باب 9- المعادن و أحوال الجمادات و الطبائع و تأثيراتها و انقلابات الجواهر و بعض النوادر

الآيات الحجر وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ النحل أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أسرى تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً الأنبياء قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ و قال تعالى وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فاعِلِينَ وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها الحج أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ سبأ وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ إلى قوله تعالى وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ   فاطر إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ص إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ و قال سبحانه فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ الحديد وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ تفسير أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ قيل استفهام إنكار أي قد رأوا أمثال هذه الصنائع فما بالهم لم يتفكروا ليظهر لهم كمال قدرته و قهره فيخافوا منه و ما موصولة مبهمة بيانها يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ أي أ و لم ينظروا إلى المخلوقات التي لها ظلال متفيئة عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ أي عن أيمانها و شمائلها أي جانبي كل واحد منها استعارة عن يمين الإنسان و شماله و لعل توحيد اليمين و جمع الشمائل لاعتبار اللفظ و المعنى كتوحيد الضمير في ظِلالُهُ و جمعه في قوله سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ و هما حالان عن الضمير في ظِلالُهُ و المراد من السجود الانقياد و الاستسلام سواء كان بالطبع أو بالاختيار يقال سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل و سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب و قال الشاعر

ترى الأكم فيها سجدا للحوافر

و سُجَّداً حال من الظلال وَ هُمْ داخِرُونَ من الضمير و المعنى يرجع الظلال بارتفاع الشمس و انحدارها أو باختلاف مشارقها و مغاربها بتقدير الله تعالى من جانب إلى جانب منقادة لما قدر لها من التفيؤ أو واقعة على الأرض ملتصقة بها كهيئة الساجد و الأجرام في أنفسها أيضا داخرة أي صاغرة منقادة لأفعال الله فيها و جمع داخِرُونَ لأن من جملتها من يعقل أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء و قيل المراد باليمين و الشمائل عن يمين الفلك و هو جانبه الشرقي لأن الكوكب يظهر منه أخذه في   الارتفاع و السطوع و شماله هو الجانب الغربي المقابل له فإن الأظلال في أول النهار تبتدئ من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض و عند الزوال يبتدئ من المغرب واقعة على الربع الشرقي من الأرض كما ذكره البيضاوي و غيره و قال بعضهم كان الحسن يقول أما ظلك فيسجد لربك و أما أنت فلا تسجد لربك بئس ما صنعت و عن مجاهد ظل الكافر يصلي و هو لا يصلي و قيل ظل كل شي‏ء يسجد لله و سواء كان ذلك ساجدا لله أم لا و قال الطبرسي ره و قيل إن المراد بالظل هو الشخص بعينه قال الشاعر كان في أظلالهن الشمس أي في أشخاصهن فعلى هذا يكون تأويل الظلال في الآية تأويل الأجسام التي عنها الظلال وَ هُمْ داخِرُونَ أي أذلة صاغرون قد نبه الله سبحانه بهذا على أن جميع الأشياء تخضع له بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى واضعها و مدبرها بما لولاه لبطلت و لم يكن لها قوام طرفة عين فهي في ذلك كالساجد من العباد بفعله الخاضع بذله انتهى و قال النيسابوري في تأويلها بعد تفسيرها بما مر إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ هو عالم الأجسام فإن عالم الأرواح خلق من لا شي‏ء يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ فإن الأجسام ظلال الأرواح فتارة تميل بعمل أهل السعادة إلى أصحاب اليمين و أخرى تميل بعمل أهل الشقاء إلى أصحاب الشمال سجدا لله منقادين لأمره مسخرين لما خلقوا لأجله و إنما وحد اليمين و جمع الشمائل لكثرة أصحاب الشمال و سجود كل موجود يناسب حالة كما أن تسبيح كل منهم يلائم لسانه انتهى. و أقول و يحتمل أن يكون المراد بظلالة مثاله على القول بعالم المثال كما مر تحقيقه أو روحه كما عبر في الأخبار الكثيرة عن عالم الأرواح بالظلال فالمراد بالتفيؤ عن اليمين ميلهم إلى السعادة و التشبه بأصحاب اليمين و بالشمائل خلافه و هذا كلام على سبيل الاحتمال في مقابلة ما ذكروه من ذلك و الله يعلم تفسير كلامه و حججه الكرام ع وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ قال الرازي قد ذكرنا أن السجود على نوعين سجود هو عبادة كسجود المسلمين لله تعالى و سجود هو عبارة عن الانقياد و الخضوع و يرجع حاصل

   هذا السجود إلى أنها في أنفسها ممكنة الوجود و العدم قابلة لهما لأنه لا يرجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح إذا عرفت هذا فنقول من الناس من قال المراد بالسجود المذكور في هذه الآية السجود بالمعنى الثاني و هو التواضع و الانقياد و الدليل عليه أن اللائق بالدابة ليس إلا هذا السجود و منهم من قال المراد بالسجود هاهنا هو المعنى الأول لأن اللائق بالملائكة هو السجود بهذا المعنى لأن السجود بالمعنى الثاني حاصل في كل الحيوانات و النباتات و الجمادات و منهم من قال السجود لفظ مشترك بين المعنيين و حمل اللفظ المشترك لإفادة مجموع معنييه جائز فحمل لفظ السجود في هذه الآية على الأمرين معا أما في حق الدابة فبمعنى التواضع و أما في حق الملائكة فبمعنى سجود المسلمين لله تعالى و هذا القول ضعيف لأنه ثبت أن استعمال اللفظ المشترك لإفادة جميع مفهوماته معا غير جائز قوله مِنْ دابَّةٍ قال الأخفش يريد من الدواب و قال ابن عباس يريد كل ما دب على الأرض فإن قيل ما الوجه في تخصيص الدواب و الملائكة بالذكر قلنا فيه وجوه الأول أنه تعالى بين في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله تعالى لأن أخسها الدواب و أشرفها الملائكة فلما بين في أخسها و أشرفها كونها منقادة لله تعالى و بين بهذه الآية أن الحيوانات بأسرها منقادة لله تعالى كان ذلك دليلا على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى. و الوجه الثاني قال حكماء الإسلام الدابة اشتقاقها من الدبيب و الدبيب عبارة عن الحركة الجسمانية فالدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك و يدب فلما ميز الله الملائكة من الدابة علمنا أنها ليست مما يدب بل هي أرواح محضة مجردة و يمكن الجواب عنه بأن الطير بالجناح مغاير للدبيب بدليل قوله تعالى وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ انتهى.   و أقول التخصيص بعد التعميم أيضا شائع كعطف جبرئيل على الملائكة كما ذكره البيضاوي و ما ذكره من عدم جواز استعمال المشترك في معنييه على تقدير تسليمه لا حاجة في التعميم على حمله على ذلك بل يمكن حمله على معنى الانقياد و التواضع و هو يشمل الانقياد لإرادته و تأثيره طبعا و الانقياد لتكليفه و أمره طوعا كما حمل عليه البيضاوي و قال بعضهم هذه الآية تدل على أن العالم كله في مقام الشهود و العبادة إلا كل مخلوق له قوة التفكر و ليس إلا النفوس الناطقة الإنسانية و الحيوانية خاصة من حيث أعيان أنفسهم لا من حيث هياكلهم فإن هياكلهم كسائر العالم في التسبيح له و السجود فأعضاء البدن كلها مسبحة ناطقة أ لا تراها تشهد على النفوس المسخرة لها يوم القيامة من الجلود و الأيدي و الأرجل و الألسنة و السمع و البصر و جميع القوى فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ انتهى. و أقول و الأرواح و النفوس أيضا لها جهتان فمن جهة مسخرة منقادة لربها في جميع ما أراد منها و من جهة أخرى عاصية مخالفة لربها بل من هذه الجهة أيضا مسخرة ساجدة خاضعة لإرادة ربها حيث أقدرها على ما أرادت و دالة على وجود صانعها الذي جعلها مختارة مريدة قادرة على الإتيان بما أرادت فهي من هذه الجهة أيضا مسبحة لربها ذاكرة لها دالة عليها منادية بلسان حالها من جهة إمكانها و حدوثها و افتقارها بأن لي ربا جعلني مريدا مختارا لحكمته و كماله و عنايته الأزلية كما قال بعض العارفين بالفارسية عين إنكار منكر إقرار است و الكلام في هذا المقام دقيق لا يمكن إجراء أكثر من ذلك منه على الأقلام و يصعب دركها على الأفهام و قد أومأت إلى شي‏ء منه في شرح كتاب توحيد الكافي في توضيح أخبار إرادة الله تعالى و بيان معانيها. قوله سبحانه تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ قال النيسابوري قالت العقلاء تسبيح الحي المكلف يكون تارة باللسان بأن يقول سبحان الله و أخرى بدلالة أحواله على وجود الصانع الحكيم و تسبيح غيره لا يكون إلا من القبيل الثاني و قد تقرر في الأصول أن اللفظ المشترك لا يحمل على معنييه معا في حالة واحدة فتعين التسبيح

   هاهنا على المعنى الثاني ليشمل الكل هذا ما عليه المحققون و أورد عليه أنه لو كان المراد بالتسبيح ما ذكرتم لم يقل وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ لأن التسبيح بهذا الوجه مفقوه معلوم و أجيب بأن دلالة كل شي‏ء على وجود الصانع معلومة على الإجمال دون التفصيل فإنك إذا أخذت تفاحة واحدة فلا شك أنها مركبة من أجزاء لا تتجزأ و لكن عدد تلك الأجزاء و صفة كل منها من الطبع و الطعم و اللون و الحيز و الجهة و غيرها لا يعلمها إلا الله و أيضا الخطاب للمشركين و إنهم و إن كانوا مقرين بالخالق إلا أنهم أثبتوا شريكا و أنكروا قدرته على البعث و الإعادة و لم ينظروا في المعجزات الدالة على نبوة محمد ص فكأنهم لم يفقهوا التسبيح إذ لم يتوسلوا به إلى نتيجة النظر الصحيح و لهذا ختم الآية بقوله إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً حين لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم و سوء نظركم و زعم بعض الظاهريين أن ما سوى الحي المكلف يسبح لله تعالى باللسان أيضا كل بلغته و لسانه الذي لا نعرف نحن و لا نفقه و زعم أيضا أن الحيوان إذا ذبح لا يسبح و كذا غصن الشجرة إذا كسر فأورد عليه أن كونه جمادا لا يمنع من كونه مسبحا فكيف صار ذبح الحيوان مانعا عن التسبيح و كذا كسر الغصن و يمكن أن يجاب بأن تسبيح كل شي‏ء لعله يختص بتركيبه الذي خلق عليه فإذا بطل ذلك التركيب و فكك ذلك النظم لم يبق مسبحا مطلقا أو لا على ذلك النحو. و قال في تأويلها لكل ذرة من ذرات الموجودات ملكوت لقوله فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ و الملكوت باطن الكون و هو الآخرة و الآخرة حيوان لا جماد لقوله وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ فلكل ذرة لسان ملكوتي ناطق بالتسبيح و الحمد تنزيها لصاحبه و حمدا له على ما أولاه من نعمه و بهذا اللسان نطق الحصا في كف النبي ص و به تنطق الأرض يوم القيامة يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها و به تنطق الجوارح أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ و به نطقت   السماوات و الأرض قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً في الأزل إذ أخرج من العدم من يكفر به و يجحده غَفُوراً لمن تاب عن كفره. قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً قال الطبرسي هذا مثل فإن النار جماد لا يصح خطابه و المراد أنا جعلنا النار بردا عليه و سلامة لا يصيبه من أذاها شي‏ء كما قال سبحانه كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ و المعنى أنه صيرهم كذلك لا أنه خاطبهم و أمرهم بذلك و قيل يجوز أن يتكلم الله سبحانه بذلك و يكون ذلك صلاحا للملائكة و لطفا لهم و ذكر في كون النار بردا و سلاما على إبراهيم وجوها أحدها أن الله سبحانه أحدث فيها بردا بدلا من شدة الحرارة فيها فلم تؤذه و ثانيها أنه سبحانه حال بينها و بين إبراهيم فلم تصل إليه و ثالثها أن الإحراق يحصل بالاعتمادات التي في النار صعدا فيجوز أن يذهب سبحانه تلك الاعتمادات و على الجملة فعلمنا أن الله سبحانه منع النار من إحراقه و هو أعلم بتفاصيله انتهى. و قال البيضاوي انقلاب النار هواء طيبة ليس ببدع غير أنه هكذا على خلاف المعتاد فهو إذن من معجزاته و قيل كانت النار بحالها لكنه تعالى دفع عنه أذاها كما في السمندر و يشعر به قوله عَلى إِبْراهِيمَ انتهى. و أقول على مذهب الأشاعرة لا إشكال في ذلك لأنهم يقولون لا مؤثر في الوجود إلا الله و إنما أجرى عادته بالإحراق عند قرب شي‏ء من النار فإذا أراد غير ذلك لا يخلق الإحراق و أما عند غيرهم من القائلين بتأثير الطبائع و لزوم الصفات لها فيشكل ذلك عندهم و الأولى أن يقال إحراق النار و تبريد الثلج و قتل السموم و غير ذلك من التأثيرات لما كانت مشروطة بشروط كقابلية المادة و غيرها فلم لا يجوز أن تكون مشروطة بعدم تعلق إرادة القادر المختار بخلافه فإذا تعلقت

   بذلك انتفى تأثيرها كما أن الله تعالى أقدر العباد على أفعالهم لكن بشرط عدم تعلق إرادته القاهرة بخلافه و لذا ورد في الأخبار أنه لا يحدث شي‏ء في السماء و الأرض إلا بإذنه سبحانه قوله تعالى وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ قال الطبرسي ره قيل معناه سيرنا الجبال مع داود حيث سار فعبر عن ذلك بالتسبيح لما فيه من الآية العظيمة التي تدعو إلى تسبيح الله و تعظيمه و تنزيهه عن كل ما لا يليق به و كذلك تسخير الطير له تسبيح يدل على أن مسخرها قادر لا يجوز عليه ما يجوز على العباد و قيل إن الجبال كانت تجاوبه بالتسبيح و كذلك الطير يسبح بالغداة و العشي معجزة له انتهى. و قال الرازي قال أصحاب المعاني يحتمل أن يكون تسبيح الجبال و الطير بمثابة قوله وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ و تخصيص داود ع بذلك إنما كان   بسبب أنه كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقينا و تعظيما و أما المعتزلة فقالوا لو حصل الكلام في الجبل لحصل إما بفعله أو بفعل الله تعالى فيه و الأول محال لأن بنية الجبل لا تحتمل الحياة و العلم و القدرة و ما لا يكون حيا عالما قادرا يستحيل منه الفعل و الثاني أيضا محال لأن المتكلم عندهم من كان فاعلا للكلام لا من كان محلا له فلو كان فاعل ذلك الكلام هو الله تعالى لكان المتكلم هو الله لا الجبل فجعلوا التسبيح من السباحة و بناء التفعيل للتكثير مثل قوله يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ و الحاصل سيري معه. و اعلم أن مدار هذا القول على أن بنية الجبل لا تقبل الحياة و هذا ممنوع و على أن التكلم من فعل الله و هو أيضا ممنوع و أما الطير فلا امتناع في أن يصدر عنها الكلام و لكن اجتمعت الأمة على أن المكلفين إما الجن و الإنس أو الملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف بل يكون حاله كحال الطفل في أن يؤمر و ينهى و إن لم يكن مكلفا فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق و أيضا دلالته على قدرة الله و على تنزيهه مما لا يجوز فيكون القول فيه كالقول في الجبال انتهى. وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ أي علمناه كيف يصنع الدروع قال قتادة أول من صنع الدروع داود و إنما كانت صفائح جعل الله سبحانه الحديد في يده كالعجين فهو أول من سردها و حلقها فجمعت الخفة و التحصين وَ لِسُلَيْمانَ أي سخرنا له الرِّيحَ عاصِفَةً أي شديدة الهبوب أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ لعل المراد بالسجود غاية الخضوع و الانقياد الممكن من الشي‏ء ففي الجمادات و العجم من الحيوانات يحصل منهم غاية الانقياد الذي يتأتى منهم و كذا الملائكة و صالحو المؤمنين و أما الكفار و الفجار فلما لم يتأت منهم غاية الانقياد أخرجهم و قال وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لأنهم و إن كانوا في الأوامر التكوينية منقادين فليسوا في الأوامر التكليفية كذلك

   فالسجود محمول على معنى واحد و ليس من استعمال المشترك في معنييه كما عرفت سابقا و قال الرازي الرؤية هنا بمعنى العلم و في السجود وجوه أحدها قال الزجاج أجود الوجوه في سجود هذه الأمور أنها تسجد مطيعة لله تعالى و هو كقوله فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً الآية أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ و المعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي يحدثها الله تعالى فيها من غير امتناع البتة أشبهت الطاعة و الانقياد و هو السجود و أما قوله وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ففيه وجوه أحدها أن السجود بالمعنى الذي ذكرناه و إن كان عاما في حق الكل إلا أن بعضهم تمرد و تكبر و ترك السجود في الظاهر فهذا الشخص و إن كان ساجدا بذاته لكنه متمرد بظاهره أما المؤمن فإنه ساجد بذاته و بظاهره فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر و ثانيها أن نقطع قوله وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عما قبله ثم فيه ثلاثة أوجه الأول أن نقول تقدير الآية و لله يسجد من في السماوات و الأرض و يسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد و الثاني بمعنى الطاعة و العبادة لئلا يلزم استعمال المشترك في معنييه جميعا الثاني أن يكون قوله وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مبتدأ خبره محذوف و هو مثاب لأن خبر مقابله يدل عليه و هو قوله حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ و الثالث أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف كثير على كثير ثم يخبر عنهم حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ و ثالثها من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا يقول إن المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء السجود و في حق الجمادات الانقياد فإن قيل قوله مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ لفظ العموم فيدخل فيه الناس فلم قال مرة أخرى وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قلنا لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون فبين أن كثيرا منهم يسجدون طوعا دون كثير منهم فإنه يمتنع عن ذلك. القول الثاني في تفسير السجود أن كل ما سوى الله تعالى فهو ممكن لذاته و الممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته كما قال    وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى و كما أن الإمكان لازم للممكن حال حدوثه و بقائه فافتقاره إلى الواجب حاصل حال حدوثه و حال بقائه و هذا الافتقار الذاتي اللازم للماهية أدل على الخضوع و التواضع من وضع الجبهة على الأرض فإن ذلك علامة وضعية للافتقار و قد يتطرق إليه الصدق و الكذب أما نفس الافتقار الذاتي فإنه ممتنع التغير و التبدل فجميع الممكنات ساجدة بهذا المعنى لله أي خاضعة متذللة معترفة بالفاقة إليه و الحاجة إلى تخليقه و تكوينه و على هذا تأولوا قوله وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ و هذا قول القفال القول الثالث أن سجود هذه الأشياء سجود ظلها كقوله تعالى يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ الآية و هذا قول مجاهد انتهى. قوله تعالى أَوِّبِي مَعَهُ قال البيضاوي أي ارجعي معه التسبيح على الذنب أو النوحة و ذلك إما بخلق صوت مثل صوته فيها أو بحملها إياه على التسبيح إذا تأمل فيها أو سيري معه حيث سار و الطَّيْرَ عطف على محل الجبال وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ جعلناه في يده كالشمع يصرفه كيف يشاء من غير أحماء و طرق بآلاته أو بقوة عَيْنَ الْقِطْرِ أي النحاس المذاب أسال له من معدنه فنبع منه نبوع الماء من الينبوع و لذلك سماه عينا و كان ذلك باليمن إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا أي كراهة أن تزولا فإن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ أو يمنعهما أن تزولا لأن الإمساك منع وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما أي ما أمسكهما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الله أو من بعد الزوال و الجملة سادة مسد الجوابين و من الأولى مزيدة و الثانية للابتداء إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً حيث أمسكهما و كانتا جديرتين أن تهدا هدا لأعمال العباد. قوله تعالى فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ فإن آلات الحرب متخذة عنه وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ إذ ما من صنعة إلا و الحديد آلتها وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ باستعمال الأسلحة

   و مجاهدة الكفار و العطف على محذوف دل عليه ما قبله فإنه حال يتضمن تعليلا أو اللام صلة لمحذوف أي أنزله ليعلم الله بِالْغَيْبِ حال من المستكن في يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على إهلاك من أراد إهلاكه عَزِيزٌ لا يفتقر إلى نصره و إنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به و يستوجبوا ثواب الامتثال فيه. و قال الرازي و أما حديد ففيه البأس الشديد فإن آلات الحرب متخذة منه و فيه أيضا منافع كثيرة منها قوله تعالى وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ و منها أن مصالح العالم إما أصول و إما فروع أما الأصول فأربعة الزراعة و الحياكة و بناء البيوت و السلطنة و ذلك لأن الإنسان يضطر إلى طعام يأكله و ثوب يلبسه و بناء يسكن فيه و الإنسان مدني بالطبع فلا تتم مصلحته إلا عند اجتماع جمع من أبناء جنسه ليشتغل كل واحد منهم بمهم خاص فحينئذ ينتظم من الكل مصالح الكل و ذلك الانتظام لا بد و أن يفضي إلى المزاحمة و لا بد من شخص يدفع ضرر البعض عن البعض و ذلك هو السلطان فثبت أنه لا تنتظم مصلحة العالم إلا بهذه الأصول الأربعة أما الزراعة فمحتاجة إلى الحديد و ذلك من كرب الأرض و حفرها ثم عند تكون هذه الحبوب و تولدها لا بد من جزها و تنقيتها و ذلك لا يتم إلا بالحديد ثم لا بد من خبزها و لا يتم إلا بالنار و لا بد فيها من المقدحة الحديدية و أما الفواكه فلا بد من تنظيفها من قشورها و قطعها على الوجوه الموافقة للأكل و لا يتم ذلك إلا بالحديد ثم يحتاج في آلات الحياكة إلى الحديد ثم نفزع في قطع الثياب و خياطتها إلى الحديد و الذهب لا يقوم مقام الحديد في شي‏ء من هذه المصالح فلو لم يوجد الذهب في الدنيا ما كان يختل شي‏ء من مصالح الدنيا و لو لم يوجد الحديد لاختل جميع مصالح الدنيا ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة جعله سهل الوجدان كثير الوجود و الذهب لما قلت الحاجة إليه جعله عزيز الوجود و عند هذا يظهر أثر جود الله و رحمته على عبيده فإن كل ما كانت حاجاتهم إليه أكثر جعل وجدانه أسهل و لهذا قال بعض

   الحكماء إن أعظم الأمور حاجة إليه هو الهواء فإنه لو انقطع وصوله إلى القلب لحظة مات الإنسان في الحال فلا جرم جعله الله أسهل الأشياء وجدانا و هيأ أسباب التنفس و آلاته حتى أن الإنسان يتنفس دائما بمقتضى طبعه من غير حاجة فيه إلى تكلف عمل و بعد الهواء الماء إلا أنه لما كانت الحاجة إلى الماء أقل من الحاجة إلى الهواء جعل تحصيل الماء أشق قليلا من تحصيل الهواء و بعد الماء الطعام و لما كانت الحاجة إلى الطعام أقل من الحاجة إلى الماء جعل تحصيل الطعام أشق من تحصيل الماء ثم تتفاوت الأطعمة في درجات الحاجة و العزة فكل ما كانت الحاجة إليه أكثر كان وجدانه أسهل و كل ما كان وجدانه أعسر كانت الحاجة إليه أقل و الجواهر لما كانت الحاجة إليها قليلة جدا لا جرم كانت عزيزة جدا فعلمنا أن كل شي‏ء كانت الحاجة إليه أكثر كان وجدانه أسهل و لما كانت الحاجة إلى رحمة الله أشد من الحاجة إلى كل شي‏ء فنرجو من رحمة الله أن يجعلها أسهل الأشياء وجدانا

1-  العلل، عن محمد بن علي ماجيلويه عن عمه محمد بن أبي القاسم عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن علي بن محمد القاساني عن إبراهيم بن محمد الثقفي عن علي بن المعلى عن إبراهيم بن الخطاب بن الفراء رفعه إلى أبي عبد الله ع قال شكت أسافل الحيطان إلى الله عز و جل من ثقل أعاليها فأوحى الله عز و جل إليها يحمل بعضك بعضا

 الكافي، عن العدة عن البرقي عن إبراهيم الثقفي مثله المحاسن، عن القاساني مثله إلا أن فيه يحمل بعضها بعضا بيان لعل الشكاية بلسان الافتقار و الاضطرار و الوحي بالخطاب التكويني كما قيل في قوله تعالى وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي بلسان استعداداتكم و قابلياتكم   أو يكون استعارة تمثيلية لبيان أن الله تعالى خلق الأجزاء الأرضية و الترابية بحيث يلتصق بعضها ببعض و لا يكون ثقل الجميع على الأسافل فتنهدم سريعا

2-  المحاسن، عن علي بن أسباط عن داود البرقي عن أبي عبد الله ع قال سألته عن قوله تعالى وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ قال نقض الجدر تسبيحها

 الكافي، عن العدة عن سهل بن زياد عن ابن أسباط مثله إلا أن فيه تنقض الجدر

3-  المحاسن، عن ابن أسباط عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عن قول الله عز و جل وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ قال نقض الجدر تسبيحها قلت نقض الجدر تسبيحها قال نعم

4-  العياشي، عن أبي الصلاح قال سألت أبا عبد الله ع عن قول الله وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قال كل شي‏ء يسبح بحمده و إنا لنرى أن تنقض الجدار هو تسبيحها

 و منه في رواية الحسين بن سعيد عنه ع مثله

5-  و منه، عن زرارة قال سألت أبا جعفر ع عن قول الله وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قال إنا نرى أن تنقض الحيطان تسبيحها

6-  و منه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه ع أنه دخل عليه رجل فقال له فداك أبي و أمي إني أجد الله يقول في كتابه وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فقال هو كما قال فقال له أ تسبح الشجرة اليابسة فقال نعم أ ما سمعت خشب البيت تنقض و ذلك تسبيحه فسبحان الله على كل حال

    -7  العلل، لمحمد بن علي بن إبراهيم قال بكاء السماء احمرارها من غير غيم و بكاء الأرض زلازلها و تسبيح الشجر حركتها من غير ريح و تسبيح البحار زيادتها و نقصانها و تسبيح الشجر نموه و نشوؤه و قال أيضا ظله يسبح الله

 بيان قد مضى من البيان في تفسير الآيات ما يمكن به فهم هذه الأخبار و الحاصل أن تنقض الجدار لدلالتها على حدوث التغير فيها و فنائها نداء منها بلسان حالها على افتقارها إلى من يوجدها و يبقيها منزها عن صفاتها المحوجة إلى ذلك و أيضا نقصانات الخلائق دلائل على كمالات الخالق و كثراتها و اختلافاتها و مضاداتها شواهد وحدانيته و انتفاء الشريك عنه و الند و الضد له كما قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له و بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له و الحاصل أن جميع المصنوعات و الممكنات بصفاتها و لوازمها و آثارها دالة على صانعها و بارئها و مصورها و علمه و حكمته شاهدة بتنزهه عن صفاتها المستلزمة للعجز و النقصان مطيعة لربها في ما خلقها له و أمرها به من مصالح عالم الكون موجه إلى ما خلقت له فسكون الأرض خدمتها و تسبيحها و صرير الماء و جريه تسبيحه و طاعته و قيام الأشجار و النباتات و نموها و جري الريح و أصواتها و هذه الأبنية و سقوطها و تحريق النار و لهبها و أصوات الصواعق و إضاءة البروق و جلاجل الرعود و جري الطيور في الجو و نغماتها كلها طاعة لخالقها و سجدة و تسبيح و تنزيه له سبحانه. قال بعض العارفين خلق الله الخلق ليوحدوه فأنطقهم بالتسبيح و الثناء عليه و السجود فقال أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ و قال أيضا أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي   الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ الآية و خاطب بهاتين الآيتين نبيه الذي أشهده ذلك و رآه فقال أَ لَمْ تَرَ و لم يقل أ لم تروا فإنا ما رأيناه فهو لنا إيمان و لمحمد ص عيان فأشهده سجود كل شي‏ء و تواضعه لله و كل من أشهده الله ذلك و رآه دخل تحت هذا الخطاب و هذا تسبيح فطري و سجود ذاتي عن تجل تجلى لهم فأحبوه فانبعثوا إلى الثناء عليه من غير تكليف بل اقتضاء ذاتي و هذه هي العبادة الذاتية التي أقامهم الله فيها بحكم الاستحقاق الذي يستحقه. و في القاموس تنقض البيت تشقق فسمع له صوت و قوله بكاء السماء احمرارها أي خارجا عن العادة فإنه من علامات غضبه تعالى فكأنه يبكي على من استحق الغضب أو على من يستحق العباد له الغضب كما وقع بعد شهادة الحسين ع و قوله حركتها من غير ريح أي عند الزلزلة أو بالنمو فيكون ما بعده تأكيدا له

8-  تفسير علي بن إبراهيم، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر ع في قوله وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ فإن الله تبارك و تعالى أنبت في الجبال الذهب و الفضة و الجوهر و الصفر و النحاس و الحديد و الرصاص و الكحل و الزرنيخ و أشباه هذه لا تباع إلا وزنا

 بيان لعل المراد بالجوهر الأحجار كالياقوت و العقيق و الفيروزج و أشباهها

9-  تفسير علي بن إبراهيم، أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ قال تحويل كل ظل خلقه الله هو سجوده لله لأنه ليس شي‏ء إلا له ظل يتحرك بتحريكه و تحويله سجوده

10-  و منه، في قوله تعالى وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ فحركة كل شي‏ء تسبيح لله عز و جل

11-  و منه، في قوله وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ لفظ الشجر واحد و معناه جمع   و في قوله تعالى وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ قال الصفر

12-  المناقب لابن شهرآشوب، قال قال ضباع بن نصر الهندي للرضا ع ما أصل الماء قال أصل الماء خشية الله بعضه من السماء و يسلكه في الأرض ينابيع و بعضه ماء عليه الأرضون و أصله واحد عذب فرات قال فكيف منها عيون نفط و كبريت و قار و ملح و أشباه ذلك قال غيره الجوهر و انقلبت كانقلاب العصير خمرا و كما انقلبت الخمر فصارت خلا و كما يخرج مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً قال فمن أين أخرجت أنواع الجواهر قال انقلبت منها كانقلاب النطفة علقة ثم مضغة ثم خلقه مجتمعة مبنية على المتضادات الأربع قال إذا كانت الأرض خلقت من الماء و الماء بارد رطب فكيف صارت الأرض باردة يابسة قال سلبت النداوة فصارت يابسة قال الحر أنفع أم البرد قال بل الحر أنفع من البرد لأن الحر من أحر الحياة و البرد من برد الموت و كذلك السموم القاتلة الحارة منها أسلم و أقل ضررا من السموم الباردة

 توضيح قوله خشية الله إشارة إلى ما ورد في بعض الكتب السماوية أن الله تعالى خلق أولا درة بيضاء فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ماء عليه الأرضون أي البحر الأعظم غيره الجوهر أي جوهر الأرض التي نبع منها من حر الحياة أي من جنسه لأن الروح الحيواني و الحرارة الغريزية سببان للحياة و زوالهما سبب للموت و فيه إشارة إلى ما ذكره الحكماء في تولد المعادن فلنذكر ما ذكروه في ذلك. قالوا المركبات التي لها مزاج ثلاثة أنواع تسمى بالمواليد و هي المعادن و النباتات و الحيوانات و وجه الحصر أنه إن تحقق فيه مبدأ التغذية فأما مع تحقق مبدأ الحس و الحركة الإرادية فهو الحيوان أو بدونه و هو النبات و إن لم تحقق   ذلك فيه فالمعادن و قال بعضهم و إنما قلنا مع تحقق الحس و الحركة لأنه لا قطع بعدمهما في النبات و المعدن بل ربما يدعي حصول الشعور و الإرادة للنبات لأمارات تدل على ذلك مثل ما يشاهد في ميل النخلة الأنثى إلى الذكر و تعشقها به بحيث لو لم تلقح منه لم تثمر و ميل عروق الأشجار إلى جهة الماء و ميل أغصانها في الصعود من جانب الموانع إلى الفضاء ثم ليس هذا ببعيد عن القواعد الفلسفية فإن تباعد الأمزجة عن الاعتدال الحقيقي إنما هو على غاية من التدريج فانتقاض استحقاق الصور الحيوانية و خواصها لا بد أن يبلغ قبل الانتفاء إلى حد الضعف و الخفاء و كذا النباتية و لهذا اتفقوا على أن من المعدنيات ما وصل إلى أفق النباتية و من النباتات ما وصل إلى أفق الحيوانية كالنخلة و إليه الإشارة بقوله ص أكرموا عمتكم النخلة و قال بعضهم أخرى طبقات المعادن متصلة بأولى طبقات النباتات كما أن المرجان التي هي من المعادن ينمو في قعر البحر و هو قريب من النباتات التي تنبت في فصل الربيع و تذبل و تفنى سريعا و أخرى طبقات النبات تتصل بأولى طبقة الحيوانات كالنخل فإنها شبيهة بالحيوان في أنها إذا غرقت في الماء أو تقطع رأسها تموت و لا تثمر كثيرا بدون اللقاح و رائحة طلعها شبيهة برائحة المني و تعشق بعضها بعضا بحيث لا تحمل إلا إذا صب فيها من طلعه و يميل بعضها إلى بعض و هي قريبة من الحيوانات المتولدة في الأراضي الندية كالخراطين و أشباهها و أخرى طبقة الحيوانات تتصل بأفق الإنسان كالفيل و القردة فإنهما تتعلمان بأدنى تعليم و في كثير من الصفات شبيهة بالإنسان و هي قريبة من بعض أفراد الإنسان كالسودان و الأتراك الذين ليس فيهم من الإنسانية إلا الأكل و الشرب و النوم و السفاد. ثم إنهم قالوا إن الأبخرة و الأدخنة المحتبسة في باطن الأرض إذا كثرت يتولد منها ما مر من الرجفة و الزلزلة و انفجار العيون و إذا لم تكن كثيرة اختلطت على ضروب من الاختلاطات المختلفة في الكم و الكيف و المزج بحسب الأمكنة و الأزمنة و الإعدادات فتكون منها الأجسام المعدنية بإذن الله تعالى و هي أول ما يحدث من المركبات العنصرية التامة المزاجية ثم إذا غلب البخار على الدخان

    تتولد مثل اليشم و البلور و الزيبق و غيرها من الجواهر المشفة و إن غلب الدخان يتولد الملح و الزاج و الكبريت و النوشادر ثم من اختلاط بعض هذه مع بعض يتولد غيرها من المعادن و أصنافها خمسة لأنها إما ذائبة أو غير ذائبة و الذائبة إما منطرقة أو غير منطرقة و الغير المنطرقة إما مشتعلة أو غير مشتعلة و غير الذائبة إما عدم ذؤبانه لفرط الرطوبة أو لفرط اليبوسة فأقسامها ذائب منطرق و ذائب مشتمل و ذائب غير منطرق و لا مشتعل و غير ذائب لفرط الرطوبة و غير ذائب لفرط اليبوسة. فالذائب المنطرق هو الجسم الذي انجمد فيه الرطب و اليابس بحيث لا يقدر النار على تفريقهما مع بقاء دهنية قوية بسببها يقبل ذلك الجسم الانطراق و هو الاندفاع في السحق بانبساط يعرض للجسم في الطول و العرض قليلا دون انفصال شي‏ء و الذوبان سيلان الجسم بسبب تلازم رطبه و يابسه و المشهور من أنواع الذائب المنطرق سبعة الذهب و الفضة و الرصاص و الأسرب و الحديد و النحاس و الخارصيني و قيل الخارصيني هو جوهر شبيه بالنحاس يتخذ منها مرايا لها خواص و ذكر بعضهم أنه لا يوجد في عهدنا و الذي يتخذ منه المرايا و يسمى بالحديد الصيني و الهفتجوش فجوهر مركب من بعض الفلزات و ليس بالخارصيني و الذوبان في غير الحديد ظاهر و أما في الحديد فيكون بالحيلة كما يعرفه أرباب الصنعة و شهدت الأمارات بأن مادة الأجساد السبعة الزيبق و الكبريت و اختلاف الأنواع و الأصناف عائد إلى اختلاف صفاتهما و اختلاطهما و تأثر أحدهما عن الآخر أما الأمارات فهي أنها سيما الرصاص يذوب إلى مثل الزيبق و الزيبق ينعقد برائحة الكبريت إلى مثل الرصاص و الزيبق يتعلق بهذه الأجساد و أما كيفية تكون تلك الأجساد منهما فهي أنه إذا كان الزيبق و الكبريت صافيين و كان انطباخ أحدهما بالآخر تاما فإن كان الكبريت مع بقائه أبيض غير محترق تكونت الفضة و إن كان أحمر و فيه قوة صباغة لطيفة غير   محترقة تكون الذهب و إن كانا نقيين و في الكبريت قوة صباغة لكن وصل إليه قبل كمال النضج برد مجمد عاقد تكون الخارصيني و إن كان الزيبق نقيا و الكبريت رديا فإن كان مع الرداءة فيه قوة إحراقية تكون النحاس و إن كان غير شديد المخالطة بالزئبق بل متداخلا إياه سافا فسافا تولد الرصاص و إن كان الزيبق و الكبريت رديين فإن قوي التركيب و في الزيبق تخلخل أرضي و في الكبريت إحراق تكون الحديد و إن ضعف التركيب تكون الأسرب و يسمى الرصاص الأسود قال صاحب المواقف بعد إيراد مثل هذا التقسيم و أنت خبير بأن القسمة غير حاصرة و أن التكون على هذا الوجه لا سبيل فيه إلى اليقين و لا يرجى له إلا الحدس و التخمين و إن سلم فتكونها على غير هذا الوجه مما لم يقم على امتناعه دليل كيف و المهوسون بالكيمياء لهم في الأجساد السبعة و الأرواح التي تفيد الصورة الذهبية و الفضية تفنن و الكل عندنا للفاعل المختار من غير إحالة على شي‏ء مما ذكروه انتهى. و الثاني أي الذائب المشتعل هو الجسم الذي فيه رطوبة دهنية مع يبوسة غير مستحكم المزاج و لذلك يقوى النار على تفريق رطبه عن يابسه و هو الاشتعال و ذلك كالكبريت المتولد من مائية تخمرت بالأرضية و الهوائية تخمرا شديدا بالحرارة حتى صارت تلك المائية دهنية و انعقدت بالبرد و قيل دخانية تخمر بها بخارية تخمرا شديدا بالحر حتى حصل فيها دهنية ثم انعقدت بالبرد و كالزرنيخ و هو كذلك إلا أن الدهنية فيه أقل. و الثالث أي الذائب الذي لا ينطرق و لا يشتمل ما ضعف امتزاج رطبه و يابسه و كثرت رطبته المنعقدة بالحر و اليبس كالزاجات و تولدها من ملحية و كبريتية و حجارة و فيها قوة بعض الأجساد الذائبة و كالأملاح و تولدها من ماء خالطه دخان حار لطيف كثير النارية و انعقد باليبس مع غلبة الأرضية الدخانية و لهذا يتخذ الملح من الرماد المحترق بالطبخ و التصفية. و الرابع أي الذي لا يذوب و لا ينطرق لرطوبته ما استحكم الامتزاج بين أجزائه الرطبة الغالبة و الأجزاء اليابسة بحيث لا يقول النار على تفريقهما كالزيبق و هو مركب

    من مائية صافية جدا خالطتها دخانية كبريتية لطيفة مخالطة شديدة بحيث لا ينفصل منه سطح إلا و يغشاه من تلك اليبوسة شي‏ء فلذلك لا يعلق باليد و لا ينحصر انحصارا شديدا بشكل ما يحويه و مثاله قطارات الماء الواقعة على تراب في غاية اللطافة فإنه يحيط بالقطرة سطح ترابي حاصر للماء كالغلاف له بحيث تبقى القطرة على شكلها في وجه التراب و إذا تلاقت قطرتان منهما فربما ينخرق الغلافان و يصير الماءان في غلاف واحد و بياض الزيبق لصفاء المائية و بياض الأرضية و ممازجة الهوائية. و الخامس أي الذي لا يذوب و لا ينطرق ليبوسة ما اشتد الامتزاج بين أجزائه الرطبة و الأجزاء اليابسة المستولية بحيث لا يقدر النار على تفريقهما مع إحالة البرد للمائية إلى الأرضية بحيث لا تبقى رطوبة حسية دهنية و لذا لا ينطرق و لما كان تعقده باليبس لا يذوب إلا بالحيلة بحيث لا يبقى ذلك الجوهر بخلاف الحديد المذاب و ذلك كالياقوت و اللعل و الزبرجد و نحو ذلك من الأحجار. ثم إن من المعادن ما يتولد بالصنعة بتهيئة المواد و تكميل الاستعداد كالنوشادر و الملح و إن منها ما يعمل له شبيه يعسر التميز في بادئ النظر كالذهب و الفضة و اللعل و كثير من الأحجار المعدنية و هل يمكن أن يعمل حقيقة هذه الجواهر بالصنعة من غير جهة الإعجاز فذهب كثير من العقلاء إلى أن تكون الذهب و الفضة بالصنعة واقع ذهب ابن سينا إلى أنه لم يظهر له إمكان فضلا عن الوقوع لأن الفصول الذاتية التي بها تصير هذه الأجساد أنواعا أمور مجهولة و المجهول لا يمكن إيجاده نعم يمكن أن يعمل النحاس بصبغ الفضة و الفضة بصبغ الذهب و أن يزال عن الرصاص أكثر ما فيه من النقص لكن هذه الأمور المحسوسة يجوز أن لا تكون هي الفصول بل عوارض و لوازم و أجيب بأنا لا نسلم اختلاف الأجسام بالفصول و الصور النوعية بل هي متماثلة لا تختلف إلا بالعوارض التي يمكن زوالها بالتدبير و لو سلم فإن أريد بمجهولية الصور النوعية و الفصول الذاتية أنها مجهولة من كل وجه فممنوع كيف و قد علم أنها مباد لهذه الخواص و الأعراض و إن أريد أنها مجهولة بحقائقها و تفاصيلها فلا نسلم أن الإيجاد موقوف على العلم بذلك و أنه لا يكفي العلم بجميع

    المواد على وجه حصل الظن بفيضان الصور عنده لأسباب لا تعلم على التفصيل كالحية من الشعر و العقرب من البادروج و نحو ذلك و كفى بصنعة الترياق و ما فيه من الخواص و الآثار شاهدا على إمكان ذلك نعم الكلام في الوقوع و في العلم بجميع المواد و تحصيل الاستعداد و لهذا جعل الكيمياء في اسم بلا مسمى. أقول و يظهر من بعض الأخبار تحققه لكن علم غير المعصوم به غير معلوم و من رأينا و سمعنا ممن يدعي علم ذلك منهم أصحاب خديعة و تدليس و مكر و تلبيس و لا يتبعهم إلا مخدوع و صرف العمر فيه لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ

13-  توحيد المفضل، قال قال الصادق ع لو فطنوا طالبوا الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان و غالبوا بها

14-  الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن عبد الله بن عبد الرحمن عن يحيى الحلبي عن الثمالي قال مررت مع أبي عبد الله ع في سوق النحاس فقلت جعلت فداك هذا النحاس أيش أصله فقال فضة إلا أن الأرض أفسدتها فمن قدر على أن يخرج الفساد منها انتفع بها

15-  المجازات النبوية للرضي، قال قال رسول الله ص في الجبل ظهورها حرز و بطونها كنز

 قال السيد ره هذا القول خارج عن طريق المجاز لأن بطون الجبل على الحقيقة كنز و إنما أراد أن أصحابها يستخرجون منها من الأفلاذ ما تنمي به أموالهم و تحسن معه أحوالهم و ظهورها حرز أراد أنها منجاة من المعاطب و ملجأة عند المهارب

16-  الخرائج، روى أحمد بن عمر الحلال قال قلت لأبي الحسن الثاني ع جعلت فداك إني أخاف عليك من هذا صاحب الرقة قال ليس علي منه بأس إن لله بلادا تنبت الذهب قد حماها بأضعف خلقه بالذر فلو أرادتها الفيلة ما وصلت إليها   قال الوشاء إني سألت عن هذه البلاد و قد سمعت الحديث قبل مسألتي فأخبرت أنه بين البلخ و التبت و أنها تنبت الذهب و فيها نمل كبار أشباه الكلاب على حلقها قلس لا يمر بها الطير فضلا عن غيره تكمن بالليل في جحرها و تظهر بالنهار فربما غزوا الموضع على الدواب التي تقطع ثلاثين فرسخا في ليلة لا يعرف شي‏ء من الدواب يصبر صبرها فيوقرون أحمالهم و يخرجون فإذا النمل خرجت في الطلب فلا تلحق شيئا إلا قطعته فتشبه بالريح من سرعتها و ربما شغلوهم باللحم يتخذ لها إذا لحقتهم يطرح لها في الطريق إن لحقتهم قطعتهم و دوابهم

 بيان الرقة بلد على الفرات و المراد بصاحبها هارون لأنه كان في تلك الأيام فيها و القلس حبل ضخم من ليف أو خوص أو غيرهما و كأنه وصف المشبه به أي الكلاب المعلمة

17-  الكافي، عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عمن ذكره قال قيل للرضا ع إنك تتكلم بهذا الكلام و السيف يقطر دما فقال إن لله واديا من ذهب حماه بأضعف خلقه النمل فلو رامته البخاتي لم تصل إليه

18-  توحيد المفضل، قال قال الصادق ع فكر يا مفضل في هذه المعادن و ما يخرج منها من الجواهر المختلفة مثل الجص و الكلس و الجبسين و الزرانيخ و المرتك و القوينا و الزيبق و النحاس و الرصاص و الفضة و الذهب و الزبرجد و الياقوت و الزمرد و ضروب الحجارة و كذلك ما يخرج منها من القار و الموميا و الكبريت و النفط و غير ذلك مما يستعمله الناس في مآربهم فهل يخفى على ذي عقل أن هذه كلها ذخائر ذخرت للإنسان في هذه الأرض ليستخرجها فيستعملها عند الحاجة إليها ثم قصرت حيلة الناس عما حاولوا من صنعتها على حرصهم و اجتهادهم في ذلك فإنهم لو ظفروا بما حاولوا من هذا العلم كان لا محالة سيظهر و يستفيض في العالم حتى تكثر الفضة و الذهب و يسقطا عند الناس فلا يكون لهما   قيمة و يبطل الانتفاع بهما في الشرى و البيع و المعاملات و لا كان يجبي السلطان الأموال و لا يدخرهما أحد للأعقاب و قد أعطي الناس مع هذا صنعة الشبه من النحاس و الزجاج من الرمل و الفضة من الرصاص و الذهب من الفضة و أشباه ذلك مما لا مضرة فيه فانظر كيف أعطوا إرادتهم في ما لا ضرر فيه و منعوا ذلك في ما كان ضارا لهم لو ناولوه و من أوغل في المعادن انتهى إلى واد عظيم يجري منصلتا بماء غزير لا يدرك غوره و لا حيلة في عبوره و من ورائه أمثال الجبال من الفضة تفكر الآن في هذا من تدبير الخالق الحكيم فإنه أراد جل ثناؤه أن يرى العباد مقدرته و سعة خزائنه ليعلموا أنه لو شاء أن يمنحهم كالجبال من الفضة لفعل لكن لا صلاح لهم في ذلك لأنه لو كان فيكون فيها كما ذكرنا سقوط هذا الجوهر عند الناس و قلة انتفاعهم به و اعتبر ذلك بأنه قد يظهر الشي‏ء الطريف مما يحدثه الناس من الأواني و الأمتعة فما دام عزيزا قليلا فهو نفيس جليل آخذ الثمن فإذا فشا و كثر في أيدي الناس سقط عندهم و خست قيمته و نفاسة الأشياء من عزتها

 بيان الكلس بالكسر الصاروج و الجبس بالكسر الجص و في أكثر النسخ الجبسين و لم أجده في ما عندنا من كتب اللغة لكن في لغة الطب كما في أكثر النسخ و المرتك كمقعد المرداسنج و القوبنا بالباء الموحدة أو الياء المثناة من تحت و لم أجدهما في كتب اللغة لكن في القاموس القونة القطعة من الحديد أو الصفر يرقع بها الإناء و في بعض النسخ و التوتياء و في كتب اللغة أنه حجر يكتحل به و القار القير و جبى الخراج جباية جمعه و الإيغال المبالغة في الدخول و الذهاب و انصلت مضى و سبق

تتميم نفعه عميم

 اعلم أن الذي يستفاد من الآيات المتظافرة و الأخبار المتواترة هو أن تأثيره سبحانه في الممكنات لا يتوقف على المواد و الاستعدادات و إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً   أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ و هو سبحانه جعل للأشياء منافع و تأثيرات و خواص أودعها فيها و تأثيراتها مشروطة بإذن الله تعالى و عدم تعلق إرادته القاهرة بخلافها كما أنه أجرى عادته بخلق الإنسان من اجتماع الذكر و الأنثى و تولد النطفة منهما و قرارها في رحم الأنثى و تدرجها علقة و مضغة و هكذا فإذا أراد غير ذلك فهو قادر على أن يخلق من غير أب كعيسى و من غير أم أيضا كآدم و حواء و كخفاش عيسى و طير إبراهيم و غير ذلك من المعجزات المتواترة عن الأنبياء في إحياء الموتى و جعل الإحراق في النار فلما أراد غير ذلك قال للنار كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ و جعل الثقيل يرسب في الماء و ينحدر من الهواء فأظهر قدرته بمشي كثير على الماء و رفعهم إلى السماء و جعل في طبع الماء الانحدار فأجرى حكمه عليه بأن تقف أمثال الجبال منه في الهواء حتى تعبر بنو إسرائيل من البحر و مع عدم القول بذلك لا يمكن تصديق شي‏ء من   المعجزات اليقينية المتواترة عن الأنبياء و الأوصياء ع و كذا جرى عادته على انعقاد الجواهر في المعادن بأسباب من المؤثرات الأرضية و السماوية لبعض المصالح فإذا أراد إظهار كمال قدرته و رفع شأن وليه يجعل الحصا في كفه دفعة جوهرا ثمينا و الحديد في يد نبيه عجينا و يخرج الأجساد البالية دفعة من التراب في يوم الحساب فهذه كلها و أمثالها لا تستقيم مع الإذعان بقواعدهم الفاسدة و آرائهم الكاسدة. و قال بعضهم حذرا من التشهير و التفكير إعادة النفس إلى بدن مثل بدنها الذي كان لها في الدنيا مخلوق من سنخ هذا البدن بعد مفارقتها عنه في القيامة كما نطقت   به الشريعة ممكن غير مستحيل و لا استبعاد أيضا فيها و لا يلزم أن يكون حدوث لياقته و استعداده لتعلقها مما يحصل له شيئا فشيئا ككونه أولا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم طفلا إلى تمام الخلقة حسب ما يقتضيه التوالد و التناسل فإن ذلك نحو خاص من الحدوث و الحدوث لا ينحصر للإنسان في هذا النحو لجواز أن يتكون دفعة تاما كاملا لأجل خصوصية بعض الأزمنة و الأوقات و الأوضاع الفلكية ترجح إرادة الله

    تعالى في إيجاد الناس و تكوين أجسادهم دفعة واحدة و نفخ أرواحهم في أجسادهم المتكونة نفخة واحدة بتوسط بعض ملائكته فرد الله تعالى بواسطة واهب الصور تلك الصور إلى موادها لحصول المزاج الخاص مرة أخرى كما تتكون ألوف كثيرة من أصناف الحيوانات كالذباب و غيرها في الصيف من العفونات تكونا دفعيا و لا يلزم أن يكون نحو التعلق واحدا في المبدإ و الإعادة بل يجوز أن يكون التعلق الأخرى إلى البدن على وجه لا يكون مانعا من حصول الأفعال الغريبة و الآثار العجيبة و مشاهدة أمور غيبية لم يكن من شأن النفس مشاهدتها إياها في النشأة الدنيوية و كذا اقتدارها على إيجاد صور عجيبة غريبة حسنة أو قبيحة مناسبة لأوصافها و أخلاقها انتهى و أنت تعلم إذا تأملت في مجاري كلامه أنه مع إعمال التقية فيه لوح إلى مرامه و نقل بعض قدماء الأطباء عن جالينوس في بيان تشريح الأعضاء و فوائدها أنه قال و شعر الحاجبين أيضا مما لم يقصر فيه و لم يتوان عنه و هو و الأشفار دون سائر الشعر جعل له مقدار يقف عنده فلا يطول أكثر منه و أما شعر الرأس و اللحية فإنه يطول كثيرا و السبب في ذلك أن شعر الرأس و اللحية له منفعتان إحداهما تغطية ما تحته من الأعضاء و سترها و الأخرى إفناء الفضول الغليظة و منفعته من جهة التغطية و الستر تختلف على وجوه شتى و ذلك لأن حاجتنا إلى التغطية و الستر تختلف بقدر اختلاف   الأسنان و أزمان السنة و البلدان و إخراج البدن لأن حاجة الرجل التام إلى طول الشعر ليست كحاجة الصبي الصغير إلى ذلك و لا كحاجة الشيخ الفاني و لا كحاجة المرأة و كذلك أيضا ليست الحاجة إلى طول الشعر في الصيف و الشتاء سواء و لا في البلاد الحارة و الباردة و لا حاجة من كانت عينه معتلة من الرمد أو كان رأسه يصدع إلى ذلك كحاجة من هو صحيح البدن لا علة به فاحتيج لذلك أن نكون نحن نجعل طول الشعر في الأوقات المختلفة بأقدار مختلفة بحسب ما يوافق كل وقت منها و أما الحاجبان و الأشفار فإنه إن زيد فيه أو نقص منه فسدت منفعته و ذاك أن الأشفار تحوط العين بمنزلة الجدار ليحجب عنها و يمنع من أن يسقط فيها شي‏ء من الأجرام الصغار إذا كانت مفتوحة و شعر الحاجبين جعل يلقي ما ينحدر من الرأس قبل وصوله إلى العين بمنزلة الصور المانع فمتى قصرت من طوله أو قللت من عدده أكثر مما ينبغي كان ما يدخل على منفعته من الفساد بحسب ما ينقص من المقدار الذي يحتاج إليه و ذاك أن الأشفار حينئذ تطلق ما قد كانت تمنعه قبل النقصان من الوصول إلى العين و شعر الحاجبين يرسل ما قد كان يحبسه و يمنعه من الوصول إلى العين من الأشياء التي تسيل من الرأس فإن أنت طولت هذا الشعر و كثرته فوق المقدار الذي ينبغي لم يقم حينئذ للعين مقام الحاجب و لا مقام السور المانع لكنه يغطي العين و يعلو عليها حتى يصير منه في مثل حبس ضيق و ذاك أنه يستر الحدقة و يحجبها حتى تظلم و الحدقة أحوج الحواس كلها إلى أن لا تحجب و لا يحال بينها و بين ما يدركه البصر و إذا كان الأمر على ما وصفت فما الذي ينبغي أن نقول فيه أ نقول إن الخالق أمر هذا الشعر أن يبقى على مقدار واحد و لا يطول أكثر منه و إن الشعر قبل ذلك الأمر فأطاع فيبقى لا يخالف ما أمر به إما للفزع و الخوف من المخالفة لأمر الله و إما للمجاملة و الاستحياء من الله الذي أمره بهذا الأمر و إما لأن الشعر نفسه يعلم أن هذا أولى به و أحمد من فعله أما موسى فهذا رأيه في الأشياء الطبيعية و هذا الرأي عندي أحمد و أولى أن يتمسك به من رأى أفيقورس إلا أن الأجود الإضراب عنهما جميعا و الاحتفاظ بأن الله هو مبدئ خلق

    كل شي‏ء كما قال موسى و زيادة المبدأ الذي من المادة فإن خالقنا إنما جعل الأشفار و شعر الحاجبين يحتاج أن يبقى على مقدار واحد من الطول لأن هكذا كان أوفق و أصلح فلما علم أن هذا الشعر كان ينبغي أن يجعل على هذا جعل تحت الأشفار جرما صلبا يشبه الغضروف يمتد في طول الجفن و فرش تحت الحاجبين جلدة صلبة ملزقة بغضروف الحاجبين و ذلك أنه لم يكن يكتفي في بقاء الشعر على مقدار واحد من الطول بأن يشاء الخالق أن يكون هكذا كما أنه لو شاء أن يجعل الحجر دفعه إنسانا لم يكن ذلك بممكن و الفرق في ما بين إيمان موسى و إيماننا و أفلاطون و سائر اليونانيين هو هذا موسى يزعم أنه يكتفي بأن يشاء الله أن يزين المادة و يهيئها لا غير فيتزين و يتهيأ على المكان و ذاك أنه يظن أن الأشياء كلها ممكنة عند الله فإنه لو شاء الله أن يخلق من الرماد فرسا أو ثورا دفعة لفعل و أما نحن فلا نعرف هذا و لكنا نقول إن من الأشياء أشياء في أنفسها غير ممكنة و هذه الأشياء لا يشاء الله أصلا أن تكون و إنما يشاء أن تكون الأشياء الممكنة و أيضا لا يختار إلا أجودها و أوفقها و أفضلها و لذا لما كان الأصلح و الأوفق للأشفار و شعر الحاجبين أن يبقى على مقداره من الطول على عدده الذي هو عليه دائما أبدا لسنا نقول في هذا الشعر إن الله إنما شاء أن يكون على ما هو عليه فصار من ساعته على ما شاء الله و ذاك أنه لو شاء ألف ألف مرة أن يكون هذا الشعر على هذا لم يكن ذلك أبدا بعد أن يجعل منشؤه من جلدة رخوة إلا أنه لو لم يغرس أصول الشعر في جرم صلب لكان مع ما يتغير كثير مما هو عليه لا يبقى أيضا قائما منتصبا و إذا كان هذا هكذا فإنا نقول إن الله سبب لأمرين أحدهما اختيار أجود الحالات و أصلحها و أوفقها لما يفعل و الثاني اختيار المادة الموافقة و من ذلك أنه لما كان الأصلح و الأجود أن يكون شعر الأشفار قائما منتصبا و أن يدوم بقاؤه على حالة واحدة في مقدار طوله و في عدده جعل مغرس الشجر و مركزه في جرم صلب و لو أنه غرسه في جرم رخو لكان أجهل من موسى و أجهل من قائد جيش سخيف يضع أساس سور مدينة أو حصنه

    على أرض رخوة غارقة بالماء و كذلك بقاء شعر الحاجبين و دوامه على حالة واحدة إنما جاء من قبل اختياره للمادة و كما أن العشب و سائر النبات ما كان منه ينبت في أرض رطبة سمينة خصبة فإنه يطول و ينشأ نشوءا حسنا و ما كان منه في أرض صخرية جافة فإنه لا ينمو و لا يطول كذلك أحد الأمرين انتهى كلامه ضاعف الله عذابه و انتقامه. و أقول قد لاح من الكلام الردي‏ء المشتمل على الكفر الجلي أمور الأول ما أسلفنا من أن الأنبياء المخبرين عن وحي السماء لم يقولوا بتوقف تأثير الصانع تعالى شأنه على استعداد المواد و لا استحالة تعلق إرادته بإيجاد شي‏ء من شي‏ء بدون مرور زمان أو إعداد و له أن يخلق كل شي‏ء كان من أي شي‏ء أراد. الثاني أن الحكماء لم يكونوا يعتقدون نبوة الأنبياء و لم يؤمنوا بهم و إنهم يزعمون أنهم أصحاب نظر و أصحاب آراء مثلهم يخطئون و يصيبون و لم يكن علومهم مقتبسة من مشكاة أنوارهم كما زعمه أتباعهم. الثالث أنهم كانوا منكرين لأكثر معجزات الأنبياء ع فإن أكثرها مما عدوها من المستحيلات الرابع أنهم كانوا في جميع الأعصار معارضين لأرباب الشرائع و الديانات كما هم في تلك الأزمنة كذلك.   قال الشيخ المفيد قدس سره في كتاب المقالات أقول إن الطباع معان تحل الجسم يتهيأ بها للانفعال كالبصر و ما فيه من الطبيعة التي بها يتهيأ لحلول الحس فيه و الإدراك ثم قال و إن ما يتولد بالطبع فإنما هو لمسببه بالفعل في المطبوع و إنه لا فعل على الحقيقة لشي‏ء من الطباع و هذا مذهب أبي القاسم الكعبي و هو خلاف مذهب المعتزلة في الطباع و خلاف الفلاسفة الملحدين أيضا في ما ذهبوا إليه من أفعال الطباع ثم قال قد ذهب كثير من الموحدين إلى أن الأجسام كلها مركبة من الطبائع الأربع و هي الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة و احتجوا في ذلك بانحلال كل جسم إليها و بما يشاهدونه من استحالتها كاستحالة الماء بخارا و البخار ماء و الموات حيوانا و الحيوان مواتا و وجود النارية و المائية و الهوائية و الترابية في كل جسم و إنه لا ينفك جسم من الأجسام من ذلك و لا يعقل على خلافه و لا ينحل إلا إليه و هذا ظاهر مكشوف لست أجد لدفعه حجة أعتمد عليها و لا أراه مفسدا لشي‏ء من التوحيد أو العدل أو الوعيد أو النبوات أو الشرائع فاطرحه لذلك بل   هو مؤيد للدين مؤكد لأدلة الله تعالى على ربوبيته و حكمته و توحيده و ممن دان به من رؤساء المتكلمين النظام و ذهب إليه البلخي و من اتبعه في المقال. و قال الشيخ الرضي أمين الدين الطبرسي نور الله مرقده في مجمع البيان في تفسير سورة الفيل بعد إيراد القصة المشهورة و فيه حجة لائحة قاصمة لظهور الفلاسفة و الملحدين و المنكرين للآيات الخارقة للعادات فإنه لا يمكن نسبة شي‏ء مما ذكره الله من أمر أصحاب الفيل إلى طبع و غيره كما نسبوا الصيحة و الريح العقيم و الخسف و غيرها مما أهلك الله تعالى به الأمم الخالية إلى ذلك إذ لا يمكنهم أن يروا في أسرار الطبيعة إرسال جماعات من الطير معها أحجار معدة مهيأة لهلاك أقوام معينين قاصدات إياهم دون من سواهم فترميهم بها حتى تهلكهم و تدمر عليهم لا يتعدى ذلك إلى غيرهم و لا يشك من له مسكة من عقل و لب أن هذا لا يكون إلا من فعل الله

    تعالى مسبب الأسباب و مذلل الصعاب و ليس لأحد أن ينكر هذا لأن نبينا ص لما قرأ هذه السورة على أهل مكة لم ينكروا ذلك بل أقروا به و صدقوه مع شدة حرصهم على تكذيبه و اعتنائهم بالرد عليه و كانوا قريبي العهد بأصحاب الفيل فلو لم يكن لذلك عندهم حقيقة و أصل لأنكروه و جحدوه و كيف و أنهم قد أرخوا بذلك كما أرخوا ببناء الكعبة و موت قصي بن كعب و غير ذلك و قد أكثر الشعراء ذكر الفيل و نظموه و نقلته الرواة عنهم. و أقول هذه الجناية على الدين و تشهير كتب الفلاسفة بين المسلمين من بدع خلفاء الجور المعاندين لأئمة الدين ليصرفوا الناس عنهم و عن الشرع المبين و يدل على ذلك ما ذكره الصفدي في شرح لامية العجم أن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى أظنه صاحب جزيرة قبرس طلب منهم خزانة كتب اليونان و كانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي و استشارهم في ذلك فكلهم أشار بعدم تجهيزها إليه إلا مطران واحد فإنه قال جهزها إليهم ما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها و أوقعت الاختلاف بين علمائها و قال في موضع آخر أن المأمون لم يبتكر النقل و التعريب أي لكتب الفلاسفة بل نقل قبله كثير فإن يحيى بن خالد بن برمك عرب من كتب الفرس كثيرا مثل كليلة و دمنة و عرب لأجله كتاب المجسطي من كتب اليونان و المشهور أن أول من عرب كتب اليونان خالد بن يزيد بن معاوية لما أولع بكتب الكيمياء و يدل على أن الخلفاء و أتباعهم كانوا مائلين إلى الفلسفة و أن يحيى البرمكي كان محبا لهم ناصرا لمذهبهم ما رواه الكشي بإسناده عن يونس بن عبد الرحمن قال كان يحيى بن خالد البرمكي قد وجد على هشام شيئا من طعنه على الفلاسفة فأحب أن يغري به هارون و يضربه على القتل ثم ذكر قصة طويلة في ذلك أوردناها في باب أحوال أصحاب الكاظم ع و فيها أنه أخفى هارون في بيته و دعا هشاما ليناظر العلماء و جروا الكلام إلى الإمامة و أظهر الحق فيها و أراد هارون قتله فهرب و مات من ذلك الخوف رحمه الله و عد أصحاب الرجال من كتبه كتاب الرد على أصحاب الطبائع و كتاب   الرد على أرسطاطاليس في التوحيد و عد الشيخ منتجب الدين في فهرسه من كتب قطب الدين الراوندي كتاب تهافت الفلاسفة و عد النجاشي من كتب الفضل بن شاذان كتاب رد على الفلاسفة و هو من أجلة الأصحاب و طعن عليهم الصدوق ره في مفتتح كتاب إكمال الدين و قال الرازي عند تفسير قوله تعالى فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فيه وجوه ثم ذكر من جملة الوجوه أن يريد علم الفلاسفة و الدهريين من بني يونان و كانوا إذا سمعوا بوحي الله صغروا علم الأنبياء إلى علمهم و عن سقراط أنه سمع بموسى ع و قيل له أ و هاجرت إليه فقال نحن قوم مهذبون فلا حاجة إلى من يهذبنا و قال الرازي في المطالب العالية أظن أن قول إبراهيم لأبيه يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً إنما كان لأجل أن أباه كان على دين الفلاسفة و كان ينكر كونه تعالى قادرا و ينكر كونه تعالى عالما بالجزئيات فلا جرم خاطبه بذلك الخطاب