باب 9- قوى النفس و مشاعرها من الحواس الظاهرة و الباطنة و سائر القوى البدنية

الآيات البقرة خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ النحل وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ المؤمنون وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ الروم وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. تفسير خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ قال النيسابوري القلب تارة يراد به اللحم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر و هو محل الروح الحيواني الذي هو منشأ الحس و الحركة و ينبعث منه إلى سائر الأعضاء بتوسط الأوردة و الشرايين و يراد به تارة اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنسانا و بها يستعد لامتثال الأوامر و النواهي و القيام بموجب التكليف إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ و هي من عالم الأمر الذي لا يتوقف وجوده على مادة و مدة بعد إرادة موجده    إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ كما أن البدن بل اللحم الصنوبري من عالم الخلق و هو نقيض ذلك أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ و قد يعبر عنها بالنفس الناطقة وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها و بالروح قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ثم قال بعد تفسير السمع و البصر و الحق عندي أن نسبة البصر إلى العين نسبة البصيرة إلى القلب و لكل من القلب و العين نور أما نور العين فمنطبع فيها لأنه من عالم الخلق فهو نور جزئي و مدركة في ذلك النور و لكل منهما بل لكل فرد منهما حد ينتهي إليه بحسب شدته و ضعفه و يتدرج في الضعف بحسب تباعد المرئي حتى لا يدركه أو يدركه أصغر مما هو عليه انتهى. أقول و قد مضى تفسير الختم و تأويله في كتاب العدل. لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً قال الزمخشري هو في موضع الحال أي غير عالمين شيئا من حق المنعم الذي خلقكم في البطون و سواكم ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة وَ جَعَلَ لَكُمُ معناه و ركب فيكم هذه الأشياء آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه و اجتلاب العلم و العمل به من شكر المنعم و عبادته و القيام بحقوقه و الترقي إلى ما يسعدكم. و قال النيسابوري اعلم أن جمهور الحكماء زعموا أن الإنسان في مبدإ فطرته خال عن المعارف و العلوم إلا أنه تعالى خلق السمع و البصر و الفؤاد و سائر القوى المدركة حتى ارتسم في خياله بسبب كثرة ورود المحسوسات عليه حقائق تلك الماهيات و حضرت صورها في ذهنه ثم إن مجرد حضور تلك الحقائق إن كان كافيا في جزم الذهن بثبوت بعضها لبعض أو انتفاء بعضها عن بعض فتلك الأحكام علوم بديهية و إن لم يكن

    كذلك بل كانت متوقفة على علوم سابقة عليها و لا محالة تنتهي إلى البديهيات قطعا للدور أو التسلسل فهي علوم كسبية فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس الإنسانية هو أنه تعالى أعطى الحواس و القوى الداركة للصور الجزئية و عندي أن النفس قبل البدن موجودة عالمة بعلوم جمة هي التي ينبغي أن تسمى بالبديهيات و إنما لا يظهر آثارها عليها حتى إذا قوى و ترقى ظهرت آثارها شيئا فشيئا و قد برهنا على هذه المعاني في كتبنا الحكمية فالمراد بقوله لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً أنه لا يظهر أثر العلم عليهم ثم إنه بتوسط الحواس الظاهرة و الباطنة يكتسب سائر العلوم و معنى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أن تصرفوا كل آلة في ما خلق لأجله و ليس الواو للترتيب حتى يلزم من عطف جعل على أخرج أن يكون جعل السمع و البصر و الأفئدة متأخرا عن الإخراج من البطن. وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ قال الرازي لما أشار إلى دلائل الأنفس و الآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بالاختلاف الذي بين ألوان الإنسان فإن واحدا منهم مع كثرة عددهم و صغر حجمهم خدودهم و قدودهم لا تشتبه بغيرهم و الثاني اختلاف كلامهم فإن عربيين هما أخوان إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر حتى أن من يكون محجوبا عنهما لا يبصرهما يقول هنا صوت فلان و فيه حكمة بالغة و ذلك لأن الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره و العدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه و ليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه و ذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور و قد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات و أما اللمس و الشم و الذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو و الصديق فلا يقع بها التمييز و من الناس من قال إن المراد اختلاف اللغات كالعربية و الفارسية و الرومية و غيرها و الأول أصح انتهى. و على الثاني المراد أنه علم كل صنف لغته أو ألهمه وضعها و أقدره عليها.   الأخبار

1-  مجالس الصدوق، عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن إبراهيم بن هاشم عن إسماعيل بن مرار عن يونس بن عبد الرحمن عن يونس بن يعقوب قال كان عند أبي عبد الله الصادق ع جماعة من أصحابه فيهم حمران بن أعين و مؤمن الطاق و هشام بن سالم و الطيار و جماعة من أصحابه فيهم هشام بن الحكم و هو شاب فقال أبو عبد الله ع يا هشام قال لبيك يا ابن رسول الله قال أ لا تحدثني كيف صنعت بعمرو بن عبيد و كيف سألته قال هشام جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أجلك و أستحييك و لا يعمل لساني بين يديك فقال أبو عبد الله ع إذا أمرتكم بشي‏ء فافعلوا قال هشام بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد و جلوسه في مسجد البصرة و عظم ذلك علي فخرجت إليه و دخلت البصرة في يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة و إذا أنا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء متزر بها من صوف و شملة مرتد بها فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت أيها العالم أنا رجل غريب تأذن لي فأسألك عن مسألة قال فقال نعم قال قلت له أ لك عين قال يا بني أي شي‏ء هذا من السؤال فقلت هكذا مسألتي فقال يا بني سل و إن كانت مسألتك حمقاء قلت أجبني فيها قال فقال لي سل قلت أ لك عين قال نعم قلت فما ترى بها قال الألوان و الأشخاص قال قلت فلك أنف قال نعم قلت فما تصنع به قال أتشمم بها الرائحة قال قلت أ لك فم قال نعم قال قلت و ما تصنع به قال أعرف به طعم الأشياء قال قلت أ لك لسان قال نعم قلت و ما تصنع به قال أتكلم به قال قلت أ لك أذن قال نعم قلت و ما تصنع بها قال أسمع بها الأصوات قال قلت   أ لك يد قال نعم قلت و ما تصنع بها قال أبطش بها قال قلت أ لك قلب قال نعم قلت و ما تصنع به قال أميز كل ما ورد على هذه الجوارح قال قلت أ فليس في هذه الجوارح غنى عن القلب قال لا قلت و كيف ذلك و هي صحيحة سليمة قال يا بني إن الجوارح إذا شكت في شي‏ء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته أو لمسته ردته إلى القلب فييقن اليقين و يبطل الشك قال فقلت إنما أقام الله القلب لشك الجوارح قال نعم قال قلت فلا بد من القلب و إلا لم تستقم الجوارح قال نعم قال فقلت يا أبا مروان إن الله تعالى ذكره لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح و ييقن ما شك فيه و يترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم و شكهم و اختلافهم لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم و حيرتهم و يقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك و شكك قال فسكت و لم يقل شيئا قال ثم التفت إلي فقال أنت هشام فقلت لا فقال لي أ جالسته فقلت لا قال فمن أين أنت قلت من أهل الكوفة قال فأنت إذا هو قال ثم ضمني إليه و أقعدني في مجلسه و ما نطق حتى قمت فضحك أبو عبد الله الصادق ع ثم قال يا هشام من علمك هذا قال قلت يا ابن رسول الله جرى على لساني قال يا هشام هذا و الله مكتوب في صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى

2-  العلل، عن محمد بن موسى البرقي عن علي بن محمد ماجيلويه عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن محمد بن سنان عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله ع قال سمعته يقول لرجل اعلم يا فلان إن منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم أ لا ترى أن جميع جوارح الجسد شرط للقلب و تراجمة له مؤدية عنه الأذنان و العينان و الأنف و اليدان و الرجلان و الفرج فإن القلب إذا هم بالنظر فتح الرجل عينيه و إذا هم بالاستماع حرك أذنيه و فتح   مسامعه فسمع و إذا هم القلب بالشم استنشق بأنفه فأدى تلك الرائحة إلى القلب و إذا هم بالنطق تكلم باللسان و إذا هم بالحركة سعت الرجلان و إذا هم بالشهوة تحرك الذكر فهذه كلها مؤدية عن القلب بالتحريك و كذا ينبغي للإمام أن يطاع للأمر منه

 بيان قال في القاموس الشرطة بالضم واحد الشرط كصرد و هم أول كتيبة تشهد الحرب و تتهيأ للموت و طائفة من أعوان الولاة

3-  التوحيد، و الخصال، عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن القاسم بن محمد الأصبهاني عن سليمان بن داود المنقري عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن علي بن الحسين ع في حديث طويل يقول فيه ألا إن للعبد أربع أعين عينان يبصر بهما أمر دينه و دنياه و عينان يبصر بهما أمر آخرته فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح له العينين اللتين في قلبه فأبصر بهما الغيب و أمر آخرته و إذا أراد به غير ذلك ترك القلب بما فيه

 أقول أوردت الأخبار في أحوال القلب و صلاحه و فساده و كذا أحوال النفس و درجاتها في الصلاح و الفساد في أبواب مكارم الأخلاق من كتاب الكفر و الإيمان

4-  المناقب لابن شهرآشوب، مما أجاب الرضا ع بحضرة المأمون لضباع بن نصر الهندي و عمران الصابي عن مسائلهما قال عمران العين نور مركبة أم الروح تبصر الأشياء من منظرها قال ع العين شحمة و هو البياض و السواد و النظر للروح دليله أنك تنظر فيه فترى صورتك في وسطه و الإنسان لا يرى صورته إلا في ماء أو مرآة و ما أشبه ذلك قال ضباع فإذا عميت العين كيف صارت الروح قائمة و النظر ذاهب قال كالشمس طالعة يغشاها الظلام قالا أين تذهب الروح قال أين يذهب الضوء الطالع من الكوة في البيت إذا سدت الكوة قال أوضح لي   ذلك قال الروح مسكنها في الدماغ و شعاعها منبث في الجسد بمنزلة الشمس دارتها في السماء و شعاعها منبسط على الأرض فإذا غابت الدارة فلا شمس و إذا قطعت الرأس فلا روح

 بيان نور مركبة أي مدرك ركب في هذا العضو و هو يدرك المبصرات أم المدرك الروح و هذا منظره و اختار ع الثاني و يدل على أن المدرك النفس و هذه آلاتها كما مر أنه المشهور و يحتمل أن يكون المراد به الروح الحيواني بأن يكون المراد أن المدرك هو الروح الذي في العين لا نفس الضوء فلا ينفي المذهب الآخر كما يومئ إليه قوله الروح مسكنها في الدماغ و هو يدل على أن محل الروح و منشأه الدماغ كما قيل و كان النزاع لفظي و المراد هنا الروح النفساني النازل من الدماغ بتوسط الأعصاب إلى جميع البدن و منشأ الجميع القلب. قال بعض المحققين خلق الله سبحانه بلطيف صنعه جرما حارا لطيفا نورانيا شفافا يسمى بالروح البخاري و جعله مركبا للنفس و قواها و كرسيا لملائكتها حيا بحياتها باقيا بتعلقها به فانيا برحلتها عنه لا كسائر الأجرام التي تزول عنها الحياة و هي باقية و به حياة البدن من الواهب بواسطة النفس فكل موضع يفيض عليه من سلطان نوره يحيا و إلا فيموت و اعتبر بالسدد فلو لا أن قوة الحس و الحركة قائمة بهذا الجسم اللطيف لما كانت السدد يمنعها و قد يخدر العضو بالسدة بحيث لا يتألم بجرح و ضرب و ربما ينقطع فتبطل الحياة منه و لو لا أنه شديد اللطافة لما نفذ في شباك العصب و من أخذ بعض عروقه يحس بجري جسم لطيف حار فيه و تراجعه عنه و هذا هو الروح و منبعه القلب الصنوبري و منه يتوزع على الأعضاء العالية و السافلة من البدن فما يصعد إلى معدن الدماغ على أيدي خوادم الشرايين معتدلا بتبريده فائضا إلى الأعضاء المدركة المتحركة منبثا في جميع البدن يسمى روحا نفسانيا و ما يسفل منه إلى الكبد بأيدي سفراء الأوردة الذي هو مبدأ   القوى النباتية منبثا في أعراق البدن يسمى روحا طبيعيا انتهى. قوله دليله أنك تنظر فيه كأن الغرض التنبيه على أن هذا العضو بنفسه ليس شاعرا لشي‏ء لأنه مثل سائر الأجسام الصقيلة التي يرى فيها الوجه كالماء و المرآة فكما أنها ليست مدركة لما ينطبع فيها فكذا العين و غيرها من المشاعر أو دفع لتوهم كون الانطباع دليلا على كونها شاعرة فيكون سندا للمنع. قوله دارتها أي جرمها المستدير في القاموس الدار المحل يجمع البناء و العرصة كالدارة و بالهاء ما أحاط بالشي‏ء كالدائرة و من الرمل ما استدار منه و هالة القمر و في المصباح الدارة دارة القمر و غيره سميت بذلك لاستدارتها انتهى و الرأس مذكر و تأنيث الفعل كأنه لاشتماله على الأعضاء الكثيرة إن لم يكن من تصحيف النساخ

5-  التوحيد، عن محمد بن موسى بن المتوكل عن علي بن إبراهيم عن محمد بن أبي إسحاق عن عدة من أصحابنا أن عبد الله الديصاني أتى هشام بن الحكم فقال له أ لك رب فقال بلى قال قادر قال بلى قادر قاهر قال يقدر أن يدخل الدنيا كلها في البيضة لا تكبر البيضة و لا تصغر الدنيا فقال هشام النظرة فقال له قد أنظرتك حولا ثم خرج عنه فركب هشام إلى أبي عبد الله ع فاستأذن عليه فأذن له فقال يا ابن رسول الله أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعول فيها إلا على الله و عليك فقال أبو عبد الله ع عما ذا سألك فقال قال لي كيت و كيت فقال أبو عبد الله ع يا هشام كم حواسك قال خمس فقال أيها أصغر فقال الناظر قال و كم قدر الناظر قال مثل العدسة أو أقل منها فقال يا هشام فانظر أمامك و فوقك و أخبرني بما ترى فقال أرى سماء و أرضا و دورا و قصورا و ترابا و جبالا و أنهارا فقال له أبو عبد الله ع إن الذي قدر أن يدخل   الذي تراه العدسة أو أقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة و لا تصغر الدنيا و لا تكبر البيضة فانكب هشام عليه و قبل يديه و رأسه و رجليه و قال حسبي يا ابن رسول الله فانصرف إلى منزله و غدا عليه الديصاني فقال له يا هشام إني جئتك مسلما و لم أجئك متقاضيا للجواب فقال له هشام إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب الخبر

 تبيين أقول في حل هذا الخبر وجوه أوردتها في كتاب التوحيد و على التقادير يدل على أن الإبصار بالانطباع و على بعض الوجوه المتقدمة يحتمل أن يكون إقناعيا مبنيا على المقدمة المشهورة بين الجمهور أن الرؤية بدخول صور المرئيات في العضو البصري فلا ينافي كون الإبصار حقيقة بخروج الشعاع

6-  الإختصاص، قال العالم ع خلق الله عالمين متصلين فعالم علوي و عالم سفلي و ركب العالمين جميعا في ابن آدم و خلقه كريا مدورا فخلق الله رأس ابن آدم كقبة الفلك و شعره كعدد النجوم و عينيه كالشمس و القمر و منخريه كالشمال و الجنوب و أذنيه كالمشرق و المغرب و جعل لمحه كالبرق و كلامه كالرعد و مشيه كسير الكواكب و قعوده كشرفها و غفوه كهبوطها و موته كاحتراقها و خلق في ظهره أربعا و عشرين فقرة كعدد ساعات الليل و النهار و خلق له ثلاثين معى كعدد الهلال ثلاثين يوما و خلق له اثني عشر وصلا كعدد السنة اثني عشر شهرا و خلق له ثلاثمائة و ستين عرقا كعدد السنة ثلاثمائة و ستين يوما و خلق له سبعمائة عصبة و اثني عشر عضوا و هو مقدار ما يقيم الجنين في بطن أمه و عجنه من مياه أربعة فخلق المالح في عينيه فهما لا يذوبان في الحر و لا يجمدان في البرد و خلق المر في أذنيه لكي لا تقربهما الهوام و خلق المني في ظهره لكيلا يعتريه الفساد و خلق   العذب في لسانه ليجد طعم الطعام و الشراب و خلقه بنفس و جسد و روح فروحه التي لا تفارقه إلا بفراق الدنيا و نفسه التي تريه الأحلام و المنامات و جسمه هو الذي يبلى و يرجع إلى التراب

 بيان و غفوه أي نومه و في بعض النسخ فقره و كأنه تصحيف و هو مقدار ما يقيم أي الاثنا عشر فإن أكثر الحمل اثنا عشر شهرا على الأشهر و كأن الروح هو الحيواني و النفس هي الناطقة

7-  تحف العقول، سأل يحيى بن أكثم عن قول علي ع إن الخنثى يورث من المبال و قال فمن ينظر إذا بال إليه مع أنه عسى أن تكون امرأة و قد نظر إليها الرجال أو عسى أن يكون رجلا و قد نظرت إليه النساء و هذا ما لا يحل فأجاب أبو الحسن الثالث ع إن قول علي ع حق و ينظر قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة و تقوم الخنثى خلفهم عريانة فينظرون في المرايا فيرون الشبح فيحكمون عليه

 بيان ظاهره أن الرؤية بالانطباع لا بخروج الشعاع لقوله ع فيرون الشبح و لأنه إذا كان بخروج الشعاع فلا ينفع النظر في المرآة لأن المرئي حينئذ هو الفرج أيضا و يمكن الجواب بوجهين. الأول أن مبنى الأحكام الشرعية الحقائق العرفية و اللغوية لا الدقائق الحكمية و من رأى امرأة في الماء لا يقال لغة و لا عرفا أنه رآها و إنما يقال رأى صورتها و شبحها و النصوص الدالة على تحريم النظر إلى العورة إنما تدل على تحريم الرؤية المتعارفة و شمولها لهذا النوع من الرؤية غير معلوم فيمكن أن يكون كلامه ع مبنيا على ذلك لا على كون الرؤية بالانطباع و يكون قوله فيرون الشبح   مبنيا على ما يحكم به أهل العرف و ذكره لبيان أن مثل تلك الرؤية لا تسمى رؤية حقيقية لا عرفا و لا لغة. و الثاني أنه يحتمل أن يكون الحكم مبنيا على الضرورة و يجوز في حال الضرورة ما لا يجوز في غيرها فيجوز النظر إلى العورة كنظر الطبيب و القابلة و أمثالهما و لما كان هذا النوع من الرؤية أخف شناعة و أقل مفسدة اختاره ع لدفع الضرورة هناك بها فلا يدل على الجواز عند فقد الضرورة و على الانطباع و الأول أظهر و مع ذلك لا يمكن دفع كون ظاهر الخبر الانطباع و سنتكلم في أصل الحكم في موضعه إن شاء الله تعالى

8-  توحيد المفضل، قال الصادق ع فكر يا مفضل في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم و النوم و الجماع و ما دبر فيها فإنه جعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرك يقتضيه و يستحث به فالجوع يقتضي الطعم الذي به حياة البدن و قوامه و الكرى يقتضي النوم الذي فيه راحة البدن و إجمام قواه و الشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل و بقاؤه و لو كان الإنسان إنما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه و لم يجد من طباعه شيئا يضطره إلى ذلك كان خليقا أن يتوانى عنه أحيانا بالتثقل و الكسل حتى ينحل بدنه فيهلك كما يحتاج الواحد إلى الدواء لشي‏ء مما يصلح به بدنه فيدافع به حتى يؤديه ذلك إلى المرض و الموت و كذلك لو كان إنما يصير إلى النوم بالتفكر في حاجته إلى راحة البدن و إجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن ذلك فيدفعه حتى ينهك بدنه و لو كان إنما يتحرك للجماع بالرغبة في الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه حتى يقل النسل أو ينقطع فإن من الناس من لا يرغب في الولد و لا يحفل به فانظر كيف جعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان و صلاحه محرك من نفس الطبع يحركه كذلك و يحدوه عليه   و اعلم أن في الإنسان قوى أربعا قوة جاذبة تقبل الغذاء و تورده على المعدة و قوة ممسكة تحبس الطعام حتى تفعل فيه الطبيعة فعلها و قوة هاضمة و هي التي تطبخه و تستخرج صفوه و تبثه في البدن و قوة دافعة تدفعه و تحدر الثفل الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها ففكر في تقدير هذه القوى الأربع التي في البدن و أفعالها و تقديرها للحاجة إليها و الإرب فيها و ما في ذلك من التدبير و الحكمة و لو لا الجاذبة كيف يتحرك الإنسان لطلب الغذاء التي بها قوام البدن و لو لا الماسكة كيف كان يلبث الطعام في الجوف حتى تهضمه المعدة و لو لا الهاضمة كيف كان ينطبخ منه حتى يخلص منه الصفو الذي يغذو البدن و يسد خلله و لو لا الدافعة كيف كان الثفل الذي تخلفه الهاضمة يندفع و يخرج أولا فأولا أ فلا ترى كيف وكل الله سبحانه بلطيف صنعه و حسن تقديره هذه القوى بالبدن و القيام بما فيه صلاحه و سأمثل في ذلك مثالا إن البدن بمنزلة دار الملك و له فيها حشم و صبية و قوام موكلون بالدار فواحد لإفضاء حوائج الحشم و إيرادها عليهم و آخر لقبض ما يرد و خزنه إلى أن يعالج و يهيأ و آخر لعلاج ذلك و تهيئته و تفريقه و آخر لتنظيف ما في الدار من الأقذار و إخراجه منها فالملك هو الخلاق الحكيم ملك العالمين و الدار هي البدن و الحشم هي الأعضاء و القوام هي هذه القوى الأربع و لعلك ترى ذكرنا هذه القوى الأربع و أفعالها بعد الذي وصفت فضلا و تزدادا و ليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة التي ذكرت في كتب الأطباء و لا قولنا فيه كقولهم لأنهم ذكروها على ما يحتاج إليه في صناعة الطب و تصحيح الأبدان و ذكرناها على ما يحتاج في صلاح الدين و شفاء النفوس من الغي كالذي أوضحته بالوصف الثاني و المثل المضروب من التدبير و الحكمة فيها تأمل يا مفضل هذه القوى التي في النفس و موقعها من الإنسان أعني الفكر و الوهم و العقل و الحفظ و غير ذلك أ فرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال الحفظ وحده

   كيف كانت تكون حاله و كم من خلل كان يدخل عليه في أموره و معاشه و تجاربه إذا لم يحفظ ما له و عليه و ما أخذه و ما أعطى و ما رأى و ما سمع و ما قال و ما قيل له و لم يذكر من أحسن إليه ممن أساءه و ما نفعه مما ضره ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى و لا يحفظ علما و لو درسه عمره و لا يعتقد دينا و لا ينتفع بتجربة و لا يستطيع أن يعتبر شيئا على ما مضى بل كان حقيقا أن ينسلخ من الإنسانية أصلا فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال أو كيف موقع الواحدة منها دون الجميع و أعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان فإنه لو لا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة و لا انقضت له حسرة و لا مات له حقد و لا استمتع بشي‏ء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات و لا رجاء غفلة من سلطان و لا فترة من حاسد أ فلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ و النسيان و هما مختلفان متضادان جعل له في كل منهما ضرب من المصلحة و ما عسى أن يقول الذين قسموا الأشياء بين خالقين متضادين في هذه الأشياء المتضادة المتباينة و قد تراها تجمع على ما فيه الصلاح و المنفعة انظر يا مفضل إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره العظيم غناؤه أعني الحياء فلولاه لم يقر ضيف و لم يوف بالعدات و لم تقض الحوائج و لم يتحر الجميل و لم يتنكب القبيح في شي‏ء من الأشياء حتى أن كثيرا من الأمور المفترضة أيضا إنما يفعل للحياء فإن من الناس لو لا الحياء لم يرع حق والديه و لم يصل ذا رحم و لم يؤد أمانة و لم يعف عن فاحشة أ فلا ترى كيف وفى الإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه و تمام أمره تأمل يا مفضل ما أنعم الله تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا النطق الذي يعبر به عما في ضميره و ما يخطر بقلبه و ينتجه فكره و به يفهم من غيره ما في نفسه و لو لا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشي‏ء و لا تفهم عن مخبر شيئا و كذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين و أخبار الباقين للآتين و بها تخلد الكتب في العلوم و الآداب و غيرها و بها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه و بين غيره من المعاملات و الحساب و لولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة

   عن بعض و أخبار الغائبين عن أوطانهم و درست العلوم و ضاعت الآداب و عظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم و معاملاتهم و ما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم و ما روي لهم مما لا يسعهم جهله و لعلك تظن أنها مما يخلص إليه بالحيلة و الفطنة و ليست مما أعطيه الإنسان من خلقه و طباعه و كذلك الكلام إنما هو شي‏ء يصطلح عليه الناس فيجري بينهم و لهذا صار يختلف في الأمم المختلفة بألسن مختلفة و كذلك الكتابة ككتابة العربي و السرياني و العبراني و الرومي و غيرها من سائر الكتابة التي هي متفرقة في الأمم إنما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام فيقال لمن ادعى ذلك إن الإنسان و إن كان له في الأمرين جميعا فعل أو حيلة فإن الشي‏ء الذي يبلغ به ذلك الفعل و الحيلة عطية و هبة من الله عز و جل له في خلقه فإنه لو لم يكن له لسان مهيأ للكلام و ذهن يهتدي به للأمور لم يكن ليتكلم أبدا و لو لم يكن له كف مهيأة و أصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبدا و اعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها و لا كتابة فأصل ذلك فطرة البارئ جل و عز و ما تفضل به على خلقه فمن شكر أثيب و من كفر فإن الله غني عن العالمين فكر يا مفضل في ما أعطي الإنسان علمه و ما منع فإنه أعطي علم جميع ما فيه صلاح دينه و دنياه فمما فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك و تعالى بالدلائل و الشواهد القائمة في الخلق و معرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافة و بر الوالدين و أداء الأمانة و مواساة أهل الخلة و أشباه ذلك مما قد توجب معرفته و الإقرار و الاعتراف به في الطبع و الفطرة من كل أمة موافقة أو مخالفة و كذلك أعطي علم ما فيه صلاح دنياه كالزراعة و الغراس و استخراج الأرضين و اقتناء الأغنام و الأنعام و استنباط المياه و معرفة العقاقير التي يستشفى بها من ضروب الأسقام و المعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر و ركوب السفن و الغوص في البحر و ضروب الحيل في صيد الوحش و الطير و الحيتان و التصرف في الصناعات و وجوه المتاجر و المكاسب و غير ذلك مما يطول شرحه و يكثر تعداده مما فيه صلاح أمره في هذه الدار فأعطي علم ما يصلح به دينه و دنياه و منع ما سوى ذلك مما ليس فيه

   شأنه و لا طاقته أن يعلم كعلم الغيب و ما هو كائن و بعض ما قد كان أيضا كعلم ما فوق السماء و ما تحت الأرض و ما في لجج البحار و أقطار العالم و ما في قلوب الناس و ما في الأرحام و أشباه هذا مما حجب على الناس علمه و قد ادعت طائفة من الناس هذه الأمور فأبطل دعواهم ما يبين من خطاهم في ما يقضون عليه و يحكمون به في ما ادعوا علمه فانظر كيف أعطي الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه و دنياه و حجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره و نقصه و كلا الأمرين فيها صلاحه تأمل الآن يا مفضل ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته فإنه لو عرف مقدار عمره و كان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع ترقب الموت و توقعه لوقت قد عرفه بل كان يكون بمنزلة من قد فنى ماله أو قارب الفناء فقد استشعر الفقر و الوجل من فناء ماله و خوف الفقر على أن الذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء المال لأن من يقل ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك و من أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس و إن كان طويل العمر ثم عرف ذلك وثق بالبقاء و انهمك في اللذات و المعاصي و عمل على أنه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في آخر عمره و هذا مذهب لا يرضاه الله من عباده و لا يقبله أ لا ترى لو أن عبدا لك عمل على أنه يسخطك سنة و يرضيك يوما أو شهرا لم تقبل ذلك منه و لم يحل عندك محل العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك و نصحك في كل الأمور في كل الأوقات على تصرف الحالات فإن قلت أ و ليس قد يقيم الإنسان على المعصية حينا ثم يتوب فتقبل توبته قلنا إن ذلك شي‏ء يكون من الإنسان لغلبة الشهوات له لو تركه مخالفتها من غير أن يقدرها في نفسه و يبني عليه أمره فيصفح الله عنه و يتفضل عليه بالمغفرة فأما من قدر أمره على أن يعصي ما بدا له ثم يتوب آخر ذلك فإنما يحاول خديعة من لا يخادع بأن يتسلف التلذذ في العاجل و يعد و يمني نفسه التوبة في الآجل و لأنه لا يفي بما يعد من ذلك فإن النزوع من الترفه و التلذذ و معاناة التوبة و لا سيما عند الكبر و ضعف البدن أمر صعب و لا يؤمن على الإنسان مع مدافعته بالتوبة أن   يرهقه الموت فيخرج من الدنيا غير تائب كما قد يكون على الواحد دين إلى أجل و قد يقدر على قضائه فلا يزال يدافع بذلك حتى يحل الأجل و قد نفد المال فيبقى الدين قائما عليه فكان خير الإنسان أن يستر عنه مبلغ عمره فيكون طول عمره يترقب الموت فيترك المعاصي و يؤثر العمل الصالح فإن قلت و ها هو الآن قد ستر عنه مقدار حياته و صار يترقب الموت في كل ساعة يقارف الفواحش و ينتهك المحارم قلنا إن وجه التدبير في هذا الباب هو الذي جرى عليه الأمر فيه فإن كان الإنسان مع ذلك لا يرعوي و لا ينصرف عن المساوي فإنما ذلك من مرحه و من قساوة قلبه لا من خطإ في التدبير كما أن الطبيب قد يصف للمريض ما ينتفع به فإن كان المريض مخالفا لقول الطبيب لا يعمل بما يأمره و لا ينتهي عما ينهاه عنه لم ينتفع بصفته و لم يكن الإساءة في ذلك الطبيب بل للمريض حيث لم يقبل منه و لئن كان الإنسان مع ترقبه للموت كل ساعة لا يمتنع عن المعاصي فإنه لو وثق بطول البقاء كان أحرى بأن يخرج إلى الكبائر القطعية فترقب الموت على كل حال خير له من الثقة بالبقاء ثم إن ترقب الموت و إن كان صنف من الناس يلهون عنه و لا يتعظون به فقد يتعظ به صنف آخر منهم و ينزعون عن المعاصي و يؤثرون العمل الصالح و يجودون بالأموال و العقائل النفسية في الصدقة على الفقراء و المساكين فلم يكن من العدل أن يحرم هؤلاء الانتفاع بهذه الخصلة لتضييع أولئك حظهم منها

تذنيب

 و لنذكر بعض ما ذكره الحكماء في تحقيق القوى البدنية الإنسانية لتوقف فهم الآيات و الأخبار عليها في الجملة و اشتمالها على الحكم الربانية. قالوا الحيوان جسم مركب مختص من بين المركبات بالنفس الحيوانية لكون مزاجه أقرب إلى الاعتدال جدا من النباتات و المعادن فبعد أن يستوفي درجة   الجماد و النبات يقبل صورة أشرف من صورتهما و عرفوا النفس الحيوانية بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات و يتحرك بالإرادة و لها قوتان مدركة و محركة أما المدركة فهي إما في الظاهر أو في الباطن أما التي في الظاهر فهي خمس بحكم الاستقراء و قيل لأن الطبيعة لا تنتقل من درجة الحيوانية إلى درجة فوقها إلا و قد استكملت جميع ما في تلك المرتبة فلو كان في الإمكان حس آخر لكان حاصلا للإنسان فلما لم يحصل علمنا أن الحواس منحصرة في الخمس. فمنها السمع و هو قوة مودعة في العصب المفروش في مقعر الصماخ و يتوقف على وصول الهواء المنضغط بين القارع و المقروع و القالع و المقلوع مع مقاومة المتكيف بكيفية الصوت المعلول لتموج ذلك الهواء إلى الصماخ و ليس مرادهم بوصوله ما هو المتبادر منه بل إن ذلك الهواء بتموجه يموج الهواء المجاور له و يكفيه بالصوت ثم يتموج المجاور لهذا المجاور و هكذا إلى أن يتموج الهواء الراكد في الصماخ و قيل لا ينحصر المتوسط في الهواء بل كل جسم سيال كالماء أيضا. و منها البصر و هو قوة مودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين النابتتين من غور البطنين المقدمين من الدماغ يتيامن النابت منهما يسارا و يتياسر النابت منهما يمينا فيلتقيان و يصير تجويفهما واحدا ثم ينعطف النابت منهما يمينا إلى الحدقة اليمنى و النابت منهما يسارا إلى الحدقة اليسرى و يسمى الملتقى بمجمع النور. و الفلاسفة اختلفوا في كيفية الإبصار فالطبيعيون منهم ذهبوا إلى أنه بانطباع شبح المرئي في جزء من الرطوبة الجليدية التي هي بمنزلة البرد و الجمد في الصقالة المرآتية فإذا قابلها متلون مستنير انطبع مثل صورته فيها كما ينطبع صورة الإنسان في المرآة لا بأن ينفصل من المتلون شي‏ء و يميل إلى العين بل بأن يحدث مثل صورته في عين الناظر و يكون استعداد حصوله بالمقابلة المخصوصة مع توسط الهواء المشف.   و الرياضيون ذهبوا إلى أنه بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط رأسه عند العين و قاعدته عند المرئي ثم اختلفوا في أن ذلك المخروط مصمت أو مؤتلف من خطوط مجتمعة في الجانب الذي يلي الرأس متفرقة في الجانب الذي يلي القاعدة و قال بعضهم بأن الخارج من العين خط واحد مستقيم لكن يثبت طرفه الذي يلي العين و يضطرب طرفه الأخرى على المرئي فيتخيل منه هيئة مخروط. و الإشراقيون قالوا لا شعاع و لا انطباع و إنما الإبصار مقابلة المستنير للعضو الباصر الذي فيه رطوبة صقيلة فإذا وجدت هذه الشروط مع زوال المانع يقع للنفس علم حضوري إشراقي على المبصر فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية لكن المشهور من آراء الفلاسفة الانطباع و الشعاع. تمسك الأولون بوجوه أحدها و هو العمدة أن العين جسم صقيل نوراني و كل جسم كذلك إذا قابله كثيف ملون انطبع فيه شبحه كالمرآة أما الكبرى فظاهر و أما الصغرى فلما نشاهد من النور في الظلمة إذا حك المنتبه من النوم عينه و لأن الإنسان إذا نظر نحو أنفه قد يرى عليه دائرة مثل الضياء و إذا انتبه من النوم قد يبصر ما قرب منه ثم يفقده و ذلك لامتلاء العين من النور و إن غمضنا إحدى العينين اتسع مثقب العين الأخرى فيعلم أنه يملؤه جوهر نوري و لو لا انصباب أجسام نورانية من الدماغ إلى العين لكان تجويف العصبتين عديم الفائدة. و ثانيها أن الإحساس بسائر الحواس ليس لأجل خروج شي‏ء من المحسوس بل لأجل أن يأتيها صورة المحسوس فكذا حكم الإبصار. و ثالثها أن كون رؤية الأشياء الكبيرة من البعيد صغيرة لضيق زاوية الرؤية لا يتأتى إلا مع القول بكون موضع الرؤية هو الزاوية كما هو رأي أصحاب الانطباع لا القاعدة على ما هو رأي القائلين بخروج الشعاع فإنها لا تتفاوت. و رابعها أن من حدق النظر إلى الشمس ثم انصرف عنها يبقى في عينه صورتها زمانا و ذلك يوجب ما قلناه. و خامسها أن الممرورين يرون صورا مخصوصة لا وجود لها في الخارج فإذن

    حصولها في البصر. و أجيب عن الأول بأنه بعد تمامه لا يفيد إلا انطباع الشبح و أما كون الإبصار به فلا و عن الثاني أنه تمثيل بلا جامع و عن الثالث بأن كون العلة ما ذكرتم غير مسلم كيف و أصحاب الشعاع يذكرون له وجها آخر و عن الرابع بأن الصورة غير باقية في الباصرة بل في الخيال و أين أحدهما من الآخر و عن الخامس أنه إنما يدل على إثبات الانطباع في هذا النحو من الرؤية التي هي من قبيل الرؤيا و مشاهدة الأمور الغائبة عن الأبصار بوقوع أشباحها في الخيال و لا يدل على أن الإبصار للموجودات في الخارج بالانطباع و قياس أحدهما على الآخر غير ملتفت إليه في العلوم. و تمسك القائلون بالشعاع أيضا بوجوه أحدها أن من قل شعاع بصره كان إدراكه للقريب أصح من إدراكه للبعيد لتفرق الشعاع في البعيد و من كثر شعاع بصره مع غلظة كان إدراكه للبعيد أصح لأن الحركة في المسافة البعيدة تفيد رقة و صفاء و لو كان الإبصار بالانطباع لما تفاوت الحال. و ثانيها أن الأجهر يبصر بالليل دون النهار لأن شعاع بصره لقلته يتخلل نهارا شعاع الشمس فلا يبصر و يجتمع ليلا فيقوى على الإبصار و الأعمش بالعكس لأن شعاع بصره لغلظه لا يقوى على الإبصار إلا إذا أفادته الشمس رقة و صفاء. و ثالثها أن الإنسان إذا نظر إلى ورقة و رآها كلها لم يظهر له إلا السطر الذي يحدق نحوه البصر و ما ذاك إلا بسبب أن مسقط سهم مخروط الشعاع أصح إدراكا. و رابعها أن الإنسان يرى في الظلمة كأن نورا انفصل عن عينه و أشرق على أنفه و إذا غمض عينه على السراج يرى كأن خطوطا شعاعية اتصلت بين عينيه و السراج. و الجواب عن الكل أنها لا تدل على المطلوب أعني كون الإبصار بخروج الشعاع بل على أن في العين نورا و نحن لا ننكر أن في آلات الإبصار أجساما شعاعية مضيئة تسمى بالروح الباصرة و إن أنكرها محمد بن زكريا زعما أن النور لا يوجد إلا في النار

    و في الكواكب و أما الأجسام الكثيفة و ما في بواطنها فالأولى بها الظلمة و كيف يعقل داخل الدماغ مع تسترها بالحجب جسم نوراني أما ابن سينا فقد اعترف بذلك لأن جالينوس لما احتج ببعض الشبه التي مر ذكرها على خروج الشعاع من العين و أجاب عنه بأن ذلك يدل على وجود الشعاع في العين و لا نزاع فيه لكن قلتم إن ذلك الشعاع يخرج فحينئذ نقول آلة الإبصار جسم نوراني في الجليدية يرتسم منه بين العين و المرئي مخروط وهمي يتعلق إدراك النفس بذلك المرئي من جهة زاويته التي عند الجليدية و تشتد حركته عند رؤية البعيد فيتخلل لطيفها فيفتقر إلى تلطيف إذا غلظ و تكثيف إذا لطف و رق فوق ما ينبغي و يحدث منها في المقابل القابل أشعة و أضواء يكون قوتها في مسقط السهم مما يحاذي مركز العين الذي هو بمنزلة الزاوية للمخروط الوهمي و لشدة استنارته يكون ما يرى منه أظهر و إدراكه أقوى و أكمل و يشبه أن يكون هذا مراد القائلين بخروج الشعاع تجوزا منهم على ما صرح به الشيخ و إلا فهو باطل قطعا أما إذا أريد حقيقة الشعاع الذي هو من قبيل الأعراض فظاهر و إن أريد جسم شعاعي يتحرك من العين إلى المرئي فلأنا قاطعون بأنه يمتنع أن يخرج من العين جسم ينبسط في لحظة على نصف كرة العالم ثم إذا طبق الجفن عاد إليها أو انعدم ثم إذا فتح خرج مثله و هكذا و أن يتحرك الجسم الشعاعي من دون قاسر أو إرادة إلى جميع الجهات و أن ينفذ في الأفلاك و يخرقها ليرى الكواكب و أن لا يتشوش لهبوب الرياح و لا يتصل بغير المقابل كما في الأصوات حيث يميلها الرياح إلى الجهات و لأنه يلزم أن لا يرى القمر مثل الثوابت بل بزمان يناسب التفاوت بينهما و ليس كذلك بل يرى الأفلاك بما فيها من الكواكب دفعة ثم إن للقائلين بالشعاع مذهبا آخر و هو أن المشف الذي بين البصر و المرئي يتكيف بكيفية الشعاع الذي في البصر و يصير بذلك آلة للإبصار و يرد عليه المفاسد المتقدمة مع زيادة. و قال صاحب المقاصد الحق أن الإبصار بمحض خلق الله تعالى عند فتح العين. ثم اعلم أنه يعرض في الرؤية أمور غريبة قد يستدل ببعضها على أحد المذهبين   منها اختلاف الأقدار بسبب تفاوت الأبعاد و السبب فيه على كلا المذهبين اختلاف زاوية مركز الجليدية انفراجا و حدة فإنه إذا قابل المبصر البصر توهمنا خطين مستقيمين واصلين بين مركز الجليدية و طرفي المبصر فيحصل زاوية البتة عند مركز الجليدية فكلما كانت تلك الزاوية أعظم يرى المرئي أصغر و لا يخفى على المتدرب أن قرب المرئي سبب لعظم تلك الزاوية و بعده سبب لصغرها أو بزيادة القرب يزيد عظمها و بزيادة البعد يزيد صغرها فالخطوط التي هي أضلاع الزوايا موجودة عند الرياضيين موهومة عند المشاءين و كل من أصحاب المذهبين جعل هذا مؤيدا لمذهبه و له وجه و إن كان بمذهب المشاءين أنسب. و قال بعض المحققين قد قرر الحكماء عن آخرهم أن تفاوت أقدار المبصرات بتفاوت أقدار الزاوية المذكورة و يتبع تفاوت إحداهما تفاوت الأخرى على نسبتها من غير انثلام في اتساق النسبة و بنوا عليه علم المناظر و غيره من معظمات المسائل و فيه شبهة و هو أنا إذا قربنا جسما صغيرا طوله مثل طول البصر أو أزيد بقليل كالإصبع من البصر بحيث يصل إلى رءوس شعر الجفن فيرى بزاوية عظيمة جدا و يحجب الجبل العظيم جدا فزاويته أعظم من زاوية الجبل فيجب أن يرى أعظم مع أن الأمر بخلافه ضرورة و الجواب أنه في الرؤية أعظم إلا أنه يعلم بحكم العقل أنه صغير جدا و رئي عظيما بسبب كمال قربه انتهى. و منها رؤية المرئيات في المرايا و الأجسام الصقيلة و اختلف في سببه و تفرق آراؤهم إلى مذاهب أربعة الأول مذهب أصحاب الشعاع حيث ذهبوا إلى أنه بانعكاس الخطوط الشعاعية و تفصيله أنا نعلم تجربة أن الشعاع ينعكس من الجسم الصقيل كما ينعكس شعاع الشمس من الماء إلى الجدار و من المرآة إلى مقابلها فإذا وقع شعاع البصر على المرآة مثلا ينعكس منها إلى جسم آخر وضعه من المرآة وضع المرآة من البصر على وجه تتساوى زاويتا الشعاع و الانعكاس فإذا قابلت المرآة وجه المبصر و كان سهم المخروط الشعاعي عمودا على سطح المرآة وجب انعكاس ذلك الخط العمود من سمته بعينه إلى مركز الجليدية إذ لو انعكس إلى غيره لزم تساوي زاوية قائمة مع زاوية

    حادة و انعكست الخطوط القريبة منه إلى باقي أجزاء الوجه فيرى الوجه و إذا كانت المرآة غير مقابلة للبصر على الوجه المذكور لم ينعكس الشعاع إليه بل إلى جسم آخر من شأنه أن تتساوى به الزاويتان المذكورتان فالمرئي في المرآة إنما هو الأمر الخارجي لكن لما رئي بالشعاع الذي رئي به المرآة يظن أنه في المرآة و ليس موجودا في المرآة و إذا كان الوجه قريبا من المرآة و الخطوط المنعكسة قصيرة يظن أن صورة المرئي قريبة من سطح المرآة و إذا كان الوجه بعيدا عنها و الخطوط المنعكسة طويلة يظن الصورة غائرة فيها و أورد عليه وجوه من الإيراد المذكورة في محالها. الثاني مذهب أصحاب الانطباع و توضيحه أنه كما أن القوة الباصرة بحيث إذا قابلت جسما ملونا مضيئا ارتسمت صورته فيها فكذلك هي بحيث إذا قابلت جسما صقيلا ارتسمت صورتها في الباصرة مع صورة مقابل ذلك الجسم الصقيل و ترتسم في جزء ارتسمت فيه صورة المرآة و شرط الانعكاس عندهم أيضا ما مر من كون الجسم المقابل من المرآة مثل مقابلة المرآة للمبصر بحيث تتساوى زاويتا الشعاع و الانعكاس من الخطوط الشعاعية الموهومة المفروضة المستقيمة. الثالث مذهب سخيف ضعيف و هو أن الصورة ينطبع في المرآة. الرابع مذهب أفلاطون و من سبقه و تبعه من الإشراقيين حيث أثبتوا عالما آخر سوى هذا العالم الجسماني الذي هو المحدد للجهات مع ما فيه من الأجرام الفلكية و الأجسام العنصرية و هو عالم متوسط بينه و بين عالم المجردات العقلية الصرفة المنزهة عن المقدار و الحيز و الجهة و الشكل فإن أشخاص هذا العالم صور مثالية و أشباح برزخية مجردة عن الطبائع و المواد نورانية يسمى ذلك العالم عالم المثال و قالوا إن الصور المرئية في المرايا و غيرها من الأجسام الصقيلة و الصور المتخيلة و أمثالها صور موجودة قائمة بنفسها إذ لو كانت الصور في المرآة لما اختلفت رؤية الشي‏ء باختلاف مواضع نظرنا إليها و لو كانت في الهواء لم يمكن أن ترى لأن الهواء شفاف لم يمكن أن يرى و كذا ما حل فيه و ليست هي صورتك بعينها بأن ينعكس الشعاع من المرآة إليك لبطلان القول بالشعاع لوجوه مذكورة في كتب   القوم و لا في القوة الباصرة أو غيرها من القوى البدنية لوجوه ذكروها فهي صور جسمانية موجودة في عالم آخر متوسط بين عالمي الحس و العقل يسمى بعالم المثال و هي قائمة بذاتها معلقة لا في محل و لا في مكان لها مظاهر كالمرآة في الصور المرئية المرآتية و الخيال في الصور الخيالية و وافقهم الصوفية في إثبات هذا العالم و قد مرت الإشارة إليه. قال القيصري في شرح الفصوص اعلم أن العالم المثالي هو عالم روحاني من جوهر نوراني شبيه بالجوهر الجسماني في كونه محسوسا مقداريا و بالجوهر المجرد العقلي في كونه نورانيا و ليس بجسم مركب مادي و لا جوهر مجرد عقلي لأنه برزخ و حد فاصل بينهما و كل ما هو برزخ بين الشيئين لا بد و أن يكون غيرهما بل له جهتان يشبه بكل منهما ما يناسب عالمه اللهم إلا أن يقال أنه جسم نوري في غاية ما يمكن من اللطافة فيكون حدا فاصلا بين الجواهر المجردة اللطيفة و بين الجواهر الجسمانية الكثيفة و إن كان بعض هذه الأجسام ألطف من البعض كالسماوات بالنسبة إلى غيرهما انتهى. و منها رؤية الشي‏ء شيئين كما في الأحول و في من مد طرف عينه أو غمض إصبعه في طرف من العين فإنه يرى كل شي‏ء اثنين و اختلفت الآراء في تعليله و لنذكر منها مذهبين الأول مذهب أصحاب الشعاع فإنهم يقولون إنه يخرج من كل عين مخروط شعاعي له سهم فإن وقع السهمان على موضع واحد من المرئي يرى شيئا واحدا و إن اختلف موقعاهما يرى اثنين الثاني مذهب أصحاب الانطباع و مداره على مقدمة و هي أن القوة البصرية قائمة بالروح الحيواني المصبوب في العصبتين المجوفتين النابتتين من مقدم الدماغ المتقاطعتين و عند التقاطع يتحد التجويفان و هناك مجمع النور فإذا قابل البصر المبصر انطبعت صورته في الجليديتين و لا يكفي ذلك في الإبصار و إلا لرئي الشي‏ء الواحد شيئين بل يحب أن تتأدى صورة أخرى مثل تلك الصورة إلى مجمع النور فتحصل الإبصار ثم إن هذا الروح الذي في مجمع النور يؤدي صورة المرئي إلى الحس المشترك و هناك يتم كمال الإبصار

    ثم بعده هذه المقدمة نقول إن لإدراك الشي‏ء الواحد اثنين أربعة أسباب الأول انتقال الآلة المؤدية للشبح الذي في الجليدية إلى ملتقى العصبتين فلا يتأدى الشبحان إلى موضع واحد بل ينتهي كل إلى جزء آخر من الروح الباصرة لأن خطي الشبحين لم ينفذا نفوذا من شأنه أن يتقاطعا عند ملتقى العصبتين و إذا اختص كل بجزء آخر من الروح الباصرة فكأنهما شبحان لشيئين و لأنه يختلف موضع الشبح في الروح الباصرة يرى الاثنين في الاثنين. الثاني حركة الروح الباصرة التي في الملتقى و تموجها يمينا و يسارا حتى يتقدم مركزها المرسوم له في الطبع إلى جهتي الجليديتين أخذا متموجا مضطربا فيرتسم فيه الشبح قبل تقاطع المخروطين فينطبع من الشي‏ء الواحد شبحان و يرى كشيئين مفترقين و هذا مثل ارتسام شبح الشمس في الماء الساكن الراكد مرة واحدة و في الماء المتوج متكررا. الثالث اضطراب روح الباصرة التي في مقدم الدماغ و حركته قداما إلى صوب ملتقى العصبتين و خلفا إلى الحس المشترك فإذا نظر في تلك الحالة إلى المرئي انطبع شبحه في جزء من الروح الحاصل في مركزه الذي له وضع مخصوص بالقياس إلى ذلك المرئي فإذا تحرك ذلك الجزء و وقع جزء آخر في موضعه فلا جرم انطبع شبحه في ذلك الجزء أيضا و لم يزل بعد عن الجزء الأول فتجتمع هناك صورتان و يرى شيئان و لمثل هذا السبب يرى الشي‏ء السريع الحركة إلى جانبين كشيئين لأنه قبل انمحاء صورته عن الحس المشترك و هو في جانب يراه البصر في جانب آخر فتتوافى إدراكاته في الجانبين معا و من هذا القبيل رؤية القطرة النازلة خطا مستقيما و الشعلة الجوالة دائرة و نظير الحركة الدورية لصاحب الدوار فإنه لسبب من الأسباب الطبية يتحرك الروح الذي في تجويف مقدم الدماغ على الدور فحينئذ إن انطبعت فيه صورة تزول بسرعة لتحركه كزوال الضوء عن أجزاء الكرة المقابلة   للكوة التي تشرق منها الشمس على الكرة إذا دارت الكرة لكن قبل زوالها عن ذلك الجزء تحصل صورة في الجزء الذي حصل مكانه فيظن أن المرئي يدور حول نفسه و ما ذلك إلا لحركة الرائي. الرابع اضطراب يعرض للثقبة العنبية فإن الطبقة العنبية سهلة الحركة إلى هيئة تتسع بها الثقبة تارة و تضيق أخرى تارة إلى خارج و تارة إلى داخل فإن تحرك إلى خارج يعرض للثقبة اتساع و إن تحرك إلى داخل يعرض لها تضيق فإن ضاقت يرى الشي‏ء أكبر و إن اتسعت يرى أصغر فيرى المرئي أولا غير المرئي ثانيا خصوصا إذا تمثلت قبل انمحاء الأول فيرى اثنين و في حال ضيق الثقبة يتكاثف الروح البصري و النور الشعاعي فيرى أكبر كما يرى الشي‏ء في البخار أعظم و في حال السعة يتلطف الروح و يتخلخل و يرق فيرى أصغر. و منها انعطاف الشعاع و بيان ذلك أن الخطوط الشعاعية التي هي على سطح المخروط تنفذ على الاستقامة إلى طرفي المرئي إذا كان الشفاف المتوسط متشابه الغلظ و الرقة فإن فرض هناك تفاوت بأن يكون مما يلي الرائي هواء و مما يلي المرئي ماء أو بخارا فإن تلك الخطوط إذا وصلت إلى ذلك الماء مثلا انعطفت و مالت إلى سهم المخروط ثم وصلت إلى طرفي المرئي و لو انعكس الفرض مالت الخطوط إلى خلاف جانب السهم و من لوازم الانعطاف رؤية الشي‏ء في الماء و البخار أعظم مما يرى في الهواء فإن العنبة ترى في الماء كالإجاصة و الكوكب يرى في الأفق أعظم مما يرى في وسط السماء و ذلك لأن الخطوط إذا انعطفت و مالت إلى جانب السهم تكون زاوية رأس المخروط أعظم منها إذا نفذت الخطوط على الاستقامة لأنه يجب أن تتباعد الخطوط بحيث إذا انعطفت و مالت إلى السهم وصلت إلى طرفي المرئي فيكون المرئي بها أعظم من المرئي بالأخرى. و منها رؤية الشجر على الشط منتكسا و ذلك لأن الخطوط الشعاعية المنعكسة من سطح الماء إلى الشجر إنما تنعكس إليه على هيئة أوتار الآلة الحدباء المسماة بالفارسية چنگ فإذا كان الشجر على الطرف الآخر من الماء انعكس الشعاع

    إلى رأس الشجر من موضع أقرب من الرائي و إلى ما تحت رأسه من موضع أبعد منه و هكذا و إذا كان الشجر على طرف الرائي كان الأمر في الانعكاس على عكس ما ذكر أ لا ترى أنك إذا سترت سطح الماء من جانبك يستر عنك رأس الشجر في الصورة الأولى و قاعدتها في الصورة الثانية فيكون الخط الشعاعي المنعكس إلى رأس الشجر أطول من جميع تلك الخطوط المنعكسة إلى ما دونه و يكون ما هو أقرب منه أطول مما هو أبعد منه على الترتيب حتى يكون أقصرها هو المنعكس إلى قاعدة الشجرة و ذلك لتساوي زاويتي الشعاع و الانعكاس. و لنفرض خط ا ب عرض النهر و خط ج ب الشجر القائم على شطه و ه الحدقة و نفرض على ا ب نقطتي د و و على ج ب ح و ط فإذا خرج من ه خط شعاعي إلى و و آخر إلى د وجب أن ينعكس الأول إلى نقطة ط مثلا فتكون الزاوية الشعاعية أعني زاوية ه و ا كالزاوية الانعكاسية أعني زاوية ط و ب و أن ينعكس الآخر إلى نقطة ح و تتساوى أيضا شعاعية ه د ا و انعكاسية ح د ب. ثم إن النفس لا تدرك الانعكاس لتعودها في رؤية المرئيات بنفوذ الشعاع على الاستقامة فتحسب الشعاع المنعكس نافذا في الماء و لا نفوذ حينئذ هناك إذ ربما لا يكون الماء عميقا بقدر طول الشجر فيحسب لذلك أن رأس الشجر أكثر نزولا في الماء لكون الشعاع المنعكس إليه أطول و كذا الحال في باقي الأجزاء على الترتيب فتراه كأنه منتكس تحت سطح الماء. و منها الشامة و هي قوة منبثة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي تدرك الروائح بتوسط الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة و قيل بتبخر أجزاء   لطيفة من ذي الرائحة تختلط بالهواء و تصل معه إلى الخيشوم و قيل بفعل ذي الرائحة في الشامة من غير استحالة في الهواء و لا تبخر و انفصال أجزاء و رد الثاني بأن القليل من المسك يشم على طول الأزمنة و كثرة الأمكنة من غير نقصان في وزنه و حجمه و الثالث بأن المسك قد يذهب به إلى مسافة بعيدة و يحرق و يفنى بالكلية مع أن رائحته تدرك في الهواء الأول أزمنة متطاولة و يؤيد ذلك ما حكى أرسطو أن الرخمة قد انتقلت من مسافة مائتي فرسخ برائحة جيفة من حرب وقع بين اليونانيين و دلهم على انتقالها من تلك المسافة عدم كون الرخمة في تلك الأرض إلا في نحو من هذا الحد من المسافة و قد يقال لعل المتحلل منه أجزاء صغار جدا تختلط بجميع تلك الأجزاء الهوائية و الاستبعاد غير كاف في المباحث العلمية على أن الشيخ اعترض عليه في الشفاء بقوله يجوز أن يكون إدراكها للجيف بالباصرة حين هي محلقة في الجو العالي. و منها الذائقة و هي قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان و هي تالية للامسة إذ منفعتها أيضا في الفعل الذي به يتقوم البدن و هي تشهية الغذاء و اختياره و بالجملة يتمكن به على جذب الملائم و دفع المنافر من المطعومات كما أن اللامسة يتمكن بها على مثل ذلك من الملموسات و هي توافق اللامسة في الاحتياج إلى الملامسة و تفارقها في أن نفس ملامسة المطعوم لا يؤدي الطعم كما أن نفس ملامسة الحار تؤدي الحرارة بل تفتقر إلى توسط الرطوبة اللعابية المنبعثة عن الآلة التي تسمى الملعبة و يشترط أن تكون هذه الرطوبة خالية عن مثل طعم المطعوم و ضده بل عن غير ما يؤدي طعم المذوق كما هو إلى الذائقة فإن المريض إذا تكيف لعابه بطعم الخلط الغالب عليه لا يدرك طعوم الأشياء المأكولة و المشروبة إلا مشوبة بذلك الطعوم فإن الممرور إنما يجد طعم العسل مرا. و اختلفوا في أن توسطها إما بأن يخالطها أجزاء لطيفة من ذي الطعم ثم تغوص هذه الرطوبة معها في جرم اللسان إلى الذائقة فالمحسوس حينئذ هو كيفية ذي الطعم

    و تكون الرطوبة واسطة لتسهل وصول جوهر المحسوس الحامل للكيفية إلى الحاسة أو بأن يتكيف نفس الرطوبة بالطعم بسبب المجاورة فتغوص وحدها فيكون المحسوس كيفيتها و على التقديرين لا واسطة بين الذائقة و محسوسها حقيقة بخلاف الإبصار المحتاج إلى توسط الجسم الشفاف و منها اللامسة و هي منبثة في البدن كله من شأنها إدراك الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة و نحو ذلك بأن ينفعل عنها العضو اللامس عند الملامسة بحكم الاستقراء قال الشيخ أول الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس فإنه كما أن للنبات قوة غاذية يجوز أن يفقد سائر القوى دونها كذلك حال اللامسة للحيوان لأن صلاح مزاجه من الكيفيات الملموسة و فساده باختلالها و الحس طليعة للنفس فيجب أن يكون الطليعة الأولى هو ما يدل على ما منع به الفساد و يحفظ به الصلاح و أن يكون قبل الطلائع التي تدل على أمور تتعلق ببعضها منفعة خارجة عن القوام و مضرة خارجة عن الفساد و الذوق و إن كان دالا على الشي‏ء الذي به يستبقى الحياة من المطعومات فقد يجوز أن يبقى الحيوان بدونه لإرشاد الحواس الأخر على الغذاء الموافق و اجتناب المضار و ليس شي‏ء منها يعين على أن الهواء محرق أو مجمد و لشدة الاحتياج إليه كان بمعونة الأعصاب ساريا في جميع الأعضاء إلا ما يكون عدم الحس أنفع له كالكبد و الطحال و الكلية لئلا تتأذى بما يلاقيها من الحاد اللذاع فإن الكبد مولد للصفراء و السوداء و الطحال و الكلية مصبان لما فيه لذع و كالرئة فإنها دائمة الحركة فتتألم باصطكاك بعضها ببعض و كالعظام فإنها أساس البدن و دعامة الحركات فلو أحست لتألمت بالضغط و المزاحمة و بما يرد عليها من المصاكات. ثم إن الجمهور ذهبوا إلى أن اللامسة قوة واحدة بها يدرك جميع الملموسات كسائر الحواس فإن اختلاف المدركات لا يوجب اختلاف الإدراكات ليستدل بذلك على تعدد مبادئها و ذهب كثير من المحققين و منهم الشيخ إلى أنها قوى متعددة بناء على ما مهدوه في تكثير القوى من أن القوة الواحدة لا يصدر عنها أكثر من واحد   فقالوا هاهنا ملموسات مختلفة الأجناس متضادة الأجناس فلا بد لها من قوى مدركة مختلفة تحكم بالتضاد بينها فأثبتوا لكل ضدين منها قوة واحدة هي الحاكمة بين الحرارة و البرودة و الحاكمة بين الرطوبة و اليبوسة و الحاكمة بين الخشونة و الملاسة و الحاكمة بين اللين و الصلابة و منهم من زاد الحاكمة بين الثقل و الخفة قالوا و يجوز أن يكون لهذه القوى بأسرها آلة واحدة مشتركة بينها و أن يكون هناك في الآلات انقسام غير محسوس فلذا توهم اتحاد القوى. و يرد عليه أن المدرك بالحس هو المتضادان كالحرارة و البرودة دون التضاد فإنه من المعاني المدركة بالعقل أو الوهم و إذا جاز إدراك قوة واحدة للضدين فقد صدر عنها اثنان فلم لا يجوز أن يصدر عنها ما هو أكثر من ذلك و أيضا فإن الطعوم و الروائح و الألوان أجناس مختلفة متضادة مع اتحاد القوى المدركة لها و كون التضاد في ما بين الملموسات أكثر و أقوى لا يجدي نفعا. و أما الحواس الباطنة فهي أيضا خمس عندهم بشهادة الاستقراء. الأول الحس المشترك و يسمى باليونانية بنطاسيا أي لوح النفس و هي قوة مرتبة في مقدم التجويف الأول من التجاويف الثلاثة التي في الدماغ تقبل جميع الصور المنطبعة في الحواس الظاهرة بالتأدي إليها من طريق الحواس فهو كحوض ينصب فيه أنهار خمسة و استدلوا على وجوده بوجوه. الأول أنا نشاهد القطرة النازلة خطا مستقيما و النقطة الدائرة بسرعة خطا مستديرا و ليس ارتسامها في البصر إذ لا يرتسم فيه إلا المقابل و هو القطرة و النقطة فإذن ارتسامها إنما يكون في قوة أخرى غير البصر حصل فيها الارتسامات المتتالية بعضها ببعض فيشاهد خطا. الثاني أنا نحكم ببعض المحسوسات الظاهرة على بعض كالحكم بأن هذا الأبيض هو هذا الحلو و هذا الأصفر هو هذا الحار و كل من الحواس الظاهرة

    لا يحضر عندها إلا نوع مدركاتها فلا بد من قوة يحضر عندها جميع الأنواع ليصح الحكم بينها. الثالث أن المبرسم أي من به المرض المسمى بذات الجنب إذا قوي مرضه و تعطلت حواسه الظاهرة بغلبة المرض يرى أشياء لا تحقق لها في الخارج على سبيل المشاهدة دون التخيل فإنه قد يرى سباعا و أشخاصا حاضرة عنده و لا يراها أحد ممن سلم حواسه و ليست هذه الصور مرتسمة في بصره إذ لا يرتسم فيه إلا ما هو موجود مقابل إياه و لما كان إدراكها كإدراك ما يرتسم من الخارج بلا فرق عند المدرك دل ذلك أيضا على أن الإبصار إنما هو بالحس المشترك و لما كان الإبصار بارتسام الصورة في الحس المشترك لم يتميز الحال عند المدرك بين أن يرد عليه الصورة من الخارج كما هو الغالب و بين أن ترد عليه من داخل كما في المبرسم فإنه لما اشتغل نفسه بمزاولة المرض بحيث تعطلت حواسه الظاهرة استولت المتخيلة و نقشت في لوح الحس المشترك صورا كانت مخزونة في الخيال و صورا ركبتها من الصور المخزونة على طريق انتقاشها فيه من الخارج و لما لم يكن لها شعور بانتقاشها فيه من داخل لم يفرق بينها و بين الصور المنتقشة فيه من خارج فيحسب الأشياء التي هذه صورها موجودة في الخارج حاضرة عنده كما في الصحة بلا فرق. و اعترض على الأول بأنه يجوز أن يكون اتصال الارتسام في الباصرة بأن يرتسم المقابل الآخر قبل أن يزول المرتسم قبله بسرعة لحوق الثاني و قوة ارتسام الأول فيكونان معا قيل و هذا مكابرة للقطع بأنه لا ارتسام في البصر عند زوال المقابلة. و على الثاني بأنه لا يلزم من عدم كون الارتسام في الباصرة كونه في قوة أخرى جسمانية لجواز أن يكون في النفس أ لا ترى أنا نحكم بالكلي على الجزئي كحكمنا بأن زيدا إنسان مع القطع بأن مدرك الكلي هو النفس و يجوز أن يكون حضورهما عند النفس و حكمها بينهما لارتسامهما في آلتين كما أن الحكم بين الكلي و الجزئي تكون لارتسام الكلي في النفس و الجزئي في الآلة.   و على الثالث أنه لا يلزم من ذلك وجود حس مشترك غاية الأمر أن لا تكفي الحواس الظاهرة لمشاهدة الصور حالتي الغيبة و الحضور بل يكون لكل حس ظاهر حس باطن. الثاني الخيال و هي قوة مرتبة في مؤخر التجويف الأول من الدماغ بحسب المشهور و عند المحققين الروح المصوب في التجويف الأول آلة للحس المشترك و الخيال إلا أن المشاهدة اختص بما في مقدمه و التخيل بما في مؤخره و هو يحفظ جميع صور المحسوسات و يمثلها بعد الغيبة عن الحواس المختصة و الحس المشترك و هي خزانة الحس المشترك لبقاء الصور المحسوسة فيها بعد زوالها عنه و إنما جعلت خزانة للحس المشترك مع أن مدركات جميع الحواس الظاهرة تختزن فيها لأن الحواس الظاهرة لا تدرك شيئا بسبب الاختزان بالخيال بل بإحساس جديد من خارج فيفوت معنى الخزانة بالقياس إليها بخلاف الحس المشترك فإنا إذا شاهدنا صورة في اليقظة أو النوم ثم ذهلنا عنها ثم شاهدناها مرة أخرى نحكم عليها بأنها هي التي شاهدناها قبل ذلك فلو لم تكن الصور محفوظة لم يكن هذا الحكم كما لو صارت منسية و إنما احتيج إلى الحفظ لئلا يختل نظام العالم و لا يشتبه الضار بالنافع إذا لم يعلم أنه المبصر أو لا و ينفسد المعاملات و غيرها. و الدليل على مغايرتها للحس المشترك وجهان أحدهما أن قوة القبول غير قوة الحفظ فرب قابل النقش كالماء لم يحفظ لوجود رطوبة فيه هي شرط سرعة القبول و عدم اليبس الذي هو شرط الحفظ و ثانيهما أن استحضار الصور و الذهول عنها من غير نسيان و النسيان يوجب تغاير القوتين ليكون الاستحضار حصول الصورة فيهما و الذهول حصولها في أحدهما دون الأخرى و النسيان زوالها عنهما و اعترض عليهما بوجوه و أجابوا منها و هي مذكورة في محالها. و احتج الرازي على إبطال الخيال بأن من طاف في العالم و رأى البلاد و الأشخاص الغير المعدودة فلو انطبقت صورها في الروح الدماغي فإما أن يحصل جميع تلك الصور في محل واحد فيلزم الاختلاط و عدم التمايز و إما أن يكون لكل صورة

    محل فيلزم ارتسام صورة في غاية العظم في جزء في غاية الصغر. و أجيب بأنه قياس للصور على الأعيان و هو باطل فإنه لا استحالة و لا استبعاد في توارد الصور على محل واحد مع تمايزها و لا في ارتسام صورة العظيم في المحل الصغير و إنما ذلك في الأعيان الحالة في محالها حلول العرض في الموضوع أو الجسم في المكان الثالث الوهم و هي القوة المدركة للمعاني الجزئية الموجودة في المحسوسات كالعداوة المعينة من زيد و قيد بذلك لأن مدرك العداوة الكلية هو النفس و المراد بالمعاني ما لا يدرك بالحواس الظاهرة فيقابل الصور أعني ما يدرك بها فإدراك تلك المعاني دليل على وجود قوة بها إدراكها و كونها مما لم يتأد من الحواس دليل على مغايرتها للحس المشترك و كونها جزئية دليل على مغايرتها للنفس الناطقة بناء على أنها لا تدرك الجزئيات بالذات هذا مع وجودها في الحيوانات العجم كإدراك الشاة معنى في الذئب بقي الكلام في أن القوة الواحدة لما جاز أن تكون آلة لإدراك أنواع المحسوسات لم لا يجوز أن تكون آلة لإدراك معانيها أيضا. و أما إثبات ذلك بأنهم جعلوا من أحكام الوهم ما إذا رأينا شيئا أصفر فحكمنا بأنه عسل و حلو فيكون الوهم مدركا للحلاوة و الصفرة و العسل جميعا ليصح الحكم و بأن مدرك عداوة الشخص مدرك له ضرورة فضعيف لأن الحاكم حقيقة هو النفس فيكون المجموع من الصور و المعاني حاضرا عندها بواسطة الآلات كل منها بآلتها الخاصة و لا يلزم كون محل الصور و المعاني قوة واحدة لكن يشكل بأن مثل هذا الحكم قد يكون للحيوانات العجم التي لا يعلم وجود النفس الناطقة لها كذا ذكره في شرح المقاصد. و قد يستدل على وجودها بأن في الإنسان شيئا ينازع عقله في قضاياه كما يخاف الانفراد بميت يقتضي عقله الأمن منه و ربما يغلب التخويف على التأمين فهو قوة باطنية غير عقله و قيل محل هذه القوة التجويف الأوسط من الدماغ و آلتها الدماغ كله لأنها الرئيس المطلق في الحيوان و مستخدمة سائر القوى   الحيوانية التي مصدر أكثر أفاعيلها الروح الدماغي فيكون كل الدماغ آلة لكن الأخص بها التجويف الأوسط لاستخدامها المتخيلة و محلها مؤخر ذلك التجويف و لا يستلزم كون الشي‏ء آلة القوة كونه محلا لها ليلزم توارد القوى على محل واحد كما توهم. الرابع الحافظة و هي للوهم كالخيال للحس المشترك و وجه تغايرهما أن قوة القبول غير قوة الحفظ و الحافظة للمعاني غير الحافظة للصور و الكلام فيه كالكلام في ما تقدم و يسميها قوم ذاكرة إذ بها الذكر أعني ملاحظة المحفوظ بعد الذهول و متذكرة إذ بها التذكر أي الاحتيال لاستعراض الصور بعد ما اندرست و محلها أول التجويف الآخر من الدماغ. و الخامس المتخيلة المركبة للصور المحسوسة و المعاني الجزئية المتعلقة بها بعضها مع بعض و المفصلة بعضها عن بعض تركيب الصورة بالصورة كما في قولك صاحب هذا اللون المخصوص له هذا الطعم المخصوص و تركيب المعنى بالمعنى كما في قولك ما له هذه العداوة له هذه النفرة و تركيب الصورة بالمعنى كما في قولك صاحب هذه الصداقة له هذا اللون و تفصيل الصورة عن الصورة كما في قولك هذا اللون ليس هذا الطعم و قس على هذا و قال بعضهم هي مرتبة في مقدم التجويف الأوسط من الدماغ من شأنها تركيب بعض ما في الخيال أو الحافظة من الصور و المعاني مع بعض و تفصيل بعضها عن بعض فتجمع أجزاء أنواع مختلفة كجعلها حيوانا من رأس إنسان و عنق جمل و ظهر نمر و يفرق أجزاء نوع واحد كإنسان بلا رأس و لا يسكن عن فعلها دائما لا نوما و لا يقظة و هي المحاكية للمدركات و الهيئات المزاجية و تنتقل إلى الضد و الشبيه فما في القوى الباطنة أشد شيطنة منها ليس من شأنها أن يكون عملها منتظما بل النفس هي التي تستعملها على أي نظام أرادت فتسمى عند استعمال النفس إياها بواسطة الوهم بالمتخيلة و عند استعمالها إياها بواسطة القوة   العقلية بالمفكرة بها تستنبط العلوم و الصناعات و تقتنص الحدود الوسطى باستعراض ما في الحافظة.

خاتمة

 قال بعض المحققين قد علم بالتشريح أن للدماغ بطونا ثلاثة أعظمها البطن المقدم و أصغرها البطن الأوسط و هو كمنفذ من البطن المقدم إلى البطن المؤخر فآلة الحس المشترك هو الروح المصبوب في مقدم البطن المقدم و آلة الخيال هو الروح المصبوب في مؤخره و لما كان الوهم سلطان القوى الحسية و مستخدما لسائر القوى الحيوانية كان الدماغ كله آلة له و إن كان له اختصاص بآخر التجويف الأوسط و آلة المتصرفة مقدم التجويف الأوسط و آلة الحافظة مقدم التجويف الأخير و أما مؤخر هذا التجويف فلم يودع فيه شي‏ء من هذه القوى إذ لا حارس هناك من الحواس الظاهرة فلو أودع فيه شي‏ء من هذه القوى لكثر فيه المصادمات الموجبة لاختلال القوة. قال المحقق الشريف فانظر إلى حكمة البارئ حيث قدم ما يدرك به الصور الجزئية و وضع تحته ما يحفظها و أخر ما يدرك به المعاني المنتزعة من تلك الصور و قرنه بما يحفظها و أقعد المتصرف فيهما بينهما فسبحانه جلت قدرته و عظمت حكمته انتهى. و هو إشارة إلى ما قيل في تعيين محال تلك القوى بطريق الحكمة و الغاية من أن الحس المشترك ينبغي أن يكون في مقدم الدماغ ليكون قريبا من الحواس الظاهرة فيكون التأدي إليه سهلا و الخيال خلفه لأن خزانة الشي‏ء ينبغي أن يكون كذلك ثم ينبغي أن يكون الوهم بقرب الخيال ليكون الصور الجزئية بحذاء معانيها الجزئية و الحافظة بعده لأنها خزانته و المتخيلة في الوسط لتكون قريبة من الصور و المعاني فيمكنها الأخذ منهما بسهولة. و أما القوى المحركة فعندهم تنقسم إلى فاعلة و باعثة أما الباعثة المسماة   بالشوقية فهي القوة التي إذا ارتسمت في الخيال صورة مطلوبة أو مهروبة عنها حملت القوة الفاعلة على تحريك آلات الحركة و الشوقية ذات شعبتين شهوية و غضبية لأنها إن حملت الفاعلة على تحريك يطلب بها الأشياء المتخيلة التي اعتقد أنها نافعة سواء كانت ضارة بحسب الواقع أو نافعة طلبا لحصول اللذة تسمى قوة شهوانية و إن حملت القوة الشوقية القوى المباشرة على تحريك يدفع به الشي‏ء المتخيل ضارا كان بحسب الواقع أو مفيدا دفعا على سبيل الغلبة تسمى قوة غضبية. و أما الفاعلة المباشرة للتحريك فهي التي من شأنها أن تعد العضلات للتحريك و كيفية ذلك الإعداد منها أن تبسط العضل بإرخاء الأعصاب إلى خلاف جهة مبدئها لينبسط العضو المتحرك أي يزداد طولا و ينتقص عرضا أو تقبضه بتمديد الأعصاب إلى جهة مبدئها لينقبض العضو المتحرك أي يزداد عرضا و ينتقص طولا. ثم اعلم أن للحركات الاختيارية مبادئ مترتبة أبعدها القوى المدركة التي هي الخيال أو الوهم في الحيوان و العقل بتوسطهما في الإنسان و في الفلك بزعمهم و تليها القوة الشوقية و هي الرئيسة في القوة المحركة الفاعلة كما أن الوهم رئيسه في القوى المدركة و بعد الشوقية و قبل الفاعلة قوة أخرى هي مبدأ العزم و الإجماع المسماة بالإرادة و الكراهة و هي التي تصمم بعد التردد في الفعل و الترك عند وجود ما يترجح به أحد طرفيهما المتساوي نسبتهما إلى القادر عليهما. و يدل على مغايرة الشوق للإدراك تحقق الإدراك بدونه و على مغايرة الشوق للإجماع أنه قد يكون شوق و لا إرادة و قيل إنه لا تغاير بينهما إلا بالشدة و الضعف فإن الشوق قد يكون ضعيفا ثم يقوى فيصير عزما فالعزم كمال الشوق و ما قيل من أنه قد يحصل كمال الشوق بدون الإرادة كما في المحرمات للزاهد المغلوب للشهوة فغير مسلم بل الشوق العقلي فيه إلى جانب الترك أقوى من الميل الشهوي إلى خلافه و يدل على مغايرة الفاعلة لسائر المبادئ كون الإنسان المشتاق العازم غير قادر على التحريك و كون القادر على ذلك غير مشتاق

    و قال الشيخ المفيد قدس الله روحه في كتاب المسائل الحس كله مماسة ما تحس به المحسوس و اتصال به أو بما يتصل به أو بما ينفصل منه أو بما يتصل بما ينفصل منه و ذلك كالبصر فإن شعاعه لا بد من أن يتصل بالمبصر أو بما ينفصل منه أو بما يتصل بما ينفصل منه و لو كان يحس به بغير اتصال لما ضر الساتر و الحاجز و لما ضرت الظلمة و لكان وجود ذلك و عدمه في وقوع العلم سواء فإن قال قائل أ فيتصل شعاع البصر بالمشتري و زحل على بعدهما قيل له لا لكنه يتصل بالشعاع المنفصل منهما فيصيران كالشي‏ء الواحد لتجانسهما و تشاكلهما. و أما الصوت فإنه إذا حدث في أول الهواء الذي يلي الأجسام المصطكة و كذا في ما يليه من الهواء مثله ثم كذلك إلى أن يتولد في الهواء الذي يلي الصماخ فيدركه السامع و مما يدل على ذلك أن القصار يضرب الثوب على الحجر فترى مماسة الثوب للحجر و يصل الصوت بعد ذلك فهذا دال على ما قلناه من أنه يتولد في هواء بعد هواء إلى أن يتولد في الهواء الذي يلي الصماخ. و أما الرائحة فإنه ينفصل من الجسم ذي الرائحة أجزاء لطاف و تتفرق في الهواء فما صار منه في الخيشوم الذي يقرب من موضع ذي الرائحة أدركه. و أما الذوق فإنه إدراك ما ينحل من الجسم فيمازج رطوبة اللسان و اللهوات و لذلك لا يوجد طعم ما لا ينحل منه الشي‏ء كاليواقيت و الزجاج و نحوهما و الطعم و الرائحة لا خلاف في أنهما لا يكونان إلا بمماسة و اللمس في الحقيقة هو طلب الشي‏ء ليشعر به و حقيقته الشعور و هذه جملة على اعتقادنا و أبي القاسم البلخي و جمهور أهل العدل و أبو هاشم الجبائي يخالف في مواضع منها. و أقول قال الحكماء أيضا للنفس الناطقة قوى تشارك بها الحيوان الأعجم و النبات و قوى أخرى أخص يحصل بها الإدراك للجزئي و هي قوى تشارك بها الحيوان الأعجم دون النبات و هي الحواس الخمس الظاهرة و الخمس الباطنة و لها قوة أخرى أخص من الأوليين لأنها تختص بالإنسان و هي قوة يحصل بها الإدراك للكلي.   فأما القوى التي تشارك بها النبات و الحيوان الأعجم فأصولها ثلاثة اثنتان لأجل الشخص و هما الغاذية و النامية و واحدة لأجل النوع و هي المولدة و هذه القوى الثلاثة تسمى نباتية لا لاختصاص النبات بها بل لانحصار قواه فيها و تسمى طبيعية أيضا. فأما الغاذية فهي التي تحيل الغذاء إلى مشاكلة المغتذي و يتم فعلها بأفعال جزئية ثلاثة أحدها تحصيل جوهر البدل و هي الدم و الخلط الذي هو بالقوة القريبة من الفعل و بالإلزاق و هو أن يلصق ذلك الحاصل بالعضو و يجعله جزءا منه و بالتشبيه بالعضو المغتذي حتى في قوامه و لونه و قد تخل بكل واحد من هذه الأفعال الثلاثة أما الأول فكما في علة تسمى أطروقيا و هي عدم الغذاء و أما الثاني فكما في الاستسقاء اللحمي و أما الثالث فكما في البرص و البهق فإن البدل و الإلصاق موجودان فيهما و التشبيه غير موجود فهذه الأفعال الثلاثة لا بد و أن تكون بقوى ثلاث لكن القوة الغاذية هي مجموعها أو قوة أخرى هي تستخدم كل واحدة منها و القوة التي يصدر منها التشبيه يسمونها مغيرة ثانية و هي واحدة بالجنس في الإنسان و غيره من المركبات التي لها أجزاء و أعضاء مختلفة بالحقيقة بمنزلة الأعضاء و تختلف بالنوع إذ في كل عضو منها قوة تغير الغذاء إلى تشبيه مخالف لتشبيه قوة أخرى. و أما النامية فهي التي تداخل الغذاء بين أجزاء المغتذي فيزيد في الأقطار الثلاثة بنسبة طبيعية بأن يزيد في الأعضاء الأصلية أعني ما يتولد عن المني كالعظم و العصب و الرباط و غيرها و بذلك يظهر الفرق بين النمو و السمن فإن السمن إنما هو زيادة في الأعضاء المتولدة من الدم كاللحم و الشحم و السمين لا في الأعضاء الأصلية و بقولنا بنسبة طبيعية يخرج الورم فإنه ليس على نسبة طبيعية بل خارج عن المجرى الطبيعي. و أما المولدة فالمراد بها قوتان فوحدتهما اعتبارية كما في الغاذية إحداهما ما يجعل فضلة الهضم الرابع منيا و هذه القوة فعلها في الأنثيين لأن ذلك الدم

    يصير منيا فيها و ثانيهما ما يهيئ كل جزء من المني من الذكر و الأنثى في الرحم بعضو مخصوص بأن يجعل بعضه مستعدا للعظمية و بعضه مستعدا للعصبية و بعضه للرباطية إلى غير ذلك و هذه القوة تسمى المغيرة الأولى و فعلها إنما يكون حال كون المني في الرحم ليصادف ذلك فعل القوة المصورة لأنها تعد مواد الأعضاء و المصورة تلبسها صورها الخاصة بها. و إنما احتيج إلى هذه القوى أما إلى الغاذية فلأن بقاء البدن بدون الغذاء محال لأن البدن إنما يمكن تكونه من جسم رطب ليكون قابلا للتشكيل و التمديد و لا بد من حرارة عاقدة منضجة محللة للفضول يلزمها لا محالة أن تحلل الرطوبة و يعينها على ذلك الهواء الخارجي و الحركات البدنية و النفسانية فلو لا أن الغذاء يخلف بدل ما يتحلل منه لم يمكن بقاؤه مدة تمام التكون فضلا عما بعد ذلك و ليس يوجد في الخارج جسم إذا مس جسد الإنسان استحال بطبيعته فلا بد إذن من أن يكون للنفس قوة من شأنها أن تحيل الوارد إلى مشابهة جوهر أعضاء البدن ليخلف بذلك بدل ما يتحلل منه و هي القوة الغاذية. و أما إلى المولدة فلما ثبت من أن الموت ضروري و حدوث الإنسان بالتولد مما يندر وجوده فوجب أن يكون للنفس قوة تفصل من المادة التي تحصلها الغاذية ما بعده مادة لشخص آخر و لما كانت المادة المنفصلة أقل من المقدار الواجب لشخص كامل جعلت النفس ذات قوة تضيف من المادة التي تحصلها الغاذية شيئا فشيئا إلى المادة المفصولة فيزيد بها مقدارها في الأقطار على تناسب طبيعي يليق بأشخاص ذلك النوع إلى أن يتم الشخص. و تخدم الغاذية قوى أربع هي الجاذبة و الماسكة و الهاضمة و الدافعة أما الاحتياج إلى الجاذبة فظاهر لأن الغذاء لا يمكن أن يصل بنفسه إلى جميع الأعضاء لأنه لا يخلو إما أن يكون ثقيلا فلا يصل إلى الأعضاء العالية و إما أن يكون خفيفا فلا يصل إلى الأعضاء السافلة و وجودها في بعض الأعضاء معلوم بالحس فإن المنتكس إذا اشتدت حاجته إلى الغذاء يجده ينجذب من فمه إلى المعدة من غير   إرادته بل مع إرادة إمساكه في فمه و أيضا إن الحلو يخرج بالقي‏ء بعد غيره و إن تناوله أولا و ما ذلك إلا بجذب المعدة اللذيذ إلى قعرها و أيضا الرحم إذا كانت خالية عن الفضول بعيدة العهد من الجماع يحس الإنسان وقت الجماع أن إحليله ينجذب إلى الداخل. و أما إلى الماسكة فلأن الغذاء لا بد فيه من الاستحالة حتى يصير شبيها بجوهر المغتذي و الاستحالة حركة و كل حركة في زمان فلا بد من زمان في مثله يستحيل الغذاء إلى جوهر المغتذي و لأن الخلط جسم رطب سيال استحال أن يقف بنفسه زمانا فلا بد من قاسر يقسره على الوقوف و ذلك القاسر هو الماسكة و وجودها في بعض الأعضاء معلوم بالحس فإن أرباب التشريح قالوا إذا شرحنا الحيوان حال ما تناول الغذاء وجدنا معدته محتوية على الغذاء بحيث لا يمكن أن يسيل من ذلك الغذاء شي‏ء و أيضا قالوا إذا شققنا بطن الحامل من تحت السرة وجدنا رحمها منضمة انضماما شديدا بحيث لا يسع أن يدخل فيها طرف الميل و أيضا فإن المني إذا استقر في الرحم لا ينزل عنها مع ثقله. و أما إلى الهاضمة فلأن إحالة القوة المغيرة إنما يكون لما هو متقارب الاستعداد للصورة العضوية و إنما يكون ذلك بعد فعل القوة التي تجعله متقارب الاستعداد و تلك هي القوة الهاضمة. و مراتب الهضم أربع أولها في المعدة فإن الغذاء يصير فيها كيلوسا أي جوهرا شبيها بماء الكشك الثخين إما بمخالطة المشروب و ذلك في أكثر الحيوانات و إما بلا مخالطة المشروب كما في جوارح الصيد و ابتداء ذلك الهضم في الفم و لهذا كانت الحنطة الممضوغة تفعل في إنضاج الدماميل ما لا تفعله المطبوخة و لا المدقوقة المخلوطة باللعاب و ثانيها في الكبد فإن الكيلوس إذا تم انهضامه في المعدة انجذبت لطائفه بالعروق المسماة بالماساريقا إلى الكبد و تداخلت في العروق المتصغرة المتضائلة المنتشرة في جميع أجزاء الكبد بحيث يلاقي الكبد بكليته الكيلوس فينهضم هناك انهضاما ثانيا و تنخلع صورته النوعية الغذائية و يستحيل إلى الأخلاط و يسمى

    كيموسا و ابتداء هذا الهضم في الماساريقا و ثالثها في العروق و ابتداؤه من حين صعود الخلط في العرق العظيم الطالع من حدبة الكبد و رابعها في الأعضاء و ابتداؤه من حين ما ترشح الدم من فوهات العروق. و أما إلى الدافعة فلأنه ليس غذاء يصير بتمامه جزءا من المغتذي بل يفضل منه ما يضيق المكان و يمنع ما يرد من الغذاء عن الوصول إلى الأعضاء و يوجب ثقل البدن بل يفسد و يفسد فلا بد من قوة تدفع تلك الفضلات و وجودها ظاهر عند الحس في حال التبرز و القي‏ء و إراقة البول. و قد تتضاعف هذه القوى لبعض الأعضاء كما للمعدة فإن فيها الجاذبة و الماسكة و الهاضمة و الدافعة بالنسبة إلى غذاء جميع البدن و فيها أيضا هذه القوى بالنسبة إلى ما تغتذي به خاصة. ثم اعلم أن الحكماء عدوا من القوى المولدة القوة المصورة و أنكرها جماعة منهم المحقق الطوسي قدس سره و الفخر الرازي و الغزالي و غيرهم قال في المقاصد المولدة هي قوة شأنها تحصيل البزر و تفصيله إلى أجزاء مختلفة و هيئات مناسبة و ذلك بأن يفرز جزءا من الغذاء بعد الهضم التام ليصير مبدأ لشخص آخر من نوع المغتذي أو جنسه ثم يفصل ما فيه من الكيفيات المزاجية فيمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو ثم يفيده بعد الاستحالات الصور و القوى و الأعراض الحاصلة للنوع الذي انفصل عنه البزر أو لجنسه كما في البغل و المحققون على أن هذه الأفعال مستندة إلى قوى ثلاث بينوا حالها على ما عرفت في الإنسان و كثير من الحيوانات الأولى التي تجذب الدم إلى الأنثيين و تتصرف فيه إلى أن يصير منيا و هي لا تفارق الأنثيين و تخص باسم المحصلة.   و الثانية التي تتصرف في المني فتفصل كيفياتها المزاجية و تمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو فتعين للعصب مثلا مزاجا خاصا و للشريان مزاجا خاصا و للعظم مزاجا خاصا و بالجملة تعد مواد الأعضاء و تخص هذه باسم المفصلة و المغيرة الأولى تمييزا عن المغيرة التي هي من جملة الغاذية. و الثالثة التي تفيد تمييز الأجزاء و تشكيلها على مقاديرها و أوضاع بعضها عن بعض و كيفياتها و بالجملة تلبس كل عضو صورته الخاصة به يستكمل وجود الأعضاء و هذه تخص باسم المصورة و فعلها إنما يكون في الرحم انتهى. و قال المحقق الطوسي قدس سره و المصورة عندي باطلة لاستحالة صدور هذه الأفعال المحكمة المركبة عن قوة بسيطة ليس لها شعور أصلا انتهى. و الغزالي بالغ في ذلك حتى أبطل القوى مطلقا و ادعى أن الأفعال المنسوبة إلى القوى صادرة عن ملائكة موكلة بهذه الأفعال تفعلها بالشعور و الاختيار كما هو ظاهر النصوص الواردة في هذا الباب. و قال الشارح القوشجي بعد إيراد الكلام المتقدم يرد عليه أنا لا نسلم أن المصورة قوة واحدة بسيطة لم لا يجوز أن تكون وحدتها بالجنس كما أن المغيرة واحدة بالجنس مختلفة بالنوع و لو سلم فلم لا يجوز أن يكون صدور هذه الأفعال عنها بحسب استعداد المادة فإن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع في الأعضاء ففضلة هضم كل عضو إنما تستعد لصورة ذلك العضو. لكن الإنصاف أن تلك الأفعال المتقنة المحكمة على النظام المشاهد من الصور العجيبة و الأشكال الغريبة و النقوش المؤتلفة و الألوان المختلفة و ما روعي فيها من حكم و مصالح لقد تحيرت فيها الأوهام و عجزت عن إدراكها العقول و الأفهام قد بلغ المدون منها كما علم في علم التشريح و منافع خلقة الناس خمسة آلاف مع أن ما لم يعلم منها أكثر مما قد علم كما لا يخفى على ذي حدس كامل كما لا يكاد يذعن العقل بصدورها عن القوة التي سموها مصورة و إن فرضنا كونها مركبة و المواد   مختلفة بل يحكم بأن أمثال تلك الأمور لا يمكن أن تصدر إلا عن حكيم عليم خبير قدير. ثم أطال الكلام في الاعتراض على دلائلهم في إثبات تلك القوى و تعددها تركناها مخافة الإطناب و الإسهاب