذن و تأخذ باليد و تمشي بالرجل أما إذا آل الأمر إلى التعقل و الإدراك فإنها مستقلة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شي‏ء من الآلات و لذلك فإن الإنسان يمكنه أن لا يبصر شيئا إذا غمض عينه و أن لا يسمع شيئا إذا سد أذنيه و لا يمكنه البتة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالما به فعلمنا أن النفس

    غنية بذاتها في العلوم و المعارف عن شي‏ء من الآلات البدنية فهذه الوجوه أمارات قوية في أن النفس ليست بجسم. ثم ذكر في إثبات أن النفس ليست بجسم وجوها من الدلائل السمعية الأول قوله تعالى وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ و معلوم أن أحدا من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد فدل ذلك على أن النفس التي ينساها الإنسان عند فرط الجهل شي‏ء آخر غير هذا البدن. الثاني قوله تعالى أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ و هذا صريح في أن النفس غير هذا الجسد. الثالث أنه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً و لا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ و هذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية و ذلك يدل على أن الروح شي‏ء مغاير للبدن. فإن قالوا هذه الآية حجة عليكم لأنه تعالى قال وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ و كلمة من للتبعيض و هذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين قلنا كلمة من أصلها لابتداء الغاية كقولك خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلا من هذه السلالة و نحن نقول بموجبه لأنه تعالى يسوي المزاج أولا ثم ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من سلالة. الرابع قوله فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ميز تعالى بين التسوية و بين نفخ الروح فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض و الأعضاء ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله مِنْ رُوحِي دل ذلك على أن جوهر الروح شي‏ء مغاير لجوهر الجسد.   الخامس قوله تعالى وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها و هذه الآية صريحة في وجود النفس موصوفة بالإدراك و التحريك معا لأن الإلهام عبارة عن الإدراك و أما الفجور و التقوى فهو فعل و هذه الآية صريحة في أن الإنسان شي‏ء واحد و هو موصوف بالإدراك و التحريك و هو موصوف أيضا بفعل الفجور تارة و فعل التقوى أخرى و معلوم أن جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين و ليس في البدن عضو واحد موصوف بهذين الوصفين فلا بد من إثبات جوهر واحد يكون موصوفا بكل هذه الأمور. السادس قوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً فهذا تصريح بأن الإنسان شي‏ء واحد و ذلك الشي‏ء الواحد هو المبتلى بالتكاليف الإلهية و الأمور الربانية و هو الموصوف بالسمع و البصر و مجموع البدن ليس كذلك و ليس عضو من أعضاء البدن كذلك فالنفس شي‏ء مغاير جملة البدن و مغاير أجزاء البدن و هو الموصوف بهذه الصفات. و اعلم أن الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد و بعد انفصالها من الأجساد كثيرة و كل ذلك يدل على أن النفس غير هذا الجسد و العجب ممن يقرأ هذه الآيات الكثيرة و يروي هذه الأخبار الكثيرة ثم يقول توفي رسول الله ص و ما كان يعرف ما الروح و هذا من العجائب. ثم استدل بهذه الآية التي بصدد تفسيرها على هذا المذهب و تقريره أن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة و من صفة إلى صفة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخر فإذا سئل رسول الله ص عن الروح وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا و كذا حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك بل قال إنه من أمر ربي بمعنى أنه لا يحدث و لا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له كُنْ فَيَكُونُ دل ذلك على أنه جوهر ليس

    من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد و اعلم أن أكثر العارفين الكاملين من أصحاب الرياضات و أصحاب المكاشفات و المشاهدات مصرون على هذا القول جازمون بهذا المذهب. ثم قال و احتج المنكرون بوجوه الحجة الأولى لو كانت مساوية لذات الله تعالى في كونه ليس بجسم و لا عرض لكان مساويا له في تمام الماهية و ذلك محال. الثانية قوله تعالى قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ إلى قوله ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ و هذا تصريح بأن الإنسان شي‏ء مخلوق من نطفة و أنه يموت و يدخل القبر ثم إنه تعالى يخرجه من القبر و لو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثة لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة. الثالثة قوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً إلى قوله يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ و هذا يدل على أن الروح جسم لأن الارتزاق و الفرح من صفات الأجسام. و الجواب عن الأول أن المساواة في أنه ليس بمتحيز و لا حال في المتحيز مساواة في صفات سلبية و المساواة في الصفات السلبية لا توجب المماثلة و اعلم أن جماعة من الجهال يظنون أنه لما كان الروح موجودا ليس بمتحيز و لا حال في المتحيز وجب أن يكون مثلا للإله أو جزء من الإله و ذلك جهل فاحش و غلط قبيح و تحقيقه ما ذكرنا من أن المساواة في السلوب لو أوجبت المماثلة لوجب القول باستواء كل المختلفات فإن كل ماهيتين مختلفتين لا بد و أن يشتركا في سلب كل ما عداهما عنهما. و الجواب عن الثاني أنه لما كان الإنسان في العرف و الظاهر عبارة عن هذه الجثة أطلق عليه اسم الإنسان و أيضا فلقائل أن يقول هب أنا نجعل اسم الإنسان عبارة عن هذه الجثة إلا أنا قد دللنا على أن محل العلم و القدرة ليس هو هذه الجثة.   و الجواب عن الثالث أن الرزق المذكور في الآية محمول على ما يقوي حالهم و يكمل كمالهم و هو معرفة الله و محبته بل نقول هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا لأن أبدانهم قد بليت تحت التراب و الله تعالى يقول إن أرواحهم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فهذا يدل على أن الروح غير البدن و قال في قوله سبحانه نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ فيه قولان الأول أنه إنما قال عَلى قَلْبِكَ و إن كان إنما أنزله عليه ليؤكد به أن ذلك المنزل محفوظ و المرسول متمكن في قلبه لا يجوز عليه التغير فيوثق عليه بالإنذار الواقع مع الذي بين الله تعالى أنه المقصود و لذلك قال لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. الثاني أن القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز و الاختيار و أما سائر الأعضاء فمسخرة له و الدليل عليه القرآن و الحديث و المعقول أما القرآن فآيات إحداها في سورة البقرة نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ و قال هاهنا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ و قال إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ و ثانيها أن استحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب من المساعي فقال لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ و قال لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ و التقوى في القلب لأنه تعالى قال أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى و قال تعالى وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ و ثالثها قوله حكاية عن   أهل النار لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ و معلوم أن العقل في القلب و السمع منفذ إليه و قال إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا و معلوم أن السمع و البصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب فكان السؤال عنهما في الحقيقة سؤالا عن القلب و قال يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ و لم تخن الأعين إلا بما تضمر القلوب عند التحديق بها و رابعها قوله وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ فخص هذه الثلاثة بإلزام الحجة و استدعاء الشكر عليها و قد قلنا لا طائل في السمع و الأبصار إلا بما يؤديانه إلى القلوب ليكون القلب هو القاضي و المتحكم عليه و قال تعالى وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فجعل هذه الثلاثة تمام ما ألزمهم من حجة و المقصود من ذلك هو الفؤاد القاضي فيما يؤدي إليه السمع و البصر.

 و أما الحديث فما روى النعمان بن بشير قال سمعته ص يقول ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله و إذا فسدت فسد الجسد كله ألا و هي القلب

و أما المعقول فوجوه أحدها أن القلب إذا غشي عليه فلو قطع سائر الأعضاء لم يحصل الشعور به و إذا أفاق القلب فإنه يشعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات فدل ذلك على أن الأعضاء تبع للقلب و لذلك فإن القلب إذا فرح أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك و كذا القول في سائر الأعراض النفسانية. و ثانيها أن القلب منبع المشيئات الباعثة على الأفعال الصادرة من سائر الأعضاء و إذا كانت المشيئات مبادئ الأفعال و منبعها هو القلب فالأمر المطلق هو القلب.   و ثالثها أن معدن العقل هو القلب و إذا كان كذلك كان الآمر المطلق هو القلب أما المقدمة الأولى ففيها النزاع فإن طائفة من القدماء ذهبوا إلى أن معدن العقل هو الدماغ و الذي يدل على قولنا وجوه الأول قوله تعالى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها و قوله لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها و قوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي عقل أطلق على العقل لما أنه معدن له. الثاني أنه تعالى أضاف أضداد العقل إلى القلب فقال فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ فدلت هذه الآيات على أن موضع الجهل و الغفلة هو القلب فوجب أن يكون موضع العقل و الفهم أيضا هو القلب. الثالث أنا إذا جربنا أنفسنا وجدنا علومنا حاصلة في ناحية القلب و لذلك فإن الواحد منا إذا أمعن في الفكر و الروية أحس من قلبه ضيقا و ضجرا حتى كأنه يتألم بذلك و كل ذلك يدل على أن موضع العقل هو القلب و إذا ثبت ذلك وجب أن يكون المكلف هو القلب لأن التكليف مشروط بالعقل و الفهم.   الرابع أن القلب هو أول الأعضاء تكونا و آخرها موتا و قد ثبت ذلك بالتشريح و لأنه متمكن في الصدر الذي هو الأوسط في الجسد و من شأن الملوك المحتاجين إلى الخدم أن يكونوا في وسط المملكة لتكتنفهم الحواشي من الجوانب ليكونوا أبعد من الآفات. و احتج من قال العقل في الدماغ بوجوه أحدها أن الحواس التي هي الآلات للإدراك نافذة إلى الدماغ دون القلب و ثانيها أن الأعضاء التي هي آلات الحركات الاختيارية نافذة من الدماغ دون القلب و ثالثها أن الآفة إذا دخلت في الدماغ اختل العقل و رابعها أن في العرف كل من أريد وصفه بقلة العقل يقال إنه خفيف الدماغ خفيف العقل و خامسها أن العقل أشرف فيكون مكانها أشرف و الأعلى هو الأشرف و ذلك هو الدماغ لا القلب فوجب أن يكون محل العقل الدماغ لا القلب. و الجواب عن الأول لم لا يجوز أن يقال الحواس تؤدي آثارها إلى الدماغ ثم إن الدماغ يؤدي تلك الآثار إلى القلب و الدماغ آلة قريبة للقلب و الحواس آلة بعيدة و الحس يخدم الدماغ و الدماغ يخدم القلب و تحقيقه أنا ندرك من أنفسنا أنا إذا عقلنا أن الأمر الفلاني يجب فعله أو يجب تركه فإن الأعضاء تتحرك عند ذلك و نحن عند التعقلات نحس من جانب الدماغ. و عن الثاني أنه لا يبعد أن يتأدى الأثر من القلب إلى الدماغ ثم الدماغ يحرك الأعضاء بواسطة الأعصاب النابتة منه. و عن الثالث لا يبعد أن تكون سلامة الدماغ شرطا لوصول تأثير القلب إلى سائر الأعضاء.

    و عن الرابع أن ذلك العرف إنما كان لأن القلب إنما يعتدل مزاجه بما يستمده من الدماغ من برودته فإذا لحق الدماغ خروج عن الاعتدال خرج القلب عن الاعتدال أيضا إما لزيادة حرارته عن القدر الواجب أو لنقصان حرارته عن ذلك القدر فحينئذ يختل العقل. و عن الخامس أنه لو صح ما قالوه لوجب أن يكون موضع القلب هو القحف و لما بطل ذلك ثبت فساد قولهم انتهى. و أقول بعد تسليم مقدمات دلائله و عدم التعرض لتزييفها و منعها إنما تدل على أن الروح غير البدن و أجزائه و الحواس الظاهرة و الباطنة و لا تدل على تجردها لم لا يجوز أن تكون جسما لطيفا من عالم الملكوت تتعلق بالبدن أو تدخله و تخرج عند الموت و تبقى محفوظة إلى النشور كما سنحققه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها قال الطبرسي قدس الله سره أي يقبضها إليه وقت موتها و انقضاء آجالها و المعنى حين موت أبدانها و أجسادها على حذف المضاف وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي يتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها و التي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل و التمييز فهي التي تفارق النائم فلا يعقل و التي تتوفى عند الموت هي نفس الحياة التي إذا زالت زال معها النفس و النائم يتنفس فالفرق بين قبض النوم و قبض الموت أن قبض النوم يضاد اليقظ و قبض الموت يضاد الحياة و قبض النوم يكون الروح معه و قبض الموت يخرج الروح من البدن فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ إلى يوم القيامة وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى يعني الأنفس التي لم يقض على موتها يريد نفس النائم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قد سمي لموته إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أي دلالات واضحات على توحيد الله و كمال قدرته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في الأدلة إذ لا يقدر على قبض النفوس تارة بالنوم و تارة بالموت غير الله تعالى قال ابن عباس في بني آدم نفس و   روح و بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس التي بها العقل و التمييز و الروح التي بها النفس و التحريك فإذا نام قبض الله نفسه و لم يقبض روحه و إذا مات قبض الله نفسه و روحه و يؤيده

 ما رواه العياشي بالإسناد عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن ثابت أبي المقدام عن أبيه عن أبي جعفر ع قال ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء و بقيت روحه في بدنه و صار بينهما سبب كشعاع الشمس فإذا أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح و النفس و إن أذن الله في رد الروح أجابت النفس و الروح و هو قوله سبحانه اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فمهما رأت في ملكوت السماوات فهو مما له تأويل و ما رأت فيما بين السماء و الأرض فهو مما يخيله الشيطان و لا تأويل له

و قال الرازي النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء و هو الحياة فنقول إن وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن و عن باطنه و ذلك هو الموت و أما في وقت النوم فإنه ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن فثبت أن النوم و الموت من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام كامل و النوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه إذا ثبت هذا ظهر أن القادر العالم القديم الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه أحدها أن يقع ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره و باطنه و ذلك هو اليقظة و ثانيها أن ينقطع ضوء النفس عن البدن بالكلية و هو الموت و ثالثها أن ينقطع ضوء النفس عن ظاهر البدن دون باطنه و هو النوم. فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قال الطبرسي رحمه الله أي فهلا إذا بلغت النفس الحلقوم عند الموت وَ أَنْتُمْ يا أهل الميت حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ أي ترون تلك الحال و   قد صار إلى أن تخرج نفسه و قيل معناه تنظرون لا يمكنكم الدفع و لا تملكون شيئا. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ قال الرازي قالوا الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم و يقدر و اختلفوا في الموت فقال قوم إنه عبارة عن عدم هذه الصفة و قال أصحابنا إنه صفة وجودية مضادة للحياة و احتجوا بهذه الآية لأن العدم لا يكون مخلوقا

1-  معاني الأخبار، قال حدثني غير واحد من أصحابنا عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن محمد بن إسماعيل عن الحسين بن الحسن عن بكر عن القاسم بن عروة عن عبد الحميد الطائي عن محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر ع عن قول الله عز و جل وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي كيف هذا النفخ فقال إن الروح متحرك كالريح و إنما سمي روحا لأنه اشتق اسمه من الريح و إنما أخرجه على لفظة الريح لأن الروح مجانس للريح و إنما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما اصطفى بيتا من البيوت فقال بيتي و قال لرسول من الرسل خليلي و أشباه ذلك و كل ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبر

 الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن خالد عن القاسم بن العروة مثله الاحتجاج، عن محمد بن مسلم مثله بيان لعل إخراجه على لفظة الريح كما في الكافي عبارة عن التعبير عن إيجاده   في البدن بالنفخ فيه لمناسبة الروح للريح و مجانسته إياه و اعلم أن الروح قد تطلق على النفس الناطقة التي تزعم الحكماء أنها مجردة و هي محل العلوم و الكمالات و مدبرة للبدن و قد تطلق على الروح الحيواني و هو البخار اللطيف المنبعث من القلب الساري في جميع الجسد و هذا الخبر و أمثاله يحتملهما و إن كانت بالأخيرة بعضها أنسب و قيل الروح و إن لم تكن في أصل جوهرها من هذا العالم إلا أن لها مظاهر و مجالي في الجسد و أول مظهر لها فيه بخار لطيف دخاني شبيه في لطافته و اعتداله بالجرم السماوي و يقال له الروح الحيواني و هو مستوى الروح الرباني الذي هو من عالم الأمر و مركبه و مطية قواه فعبر ع عن الروح بمظهره تقريبا إلى الأفهام لأنها قاصرة عن فهم حقيقته كما أشير إليه بقوله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا و لأن مظهره هذا هو المنفوخ دون أصله. و قال البيضاوي فَإِذا سَوَّيْتُهُ عدلت خلقه و هيأته لنفخ الروح وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي حتى جرى آثاره في تجاويف أعصابه فحيي و أصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر و لما كان الروح يتعلق أولا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب و تفيض عليه القوة الحيوانية فيسري حاملا لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن جعل تعلقه نفخا. و قال النيسابوري النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر فمن زعم أن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن فمعناه ظاهر و من قال إنه جوهر مجرد غير متحيز و لا حال في متحيز فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لأجل تعلق النفس الناطقة به قال جار الله ليس ثم نفخ و لا منفوخ و إنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيي به فيه و لا خلاف في أن الإضافة في قوله رُوحِي للتشريف و التكريم مثل ناقَةَ اللَّهِ و بيت الله   و قال الرازي قوله تعالى فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي يدل على أن تخليق البشر لا يتم إلا بأمرين التسوية أولا ثم نفخ الروح ثانيا و هذا حق لأن الإنسان مركب من جسد و نفس أما الجسد فإنه يتولد من المني و المني إنما يتولد من دم الطمث و هو إنما يتولد من الأخلاط و هي إنما تتولد من الأركان الأربعة فلا بد في حصول هذه التسوية من رعاية المدة التي في مثلها يحصل ذلك المزاج الذي لأجله يحصل الاستعداد لقبول النفس الناطقة فأما النفس فإليها الإشارة بقوله وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي و لما أضاف الروح إلى نفسه دل على أنه جوهر شريف علوي قدسي و ذهبت الحلولية إلى أن كلمة من تدل على التبعيض و هذا يوهم أن الروح جزء من أجزاء الله و هذا في غاية الفساد لأن كل ما له جزء فهو مركب و ممكن الوجود لذاته و محدث و أما كيفية نفخ الروح فاعلم أن الأقوى أن جوهر النفس عبارة عن أجرام شفافة نورانية علوية العنصر قدسية الجواهر و هي تسري في هذا البدن سريان الضوء في الهواء و النار في الفحم فهذا القدر معلوم أما كيفية ذلك النفخ فمما لا يعلمه إلا الله تعالى

2-  قرب الإسناد، عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه ع أن روح آدم ع لما أمرت أن تدخل فيه كرهته فأمرها أن تدخل كرها و تخرج كرها

 بيان لا يبعد أن يكون المعنى أن الروح لما كانت من عالم الملكوت و هي لا تناسب البدن فلما خلقها الله خلقا تحتاج في تصرفها و أعمالها و ترقياتها إلى البدن فكأنها تعلقت به كرها فلما أنست به و نسيت ما كانت عليه صعبت عليها مفارقتها للبدن أو أنه لما كانت محتاجة إلى البدن و رأته ضائعة مختلة لا يمكنها إعمالها فيما تريد فارقته كرها

    -3  العلل، و الخصال، عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن محمد بن عيسى اليقطيني عن القاسم بن يحيى عن جده الحسن عن أبي بصير و محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عن آبائه ع قال قال أمير المؤمنين ع لا ينام الرجل و هو جنب و لا ينام إلا على طهور فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد فإن روح المؤمن ترفع إلى الله تبارك و تعالى فيقبلها و يبارك عليها فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز رحمته و إن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع أمنائه من ملائكته فيردونها في جسدها

4-  مجالس الصدوق، عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن بعض أصحابه عن زكريا بن يحيى عن معاوية بن عمار عن أبي جعفر ع قال إن العباد إذا ناموا خرجت أرواحهم إلى السماء فما رأت الروح في السماء فهو الحق و ما رأت في الهواء فهو الأضغاث ألا و إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف فإذا كانت الروح في السماء تعارفت   و تباغضت فإذا تعارفت في السماء تعارفت في الأرض و إذا تباغضت في السماء تباغضت في الأرض

5-  التوحيد، عن محمد بن أحمد السناني و غيره عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن محمد بن إسماعيل البرمكي عن علي بن العباس عن عبيس بن هشام عن عبد الكريم بن عمرو عن أبي عبد الله ع في قوله عز و جل فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي قال إن الله عز و جل خلق خلقا و خلق روحا ثم أمر ملكا فنفخ فيه فليست بالتي نقصت من قدرة الله شيئا هي من قدرته

6-  مجالس الصدوق، عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد و عبد الله ابني محمد بن عيسى و محمد بن الحسين عن الحسن بن محبوب عن محمد بن القاسم النوفلي قال قلت لأبي عبد الله الصادق ع المؤمن يرى الرؤيا فتكون كما رآها و ربما رأى الرؤيا فلا تكون شيئا فقال إن المؤمن إذا نام خرجت من روحه حركة ممدودة صاعدة إلى السماء فكلما رآه روح المؤمن في ملكوت السماء في موضع التقدير و التدبير فهو الحق و كلما رآه في الأرض فهو أضغاث أحلام فقلت له و تصعد روح   المؤمن إلى السماء قال نعم قلت حتى لا يبقى شي‏ء في بدنه فقال لا لو خرجت كلها حتى لا يبقى منها شي‏ء إذا لمات قلت فكيف تخرج فقال أ ما ترى الشمس في السماء في موضعها و ضوؤها و شعاعها في الأرض فكذلك الروح أصلها في البدن و حركتها ممدودة

 بيان فقه هذه الأخبار موقوف على تحقيق حقيقة الروح و قد مضى بعض القول فيها و سيأتي تمامه إن شاء الله

7-  الاحتجاج، عن هشام بن الحكم أنه سأل الصادق ع قال فأخبرني عمن قال بتناسخ الأرواح من أي شي‏ء قالوا ذلك و بأي حجة قاموا على مذاهبهم قال إن أصحاب التناسخ قد خلفوا وراءهم منهاج الدين و زينوا لأنفسهم الضلالات و أمرجوا أنفسهم في الشهوات و زعموا أن السماء خاوية ما فيها شي‏ء مما يوصف و أن مدبر هذا العالم في صورة المخلوقين بحجة من روى أن الله عز و جل خلق آدم على صورته و أنه لا جنة و لا نار و لا بعث و لا نشور و القيامة عندهم خروج الروح من قالبه و ولوجه في قالب آخر إن كان محسنا في القالب الأول أعيد في قالب أفضل منه حسنا في أعلى درجة الدنيا و إن كان مسيئا أو غير عارف صار في بعض الدواب المتعبة في الدنيا أو هوام مشوهة الخلقة و ليس عليهم صوم و لا صلاة و لا شي‏ء من العبادة أكثر من معرفة من تجب عليهم معرفته و كل شي‏ء من شهوات الدنيا مباح لهم من فروج النساء و غير ذلك من الأخوات و البنات و الخالات و ذوات البعولة و كذلك الميتة و الخمر و الدم فاستقبح مقالتهم كل الفرق و لعنهم كل الأمم فلما سئلوا الحجة زاغوا و حادوا فكذب مقالتهم التوراة و لعنهم الفرقان و زعموا مع ذلك أن إلههم ينتقل من قالب إلى قالب و أن الأرواح الأزلية هي التي   كانت في آدم ثم هلم جرا إلى يومنا هذا في واحد بعد آخر فإذا كان الخالق في صورة المخلوق فبما يستدل على أن أحدهما خالق صاحبه و قالوا إن الملائكة من ولد آدم كل من صار في أعلى درجة دينهم خرج من منزلة الامتحان و التصفية فهو ملك فطورا تخالهم نصارى في أشياء و طورا دهرية يقولون إن الأشياء علن غير الحقيقة فقد كان يجب عليهم أن لا يأكلوا شيئا من اللحمان لأن الدواب عندهم كلها من ولد آدم حولوا في صورهم فلا يجوز أكل لحوم القربات و ساق الحديث الطويل إلى أن قال أخبرني عن السراج إذا انطفأ أين يذهب نوره قال يذهب فلا يعود قال فما أنكرت أن يكون الإنسان مثل ذلك إذا مات و فارق الروح البدن لم يرجع إليه أبدا كما لا يرجع ضوء السراج إليه أبدا إذا انطفأ قال لم تصب القياس إن النار في الأجسام كامنة و الأجسام قائمة بأعيانها كالحجر و الحديد فإذا ضرب أحدهما بالآخر سطعت من بينهما نار يقتبس منها سراج له الضوء فالنار ثابتة في أجسامها و الضوء ذاهب و الروح جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا و ليس بمنزلة السراج الذي ذكرت إن الذي خلق في الرحم جنينا من ماء صاف و ركب فيه ضروبا مختلفة من عروق و عصب و أسنان و شعر و عظام و غير ذلك هو يحييه بعد موته و يعيده بعد فنائه قال فأين الروح قال في بطن الأرض حيث مصرع البدن إلى وقت البعث قال فمن صلب أين روحه قال في كف الملك الذي قبضها حتى يودعها الأرض قال فأخبرني عن الروح أ غير الدم قال نعم الروح على ما وصفت لك مادته من الدم و من الدم رطوبة الجسم و صفاء اللون و حسن الصوت و كثرة الضحك فإذا جمد الدم فارق الروح البدن قال فهل يوصف بخفة و ثقل و وزن قال الروح بمنزلة الريح في الزق إذا نفخت فيه امتلأ الزق منها فلا يزيد في وزن الزق ولوجها فيه و لا ينقصها خروجها منه كذلك الروح ليس لها ثقل و لا وزن

   قال فأخبرني ما جوهر الريح قال الريح هواء إذا تحرك سمي ريحا فإذا سكن سمي هواء و به قوام الدنيا و لو كف الريح ثلاثة أيام لفسد كل شي‏ء على وجه الأرض و نتن و ذلك أن الريح بمنزلة المروحة تذب و تدفع الفساد عن كل شي‏ء و تطيبه فهي بمنزلة الروح إذا خرج من البدن نتن البدن و تغير فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ قال أ فيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق قال بل هو باق إلى وقت يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فعند ذلك تبطل الأشياء و تفنى فلا حس و لا محسوس ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها و ذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق و ذلك بين النفختين قال و أنى له بالبعث و البدن قد بلي و الأعضاء قد تفرقت فعضو ببلدة تأكلها سباعها و عضو بأخرى تمزقه هوامها و عضو قد صار ترابا بني به مع الطين حائط قال إن الذي أنشأه من غير شي‏ء و صوره على غير مثال كان سبق إليه قادر أن يعيده كما بدأه قال أوضح لي ذلك قال إن الروح مقيمة في مكانها روح المحسن في ضياء و فسحة و روح المسي‏ء في ضيق و ظلمة و البدن يصير ترابا كما منه خلق و ما تقذف به السباع و الهوام من أجوافها مما أكلته و مزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في ظلمات الأرض و يعلم عدد الأشياء و وزنها و أن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور فتربو الأرض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء و الزبد من اللبن إذا مخض فيجتمع تراب كل قالب فينقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها و تلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا

 بيان من فروج النساء أي الأجانب غير ذات البعولة و ظاهر الخبر أن الروح جسم لطيف و أوله بعض القائلين بالتجرد بتأويلات ستأتي الإشارة إلى بعضها   و كذا أولوا

 ما روي عن الصادق ع في وصف الروح أنه قال و بها يؤمر البدن و ينهى و يثاب و يعاقب و قد تفارقه و يلبسها الله سبحانه غيره كما تقتضيه حكمته

و قال بعضهم قوله ع و قد تفارقه و يلبسها الله غيره صريح في أنها مجردة عن البدن مستقلة و أنه ليس المراد بها الروح البخارية قال و أما إطلاق الجسم عليه فلأن نشأة الملكوت أيضا جسمانية من حيث الصورة و إن لم تكن مادية

8-  العلل، و العيون، عن أبيه و محمد بن الحسن عن سعد بن عبد الله و عبد الله بن جعفر الحميري و محمد بن يحيى العطار و أحمد بن إدريس جميعا عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبي هاشم داود بن قاسم الجعفري عن أبي جعفر محمد بن علي الثاني ع قال أقبل أمير المؤمنين ع ذات يوم و معه الحسن بن علي ع و سلمان الفارسي رحمه الله و أمير المؤمنين متكئ على يد سلمان و دخل مسجد الحرام إذ أقبل رجل حسن الهيئة و اللباس فسلم على أمير المؤمنين ع فرد ع فجلس ثم قال يا أمير المؤمنين أسألك عن ثلاث مسائل إن أخبرتني بهن علمت أن القوم ركبوا من أمرك ما أقضي عليهم أنهم ليسوا مأمونين في دنياهم و لا في آخرتهم و إن تكن الأخرى علمت أنك و هم شرع سواء فقال له أمير المؤمنين ع سلني عما بدا لك فقال أخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه و عن الرجل كيف يذكر و ينسى و عن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام و الأخوال فالتفت أمير المؤمنين ع إلى أبي محمد الحسن بن علي ع فقال يا أبا محمد أجبه فقال ع أما ما سألت عنه من أمر الإنسان إذا نام أين تذهب روحه فإن روحه متعلقة بالريح و الريح متعلقة بالهواء إلى وقت ما يتحرك صاحبها لليقظة فإن أذن الله عز و جل برد تلك الروح على صاحبها جذبت تلك الروح الريح و جذبت تلك الريح الهواء فرجعت الروح فاستكنت في بدن صاحبها فإن لم يأذن الله عز   و جل برد تلك الروح على صاحبها جذب الهواء الريح فجذبت الريح الروح فلم ترد على صاحبها إلى وقت ما يبعث و أما ما ذكرت من أمر الذكر و النسيان فإن قلب الرجل في حق و على الحق طبق فإن صلى الرجل عند ذلك على محمد و آل محمد صلاة تامة انكشف ذلك الطبق عن ذلك الحق فأضاء القلب و ذكر الرجل ما كان نسي و إن هو لم يصل على محمد و آل محمد أو نقص من الصلاة عليهم انطبق ذلك الطبق على ذلك الحق فأظلم القلب و نسي الرجل ما كان ذكره و أما ما ذكرت من أمر المولود الذي يشبه أعمامه و أخواله فإن الرجل إذا أتى أهله فجامعها بقلب ساكن و عروق هادئة و بدن غير مضطرب فاستكنت تلك النطفة في جوف الرحم خرج الولد يشبه أباه و أمه و إن هو أتاها بقلب غير ساكن و عروق غير هادئة و بدن مضطرب اضطربت النطفة فوقعت في حال اضطرابها على بعض العروق فإن وقعت على عرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه و إن وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الولد أخواله فقال الرجل أشهد أن لا إله إلا الله و لم أزل أشهد بها أشهد أن محمدا عبده و رسوله و لم أزل أشهد بذلك و أشهد أنك وصي رسوله و القائم بحجته و أشار إلى أمير المؤمنين ع و لم أزل أشهد بها و أشهد أنك وصيه و القائم بحجته أشار إلى الحسن ع و أشهد أن الحسين بن علي وصي أبيك و القائم بحجته بعدك و أشهد على علي بن الحسين أنه القائم بأمر الحسين بعده و أشهد على محمد بن علي أنه القائم بأمر علي بن الحسين و أشهد على جعفر بن محمد أنه القائم بأمر محمد بن علي و أشهد على موسى بن جعفر أنه القائم بأمر جعفر بن محمد و أشهد على علي بن   موسى أنه القائم بأمر موسى بن جعفر و أشهد على محمد بن علي أنه القائم بأمر علي بن موسى و أشهد على علي بن محمد أنه القائم بأمر محمد بن علي و أشهد على الحسن بن علي أنه القائم بأمر علي بن محمد و أشهد على رجل من ولد الحسن بن علي لا يسمى و لا يكنى حتى يظهر أمره فيملؤها عدلا كما ملئت جورا أنه القائم بأمر الحسن بن علي و السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته ثم قام و مضى فقال أمير المؤمنين ع يا أبا محمد اتبعه فانظر أين يقصد فخرج الحسن بن علي ع في أثره قال فما كان إلا أن وضع رجله خارج المسجد فما دريت أين أخذ من أرض الله عز و جل فرجعت إلى أمير المؤمنين ع فأعلمته فقال يا أبا محمد أ تعرفه قلت الله و رسوله و أمير المؤمنين أعلم فقال هو الخضر

 الإحتجاج، مرسلا مثله المحاسن، عن أبيه عن داود بن القاسم مثله بيان فإن روحه متعلقة بالريح يحتمل أن يكون المراد بالروح الروح الحيوانية و بالريح النفس و بالهواء الهواء الخارج المنجذب بالنفس و أن يكون المراد بالروح النفس مجردة كانت أم مادية و بالريح الروح الحيوانية لشباهتها بالريح في لطافتها و تحركها و نفوذها في مجاري البدن و بالهواء النفس و الحق جمع حقة بالضم فيهما و هي وعاء من خشب و لعل الجمعية هنا لاشتمال القلب الصنوبري على تجاويف و أغشية أو لاشتمال محله عليها أو هي باعتبار الإفراط و الحق مخفف حقة و الطبق محركة غطاء كل شي‏ء و لا يبعد أن يكون الكلام مبنيا على الاستعارة و التمثيل فإن الصلاة على محمد و آل محمد لما كانت سببا للقرب من المبدإ و استعداد النفس لإفاضة العلوم عليها فكان الشواغل النفسانية الموجبة للبعد عن الحق   تعالى طبق عليها فتصير الصلاة سببا لكشفه و تنور القلب و استعداده لفيض الحق إما بإفاضة الصورة ثانية أو باستردادها من الخزانة

9-  تفسير علي بن إبراهيم، عن أبيه عن داود بن القاسم الجعفري عن أبي جعفر الثاني ع قال أقبل أمير المؤمنين ع يوما و يده على عاتق سلمان معه الحسن ع حتى دخل المسجد فلما جلس جاء رجل عليه برد حسن فسلم و جلس بين يدي أمير المؤمنين ع فقال يا أمير المؤمنين أريد أن أسألك عن مسائل فإن أنت أجبت منها علمت أن القوم نالوا منك و أنت أحق بهذا الأمر من غيرك و إن لم تجبني عنها علمت أنك و القوم شرع سواء فقال له أمير المؤمنين ع سل ابني هذا يعني الحسن فأقبل الرجل بوجهه على الحسن ع فقال له يا بني أخبرني عن الرجل إذا نام أين يكون روحه و عن الرجل يسمع الشي‏ء فيذكره دهرا ثم ينساه في وقت الحاجة إليه كيف هذا و أخبرني عن الرجل يلد له الأولاد منهم من يشبه أباه و عمومته و منهم من يشبه أمه و أخواله فكيف هذا فقال له الحسن ع نعم أما الرجل إذا نام فإن روحه يخرج مثل شعاع الشمس فيتعلق بالريح و الريح بالهواء فإذا أراد الله أن ترجع جذب الهواء الريح و جذب الريح الروح فرجعت إلى البدن فإذا أراد الله أن يقبضها جذب الهواء الريح و جذب الريح الروح فقبضها و أما الرجل الذي ينسى الشي‏ء ثم يذكره فما من أحد إلا على رأس فؤاده حقة مفتوحة الرأس فإذا سمع الشي‏ء وقع فيها فإذا أراد الله أن ينساها طبق عليها و إذا أراد أن يذكره فتحها و هذا دليل الإلهية و أما الرجل الذي يلد له الأولاد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة فإن الولد يشبه أباه و عمومته و إذا سبق ماء المرأة ماء الرجل يشبه أمه و أخواله فالتفت الرجل إلى أمير المؤمنين ع فقال أشهد أن لا إله إلا الله و لم أزل أقولها و أشهد   أن محمدا رسول الله و لم أزل أقولها و أشهد أنك وصي محمد و خليفته في أمته و أمير المؤمنين حقا و أن الحسن القائم بأمرك و أن الحسين القائم من بعده بأمره و أن علي بن الحسين القائم بأمره من بعده و أن محمد بن علي و جعفر بن محمد و موسى بن جعفر و علي بن موسى و محمد بن علي و علي بن محمد و الحسن بن علي و وصي الحسن بن علي القائم بالقسط المنتظر الذي يملؤها قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا ثم قام و خرج من باب المسجد فقال أمير المؤمنين ع للحسن هذا أخي الخضر

 بيان و هذا دليل الإلهية أي كون الذكر و النسيان بيد الله و من قبله دليل على وجود الصانع كما قال أمير المؤمنين ع عرفت الله بفسخ العزائم و في بعض النسخ الإلهامية أي العلوم الإلهامية فإنه إذا كان الذكر من قبله تعالى فالعلوم كلها منه و يجوز أن يلهم من يشاء من عباده ما يشاء و الأول أظهر

10-  التوحيد، عن أحمد بن الحسن القطان عن الحسن بن علي السكراني عن محمد بن زكريا الجوهري عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن الصادق عن آبائه ع قال قال أمير المؤمنين ع إن للجسم ستة أحوال الصحة و المرض و الموت و الحياة و النوم و اليقظة و كذلك الروح فحياتها علمها و موتها جهلها و مرضها شكها و صحتها يقينها و نومها غفلتها و يقظتها حفظها

11-  منتخب البصائر، عن سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين و موسى بن عمر عن محمد بن سنان عن المفضل عن أبي عبد الله ع قال مثل روح المؤمن و بدنه كجوهرة في صندوق إذا أخرجت الجوهرة منه طرح الصندوق و لم يعبأ به و قال إن الأرواح   لا تمازج البدن و لا تواكله و إنما هي كلل للبدن محيطة به

 البصائر، عن بعض أصحابنا عن المفضل مثله بيان استدل بآخر هذه الرواية على تجرد الروح إذ لم يقل أحد بكونها جسما خارجا من البدن و يمكن أن يكون هذا بيان حالها بعد الموت فإن أول الخبر ظاهره الدخول

12-  المناقب لابن شهرآشوب، سأل أبا بكر نصرانيان ما الفرق بين الحب و البغض و معدنهما واحد و ما الفرق بين الرؤيا الصادقة و الرؤيا الكاذبة و معدنهما واحد فأشار إلى عمر فلما سألاه أشار إلى علي فلما سألاه عن الحب و البغض قال إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فأسكنها الهواء فمهما تعارف هناك ائتلف هاهنا و مهما تناكر هناك اختلف هاهنا ثم سألاه عن الحفظ و النسيان فقال إن الله تعالى خلق ابن آدم و جعل لقلبه غاشية فمهما مر بالقلب و الغاشية منفتحة حفظ و أحصى و مهما مر بالقلب و الغاشية منطبقة لم يحفظ و لم يحص ثم سألاه عن الرؤيا الصادقة و الرؤيا الكاذبة فقال ع إن الله تعالى خلق الروح و جعل لها سلطانا فسلطانها النفس فإذا نام العبد خرج الروح و بقي سلطانه فيمر به جيل من الملائكة و جيل من الجن فمهما كان من الرؤيا الصادقة فمن الملائكة و مهما كان من الرؤيا الكاذبة فمن الجن فأسلما على يديه و قتلا معه يوم صفين

 بيان يحتمل أن تكون الغاشية كناية عما يعرض القلب من الخيالات الفاسدة و التعلقات الباطلة لأنها شاغلة للنفس عن إدراك العلوم و المعارف كما ينبغي و عن حفظها كما مر و المراد بالنفس هنا إما الروح البخارية الحيوانية و بالروح النفس الناطقة فالمراد بقوله سلطانها السلطان المنسوب من قبلها على البدن و أنها مسلطة على   الروح من جهة أن تعلقها بالبدن مشروطة بها و تابعة لها فإذا زالت الحيوانية انقطع تعلق الناطقة أو خرجت عن البدن و يحتمل العكس فالمراد بخروج الروح خروجها من الأعضاء الظاهرة و ميلها إلى الباطن و تسلط الناطقة على الحيوانية ظاهر لكونها المدبرة للبدن و جميع أجزائه و التفريع في قوله ع فيمر به على الوجهين ظاهر فإنه لبقاء السلطان في البدن لم تذهب الحياة بالكلية و بقيت الحواس الباطنة مدركة فإلهام الملائكة و وساوس الشياطين أيضا باقية

13-  العياشي، عن زرارة قال سألت أبا جعفر ع عن قول الله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي قال خلق من خلق الله و الله يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ

 بيان يمكن حمل الخبر على الروح الإنساني و إن كان ظاهره الملك أو خلق أعظم منه كما مر

14-  العياشي، عن أبي بصير عن أحدهما ع قال سألته عن قوله وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي قال التي في الدواب و الناس قلت و ما هي قال هي من الملكوت من القدرة

15-  و عن أسباط بن سالم عن أبي عبد الله ع قال خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل و هو مع الأئمة يفقههم و هو من الملكوت

16-  المناقب، يونس في حديثه قال سأل ابن أبي العوجاء أبا عبد الله ع لم يميل القلب إلى الخضرة أكثر مما يميل إلى غيرها قال من قبل أن الله تعالى خلق القلب أخضر و من شأن الشي‏ء أن يميل إلى شكله

    -17  جامع الأخبار، سأل أبو بصير أبا عبد الله ع الرجل نائم هنا و المرأة النائمة يريان أنهما بمكة أو بمصر من الأمصار أرواحهما خارج من أبدانهما قال لا يا أبا بصير فإن الروح إذا فارقت البدن لم تعد إليه غير أنها بمنزلة عين الشمس هي مركبة في السماء في كبدها و شعاعها في الدنيا

18-  عن أبي جعفر ع قال إن العباد إذا ناموا خرجت أرواحهم إلى السماء الدنيا فما رأت الروح في السماء الدنيا فهو الحق و ما رأت في الهواء فهو الأضغاث

19-  روي عن أبي الحسن ع يقول إن المرء إذا نام فإن روح الحيوان باقية في البدن و الذي يخرج منه روح العقل فقال عبد الغفار الأسلمي يقول الله عز و جل اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها إلى قوله إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أ فليس ترى الأرواح كلها تصير إليه عند منامها فيمسك ما يشاء و يرسل ما يشاء فقال له أبو الحسن ع إنما يصير إليه أرواح العقول فأما أرواح الحياة فإنها في الأبدان لا يخرج إلا بالموت و لكنه إذا قضى على نفس الموت قبض الروح الذي فيه العقل و لو كانت روح الحياة خارجة لكان بدنا ملقى لا يتحرك و لقد ضرب الله لهذا مثلا في كتابه في أصحاب الكهف حيث قال وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ أ فلا ترى أن أرواحهم فيهم بالحركات

 توضيح الظاهر أن الروح التي في خبر أبي بصير المراد بها روح الحياة أو المراد بالخروج في الأخبار الأخر إعراضها عن البدن و توجهها إلى عالمها الأصلية و هي عالم الملكوت كما يظهر من التمثيل بالشمس قوله ع و لكنه إذا قضى أي بالنوم و كأن فيه سقطا

20-  الكافي، عن العدة عن أحمد بن محمد عن محمد بن خالد عن أبي نهشل عن محمد بن إسماعيل عن أبي حمزة الثمالي قال سمعت أبا جعفر ع يقول إن الله خلقنا من أعلى عليين و خلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه و خلق أبدانهم من دون ذلك   فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه ثم تلا هذه الآية كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ و خلق عدونا من سجين و خلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه و أبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه ثم تلا هذه الآية كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ

 بيان اختلف المفسرون في تفسير عليين فقيل إنها مراتب عالية محفوفة بالجلالة و قيل السماء السابعة و قيل سدرة المنتهى و قيل الجنة و قيل أعلى مراتبها و قيل لوح من زبرجد أخضر معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه و السجين الأرض السابعة أو أسفل منها أو جب في جهنم و المراد أن كتابة أعمالهم أو ما يكتب منها في عليين أي في دفتر أعمالهم أو المراد أن دفتر أعمالهم في تلك الأمكنة الشريفة و على الأخير فيه حذف مضاف أي و ما أدراك ما كتاب عليين و أما الاستشهاد بالآيتين في الخبر فيحتمل وجهين أحدهما أن دفتر أعمالهم موضوع في مكان أخذت منه طينتهم و ثانيهما أن يكون على تفسيره ع المراد بالكتاب الروح لأن الروح هو الكتاب الذي فيه علوم المقربين و معارفهم و جهالات المضلين و خرافاتهم

21-  الكافي، عن العدة عن أحمد بن محمد عن أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله ع قال إن الله خلقنا من عليين و خلق أرواحنا من فوق ذلك و خلق أرواح شيعتنا من عليين و خلق أجسادهم من دون ذلك فمن أجل ذلك القرابة بيننا و بينهم و قلوبهم تحن إلينا

 بيان خلقنا أي أبداننا من فوق ذلك أي أعلى عليين من دون ذلك أي أدنى عليين فمن أجل ذلك أي من أجل كون أبداننا و أرواحنا مخلوقة   من عليين و كون أرواحهم و أجسادهم أيضا مخلوقة من عليين و يحتمل أن يكون المراد بقوله من فوق ذلك من مكان أرفع من عليين و بقوله من دون ذلك من مكان أسفل من عليين فالقرابة من حيث كون أرواحنا و أبدانهم من عليين قوله تحن أي تهوي كما قال تعالى فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ

22-  الكافي، عن العدة عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن عن محمد بن عيسى بن عبيد عن محمد بن شعيب عن عمران بن إسحاق الزعفراني عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله ع قال سمعته يقول إن الله خلقنا من نور عظمته ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة فأسكن ذلك النور فيه فكنا نحن خلقا و بشرا نورانيين لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا نصيب و خلق أرواح شيعتنا من طينتنا و أبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة و لم يجعل الله لأحد في مثل الذي خلقهم منه نصيبا إلا للأنبياء فلذلك صرنا نحن و هم الناس و سائر الناس همج للنار و إلى النار

 توضيح إن الله خلقنا أي أرواحنا من نور عظمته أي من نور يدل على كمال عظمته و قدرته ثم صور خلقنا أي خلق لنا أجسادا مثالية شبيهة بالأجساد الأصيلة فهي صور خلقهم و أمثلته فيدل على أن لهم أجسادا مثالية قبل تعلق أرواحهم المقدسة بأبدانهم المطهرة و بعد مفارقتها إياه بل معها أيضا كما أن لنا بعد موتنا أجسادا مثالية تتعلق أرواحنا بها كما مر في كتاب المعاد بل يمكن أن تكون أجسادنا المثالية أيضا كذلك و يكون ما نرى في المنام فيها كما هو رأي جماعة و من فسر التصوير في هذا الخبر بتصوير الأجساد الأصيلة فقد أبعد فكنا خلقا و بشرا   نورانيين فالخلق للروح و البشر للجسد المثالي فإنه بصورة البشر و كونهما نورانيين بناء على كونهما جسمين لطيفين منورين من عالم الملكوت بناء على كون الروح جسما و على القول بتجردها كناية عن خلوه عن الظلمة الهيولائية و قبوله للأنوار القدسية و الإفاضات الربانية في مثل الذي خلقنا أي خلق أرواحنا منه من طينتنا أي طينة أجسادنا و الخبر يدل على فضلهم على الأنبياء ع بل يومئ إلى مساواة شيعتهم لهم و المراد بالناس أولا الناس بحقيقة الإنسانية و ثانيا ما يطلق عليه الإنسان في العرف العام و الهمج محركة ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الأغنام و الحمير و لعله ع شبههم بهم لازدحامهم دفعة على كل ناعق و براحهم عنه بأدنى سبب للنار أي خلقوا لها و اللام للعاقبة و إلى النار أي مصيرهم إليها

23-  الكافي، عن علي بن إبراهيم عن علي بن حسان و محمد بن يحيى عن سلمة بن خطاب و غيره عن علي بن حسان عن علي بن عطية عن علي بن رئاب رفعه إلى أمير المؤمنين ع قال إن لله نهرا دون عرشه و دون النهر الذي دون عرشه نور نوره و إن في حافتي النهر روحين مخلوقين روح القدس و روح من أمره و إن لله عشر طينات خمسة من الجنة و خمسة من الأرض ففسر الجنان و فسر الأرض ثم قال ما من نبي و لا ملك من بعده جبله إلا نفخ فيه من إحدى الروحين و جعل النبي من إحدى الطينتين قلت لأبي الحسن الأول ع ما الجبل فقال الخلق غيرنا أهل البيت فإن الله عز و جل خلقنا من العشر طينات و نفخ فينا من الروحين جميعا فأطيب بها طيبا

 و روى غيره عن أبي الصامت قال طين الجنان جنة عدن و جنة المأوى و النعيم و الفردوس و الخلد و طين الأرض مكة و المدينة و الكوفة و بيت المقدس و الحير

    بيان دون عرشه أي عنده نوره ماض من التفعيل و المستتر فيه راجع إلى النور و البارز إلى النهر أو العرش أو المستتر إلى الله و البارز إلى النور مبالغة في إضاءته و لمعانه و في البصائر نور من نوره و كأنه أصوب أي من الأنوار التي خلقها الله سبحانه و حافتا النهر بالتخفيف جانباه مخلوقين إبطال لقول النصارى إن عيسى روح الله غير مخلوق روح القدس أي هما روح القدس و روح من أمره أي الروح الذي قال الله فيه قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي و ستأتي الأقوال فيه و ظاهر الخبر إما الروح الإنساني أو الروح الذي يؤيد الله به الأئمة ع ففسر الجنان الظاهر أنه كلام ابن رئاب و الضمير المستتر لأمير المؤمنين ع و قيل لأبي الحسن ع و التفسير إشارة إلى ما ذكر بعده في خبر أبي الصامت ثم قال أي أمير المؤمنين ع و لا ملك بالتحريك و قد يقرؤها بكسر اللام أي إمام كما قال تعالى وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً و هو بعيد و جملة من بعده جبله نعت ملك و ضمير بعده لنبي و ضمير جبله للملك إشارة إلى أن النبي أفضل من الملك فالمراد بالبعدية ما هي بحسب الرتبة و جعل النبي إنما لم يذكر الملك هنا لذكره سابقا و قيل لأنه ليس للملك جسد مثل جسد الإنسان قوله ما الجبل هو بفتح الجيم و سكون الباء سؤال عن مصدر الفعل المتقدم و هو كلام ابن رئاب ففسره ع بالخلق و الأظهر عندي أن غيرنا تتمة الكلام السابق على الاستثناء المنقطع و اعتراض السؤال و الجواب بين الكلام قبل تمامه و ليس تتمة لتفسير الجبل كما توهمه الأكثر. قال الشيخ البهائي قدس سره يعني مادة بدننا لا تمسي جبلة بل طينة لأنها خلق من العشر طينات انتهى قال الفيروزآبادي الجبلة مثلثة و محركة و كطمرة الخلقة و الطبيعة و ككتاب الجسد و البدن و جبلهم الله يجبل و يجبل خلقهم و على الشي‏ء طبعه و جبره كأجبله انتهى. و أطيب بها صيغة التعجب و طيبا منصوب على الاختصاص و في بعض

    نسخ البصائر طينا بالنون فالنصب على التميز أي ما أطيبها من طينة و روى غيره كأنه كلام ابن عطية و يحتمل بعض أصحاب الكتب قبله و ضمير غيره لابن رئاب و أبو الصامت راوي الباقر و الصادق ع و الظاهر أنه رواه عن أحدهما و الحير حائر الحسين ع و قال بعضهم كأنه ع شبه علم الأنبياء ع بالنهر لمناسبة ما بينهما في كون أحدهما مادة حياة الروح و الآخر مادة حياة الجسم و عبر عنه بالنور لإضاءته و عبر عن علم من دونهم من العلماء بنور النور لأنه من شعاع ذلك النور و كما أن حافتي النهر يحفظان الماء في النهر و يحيطان به فيجري إلى مستقره كذلك الروحان يحفظان العلم و يحيطان به ليجري إلى مستقره و هو قلب النبي أو الوصي و الطينات الجنانية كأنها من الملكوت و الأرضية من الملك فإن من مزجهما خلق أبدان نبينا ص و الأوصياء ع من أهل البيت بخلاف سائر الأنبياء و الملائكة فإنهم خلقوا من إحدى الطينتين كما أن لهم إحدى الروحين خاصة

24-  الكافي، عن العدة عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان عن سدير الصيرفي قال قلت لأبي عبد الله ع جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه قال لا و الله إنه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك فيقول له ملك الموت يا ولي الله لا تجزع فو الذي بعث محمدا لأنا أبر بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك افتح عينيك فانظر قال يتمثل له رسول الله ص و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة من ذريتهم ع فيقال له هذا رسول الله و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة ع رفقاؤك قال فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل رب العزة فيقول يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلى محمد و أهل بيته ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً بالولاية مَرْضِيَّةً بالثواب فَادْخُلِي فِي عِبادِي يعني محمدا و أهل بيته وَ ادْخُلِي جَنَّتِي فما شي‏ء أحب إليه من استلال روحه و اللحوق بالمنادي

    -25  الكافي، عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن خالد بن عمار عن أبي بصير قال قال أبو عبد الله ع إذا حيل بينه و بين الكلام أتاه رسول الله ص و من شاء الله فجلس رسول الله عن يمينه و الآخر عن يساره فيقول رسول الله أما ما كنت ترجو فهو ذا أمامك و أما ما كنت تخاف فقد أمنت منه ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول هذا منزلك من الجنة فإن شئت رددناك إلى الدنيا و لك فيها ذهب و فضة فيقول لا حاجة لي في الدنيا و ساق إلى قوله فإذا خرجت النفس من الجسد فيعرض عليها كما عرض عليه و هي في الجسد فيختار الآخرة فيغسله فيمن يغسله و يقلبه فيمن يقلبه فإذا أدرج في أكفانه و وضع على سريره خرجت روحه تمشي بين أيدي القوم قدما و تلقاه أرواح المؤمنين يسلمون عليه و يبشرونه بما أعد الله له جل ثناؤه من النعيم فإذا وضع في قبره رد إليه الروح إلى وركيه ثم يسأل عما يعلم فإذا جاء بما يعلم فتح له ذلك الباب الذي أراه رسول الله ص فيدخل عليه من نورها و بردها و طيب ريحها الحديث

26-  و منه، عن العدة عن سهل بن زياد عن محمد بن علي عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة قال سمعت أبا جعفر ع يقول إن آية المؤمن إذا حضره الموت ببياض وجهه أشد من بياض لونه و يرشح جبينه و يسيل من عينيه كهيئة الدموع فيكون ذلك خروج نفسه و إن الكافر تخرج نفسه سيلا من شدقه كزبد البعير أو كما تخرج نفس البعير

27-  و منه، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله ع قال قال رسول الله ص يا علي إن ملك الموت إذا نزل لقبض   روح الكافر نزل و معه سفود من نار فينزع روحه فيصيح جهنم الحديث

28-  الفقيه، قال قال الصادق ع إذا قبضت الروح فهي مظلة فوق الجسد روح المؤمن و غيره ينظر إلى كل شي‏ء يصنع به فإذا كفن و وضع على السرير و حمل على أعناق الرجال عادت الروح إليه فدخلت فيه فيمد له في بصره فينظر إلى موضعه من الجنة أو من النار فينادي بأعلى صوته إن كان من أهل الجنة عجلوني عجلوني و إن كان من أهل النار ردوني ردوني و هو يعلم كل شي‏ء يصنع به و يسمع الكلام

29-  الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله ع قال قلت له جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش فقال لا المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كأبدانهم

30-  و منه، بإسناده عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله ع قال فإذا قبضه الله عز و جل صير تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون و يشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا

31-  و منه، بسند موثق عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله ع إنا نتحدث عن أرواح المؤمنين أنها في حواصل طيور خضر ترعى في الجنة و تأوي إلى قناديل تحت العرش فقال لا إذا ما هي في حواصل طير قلت فأين هي قال في روضة كهيئة الأجساد في الجنة

32-  و في رواية أخرى عن أبي بصير عنه ع قال إن الأرواح في صفة الأجساد   في شجر في الجنة تعارف و تساءل

33-  و منه، بسند صحيح عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر ع قال إن لله جنة خلقها الله في المغرب و ماء فراتكم هذه يخرج منها و إليها تخرج أرواح المؤمنين من حفرهم عند كل مساء فتسقط على ثمارها و تأكل منها و تتنعم فيها و تتلاقى و تتعارف فإذا طلع الفجر هاجت من الجنة فكانت في الهواء فيما بين السماء و الأرض تطير ذاهبة و جائية و تعهد حفرها إذا طلعت الشمس و تتلاقى في الهواء و تتعارف قال و إن لله نارا في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفار و يأكلون من زقومها و يشربون من حميمها ليلهم فإذا طلعت الفجر هاجت إلى واد باليمن يقال له برهوت أشد حرا من نيران الدنيا كانوا فيها يتلاقون و يتعارفون فإذا كان المساء عادوا إلى النار فهم كذلك إلى يوم القيامة الحديث

34-  و منه، بإسناده عن حبة العرني قال خرجت مع أمير المؤمنين ع إلى الظهر فوقف بوادي السلام كأنه مخاطب لأقوام فقمت بقيامه حتى أعييت ثم جلست حتى مللت ثم قمت حتى نالني مثل ما نالني أولا ثم جلست حتى مللت ثم قمت و جمعت ردائي فقلت يا أمير المؤمنين إني قد أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة ثم طرحت الرداء ليجلس عليه فقال لي يا حبة إن هو إلا محادثة مؤمن أو مؤانسته قال قلت يا أمير المؤمنين و إنهم لكذلك قال نعم و لو كشف لك لرأيتهم حلقا حلقا محتبين يتحادثون فقلت أجسام أم أرواح فقال أرواح و ما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلا قيل لروحه الحقي بوادي السلام و إنها لبقعة من جنة عدن

35-  المحاسن، عن ابن فضال عن حماد بن عثمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله ع قال ذكر الأرواح أرواح المؤمنين فقال يلتقون فقلت يلتقون   قال يلتقون و يتساءلون و يتعارفون حتى إذا رأيته قلت فلان

36-  الفقيه، بسنده الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله ع قال إن الله تبارك و تعالى يرفع إلى إبراهيم و سارة أطفال المؤمنين يغذونهم بشجر في الجنة لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من در فإذا كان يوم القيامة ألبسوا و طيبوا و هدوا إلى آبائهم فهم ملوك في الجنة مع آبائهم و هو قول الله عز و جل وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ

37-  الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أخيه إسحاق عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا ع قال قلت له بلغني أن يوم الجمعة أقصر الأيام قال كذلك هو قلت جعلت فداك كيف ذلك قال إن الله تبارك و تعالى يجمع أرواح المشركين تحت عين الشمس فإذا ركدت الشمس عذب الله أرواح المشركين بركود الشمس ساعة فإذا كان يوم الجمعة لا يكون للشمس ركود رفع الله عنهم العذاب لفضل يوم الجمعة فلا يكون للشمس ركود

38-  و منه، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله ع قال إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب و يستر عنه ما يكره و إن الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره و يستر عنه ما يحب قال و فيهم من يزور كل جمعة و منهم من يزور على قدر عمله

39-  و منه، عن العدة عن سهل عن ابن محبوب عن إسحاق بن عمار عن أبي الحسن الأول ع قال سألته عن الميت يزور أهله قال نعم فقلت في كم يزور قال في الجمعة و في الشهر و في السنة على قدر منزلته فقلت في أي صورة يأتيهم قال في صورة طائر لطيف يسقط على جدرهم و يشرف عليهم فإن رآهم بخير   فرح و إن رآهم بشر و حاجة حزن و اغتم

 و في رواية أخرى عن إسحاق قال قلت في أي صورة قال في صورة العصفور أو أصغر من ذلك

 أقول قد أوردت أمثال هذه الأخبار مشروحة في كتاب المعاد و إنما أوردت قليلا منها هاهنا لدلالتها على حقيقة الروح و النفس و أحوالهما

40-  دعوات الراوندي، روي أن في العرش تمثالا لكل عبد فإذا اشتغل العبد بالعبادة رأت الملائكة تمثاله و إذا اشتغل بالمعصية أمر الله بعض الملائكة حتى يحجبوه بأجنحتهم لئلا تراه الملائكة فذلك معنى قوله ص يا من أظهر الجميل و ستر القبيح

 بيان ربما يستدل به على أن الجسد المثالي موجود في حال الحياة أيضا

41-  الكافي، عن علي بن محمد عن صالح بن أبي حماد عن الوشاء عن كرام عن عبد الله بن طلحة قال سألت أبا عبد الله ع عن الوزغ فقال رجس و هو مسخ كله فإذا قتلته فاغتسل و قال إن أبي كان قاعدا في الحجر و معه رجل يحدثه فإذا هو بوزغ يولول بلسانه فقال أبي للرجل أ تدري ما يقول هذا الوزغ فقال لا علم لي بما يقول قال فإنه يقول و الله لئن ذكرتم عثمان بشتيمة لأشتمن عليا حتى يقوم من هاهنا قال و قال أبي ليس يموت من بني أمية ميت إلا مسخ وزغا قال و قال إن عبد الملك بن مروان لما نزل به الموت مسخ وزغا فذهب من بين يدي من كان عنده و كان عنده ولده فلما أن فقدوه عظم ذلك عليهم فلم يدروا كيف يصنعون ثم اجتمع أمرهم على أن يأخذوا جذعا فيصنعوه كهيئة الرجل قال ففعلوا ذلك و ألبسوا الجذع درع حديد ثم ألقوه في الأكفان فلم يطلع عليه أحد من الناس إلا   أنا و ولده

 بيان المشهور استحباب ذلك الغسل و استندوا في ذلك إلى رواية مرسلة رواها الصدوق في الفقيه و قيل إن العلة في ذلك أنه يخرج من ذنوبه فيغتسل كغسل التوبة و قال المحقق في المعتبر و عندي أن ما ذكره ابن بابويه ليس بحجة و ما ذكره المعلل ليس طائلا. أقول كأنهم غفلوا عن هذا الخبر إذ لم يذكروه في مقام الاحتجاج و إن كان مجهولا يولول أي يصوت و الشتيمة الاسم من الشتم إلا مسخ وزغا إما بمسخه قبل موته أو بتعلق روحه بجسد مثالي على صورة الوزغ و هما ليسا تناسخا كما مر و سيأتي أو بتغيير جسده الأصلي إلى تلك الصورة كما هو ظاهر آخر الخبر لكن يشكل تعلق الروح به قبل الرجعة و البعث و يمكن أن يكون قد ذهب بجسده إلى الجحيم أو أحرق و تصور لهم جسده المثالي و إلباس الجذع درع الحديد ليصير ثقيلا أو لأنه إن مسه أحد فوق الكفن لا يحس بأنه خشب

42-  الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمرو بن أبي المقدام عن أبي عبد الله عن أبيه ع قال و الله ما من عبد من شيعتنا ينام إلا أصعد الله روحه إلى السماء فيبارك عليها فإن كان قد أتى عليها أجلها جعلها في كنوز رحمته و في رياض جنته و في ظل عرشه و إن كان أجلها متأخرا بعث بها مع أمنته من الملائكة ليردها إلى الجسد الذي خرجت منه لتسكن فيه الحديث

 مجالس الصدوق، عن محمد بن الحسن عن محمد بن الحسن الصفار عن الحسين بن الحسن بن أبان عن الحسين بن سعيد عن محمد بن أبي عمير عن علي بن أبي حمزة   عن أبي بصير عن أبي عبد الله عن أبيه ع مثله

43-  و منه، عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن خالد عن القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد عن أبي عبد الله عن آبائه ع عن أمير المؤمنين ع قال قال لي رسول الله ص و ساق الحديث إلى أن قال يا علي إن أرواح شيعتك لتصعد إلى السماء في رقادهم و وفاتهم فتنظر الملائكة إليها كما ينظر الناس إلى الهلال شوقا إليهم و لما يرون منزلتهم عند الله عز و جل الخبر

44-  الفقيه، بإسناده عن أبي عبيدة الحذاء و عن أبي جعفر ع في قول الله عز و جل تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ فقال لعلك ترى أن القوم لم يكونوا ينامون فقلت الله و رسوله أعلم فقال لا بد لهذا البدن أن تريحه حتى تخرج نفسه فإذا خرج النفس استراح البدن و رجعت الروح فيه و فيه قوة على العمل الحديث

 بيان قال بعض المحققين الفرق بين الموت و النوم أن في الموت ينقطع تعلق النفس الناطقة و في النوم يبطل تصرفها فالمراد من خروج النفس الناطقة هنا بطلان تصرفها في البدن و المراد من الروح هذا الجسم البخاري اللطيف الذي يكون من لطافة الأغذية و بخاراتها و له مدخل عظيم في نظام البدن

45-  في رسالة الإهليلجة التي كتب الصادق ع إلى المفضل بن عمر و ذكر فيها احتجاجه في إثبات الصانع تعالى على الطبيب الهندي قال ع قلت أ فتقر بأن الله خلق الخلق أم قد بقي في نفسك شي‏ء من ذلك قال إني من ذلك على حد وقوف ما أتخلص إلى أمر ينفذ لي فيه الأمر قلت أما إذا أبيت إلا الجهالة و زعمت أن الأشياء لا تدرك إلا بالحواس فإني أخبرك أنه ليس للحواس دلالة على الأشياء و لا فيها معرفة إلا بالقلب فإنه دليلها و معرفها الأشياء التي تدعي أن القلب لا يعرفها إلا بها فقال أما إذا نطقت بهذا فما أقبل منك إلا بالتخليص و التفحص منه   بإيضاح و بيان و حجة و برهان قلت فأول ما أبدأ به أنك تعلم أنه ربما ذهبت الحواس أو بعضها و دبر القلب للأشياء التي فيها المضرة و المنفعة من الأمور العلانية و الخفية فأمر بها و نهى فنفذ فيها أمره و صح فيها قضاؤه قال إنك تقول في هذا قولا يشبه الحجة و لكني أحب أن توضحه لي غير هذا الإيضاح قلت أ لست تعلم أن القلب يبقى بعد ذهاب الحواس قال نعم و لكن يبقى بغير دليل على الأشياء التي تدل عليها الحواس قلت فلست تعلم أن الطفل تضعه أمه مضغة ليس تدله الحواس على شي‏ء يسمع و لا يبصر و لا يذاق و لا يلمس و لا يشم قال بلى قلت فأية الحواس دلته على طلب اللبن إذا جاع و الضحك بعد البكاء إذا روي من اللبن و أي حواس سباع الطير و لاقط الحب منها دلها على أن تلقي بين أفراخها اللحم و الحب فتأوي سباعها إلى اللحم و الآخرون إلى الحب و أخبرني عن فراخ طير الماء أ لست تعلم أن فراخ طير الماء إذا طرحت فيه سبحت و إذا طرحت فيه فراخ طير البر غرقت و الحواس واحدة فكيف انتفع بالحواس طير الماء و أعانته على السباحة و لم ينتفع طير البر في الماء بحواسها و ما بال طير البر إذا غمستها في الماء ساعة ماتت و إذا أمسكت طير الماء ساعة ماتت فلا أرى الحواس في هذا إلا منكسرا عليك و لا ينبغي ذلك أن يكون إلا من مدبر حكيم جعل للماء خلقا و للبر خلقا أم أخبرني ما بال الذرة التي لا تعاين الماء قط تطرح في الماء فتسبح و تلقى الإنسان ابن خمسين سنة من أقوى الرجال و أعقلهم لم تتعلم السباحة فيغرق كيف لم يدله عقله و لبه و تجاربه و بصره بالأشياء مع اجتماع حواسه و صحتها أن يدرك ذلك بحواسه كما أدركته الذرة إن كان ذلك إنما يدرك بالحواس أ فليس ينبغي لك أن تعلم أن القلب الذي هو معدن العقل في الصبي الذي وصفت و غيره مما سمعت من الحيوان هو الذي يهيج الصبي إلى طلب الرضاع و الطير اللاقط على لقط الحب و السباع على ابتلاع اللحم

   قال لست أجد القلب يعلم شيئا إلا بالحواس قلت أما إذا أبيت إلا النزوع إلى الحواس فإنا نقبل نزوعك إليها بعد رفضك لها و نجيبك في الحواس حتى يتقرر عندك أنها لا تعرف من سائر الأشياء إلا الظاهر مما هو دون الرب الأعلى سبحانه و تعالى فأما ما يخفى و لا يظهر فلست تعرفه و ذلك أن خالق الحواس جعل لها قلبا احتج به على العباد و جعل الحواس الدلالات على الظاهر الذي يستدل بها على الخالق سبحانه فنظرت العين إلى خلق متصل بعضه ببعض فدلت القلب على ما عاينت و تفكر القلب حين دلته العين على ما عاينت من ملكوت السماء و ارتفاعها في الهواء بغير عمد يرى و لا دعائم تمسكها لا تؤخر مرة فتنكشط و لا تقدم أخرى فتزول و لا تهبط مرة فتدنو و لا ترتفع أخرى فتنأى لا تتغير لطول الأمل و لا تخلق لاختلاف الليالي و الأيام و لا يتداعى منها ناحية و لا ينهار منها طرف مع ما عاينت من النجوم الجارية السبعة المختلفة بمسيرها لدوران الفلك و تنقلها في البروج يوما بعد يوم و شهرا بعد شهر و سنة بعد سنة منها السريع و منها البطي‏ء و منها المعتدل السير ثم رجوعها و استقامتها و أخذها عرضا و طولا و خنوسها عند الشمس و هي مشرقة و ظهورها إذا غربت و جري الشمس و القمر في البروج دائبين لا يتغيران في أزمنتهما و أوقاتهما يعرف ذلك من يعرف بحساب موضوع و أمر معلوم بحكمته يعرف ذوو الألباب أنها ليست من حكمة الإنس و لا تفتيش الأوهام و لا تقليب التفكر فعرف القلب حين دلته العين على ما عاينت أن لذلك الخلق و التدبير و الأمر العجيب صانعا يمسك السماء المنطبقة أن تهوي إلى الأرض و أن الذي جعل الشمس و النجوم فيها خالق السماء ثم نظرت العين إلى ما استقلها من الأرض فدلت القلب على ما عاينت فعرف القلب بعقله أن ممسك الأرض الممهدة أن تزول أو تهوي في الهواء أو هو يرى الريشة ترمى بها فتسقط مكانها و هي في الخفة على ما هي عليه هو الذي يمسك السماء التي فوقها و أنه لو لا ذلك لخسفت بما عليها من ثقلها و ثقل الجبال و الأنام و الأشجار و البحور و الرمال فعرف القلب

   بدلالة العين أن مدبر الأرض هو مدبر السماء ثم سمعت الأذن صوت الرياح الشديدة العاصفة و اللينة الطيبة و عاينت العين ما يقلع من عظام الشجر و يهدم من وثيق البنيان و تسفي من ثقال الرمال تخلي منها ناحية و تصبها في أخرى بلا سائق تبصره العين و لا تسمعه الأذن و لا يدرك بشي‏ء من الحواس و ليست مجسدة تلمس و لا محدودة تعاين فلم تزد العين و الأذن و سائر الحواس على أن دلت القلب أن لها صانعا و ذلك أن القلب يفكر بالعقل الذي فيه فيعرف أن الريح لم تتحرك من تلقائها و أنها لو كانت هي المحركة لم يكفف عن التحرك و لم تهدم طائفة و تعفي أخرى و لم تقلع شجرة و تدع أخرى إلى جنبها و لم تصب أرضا و تنصرف عن أخرى فلما تفكر القلب في أمر الريح علم أن لها محركا هو الذي يسوقها حيث يشاء و يسكنها إذا شاء و يصيب بها من يشاء و يصرفها عمن يشاء فلما نظر القلب إلى ذلك وجدها متصلة بالسماء و ما فيها من الآيات فعرف أن المدبر القادر على أن يمسك الأرض و السماء هو خالق الريح و محركها إذا شاء و ممسكها كيف شاء و مسلطها على من يشاء و كذلك دلت العين و الأذن القلب على هذه الزلزلة و عرف ذلك بغيرهما من حواسه حين حركته فلما دل الحواس على تحريك هذا الخلق العظيم من الأرض في غلظها و ثقلها و طولها و عرضها و ما عليها من ثقل الجبال و المياه و الأنام و غير ذلك و إنما يتحرك في ناحية و لم يتحرك في ناحية أخرى و هي ملتحمة جسدا واحدا و خلقا متصلا بلا فصل و لا وصل تهدم ناحية و تخسف بها و تسلم أخرى فعندها عرف القلب أن محرك ما حرك منها هو ممسك ما أمسك منها و هو محرك الريح و ممسكها و هو مدبر السماء و الأرض و ما بينهما و أن الأرض لو كانت هي المتزلزلة لنفسها لما تزلزلت و لما تحركت و لكنه الذي دبرها و خلقها حرك منها ما شاء ثم نظر العين إلى العظيم من الآيات من السحاب المسخر بين السماء و الأرض بمنزلة الدخان لا جسد له يلمس بشي‏ء من الأرض و الجبال يتخلل الشجرة فلا يحرك منها شيئا و لا يهصر منها غصنا و لا يعلق منها بشي‏ء يعترض الركبان فيحول بعضهم من بعض من ظلمته و كثافته و يحتمل من

   ثقل الماء و كثرته ما لا يقدر على صفته مع ما فيه من الصواعق الصادعة و البروق اللامعة و الرعد و الثلج و البرد و الجليد ما لا تبلغ الأوهام صفته و لا تهتدي القلوب إلى كنه عجائبه فيخرج مستقلا في الهواء يجتمع بعد تفرقه و يلتحم بعد تزايله تفرقه الرياح من الجهات كلها إلى حيث تسوقه بإذن الله ربها يسفل مرة و يعلو أخرى متمسك بما فيه من الماء الكثير الذي إذا أزجاه صارت منه البحور يمر على الأراضي الكثيرة و البلدان المتنائية لا تنقص منه نقطة حتى ينتهي إلى ما لا يحصى من الفراسخ فيرسل ما فيه قطرة بعد قطرة و سيلا بعد سيل متتابع على رسله حتى ينقع البرك و تمتلئ الفجاج و تعتلي الأودية بالسيول كأمثال الجبال غاصة بسيولها مصمخة الآذان لدويها و هديرها فتحيا بها الأرض الميتة فتصبح مخضرة بعد أن كانت مغبرة و معيشة بعد أن كانت مجدبة قد كسبت ألوانا من نبات عشب ناضرة زاهرة مزينة معاشا للناس و الأنعام فإذا أفرغ الغمام ماءه أقلع و تفرق و ذهب حيث لا يعاين و لا يدرى أين توارى فأدت العين ذلك إلى القلب إن ذلك السحاب لو كان بغير مدبر و كان ما وصفت من تلقاء نفسه ما احتمل نصف ذلك من الثقل من الماء و إن كان هو الذي يرسله لما احتمله ألفي فرسخ أو أكثر و لأرسله فيما هو أقرب من ذلك و لما أرسله قطرة بعد قطرة بل كان يرسله إرسالا فكان يهدم البنيان و يفسد النبات و لما جاز إلى بلد و ترك آخر دونه فعرف القلب بالأعلام المنيرة الواضحة أن مدبر الأمور واحد و أنه لو كان اثنين أو ثلاثة لكان في طول هذه الأزمنة و الأبد و الدهر اختلاف في التدبير و تناقض في الأمور و لتأخر بعض و تقدم بعض و لكان تسفل بعض ما قد علا و لعلا بعض ما قد سفل و لطلع شي‏ء و غاب فتأخر عن وقته أو تقدم ما قبله فعرف القلب بذلك أن مدبر الأشياء ما غاب منها و ما ظهر هو الله الأول خالق السماء و ممسكها و فارش الأرض و داحيها و صانع ما بين ذلك مما عددنا و غير ذلك مما لم يحص و كذلك عاينت العين اختلاف الليل و النهار دائبين جديدين لا يبليان في طول كرهما و لا يتغيران لكثرة اختلافهما و لا ينقصان عن حالهما النهار في نوره و ضيائه و الليل في سواده و ظلمته يلج أحدهما في الآخر حتى ينتهي كل واحد منهما إلى غاية

   محدودة معروفة في الطول و القصر على مرتبة واحدة و مجرى واحد مع سكون من يسكن في الليل و انتشار من ينتشر في النهار و انتشار من ينتشر في الليل و سكون من يسكن في النهار ثم الحر و البرد و حلول أحدهما بعقب الآخر حتى تكون الحر بردا و البرد حرا في وقته و إبانه فكل هذا مما يستدل به القلب على الرب سبحانه و تعالى فعرف القلب بعقله أن مدبر هذه الأشياء هو الواحد العزيز الحكيم الذي لم يزل و لا يزال و أنه لو كان في السماوات و الأرضين آلهة معه سبحانه لذهب كل إله بما خلق و لعلا بعضهم على بعض و لفسد كل واحد منهم على صاحبه و كذلك سمعت الأذن ما أنزل المدبر من الكتب تصديقا لما أدركته القلوب بعقولها و توفيق الله إياها و ما قاله من عرفه كنه معرفته بلا ولد و لا صاحبة و لا شريك فأدت الأذن ما سمعت من اللسان بمقالة الأنبياء إلى القلب فقال قد أتيتني من أبواب لطيفة بما لم يأتني به أحد غيرك إلا أنه لا يمنعني من ترك ما في يدي إلا الإيضاح و الحجة القوية بما وصفت لي و فسرت و قلت أما إذا حجبت عن الجواب و اختلف منك المقال فسيأتيك من الدلالة من قبل نفسك خاصة ما يستبين لك أن الحواس لا تعرف شيئا إلا بالقلب فهل رأيت في المنام أنك تأكل و تشرب حتى وصلت لذة ذلك إلى قلبك قال نعم قلت فهل رأيت أنك تضحك و تبكي و تجول في البلدان التي لم ترها و التي قد رأيتها حتى تعلم معالم ما رأيت منها قال نعم ما لا أحصي قلت فهل رأيت أحدا من أقاربك من أخ أو أب أو ذي رحم قد مات قبل ذلك حتى تعلمه و تعرفه كمعرفتك إياه قبل أن يموت قال أكثر من الكثير قلت فأخبرني أي حواسك أدرك هذه الأشياء في منامك حتى دلت قلبك على معاينة الموتى و كلامهم و أكل طعامهم و الجولان في البلدان و الضحك و البكاء و غير ذلك قال ما أقدر أن أقول لك أي حواسي أدرك ذلك أو شيئا منه و كيف تدرك و هي بمنزلة الميت لا تسمع و لا تبصر قلت فأخبرني حيث استيقظت أ لست قد ذكرت الذي رأيت في منامك تحفظه و تقصه بعد يقظتك على إخوانك لا تنسى منه حرفا قال إنه كما تقول و ربما رأيت الشي‏ء في منامي ثم لا أمسي حتى أراه في يقظتي كما

   رأيته في منامي قلت فأخبرني أي حواسك قررت علم ذلك في قلبك حتى ذكرته بعد ما استيقظت قال إن هذا الأمر ما دخلت فيه الحواس قلت أ فليس ينبغي لك أن تعلم حيث بطلت الحواس في هذا أن الذي عاين تلك الأشياء و حفظها في منامك قلبك الذي جعل الله فيه العقل الذي احتج به على العباد قال إن الذي رأيت في منامي ليس بشي‏ء إنما هو بمنزلة السراب الذي يعاينه صاحبه و ينظر إليه لا يشك أنه ماء فإذا انتهى إلى مكانه لم يجده شيئا فما رأيت في منامي فبهذه المنزلة قلت كيف شبهت السراب بما رأيت في منامك من أكلك الطعام الحلو و الحامض و ما رأيت من الفرح و الحزن قال لأن السراب حيث انتهيت إلى موضعه صار لا شي‏ء و كذلك صار ما رأيت في منامي حين انتبهت قلت فأخبرني إن أتيتك بأمر وجدت لذته في منامك و خفق لذلك قلبك أ لست تعلم أن الأمر على ما وصفت لك قال بلى قلت فأخبرني هل احتلمت قط حتى قضيت في امرأة نهمتك عرفتها أم لم تعرفها قال بلى ما لا أحصيه قلت أ لست وجدت لذلك لذة على قدر لذتك في يقظتك فتنتبه و قد أنزلت الشهوة حتى يخرج منك بقدر ما يخرج في اليقظة هذا كسر بحجتك في السراب قال ما يرى المحتلم في منامه شيئا إلا ما كانت حواسه دلت عليه في اليقظة قلت ما زدت على أن قويت مقالتي و زعمت أن القلب يعقل الأشياء و يعرفها بعد ذهاب الحواس و موتها فكيف أنكرت أن القلب يعرف الأشياء و هو يقظان مجتمعة له حواسه و ما الذي عرفه إياها بعد موت الحواس و هو لا يسمع و لا يبصر و لكنت حقيقا أن لا تنكر له المعرفة و حواسه حية مجتمعة إذا أقررت أنه ينظر إلى الامرأة بعد ذهاب حواسه حتى نكحها و أصاب لذته منها فينبغي لمن يعقل حيث وصف القلب بما وصفه به من معرفته بالأشياء و الحواس ذاهبة أن يعرف أن القلب مدبر الحواس و ملكها و رأسها و القاضي عليها فإنه ما جهل الإنسان من شي‏ء فما يجهل أن اليد لا تقدر على العين أن تقلعها و لا على اللسان أن تقطعه و أنه ليس يقدر شي‏ء من الحواس   أن يفعل بشي‏ء من الجسد شيئا بغير إذن القلب و دلالته و تدبيره لأن الله تبارك و تعالى جعل القلب مدبرا للجسد به يسمع و به يبصر و هو القاضي و الأمير عليه لا يتقدم الجسد إن هو تأخر و لا يتأخر إن هو تقدم و به سمعت الحواس و أبصرت إن أمرها ائتمرت و إن نهاها انتهت و به ينزل الفرح و الحزن و به ينزل الألم إن فسد شي‏ء من الحواس بقي على حاله و إن فسد القلب ذهب جميعها حتى لا يسمع و لا يبصر قال لقد كنت أظنك لا تتخلص من هذه المسألة و قد جئت بشي‏ء لا أقدر على رده قلت و أنا أعطيك تصاديق ما أنبأتك به و ما رأيت في منامك في مجلسك الساعة قال افعل فإني قد تحيرت في هذه المسألة قلت أخبرني هل تحدث نفسك من تجارة أو صناعة أو بناء أو تقدير شي‏ء و تأمر به إذا أحكمت تقديره في ظنك قال نعم قلت فهل أشركت قلبك في ذلك الفكر شيئا من حواسك قال لا قلت أ فلا تعلم أن الذي أخبرك به قلبك حق قال اليقين هو فزدني ما يذهب الشك عني و يزيل الشبهة من قلبي

 أقول قد عرفت أن القلب يطلق في لسان الشرع في الآيات و الأخبار على النفس الناطقة و لما كان السائل منكرا لإدراك ما سوى الحواس الظاهرة نبهه ع على خطائه بمدركات الحواس الباطنة التي هي من آلات النفس و قد مر شرح الفقرات و تمام الحديث في كتاب التوحيد

46-  الدر المنثور، عن ابن عباس في قوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الآية قال نفس و روح بينهما مثل شعاع الشمس فيتوفى الله النفس في منامه و يدع الروح في جوفه يتقلب و يعيش فإن بدا لله أن يقبضه قبض الروح فمات و إن أخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه

47-  و عن ابن عباس في قوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الآية قال كل نفس لها سبب تجري فيه فإذا قضى عليها الموت نامت حتى ينقطع السبب و التي لم تمت تترك

    -48  و عن ابن عباس في الآية قال سبب ممدود ما بين المشرق و المغرب بين السماء و الأرض فأرواح الموتى و أرواح الأحياء تأوي إلى ذلك السبب فتعلق النفس الميتة بالنفس الحية فإذا أذن لهذه الحية بالانصراف إلى جسدها تستكمل رزقها أمسكت النفس الميتة و أرسلت الأخرى

49-  و عن جحيفة قال كان رسول الله ص في سفره الذي ناموا فيه حتى طلعت الشمس ثم قال إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم

50-  شهاب الأخبار، قال النبي ص الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف

 ضوء الشهاب هذا الحديث مما تسكب فيه العبرات و لا تؤمن في تفسيره العثرات و أنا مورد فيه بقدر ما رزقني الله تعالى من العلم به فأقول إن أصل كلمة روح موضوع للطيب و الطهارة فتسمى روح الإنسان روحا و الملائكة المطهرون أرواحا و روح القدس جبرئيل ع و الروح اسم ملك آخر قال تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا و عيسى ع روح الله و النسبة إلى الملائكة و الجن روحاني بالضم و هم الروحانيون و يقال لكل ذي روح روحاني قاله أبو عبيدة و الروح الراحة و مكان روحاني طيب و الريح واحدة الرياح و الأرواح أصلها روح فقلبت الواو ياء لمكان كسرة الراء و الراح و الرياح بفتح الراء الخمر و روح و ريحان أي رحمة و رزق و الروح و النسيم و الريحان المشموم و من ذلك الروح التي يحيا بها الإنسان سميت بذلك لطهارتها و طيبها في الخلقة و في مبدإ التكوين و قال أصحاب الأصول الروح النفس المتردد في مخارق الحي و على ذلك قال الشاعر

فقلت له ارفعها إليك و أحيها. بروحك و اجعلها له قبة قدرا.

   و ما يقوله قوم من أن الأرواح قائمة بالأجساد و أنها كانت قبل الأجساد بكذا و كذا عاما و أنها غير داخلة في الأجساد و لا خارجة منها و أنها تفنى إلى غير ذلك فنحن مستغنون عن ذكره فيما نحن بصدده و كتب الأصول و الجدل أولى بذكر ذلك فقال بعض من تكلم في هذا الحديث إنه على حذف المضاف و التقدير ذوو الأرواح و هذا قريب المأخذ و عند جماعة من محققي أصحاب الأصول أنه يجوز عقلا أن يكون الله تعالى إذا استشهد الشهيد أو توفي النبي أو الصالح من بني آدم ينتزع من جسده أجزاء بقدر ما تحل الحياة التي كانت الجملة بها حية فيها فيردها إلى تلك الأجزاء فتصير حيا و إن كانت جثة صغيرة فيرفعه إلى حيث شاء فإنه لا اعتبار في الحي بالجثة و ظاهر الكتاب يشهد بصحة ذلك حيث يقول تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ إلى قوله تعالى وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و في الحديث أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ورق الجنة ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش و هذا الحديث مما يعضد هذه المقالة فعلى هذا تتعارف هذه الأجساد اللطيفة بعد موت صاحبها كما كانت في دار الدنيا تعرف بعضها بعضا فتتباشر فتأتلف و بالعكس. و روت عائشة في سبب هذا الحديث أن مخنثا قدم المدينة فنزل على مخنث من غير أن يعلم أنه مخنث فبلغ ذلك النبي ص فقال الأرواح جنود مجندة الحديث

 و روي عنه ص الأرواح جنود مجندة فتشام كما تشام الخيل فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف فلو أن مؤمنا جاء إلى مجلس فيه مائة منافق ليس فيهم إلا مؤمن واحد لجاء حتى يجلس إليه

أو كما قال و روي عن عائشة أنها قالت كانت امرأة بمكة تدخل على نساء قريش تضحكهن فلما هاجرت إلى المدينة دخلت المدينة فدخلت علي قلت فلانة ما أقدمك قالت إليكن قلت فأين نزلت قالت على فلانة امرأة مضحكة بالمدينة فدخل رسول الله ص فقلت يا رسول الله دخلت فلانة المضحكة قال ص فعلى من نزلت قلت على فلانة قال   المضحكة قلت نعم قال الحمد لله إن الأرواح جنود مجندة الحديث. و في كلام بعضهم الروح نقاب أي يعلم بالأشياء و هذه كناية عن العلم و الفطنة و الذكاء و المعرفة و الدهاء و العرب تعبر بالروح عن الحياة و الله الموفق. و أقول إن تحقيق أمر الروح عسير و لا يعلم حقيقة ذلك إلا من خلقه و أوجده و ركبه وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا و لو أراد الله تعالى أن يعلم حقيقته و ماهيته بكنهه لأعلمناه و قال وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي فقال حتى نسكت عما أسكت الله عنه و قد أوردت بعض ما سمعت فيه و علمت و أنت محكم فانظر فيه و احكم و التوقف فيه فرض من لا فرض له و الله أعلم و أحكم ثم رسوله ص و فائدة الحديث إعلام أن الجنس إلى الجنس أميل و إليه أسوق و أشوق و التعارف مما يجر الائتلاف و بالعكس و راوية الحديث عائشة

51-  شهاب الأخبار، قال النبي ص الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة

 الضوء المعدن مستقر الجوهر من قولك عدن بالمكان إذا أقام فيه و منه جَنَّاتُ عَدْنٍ أي إقامة و الذهب الجسد المعروف الذي ذهب الناس فيه و القطعة ذهبة و ذهب الرجل إذا رأى القطعة الكبيرة من الذهب في المعدن فدهش و الفضة أحد الثمنين و هو أحد الأجساد أيضا فيقول ص الناس متفاوتون كتفاوت المعادن متفاضلون كتفاضل الجواهر المجلوبة منها فمنها الذهب و الفضة و النحاس و الحديد و الأسرب و الرصاص و الزرنيخ و الفيروزج و غير ذلك و كان الغرض النبوي أن يعلمك أن الناس متفاوتون أمثال الفلز و الخرز ليسوا بأمثال و إن كانوا من جنس واحد و مورد هذا الحديث على العكس من مورد الحديث الذي قبله يعني قوله ص الناس كأسنان المشط فكأنه ص يقول إذا صادفت أحدا فتعرف أحواله و تجسس أفعاله و أقواله فإن كان صالحا فعليك به فهو من المعدن النفيس فإن كان طالحا فالهرب الهرب منه فهو من المعدن الخسيس و فائدة الحديث الإعلام بتفاوت الناس على أنهم بنو الرجل و راوي الحديث أبو هريرة و تمام الحديث خيارهم في الجاهلية خيارهم   في الإسلام إذا فقهوا يعني أن الخيار منهم في الجاهلية إذا تفقهوا فهم الخيار في الإسلام و الله أعلم. بيان قال الطيبي هو تشبيه بليغ فكمعادن الذهب تأكيد أو مجاز عن التفاوت أي الناس متفاوتون في النسب بالشرف و الضعة كتفاوت المعدن في الذهب و الفضة و ما دونهما و تفاوتهم في الإسلام بالقبول لفيض الله بحسب العلم و الحكمة على مراتب و عدم قبوله و قيد إذا فقهوا يفيد أن الإيمان يرفع تفاوت الجاهلية فإذا تحلى بالعلم استجلب النسب الأصلي فيجتمع شرف النسب و الحسب و فيه أن الوضيع العالم أرفع من الشريف الجاهل

52-  الشهاب، الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة واحدة

 الضوء الناس أصله أناس فخفف و ليس الألف و اللام عوضا من الهمزة المحذوفة لأنهما تجتمعان مع الهمزة كقوله

إن المنايا يطلعن على الأناس الآمنينا

 و الناس بن مضر بن نزار اسم قيس عيلان و الإبل البعران الكثيرة و لا واحد له من لفظه و أبل الوحشي يأبل أبولا و أبل يأبل إبلا اجتزأ عن الماء شبهت بالإبل في الصبر عن الماء و تأبل الرجل عن امرأته إذا ترك مقاربتها و رجل آبل و أبل حسن القيام على إبله و إبل مأبلة أي مجموعة و الراحلة البعير الذي يصلح للارتحال و راحله عاونه على رحلته و المعنى و الله أعلم أنه ذم للناس و أنه قلما يقع فيهم من هو كامل في بابه و قال أبو عبيد يعني أنهم متساوون ليس لأحد منهم فضل على أحد في النسب و لكنهم أشباه و أمثال كإبل مائة ليس فيها راحلة تتبين فيها و تتميز منها بالتمام و حسن المنظر و الراحلة عند العرب تكون الجمل النجيب و الناقة النجيبة يختارها الرجل لمركبه و دخول الهاء في الراحلة للمبالغة كما تقول رجل داهية و راوية للشعر و علامة و نسابة و يقال إنها إنما سميت راحلة لأنها ترحل كما قال تعالى فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي مرضية و كما قال تعالى مِنْ ماءٍ دافِقٍ أي مدفوق قال و يقال لفلان إبل إذا كانت له مائة من الإبل و إبلان   إذا كانت له مائتان و يقال للمائة منها هنيدة معرفة لا تنصرف و قال أبو سليمان الخطابي يقال للمائتين هنيد بغير هاء و العهدة عليه و قال ابن قتيبة الراحلة هي التي يختارها الرجل لمركبه و رحله على النجابة و تمام الخلق و حسن المنظر فإذا كانت في جماعة الإبل عرفت يقول الناس متساوون ليس لأحد منهم فضل في النسب و لكنهم أشباه كإبل مائة ليس فيها راحلة و قد خطأه أبو منصور الأزهري لفظا و معنى أما اللفظة فمن حيث جعل الناقة هي الراحلة قال و ليس الجمل عنده راحلة و الراحلة عند العرب تكون الجمل النجيب و الناقة النجيبة و أما المعنى أنه يعز فيهم الكامل الفاضل زهدا في الدنيا و رغبة في الآخرة هذا معنى كلام الأزهري و فائدة الحديث ذم الناس و أن الكامل فيهم قلما يوجد و راوي الحديث عبد الله بن عمر. بيان قال في النهاية يعني أن المرضي المنتجب من الناس في عزة وجوده كالنجيب من الإبل القوي على الأحمال و الأسفار الذي لا يوجد في كثير من الإبل قال الأزهري الذي عندي فيه أن الله تعالى ذم الدنيا و حذر العباد سوء مغبتها و ضرب لهم فيها الأمثال ليعتبروا و يحذروا و كان النبي ص يحذرهم ما حذرهم الله و يزهدهم فيها فرغب أصحابه بعده فيها تنافسوا عليها حتى كان الزهد في النادر القليل منهم.

 فقال ص تجدون الناس من بعدي كإبل مائة ليس فيها راحلة

أي أن الكامل في الزهد في الدنيا و الرغبة في الآخرة قليل كقلة الراحلة في الإبل و الراحلة هي البعير القوي على الأسفار و الأحمال النجيب التام الخلق الحسن المنظر و يقع على الذكر و الأنثى و الهاء فيه للمبالغة انتهى و قال الكرماني و قيل أي الناس في أحكام الدين سواء لا فضل فيها لشريف على مشروف و لا لرفيع على وضيع كإبل لا راحلة فيها و هي التي ترحل لتركب أي كلها تصلح للجمل لا للركوب. أقول قد مر بعض الأخبار المناسبة لهذا الباب في أبواب المعاد و أبواب خلق أرواح النبي ص و الأئمة ع و سيأتي بعضها في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى

   تذييل و تفصيل في بيان أقوال الحكماء و الصوفية و المتكلمين من الخاصة و العامة في حقيقة النفس و الروح ثم بيان ما ظهر من الآيات و الأخبار في ذلك.

 قال شارح المقاصد في بيان آراء الحكماء و المتكلمين في النفس لما عرفت أن الجوهر المجرد إن تعلق بالبدن تعلق التدبير و التصرف فنفس و إلا فعقل و قد يطلق لفظ النفس على ما ليس بمجرد بل مادي كالنفس النباتية التي هي مبدأ أفاعيله من التغذية و التنمية و التوليد و النفس الحيوانية التي هي مبدأ الحس و الحركة الإرادية و يجعل النفس الأرضية اسما لها و النفس الناطقة الإنسانية فيفسر بأنها كمال أول لجسم طبيعي إلى ذي حياة بالقوة ثم قال مقتضى قواعدهم أي الفلاسفة أن يكون في الإنسان نفس هي مبدأ تعقل الكليات و أخرى مبدأ الحركات و الإحساسات و أخرى مبدأ التغذية و التنمية و توليد المثل لكن ذكر في شرح الإشارات و غيره أن ليس الأمر كذلك بل المركبات منها ما له صورة معدنية يقتصر فعلها على حفظ المواد المجتمعة من الأسطقسات المتضادة بكيفياتها المتداعية إلى الانفكاك لاختلاف ميولها إلى أمكنتها المختلفة و منها ما له صورة تسمى نفسا نباتية يصدر عنها مع الحفظ المذكور جمع أجزاء أخر من الأسطقسات و إضافتها إلى مواد المركب و صرفها في وجوه التغذية و الإنماء و التوليد و منها ما له صورة تسمى نفسا حيوانية يصدر عنها مع الأفعال النباتية و الحفظ المذكور الحس و الحركة الإرادية و منها ما له نفس مجردة يصدر عنها مع الأفعال السابقة كلها النطق و ما يتبعه. ثم قال و لما يثبت عند المتكلمين اختلاف أنواع الأجسام و استناد الآثار إليها ليحتاج إلى فصول منوعة و مباد مختلفة بنوا إثبات النفس على الأدلة السمعية   و التنبهات العقلية مثل أن البدن و أعضاءه الظاهرة و الباطنة دائما في التبدل و التحلل و النفس بحالها و أن الإنسان الصحيح العقل قد يغفل عن البدن و أجزائه و لا يغفل بحال عن وجود ذاته و أنه قد يريد ما يمانعه البدن مثل الحركة إلى العلو. و بالجملة قد اختلف كلمة الفريقين في حقيقة النفس فقيل هي النار السارية في الهيكل المحسوس و قيل الهواء و قيل الماء و قيل العناصر الأربعة و المحبة و الغلبة أي الشهوة و الغضب و قيل الأخلاط الأربعة و قيل الدم و قيل نفس كل شخص مزاجه الخاص و قيل جزء لا يتجزأ في القلب و كثير من المتكلمين على أنها الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره و كأن هذا مراد من قال هي هذا الهيكل المخصوص و البنية المحسوسة أي التي من شأنها أن يحس بها و جمهورهم على أنه جسم مخالف بالماهية للجسم الذي يتولد منه الأعضاء نوراني علوي خفيف حي لذاته نافذ في جواهر الأعضاء سار فيها سريان ماء الورد في الورد و النار في الفحم لا يتطرق إليه تبدل و لا انحلال بقاؤه في الأعضاء حياة و انتقاله عنها إلى عالم الأرواح موت و قيل إنها أجسام لطيفة متكونة في القلب سارية في الأعضاء من طريق الشرايين أي العروق الضاربة أو متكونة في الدماغ نافذة في الأعصاب الثابتة منه إلى جملة البدن. و اختار المحققون من الفلاسفة و أهل الإسلام إلى أنها جوهر مجرد في ذاته متعلق بالبدن تعلق التدبير و التصرف و متعلقه أولا هو ما ذكره المتكلمون من الروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الأغذية و لطيفه و يفيده قوة بها يسري في جميع البدن فيفيد كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى المذكورة فيما سبق احتج القائلون بأنها من قبيل الأجسام بوجوه الأول أن المدرك للكليات أعني النفس هو بعينه المدرك للجزئيات لأنا نحكم بالكلي على الجزئي كقولنا هذه الحرارة حرارة و الحاكم بين الشيئين لا بد أن يتصورهما و المدرك للجزئيات جسم لأنا نعلم بالضرورة أنا إذا لمسنا النار كان المدرك لحرارتها هو العضو اللامس

    و لأن غير الإنسان من الحيوانات يدرك الجزئيات مع أن الاتفاق على أنا لا نثبت لها نفوسا مجردة. و رد بأنا لا نسلم أن المدرك لهذه الحرارة هو العضو اللامس بل النفس بواسطته و نحن لا ننازع في أن المدرك للكليات و الجزئيات هو النفس لكن للكليات بالذات و للجزئيات بالآلات و إذا لم نجعل العضو مدركا أصلا لا يلزم أن يكون الإدراك مرتين و الإنسان مدركين على ما قيل. و يمكن دفعه بأنه يستلزم إما إثبات النفوس المجردة للحيوانات الأخر و إما جعل إحساساتها للقوى و الأعضاء و إحساسات الإنسان للنفس بواسطتها مع القطع بعدم التفاوت. الثاني أن كل واحد منا يعلم قطعا أن المشار إليه بأنا و هو النفس يتصف بأنه حاضر هناك و قائم و قاعد و ماش و واقف و نحو ذلك من خواص الأجسام و المتصف بخاصة الجسم جسم و قريب من ذلك ما يقال إن للبدن إدراكات هي بعينها إدراكات المشار إليه بأنا أعني النفس مثل إدراك حرارة النار و برودة الجمد و حلاوة العسل و غير ذلك من المحسوسات فلو كانت النفس مجردة أو مغايرة للبدن امتنع أن تكون صفتها غير صفته. و الجواب أن المشار إليه بأنا و إن كان هو النفس على الحقيقة لكن كثيرا ما يشار به إلى البدن أيضا لشدة ما بينهما من التعلق فحيث يوصف بخواص الأجسام   كالقيام و القعود و كإدراك المحسوسات عند من يجعل المدرك نفس الأعضاء و القوى لا النفس بواسطتها فالمراد به البدن و ليس معنى هذا الكلام أنها لشدة تعلقها بالبدن و استغراقها في أحواله يغفل فيحكم عليها بما هو من خواص الأجسام كما فهمه صاحب الصحائف ليلزم كونها في غاية الغفلة. الثالث أنها لو كانت مجردة لكانت نسبتها إلى جميع البدن على السواء فلم يتعلق ببدن دون آخر و على تقدير التعلق جاز أن ينتقل من بدن إلى بدن آخر و حينئذ لم يصح الحكم بأن زيدا الآن هو الذي كان بالأمس. و رد بأنا لا نسلم أن نسبتها إلى الكل على السواء بل لكل نفس بدن لا يليق بمزاجه و اعتداله إلا لتلك النفس الفائضة عليه بحسب استعداده الحاصل باعتداله الخاص. الرابع النصوص الظاهرة من الكتاب و السنة تدل على أنها تبقى بعد خراب البدن و تتصف بما هو من خواص الأجسام كالدخول في النار و عرضها عليها و كالترفرف حول الجنازة و ككونها في قناديل من نور أو في جوف طيور خضر و أمثال ذلك و لا خفاء في احتمال التأويل و كونها على طريق التمثيل و لهذا تمسك بها القائلون بتجرد النفوس زعما منهم أن مجرد مغايرتها للبدن يفيد ذلك. و قد يستدل بأنه لا دليل على تجردها فيجب أن لا تكون مجردة لأن الشي‏ء إنما يثبت بدليل و هو مع ابتنائه على القاعدة الواهية معارض بأنه لا دليل على كونها جسما أو جسمانيا فيجب أن لا يكون كذلك. ثم قال و احتج القائلون بتجرد النفس بوجوه الأول أنها تكون محلا لأمور يمتنع حلولها في الماديات و كل ما هو كذلك يكون مجردا بالضرورة أما بيان كونها محلا لأمور هذا شأنها فلأنها تتعقلها و قد سبق أن التعقل إنما يكون بحلول الصورة و انطباع المثال و المادي لا يكون

    صورة لغير المادي و مثالا له. و أما بيان تلك الأمور و امتناع حلولها في المادة فهو أن من جملة معقولاتها الواجب و إن لم تعقله بالكنه و الجواهر المجردة و إن لم نقل بوجودها في الخارج إذ ربما تعقل المعنى فتحكم عليه بأنه موجود أو ليس بموجود و لا خفاء في امتناع حلول صورة المجرد في المادي. و منها المعاني الكلية التي لا تمنع نفس صورها الشركة كالإنسانية المتناولة لزيد و عمرو فإنها يمتنع اختصاصها بشي‏ء من المقادير و الأوضاع و الكيفيات و غير ذلك مما لا ينفك عنه الشي‏ء المادي في الخارج بل يجب تجردها عن جميع ذلك و إلا لم تكن متناولة لما ليس له ذلك و الحاصل أن الحلول في المادة يستلزم الاختصاص بشي‏ء من المقادير و الأوضاع و الكيفيات و الكلية تنافي ذلك فلو لم تكن النفس مجردة لم تكن محلا للصورة الكلية عاقلة لها و اللازم باطل. و منها المعاني التي لا تقبل الانقسام كالوجود و الوحدة و النقطة و غير ذلك و إلا لكان كل معقول مركبا من أجزاء غير متناهية بالفعل و هو محال و مع ذلك فالمطلوب و هو وجود ما لا ينقسم حاصل لأن الكثرة عبارة عن الوحدات و إذا كان من المعقولات ما هو واحد غير منقسم لزم أن يكون محله العاقل له غير جسم بل مجردا لأن الجسم و الجسماني منقسم و انقسام المحل مستلزم لانقسام الحال فيما يكون الحلول لذات المحل كحلول السواد و الحركة و المقدار في الجسم لا لطبيعة تلحقه كحلول النقطة في الخط لتناهيه و كحلول الشكل في السطح لكونه ذا نهاية أو أكثر و كحلول المحاذاة في الجسم من حيث وجود جسم آخر على وضع ما منه و كحلول الوحدة في الأجزاء من حيث هي مجموع. و منها المعاني التي لا يمكن اجتماعها إلا في المجردات دون الجسم كالضدين و كعدة من الصور و الأشكال فإنه لا تزاحم بينها في التعقل بل يتصورها و يحكم فيما بينها بامتناع الاجتماع في محل واحد من المواد الخارجية حكما ضروريا و هذا الوجه

    من الاحتجاج يمكن أن يجعل وجوها أربعة بأن يقال لو كانت النفس جسما لما كانت عاقلة للمجردات أو للكليات أو للبسائط أو للمتمانعين. و الجواب أن مبنى هذا الاحتجاج على مقدمات غير مسلمة عند الخصم منها أن تعقل الشي‏ء يكون بحلول صورة في العاقل لا بمجرد إضافة بين العاقل و المعقول و منها أن النفس لو لم تكن مجردة لكانت منقسمة و لم يجز أن يكون جوهرا وضعيا غير منقسم كالجزء الذي لا يتجزى و منها أن الشي‏ء إذا كان مجردا كانت صورته الإدراكية مجردة يمتنع حلولها في المادي و لم يجز أن تكون حاله في جسم عاقل لكنها إذا وجدت في الخارج كانت ذلك الشي‏ء المجرد و منها أن صورة الشي‏ء إذا اختصت بوضع و مقدار و كيفية بحلولها في جسم كذلك كان الشي‏ء أيضا مختصا بذلك و لم يجز أن يكون في ذاته غير مختص بشي‏ء من الأوضاع و الكيفيات و المقادير و منها أن الشي‏ء إذا لم يقبل الانقسام كانت صورته الحاصلة في العاقل كذلك و لم يجز أن تكون منقسمة بانقسام المحل العاقل مع كون الشي‏ء غير منقسم لذاته و لا لحلوله في منقسم و منها أن الشيئين إذا كانا بحيث يمتنع اجتماعهما في محل كالسواد و البياض كانت الصورتان الحاصلتان منهما في الجوهر العاقل كذلك و قد سبق أن صورة الشي‏ء قد تخالفه في كثير من الأحكام و منها أن اجتماعهما في العاقل لا يجوز أن يكون بقيام كل منهما بجزء منه و منها أن انقسام المحل يستلزم انقسام الحال فيه لذاته ليمتنع حلول البسيط في العاقل الجسماني المنقسم البتة بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزى و لا يخفى أن بعض هذه المقدمات مما قامت عليه الحجة أقول ثم ذكر حججا أخرى لهم أعرضنا عنها و عن أجوبتها حذرا من الإطناب. و قال شارح المواقف مذاهب المنكرين لتجرد النفس الناطقة كثيرة لكن المشهور منها تسعة   الأول لابن الراوندي أنه جزء لا يتجزى في القلب بدليل عدم الانقسام مع نفي المجردات الممكنة. الثاني للنظام أنه أجزاء هي أجسام لطيفة سارية في البدن سريان ماء الورد في الورد باقية من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليها تحلل و تبدل حتى إذا قطع جزء من البدن انقبض ما فيه من تلك الأجزاء إلى سائر الأعضاء إنما المتحلل و المتبدل من البدن فضل ينضم إليه و ينفصل عنه إذ كل أحد يعلم أنه باق من أول عمره إلى آخره و لا شك أن المتبدل ليس كذلك. الثالث أنه قوة في الدماغ و قيل في القلب. الرابع أنه ثلاث قوى إحداها في القلب و هي الحيوانية و الثانية في الكبد و هي النباتية و الثالثة في الدماغ و هي النفسانية. الخامس أنه الهيكل المخصوص و هو المختار عند جمهور المتكلمين. السادس أنها الأخلاط الأربعة المعتدلة كما و كيفا. السابع أنه اعتدال المزاج النوعي. الثامن أنه الدم المعتدل إذ بكثرته و اعتداله تقوى الحياة و بالعكس. التاسع أنه الهواء إذ بانقطاعها طرفة عين تنقطع الحياة فالبدن بمنزلة الزق المنفوخ فيه. ثم قال و اعلم أن شيئا من ذلك لم يقم عليه دليل و ما ذكروه لا يصلح للتعويل عليه ثم قال تعلق النفس بالبدن ليس تعلقا ضعيفا يسهل زواله بأدنى سبب مع بقاء المتعلق بحاله كتعلق الجسم بمكانه و إلا تمكنت النفس من مفارقه البدن بمجرد المشيئة من غير حاجة إلى أمر آخر و ليس أيضا تعلقا في غاية القوة بحيث إذا زال التعلق بطل المتعلق مثل تعلق الأعراض و الصور المادية بمحالها لما عرفت من أنها مجردة بذاتها غنية عما يحل فيه بل هو تعلق متوسط بين بين كتعلق الصانع بالآلات التي يحتاج إليها في أفعاله المختلفة و من ثم قيل هو تعلق العاشق بالمعشوق عشقا جليا إلهاميا فلا ينقطع ما دام البدن صالحا لأن يتعلق به النفس أ لا ترى أنه

    تحبه و لا تمله مع طول الصحبة و تكره مفارقته و ذلك لتوقف كمالاتها و لذاتها العقلية و الحسية عليه فإنها في مبدإ خلقتها خالية عن الصفات الفاضلة كلها فاحتاجت إلى آلات تعينها على اكتساب تلك الكمالات و إلى أن تكون تلك الآلات مختلفة فيكون لها بحسب كل آلة فعل خاص حتى إذا حاولت فعلا خاصا كالإبصار مثلا التفتت إلى العين فتقوى بها على الإبصار التام و كذا الحال في سائر الأفعال و لو اتحدت الآلة لاختلطت الأفعال و لم يحصل لها شي‏ء منها على الكمال و إذا حصلت لها الإحساسات توصلت منها إلى الإدراكات الكلية و نالت حظها من العلوم و الأخلاق المرضية و ترقت إلى لذاتها العقلية بعد احتظائها باللذات الحسية فتعلقها بالبدن على وجه التدبير كتعلق العاشق في القوة بل أقوى منه بكثير و إنما تتعلق من البدن أولا بالروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الغذاء و لطيفه فإن القلب له تجويف في جانبه الأيسر يجذب إليه لطيف الدم فيبخره بحرارته المفرطة فذلك البخار هو المسمى بالروح عند الأطباء و عرف كونه أول متعلق للنفس بأن شد الأعصاب يبطل قوى الحس و الحركة عما وراء موضع الشد و لا يبطلهما مما يلي جهة الدماغ و أيضا التجارب الطبية تشهد بذلك و تفيد النفس الروح بواسطة التعلق قوة بها يسري الروح إلى جميع البدن فيفيد الروح الحامل لتلك القوة كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى التي فصلناها فيما قبل و هذا كله عندنا للقادر المختار ابتداء و لا حاجة إلى إثبات القوى كما مر مرارا انتهى. و قال المحقق القاساني في روض الجنان اعلم أن المذاهب في حقيقة النفس كما هي الدائرة في الألسنة و المذكورة في الكتب المشهورة أربعة عشر مذهبا الأول هذا الهيكل المحسوس المعبر عنه بالبدن. الثاني أنها القلب أعني العضو الصنوبري اللحماني المخصوص. الثالث أنها الدماغ. الرابع أنها أجزاء لا تتجزى في القلب و هو مذهب النظام و متابعيه. الخامس أنها الأجزاء الأصلية المتولدة من المني.   السادس أنها المزاج. السابع أنها الروح الحيواني و يقرب منه ما قيل إنها جسم لطيف سار في البدن سريان الماء في الورد و الدهن في السمسم. الثامن أنها الماء. التاسع أنها النار و الحرارة الغريزية. العاشر أنها النفس. الحادي عشر أنها هي الواجب تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. الثاني عشر أنها الأركان الأربعة. الثالث عشر أنها صورة نوعية قائمة بمادة البدن و هو مذهب الطبيعيين. الرابع عشر أنها جوهر مجرد عن المادة الجسمية و عوارض الجسم لها تعلق بالبدن تعلق التدبير و التصرف و الموت إنما هو قطع هذا التعلق و هذا هو مذهب الحكماء الإلهيين و أكابر الصوفية و الإشراقيين و عليه استقر رأي المحققين المتكلمين كالرازي و الغزالي و المحقق الطوسي و غيرهم من الأعلام و هو الذي أشارت إليه الكتب السماوية و انطوت عليه الأنباء النبوية و قادت عليه الأمارات الحدسية و المكاشفات الذوقية انتهى. و قال في الصحائف الإلهية النفس إما أن يكون جسما أو جسمانيا أو لا هذا و لا ذاك فإن كان جسما فإما أن يكون هذا الهيكل المحسوس و مال إليه كثير من المتكلمين و هو ضعيف و إما أن يكون جسما داخلا فيه و فيه عشر أقوال الأول قول أفلوطرخس أنه النار السارية فيه لأن خاصية النار الإشراق و الحركة و خاصية النفس الحركة و الإدراك و الإدراك إشراق و يتأيد بقول الأطباء مدبر البدن الحرارة الغريزية. الثاني قول ديوجامس أنه الهواء لأنه لطيف نافذ في المنافذ الضيقة قابل للأشكال المختلفة و يحرك الجسم الذي هو فيه كالزق المنفوخ فيه و النفس كذلك فالنفس الهواء.

    الثالث قول ثاليس الملطي أنه الماء لأن الماء سبب النمو و النشوء و النفس كذلك و هذه الوجوه ضعيفة لأنها مركبة من موجبتين في الشكل الثاني. الرابع قول أنباذقلس أنه العناصر الأربعة و المحبة و الغلبة. الخامس قول طائفة من الطبيعيين أنه الأخلاط الأربعة لأن بقاءها بكيفياتها و كمياتها المخصوصة سبب لبقاء الحياة بالدوران و هو ضعيف إذ الدوران لا يفيد اليقين. السادس أنه الدم لأنه أشرف الأخلاط. السابع أنه أجسام لطيفة حية لذواتها سارية في الأعضاء و الأخلاط لا يتطرق إليها انحلال و تبدل و بقاؤها فيها هو الحياة و انفصالها عنها هو الموت. الثامن أنه أجسام لطيفة متكونة في البطن يشوب القلب و ينفذ من الشرايين إلى جملة البدن. التاسع أنه أرواح متكونة في الدماغ تصلح لقبول قوى الحس و الحركة تنفذ في الأعصاب إلى جملة البدن. العاشر أنه أجزاء أصلية باقية من أول العمر إلى آخره و هو اختيار محققي المتكلمين. و إن كان جسمانيا ففيها أقوال الأول أنه المزاج و هو قول أكثر الأطباء. الثاني أنه صفة للحياة. الثالث أنه الشكل و التخطيط. الرابع أنه تناسب الأركان و الأخلاط. و إن لم يكن جسما و لا جسمانيا فهو إما متحيز و هو قول ابن الراوندي لأنه قال إنه جزء لا يتجزى في القلب أو غير متحيز و هو قول جمهور الفلاسفة و معمر من قدماء المعتزلة و أكثر الإمامية و الغزالي و الراغب و ذهب فرفوريوس إلى اتحاد النفس بالبدن.   ثم قال بعد إيراد بعض الدلائل و الأجوبة من الجانبين فالحق أنها جوهر لطيف نوراني مدرك للجزئيات و الكليات حاصل في البدن متصرف فيه غني عن الاغتذاء بري‏ء عن التحلل و النماء و لم يبعد أن يبقى مثل هذا الجوهر بعد فناء البدن و يلتذ بما يلائمه و يتألم بما يباينه هذا تحقيق ما تحقق عندي من حقيقة النفس انتهى و قال الصدوق رضي الله عنه في رسالة العقائد اعتقادنا في النفوس أنها الأرواح التي بها الحياة و أنها الخلق الأول

 لقول النبي ص أول ما أبدع الله سبحانه و تعالى هي النفوس المقدسة المطهرة فأنطقها بتوحيده ثم خلق بعد ذلك سائر خلقه

و اعتقادنا فيها أنها خلقت للبقاء و لم تخلق للفناء

 لقول النبي ص ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء و إنما تنقلون من دار إلى دار

و أنها في الأرض غريبة و في الأبدان مسجونة و اعتقادنا فيها أنها إذا فارقت الأبدان فهي باقية منها منعمة و منها معذبة إلى أن يردها الله عز و جل بقدرته إلى أبدانها

 و قال عيسى ابن مريم للحواريين بحق أقول لكم إنه لا يصعد إلى السماء إلا ما نزل منها

و قال الله جل ثناؤه وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فما لم ترفع منها إلى الملكوت بقي هو في الهاوية و ذلك لأن الجنة درجات و النار دركات و قال الله عز و جل تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ و قال عز و جل إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ و قال الله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و قال الله تعالى وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ

 و قال النبي ص   الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف

 و قال الصادق ع إن الله تعالى آخى بين الأرواح في الأظلة قبل أن يخلق الأبدان بألفي عام فلو قد قام قائمنا أهل البيت لورث الأخ الذي آخى بينهما في الأظلة و لم يرث الأخ من الولادة

 و قال الصادق ع إن الأرواح لتلتقي في الهواء فتتعارف و تساءل فإذا أقبل روح من الأرض قالت الأرواح دعوه فقد أفلت من هول عظيم ثم سألوه ما فعل فلان و ما فعل فلان فكلما قال قد بقي رجوه أن يلحق بهم و كلما قال قد مات قالوا هوى هوى

ثم قال قدس سره و الاعتقاد في الروح أنه ليس من جنس البدن فإنه خلق آخر لقوله تعالى ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ و اعتقادنا في الأنبياء و الرسل و الأئمة ع أن فيهم خمسة أرواح روح القدس و روح الإيمان و روح القوة و روح الشهوة و روح المدرج و في المؤمنين أربعة أرواح روح الإيمان و روح القوة و روح الشهوة و روح المدرج و في الكافرين و البهائم ثلاثة أرواح روح القوة و روح الشهوة و روح المدرج و أما قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي فإنه خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول الله ص و مع الأئمة ع و هو من الملكوت. و قال الشيخ المفيد نور الله ضريحه في شرحه على العقائد كلام أبي جعفر في النفس و الروح على مذهب الحدس دون التحقيق و لو اقتصر على الأخبار و لم يتعاط ذكر معانيها كان أسلم له من الدخول في باب يضيق عنه سلوكه ثم قال رحمه الله النفس عبارة عن معان أحدها ذات الشي‏ء و الآخر الدم السائل و الآخر النفس الذي هو الهواء و الرابع هو الهوى و ميل الطبع فأما شاهد المعنى الأول فهو قولهم هذا نفس الشي‏ء أي ذاته و عينه و شاهد الثاني قولهم كلما كانت النفس سائلة فحكمه كذا و كذا و شاهد الثالث قولهم فلان هلكت نفسه إذا انقطع نفسه و لم يبق   في جسمه هواء يخرج من حواسه و شاهد الرابع قول الله تعالى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ يعني الهوى داع إلى القبيح و قد يعبر عن النفس بالنقم قال الله تعالى وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يريد نقمته و عقابه فأما الروح فعبارة عن معان أحدها الحياة و الثاني القرآن و الثالث ملك من ملائكة الله تعالى و الرابع جبرئيل ع فشاهد الأول قولهم كل ذي روح فحكمه كذا يريدون كل ذي حياة و قولهم فيمن مات قد خرجت منه الروح يعنون الحياة و قولهم في الجنين صورة لم يلجه الروح يريدون لم تلجه الحياة و شاهد الثاني قوله تعالى وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا يعني القرآن و شاهد الثالث قوله يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ الآية و شاهد الرابع قوله تعالى قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ يعني جبرئيل ع و أما ما ذكره أبو جعفر و رواه أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف فهو حديث من أحاديث الآحاد و خبر من طرق الأفراد و له وجه غير ما ظنه من لا علم له بحقائق الأشياء و هو أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بألفي عام فما تعارف منها قبل خلق البشر ائتلف عند خلق البشر و ما لم يتعارف منها إذ ذاك اختلف بعد خلق البشر و ليس الأمر كما ظنه أصحاب التناسخ و دخلت الشبهة فيه على حشوية الشيعة فتوهموا أن الذوات الفعالة المأمورة المنهية كانت مخلوقة في الذر و تتعارف و تعقل و تفهم و تنطق ثم خلق الله لها أجسادا من بعد ذلك فركبها فيها و لو كان ذلك كذلك لكنا نعرف نحن ما كنا عليه و إذا ذكرنا به ذكرناه و لا يخفى علينا الحال فيه أ لا ترى أن من نشأ ببلد من البلاد فأقام فيه حولا ثم انتقل إلى غيره لم يذهب عنه علم ذلك و إن خفي

    عليه لسهوه عنه فيذكر به ذكره و لو لا أن الأمر كذلك لجاز أن يولد منا إنسان ببغداد و ينشأ بها و يقيم عشرين سنة فيها ثم ينتقل إلى مصر آخر فينسى حاله ببغداد و لا يذكر منها شيئا و إن ذكر به و عدد عليه علامات حاله و مكانه و نشوئه و هذا ما لا يذهب إليه عاقل و الذي صرح به أبو جعفر رحمه الله في معنى الروح و النفس هو قول التناسخية بعينه من غير أن يعلم أنه قولهم فالجناية بذلك على نفسه و غيره عظيمة فأما ما ذكره من أن الأنفس باقية فعبارة مذمومة و لفظ يضاد ألفاظ القرآن قال الله تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ و الذي حكاه من ذلك و توهمه هو مذهب كثير من الفلاسفة الملحدين الذين زعموا أن الأنفس لا يلحقها الكون و الفساد و أنها باقية و إنما تفنى و تفسد الأجسام المركبة و إلى هذا ذهب بعض أصحاب التناسخ و زعموا أن الأنفس لم تزل تتكرر في الصور و الهياكل لم تحدث و لم تفن و لن تعدم و أنها باقية غير فانية و هذا من أخبث قول و أبعده من الصواب و ما دونه في الشناعة و الفساد شنع به الناصبة على الشيعة و نسبوهم به إلى الزندقة و لو عرف مثبته ما فيه لما تعرض له لكن أصحابنا المتعلقين بالأخبار أصحاب سلامة و بعد ذهن و قلة فطنة يمرون على وجوههم فيما سمعوه من الأحاديث و لا ينظرون في سندها و لا يفرقون بين حقها و باطلها و لا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها و لا يحصلون معاني ما يطلقونه منها. و الذي ثبت من الحديث في هذا الباب أن الأرواح بعد موت الأجساد على ضربين منها ما ينقل إلى الثواب و العقاب و منها ما يبطل فلا يشعر بثواب و لا عقاب

 و قد روي عن الصادق ع ما ذكرنا في هذا المعنى و بيناه و سئل عمن مات في هذه الدار أين تكون روحه فقال من مات و هو ماحض للإيمان محضا أو ماحض للكفر محضا نقلت روحه من هيكله إلى مثله في الصورة و جوزي بأعماله إلى يوم القيامة فإذا بعث الله من في القبور أنشأ جسمه و رد روحه إلى جسده و حشره ليوفيه أعماله فالمؤمن ينتقل روحه من جسده إلى مثل جسده في الصورة فيجعل في جنان من جنان الله يتنعم   فيها إلى يوم المآب و الكافر ينتقل روحه من جسده إلى مثله بعينه و يجعل في النار فيعذب بها إلى يوم القيامة

و شاهد ذلك في المؤمن قوله تعالى قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي و شاهد ما ذكرناه في الكافر قوله تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا فأخبر سبحانه أن مؤمنا قال بعد موته و قد أدخل الجنة يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ و أخبر أن كافرا يعذب بعد موته غُدُوًّا وَ عَشِيًّا و يوم يقوم الساعة يخلد في النار. و الضرب الآخر من يلهى عنه و يعدم نفسه عند فساد جسمه فلا يشعر بشي‏ء حتى يبعث و هو من لم يمحض الإيمان محضا و لا الكفر محضا و قد بين الله ذلك عند قوله إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً فبين أن قوما عند الحشر لا يعلمون مقدار لبثهم في القبور حتى يظن بعضهم أن ذلك كان عشرا و يظن بعضهم أن ذلك كان يوما و ليس يجوز أن يكون ذلك من وصف من عذب إلى بعثه و نعم إلى بعثه لأن من لم يزل منعما أو معذبا لا يجهل عليه حاله فيما عومل به و لا يلتبس عليه الأمر في بقائه بعد وفاته

 و قد روي عن أبي عبد الله ع أنه قال إنما يسأل في قبره من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا فأما ما سوى هذين فإنه يلهى عنه

 و قال في الرجعة إنما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم من محض الإيمان أو محض الكفر محضا فأما ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب

و قد اختلف أصحابنا فيمن ينعم و يعذب بعد موته فقال بعضهم المعذب و المنعم هو الروح التي توجه إليها الأمر و النهي و التكليف سموها جوهرا و قال آخرون بل الروح الحياة جعلت في جسد كجسده في دار الدنيا و كلا الأمرين يجوزان في العقل و الأظهر عندي قول من قال إنها الجوهر المخاطب و هو الذي   يسميه الفلاسفة البسيط و قد جاء في الحديث أن الأنبياء خاصة و الأئمة من بعده ينقلون بأجسادهم و أرواحهم من الأرض إلى السماء فيتنعمون في أجسادهم التي كانوا فيها عند مقامهم في الدنيا و هذا خاص لحجج الله دون من سواهم من الناس

 و قد روي عن النبي ص أنه قال من صلى علي من عند قبري سمعته و من صلى علي من بعيد بلغته

 و قال ص من صلى علي مرة صليت عليه عشرا و من صلى علي عشرا صليت عليه مائة مرة فليكثر امرؤ منكم الصلاة علي أو فليقل

فبين أنه ص بعد خروجه من الدنيا يسمع الصلاة عليه و لا يكون كذلك إلا و هو حي عند الله تعالى و كذلك أئمة الهدى يسمعون سلام المسلم عليهم من قرب و يبلغهم سلامه من بعد و بذلك جاءت الآثار الصادقة عنهم و قد قال وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ الآية إلى آخر ما مر في كتاب المعاد أقول و قد تكلمنا عليه هناك فلا نعيده و قال المفيد قدس الله روحه في كتاب المسائل القول في تنعم أصحاب القبور و تعذيبهم على أي شي‏ء يكون الثواب لهم و العقاب و من أي وجه يصل إليهم ذلك و كيف تكون صورهم في تلك الأحوال. و أقول إن الله تعالى يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدنيا ينعم مؤمنيهم فيها و يعذب كفارهم و فساقهم فيها دون أجسامهم التي في القبور يشاهدها الناظرون تتفرق و تندرس و تبلى على مرور الأوقات و ينالهم ذلك في غير أماكنهم من القبور و هذا يستمر على مذهبي في النفس و معنى الإنسان المكلف عندي و هو الشي‏ء المحدث القائم بنفسه الخارج عن صفات الجواهر و الأعراض و مضى به روايات عن الصادقين من آل محمد ع و لست أعرف لمتكلم من الإمامية قبلي فيه مذهبا فأحكمه و لا أعلم بيني و بين فقهاء الإمامية و أصحاب الحديث فيه اختلافا. و قال السيد المرتضى رضي الله عنه في أجوبة المسائل العكبرية حين سئل عن   قول الله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ و قال فهل يكون الرزق لغير جسم و ما صورة هذه الحياة فإنا مجمعون على أن الجواهر لا تتلاشى فما الفرق حينئذ في الحياة بين المؤمن و الكافر فأجاب قدس الله لطيفه إن الرزق لا يكون عندنا إلا للحيوان و الحيوان عندنا ليسوا بأجسام بل ذوات أخرجوا في هذه الدار إلى الأجساد و تعذر عليهم كثير من الأفعال إلا بها و صارت آلتهم في الأفعال الأجساد فإن أغنوا عنها بعد الوفاة جاز أن يرزقوا مع عدمها رزقا تحصل لهم اللذات و إن ردوا إليها كان الرزق لهم حينئذ بحسبه في الدنيا على السواء. فأما قوله ما صورة هذه الحياة فالحياة لا صورة لها لأنها عرض من الأعراض و هي تقوم بالذات الفعال دون الأجساد التي تقوم بها حياة النمو دون الحياة التي هي شرط في العلم و القدرة و نحوهما من الأعراض. و قوله إنا مجمعون على أن الجواهر لا تتلاشى فليس ذلك كما ظن و لو كان الأمر فيه ما توهم لامتنع أن يوجد الحياة لبعض الجواهر و يرفع عن بعض كما يوجد حياة النمو لبعض الأجساد و يرفع عن بعض على الاتفاق و لو قلنا إن الحياة بعد النقلة من هذه الدار يعم أهل الكفر و الإيمان لم يفسد ذلك علينا أصلا في الدين فكانت الحياة لأهل الإيمان شرطا في وصول اللذات إليهم و الحياة لأهل الكفر شرطا في وصول الآلام إليهم بالعقاب. و قال رضي الله عنه في أجوبة المسائل التي وردت عليه من الري حين سئل عن الروح الصحيح عندنا أن الروح عبارة عن الهواء المتردد في مخارق الحي منا الذي لا يثبت كونه حيا إلا مع تردده و لهذا لا يسمى ما يتردد في مخارق الجماد روحا فالروح جسم على هذه القاعدة. أقول و قد روى بعض الصوفية في كتبهم عن كميل بن زياد أنه قال سألت

    مولانا أمير المؤمنين عليا ع فقلت يا أمير المؤمنين أريد أن تعرفني نفسي قال يا كميل و أي الأنفس تريد أن أعرفك قلت يا مولاي هل هي إلا نفس واحدة قال يا كميل إنما هي أربعة النامية النباتية و الحسية الحيوانية و الناطقة القدسية و الكلية الإلهية و لكل واحدة من هذه خمس قوى و خاصيتان فالنامية النباتية لها خمس قوى ماسكة و جاذبة و هاضمة و دافعة و مربية و لها خاصيتان الزيادة و النقصان و انبعاثها من الكبد و الحسية الحيوانية لها خمس قوى سمع و بصر و شم و ذوق و لمس و لها خاصيتان الرضا و الغضب و انبعاثها من القلب و الناطقة القدسية لها خمس قوى فكر و ذكر و علم و حلم و نباهة و ليس لها انبعاث و هي أشبه الأشياء بالنفوس الفلكية و لها خاصيتان النزاهة و الحكمة و الكلية الإلهية لها خمس قوى بهاء في فناء و نعيم في شقاء و عز في ذل و فقر في غناء و صبر في بلاء و لها خاصيتان الرضا و التسليم و هذه التي مبدؤها من الله و إليه تعود قال الله تعالى وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي و قال تعالى يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً و العقل في وسط الكل. أقول هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الأخبار المعتبرة المتداولة و هي شبيهة بأضغاث أحلام الصوفية و قال بعضهم في شرح هذا الخبر النفسان الأوليان في كلامه ع مختصان بالجهة الحيوانية التي هي محل اللذة و الألم في الدنيا و الآخرة و الأخيرتان بالجهة الإنسانية و هما سعيدة في النشأتين و سميا الأخيرة فإنها لا حظ لها من الشقاء لأنها ليست من عالم الشقاء بل هي منفوخة من روح الله فلا يتطرق إليها ألم هناك من وجه و ليست هي موجودة في أكثر الناس بل ربما لم يبلغ من ألوف كثيرة واحد إليها و كذلك الأعضاء و الجوارح بمعزل عن اللذة و الألم أ لا ترى إلى المريض إذا نام و هو حي و الحس عنده موجود و الجرح الذي يتألم به في يقظته موجود في العضو و مع هذا لا يجد ألما لأن الواجد للألم قد صرف وجهه عن عالم الشهادة   إلى البرزخ فما عنده خير فإذا استيقظ المريض أي رجع إلى عالم الشهادة و نزل منزل الحواس قامت به الأوجاع و الآلام فإن كان في البرزخ في ألم كما في رؤيا مفزعة مولمة أو في لذة كما في رؤيا حسنة ملذة انتقل منه الألم و اللذة حيث انتقل و كذلك حاله في الآخرة انتهى. و قال العلامة الحلي نور الله مرقده في كتاب معارج الفهم اختلف الناس في حقيقة النفس ما هي و تحرير الأقوال الممكنة فيها أن النفس إما أن تكون جوهرا أو عرضا أو مركبا منهما و إن كانت جوهرا فإما أن تكون متحيزة أو غير متحيزة و إن كانت متحيزة فإما أن تكون منقسمة أو لا تكون و قد صار إلى كل من هذه الأقوال قائل و المشهور مذهبان أحدهما أن النفس جوهر مجرد ليس بجسم و لا حال في الجسم و هو مدبر لهذا البدن و هو قول جمهور الحكماء و مأثور عن شيخنا المفيد و بني نوبخت من أصحابنا و الثاني أنها جوهر أصلية في هذا البدن حاصلة فيه من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليها التغير و لا الزيادة و لا النقصان و عند المعتزلة عبارة عن الهيكل المشاهد المحسوس و هاهنا مذاهب أخرى منها أن النفس هو الله تعالى و منها أنها هي المزاج و منها أنها النفس و منها أنها النار و منها أنها الهواء و غير ذلك من المذاهب السخيفة انتهى. و قال المحقق الطوسي قدس الله روحه في التجريد هي جوهر مجرد و قال العلامة رفع الله مقامه في شرحه اختلف الناس في ماهية النفس و أنها هل هي جوهر أم لا و القائلون بأنها جوهر اختلفوا في أنها هل هي مجردة أم لا و المشهور عند الأوائل و جماعة من المتكلمين كبني نوبخت من الإمامية و المفيد منهم و الغزالي من الآشاعرة أنها جوهر مجرد ليس بجسم و لا جسماني و هو الذي اختاره المصنف انتهى. و قال المحقق الطوسي رحمه الله أيضا في كتاب الفصول الذي يشير إليه الإنسان حال قوله أنا لو كان عرضا لاحتاج إلى محل يتصف به لكن لا يتصف بالإنسان شي‏ء بالضرورة بل يتصف هو بأوصاف هي غيره فيكون جوهرا و لو كان

    هو البدن أو شي‏ء من جوارحه لم يتصف بالعلم لكنه يتصف به الضرورة فيكون جوهرا عالما و البدن و سائر الجوارح آلاته في أفعاله و نحن نسميه هاهنا الروح انتهى. و توقف رحمه الله في رسالة قواعد العقائد و اكتفى بذكر الأقوال حيث قال المسألة الثانية في أقوال الناس في حقيقة الإنسان و أنها أي شي‏ء هي اختلفوا في حقيقة فبعضهم قالوا إن الإنسان هو الهيكل المشاهد و بعضهم قالوا هو أجزاء أصلية داخلية في تركيب الإنسان لا يزيد بالنمو و لا ينقص بالذبول و قال النظام هو جسم لطيف في داخل الإنسان سار في أعضائه فإذا قطع منه عضو تقلص ما فيه إلى باقي ذلك الجسم و إذا قطع بحيث انقطع ذلك الجسم مات الإنسان و قال ابن الراوندي هو جوهر لا يتجزى في القلب و بعضهم قالوا هو الأخلاط الأربعة و بعضهم قالوا هو الروح و هو جوهر مركب من بخارية الأخلاط و لطيفها مسكنه الأعضاء الرئيسة التي هي القلب و الدماغ و الكبد و منها ينفذ الروح في العروق و الأعصاب إلى سائر الأعضاء و جميع ذلك جواهر جسمانية و بعضهم قالوا هو المزاج المعتدل الإنساني و بعضهم قالوا تخاطيط الأعضاء و تشكيل الإنسان الذي لا يتغير من أول عمره إلى آخره و بعضهم قالوا العرض المسمى بالحياة و جميع ذلك أعراض و الحكماء و جمع من المحققين من غيرهم قالوا إنه جوهر غير جسماني لا يمكن أن يشار إليه إشارة حسية و هذه هي المذاهب و بعضها ظاهر الفساد انتهى. و قال الشيخ السديد المفيد طيب الله تربته حين سأله السائل في المسائل الرؤية ما قوله أدام الله تعالى علوه في الأرواح و مائيتها و حقيقة كيفياتها و ما لها عند مفارقتها الأجساد و هي حياة النمو و قبول الغذاء و الحياة التي في الذوات الفعالة هي معنى أم لا الجواب أن الأرواح عندنا هي أعراض لا بقاء لها و إنما عبد الله تعالى منها الحي حالا بحال فإذا قطع امتداد المحيي بها جاءت الموت الذي هو ضد

    الحياة و لم يكن للأرواح وجود فإذا أحيا الله تعالى الأموات ابتدأ فيهم الحياة التي هي الروح و الحياة التي في الذوات الفعالة هي معنى يصحح العلم و القدرة و هي شرط في كون العالم عالما و القادر قادرا و ليست من نوع الحياة التي تكون. ثم قال قدس سره حين سأل السائل ما قوله حرس الله تعالى عزه في الإنسان أ هو هذا الشخص المرئي المدرك على ما يذكره أصحاب أبي هاشم أم جزء حال في القلب حساس دراك كما يحكى عن أبي بكر بن الأخشاد و الجواب أن الإنسان هو ما ذكره بنو نوبخت و قد حكي عن هشام بن الحكم و الأخبار عن موالينا ع تدل على ما أذهب إليه و هي شي‏ء قائم بنفسه لا حجم له و لا حيز لا يصح عليه التركيب و لا الحركة و السكون و لا الاجتماع و لا الافتراق و هو الشي‏ء الذي كانت تسميه الحكماء الأوائل الجوهر البسيط و كذلك كل حي فعال محدث فهو جوهر بسيط و ليس كما قال الجبائي و ابنه و أصحابهما إنه جملة مؤلفة و لا كما قال ابن الأخشاد إنه جسم متخلخل في الجملة الظاهرة و لا كما قال الأعوازي إنه جزء لا يتجزى و قوله فيه قول معمر من المعتزلة و بني نوبخت من الشيعة على ما قدمت ذكره و هو شي‏ء يحتمل العلم و القدرة و الحياة و الإرادة و الكراهة و البغض و الحب قائم بنفسه محتاج في أفعاله إلى الآلة التي هي الجسد و الوصف له بأنه حي يصح عليه القول بأنه عالم قادر و ليس الوصف له بالحياة كالوصف للأجساد بالحياة حسب ما قدمناه و قد يعبر عنه بالروح و على هذا المعنى جاءت الأخبار أن الروح إذا فارقت الجسد نعمت و عذبت و المراد الإنسان الذي هو الجوهر البسيط يسمى الروح و عليه الثواب و العقاب و إليه يوجه الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و قد دل القرآن على ذلك بقوله يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ   فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ فأخبر تعالى أنه غير الصورة و أنه مركب فيها و لو كان الإنسان هو الصورة لم يكن لقوله تعالى فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ معنى لأن المركب في الشي‏ء غير الشي‏ء المركب فيه و محال أن تكون الصورة مركبة في نفسها و عينها لما ذكرناه و قد قال سبحانه في مؤمن آل يس قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي فأخبر أنه حي ناطق منعم و إن كان جسمه على ظهر الأرض أو في بطنها و قال تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ فأخبر أنهم أحياء و إن كانت أجسادهم على وجه الأرض مواتا لا حياة فيها

 و روي عن الصادقين ع أنهم قالوا إذا فارقت أرواح المؤمنين أجسادهم أسكنها الله تعالى في مثل أجسادهم التي فارقوها فينعمهم في جنة و أنكروا ما ادعته العامة من أنها تسكن في حواصل الطيور الخضر و قالوا المؤمن أكرم على الله من ذلك

و لنا على المذهب الذي وصفناه أدلة عقلية لا يطعن المخالف فيها و نظائر لما ذكرناه من الأدلة السمعية و بالله أستعين انتهى كلامه رفع الله مقامه. و قال الغزالي في الأربعين الروح هي نفسك و حقيقتك و هي أخفى الأشياء عليك و أعنى بنفسك روحك التي هي خاصة الإنسان المضافة إلى الله تعالى بقوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي و قوله وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي دون الروح الجسماني اللطيف الذي هو حامل قوة الحس و الحركة التي تنبعث من القلب و تنتشر في جملة البدن في تجويف العروق و الضوارب فيفيض منها نور حس البصر على العين و نور السمع على الأذن و كذلك سائر القوى و الحركات و الحواس كما يفيض من السراج   نور على حيطان البيت إذا أدير في جوانبه فإن هذه الروح تتشارك البهائم فيها و تنمحق بالموت لأنه بخار اعتدل نضجه عند اعتدال مزاج الأخلاط فإذا انحل المزاج بطل كما يبطل النور الفائض من السراج عند إطفاء السراج بانقطاع الدهن عنه أو بالنفخ فيه و انقطاع الغذاء عن الحيوان يفسد هذه الروح لأن الغذاء له كالدهن للسراج و القتل له كالنفخ في السراج و هذه الروح هي التي يتصرف في تقويمها و تعديلها علم الطب و لا تحمل هذه الروح المعرفة و الأمانة بل الحامل للأمانة الروح الخاصة للإنسان و نعني بالأمانة تقلد عهدة التكليف بأن تعرض لخطر الثواب و العقاب بالطاعة و المعصية. و هذه الروح لا تفنى و لا تموت بل تبقى بعد الموت إما في نعيم و سعادة أو في جحيم و شقاوة فإنه محل المعرفة و التراب لا يأكل محل المعرفة و الإيمان أصلا و قد نطقت به الأخبار و شهدت له شواهد الاستبصار و لم يأذن الشارع في تحقيق صفته إلى أن قال و هذه الروح لا تفنى و لا تموت بل يتبدل بالموت حالها فقط و لا يتبدل منزلها و القبر في حقها إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار إذ لم يكن لها مع البدن علاقة سوى استعمالها للبدن أو اقتناصها أوائل المعرفة بواسطة شبكة الحواس فالبدن آلتها و مركبها و شبكتها و بطلان الآلة و الشبكة و المركب لا يوجب بطلان الصائد نعم إن بطلت الشبكة بعد الفراغ من الصيد فبطلانها غنيمة إذ يتخلص من حمله و ثقله و لذا

 قال ع تحفة المؤمن الموت

و إن بطلت الشبكة قبل الصيد عظمت فيه الحسرة و الندامة و الألم و لذلك يقول المقصر رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا بل من كان ألف الشبكة و أحبها و تعلق قلبه بحسن صورتها و صنعتها و ما يتعلق بسببها كان له من العذاب ضعفين أحدهما حسرة فوات الصيد الذي لا يقتنص إلا بشبكة البدن و الثاني زوال الشبكة مع تعلق القلب بها و إلفه لها و هذا مبدأ من مبادئ معرفة عذاب القبر انتهى.   أقول لما كانت رسالة الباب المفتوح إلى ما قيل في النفس و الروح للشيخ الفاضل الرضي علي بن يونس العاملي روح الله روحه جمة الفوائد كثيرة العوائد مشتملة على جل ما قيل في هذا الباب من غير إسهاب و إطناب أوردت هاهنا جميعها و هي هذه. الحمد لله الذي خلق النفوس و حجب حقيقتها عنا فإن العين تبصر غيرها و يتعذر إدراك نفسها منها فأوجب ذلك خبط العلماء فيها و لم يصل أكثرهم بدقيق الفكر إليها و قد قال العالم الرباني الذي أوجب الله حقه من عرف نفسه فقد عرف ربه أشار بامتناع معرفة نفسه مع قربه إلى امتناع الإحاطة بكنه ربه و ما قيل في تفسيره من عرفها بالمخلوقية عرفه بالخالقية لا يدفع ما قصدناه و لا يمتنع ما ذكرناه إذ معرفتها بصفة حدوثها لا يستلزم معرفة عينها فإن معرفتها ليست ضروريا بلا خلاف لوجود الخلاف فيها و لا كسبية لامتناع صدق الجنس و الفصل عليها بل الاعتراف بالعجز عن وجدانها أسهل من الفحص عن كنهها و برهانها و الإنسان ضعيف القوة محدود الجملة معلومه أقل من مظنونه و تخمينه أكثر من يقينه لكن من كان نظره أعلى و نقده أجلى و نوره أصنع و فكره أشيع كان من الشك أنجى و من الشبهة أنأى و ثاقب بصره الأسنى إلى النفس أدنى و هذا الإنسان الضعيف الصغير فيه ذلك البسيط اللطيف جزء يسير فكيف يدرك بجزء منه كله و يقبل منه جميعه و هذا يتعذر أن يكون معلوما و يبعد و إن لم يكن معدوما بل يكفي أن يعلم أنها قوة إلهية مسببة واسطة بين الطبيعة المصرفة و العناصر المركبة المثير لها الطالع عليها السائغ فيها الممتزج بها فالإنسان ذو طبيعة لآثارها البادية في بدنه و ذو نفس لآثارها الظاهرة في مطلبه و مأربه و ذو عقل لتميزه و غضبه و شكه و يقينه و ها أنا ذا واضع لك في هذا المختصر المسمى بالباب المفتوح إلى ما قيل في النفس و الروح ما بلغني من أقاويل الأوائل و ما أوردوا من الشبهات و الدلائل راج من واهب المواهب الإشارة إلى مأخذ تلك المذاهب مورد ما حضرني من دخل فيها.   فهنا مقصدان

الأول في النفس

مقدمة

 اسم النفس مشترك بالاشتراك اللفظي بين معان منها ذات الشي‏ء فعل ذلك بنفسه و منها الأنفة ليس لفلان نفس و منها الإرادة نفس فلان في كذا و منها العين قال ابن القيس

يتقي أهلها النفوس عليها فعلى نحرها الرقى و التميم.

 و منها مقدار دبغة من الدباغ تقول أعطني نفسا أي قدر ما أدبغ به مرة و منها العيب إني لا أعلم نفس فلان أي عيبه و منها العقوبة وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ و منها ما يفوت الحياة بفواته كنفس الحيوان كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ و هذه هي المبحوث عنها المختلف فيها

 و اعلم أن الاحتمالات التي اقتضاها التقسيم بمناسبة إما جوهر مادي أو جوهر مجرد أو مادي و عرض أو مجرد و عرض أو مادي و مجرد و عرض

المذهب الأول الجوهر المادي

قال به جماعة المعتزلة و كثير من المتكلمين ثم اختلفوا على مذاهب ذهب جمهور المسلمين إلى أنه مجموع الهيكل المحسوس و هذا كما ترى ليس هو جوهر فقط بل مضاف إليه عرض لأن الجسم كذلك و اختاره القزويني قال لإجماع أهل اللغة أنهم عند إطلاق نفسه يشيرون إليه و اتفاق الأمة على وقوع الإدراكات بالبصر عليه و نصوص القرآن أيضا واردة فيه مثل إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ و أنه هو الذي يمات و يقبر في قوله ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ فمن يخرج عن هذه النصوص إلى غير مدلولاتها كيف يكون مسلما و قد أجمعت الأمة على أن من رأى هذه البنية و حلف أنه ما رأى إنسانا حنث و لكن اختلف في أن الإنسان هل هو هذه الجملة أو شي‏ء له هذه الجملة أو شي‏ء له هذه الجملة قال الأقرب الثاني و الفائدة في الملك إذا جاء فيها فإنه ليس بإنسان و كذلك المصور لها من خشب و غيره   و إنما جرى اسم الإنسان على الهيكل تبعا لذلك الشي‏ء الذي له الهيكل آدم و أولاده و هذا الذي قربه مخالف لما صوره. و قال شارح النظم أطبق العقلاء على بطلان هذا القول لأن مقطوع اليد باق و يمتنع بقاء الماهية عند عدم جزئها و لأنها دائما تتحلل و تستخلف فالفائت له ثواب و عليه عقاب فإن حشرت كلها لزم المحال و إن لم تحشر لزم الظلم و الإضلال ذهب أهل هذا التقسيم إلى أنه بعض الهيكل ثم اختلفوا على أقوال. قال ابن الراوندي إنه جزء في القلب قال النظام إنه أجزاء لطيفة في القلب و كأنهما نظرا إلى أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه وجد قلبه محل ذكره فظناها ذلك و هو خطأ لعدم إنتاج الشكل الثاني من الموجبتين قال الأطباء إنه الروح الذي في القلب من الجانب الأيسر نظرا إلى أن جانب الإنسان الأيسر أخطر من الأيمن و هو ضعيف لجواز كون محله غير القلب و سلامة القلب شرط فيه قال بعضهم إنه الدم لفوات الحياة بفواته و عليه قول السموأل تسيل على حد الضباة نفوسنا قلنا لا يلزم من عدم شي‏ء عند عدم آخر اتحادهما كالجوهر و العرض و لا حجة في الشعر لاحتماله المجاز و قيل هو الأخلاط بشرط أن يكون لكل واحد منها قدر معين و مأخذ هذا و جوابه قريب مما سلف. قال بعض الفلاسفة إنه الجزء الناري لأن خاصة النار الإشراق و الحركة و خاصة النفس الإدراك و الحركة و الإدراك من جنس الإشراق و لذلك قالت الأطباء إن مدبر هذا البدن الحرارة الغريزية قلنا لا يلزم من الاشتراك في الخاصة الاشتراك في ذي الخاصة فإن العناصر مع اختلاف ماهياتها تشترك في كيفياتها. قال الباقلاني هو الجزء الهوائي و هو النفس المتردد في المخارق و أنه متى انقطع انقطعت الحياة فالنفس هو النفس قلنا قد أسلفنا أن التلازم لا يستلزم الاتحاد. قيل هو الجزء المائي لأنه سبب النمو فالنفس كذلك قلنا و هذا من

   موجبتين في الشكل الثاني فهو عقيم و لا ينحصر النمو في الماء فإنه يوجد في الشمس و الهواء. قيل هو أجزاء لطيفة سارية في البدن كسريان الدهن في السمسم و ماء الورد في ورقه قلنا هذا مجرد خيال خال عن دليل. قال النظام و ابن الإخشيد إنه الروح الدماغي الصالح لقبول الحس و الكفر و الحفظ و الذكر و هو الحي المكلف الفاعل للأفعال و هو مركب من بخارية الأخلاط و لطيفها و مسكنه الأعضاء الرئيسة التي هي القلب و الدماغ و الكبد و ما ينفذ في العروق و الأعصاب إلى سائر الأعضاء قلنا قد علمنا أن الأذن هي السامعة و العين هي الباصرة و البدن راكع و ساجد فكيف يقال الفاعل غيرها و لم حد الزاني و لم قتل المرتد إذا كان هو غير هذا المشاهد. قال النظام أيضا إنه جزء لطيف داخل البدن سار في أعضائه فإذا قطع منه عضو تقلص ذلك اللطيف فإذا قطع اللطيف معه مات الإنسان و هذا نظر إلى فقد الحياة بفقدانه و قد عرفت ضعفه. قال هشام بن الحكم هو جسم لطيف يختص بالقلب و سماه نورا و إن الجسد موات و إن الروح هو الحي الفعال المدرك و قد عرفت مأخذه و ضعفه مما سلف. قال ابن الإخشيد أيضا إنه جسم منبث في الجملة و فيه ما فيما قبله. قالت الصوفية إنه جسم لطيف كهيئة الإنسان ملبس كالثوب على الجسد و كأنهم نظروا إلى الأفعال الصادرة عنه و إلى أنه إذا قطع بعضه لم يمت فجعلوه شيئا ملازما للجملة و هذا خرص محض. قالت الثنوية هو جوهران ممتزجان أحدهما خير هو من النور و الآخر شر هو من الظلمة بناء منهم على قدم هذين و تدبيرهما و قد عرفت بطلان مبناه في الكلام. قالت المرقونية إنه ثلاثة جواهر نور و ظلمة و ثالث بينهما و هو الفاعل دونهما.   قالت الصابئة هو الحواس الخمس لأنه شاعر و هذه مشاعر و هو من موجبتين في الثاني و يلزمهم أنه متى ذهب بعضها ذهب الإنسان لبطلان المركب ببطلان جزئه و الحس يكذبه. قال قوم من الدهرية هو الطبائع الأربع فهذا الضرب من الاختلاف كان إنسانا قال بعض الدهرية هو الطبائع الأربع و خامس آخر هو المنطق و التمييز و الفعل. قال بعض أصحاب الهيولى هو الجوهر الحي الناطق و هو في هذا الجوهر شي‏ء ليس بمماس و لا مباين و هو المدبر له. قالت الملكائية من النصارى هو النفس و العقل و الجرم. قال معمر هو عين من الأعيان لا يجوز عليه الانتقال و لا يجوز له محل و لا مكان يدبر هذا العالم و يحركه و لا يجوز إدراكه و رؤيته فقد قيل إنه جعل الإنسان بمثابة القديم غير أنه لما سئل كيف يختص تدبيره بهذا البدن دون غيره دهش و قال إنه مدبر لسائر أبدان العالم و هذه صفة الإله سبحانه فزعم حينئذ أنه ربه و هذا هو الذي عناه شارح نظم البراهين بقوله و قيل إن النفس هو الإله قالوا يجوز كون النفس مختلفة بالحقيقة و الأبدان مختلفة بالمزاج فتعلق كل نفس بما يناسبها من المزاج قلنا الأبدان الإنسانية قريبة المزاج و ربما اتحد أكثرها في المزاج فيلزم أن يتعلق بالجميع و هذه الأقوال لإدراكها مأخذ إلا أنها عند تحرير المبحث منها ما يرجع إلى الجوهر المجرد و منها ما يرجع إلى الأجزاء الأصلية. قال أكثر المحققين كأبي الحسين البصري و جمال الدين الحلي و كمال الدين البحراني و سالم بن عزيزة السوراوي إن الإنسان أجزاء أصلية في البدن باقية من أول العمر إلى آخره لا يجوز عليها التبدل و التغير لا مجموع البدن لأنه دائما في التبدل و الاستخلاف مع بقاء النفس و الباقي غير الزائل و لو كان هو جملة البدن

   لزم الظلم حيث إن المعدوم منه لا يمكن إعادته لما عرفت من امتناع إعادة المعدوم فلا يصل إليه ما يستحقه و لأنا متى استحضرنا العلوم وجدناها في ناحية صدورنا فلو كان محل علومنا شي‏ء خارج عن شي‏ء من أجسامنا لزم قيام صفاتنا بغيرنا و لأن الإنسان لو كان مجردا كما قيل لزم أن لا يعلم الإنسان الآخر لأنه لو علم الإنسان الآخر علم ذلك المجرد و هو ظاهر البطلان و لأنا نعلم هذا الإنسان و الإنسان المطلق جزء منه فلو لم نعلم الجزء لم نعلم الكل و ينعكس إلى أنا لما علمنا الكل علمنا الجزء و المجرد لا يعلم فليس بجزء و لأنا ندرك الألم بأجسامنا عند تقريبنا إلى النار مثلا و نحكم عليها به و المحكوم عليه هو الإنسان فهو معلوم و المجرد غير معلوم. قالوا الإنسان يدرك الكليات لامتناع حصر الكل الذي لا ينحصر في الجسم المنحصر فيكون هو المجرد قلنا إن العلم ليس صورة حالة في العالم و إنما هو الوصول إلى المعلوم و النظر إليه و لا نسلم له أن العلم بالكل كلي إنما الكلي في الحقيقة هو المعلوم و إن أطلق عليه فبالمجاز لأن عروض جميع الأفراد مستحيلة على القوة العقلية و إنما يحصل لها لقيامها بالجسم بعوارض محصورة لأنها صور جزئية في نفس جزئية موصوفة بالحدوث في وقت مخصوص و إذا كانت في النفس بهذه العوارض فهي ليست كلية. قالوا القوة العقلية تقوى من الأفعال على ما لا يتناهى و الجسمية لا تقوى على ما لا يتناهى أنتج من الشكل الثاني القوة العقلية ليست جسمية قلنا لا نسلم أن القوة العقلية تقوى على فعل فضلا عن أن يقوى على ما لا يتناهى لأن تعلقها بالمعقول عندكم حصول صورة فيها و ذلك انفعال لا فعل و لو سلمنا أصل قوتها منعنا عدم تناهيها لأنكم إن أردتم أنها تقوى في الوقت الواحد على ما لا يتناهى منعناه فإنا نجد في أنفسنا تعذر ذلك علينا و إن أردتم بعدم النهاية أنه ما من وقت إلا و يمكننا أن نفعل فيه فالقوة الجسمية تقوى لذلك إذ ما من آن يفرض إلا و يمكن أو يجب أن يحصل لها فيه فعل فيقوى على ما لا يتناهى فتكون القوة العاقلة جسمية. قالوا لو قويت الجسمية على ما لا يتناهى و كان جزؤها يقوى على ما لا يتناهى

   ساوى الجزء الكل و إن قوي على ما يتناهى تناهى الكل لأن نسبة الكل إلى الجزء معلومة فيكون نسبة تأثيره إلى تأثير الجزء معلومة و نسبة تأثير الجزء متناهية فنسبة تأثير الكل متناهية قلنا لا يلزم من كون تأثير الجزء أقل تناهيه فإن الجزء المؤثر الدائم الأثر له تأثير دائم و لا يلزم من دوامه مساواته الكل لأن له تأثيرا دائما لكنه ضعيف قليل لأنه واقف على حد. قال جمهور الفلاسفة و معمر بن عباد السلمي من قدماء المعتزلة و الغزالي و أبو القاسم الراغب و الشيخ المفيد و بنو نوبخت و الأسواري و نصير الدين الطوسي إنه جوهر مجرد عن المكان و الجهة و المحل متعلق بالبدن تعلق العاشق بمعشوقه و الملك بمدينته و يفعل أفعاله بواسطته و إن النفس تدرك حقائق الموجودات و جواز الجائزات و استحالة المستحيلات و إن النفس الفلكية تفيض على الأشخاص كالشمس تدخل عند طلوعها كل كوة بل قال الغزالي لا هو داخل البدن و لا خارج عنه و لا متصل به و لا منفصل عنه لأن مصحح ذلك الجسمية و التحيز المنفيان عنه كما أن الجماد لا عالم و لا جاهل لنفي المصحح عنه و هو الحياة قال و من نفاه نفاه لغلبة العامية على طبعه و لهذا إن الكرامية و الحنبلية جعلوا الإله جسما موجودا إذ لم يعقلوا إلا جسما يشار إليه و من ترقى عن ذلك قليلا نفي الجسمية و لم يطق ينظر في عوارضها فأثبت الجهة لله سبحانه فإذا منعوا ذلك في صفات الله كيف يجيزونه في غيره قالوا لو تجرد شي‏ء شاركه القديم في أخص صفاته فيشاركه في ذاته قلنا نمنع كون التجرد أخص الصفات بل كونه قيوما لقيامه بذاته و قيام غيره به احتجوا على إثبات المجرد بأن هنا معلومات بسيطة كالوحدة و النقطة فالعلم بها بسيط إذ لو تركب فإن تعلق جزؤه به أجمع ساوى الجزء الكل و لزم وجود العلم قبل وجوده و إن تعلق ببعضه لزم تركب ما فرض بساطته و إن لم يتعلق بشي‏ء ظهر أنه ليس بعلم إذ الكلام في باقي الأجزاء كالكلام فيه فعند الجمع بينهما إن لم تحصل هيئة جديدة كان العلم المفروض محض ما ليس بعلم و إن حصلت الهيئة المفروضة علما فإن كانت من الجزءين فالتركيب في فاعلهما و إن حصلت عندهما قائمة بهما فالتركيب

   في قابلهما لا فيهما إذ لو كانت مركبة عاد الكلام في أجزائها فمحل هذه المفروضة علما هو النفس و هي بسيطة لأنها لو تركبت فإن حل العلم البسيط في مجموعها انقسم العلم إذ الحال في أحد الجزءين غير الحال في الآخر و لو كان هو الحال في الآخر لزم حلول العرض الواحد في محلين و إن حل في أحد الجزءين فإن كان هو النفس فالمطلوب و إن كان هو جزؤها فالجزء الآخر خال منه فلزم أن نعلم شيئا و نجهله في وقت واحد فظهر أن المحل و هو النفس بسيط و لا شي‏ء من الجسم و الجسماني ببسيط ينتج من الشكل الثاني أن محل العلم ليس بجسم و لا جسماني. و الجواب أما المقدمة الأولى و هي أن هنا معلوما بسيطا فمسلم أما الباقيات فممنوعات أما الثانية فلأن الجزء يجوز مساواته للكل في التعلق و إن لم يساوه في الحقيقة كالأدلة المتواترة على شي‏ء واحد و إن واحدها تعلق بما تعلق به مجموعها و فيه نظر لأن الجزء الثاني من العلم إن زاد المعلوم به انكشافا تعلق بغير ما تعلق به الأول و إن لم يزد كان وجوده مثل عدمه و الأصوب في المنع أن قولهم إن لم يتعلق الجزء بشي‏ء ظهر أنه ليس بعلم فعند الجمع إن لم يحصل هيئة كان المفروض علما محض ما ليس بعلم و إن حصلت منه إلخ نفي كل مركب فيقال في الحيوان مثلا ليس بمركب لأن جزأه إما حيوان فيتقدم الحيوان على نفسه و ساوى الجزء الكل أو ليس بحيوان فبعد الجمع بالجزء الآخر إن لم تحصل هيئة كان الحيوان محض ما ليس بحيوان و إن حصلت فهي بسيطة لأنه لو كان لها جزء عاد التقسيم المذكور فيكون التركيب في فاعلها أو قابلها لا فيها و ليس لهم عن هذه المعارضة مذهب و أما الثالثة و هو أنه يلزم من بساطة الحال بساطة المحل فلأنا لا نسلم أن العلم على هيئة الحلول و الصورة و إنما هو إدراك و وصول و نظر إلى المعلوم و لو سلم لم يلزم من بساطة الحال بساطة المحل فإن النقطة و الوحدة موجودتان في الجسم المركب نعم إنما يلزم ذلك إذا كان الحلول على نعت السريان و لم يقم على السريان في محل النزاع برهان. و يلزم مما قالوا كون النفس جسما أو جسمانية لأنها تعلم المركب في صورة   المركبة مركبة فيلزم كون محلها مركبا لامتناع حلول المركب في البسيط و هذه معارضة أخرى لا محيص عنها و أما الرابعة فنمنع انقسام كل جسم و جسماني لما ثبت في الكلام جواهر لا تقبل الانقسام.

المذهب الثاني أنها عرض

فذهب جالينوس إلى أنه المزاج الذي هو اعتدال الأركان و هذا نظر إلى فوات الحياة بفواته و قد سلف جوابه. و قيل إنه تشكيل البدن و تخطيطه و هذا قول سخيف جدا منقوض بمقطوع اليد مثلا فإن فوات تخطيطها يلزم منه عدم النفس لعدم الكل بعدم الجزء. و قيل إنه الحياة و هذا مأخوذ من التلازم بينهما و قد عرفت أنه لا يوجب الاتحاد. و قيل إنه النسبة الواقعة بين الأركان في الكميات و الكيفيات. أما تركبه من الجسم و المجرد أو من العرض و المجرد أو من الجسم و العرض و المجرد فقال سديد الدين محفوظ لا أعلم به قائلا إلا أن تفسير الفلاسفة لحقيقة الإنسان بأنه الحيوان الناطق يقتضي كون الإنسان عبارة عن البدن و النفس معا لأن الحياة جنس حلته أعراض و الناطق هو النفس فعلى هذا يكون الإنسان مركبا من هذه تركيبا ثلاثيا و هذا مذهب تاسع و عشرون. و الثلاثون قال بشر بن معتمر و هشام النوطي إنه الجسم و الروح الذي هو الحياة و إنهما الفاعلان للأفعال و على هذا قيل في الإنسان نفس و روح فإذا نام خرجت نفسه و إذا مات خرجتا معا و هذا يؤدي إلى أن النفس و الروح غير الإنسان.

خاتمة

 قوله ع من عرف نفسه فقد عرف ربه

قال بعض العلماء الروح لطيفة لاهوتية في صفة ناسوتية دالة من عشرة أوجه على وحدانية ربانية 1-  لما حركت الهيكل و دبرته علمنا أنه لا بد للعالم من محرك و مدبر. 2-  دلت وحدتها على وحدته.    -3  دل تحريكها للجسد على قدرته. 4-  دل اطلاعها على ما في الجسد على علمه. 5-  دل استواؤها إلى الأعضاء على استوائه إلى خلقه. 6-  دل تقدمها عليه و بقاؤها بعده على أزله و أبده. 7-  دل عدم العلم بكيفيتها على عدم الإحاطة به. 8-  دل عدم العلم بمحلها من الجسد على عدم أينيته. 9-  دل عدم مسها على امتناع مسه. 10-  دل عدم إبصارها على استحالة رؤيته.

المقصد الثاني الروح

 فزعمت الفلاسفة أن في البدن أرواحا و أنفسا يعبرون عنها بالقوى منها الروح الطبيعي التي يشترك فيها جميع الأجساد النامية و محلها الكبد و منها الروح الحيواني و هي التي يشترك فيها الحيوانات و محلها من الإنسان القلب و منها النفساني و هي من فيض النفس الناطقة أو العقل و محلها الدماغ و هي المدبرة للبدن و عندنا أن هذه الأرواح معان يخلقها الله تعالى في هذه المحال ثم أثبتوا قوى أخر في المعدة الماسكة و الهاضمة و الجاذبة و الدافعة و عندنا أيضا أنها معان و ليست جواهر لتماثل الجواهر و لو كان بعض الجواهر روحا لنفسه لكان كل جوهر كذلك فيستغني كل جزء عن أن يكون له روح غير نفسه فبطل بذلك كون روح الجسد من نفسه. إن قالوا الروح الباقي عرض و اعترض في الروح الأول قلنا فلم لا يجوز أن يكون روح هذا الجسد الظاهر عرضا هو الحياة و الله خالق الموت و الحياة فإن كانت جوهرا و الموت عرض امتنع أن يبطل حكمها لأن العرض لا يضاد الجوهر و عند معظم أهل الفلاسفة و الطب أن الروح من بخار الدم تتصاعد فتبقى ببقائها.   و اعلم أن اسم الروح مشترك باللفظ بين عشر معان ا الوحي ب جبرئيل ج عيسى د الاسم الأعظم ه ملك عظيم الجثة و الرحمة ز الراحة ح الإنجيل ط القرآن ي الحياة أو سببها. و قال الباقلاني و الأسفراني و ابن كيال و غيرهم أن الروح هي الحياة و هي عرض خاص و ليست شيئا من بقية الأعراض المعتدلة و المحسوسة لجواز زوالها مع بقاء الروح. إن قيل فكيف يكون الروح هو الحياة و الله له حياة و ليس له روح قلنا أسماء الله تعالى سبحانه توقيفية لا تبلغ من الآراء فإن الله تعالى عليم و لا يسمى داريا و لا شاعرا و لا فقيها و لا فهيما و الله تعالى قادر مبين و لا يسمى شجاعا و لا مستطيعا. إن قيل كيف يكون الروح هو الحياة و في الأخبار أن الأرواح تنتقل إلى عليين و إلى سجين و إلى قناديل تحت العرش و إلى حواصل طير خضر و الحياة لا تنتقل. قلنا يجوز أن تنتقل أجزاء أحياء و تسمى أرواحا لأنها محال الروح و هي الحياة تسمية للمحل باسم معنى فيه كما يسمى المسجد صلاة في قوله تعالى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى أو نقول المنتقل أمثال الأرواح يخلقها الله و تسمى أرواحا نورانية إن كانت قائمة بذوات المطيعين طيبة تصلي عليها الملائكة و ظلمانية منتنة إن كانت قائمة بذوات المسيئين تلعنها الملائكة مثل ما ورد في الأخبار تصعد صلاة المحسن طيبة مضيئة و صلاة المسي‏ء منتنة مظلمة و إن سورة البقرة و آل عمران تأتيان كأنهما غمامتان و الله تبعث الأيام على هيئتها و تبعث يوم الجمعة أزهر و أنه يؤتى بكبش أملح فيذبح و يقال هذا الموت و أن الأعمال توزن و إنما هي أمثلة يخلقها الله. إن قيل إن الله وصف النفس التي هي الروح بالإرسال و الإمساك في قوله

    تعالى يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الآية و الحياة لا توصف بذلك. قلنا قد سلف أن النفس يقال على معان منها الروح و منها العقل و التمييز و هذان هما المراد من قوله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الآية و أطلق على النائم لعدم الدفع و النفع و منه سمى الله الكفار أمواتا في قوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى لعدم النفع. إن قيل في الحديث أن الأرواح جنود في الهواء و الحياة لا تكون في الهواء. قلنا محمول على الذرية التي خرجت من آدم و في هذا نظر لمخالفة ظاهر الآية إذ فيها وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ أو أن الأرواح هنا القلوب لأن التعارف و التساكن فيها. إن قيل في الحديث خلق الله الأرواح قبل الأجساد و لا يصح ذلك في الحياة. قلنا لا يعلم صحته أو المراد بالأرواح الملائكة فإن جبرئيل روح و الملك العظيم الجثة روح و الروحانيون صنف منهم أيضا. و الظاهر من كلام أبي الحسن و جماعة أن الروح أجسام لطيفة فقيل ليست معينة و قال الجويني هي ماسكة الأجسام المحسوسة أجرى الله العادة باستمرار الحياة ما استمرت و كان ابن فورك يقول هو ما يجري في تجاويف الأعضاء و لهذا جوز أبو منصور البغدادي قيام الحياة بالشعر إذ لا يشترط في محلها التجويف و لم يجوز قيام الروح لاشتراط التجويف و ليس في الشعر تجويف و استدلوا على كونها جسما بوصف الله لها ببلوغ الحلقوم و بالإرسال و بالرجوع و بالفزع و بقوله من نام على وضوء يؤذن لروحه أن تسجد عند العرش و على هذا اختلف في تكليفها فقيل ليست مكلفة و قيل بل مكلفة بأفعال غير أفعال البدن المحبة و ضدها و أن له   حياة و أفعالها اقتناء الأفعال الحميدة و اجتناب الذميمة و أوردوا في ذلك ما أورده الخيري في تفسيره قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها أن النفس و الروح يجيئان بين يدي الله فيختصمان فتقول النفس كنت كالثوب لم أقترف ذنبا ما لم تدخل في و يقول الروح كنت مخلوقا قبلك بدهور و لم أدر ما الذنب إلى أن دخلت فيك فيمثل الله لهما أعمى و مقعدا و كرما على الجدار و يأمرهما بالاقتطاف فيقول الأعمى لا أبصر و يقول المقعد لا أمشي فيقول له اركب الأعمى و اقتطف فيقول هذا مثالكما فكما صار العنب بكما مقطوفا صار الذنب بكما معروفا و من قال الروح هي الحياة قال المراد بالروح في هذا القول القلب لأنه به حياة الجسد و قد روي في حلية الأولياء عن سلمان رضي الله عنه أنه قال مثل القلب و الجسد مثل الأعمى و المقعد قال المقعد أرى ثمرة و لا أستطيع القيام فاحملني فحمله فأكل و أطعمه و هذا أولى لأن فعل الجسد إنما يكون طاعة و معصية بعزيمة القلب و لهذا

 قال ع إن في الجسم لمضغة إذا صلحت صلح سائره و إذا فسدت فسد سائره و هي القلب

تذنيب

 قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي إن قيل كيف أبهم الله الجواب قلنا فيه وجوه. ا قال الكتابيون للمشركين اسألوا محمدا عنه فإن توقف فيه فهو نبي فسألوه فأجاب بذلك و قوله وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا عنى اليهود قالوا أوتينا التوراة و فيها علم كل شي‏ء. ب كان قصدهم بالسؤال تخجيل النبي ص فإن الروح لما قيل على معان   مختلفة كما سلف حتى لو أجاب بواحد منها قالوا ما نريد هذا فأبهموا السؤال فأبهم الجواب بما ينطبق على الجميع بأنه من أمر الله أي أنه أحدثه بقوله كن أو هو من شأنه و خلقه. ج عن ابن عباس أنهم سألوا عن جبرئيل لأنهم كانوا يدعون معاداته. د

 عن علي ع أنهم سألوا عن الملك العظيم الجثة

ه لو أريد الروح التي في البدن لم يكن في الآية دليل على أنه لا يعلمها إلا الله. هذا آخر ما وجدنا من الرسالة و لن نتكلم على ما فيها إحالة على أفهام الناظرين فخذ منها ما صفا و دع ما كدر.

تتمة

 أقول بعد ما أحطت خبرا بما قيل في هذا الباب من الأقوال المتشتتة و الآراء المتخالفة و بعض دلائلهم عليها لا يخفى عليك أنه لم يقم دليل عقلي على التجرد و لا على المادية و ظواهر الآيات و الأخبار تدل على تجسم الروح و النفس و إن كان بعضها قابلا للتأويل و ما استدلوا به على التجرد لا يدل دلالة صريحة عليه و إن كان في بعضها إيماء إليه فما يحكم به بعضهم من تكفير القائل بالتجرد إفراط و تحكم كيف و قد قال به جماعة من علماء الإمامية و نحاريرهم و جزم القائلين بالتجرد أيضا بمحض شبهات ضعيفة مع أن ظواهر الآيات و الأخبار تنفيه أيضا جرأة و تفريط فالأمر مردد بين أن يكون جسما لطيفا نورانيا ملكوتيا داخلا في البدن تقبضه الملائكة عند الموت و تبقى معذبا أو منعما بنفسه أو بجسد مثالي يتعلق به كما مر في الأخبار أو يلهى عنه إلى أن ينفخ في الصور كما في المستضعفين و لا استبعاد في أن يخلق الله جسما لطيفا يبقيه أزمنة متطاولة كما يقول المسلمون في الملائكة و الجن و يمكن أن يرى في بعض الأحوال بنفسه أو بجسده المثالي و لا يرى في بعض الأحوال بنفسه أو بجسده بقدرة الله سبحانه أو يكون مجردا يتعلق بعد قطع تعلقه عن جسده الأصلي بجسد مثالي و يكون قبض الروح و بلوغها الحلقوم و أمثال ذلك تجوزا عن   قطع تعلقها أو أجرى عليها أحكام ما تعلقت أولا به و هو الروح الحيواني البخاري مجازا. ثم الظاهر من الأخبار أن النفس الإنساني غير الروح الحيواني و غير سائر أجزاء البدن المعروفة و أما كونها جسما لطيفا خارجا من البدن محيطا به أو متعلقا به فهو بعيد و لم يقل به أحد و إن كان يستفاد من ظواهر بعض الأخبار كما عرفت. و قد يستدل على بطلان القول بوجود مجرد سوى الله بقوله سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ و هو ضعيف إذ يمكن أن يكون تجرده سبحانه مباينا لتجرد غيره كما تقول في السمع و البصر و القدرة و غيرها. و قد يستدل على نفيه بما سبق من الأخبار الدالة على أن الوحدة مختصة به تعالى و أن غيره سبحانه متجزئ كخبر فتح بن يزيد

 عن أبي الحسن ع و قال في آخره و الإنسان واحد في الاسم لا واحد في المعنى و الله جل جلاله هو واحد لا واحد غيره و لا اختلاف فيه و لا تفاوت و لا زيادة و لا نقصان و أما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف من أجزاء مختلفة و جواهر شتى غير أنه بالاجتماع شي‏ء واحد

 و عن أبي جعفر الثاني ع في حديث طويل و لكنه القديم في ذاته و ما سوى الواحد متجزئ و الله الواحد لا متجزئ و لا متوهم بالقلة و الكثرة و كل متجزئ أو متوهم بالقلة و الكثرة فهو مخلوق دال على خالق له

 و عن أمير المؤمنين ع لا تشبه صورة و لا يحس بالحواس و لا يقاس بالناس قريب في بعده بعيد في قربه فوق كل شي‏ء و لا يقال شي‏ء فوقه أمام كل شي‏ء و لا يقال له أمام داخل في الأشياء لا كشي‏ء داخل و خارج من الأشياء لا كشي‏ء خارج سبحان من هو هكذا و لا هكذا غيره

فإن هذه الأخبار و غيرها مما مر في كتاب التوحيد تدل على اختصاص تلك الصفات بالله تعالى و على القول بوجود مجرد سوى الله كانت مشتركة مع الله سبحانه فيها لا سيما في العقول التي ينفون عنها التغير و التبدل و لا يخلو من قوة لكن   للكلام فيه مجال و الله يعلم حقائق الأمور و حججه ع. و أقول لما انتهى الكلام في هذا الباب إلى بعض الإطناب لكونه من أهم المطالب و أقصى المآرب فلا بأس بأن نذكر بعض المطالب المهمة من أحوال النفس و شئونها في فوائد. الأولى في بيان اتحاد حقيقة النفوس البشرية بالنوع قال نصير الملة و الدين رحمه الله في التجريد و دخولها تحت حد واحد يقتضي وحدتها و قال العلامة رفع الله مقامه اختلف الناس في ذلك فذهب الأكثر إلى أن النفوس البشرية متحدة في النوع متكثرة بالشخص و هو مذهب أرسطو و ذهب جماعة من القدماء إلى أنها مختلفة بالنوع و احتج المصنف على وحدتها بأنها يشملها حد واحد و الأمور المختلفة يستحيل اجتماعها تحت حد واحد و عندي في هذا نظر و قال شارح المقاصد ذهب جمع من قدماء الفلاسفة إلى أن النفوس الحيوانية و الإنسانية متماثلة متحدة الماهية و اختلاف الأفعال و الإدراكات عائد إلى اختلاف الآلات و هذا لازم على القائلين بأنها أجسام و الأجسام متماثلة إذ لا تختلف إلا بالعوارض و أما القائلون بأن النفوس الإنسانية مجردة فذهب الجمهور منهم إلى أنها متحدة الماهية و إنما تختلف في الصفات و الملكات و اختلاف الأمزجة و الأدوات و ذهب بعضهم إلى أنها مختلفة بالماهية بمعنى أنها جنس تحته أنواع مختلفة تحت كل نوع أفراد متحدة الماهية متناسبة الأحوال بحسب ما يقتضيه الروح العلوي المسمى بالطباع التام لذلك النوع و يشبه أن يكون

 قوله ع الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة

 و قوله ع الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف

إشارة إلى هذا و ذكر الإمام في المطالب العالية أن هذا المذهب هو المختار عندنا. و أما بمعنى أن يكون كل فرد منها مخالفا بالماهية لسائر الأفراد حتى لا يشترك منهم اثنان في الحقيقة فلم يقل به قائل تصريحا كذا ذكره أبو البركات في المعتبر.   احتج الجمهور بأن ما يعقل من النفس و يجعل لها حدا معنى واحد مثل الجوهر المجرد المتعلق بالبدن و الحد تمام الماهية و هذا ضعيف لأن مجرد التحديد بحد واحد لا يوجب الوحدة النوعية إذ المعاني الجنسية أيضا كذلك كقولنا الحيوان جسم حساس متحرك بالإرادة و إن ادعي أن هذا مقول في جواب السؤال بما هو عن أي فرد و أي طائفة تفرض فهو ممنوع بل ربما يحتاج إلى ضم مميز جوهري و قد يحتج بأنها مشاركة في كونها نفوسا بشرية فلو تخالفت بفصول مميزة لكانت من المركبات دون المجردات و الجواب بعد تسليم كون النفسية من الذاتيات دون العرضيات أن التركيب العقلي من الجنس و الفصل لا ينافي التجرد و لا يستلزم الجسمية. و احتج الآخرون بأن اختلاف النفوس في صفاتها لو لم يكن لاختلاف ماهياتها بل لاختلاف الأمزجة و الأحوال البدنية و الأسباب الخارجية لكانت الأشخاص المتقاربة جدا في أحوال البدن و الأسباب الخارجة متقاربة البتة في الملكات و الأخلاق من الرحمة و القسوة و الكرم و البخل و العفة و الفجور و بالعكس و اللازم باطل إذ كثيرا ما يوجد الأمر بخلاف ذلك بل ربما يوجد الإنسان الواحد يبدل مزاجه جدا و هو على غريزته الأولى و لا خفاء في أن هذا من الإقناعيات الضعيفة لجواز أن يكون ذلك لأسباب أخر لا نطلع على تفاصيلها. الثانية تساوي الأرواح و الأبدان قال شارح المقاصد كل نفس يعلم بالضرورة أن ليس معها في هذا البدن نفس أخرى تدبر أمره و أن ليس لها تدبير و تصرف في بدن آخر فالنفس مع البدن على التساوي ليس لبدن واحد إلا نفس واحدة و لا تتعلق نفس واحدة إلا ببدن واحد أما على سبيل الاجتماع فظاهر و أما على سبيل التبادل و الانتقال من بدن إلى آخر فلوجوه. الأول أن النفس المتعلقة بهذا البدن لو كانت منتقلة إليه من بدن آخر لزم أن يتذكر شيئا من أحوال ذلك البدن لأن العلم و الحفظ و التذكر من الصفات القائمة بجوهرها الذي لا يختلف باختلاف أحوال البدن و اللازم باطل قطعا.   الثاني أنها لو تعلقت بعد مفارقة هذا البدن ببدن آخر لزم أن يكون عدد الأبدان الهالكة مساويا لعدد الأبدان الحادثة لئلا يلزم تعطل بعض النفوس أو اجتماع عدة منها على التعلق ببدن واحد أو تعلق واحدة منها بأبدان كثيرة معا لكنا نعلم قطعا بأنه قد يهلك في مثل الطوفان العام أبدان كثيرة لا يحدث مثلها إلا في أعصار متطاولة. الثالث أنه لو انتقل نفس إلى بدن لزم أن يجتمع فيه نفسان منتقلة و حادثة لأن حدوث النفس عن العلة القديمة يتوقف على حصول الاستعداد في القابل أعني البدن و ذلك بحصول المزاج الصالح و عند حصول الاستعداد في القابل يجب حدوث النفس لما تقرر من لزوم وجود المعلول عند تمام العلة. لا يقال لا بد مع ذلك من عدم المانع و لعل تعلق المنتقلة مانع و تكون لها الأولوية في المنع لما لها من الكمال. لأنا نقول لا دخل للكمال في اقتضاء التعلق بل ربما يكون الأمر بالعكس فإذن ليس منع الانتقال للحدوث أولى من منع الحدوث للانتقال. و اعترض على الوجوه الثلاثة بعد تسليم مقدماتها بأنها إنما تدل على أن النفس بعد مفارقه البدن لا تنتقل إلى بدن آخر إنساني و لا يدل على أنها لا تنتقل إلى حيوان آخر من البهائم و السباع و غيرهما على ما جوزه بعض التناسخية و سماه مسخا و لا إلى نبات على ما جوزه بعضهم و سماه فسخا و لا إلى جماد على ما جوزه آخر و سماه رسخا و لا إلى جرم سماوي على ما يراه بعض الفلاسفة. و إنما قلنا بعد تسليم المقدمات لأنه ربما يعترض على الوجه الأول بمنع لزوم التذكر و إنما يلزم لو لم يكن التعلق بذلك البدن شرطا و الاستغراق في تدبير البدن الآخر مانعا أو طول العهد منسيا و على الثاني بمنع لزوم التساوي و إنما يلزم لو كان التعلق ببدن آخر لازما البتة و على الفور و أما إذا كان جائزا أو لازما و لو بعد حين فلا لجواز أن لا ينتقل نفوس الهالكين الكثيرين أو ينتقل بعد حدوث الأبدان الكثيرة و ما توهم من التعطيل مع أنه لا حجة على بطلانه فليس بلازم لأن

    الابتهاج بالكمالات أو التألم بالجهالات شغل و على الثالث بأنه مبني على حدوث النفس و كون المزاج مع الفاعل تمام العلة بحيث لا مانع أصلا و الكل في حيز المنع ثم قال و ليس للتناسخية دليل يعتد به و غاية ما تمسكوا به في إثبات التناسخ على الإطلاق أي انتقال النفس بعد المفارقة إلى جسم آخر إنساني أو غيره وجوه. الأول أنها لو لم تتعلق لكانت معطلة و لا تعطيل في الوجود و كلتا المقدمتين ممنوعة. الثاني أنها مجبولة على الاستكمال و الاستكمال لا يكون إلا بالتعلق لأن ذلك شأن النفوس و إلا كانت عقلا لا نفسا و رد بأنه ربما كان الشي‏ء طالبا لكماله و لا يحصل لزوال الأسباب و الآلات بحيث لا يحصل لها البدن. الثالث أنها قديمة فتكون متناهية العدد لامتناع وجود ما لا يتناهى بالفعل بخلاف ما لا يتناهى من الحوادث كالحركات و الأوضاع و ما يستند إليها فإنها إنما تكون على سبيل التعاقب دون الاجتماع و الأبدان مطلقا بل الأبدان الإنسانية خاصة غير متناهية لأنها من الحوادث المتعاقبة المستندة إلى ما لا يتناهى من الدورات الفلكية و أوضاعها فلو لم يتعلق كل نفس إلا ببدن واحد لزم توزع ما يتناهى على ما لا يتناهى و هو محال بالضرورة. و رد بمنع قدم النفوس و منع لزوم تناهي القدماء لو ثبت فإن الأدلة إنما تمت فيما له وضع و ترتيب و منع لا تناهي الأبدان و عللها و منع لزوم أن يتعلق بكل بدن نفس و إن أريد الأبدان التي صارت إنسانا بالفعل اقتصر على منع لا تناهيها. ثم قال و قد يتوهم أن من شريعتنا القول بالتناسخ فإن مسخ أهل المائدة قردة و خنازير رد لنفوسهم إلى أبدان حيوانات أخر و المعاد الجسماني رد لنفوس الكل إلى أبدان أخر إنسانية للقطع بأن الأبدان المحشورة لا تكون الأبدان الهالكة بعينها لتبدل الصور و الأشكال بلا نزاع. و الجواب أن المتنازع هو أن النفوس بعد مفارقتها الأبدان تتعلق في الدنيا   بأبدان أخر للتدبير و التصرف و الاكتساب لا أن تتبدل صور الأبدان كما في المسخ أو أن تجتمع أجزاؤها الأصلية بعد التفرق فترد إليها النفوس كما في المعادن على الإطلاق و كما في إحياء عيسى ع بعض الأشخاص. و قال السيد المرتضى رضي الله عنه حين سأله سائل تأول سيدنا أدام الله نعماءه ما ورد في المسوخ مثل الدب و القرد و الفيل و الخنزير و ما شاكل ذلك على أنها كانت على خلق جميلة غير منفور عنها ثم جعلت هذه الصور المسيئة على سبيل التنفير عنها و الزيادة في الصد عن الانتفاع بها و قال لأن بعض الأحياء لا يجوز أن يصير حيا آخر غيره إذا أريد بالمسخ هذا فهو باطل و إن أريد غيره نظرنا فيه فما جواب من سأل عند سماع هذا عن الأخبار الواردة عن النبي و الأئمة ع بأن الله تعالى يمسخ قوما من هذه الأمة قبل يوم القيامة كما مسخ في الأمم المتقدمة و هي كثيرة لا يمكن الإطالة بحصرها في كتاب و قد سلم الشيخ المفيد رضي الله عنه صحتها و ضمن ذلك الكتاب الذي وسمه بالتمهيد و أحال القول بالتناسخ و ذكر أن الأخبار المعول عليها لم ترد إلا بأن الله تعالى يمسخ قوما قبل يوم القيامة و قد روى النعماني كثيرا من ذلك يحتمل النسخ و المسخ معا فمما رواه ما أورده في كتاب التسلي و التقوي

 و أسنده إلى الصادق ع حديث طويل يقول في آخره و إذا احتضر الكافر حضره رسول الله ص و علي ع و جبرئيل و ملك الموت ع فيدنو إليه علي ع فيقول يا رسول الله إن هذا كان يبغضنا أهل البيت فأبغضه فيقول رسول الله يا جبرئيل إن هذا كان يبغض الله و رسوله و أهل بيت رسوله فأبغضه فيقول جبرئيل لملك الموت إن هذا كان يبغض الله و رسوله و أهل بيته فأبغضه و أعنف به فيدنو منه ملك الموت فيقول يا عبد الله أخذت فكاك رقبتك أخذت أمان براءتك تمسكت بالعصمة الكبرى في دار الحياة الدنيا فيقول و ما هي فيقول ولاية علي بن أبي طالب ع فيقول ما أعرفها و لا أعتقد بها فيقول له جبرئيل يا عدو الله و ما كنت تعتقد فيقول كذا و كذا فيقول له جبرئيل أبشر يا عدو الله بسخط الله و عذابه في النار و أما ما كنت ترجو فقد فاتك و أما الذي كنت تخافه فقد نزل بك ثم يسل   نفسه سلا عنيفا ثم يوكل بروحه مائة شيطان كلهم يبصق في وجهه و يتأذى بريحه فإذا وضع في قبره فتح له باب من أبواب النار يدخل عليه من فوح ريحها و لهبها ثم إنه يؤتى بروحه إلى جبال برهوت ثم إنه يصير في المركبات حتى أنه يصير في دودة بعد أن يجري في كل مسخ مسخوط عليه حتى يقوم قائمنا أهل البيت فيبعثه الله ليضرب عنقه و ذلك قوله رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ و الله لقد أتي بعمر بن سعد بعد ما قتل و إنه لفي صورة قرد في عنقه سلسلة فجعل يعرف أهل الدار و هم لا يعرفونه و الله لا يذهب الدنيا حتى يمسخ عدونا مسخا ظاهرا حتى إن الرجل منهم ليمسخ في حياته قردا أو خنزيرا و من ورائهم عذاب غليظ و من ورائهم جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة قد جازت عن حد الآحاد فإن استحال النسخ و عولنا على أنه ألحق بها و دلس فيها و أضيف إليها فما ذا يحيل المسخ و قد صرح به فيها و في قوله هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ و قوله فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ و قوله وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ. و الأخبار ناطقة بأن معنى هذا المسخ هو إحالة التغيير عن بنية الإنسانية إلى ما سواها و في الخبر المشهور عن حذيفة أنه كان يقول أ رأيتم لو قلت لكم إنه يكون فيكم قردة و خنازير أ كنتم مصدقي فقال رجل يكون فينا قردة و خنازير قال و ما يؤمنك من ذلك لا أم لك و هذا تصريح بالمسخ و قد تواتر الأخبار بما يفيد أن معناه تغيير الهيئة و الصورة و في الأحاديث أن رجلا قال لأمير المؤمنين ع   و قد حكم عليه بحكم و الله ما حكمت بالحق فقال له اخسأ كلبا و إن الأثواب تطايرت عنه و صار كلبا يمصع بذنبه و إذا جاز أن يجعل الله جل و عز الجماد حيوانا فمن ذا الذي يحيل جعل حيوان في صورة حيوان آخر. فأجاب قدس سره اعلم أنا لم نحل المسخ و إنما أحلنا أن يصير الحي الذي كان إنسانا الحي الذي كان قردا أو خنزيرا و المسخ أن يغير صورة الحي الذي كان إنسانا يصير بهيمة لا أنه يتغير صورته إلى صورة البهيمة و الأصل في المسخ قوله تعالى كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ و قوله تعالى وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ و قد تأول قوم من المفسرين آيات القرآن التي في ظاهرها المسخ على أن المراد بها أنا حكمنا بنجاستهم و خسة منزلتهم و إيضاع أقدارهم لما كفروا و خالفوا فجروا بذلك مجرى القرود التي لها هذه الأحكام كما يقول أحدنا لغيره ناظرت فلانا و أقمت عليه الحجة حتى مسخته كلبا على هذا المعنى و قال آخرون بل أراد بالمسخ أن الله تعالى غير صورهم و جعلهم على صور القرود على سبيل العقوبة لهم و التنفير عنهم و ذلك جائز مقدور لا مانع له و هو أشبه بالظاهر و أمر عليه و التأويل الأول ترك الظاهر و إنما تترك الظواهر لضرورة و ليست هاهنا. فإن قيل فكيف يكون ما ذكرتم عقوبة قلنا هذه الخلقة إذا ابتدئت لم تكن عقوبة و إذا غير الحي المخلوق على الخلقة التامة الجميلة إليها كان ذلك عقوبة لأن تغير الحال إلى ما ذكرناه يقتضي الغم و الحسرة. فإن قيل فيجب أن يكون مع تغير الصورة ناسا قردة و ذلك متناف قلنا متى تغيرت صورة الإنسان إلى صورة القرد لم يكن في تلك الحال إنسانا بل كان إنسانا مع البنية الأولى و استحق الوصف بأنه قرد لما صار على صورته و إن كان الحي واحدا في الحالين لم يتغير و يجب فيمن مسخ قردا على سبيل العقوبة له أن يذمه مع تغير

    الصورة على ما كان منه من القبائح لأن تغير الهيئة و الصورة لا يوجب الخروج عن استحقاق الذم كما لا يخرج المهزول إذا سمن عما كان يستحقه من الذم و كذا السمين إذا هزل فإن قيل فيقولون إن هؤلاء الممسوخين تناسلوا و إن القردة في أزماننا هذه من نسل أولئك قلنا ليس يمتنع أن يتناسلوا بعد أن مسخوا لكن الإجماع حاصل على أنه ليس شي‏ء من البهائم من أولاد آدم و لو لا هذا الإجماع لجوزنا ما ذكر و على هذه الجملة التي قررناها لا ينكر صحة الأخبار الواردة من طرقنا بالمسخ لأنها كلها يتضمن وقوع ذلك على من يستحق العقوبة و الذم من الأعداء و المخالفين. فإن قيل أ فتجوزون أنه يغير الله تعالى صورة حيوان جميلة إلى صورة أخرى غير جميلة بل مشوهة منفور عنها أم لا تجوزون قلنا إنما أجزنا في الأول ذلك على سبيل العقوبة لصاحب هذه الخلقة التي كانت جميلة ثم تغيرت لأنه يغتم بذلك و يتأسف و هذا الغرض لا يتم في الحيوان التي ليس بمكلف فتغيير صورهم عبث فإن كان في ذلك غرض يحسن لمثله جاز انتهى. و ظاهر كلامه رحمه الله أولا و آخرا أنه عند المسخ يخرج عن حقيقة الإنسانية و يدخل في نوع آخر و فيه نظر و الحق أن امتياز نوع الإنسان إذا كان بهذا الهيكل المخصوص و هذا الشكل و التخطيط و الهيئة فلا يكون هذا إنسانا بل قردة و خنزيرا و إن كان امتيازه بالروح المجرد أو الساري في البدن كما هو الأصوب كانت الإنسانية باقية غير ذاهبة و كان إنسانا في صورة حيوان و لم يخرج من نوع الإنسان و لم يدخل في نوع آخر

 و قد روي عن أبي جعفر ع أن الفرقة المعتزلة عن أهل السبت لما دخلوا قريتهم بعد مسخهم عرفت القردة أنسابها من الإنس و لم يعرف الإنس أنسابها من القردة فقال القوم للقردة أ لم ننهكم

 و في تفسير العسكري ع فمسخهم الله كلهم قردة و بقي باب المدينة مغلقا لا يخرج منهم أحد و لا يدخل إليهم أحد و تسامع   بذلك أهل القرى فقصدوهم و تسنموا حيطان البلد فاطلعوا عليهم فإذا كلهم رجالهم و نساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم و قراباتهم و خلطاءهم يقول المطلع لبعضهم أنت فلان أنت فلان فتدمع عينيه و يومئ برأسه أي نعم

فهذان الخبران يدلان على أنهم لم يتخلعوا من الإنسانية و كان فيهم العقل و الشعور إلا أنهم كانوا لا يقدرون على التكلم. قال النيسابوري في قوله سبحانه كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ عن مجاهد أنه مسخ قلوبهم بمعنى الطبع و الختم لا أنه مسخ صورهم و هو مثل قوله كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً. و احتج بأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس فإذا أبطله و خلق مكانه تركيب القرد رجع حاصل المسخ إلى إعدام الأعراض التي باعتبارها كان ذلك الجسم إنسانا و إيجاد أعراض أخر باعتبارها صار قردا و أيضا لو جوزنا ذلك لم نؤمن في كل ما نراه قردا و كلبا أنه كان إنسانا عاقلا و ذلك شك في المشاهدات. و أجيب بأن الإنسان ليس هذا الهيكل لتبدله بالسمن و الهزال فهو أمر وراء ذلك إما جسماني سار في جميع البدن أو جزء في جانب من البدن كقلب أو دماغ أو مجرد كما تقوله الفلاسفة و على التقادير فلا امتناع في بقاء ذلك الشي‏ء مع تطرق التغير إلى هذا الهيكل و هذا هو المسخ و بهذا التأويل يجوز في الملك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول ص و لأنه لم يتغير منهم إلا الخلقة و الصورة و العقل و الفهم باق فإنهم يعرفون ما نالهم بشؤم المعصية من تغير الخلقة و تشويه الصورة و عدم القدرة على النطق و سائر الخواص الإنسانية فيتألمون بذلك و يتعذبون ثم أولئك القرود بقوا أو أفناهم الله و إن بقوا فهذه القرود التي في زماننا من نسلهم أم لا الكل سائر عقلا إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم   ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا انتهى. و أقول قد ورد في أخبارنا أيضا موافقا لما روي عن ابن عباس كما في تفسير العسكري ع كانوا كذلك ثلاثة أيام ثم بعث الله عليهم ريحا و مطرا فجر بهم إلى البحر و ما بقي مسخ بعد ثلاثة أيام و أما التي ترون من هذه المصورات بصورها فإنما هي أشباهها لا هي بأعيانها و لا من نسلها.

 و روى الصدوق في العلل بإسناده عن عبد الله بن الفضل قال قلت لأبي عبد الله ع قول الله عز و جل وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ قال إن أولئك مسخوا ثلاثة أيام ثم ماتوا و لم يتناسلوا و إن القردة اليوم مثل أولئك و كذلك الخنزير و سائر المسوخ ما وجد منها اليوم من شي‏ء فهو مثله لا يحل أن يؤكل لحمه الخبر

 و روى في العيون بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال سمعت المأمون يسأل الرضا ع عما يرويه الناس من أمر الزهرة و أنها كانت امرأة فتن بها هاروت و ماروت و ما يروونه من أمر سهيل أنه كان عشارا باليمن فقال ع كذبوا في قولهم إنهما كوكبان و إنهما كانتا دابتين من دواب البحر فغلط الناس و ظنوا أنهما الكوكبان و ما كان الله ليمسخ أعداءه أنوارا مضيئة ثم يبقيهما ما بقيت السماء و الأرض و إن المسوخ لم يبق أكثر من ثلاثة أيام حتى ماتت و ما تناسل منها شي‏ء و ما على وجه الأرض اليوم مسخ و إن التي وقعت عليها اسم المسوخية مثل القرد و الخنزير و الدب و أشباهها إنما هي مثل ما مسخ الله عز و جل على صورها قوما غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ بإنكارهم توحيد الله و تكذيبهم رسله الخبر

أقول فقد ثبت بهذه الأخبار أن هذه الحيوانات ليست من نسل هؤلاء المسوخ و لا من نوعهم و إنما هي على صورهم و قد عرفت أن المسخ ليس تناسخا لأن الروح لم ينتقل إلى بدن آخر و إنما تغيرت صورة البدن و أما التناسخ بمعنى انتقال   الروح من بدن إلى بدن غير الأبدان المثالية فمما أجمع على نفيه جميع المسلمين و أما الأخبار الشاذة الواردة في ذلك فيشكل التعلق بظواهرها كالخبر الذي أورده السائل فهي إما مؤولة بالمسخ أو بتصور الأجساد المثالية بتلك الصور كما ذكرنا سابقا و أما في الأجساد المثالية فقد تقدم القول فيها في كتاب المعاد و الله الهادي إلى الرشاد. قال شارح المقاصد القول بالتناسخ في الجملة محكي عن كثير من الفلاسفة إلا أنه حكاية لا تعضدها شبهة فضلا عن حجة و مع ذلك فالنصوص القاطعة من الكتاب و السنة ناطقة بخلافها و ذلك أنهم ينكرون المعاد الجسماني أعني حشر الأجساد و كون الجنة و النار داري ثواب و عقاب و لذات و آلام حسية و يجعلون المعاد عبارة عن مفارقة النفوس الأبدان و الجنة عن ابتهاجها بكمالاتها و النار عن تعلقها بأبدان حيوانات أخر يناسبها فيما اكتسب من الأخلاق و تمكنت فيها من الهيئات معذبة بما يلقى فيها من الذل و الهوان مثلا تتعلق نفس الحريص بالخنزير و السارق بالفار و المعجب بالطاوس و الشرير بالكلب و يكون لها تدريج في ذلك بحسب الأنواع و الأشخاص أي ينزل من بدن إلى بدن هو أدنى في تلك الهيئة المناسبة مثلا يبتدئ نفس الحريص من التعلق ببدن الخنزير ثم إلى ما دونه في ذلك حتى ينتهي إلى النمل ثم يتصل بعالم العقول عند زوال تلك الهيئة بالكلية. ثم إن من المنتمين من التناسخية إلى دين الإسلام يروجون هذا الرأي بالعبارات المهذبة و الاستعارات المستعذبة و يصرفون به إليه بعض الآيات الواردة في أصحاب العقوبات اجتراء على الله و افتراء على ما هو دأب الملاحدة و الزنادقة و من يجري مجراهم من الغاوين المغوين الذين هم شياطين الإنس الذين يوحون إلى العوام و القاصرين من المحصلين زخرف القول غرورا. فمن جملة ذلك ما قالوا في قوله تعالى كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أي بالفساد بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أي بالكون و في قوله تعالى كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها

    أي من دركات جهنم التي هي أبدان الحيوانات و كذا في قوله فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ و قوله تعالى رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ و في قوله تعالى وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ الآية معناه أنهم كانوا مثلكم في الخلق و العلوم و المعايش و الصناعات فانتقلوا إلى أبدان هذه الحيوانات و في قوله تعالى كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي بعد المفارقة و في قوله تعالى وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي على صور الحيوانات المتنكسة الرءوس إلى غير ذلك من الآيات و من نظر في كتب التفسير بل في سياق الآيات لا يخفى عليه فساد هذه الهذيانات. و جوز بعض الفلاسفة تعلق النفوس المفارقة ببعض الأجرام السماوية للاستكمال و بعضهم على أن نفوس الكاملين تتصل بعالم المجردات و نفوس المتوسطين تتخلص إلى عالم المثل المعلقة في مظاهر الأجرام العلوية على اختلاف مراتبهم في ذلك و نفوس الأشقياء إلى هذا العالم في مظاهر الظلمانيات في الصور المستكرهة بحسب اختلاف مراتبهم في الشقاوة فيبقى بعضهم في تلك الظلمات أبدا لكون الشقاوة في الغاية و بعضهم ينتقل بالتدريج إلى عالم الأنوار المجردة. الثالثة أن النفس لا تفنى بفناء البدن قال في شرح المقاصد فناء البدن لا يوجب فناء النفس المغايرة له مجردة كانت أو مادية أي جسما حالا فيه لأن كونها مدبرة له متصرفة فيه لا يقتضي فناءها بفنائه لكن مجرد ذلك لا يدل على كونها باقية البتة فلهذا احتيج في ذلك إلى دليل و هو عندنا النصوص من الكتاب و السنة و إجماع الأمة و هي من الكثرة و الظهور بحيث لا يفتقر إلى الذكر و قد أورد الإمام في المطالب العالية من الشواهد العقلية و النقلية في هذا الباب ما يفضي ذكره إلى الإطناب و أما الفلاسفة فزعموا أنه يمتنع فناء النفس   أقول ثم ذكر بعض دلائلهم على ذلك لا حاجة بنا إلى إيرادها. الرابعة في كيفية تعقل النفس و إدراكها قال في التجريد و تعقل بذاتها و تدرك بالآلات و قال شارح المقاصد لا نزاع في أن مدرك الكليات من الإنسان هو النفس و أما مدرك الجزئيات على وجه كونها جزئيات فعندنا النفس و عند الفلاسفة الحواس ثم قال بعد إيراد الحجج من الجانبين لما كان إدراك الجزئيات مشروطا عند الفلاسفة بحصول الصورة في الآلات فعند مفارقة النفس و بطلان الآلات لا تبقى مدركة للجزئيات ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط و عندنا لما لم تكن الآلات شرطا في إدراك الجزئيات إما لأنه ليس بحصول الصورة لا في النفس و لا في الحس و إما لأنه لا يمتنع ارتسام صورة الجزئي في النفس بل الظاهر من قواعد الإسلام أنه يكون للنفس بعد المفارقة إدراكات متجددة جزئية و اطلاع على بعض جزئيات أحوال الأحياء سيما الذين كان بينهم و بين الميت تعارف في الدنيا و لهذا ينتفع بزيارة القبور و الاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات و استدفاع الملمات فإن للنفس بعد المفارقة تعلقا ما بالبدن و بالتربة التي دفنت فيها فإذا زار الحي تلك التربة و توجهت تلقاءه نفس الميت حصل بين النفسين علاقات و إفاضات. الخامسة في كمالات النفس و مراتبها قال في شرح المقاصد قد سبق أن لفظ القوة كما يطلق على مبدإ التغيير و الفعل فكذا يطلق على مبدإ التغير و الانفعال فقوة النفس باعتبار تأثرها عما فوقها من المبادئ للاستكمال بالعلوم و الإدراكات يسمى عقلا نظريا و باعتبار تأثيرها في البدن لتكميل جوهره و إن كان ذلك أيضا عائدا إلى

    تكميل النفس من جهة أن البدن آلة لها في تحصيل العلم و العمل يسمى عقلا عمليا و المشهور أن مراتب النفس أربع لأنه إما كمال و إما استعداد نحو الكمال قوي أو متوسط أو ضعيف فالضعيف و هو محض قابلية النفس للإدراكات يسمى عقلا هيولانيا تشبيها بالهيولى الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة لها بمنزلة قوة الطفل للكتابة و المتوسط و هو استعدادها لتحصيل النظريات بعد حصول الضروريات تسمى عقلا بالملكة لما حصل لها من ملكة الانتقال إلى النظريات بمنزلة الشخص المستعد لتعلم الكتابة و تختلف مراتب الناس في ذلك اختلافا عظيما بحسب اختلاف درجات الاستعدادات و القوى و هو الاقتدار على استحضار النظريات متى شاءت من غير افتقار إلى كسب جديد لكونها مكتسبة مخزونة تحضر بمجرد الالتفات بمنزلة القادر على الكتابة حين لا يكتب و له أن يكتب متى شاء و يسمى عقلا بالفعل لشدة قربه من الفعل و أما الكمال فهو أن يحصل النظريات مشاهدة بمنزلة الكاتب حين يكتب و يسمى عقلا مستفادا أي من خارج هو العقل الفعال الذي يخرج نفوسنا من القوة إلى الفعل فيما له من الكمالات و نسبته إلينا نسبة الشمس إلى أبصارنا و تختلف عبارات القوم في أن المذكورات أسام لهذه الاستعدادات و الكمال أو للنفس باعتبار اتصافها بها أو لقوى في النفس هي مبادئها مثلا يقال تارة إن العقل الهيولاني هو استعداد النفس لقبول العلوم الضرورية و تارة إنها قوة استعدادية أو قوة من شأنها الاستعداد المحض و تارة إنه النفس في مبدإ الفطرة من حيث قابليتها للعلوم و كذا في البواقي و ربما يقال إن العقل بالملكة هو حصول الضروريات من حيث يتأدى إلى النظريات. و قال ابن سينا هو صورة المعقولات الأولى و تتبعها القوة على كسب غيرها بمنزلة الضوء للإبصار و المستفاد هو المعقولات المكتسبة عند حصولها بالفعل. و قال في كتاب المبدإ و المعاد إن العقل بالفعل و العقل المستفاد واحد بالذات مختلف بالاعتبار فإنه من جهة تحصيله للنظريات عقل بالفعل و من جهة حصولها   فيه بالفعل عقل مستفاد و ربما قيل هو عقل بالفعل بالقياس إلى ذاته و مستفاد بالقياس إلى فاعله. و اختلفوا أيضا في أن المعتبر في المستفاد هو حصول النظريات الممكنة للنفس بحيث لا يغيب أصلا حتى قالوا إنه آخر المراتب البشرية و أول منازل الملكية و أنه يمتنع أو يستبعد جدا ما دامت النفس متعلقة بالبدن أو مجرد الحضور حتى يكون قبل العقل بالفعل بحسب الوجود على ما صرح به الإمام و إن كان بحسب الشرف هو الغاية و الرئيس المطلق الذي يخدمه سائر القوى الإنسانية و الحيوانية و النباتية و لا يخفى أن هذا أشبه بما اتفقوا عليه من حصر المراتب في الأربع نعم حضور الكل بحيث لا يغيب أصلا هو كمال مرتبة المستفاد. ثم قال أما العملي فهو قوة بها يتمكن الإنسان من استنباط الصناعات و التصرفات في موضوعاتها التي هي بمنزلة المواد كالخشب للنجار و تميز مصالحه التي يجب الإتيان بها من المفاسد التي يجب الاجتناب عنها لينتظم بذلك أمر معاشه و معاده و بالجملة هي مبدأ حركة بدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالرؤية على مقتضى آراء تخصها صلاحيته و لها نسبة إلى القوة النزوعية و منها يتولد الضحك و الخجل و البكاء و نحوها و نسبة إلى الحواس الباطنة و هي استعمالها في استخراج أمور مصلحة و صناعات و غيرها و نسبة إلى القوة النظرية و هي أن أفاعيله أعني أعماله الاختيارية تنبعث عن آراء جزئية تستند إلى آراء كلية تستنبط من مقدمات أولية أو تجربية أو ذائعة أو ظنية تحكم بها القوة النظرية مثلا يستنبط من قولنا بذل الدرهم جميل و الفعل الجميل ينبغي أن يصدر عنا ينتج أن بذل الدرهم ينبغي أن يصدر عنا ثم يحكم بأن هذا الدرهم ينبغي أن أبذله لهذا المستحق فينبعث من ذلك شوق و إرادة إلى بذله فتقدم القوة المحركة على دفعه إلى المستحق. ثم قال و كمال القوة النظرية معرفة أعيان الموجودات و أحوالها و أحكامها كما هي أي على الوجه الذي هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية و سمي حكمة نظرية و كمال القوة العملية القيام بالأمور على ما ينبغي أي على الوجه الذي

    يرتضيه العقل الصحيح بقدر الطاقة البشرية و سمي حكمة عملية و فسروا الحكمة على ما يشمل القسمين بأنها خروج النفس من القوة إلى الفعل في كمالها الممكن علما و عملا إلا أنه لما كثر الخلاف و فشا الباطل و الضلال في شأن الكمال و في كون الأشياء كما هي و الأمور على ما ينبغي لزم الاقتداء في ذلك بمن ثبت بالمعجزات الباهرة أنهم على هدى من الله تعالى و كانت الحكمة الحقيقية هي الشريعة لكن لا بمعنى مجرد الأحكام العملية بل بمعنى معرفة النفس ما لها و ما عليها و العمل بها على ما ذهب إليه أهل التحقيق من أن المشار إليها في قوله وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً هو الفقه و أنه اسم للعلم و العمل جميعا. و قد تقسم الحكمة المفسرة بمعرفة الأشياء كما هي إلى النظرية العملية لأنها إن كانت علما بالأصول المتعلقة بقدرتنا و اختيارنا فعملية و غايتها العمل و تحصيل الخير و إلا فنظرية و غايتها إدراك الحق و كل منهما ينقسم بالقسمة الأولية إلى ثلاثة أقسام فالنظرية إلى الإلهي و الرياضي و الطبيعي و العملية إلى علم الأخلاق و علم تدبير المنزل و علم سياسة المدينة لأن النظرية إن كان علما بأحوال الموجودات من حيث يتعلق بالمادة تصورا و قواما فهي العلم الطبيعي و إن كان من حيث يتعلق بها قواما لا تصورا فالرياضي كالبحث عن الخطوط و السطوح و غيرهما مما يفتقر إلى المادة في الوجود لا في التصور و إن كان من حيث لا يتعلق بها لا قواما و لا تصورا فالإلهي و يسمى العلم الأعلى و علم ما بعد الطبيعة كالبحث عن الواجب و المجردات و ما يتعلق بذلك. و الحكمة العملية إن تعلقت بآراء ينتظم بها حال الشخص و ذكاء نفسه فالحكمة الخلقية و إلا فإن تعلقت بانتظام المشاركة الإنسانية الخاصة فالحكمة المنزلية و العامة فالحكمة المدنية و السياسة. ثم قال للإنسان قوة شهوية هي مبدأ جذب المنافع و دفع المضار من المآكل و المشارب و غيرها و تسمى القوة البهيمية و النفس الأمارة و قوة غضبية هي

    مبدأ الإقدام على الأهوال و الشوق إلى التسلط و الترفع و تسمى السبعية و النفس اللوامة و قوة نطقية هي مبدأ إدراك الحقائق و الشوق إلى النظر في العواقب ليتميز بين المصالح و المفاسد و يحدث من اعتدال حركة الأولى العفة و هي أن تكون تصرفات البهيمية على وفق اقتضاء النطقية ليسلم عن أن تستعبدها الهوى و تستخدمها اللذات و لها طرف إفراط هي الخلاعة و الفجور أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما لا ينبغي و طرف تفريط هي الخمود أي السكون عن طلب ما رخص فيه العقل و الشرع من اللذات إيثارا لا خلقة و من اعتدال حركة السبعية الشجاعة و هي انقيادها للنطقية ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الهائلة و لها طرف إفراط هو التهور أي الإقدام على ما لا ينبغي و تفريط و هو الجبن أي الحذر عما لا ينبغي و من اعتدال حركة النطقية و هي معرفة الحقائق على ما هي عليه بقدر الاستطاعة و طرف إفراطها الجربزة و هي استعمال الفكر فيما لا ينبغي و طرف تفريطها الغباوة و هي تعطيل الفكر بالإرادة و الوقوف على اكتساب العلوم فالأوساط فضائل و الأطراف رذائل و إذا امتزجت الفضائل حصل من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة فأصول الفضائل العفة و الشجاعة و الحكمة و العدالة و لكل منها شعب و فروع مذكورة في كتب الأخلاق و كذا الرذائل الستة انتهى

تتميم

 قال الرازي في المطالب العالية في تعديد خواص النفس الإنسانية و نحن نذكر منها عشرة القسم الأول من الخواص النطق و فيه أبحاث. الأول أن الإنسان الواحد لو لم يكن في الوجود إلا هو و إلا الأمور الموجودة في الطبيعة لهلك أو ساءت معيشته بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد مما في الطبيعة مثل الغذاء المعمول فإن الأغذية الطبيعية لا يلائم الإنسان و الملابس أيضا لا يصلح للإنسان إلا بعد صيرورتها صناعية فكذلك يحتاج الإنسان إلى جملة من الصناعات حتى تنتظم أسباب معيشته و الإنسان الواحد لا يمكنه القيام بمجموع تلك الصناعات   بل لا بد من المشاركة حتى يخبز هذا لذاك و ينسج ذاك لهذا فلهذه الأسباب احتاج الإنسان إلى أن تكون له قدرة على أن يعرف الآخر الذي هو شريكه ما في نفسه بعلامة وضعية و هي أقسام فالأول أصلحها و أشرفها الأصوات المركبة و السبب في شرفها أن بدن الإنسان لا يتم و لا يكمل إلا بالقلب الذي هو معدن الحرارة الغريزية و لا بد من وصول النسيم البارد إليه ساعة فساعة حتى يبقى على اعتداله و لا يحترق فخلقت آلات في بدنه بحيث يقدر الإنسان على استدخال النسيم البارد في قلبه فإذا مكث ذلك النسيم لحظة تسخن و فسد فوجب إخراجه فالصانع الحكيم جعل النفس الخارج سببا لحدوث الصوت فلا جرم سهل تحصيل الصوت بهذا الطريق ثم إن ذلك الصوت سهل تقطيعه في المحابس المختلفة فحصلت هيئات مخصوصة بسبب تقطيع ذلك الصوت في تلك المحابس و تلك الهيئات المخصوصة هي الحروف فحصلت الحروف و الأصوات بهذا الطريق ثم تركب الحروف فحصلت الكلمات بهذا الطريق ثم جعلوا كل كلمة مخصوصة معرفة لمعنى مخصوص فلا جرم صار تعريف المعاني المخصوصة بهذا الطريق في غاية السهولة من وجوه الأول أن إدخالها في الوجود في غاية السهولة و الثاني أن تكون الكلمات الكثيرة الواقعة في مقابلة المعلومات الكثيرة في غاية السهولة و الثالث أن عند الحاجة إلى التعريف تدخل في الوجود و عند الاستغناء عن ذكرها تعدم لأن الأصوات لا تبقى. و القسم الثاني من طرق التعريف الإشارة و النطق أفضل بوجوه الأول أن الإشارة إنما تكون إلى موجود حاضر عند المشير محسوس و أما النطق فإنه يتناول المعدوم و يتناول ما لا يصح الإشارة إليه و يتناول ما يصح الإشارة إليه أيضا و الثاني أن الإشارة عبارة عن تحريك الحدقة إلى جانب معين فالإشارة نوع واحد أو نوعان فلا يصح لتعريف الأشياء المختلفة بخلاف النطق فإن الأصوات و الحروف البسيطة و المركبة كثيرة و الثالث أنه إذا أشار إلى شي‏ء فذلك الشي‏ء ذات قامت به صفات كثيرة فلا يعرف بسبب تلك الإشارة أن المراد تعريف الذات وحدها أو الصفة الفلانية   أو الصفة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو المجموع و أما النطق فإنه واف بتعرف كل واحدة من هذه الأحوال بعينها. و القسم الثالث الكتابة و ظاهر أن المئونة في إدخالها في الوجود صعبة و مع ذلك فإنها مفرعة على النطق و ذلك لأنا لو افتقرنا إلى أن نضع لتعريف كل معنى من المعاني البسيطة و المركبة نقشا لافتقرنا إلى حفظ نقوش غير متناهية و ذلك غير ممكن فدبروا فيه طريقا لطيفا و هو أنهم وضعوا بإزاء كل واحد من الحروف النطقية البسيطة نقشا خاصا ثم جعلوا النقوش المركبة في مقابلة الحروف المركبة فسهلت المئونة في الكتابة بهذا الطريق إلا أن على هذا التقدير صارت الكتابة مفرعة على النطق إلا أنه حصل في الكتابة منفعة عظيمة و هي أن عقل الإنسان الواحد لا يفي باستنباط العلوم الكثيرة فالإنسان الواحد إذا استنبط مقدارا من العلم و أثبته في الكتاب بواسطة الكتابة فإذا جاء بعده إنسان آخر و وقف عليه قدر على استنباط أشياء أخر زائدة على ذلك الأول فظهر أن العلوم إنما كثرت بإعانة الكتابة

 فلهذا قال ع قيدوا العلم بالكتابة

فهذا بيان حقيقة النطق و الإشارة و الكتابة. البحث الثاني مما يتعلق بهذا الباب أن المشهور أنه يقال في حد الإنسان إنه حيوان ناطق فقال بعضهم إن هذا التعريف باطل طردا و عكسا أما الطرد فلأن بعض الحيوانات قد تنطق و أما العكس فهو بعض الناس لا ينطق فأجيب عنه بأن المراد منه النطق العقلي و لم يذكروا لهذا النطق العقلي تفسيرا ملخصا فنقول الحيوان نوعان منه ما إذا عرف شيئا فإنه لا يقدر على أن يعرف غيره حال نفسه مثل البهائم و غيرها فإنها إذا وجدت من نفسها أحوالا مخصوصة لا تقدر على أن تعرف غيرها تلك الأحوال و أما الإنسان فإذا وجد من نفسه حالة مخصوصة قدر على أن يعرف غيره تلك الحالة الموجودة في نفسه فالناطق الذي جعل فصلا مقوما هو هذا المعنى و السبب فيه أن أكمل طرق التعريف هو النطق فعبر عن هذه القدرة بأكمل الطرق الدالة عليها و بهذا التقرير فإن تلك السؤال لا يتوجه و الله أعلم بالصواب.   البحث الثالث أن هذه الألفاظ و الكلمات لها أسماء كثيرة فالأول اللفظ و فيه وجهان أحدهما أن هذه الألفاظ إنما تولد بسبب أن ذلك الإنسان لفظ ذلك الهواء من حلقه فلما كان سبب حدوث هذه الأصوات هو لفظ ذلك الهواء لا جرم سميت باللفظ و الثاني أن تلك المعاني كانت كامنة في قلب ذلك الإنسان فلما ذكر هذه الألفاظ صارت تلك المعاني الكامنة معلومة فكأن ذلك الإنسان لفظها من الداخل إلى الخارج. و الاسم الثاني الكلام و اشتقاق هذه اللفظة من الكلم و هو الجرح و السبب أن الإنسان إذا سمع تلك اللفظة تأثر جسمه بسماعها و تأثر عقله بفهم معناها فلهذا السبب سمي بالكلمة. و الاسم الثالث العبارة و هي مأخوذة من العبور و المجاوزة و فيه وجهان الأول أن ذلك النفس لما خرج منه فكأن جاوزه و عبر عليه الثاني أن ذلك المعنى عبر من القائل إلى فهم المستمع. الاسم الرابع القول و هذا التركيب يفيد الشدة و القوة و لا شك أن تلك اللفظة لها قوة إما لسبب خروجها إلى الخارج و إما لسبب أنها تقوى على التأثر في السمع و على التأثير في العقل و الله أعلم. النوع الثاني من خواص الإنسان قدرته على استنباط الصنائع العجيبة و لهذه القدرة مبدأ و آلة أما المبدأ فهو الخيال القادر على تركيب الصور بعضها ببعض و أما الآلة فهي اليدان و قد سماهما الحكيم أرسطاطاليس الآلة المباحة و سنذكر هذه اللفظة في علم التشريح إن شاء الله و قد يحصل ما يشبه هذه الحالة للحيوانات الأخر كالنحل في بناء البيوت المسدسة إلا أن ذلك لا يصدر من استنباط و قياس بل إلهام و تسخير و لذلك لا يختلف و لا يتنوع هكذا قاله الشيخ و هو منقوض بالحركة الفلكية و سنفرد لهذا البحث فصلا على الاستقصاء. النوع الثالث من خواص الإنسان الأعراض النفسانية المختلفة و هي على أقسام فأحدها أنه إذا رأى شيئا لم يعرف سببه حصلت حالة مخصوصة في نفسه مسماة

    بالتعجب و ثانيها أنه إذا أحس بحصول الملائم حصلت حالة مخصوصة و تتبعها أحوال جسمانية و هي تمدد في عضلات الوجه مع أصوات مخصوصة و هي الضحك فإن أحس بحصول المنافي و الموذي حزن فانعصر دم قلبه في الداخل فينعصر أيضا دماغه و تنفصل عنه قطرة من الماء و تخرج من العين و هي البكاء و ثالثها أن الإنسان إذا اعتقد في غيره أنه اعتقد فيه أنه أقدم على شي‏ء من القبائح حصلت حالة مخصوصة تسمى بالخجالة و رابعها أنه إذا اعتقد في فعل مخصوص أنه قبيح فامتنع عنه لقبحه حصلت حالة مخصوصة هي الحياء و بالجملة فاستقصاء القول في تعديد الأحوال النفسانية مذكور في باب الكيفيات النفسانية و النوع الرابع من خواص الإنسان الحكم بحسن بعض الأشياء و قبح بعضها إما لأن صريح العقل يوجب ذلك عند من يقول به و إما لأجل أن المصلحة الحاصلة بسبب المشاركة الإنسانية اقتضت تقريرها لتبقى مصالح العالم مرعية و أما سائر الحيوانات فإنها إن تركت بعض الأشياء مثل الأسد فإنه لا يفترس صاحبه فليس ذلك مشابها للحالة الحاصلة للإنسان بل هيئة أخرى لأن كل حيوان فهو يحب بالطبع كل من ينفعه فلهذا السبب الشخص الذي أطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعا له عن افتراسه. النوع الخامس من خواص الإنسان تذكر الأمور الماضية و قيل إن هذه الحالة لا تحصل لسائر الحيوانات و الجزم في هذا الباب بالنفي و الإثبات مشكل و النوع السادس الفكر و الروية و هذا الفكر على قسمين أحدهما أن يتفكر لأجل أن يعرف حاله و هذا النوع من الفكر ممكن في الماضي و المستقبل و الحاضر و النوع الثاني التفكر في كيفية إيجاده و تكوينه و هذا النوع من الفكر لا يمكن في الواجب و الممتنع و إنما يمكن في الممكن ثم لا يمكن في الممكن الماضي و الحاضر و إنما يمكن في الممكن المستقبل و إذا حكمت هذه القوة تبع حكمها حصول الإرادة الجازمة و يتبعها تأثير القوة و القدرة في تحريك البدن و هل لشي‏ء من الحيوانات شي‏ء من الكيفيات المشهور إنكاره و فيه موضع بحث فإنها راغبة في   كل ما يكون لذيذا عندها نافرة عن كل ما يكون مولما عندها فوجب أن يتقرر عندها أن كل لذيذ مطلوب و أن كل مولم مكروه فأجيب عنه بأن رغبتها إنما يكون في هذا اللذيذ فكل لذيذ حضر عنده فإنه يرغب فيه من حيث إنه ذلك الشي‏ء فأما أن يعتقد أن كل لذيذ فهو مطلوب فهذا ليس عنده. و اعلم أن الحكم في هذه الأشياء بالنفي و الإثبات حكم على الغيب و العلم بها ليس إلا لله العلي العليم و الله أعلم. الفصل الثاني و العشرون في بيان أن اللذات العقلية أشرف و أكمل من اللذات الحسية اعلم أن الغالب على الطباع العامية أن أقوى اللذات و أكمل السعادات لذة المطعم و المنكح و لذلك فإن جمهور الناس لا يعبدون الله إلا ليجدوا المطاعم اللذيذة في الآخرة و إلا ليجدوا المناكح الشهية هناك و هذا القول مردود عند المحققين من أهل الحكمة و أرباب الرياضة و يدل عليه وجوه. الحجة الأولى لو كانت سعادة الإنسان متعلقة بقضاء الشهوة و إمضاء الغضب لكان الحيوان الذي يكون أقوى في هذا الباب من الإنسان أشرف منه لكن الجمل أكثر أكلا من الناس و الذئب أقوى في الإيذاء من الإنسان و العصفور أقوى على السفاد من الإنسان فوجب كون هذه الأشياء أشرف من الإنسان لكن التالي معلوم البطلان بالضرورة فوجب الجزم بأن سعادة الإنسان غير متعلقة بهذه الأمور. الحجة الثانية كل شي‏ء يكون سببا لحصول السعادة و الكمال فكلما كان ذلك الشي‏ء أكثر حصولا كانت السعادة و الكمال أكثر حصولا فلو كان قضاء شهوة البطن و الفرج سببا لكمال حال الإنسان و لسعادته لكان الإنسان كلما أكثر اشتغالا بقضاء شهوة البطن و الفرج و أكثر استغراقا فيه كان أعلى درجة و أكمل فضيلة لكن التالي باطل لأن الإنسان الذي جعل عمره وقفا على الأكل و الشرب و البعال يعد من البهيمة و يقضى عليه بالدناءة و الخساسة و كل ذلك يدل على أن الاشتغال بقضاء هاتين الشهوتين ليس من باب السعادات و الكمالات بل من باب دفع الحاجات و الآفات. الحجة الثالثة أن الإنسان يشاركه في لذة الأكل و الشرب جميع الحيوانات

    الخسيسة فإنه كما أن الإنسان يلتذ بأكل السكر فكذلك الجعل يلتذ بتناول السرقين فلو كانت هذه اللذات البدنية هي السعادة الكبرى للإنسان لوجب أن لا يكون للإنسان فضيلة على هذه الحيوانات الخسيسة بل نزيد و نقول لو كانت سعادة الإنسان متعلقة بهذه اللذات الخسيسة لوجب أن يكون الإنسان أخس الحيوانات و التالي باطل فالمقدم مثله و بيان وجه الملازمة أن الحيوانات الخسيسة مشاركة للإنسان في هذه اللذات الخسيسة البدنية إلا أن الإنسان يتنغص عليه المطالب بسبب العقل فإن العقل سمي عقلا لكونه عقالا له و حبسا له عن أكثر ما يشتهيه و يميل طبعه إليه فإذا كان التقدير أن كمال السعادة ليس إلا في هذه اللذات الخسيسة ثم بينا أن هذه اللذات الخسيسة حاصلة على سبيل الكمال و التمام للبهائم و السباع من غير معارض و مدافع و هي حاصلة للإنسان مع المنازع القوي و المعارض الكامل وجب أن يكون الإنسان أخس الحيوانات و لما كان هذا معلوم الفساد بالبديهة ثبت أن هذه اللذات الخسيسة ليست موجبة للبهجة و السعادة. الحجة الرابعة أن هذه اللذات الخسيسة إذا بحث عنها فهي في الحقيقة ليست لذات بل حاصلها يرجع إلى دفع الألم و الدليل عليه أن الإنسان كلما كان أكثر جوعا كان التذاذه بالأكل أكمل و كلما كان ألم الجوع أقل كان الالتذاذ بالأكل أقل و أيضا إذا طال عهد الإنسان بالوقاع و اجتمع المني الكثير في أوعية المني حصلت في تلك الأوعية دغدغة شديدة و تمدد و ثقل و كلما كانت هذه الأحوال الموذية أكثر كانت اللذة الحاصلة عند اندفاع ذلك المني أقوى و لهذا السبب فإن لذة الوقاع في حق من طال عهده بالوقاع يكون أكمل منها في حق من قرب عهده به فثبت أن هذه الأحوال التي يظن أنها لذات جسمانية فهي في الحقيقة ليست إلا دفع الألم و هكذا القول في اللذة الحاصلة بسبب لبس الثياب فإنه لا حاصل لتلك اللذة إلا دفع ألم الحر و البرد و إذا ثبت أنه لا حاصل لهذه اللذات إلا دفع الآلام فنقول ظهر أنه ليس فيها سعادة لأن الحالة السابقة هي حصول الألم و الحالة الحاضرة عدم الألم و هذا العدم كان حاصلا عند العدم الأصلي فثبت أن هذه الأحوال ليست   سعادات و لا كمالات البتة. الحجة الخامسة أن الإنسان من حيث يأكل و يشرب و يجامع و يؤذي يشاركه سائر الحيوانات و إنما يمتاز عنها بالإنسانية و هي مانعة من تكميل تلك الأحوال و موجبة لنقصانها و تقليلها فلو كانت هذه الأحوال عين السعادة لكان الإنسان من حيث إنه إنسان ناقصا شقيا خسيسا و لما حكمت البديهة بفساد هذا التالي ثبت فساد المقدم. الحجة السادسة أن العلم الضروري حاصل بأن بهجة الملائكة و سعادتهم أكمل و أشرف من بهجة الحمار و سعادته و من بهجة الديدان و الذباب و سائر الحيوانات و الحشرات ثم لا نزاع أن الملائكة ليس لها هذه اللذات فلو كانت السعادة القصوى ليست إلا هذه اللذات لزم كون هذه الحيوانات الخسيسة أعلى حالا و أكمل درجة من الملائكة المقربين و لما كان هذا التالي باطلا كان المقدم مثله بل هاهنا ما هو أعلى و أقوى مما ذكرناه و هو أنه لا نسبة لكمال واجب الوجود و جلاله و شرفه و عزته إلى أحوال غيره مع أن هذه اللذات الحسية ممتنعة عليه فثبت أن الكمال و الشرف قد يحصلان سوى هذه اللذات الجسمية فإن قالوا ذلك الكمال لأجل حصول الإلهية و ذلك في حق الخلق محال فنقول لا نزاع أن حصول الإلهية في حق الخلق محال إلا

 أنه قال ع تخلقوا بأخلاق الله

و الفلاسفة قالوا الفلسفة عبارة عن التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية فيجب عليه أن يعرف تفسير هذا التخلق و هذا التشبه و معلوم أنه لا معنى لهما إلا تقليل الحاجات و إضافة الخيرات و الحسنات لا بالاستكثار من اللذات و الشهوات. الحجة السابعة أن هؤلاء الذين حكموا بأن سعادة الإنسان ليس إلا في تحصيل هذه اللذات البدنية و الراحات الجسمانية إذا رأوا إنسانا أعرض عن طلبها مثل أن يكون مواظبا للصوم مكتفيا بما جاءت الأرض عظم اعتقادهم فيه و زعموا أنه ليس من جنس الإنسان بل من زمرة الملائكة و يعدون أنفسهم بالنسبة إليه أشقياء أراذل و إذا رأوا إنسانا مستغرق الفكر و الهمة في طلب الأكل و الشرب و الوقاع مصروف الهمة إلى تحصيل أسباب هذه الأحوال معرضا عن العلم و الزهد و العبادة قضوا بالبهيمية   و الخزي و النكال و لو لا أنه تقرر في عقولهم أن الاشتغال بتحصيل هذه اللذات الجسدانية نقص و دناءة و أن الترفع عن الالتفات إليها كمال و سعادة لما كان الأمر على ما ذكرنا و لكان يجب أن يحكموا على المعرض عن تحصيل هذه اللذات بالخزي و النكال و على المستغرق فيها بالسعادة و الكمال و فساد التالي يدل على فساد المقدم. الحجة الثامنة كل شي‏ء يكون في نفسه كمالا و سعادة وجب أن لا يستحيا من إظهاره بل يجب أن يفتخر بإظهاره و يتبجح بفعله و نحن نعلم بالضرورة أن أحدا من العقلاء لا يفتخر بكثرة الأكل و لا بكثرة المباشرة و لا بكونه مستغرق الوقت و الزمان في هذه الأعمال و أيضا فالعاقل لا يقدر على الوقاع إلا في الخلوة فأما عند حضور الناس فإن أحدا من العقلاء لا يجد في نفسه تجويز الإقدام عليه و ذلك يدل على أنه تقرر في عقول الخلق أنه فعل خسيس و عمل قبيح فيجب إخفاؤه عن العيون و أيضا فقد جرت عادة السفهاء بأنه لا يشتم بعضهم بعضا إلا بذكر ألفاظ الوقاع و ذلك يدل على أنه مرتبة خسيسة و درجة قبيحة و أيضا لو أن واحدا من السفهاء أخذ يحكي عند حضور الجمع العظيم فلانا كيف يواقع زوجته فإن ذلك الرجل يستحيي من ذلك الكلام و يتأذى من ذلك القائل و كل هذا يدل على أن ذلك الفعل ليس من الكمالات و السعادات بل هو عمل باطل و فعل قبيح. الحجة التاسعة كل فرس و حمار كان ميله إلى الأكل و الشرب و الإيذاء أكثر و كان قبوله للرياضة أقل كان قيمته أقل و كل حيوان كان أقل رغبة في الأكل و الشرب و كان أسرع قبولا للرياضة كانت قيمته أكثر أ لا ترى أن الفرس الذي يقبل الرياضة في الكر و الفر و العدو الشديد فإنه يشترى بثمن رفيع و كل فرس لا يقبل هذه الرياضة يوضع على ظهره الإكاف و يسوى بينه و بين الحمار و لا يشترى إلا بثمن قليل فلما كانت الحيوانات التي هي غير ناطقة لا تظهر فضائلها بسبب الأكل و الشرب و الوقاع بل بسبب تقليلها و بسبب قبول الأدب و حسن الخدمة لمولاه فما ظنك بالحيوان الناطق العاقل. الحجة العاشرة أن سكان أطراف الأرض لما لم تكمل عقولهم و معارفهم و

    أخلاقهم لا جرم كانوا في غاية الخسة و الدناءة أ لا ترى أن سكان الإقليم السابع و هم الصقالبة لما قل نصيبهم من المعارف الحقيقية و الأخلاق الفاضلة فلا جرم تقرر في عقول العقلاء خسة درجاتهم و دناءة مراتبهم و أما سكان وسط المعمور لما فازوا بالمعارف الحقيقية و الأخلاق الفاضلة لا جرم أقر كل أحد بأنهم أفضل طوائف البشر و أكملهم و ذلك يدل على أن فضيلة الإنسان و كماله لا يظهر إلا بالعلوم الحقيقية و الأخلاق الفاضلة