باب 1- جوامع ما يحل و ما يحرم من المأكولات و المشروبات و حكم المشتبه بالحرام و ما اضطروا إليه

 الآيات البقرة الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ و قال تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً و قال تعالى كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ و قال تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ و قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ آل عمران كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ   المائدة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ و قال تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ إلى قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ و قال الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ و قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ و قال تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و قال تعالى قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ الأنعام وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا   حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ

 الأعراف وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ و قال تعالى وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ و قال تعالى وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ يونس وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ إبراهيم فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ إلى قوله وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ الحجر وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ النحل وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ‏ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ و قال تعالى وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً   وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ و قال تعالى وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ و قال تعالى فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ طه فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ و قال تعالى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي المؤمنون وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ لقمان أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً التنزيل أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ فاطر وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا يس وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ إلى قوله تعالى لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلا يَشْكُرُونَ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ المؤمنين اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ عبس فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا وَ حَدائِقَ غُلْباً وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ.

    تفسير الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً يدل على جواز الانتفاع بالأرض على أي وجه كان من السكنى و الزراعة و العمارة و حفر الأنهار و إجراء القنوات و غيرها من وجوه الانتفاعات إلا ما أخرجه الدليل. و قوله رِزْقاً لَكُمْ يدل على حلية جميع الثمرات و بيعها و سائر الانتفاعات و لكم صفة رزقا إن أريد به المرزوق و مفعول له إن أريد به المصدر كأنه قال رزقه إياكم و يدل تتمة الآية على وجوب شكر المنعم هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً امتن سبحانه على عباده بخلق جميع ما في الأرض لهم و هذا يدل على صحة انتفاعهم بكل ما فيها من وجوه المصالحة إذا خلا عن المفسدة و منه يستدل على أن الأصل في الأشياء الإباحة إذ هي مباحة لمن خلقت له و قيل الامتنان بخلق الجميع يقتضي حل الجميع و أن لكل شي‏ء منها فائدة و نفعا و ما يقال من أن ما لا نفع به كالسم و العقرب و بعض الحشرات خارج عن ذلك ففيه نظر و أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود و وجود ضرر في شي‏ء لا يدل على انتفاء النفع فيه أ لا ترى أن المأكولات الطيبة تضر المريض غاية المضرة و من تأمل في حكمته تعالى لم يتجاسر بمثل هذا المقال فلعل المراد أن ليس في الخلق ما هو ضرر محض خال عن النفع بل إنما فيه من جهة ضررا و جهة خلا من ذلك الوجه من المنفعة لا يقع به امتنان من تلك الجهة بل الامتنان من جهة النفع مع الخلو عن الضرر و الطيب في بعض الآيات إشارة إلى ذلك كما فسره الطبرسي أن المراد الطاهر من كل شبهة خبث و ضرر و الله أعلم انتهى. و قال البيضاوي معنى لَكُمْ لأجلكم و انتفاعكم في دنياكم باستنفاعكم بها في مصالح أبدانكم بوسط أو غير وسط أو دينكم بالاستدلال و الاعتبار و التعرف بما يلائمها من لذات الآخرة و آلامها فهو يقتضي إباحة الأشياء النافعة و لا يمنع اختصاص بعضها ببعض لأسباب عارضة فإنه يدل على أن الكل للكل لا أن كل

    واحد لكل واحد و ما يعم كل ما في الأرض لا الأرض إلا إذا أريد به جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو و جميعا حال من الموصول الثاني كُلُوا وَ اشْرَبُوا ظاهر الخطاب لبني إسرائيل فالمراد ما رزقهم الله من المن و السلوى و العيون و يمكن الاستدلال على العموم بوجه لا يخلو من تكلف. يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ قال الطبرسي رحمه الله عن ابن عباس أنها نزلت في ثقيف و خزاعة و بني عامر بن صعصعة و بني مدلج لما حرموا على أنفسهم من الحرث و الأنعام و البحيرة و السائبة و الوصيلة. و قال قدس سره اختلف الناس في المآكل و المنافع لا ضرر على أحد فيها فمنهم من ذهب إلى أنها على الحظر و منهم من ذهب إلى أنها على الإباحة و اختاره المرتضى رحمه الله و منهم من وقف بين الأمرين و جوز كل واحد منهما و هذه الآية دالة على إباحة المآكل إلا ما دل الدليل على حظره فجاءت مؤكدة لما في العقل انتهى. و المراد بالأكل إما خصوص الأكل اللغوي أو مطلق الانتفاع فإنه مجاز شائع و الحلال هو الجائز من أفعال العباد و نظيره المباح و الطيب يقال لمعان الأول ما حلله الشارع. الثاني ما كان طاهرا. الثالث ما خلا عن الأذى في النفس و البدن. الرابع ما يستلذه الطبع المستقيم و لا يتنفر عنه. الخامس ما لم يكن فيه جهة قبح توجب المنع عنه كما نفهم من أكثر موارد استعماله و ستعرفه و الخطاب هنا عام لجميع المكلفين من بني آدم   و الأمر في كُلُوا للإباحة و لما كان في المأكول ما يحرم و ما يحل بين ما يجب أن يكون عليه من الصفة فقال حَلالًا و قيل الأمر للوجوب نظرا إلى مراعاة القيد طَيِّباً قيل هو الحلال أيضا جمع بينهما لاختلاف اللفظين تأكيدا و قيل ما تستطيبونه و تلذونه في العاجل و الآجل و في الكشاف و الجوامع طاهرا من كل شبهة قيل و لا يبعد على تقدير مفعولية حَلالًا و حاليته أن يراد بالحلال ما خلا من جهة الحظر بحسب ذاته و أحواله الغالبة و الطيب ما خلا من جهة الحظر من كل وجه. و أقول على تقدير حالية الطيب و حمل الأمر على الرجحان الأظهر أن يكون الحلال للاحتراز عن الحرام و الطيب للاحتراز عن الشبهات ثم قوله حَلالًا إما مفعول كلوا و من حينئذ ابتدائية أو بيانية و ظاهر الكشاف أنها تبعيضية و منع منه التفتازاني لأن من التبعيضية في موقع المفعول أي كلوا بعض ما في الأرض. قال فإن قيل لم لا يجوز أن يكون حالا من حلالا قلنا لأن كون من التبعيضية ظرفا مستقرا و كون اللغو حالا مما لا تقول به النحاة و قيل فيه نظر لأن كون من التبعيضية في موضع المفعول ليس معناه أنه مفعول به من حيث الإعراب مغن عن المفعول به بل إنما يتحد مع المفعول به انتهى. أو حال من المفعول و هو مِمَّا فِي الْأَرْضِ فيكون المراد بما في الأرض المأكولات المحللة أو صفة مصدر محذوف أي كلوا أكلا حلالا و من للتبعيض أو ابتدائية إما كونه مفعولا له أو تميزا كما زعم بعضهم فغير واضح و طيبا مثل حلالا أو صفته. أقول هذا ما ذكره القوم و الأظهر عندي أن حلالا و طيبا للتأكيد لا للتقييد سواء جعلا حالين مؤكدتين أو غيره لأن التقييد مع حمل الأمر على الإباحة كما ذكره الأكثر يجعل الكلام خاليا عن الفائدة إذ حاصله حينئذ أحل لكم ما أحل لكم إذ يجوز لكم الانتفاع بما أحل لكم. فإن قيل كيف يستقيم هذا مع أنه معلوم أن ما في الأرض مشتمل على   محرمات كثيرة قلنا إذا حملنا من على التبعيض لا يرد ذلك و أيضا يمكن أن يكون هذا قبل تحريم ما حرم من الأشياء فإنه يظهر من بعض الأخبار أنه لم يجب قبل الهجرة شي‏ء سوى الشهادتين و ما يتبعهما من العقائد و لم يحرم سوى الشرك و إنكار النبوة و ما يلزمهما و بعد الهجرة نزلت الواجبات و المحرمات تدريجا على أنه يمكن أن يكون عاما مخصصا كما في سائر العمومات فتدل على حل ما في الأرض جميعا إلا ما أخرجه الدليل. و قيل يظهر من عمومات الخطاب حل المحللات للكفار و الفساق أيضا و جواز إعطائهم منها إلا ما دل على المنع منه دليل وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي لا تتبعوا وساوس الشيطان في تحريم ما أحل الله أو في ترك شكر ما أنعم الله و يؤيد الأول قوله وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ

 و روي عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع أن خطوات الشيطان الحلف بالطلاق و النذر في المعاصي و كل يمين بغير الله

أقول يحتمل أن يكون المراد الحلف و النذر على تحريم المحللات بقرينة صدر الآية. و قيل في هذا النهي تنبيه على أن المراد بحلالا في الأمر التقييد لا إطلاق حل ما في الأرض و المأكول منه أو الأكل و هو يعم مخالفة الأمر بالتعدي إلى أكل غير الحلال و باجتناب أكل الحلال و فعل غير ذلك من المحرمات انتهى و ضعفه ظاهر مما ذكرنا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ مضمون صدر الآية قريب مما تقدم إلا أنها خاصة باعتبار الخطاب للمؤمنين و قيل الأمر للترغيب أو لإباحة أكل ما يستلذه المؤمنون و يستطيبونه و يعدونه طيبا لا خبيثا ينفر عنه الطبع و يجزم العقل بقبح أكله مثل الدم و البول و المني و الحشرات و غيرها فيفهم منه كونه طاهرا أيضا إذ النجس خبيث و ليس مما يعدونه طيبا فهو في الدلالة على   إباحة جميع ما يعده العقل طيبا و لا يجد فيه ضررا و خبثا مما يسمى رزقا لبني آدم أي ينتفع به في الأكل أصرح مما تقدم ففهم كون الأشياء على أصل الحلية منها أولى. أقول على سياق ما قدمنا يكون الحاصل كلوا مما لم يدل دليل شرعي على تحريمه فيما رزقناكم و مكناكم من التصرف فيه أو مما لم يكن فيه جهة قبح واقعي فيرجع إلى الأول لأنه يعلم ذلك ببيان الشارع أو مما لم يكن مضرا بالنفس و البدن أو مما يستلذه الطبع المستقيم و لا يتنفر عنه إما بناء على الغالب من أنه لا يرغب إلى غير ذلك أو بناء على أن سياق الآية مشتمل على الامتنان و عمدة الامتنان به لا بما تتنفر الطباع عنه أو لمرجوحية أكل الخبائث غير المحرمة بناء على أن الأمر للإباحة الصرفة أو لرجحان التصرف في الطيبات و أكلها بناء على أن الأمر للاستحباب. و بالجملة يشكل الاستدلال بأمثاله على تحريم ما تتنفر عنه عامة الطباع. و قال الرازي اعلم أن الأكل قد يكون واجبا و ذلك عند دفع الضرر و قد يكون مندوبا و ذلك أن الضيف قد يمتنع من الأكل إذا انفرد و ينبسط إذا سوعد فهذا مندوب و قد يكون مباحا إذا خلا عن هذه العوارض و الأصل في الشي‏ء أن يكون خاليا عن العوارض فلا جرم كان مسمى الأكل مباحا و إذا كان الأمر كذلك كان الأمر كذلك. ثم قال احتج الأصحاب أن الرزق قد يكون حراما بقوله مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ بأن الطيب هو الحلال فلو كان كل رزق حلالا لكان المعنى كلوا من محللات ما حللنا لكم فيكون تكرارا و هو خلاف الأصل و أجابوا عنه بأن الطيب في اللغة عبارة المستلذ المستطاب و لعل أقواما ظنوا أن التوسع في المطاعم و الاستكثار من طيباتها ممنوع منه فأباح الله تعالى ذلك بقوله كلوا من لذائذ ما أحللنا لكم فكان تخصيصه بالذكر لهذا المعنى انتهى.   و مضمون باقي الآية تعليق وجوب الشكر لله على عبادتهم إياه و تلخيصه أن العبادة له إن كانت واجبة عليكم لأنه إلهكم فالشكر له أيضا واجب عليكم فإنه منعم محسن إليكم كذا ذكره الطبرسي رحمه الله و قال الرازي فيه وجوه أحدها و اشكروا الله إن كنتم عارفين بالله و نعمه فعبر عن معرفة الله تعالى بعبادته إطلاقا لاسم الأثر على المؤثر. و ثانيها معناه إن كنتم تريدون أن تعبدوا الله فاشكروه فإن الشكر رئيس العبادات. و ثالثها و اشكروا الله الذي رزقكم هذه النعمة إن كنتم إياه تعبدون أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة و تقرون أنه هو سبحانه إلهكم لا غير انتهى. و أقول يحتمل أن يكون الغرض أن شكركم إنما يصح و يستقيم بترك الشرك و إخلاص العبادة له تعالى. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ كان هذه الآية كالاستثناء عن عموم ما تقدم أو أنه سبحانه لما أمر في الآية بأكل الطيبات بين في هذه الآية الخبائث ليعلم أن ما سواها من الطيبات و إنما على المشهور بين أهل العربية و الأصوليين للحصر فيدل على حصر المحرمات من المأكولات في هذه الأشياء فهي حجة في حل ما سواها إلا ما أخرجه الدليل. و قال البيضاوي المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها انتهى. و يمكن أن يكون التحريم في هذا الوقت مقصورا على ما ذكر فحرم بعد ذلك غيرها كما مر و الأول من المحرمات في تلك الآية الميتة و هي على المشهور ما فارقه

    الروح لا على وجه التذكية الشرعية و في المجمع هي كل ما له نفس سائلة من دواب البر و طيره مما أباح الله أكله إنسيهما و وحشيهما فارقه روحه من غير تذكية و قيل الميتة كل ما فارقته الحياة من دواب البر و طيره بغير تذكية

 و قد روي عن النبي ص أنه سمى الجراد و السمك ميتا فقال ميتتان مباحتان الجراد و السمك

انتهى. و لا يبعد أن يكون إطلاق الميتة على السمك و الجراد على المجاز فإن إخراج الأول من الماء و قبض الثاني تذكيتهما. و استدل بهذه الآية و أمثالها على حرمة جميع انتفاعات الميتة إلا ما أخرجه الدليل لأن الحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفا حرفة التصرف فيها مطلقا و قيل الحرمة المضافة إلى كل عين تفيد تحريم الانتفاع المتعارف الغالب فيه فإن المتبادر في تحريم الميتة الأكل لا سيما ذكرها مع الدم و لحم الخنزير و في تحريم الأمهات الوطء و هكذا و كان هذا أقوى و حملوا الميتة عليها و على أجزائها التي تحل فيها الحياة فلا تحرم ما لا تحل فيه الحياة منها إلا ما كان خبيثا على المشهور لا لذلك بل لكونه خبيثا على رأيهم و حمل عليه كل ما أبين من حي مما حلت فيه الحياة. و الثاني الدم و قيد بالمسفوح لتقييده به في الآية الأخرى و المطلق محمول على المقيد و المسفوح هو الذي يخرج بقوة عند قطع عرق الحيوان أو ذبحه من سفحت الماء إذا صببته أي المصبوب و احترز به عما يخرج من الحيوان بتثاقل كدم السمك فلا يكون نجسا و اختلفوا في حرمته فقيل هو حرام لإطلاق هذه الآية و قد عرفت جوابه و لأنه من الخبائث و قد منع ذلك و ستسمع الكلام في الخبائث و حرمتها. و أما الدم المختلف في الذبيحة في الحيوان مأكول اللحم فلا أعرف خلافا بين   الأصحاب في كونه حلالا و نقل العلامة الإجماع عليه و ما يجذبه النفس إلى باطن الذبيحة ليس في حكم المتخلف في الحل و الطهارة و في تحريم المتخلف في الكبد و القلب وجهان و لا يبعد ترجيح عدم التحريم لظاهر الآية إلا أن يثبت كونه خبيثا و حرمة مطلق الخبيث و الدم المتخلف في حيوان غير مأكول اللحم تابع لذلك الحيوان و ظاهر الأصحاب الحكم بنجاسته و نقل عن بعض المتأخرين التوقف فيها و ما عدا المذكورات من الدماء التي لم تخرج بقوة من عرق و لا لها كثرة انصباب لكنه مما له نفس فظاهر الأصحاب الاتفاق على نجاسته و ظاهر الفاضلين دعوى الإجماع عليه و يستفاد من بعض الأخبار أيضا فيلزم التحريم أيضا و أما دم غير السمك مما لا نفس له فقد نقل جماعة من الأصحاب الإجماع على طهارته و الكلام في حله و حرمته كالكلام في دم السمك. الثالث لحم الخنزير قيل خص اللحم و إن كان كل أجزائه محرما لأنه هو المقصود بالأكل و غيره تابع و لشدة حرص الكفرة و مزيد اعتقادهم بحسنه و بركته فخصه ردا عليهم. الرابع ما أهل به لغير الله أي ما رفع به الصوت عند ذبحه لغير الله كالصنم و المسيح و غيرهما و الإهلال أصله رؤية الهلال يقال أهل الهلال و أهللته لكن لما جرت العادة برفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي ذلك إهلالا ثم قيل لرفع الصوت و إن كان لغيره و قال في موضع آخر وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ قيل فهذا مطلق و الأول مقيد فيحمل الثاني على الأول أو بينهما عموم و خصوص من وجه فجمع بينهما بمقتضى الروايات المعتبرة و سيأتي أحكام التسمية إن شاء الله. فَمَنِ اضْطُرَّ أي إلى أكل هذه الأشياء قال الطبرسي رحمه الله ضرورة مجاعة عن أكثر المفسرين و قيل ضرورة إكراه عن مجاهد و تقديره فمن خاف على النفس من الجوع و لا يجد مأكولا يسد به الرمق و قوله غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فيه ثلاثة أقوال   أحدها غير باغ لذة و لا عاد سد الجوعة. و ثانيها غير باغ في الإفراط و لا عاد في التقصير. و ثالثها غير باغ على المسلمين و لا عاد عليه بالمعصية و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله ع انتهى.

 و في الكافي عن الصادق ع الباغي الذي يخرج على الإمام و العادي الذي يقطع الطريق لا تحل لهما الميتة

و في التهذيب الباغي باغي الصيد و العادي السارق ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا هي حرام عليهما

 و في الفقيه عن الجواد ع قال العادي السارق و الباغي الذي يبغي الصيد بطرا أو لهوا لا ليعود به على عياله ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا هي حرام عليهما في حال الاضطرار كما هي حرام عليهما في حال الاختيار و ليس لهما أن يقصرا في صوم و لا صلاة في سفر

و قال البيضاوي و غير باغ بالاستيثار على مضطر آخر و لا عاد سد الرمق و الجوعة و قيل غير باغ على الوالي و لا عاد بقطع الطريق فعلى هذا لا يباح على العاصي بالسفر و هو ظاهر مذهب الشافعي و قول أحمد.    فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ قال الطبرسي رحمه الله أي لا حرج عليه و إنما ذكر هذا اللفظ لتبيين أنه ليس بمباح في الأصل و إنما رفع الحرج للضرورة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إنما ذكر المغفرة لأجل أمرين إما لتبيين أنه إذا كان يغفر المعصية فإنه لا يؤاخذ فيما رخص فيه و إما لأنه وعد بالمغفرة عند الإنابة إلى الطاعة مما كانوا عليه من تحريم ما لم يحرمه الله من السائبة و غيرها انتهى. و أقول و إن كان ظاهر بعض الأخبار اختصاص الحكم بالاضطرار في المخمصة لكن لفظ الآية شامل لكل اضطرار من مجاعة أو خوف قتل أو ضرر عظيم لا يتحمل عادة. كُلُّ الطَّعامِ في المجمع كل المأكولات كانَ حِلًّا أي حلالا لِبَنِي إِسْرائِيلَ و إسرائيل هو يعقوب ع إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ اختلفوا في ذلك الطعام فقيل إن يعقوب ع أخذه وجع العرق الذي يقال له عرق النسا فنذر إن شفاه الله أن يحرم العروق و لحم الإبل و هو أحب الطعام إليه عن ابن عباس و غيره و قيل حرم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبدا لله و سأل الله أن يجيز له فحرم الله تعالى ذلك على ولده عن الحسن و قيل حرم زائدتي الكبد و الكليتين و الشحم إلا ما حملته الظهور عن عكرمة و اختلف في أنه كيف حرمه على نفسه فقيل بالاجتهاد و قيل بالنذر و قيل بنص ورد عليه و قيل حرمه كما يحرم المستظهر في دينه من الزهاد اللذة على نفسه مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ أي كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة على موسى فإنها تضمنت تحريم ما كان حلالا لبني إسرائيل و اختلفوا فيما حرم عليهم و حالها بعد نزول التوراة. فقيل إنه حرم عليهم ما كانوا يحرمونه قبل نزولها اقتداء بأبيهم يعقوب عن السدي.   و قيل لم يحرمه الله عليهم في التوراة و إنما حرم عليهم بعد التوراة بظلمهم و كفرهم و كانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله عليهم طعاما طيبا و صب عليهم رجزا و هو الموت و ذلك قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. و قيل لم يكن شي‏ء من ذلك حراما عليهم في التوراة و إنما هو شي‏ء حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم و أضافوا تحريمه إلى الله فكذبهم الله تعالى فاحتج عليهم بالتوراة و أمرهم بالإتيان بها و بأن يقرءوا ما فيها فإنه كان في التوراة أنها كانت حلالا للأنبياء و إنما حرمها إسرائيل على نفسه فلم يجسروا على إتيانها لعلمهم بصدقه ص و كذبهم و كان ذلك دليلا على صحة نبوته مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي بعد قيام الحجة فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم. و أقول ظاهره على بعض الوجوه تحليل ما حرموه على أنفسهم فتأمل. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ قد مر تفسيره في باب الأنعام إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ قيل أي إلا محرم ما يتلى عليكم كقوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أو إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ حال من الضمير في لكم و قيل من واو أوفوا و قيل استثناء و هو تعسف و الصيد يحتمل المصدر و المفعول وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ حال عما استكن في محلي و الحرم جمع حرام و هو المحرم و سيأتي تفسير الآيات في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. وَ الْمُنْخَنِقَةُ قال الطبرسي رحمه الله تعالى هي التي تدخل رأسها بين شعبين من شجر فتختنق و تموت عن السدي و قيل هي التي تخنق بحبل الصائد و تموت

    عن الضحاك و قتادة و قال ابن عباس كان أهل الجاهلية يخنقونها فيأكلونها وَ الْمَوْقُوذَةُ هي التي تضرب حتى تموت عن ابن عباس و السدي و الوقذ شدة الضرب يقال وقذتها أقذها وقذا و أوقذتها إيقاذا إذا أثخنتها ضربا. وَ الْمُتَرَدِّيَةُ و هي التي تقع من جبل أو موضع عال أو تقع في بئر فتموت عن ابن عباس و غيره و متى وقع في بئر و لا يقدر على تذكيته جاز أن يطعن و يضرب في غير المذبح حتى يبرد ثم يؤكل. وَ النَّطِيحَةُ و هي التي تنطحها غيرها فتموت و إنما تثبت فيها الهاء و إن كان فعيل بمعنى المفعول لا تثبت فيها الهاء مثل لحية دهين و عين كحيل و كف خضيب لأنها أدخلت في حيز الأسماء و قال بعض الكوفيين إنما تحذف الهاء من فعيلة بمعنى مفعولة إذا كانت صفة لاسم قد تقدمها مثل كف خضيب و عين كحيل فأما إذا حذف الكف و العين و ما يكون فعيل نعتا له و اجتزءوا بفعيل أثبتوا فيه ها التأنيث ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة لمؤنث فيقال رأينا كحيلة و خضيبة. وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ أي و حرم عليكم ما أكله السبع بمعنى قتله السبع و هو فريسة السبع عن ابن عباس و غيره. إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ يعني إلا ما أدركتم ذكاته فذكيتموه من هذه الأشياء

 و روي عن السيدين الباقر و الصادق ع أن أدنى ما تدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو يطرف عينه

و اختلف في الاستثناء إلى ما ذا يرجع فقيل يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل من الخنزير و الدم عن علي ع و ابن عباس. و قيل هو استثناء من التحريم لا من المحرمات لأن الميتة لا ذكاة لها و للخنزير فمعناه حرمت عليكم سائر ما ذكر إلا ما ذكيتم مما أحله الله لكم بالتذكية فإنه   حلال لكم انتهى. و قيل الاستثناء راجع إلى الأخير فقط. ثم قال رحمه الله و متى قيل ما وجه التكرار في قوله وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ إلى آخر ما عدد تحريمه مع أنه افتتح الآية بقوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ و هي تعم جميع ذلك و إن اختلفت أسباب الموت من خنق أو ترد أو نطح أو إهلال لغير الله به أو أكل سبع. فالجواب أن الفائدة في ذلك أنهم كانوا لا يعدون الميتة إلا ما مات حتف أنفه من دون شي‏ء من هذه الأسباب فأعلمهم الله سبحانه أن حكم الجميع واحد و أن وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة فقط قال السدي إن ناسا من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك و لا يعدونه ميتا إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع. وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ أي الحجارة التي كانوا يعبدونها و هي الأوثان يعني حرم عليكم ما ذبح على اسم الأوثان و قيل معناه ما ذبح للأوثان تقربا إليها و اللام و على يتعاقبان أ لا ترى إلى قوله سبحانه فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ بمعنى عليك و كانوا يقربون و يلطخون الأوثان بدمائها قال ابن جريح ليست النصب أصناما إنما الأصنام ما يصور و ينقش بل كانت حجارة منصوبة حول الكعبة و كانت ثلاثمائة و ستين حجرا و قيل كانت ثلاثمائة منها لخزاعة و كانوا إذا ما ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت و شرحوا الدم و جعلوه على الحجارة فقال المسلمون يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم فنحن أحق بتعظيمه فأنزل الله

    سبحانه لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ. وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ موضعه رفع أي و حرم عليكم الاستقسام بالأزلام و معناه طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفألون بها في أسفارهم و ابتداء أمورهم و هي سهام كانت للجاهلية مكتوب على بعضها أمرني ربي و على بعضها نهاني ربي و بعضها غفل لم يكتب عليها شي‏ء فإذا أرادوا سفرا أو أمرا يهتمون به ضربوا تلك القداح فإن خرج السهم الذي عليه أمرني ربي مضى الرجل لحاجته و إن خرج الذي عليه نهاني ربي لم يمض و إن خرج ما ليس عليه شي‏ء أعادوها فبين الله تعالى أن العمل بذلك حرام عن الحسن و جماعة من المفسرين ثم ذكر ما سيأتي عن علي بن إبراهيم ثم قال و قيل هي كعاب فارس و الروم التي كانوا يتقامرون بها عن مجاهد و قيل الشطرنج عن سفيان بن وكيع ذلِكُمْ فِسْقٌ معناه أن جميع ما سبق ذكره فسق أي ذنب عظيم و خروج عن طاعة الله إلى معصيته عن ابن عباس و قيل إن ذلكم إشارة إلى الاستقسام بالأزلام أي إن ذلك الاستقسام فسق و هو الأظهر انتهى. و قيل على الأول و سبب التحريم أنه دخول في علم الغيب و ضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه و افتراء على الله إن أريد بربي الله و جهالة و شرك إن أريد به الصنم و على هذا يفهم منه تحريم الاستخارة المشهورة التي قال الأكثر بجوازها بل باستحبابها و تدل عليه الروايات فلا يكون سبب التحريم ما ذكر بل مجرد النص المخصوص و تكون الاستخارة خارجة عنه بالنص فإن الظاهر أن خصوص ما كانوا يفعلونه من اقتراح أنفسهم لا طريق إليه شرعا و الروايات طرق شرعية و حجة بالغة و ليس هذا مثل ذلك كذا ذكره بعض المحققين.   و أقول يظهر من بعض الأخبار أيضا أنهم كانوا يضربون بالقداح عند آلهتهم و يتوسلون في ذلك إليهم فيمكن أن يكون كونه فسقا من هذه الجهة أيضا. ثم إن الآيات المتعرضة بين تلك الآيات و بين قوله فَمَنِ اضْطُرَّ اعتراض بما يوجب التجنب عنها و هو أن تناولها فسوق و حرمتها من جملة الدين الكامل و النعمة التامة و الإسلام المرضي. و أقول لا يبعد تغيير نظم الآيات عن الترتيب المنزل لدلالة الروايات المتواترة من طرق الخاصة و العامة أنها نزلت في ولاية أمير المؤمنين ع التي نزلت يوم الغدير فلعلهم تعمدوا ذلك تبعيدا للأذهان عن فهم المراد. فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ في المجمع معناه فمن دعته الضرورة في مجاعة حتى لا يمكنه الامتناع من أكله عن ابن عباس و غيره غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي غير مائل إلى إثم و هو نصب على الحال يعني فمن اضطر إلى أكل الميتة و ما عدد الله تحريمه عند المجاعة الشديدة غير متعمد لذلك و لا مختار له و لا مستحل فإن الله سبحانه أباح تناول ذلك له قدر ما يمسك به رمقه بلا زيادة عليه عن ابن عباس و غيره و به قال أهل العراق و قال أهل المدينة يجوز أن يشبع منه عند الضرورة و قيل إن معنى قوله غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير عاص بأن يكون باغيا أو عاديا أو خارجا في معصية عن قتادة. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ في الكلام محذوف دل ما ذكر عليه و المعنى فمن اضطر إلى ما حرمت عليه غير متجانف لإثم فأكله فإن الله غفور لذنوبه ساتر عليه أكله لا يؤاخذه به و ليس يريد أن يغفر له عقاب ذلك الأكل و لا يستحق العقاب على فعل المباح و هو رحيم أي رفيق بعباده و من رحمته أباح لهم ما حرم عليهم في حال الخوف على النفس يَسْئَلُونَكَ يا محمد ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ معناه أي

    شي‏ء أحل لهم أي يستخبرك المؤمنون ما ذا أحل لهم من المطاعم و المآكل و قيل من الصيد و الذبائح قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ منها و هي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من المأكولات و الذبائح و الصيد عن الجبائي و أبي مسلم و قيل مما لم يرد بتحريمه كتاب و لا سنة و هذا أولى لما ورد أن الأشياء كلها على الإطلاق و الإباحة حتى يرد الشرع بالتحريم و قال البلخي الطيبات ما يستلذ. الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال رحمه الله هذا يقتضي تحليل كل مستطاب من الأطعمة إلا ما قام الدليل على تحريمه. أقول سيأتي تفسير الآية في باب ذبائح الكفار إن شاء الله. لا تُحَرِّمُوا قال في المجمع هو يحتمل وجوها منها أن يريد لا تعتقدوا تحريمها. و منها أن يريد لا تظهروا تحريمها. و منها أن يريد لا تحرموها على غيركم بالفتوى و الحكم. و منها أن لا تجروها مجرى المحرمات في شدة الاجتناب. و منها أن يريد لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين فوجب حمل الآية على جميع هذه الوجوه و الطيبات اللذيذات التي تشتهيها النفوس و تميل إليها القلوب و قد يقال الطيب بمعنى الحلال كما يقال يطيب له كذا أي يحل له و لا يليق ذلك بهذا الموضع. أقول فيه نظر و قد مضى الكلام منا فيه و يحتمل أن يكون المراد بالطيب ما لم يكن فيه جهة قبح و خبث معنوي و كل ما أحله الله فهو كذلك فذكره لتعليل الحكم فكأنه قال لا تحرموا ما أحل الله لكم فإن كل ما أحله لكم ليس فيه قبح و خباثة فلم تحرمونها على أنفسكم.    وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قال المحقق الأردبيلي رحمه الله أي لا تحرموا على أنفسكم ما أحل الله لكم و رزقكم و لا تجتنبوا منه تنزها بل كلوا فإن جميع ما رزقكم الله حلال طيب فحلالا حال مبينة لا مقيدة و كذلك طيبا و يحتمل التقييد و يكون سبب التقييد ما تقدم فيما قبل من قوله لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ حيث نهى هناك عن تحريم طيبات ما أحل الله أي ما طاب و لذ منه فإنه قيل الظاهر أن قيد طيبات ما أحل الله للوقوع و أنه محل للتحريم و إلا جعل جميع ما أحل الله حراما منهيا و يحتمل أن يكون الإضافة بيانية أيضا

 و روي عن رسول الله ص أنه وصف القيامة لأصحابه يوما و بالغ في إنذارهم فرقوا فاجتمعت جماعة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون و اتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين و أن لا يأكلوا اللحم و لا يناموا على الفراش و لا يقربوا النساء و الطيب و يرفضوا لذات الدنيا و يلبسوا المسوح أي الصوف و يسيحوا في الأرض أي يسيروا فبلغ رسول الله ص ذلك فقال إني لم أؤمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا و أفطروا و قوموا و ناموا فإني أقوم و أنام و أصوم و أفطر و آكل اللحم و الدسم فمن رغب عن سنتي فليس مني

و الرواية مشهورة. أو لأن النفس إليه أميل فهو مظنة التحريم فلا دلالة في الآية على أن الرزق قد يكون حلالا و قد يكون حراما فالحرام أيضا يكون رزقا كما هو معتقد الجهال و العوام الذين يأكلون أموال الناس و يقولون هذا رزقنا الله إياه و هو مقتضى مذهب الأشاعرة و أشار إليه البيضاوي بأنه لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة و هو خيال باطل إذ ما يحتاج ذكر كل شي‏ء إلى فائدة زائدة مع وجودها و هي هنا الإشارة إلى عدم معقولية المنع بأن ذلك حلال رزقكم الله فلا معنى للتحريم و المنع. و بالجملة القيد قد يكون للكشف و البيان و قد يكون للإشارة إلى عدم معقولية الاجتناب و أن ذلك الوصف هو الباعث لمذمة التارك و قد يكون لغير ذلك و هنا يكفي الأولان فالآية دلت على عدم جواز التجاوز عن حدود الله و التشريع   و عدم حسن الاجتناب عما أحل الله و يحتمل أن يكون باعتقاد التحريم أو المرجوحية فلا ينافي الترك للتزهد و لئلا يصير سببا للنوم و الكسل و قساوة القلب و لهذا نقل أن رسول الله ص ما أكل خبز الحنطة و لا شبع من خبز الشعير و زهد أمير المؤمنين ع مشهور و لكن ينبغي أن يكون ذلك باعتقاد التأسي إلا أنه إذا اجتنب لبعض الفوائد مثل كونه سببا لقلة النوم و إصلاح النفس و تذليلها فالظاهر أنه لا بأس به مع اعتقاد الحلية انتهى.

 و قال في المجمع، روي عن أبي عبد الله ع أنه قال نزلت في علي ع و بلال و عثمان بن مظعون فأما علي فإنه حلف أن لا ينام الليل أبدا إلا ما شاء الله و أما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا و أما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا

و قال ابن عباس يريد من طيبات الرزق اللحم و غيره. وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ هذا استدعاء إلى التقوى بألطف الوجوه و تقديره أيها المؤمنون بالله لا تضيعوا إيمانكم بالتقصير في التقوى فتكون عليكم الحسرة العظمى و اتقوا في تحريم ما أحل الله لكم و في جميع معاصيه من به تؤمنون و هو الله سبحانه و في هاتين الآيتين دلالة على كراهة التخلي و التفرد و التوحش و الخروج عما عليه الجمهور في التأهل و طلب الولد و عمارة الأرض

 و قد روي أن النبي ص كان يأكل الدجاج و الفالوذج و كان يعجبه الحلواء و العسل و قال إن المؤمن حلو يحب الحلاوة و قال إن في بطن المؤمن زاوية لا يملؤها إلا الحلواء

 لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ في المجمع أي إثم و حرج فِيما طَعِمُوا من الخمر و الميسر قبل نزول التحريم و في تفسير أهل البيت ع فيما طعموا من الحلال و هذه اللفظة صالحة للأكل و الشرب جميعا روي عن ابن عباس   و أنس و ابن عازب و مجاهد و قتادة و الضحاك أنه لما نزل تحريم الخمر و الميسر قالت الصحابة يا رسول الله ما تقول في إخواننا الذين مضوا و هم يشربون الخمر و يأكلون الميسر فأنزلت هذه الآية و قيل إنها نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم و سلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون و غيره فبين الله لهم أنه لا جناح في تناول المباح مع اجتناب المحرمات إِذا مَا اتَّقَوْا شربها بعد التحريم وَ آمَنُوا بالله وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الطاعات ثُمَّ اتَّقَوْا أي داموا على الاتقاء وَ آمَنُوا أي داموا على الإيمان ثُمَّ اتَّقَوْا بفعل الفرائض وَ أَحْسَنُوا بفعل النوافل و على هذا يكون الاتقاء الأول اتقاء الشرب بعد التحريم و الاتقاء الثاني هو الدوام على ذلك و الاتقاء الثالث اتقاء جميع المعاصي و ضم الإحسان إليه و قيل إن الاتقاء الأول هو اتقاء المعاصي العقلية التي يختص المكلف و لا يتعداه و الإيمان الأول الإيمان بالله تعالى و بما أوجب الله الإيمان به و الإيمان بقبح هذه المعاصي و وجوب تجنبها و الاتقاء الثاني هو الاتقاء عن المعاصي السمعية و الإيمان بقبحها و وجوب اجتنابها و الاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد و ربما يتعدى إلى الغير من الظلم و الفساد. و قال أبو علي الجبائي أن الشرط الأول يتعلق بالزمان الماضي و الشرط الثاني يتعلق بالدوام على ذلك و الاستمرار على فعله و الشرط الثالث يختص بمظالم العباد ثم استدل على أن هذه الاتقاء يختص بالمظالم بقوله وَ أَحْسَنُوا فإن الإحسان إذا كان متعديا وجب أن يكون المعاصي التي أمروا باتقائها قبله أيضا متعدية و هذا ضعيف لأنه لا تصريح في الآية بأن المراد به الإحسان المتعدي و لا يمتنع أن يريد بالإحسان فعل الحسن و المبالغة فيه و إن اختص الفاعل و لا يتعداه كما يقولون لمن بالغ في فعل الحسن أحسنت و أجملت ثم لو سلم أن المراد به الإحسان المتعدي فلم لا يجوز أن يعطف فعل متعد على فعل لا يتعدى و لو صرح سبحانه و قال و اتقوا القبائح كلها و أحسنوا إلى غيرهم لم يمتنع و لعل أبا علي إنما عدل في الشرط   الثالث عن ذكر الأحوال لما ظن أنه لا يمكن فيه ما أمكن في الأول و الثاني و هذا ممكن غير ممتنع بأن يحمل الشرط الأول على الماضي و الثاني على الحال و الثالث على المنتظر المستقبل و متى قيل إن المتكلمين عندهم لا واسطة بين الماضي و المستقبل فإن الفعل إما أن يكون موجودا فيكون ماضيا و إما أن يكون معدوما فيكون مستقبلا و إنما ذكر الأحوال الثلاث النحويون فجوابه أن الصحيح أنه لا واسطة في الوجود كما ذكرت غير أن الموجود في أقرب الزمان لا يمتنع أن نسميه حالا و نفرق بينه و بين الغابر السالف و الغابر المنتظر انتهى. و قال بعض المحققين للإيمان درجات و منازل كما دلت عليه الأخبار الكثيرة و أوائل درجات الإيمان تصديقات مشوبة بالشكوك و الشبه على اختلاف مراتبها و يمكن معها الشرك وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ و عنها يعبر بالإسلام في الأكثر قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ و أواسطها تصديقات لا يشوبها شك و لا شبهة الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا و أكثر إطلاق الإيمان عليها خاصة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. و أواخرها تصديقات كذلك مع كشف و شهود و ذوق و عيان و محبة كاملة لله سبحانه و شوق تام إلى حضرته المقدسة يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ   يَشاءُ

 و عنها العبارة تارة بالإحسان الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك و أخرى بالإيقان وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ و إلى المراتب الثلاثة الإشارة بقوله عز و جل لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و إلى مقابلاته التي هي مراتب الكفر الإشارة بقوله جل و عز إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أقول و سيأتي تحقيق ذلك في كتاب الإيمان و الكفر. و قال الرازي فإن قيل لم شرط رفع الجناح على التناول المطعومات بشرط الإيمان و التقوى مع أن من المعلوم أن من لم يؤمن و من لم يتق ثم تناول شيئا من المباحات فإنه لا جناح عليه في ذلك التناول بلى عليه جناح في ترك الإيمان و في ترك التقوى قلنا ليس هذا للاشتراط بل لبيان أن أولئك الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم. و قال الطبرسي و الأجل المرتضى علي بن الحسين الموسوي قدس الله روحه ذكر في بعض مسائله أن المفسرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التكرار الذي تضمنه هذه الآية و ظنوا أنه المشكل فيها و تركوا ما هو أشد إشكالا من التكرار و هو أنه تعالى نفى الجناح عن الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتقاء و الإيمان و عمل الصالحات و الإيمان و عمل الصالحات ليس بشرط في نفي الجناح فإن المباح إذا وقع من الكافر فلا إثم عليه و لا وزر.   و قال و لنا في حل هذه الشبهة طريقان أحدهما أن يضم إلى المشروط المصرح بذكره غيره حتى يظهر تأثير ما شرط فيكون تقدير الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا و غيره إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لأن الشرط في نفي الجناح لا بد من أن يكون له تأثير حتى يكون متى انتفى ثبت الجناح و قد علمنا أن باتقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم فهو الشرط الذي لا زيادة عليه و لما ولي ذكر الاتقاء الإيمان و عمل الصالحات و لا تأثير لهما في نفي الجناح علمنا أنه أضمر ما تقدم ذكره ليصح الشرط و يطابق المشروط لأن من اتقى الحرام فيما لا يطعم لا جناح عليه فيما يطعمه و لكنه قد يصح أن يثبت عليه الجناح فيما أخل به من واجب أو ضيعة من فرض فإذا شرطنا أنه وقع اتقاء القبيح ممن آمن بالله و عمل الصالحات ارتفع الجناح عنه من كل وجه و ليس بمنكر حذف ما ذكرناه لدلالة الكلام عليه فمن عادة العرب أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى و يكون قوة الدلالة عليه مغنية عن النطق به و مثله قول الشاعر

تراه كان الله يجدع أنفه و عينيه إن مولاه بات له و فر

. لما كان الجدع لا يليق بالعين و كانت معطوفة على الأنف الذي يليق الجدع به أضمر ما يليق بالعين من الفقوء و ما جرى مجراه. و الطريق الثاني هو أن يجعل الإيمان و عمل الصالحات هنا ليس بشرط حقيقي و إن كان معطوفا على الشرط فكأنه تعالى لما أراد أن يبين وجوب الإيمان و عمل الصالحات عطفه على ما هو واجب من اتقاء المحارم لاشتراكهما في الوجوب و إن لم يشتركا في كونهما شرطا في نفي الجناح فيما يطعم و هذا توسع في البلاغة يحار فيه العقل استحسانا و استغرابا انتهى كلامه رحمه الله. و قد قيل أيضا في الجواب في ذلك أن المؤمن يصح أن يطلق عليه أنه لا جناح عليه و الكافر مستحق للعقاب مغمور فلا يطلق عليه هذا اللفظ و أيضا فإن الكافر قد سد   على نفسه طريق معرفة التحليل و التحريم فلذلك خص المؤمن بالذكر. و قوله وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي يريد ثوابهم و إجلالهم و إكرامهم و تجليلهم

 و يروى أن قدامة بن مظعون شرب الخمر في أيام عمر بن الخطاب فأراد أن يقيم عليه الحد فقال لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ الآية فأراد عمر أن يدرأ عنه الحد فقال علي ع أديروه على الصحابة فإن لم يسمع أحدا منهم قرأ عليه آية التحريم فادرءوا عنه الحد و إن كان قد سمع فاستتيبوه و أقيموا عليه الحد فإن لم يتب وجب عليه القتل

و أقول يمكن أن يقال في جواب الشبهة التي أوردها السيد رضي الله عنه لا نسلم أن المباح على الكفار مباح و يمكن أن تكون الإباحة مشروطة بالإيمان كما أن صحة العبادات مشروطة به كما يظهر من كتاب أمير المؤمنين ع إلى أهل مصر مع محمد بن أبي بكر و غيره من الأخبار أن الله لا يحاسب المؤمن على لذات الدنيا و يحاسب غيره عليها و إنما أباحها للمؤمنين فالمراد بعمل الصالحات ولاية الأئمة ع و بالتقوى ترك الأطعمة المحرمة فيستفاد من الآية عدم الجناح على المؤمنين في أي شي‏ء أكلوا و شربوا إذا اجتنبوا المأكولات و المشروبات المحرمة و ثبوت الجناح على المؤمنين إذا أكلوا و شربوا الحرام و على غيرهم مطلقا لعدم حصول شرط الإباحة فيهم و يحتمل على وجه بعيد أن يكون المراد أن صرف المستلذات لا يضر لمن كمل إيمانه و إنما يضر الناقصين الذين يصير ذلك سببا لطغيان نفوسهم و غلبة الشهوات المحرمة عليهم فالرياضات البدنية مستحبة مطلوبة لأمثال هؤلاء لتكميل نفوسهم و إخراج الشهوات و حب اللذات عن قلوبهم. قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ قال في المجمع لما بين سبحانه الحلال و الحرام بين أنهما لا يستويان فقال سبحانه قُلْ يا محمد لا يَسْتَوِي أي لا يتساوى الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ أي الحرام و الحلال عن الحسن و الجبائي و قيل الكافر و المؤمن   عن السدي وَ لَوْ أَعْجَبَكَ أيها السامع أو أيها الإنسان كَثْرَةُ الْخَبِيثِ أي كثرة ما تراه من الحرام لأنه لا يكون في الكثير من الحرام بركة و يكون في القليل من الحلال بركة و قيل إن الخطاب للنبي ص و المراد أمته فَاتَّقُوا اللَّهَ أي فاجتنبوا ما حرم الله عليكم يا أُولِي الْأَلْبابِ يا ذوي العقول لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لتفلحوا و تفوزوا بالثواب العظيم و النعيم المقيم انتهى. و أقول يمكن تعميم الطيب و الخبيث بحيث يشمل كل ما فيه جهة خبث و رداءة واقعية سواء كان إنسانا أو مالا أو مأكولا أو مشروبا فإنه لا يستوي مع الطيب الطاهر من ذلك الجنس و إن كان الخبيث أكثر أي ليس مدار القبول و الكمال على الكثرة بل على الحسن و الطيب الواقعيين و لا يخفى أنه لا يدخل فيهما الخبيث و الطيب الذين اصطلح عليهم الأصحاب من كون الشي‏ء مرغوبا للناس أو عدمه ما حرم عليكم أي بقوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ مما حرم عليكم فإنه أيضا حلال حال الضرورة وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بتحليل الحرام و تحريم الحلال بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي بتشهيهم بغير تعلق بدليل يفيد العلم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ أي المتجاوزين الحق إلى الباطل و الحلال إلى الحرام. أقول و يدل على أن الأصل في المأكولات لا سيما في الذبائح الحل و لا يجوز الحكم بالتحريم إلا بدليل و إنه تحل المحرمات عند الضرورة أي ضرورة كانت. هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ في المجمع أي خلق و ابتدأ على مثال جَنَّاتٍ أي بساتين فيها الأشجار المختلفة مَعْرُوشاتٍ مرفوعات بالدعائم قيل هو ما عرشه من الكروم و نحوها عن ابن عباس و قيل عرشها أن يجعل لها حظائر كالحيطان وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ يعني ما خرج من قبل نفسه في البراري و الجبال من أنواع الأشجار عن ابن عباس و قيل غير مرفوعات بل قائمة على أصولها مستغنية عن التعريش وَ النَّخْلَ   وَ الزَّرْعَ

 أي أنشأ النخل و الزرع مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أي طعمه و قيل ثمره و قيل هذا وصف للنخل و الزرع جميعا فخلق سبحانه بعضها مختلف اللون و الطعم و الرائحة و الصورة و بعضها مختلفا في الصورة متفقا في الطعم و بعضها مختلفا في الطعم متفقا في الصورة و كل ذلك يدل على توحيده و على أنه قادر على ما يشاء عالم بكل شي‏ء وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً في الطعم و اللون و الصورة وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ إذا أثمر فيها و إنما قرن الزيتون إلى الرمان لأنهما متشابهان باكتنان الأوراق في أغصانها كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ المراد به الإباحة و إن كان بلفظ الأمر قال الجبائي و جماعة هذا يدل على جواز الأكل من الثمر و إن كان فيه حق الفقراء انتهى. و أقول الضمير في ثمره راجع إلى كل من المذكورات فيدل على إباحة الجميع مع أن ذكرها في مقام الامتنان أيضا يدل على ذلك وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قيل هي الزكاة و في أخبارنا أنه غير الزكاة و سيأتي إن شاء الله في محله وَ لا تُسْرِفُوا أي في الإتيان و الصدقة أو في الأكل قبل الحصاد أو مطلقا و قيل أي لا تنفقوا في المعصية و قد مر تفسير سائر الآيات في باب الأنعام إلى قوله تعالى قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أي طعاما محرما على آكل يأكله و المراد بالوحي ما في القرآن أو الأعم و فيه تنبيه على أن لا تحريم إلا بوحي لا بغيره فإنه لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى إِلَّا أن يكون الطعام مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً. قال الطبرسي رحمه الله أي مصبوبا و إنما خص المصبوب بالذكر لأن ما يختلط باللحم منه مما لا يمكن تخليصه منه معفو مباح أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ إنما خص الأشياء الثلاثة هنا بذكر التحريم مع أن غيرها محرم فإنه سبحانه ذكر في المائدة تحريم المنخنقة و الموقوذة و المتردية و النطيحة و غيرها لأن جميع ذلك   يقع عليه اسم الميتة فيكون في حكمها فأجمل هاهنا و فصل هناك و أجود من هذا أن يقال خص هذه الأشياء بالتحريم تعظيما لحرمتها و بين تحريم ما عداها في مواضع أخر إما بنص القرآن أو بوحي غير القرآن و أيضا فإن هذه السورة مكية و المائدة مدنية فيجوز أن يكون غير ما في الآية من المحرمات إنما حرم فيما بعد و الميتة عبارة عما كان فيه حياة ففقدت من غير تذكية شرعية فَإِنَّهُ رِجْسٌ أي نجس و الرجس اسم لكل شي‏ء مستقذر منفور عنه و الرجس أيضا العذاب و الهاء في قوله فَإِنَّهُ عائد إلى ما تقدم ذكره انتهى. و قيل الضمير راجع إلى الخنزير أو لحمه و قذارته لتعوده أكل النجاسة. أَوْ فِسْقاً قال البيضاوي عطف على لحم خنزير و ما بينهما اعتراض للتعليل أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صفة له موضحة و إنما سمي ما ذبح على اسم الصنم فسقا لتوغله في الفسق و يجوز أن يكون فسقا مفعولا له من أهل و هو عطف على يكون و المستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا أي على اليهود في أيام موسى ع حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ في المجمع اختلف في معناه فقيل هو كل ما ليس بمنفرج الأصابع كالإبل و النعام و الإوز و البط عن ابن عباس و ابن جبير و غيرهما و قيل هو الإبل فقط و قيل يدخل فيه كل السباع و الكلاب و السنانير و ما يصطاد بظفره و قيل كل ذي مخلب من الطير و كل ذي حافر من الدواب وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما من الثرب و شحم الكلى و غير ذلك إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما من الشحم و هو اللحم السمين فإنه لم يحرم عليهم أَوِ الْحَوايا أي ما حملته الحوايا من الشحم و الحوايا هي المباعر و قيل هي بنات اللبن و قيل هي الأمعاء التي عليها الشحوم.

    و قال البيضاوي هي جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء و قواصع أو حوية كسفينة و سفائن و قيل هو عطف على شحومهما و أو بمعنى الواو. أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ في الكشاف و غيره هو شحم الألية لاتصالها بالعصعص و قيل المخ و في الكنز هو شحم الجنب و الألية لأنها مركبة على العصعص و دخول شحم الجنب فيما حملت الظهور أظهر و قيل و في الآية دلالة على حل هذه الأشياء في شريعتنا و إلا لما كان لتخصيص اليهود بالتحريم معنى و يدل أيضا على التخصيص قوله سبحانه ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ مع معاونة قرائن لا تخفى. وَ إِنَّا لَصادِقُونَ في المجمع أي في الإخبار عن التحريم و عن بغيهم و في كل شي‏ء و في أن ذلك التحريم عقوبة لأوائلهم و مصلحة لما بعدهم إلى وقت النسخ. و قال رحمه الله في قوله وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أي مكناكم من التصرف فيهما و ملكناكموها و جعلناها لكم قرارا وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي ما تعيشون به من أنواع الرزق و وجوه النعم و المنافع و قيل يريد المكاسب و الإقدار عليها بالعلم و القدرة و الآلات قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أنتم مع هذه النعم التي أنعمناها عليكم لتشكروا قد قل شكركم وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا صورته صورة الأمر و المراد به الإباحة و هو عام في جميع المباحات وَ لا تُسْرِفُوا أي و لا تجاوزوا الحلال إلى الحرام قال مجاهد لو أنفقت مثل أحد في طاعة الله لم تكن مسرفا و لو أنفقت درهما أو مدا في معصية الله لكان إسرافا و قيل معناه لا تخرجوا عن حد الاستواء في زيادة المقدار   و قد حكي أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد ليس في كتابكم من علم الطب شي‏ء و العلم علمان علم الأديان و علم الأبدان فقال له علي قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه و هو قوله كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا و جمع نبينا ص الطب في قوله المعدة بيت الداء و الحمية رأس كل دواء و أعط كل بدن ما عودته فقال الطبيب ما ترك كتابكم و لا نبيكم لجالينوس طبا. و قيل معناه لا تأكلوا محرما و لا باطلا على وجه لا يحل و أكل الحرام و إن قل إسراف و مجاوزة الحد و ما استقبحه العقلاء و عاد بالضرر عليكم فهو إسراف أيضا لا يحل كمن يطبخ القدر بماء الورد و يطرح فيها المسك و كمن لا يملك إلا دينار فاشترى به طيبا و تطيب به و ترك عياله محتاجين إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ أي يبغضهم. و لما حث سبحانه على تناول الزينة عند كل مسجد و ندب إليه و أباح الأكل و الشرب و نهى عن الإسراف و كان قوم من العرب يحرمون كثيرا من هذا الجنس حتى أنهم كانوا يحرمون السمون و الإبان في الإحرام و كانوا يحرمون السوائب و البحائر أنكر عز اسمه ذلك عليهم فقال قُلْ يا محمد مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ أي من حرم الثياب التي يتزين بها الناس مما أخرجها الله من الأرض لعباده وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قيل هي المستلذات من الرزق و قيل هي المحللات و الأول أظهر لخلوصها يوم القيامة للمؤمنين قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ قال ابن عباس يعني أن المؤمنين يشاركون المشركين في الطيبات في الدنيا فأكلوا من طيبات طعامهم و لبسوا من جياد ثيابهم و نكحوا من صالح نسائهم ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا و ليس للمشركين فيها شي‏ء و قيل معناه قل هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا غير خالصة من الهموم و الأحزان و المشقة

    و هي خالصة يوم القيامة عن ذلك كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كما نميز لكم الآيات و ندلكم بها على منافعكم و صلاح دينكم كذلك نفصل الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ انتهى. و أقول يمكن أن يكون تقدير الآية هي للذين آمنوا مخصوصة بهم و خلقناها لهم حال كونها خالصة لهم يوم القيامة أي يشركهم الكفار و المخالفون في الدنيا غصبا و خالصة لهم في القيامة لا يشركونهم فيها فيؤيد ما ذكرنا في قوله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الآية و كأنه يومي إلى هذا ما ذكره أمير المؤمنين في كتابه إلى أهل مصر و اعلموا عباد الله أن المتقين حازوا عاجل الخير و آجله شاركوا أهل الدنيا على دنياهم و لم يشاركهم أهل الآخرة في آخرتهم أباحهم الله في الدنيا ما كفاهم و به أغناهم قال الله عز اسمه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الآية قال الرازي هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد فإن قيل هلا قيل للذين آمنوا و لغيرهم قلنا للتنبيه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة و أن الكفرة تبع لهم كقوله وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ ثم قال قرأ نافع خالصة بالرفع و الباقون بالنصب قال الزجاج الرفع على أنه خبر بعد خبر و المعنى قل هي ثابتة للذين آمنوا خالصة يوم القيامة. قال أبو علي يجوز أن يكون خالصة خبر المبتدإ و قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا متعلقا بخالصة و التقدير هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا و أما النصب فعلى الحال و المعنى أنها ثابتة للذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يوم القيامة انتهى.

 و روى الكليني بإسناده عن يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس قال قلت   لأبي عبد الله ع ما لكم من هذه الأرض فتبسم ثم قال إن الله تعالى بعث جبرئيل و أمره أن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض منها سيحان و جيحون و هو نهر بلخ و الخشوع و هو نهر الشاش و مهران و هو نهر الهند و نيل مصر و دجلة و الفرات فما سقت أو استقت فهو لنا و ما كان لنا فهو لشيعتنا و ليس لعدونا منها شي‏ء إلا ما غصب عليه و إن ولينا لفي أوسع فيما بين ذه إلى ذه يعني بين السماء و الأرض ثم تلا هذه الآية قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا المغصوبين عليها خالِصَةً لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بلا غصب

ثم قال الطبرسي رحمه الله في هذه الآية دلالة على جواز لبس الثياب الفاخرة و أكل الأطعمة الطيبة من الحلال.

 و روى العياشي بإسناده عن الحسين بن زيد عن عمه عمر بن علي عن أبيه زين العابدين علي بن الحسين ع أنه كان يشتري كساء بخمسين دينارا فإذا أصاف تصدق به لا يرى بذلك بأسا و يقول قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الآية

 و بإسناده عن يوسف بن إبراهيم قال دخلت على أبي عبد الله ع و عليه جبة خز و طيلسان خز فنظر إلي فقلت جعلت فداك هذا خز ما تقول فيه فقال و ما بأس بالخز قلت و سداه إبريسم قال لا بأس به فقد أصيب الحسين ع و عليه جبة خز ثم قال إن عبد الله بن عباس لما بعثه أمير المؤمنين علي ع إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه و تطيب بأطيب طيبه و ركب أفضل مراكبه فخرج إليهم فواقفهم قالوا يا ابن عباس بينا أنت خير الناس إذا أتيتنا في لباس الجبابرة و مراكبهم فتلا هذه الآية قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ إلى آخرها فالبس و تجمل فإن الله جميل و يحب الجمال و ليكن من الحلال

و في هذه الآية أيضا دلالة على أن الأشياء على الإباحة لقوله تعالى مَنْ   حَرَّمَ فالسمع ورد مؤكدا لما في العقل انتهى. ثم حصر سبحانه المحرمات بقوله قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ و كأنه إشارة إلى أن أكل الطيبات و التمتع بالمستلذات المحللة ليس بحرام بل الحكم بكونه حراما حرام لأنه قول على الله بغير علم. و قيل الفواحش جميع القبائح و الكبائر ما علن منها و ما خفي و قيل هي الزنا و قيل الطواف عاريا و قيل الإثم الذنوب و المعاصي و قيل ما دون الحد و قيل الخمر و البغي الظلم و الفساد و قوله بِغَيْرِ الْحَقِّ تأكيد. قوله سبحانه وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ في مجمع البيان معناه يبيح لهم المستلذات الحسنة و يحرم عليهم القبائح و ما تعافه الأنفس و قيل يحل لهم ما اكتسبوه من وجه طيب و يحرم عليهم ما اكتسبوه من وجه خبيث و قيل يحل لهم ما حرمه عليهم رهابينهم و أحبارهم و ما كان يحرمه أهل الجاهلية من البحائر و السوائب و يحرم عليهم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما ذكر معها انتهى. و أقول استدل أكثر أصحابنا على تحريم كثير من الأشياء التي تستقذرها طباع أكثر الخلق بهذه الآية و فيه نظر إذ الظاهر من سياق الآية مدح النبي ص و شريعته بأن ما يحل لهم هو طيب واقعا و إن لم نفهم طيبه و ما يحرم عليهم هو الخبيث واقعا و إن لم نعلم خبثه كالطعام اللذيذ الذي عمل من مال السرقة تستلذه الطباع و هو خبيث واقعا و أكثر الأدوية التي يحتاج الناس إليها في غاية البشاعة و النكارة و تستقذرها الطباع و لم أر قائلا بتحريمها فالحمل على المعنى الذي لا يحتاج إلى تخصيص و يكون موافقا لقواعد الإمامية من الحسن و القبح العقليين أولى من الحمل على معنى يحتاج إلى تخصيصات كثيرة بل ما يخرج عنهما أكثر مما يدخل فيهما   كما لا يخفى على من تتبع مواردهما و يمكن أن يقال هذه الآية كالصريحة في الحسن و القبح العقليين و لم يستدل بها الأصحاب رضي الله عنهم. و قال الشهيد الثاني رفع الله درجته في المسالك و الطيب يطلق على الحلال قال تعالى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي من الحلال و على الطاهر قال تعالى فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أي طاهرا و على ما لا أذى فيه كالزمان الذي لا حر فيه و لا برد يقال هذا زمان طيب و ما تستطيبه النفس و لا تنفر منه كقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إذ ليس المراد منها هنا الحلال لعدم الفائدة في الجواب على تقديره لأنهم سألوه أن يبين لهم الحلال فلا يقول في الجواب الحلال و لا الطاهر لأنه إنما يعرف من الشرع توقيفا و لا ما لا أذى فيه لأن المأكول لا يوصف به فتعين المراد ردهم إلى ما يستطيبونه و لا يستخبثونه لردهم إلى عادتهم و ما هو مقرر في طباعهم و لأن ذلك هو المتبادر من معنى الطيب عرفا و في الأخبار ما ينبه عليه و المراد بالعرف الذي يرجع إليه في الاستطابة عرف الأوساط من أهل اليسار في حالة الاختيار دون أهل البوادي و ذوي الاضطرار من جفاة العرب فإنهم يستطيبون ما دب و درج كما سئل بعضهم مما يأكلون فقال كل ما دب و درج إلا أم جنين فقال بعضهم ليهن أم جنين العافية لكونها أمنت أن تؤكل هذا خلاصة ما قرره الشيخ في المبسوط و غيره إلا أنه فصل أولا المحلل إلى حيوان و غيره و قسم الحيوان إلى حي و غيره و قال ما كان من الحيوان حيا فهو حرام حيث لم يرد به الشرع محتجا بأن ذبح الحيوان محظور و ما كان من الحيوان غير حي أو من غيره فهو على أصل الإباحة و في استثناء الحيوان الحي من ذلك نظر لعموم الأدلة و الاستناد إلى تحريم ذبحه بدون الشرع في حيز المنع فهذا هو الأصل الذي يرجع إليه في باب الأطعمة انتهى.

    و أقول قد عرفت ضعف بعض هذا الكلام فيما مضى و نقول أيضا قوله ليس المراد الحلال في محل المنع لاحتمال أن يكون اللام للعهد أي ما بينا لكم حله ثم ذكر سائر المحللات بعده و ذكره لعنوان الطيبات لبيان أن ما أحللناه لكم هو الطيب واقعا فكذا ما أحللناه لكم و قوله لأنه إنما يعرف من الشرع لا يصلح دليلا لعدم حمل الجواب عليه بعد بيان الله في كتابه و على لسان نبيه النجاسات فيفيد أن غير النجاسات المنصوص عليها حلال و ما خرج عنها بدليل ثم قوله لأن المأكول لا يوصف به في محل المنع لأن كثيرا من المأكولات و المشروبات تفسد العقل أو البدن و أيضا حصر معنى الطيب فيما ذكره ممنوع إذ يحتمل أن يكون المراد بالطيب ما لم يكن فيه خبث معنوي و قبح واقعي لتضمنه ضررا دينيا أو دنيويا و إن أمكن إرجاعه إلى ما لا أذى فيه. وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يحتمل بعض الوجوه المتقدمة فأخرج لكم من الثمرات رزقا لكم إنما قال مِنَ الثَّمَراتِ لأن جميعها لا تصلح لذلك و يحتمل البيان. قال البيضاوي رزقا لكم تعيشون به و هو يشمل المطعوم و الملبوس و هو مفعول أخرج و مِنَ الثَّمَراتِ بيان أو حال منه و يحتمل عكس ذلك و يجوز أن يراد به المصدر فينصب بالعلة أو المصدر لأن أخرج في معنى رزق. وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أي بمشيته إلى حيث توجهتم وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ فجعلها معدة لانتفاعكم و تصرفكم و قيل تسخيرها هذه الأشياء تعليم كيفية اتخاذها. و أقول الآية على حل ثمرات ما يخرج من الأرض و جواز الانتفاع بها أكلا و شربا و لبسا و على جواز اتخاذ الفلك و ركوبها و على جواز الشرب من الأنهار و الوضوء و الغسل و سائر الانتفاعات بها إلا ما أخرجه الدليل و كذا سقي الزروع و الأشجار و رشها على الأرض و غير ذلك من الانتفاعات التي لم يرد نهي عنها   و جعلنا لكم قبلها وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تعيشون بها و في المجمع أي خلقنا لكم في الأرض معايش من زرع أو نبات و قيل معناه أي مطاعم و مشارب تعيشون بها و قيل هي التصرف في أسباب الرزق في مدة الحياة وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ يعني العبيد و الدواب يرزقهم الله تعالى و لا ترزقونهم. و قال البيضاوي عطف على معايش أو محل لكم. فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أي جعلناه لكم سقيا وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي بحافظين و لا محرزين بل الله يحفظه ثم يرسله من السماء ثم يحفظه في الأرض ثم يخرجه من العيون بقدر الحاجة. وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً قال البيضاوي أي دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ استئناف لبيان العبرة و إنما ذكر الضمير و وحده هنا للفظه و أنثه في سورة المؤمنين للمعنى فإن الأنعام اسم جمع و من قال إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض فإن اللبن لبعضها دون جميعها أو الواحدة أو له على المعنى فإن المراد به الجنس و قرأ جماعة بالفتح مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً فإنه يخلق من بعض الأجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث و هي الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش و عن ابن عباس أن البهيمة إذا انعلفت و انطبخ العلف في كرشها كان أسفله فرثا و أوسطه لبنا و أعلاه دما و لعله إن صح فالمراد أن وسطه يكون مادة اللبن و أعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن لأنهما لا يتكونان في الكرش و يبقى ثفله و هو الفرث ثم يمسكها ريثما يهضمها هضما ثانيا فيحدث أخلاط أربعة معها مائية فيميز القوة المميزة تلك المائية مما زاد على قدر الحاجة من المريتين و تدفعها إلى الكلية و المرارة و الطحال ثم يوزع الباقي على الأعضاء بتجبنها فيجري

    إلى كل حقه على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرودة و الرطوبة على مزاجها فيندفع الزائد أولا إلى الرحم لأجل الجنين فإذا انفصل انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع فيبيض بمجاورة لحومها البيض فيصير لبنا و من تدبر صنع الله في إحداث الأخلاط و الألبان و إعداد مقارها و مجاريها و الأسباب المولدة و القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته و سبوغ رحمته و من الأولى تبعيضية لأن اللبن بعض ما في بطنها و الثانية ابتدائية كقولك سقيت من الحوض لأن بين الفرث و الدم المحل الذي يبتدئ منه الاستسقاء و هي متعلقة بنسقيكم أو حال من لبنا قدم عليه لتنكيره و للتنبيه على أنه موضع العبرة خالِصاً صافيا لا يستصحب لون الدم و لا رائحة الفرث أو مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور في حلقهم انتهى. و قال الرازي في تأويل الآية المراد أن اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم و الدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث و هو الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش فهذا اللبن متولد من الأجزاء التي كانت حاصلة فيما بين الفرث أولا ثم كانت حاصلة فيما بين الدم ثانيا و صفاه الله تعالى عن تلك الأجزاء الكثيفة الغليظة و خلق فيها الصفات التي باعتبارها صارت لبنا موافقا لبدن الطفل انتهى. وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ قيل متعلق بمحذوف أي و نسقيكم من ثمرات النخيل و الأعناب من عصيرهما و قيل أي و لكم عبرة فيما أخرج الله لكم من ثمرات النخيل و الأعناب و قيل معناه من ثمرات النخيل و الأعناب ما تتخذون منه سكرا و العرب تضمر ما الموصولة كثيرا و الأعناب عطف على الثمرات و السكر   اختلف المفسرون في معناه فقيل السكر الخمر و الرزق الحسن التمر و الزبيب و الدبس و السيلان و الخل و قيل سكرا مفعول تتخذون على جهة الاستفهام و عامل رزقا مقدر و التقدير تتخذون منه سكرا و قد رزقناكم منه رزقا حسنا فيكون فيه جمع بين المعاتبة و المنة و لذلك أسند الاتخاذ إليهم و قيل السكر الخل و الرزق الحسن ما هو خير منه و قيل السكر كل ما حرم الله من ثمارها خمرا كان أو غيره كالنبيذ و الفقاع و ما أشبههما و الرزق الحسن و ما أحله الله من ثمارهما و قيل السكر ما يشبع و يسد الجوع. و قال علي بن إبراهيم السكر الخل و روي عن الصادق ع أنها نزلت قبل آية التحريم فنسخت بها. و فيه دلالة على أن المراد به الخمر و قد جاء بالمعنيين جميعا قيل و على إرادة الخمر لا يستلزم حلها في وقت لجواز أن يكون عتابا و منة قبل بيان تحريمها و معنى النسخ نسخ السكوت عن التحريم فلا ينافي ما جاء في أنها لم تكن حلالا قط و في مقابلتها بالرزق الحسن تنبيه على قبحها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يستعملون عقولهم بالنظر و التأمل في الآيات. وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ قال البيضاوي أي من اللذائذ و الحلالات و من للتبعيض فإن المرزوق في الدنيا أنموذج منها أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ و هو أن الأصنام ينفعهم أو أن من الطيبات ما يحرم عليهم كالسوائب و البحائر وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ حيث أضافوا نعمه إلى الأصنام أو حرموا ما أحل الله لهم فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قال أمرهم بأكل ما أحل الله لهم و شكر ما أنعم عليهم بعد ما زجرهم عن الكفر و هددهم عليه ثم عدد عليهم محرماته ليعلم أن ما عداها حل لهم ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم و التحليل بأهوائهم فقال وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ كما قالوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا الآية و سياق الكلام و تصدير الجملة بإنما يفيد حصر المحرمات

    في الأجناس الأربعة إلا ما ضم إليه دليل كالسباع و انتصاب الكذب بلا تقولوا و هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ مفعول لا تقولوا أو الكذب منتصب بتصف و ما مصدرية أي لا تقولوا هذا حلال و هذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب كما أن حقيقة الكذب كانت مجهولة و ألسنتهم تصفها و تعرفها بكلامهم هذا و لذلك عد من فصيح الكلام كقولهم وجهها يصف الجمال و عينها يصف السحر. لِتَفْتَرُوا تعليل لا يتضمن الغرض أَزْواجاً أي أصنافا سميت بذلك لازدواجها و اقتران بعضها ببعض مِنْ نَباتٍ بيان أو صفة لأزواجا و كذلك شَتَّى و يحتمل أن يكون صفة للنبات فإنه من حيث إنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد و الجمع و هو جمع شتيت كمريض و مرضى أي متفرقات في الصور و الأعراض و المنافع يصلح بعضها للناس و بعضها للبهائم فلذلك قال كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ و هو حال من ضمير فَأَخْرَجْنا على إرادة القول أي أخرجنا أصناف النبات قائلين كلوا و ارعوا و المعنى معد بها لانتفاعكم بالأكل و العلف آذنين فيه. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ في المجمع صورته الأمرد و المراد به الإباحة وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ أي و لا تتعدوا فيه فتأكلوه على الوجه المحرم عليكم و قيل أي لا تتجاوزوا عن الحلال إلى الحرام أو لا تتناولوا من الحلال للاستعانة به على المعصية فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أي فيجب عليكم عقوبتي و من ضم الحاء فالمعنى فتنزل عليكم عقوبتي ماءً بِقَدَرٍ قيل بتقدير يكثر نفعه و يقل ضرره أو بمقدار ما علمناه من صلاحهم فَأَسْكَنَّاهُ فجعلناه ثابتا مستقرا فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي على إزالته بالإفساد أو التصعيد أو التعميق بحيث يتعذر استنباطه لَقادِرُونَ كما كنا قادرين على إنزاله فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي بالماء لَكُمْ فِيها في الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكهون بها وَ مِنْها أي و من الجنات ثمارها و زروعها تَأْكُلُونَ تغذيا أو ترزقون و تحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته   و يجوز أن يكون الضميران للنخيل و الأعناب أي لكم في ثمرتها أنواع من الفواكه الرطب و العنب و التمر و الزبيب و العصير و الدبس و غير ذلك و طعام تأكلونه وَ شَجَرَةً عطف على جنات تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ جبل موسى بين مصر و أيلة و قيل بفلسطين تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي متلبسا بالدهن مستصحبا له و يجوز أن تكون الباء صلة معدية لتنبت كما في قولك ذهبت بزيد وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ عطف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشي‏ء على الآخر أي تنبت بالشي‏ء الجامع بين كونه دهنا يدهن به و يسرج به و كونه إداما يصبغ به الخبز أي يغمس به للائتدام سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ بأن جعله أسبابا محصلة لمنافعكم وَ ما فِي الْأَرْضِ بأن مكنكم من الانتفاع به أو بوسط أو بغير وسط ظاهِرَةً وَ باطِنَةً أي محسوسة و معقولة أو ما تعرفونه و ما لا تعرفونه إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي التي جرز نباتها أي قطع و أزيل لا التي لا تنبت لقوله فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً و قيل اسم موضع باليمن تَأْكُلُ مِنْهُ أي من الزرع أنعامهم كالتبن و الورق وَ أَنْفُسُهُمْ كالحب و الثمر أَ فَلا يُبْصِرُونَ فيستدلون به على كمال قدرته و فضله أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا جنس الحب فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ قدم الصلة للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل و يعاش به لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أي ثمر ما ذكر و هو الحبات و قيل الضمير لله على طريقة الالتفات و الإضافة إليه لأن الثمر بخلقه وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ عطف على الثمر و المراد ما يتخذ منه كالعصير و الدبس و نحوهما و قيل ما نافية و المراد أن التمر بخلق الله لا بفعلهم أَ فَلا يَشْكُرُونَ أمر بالشكر لأنه إنكار لتركه خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي الأنواع و الأصناف مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النبات و الشجر وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الذكر و الأنثى وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ و أزواجا و مما لم يطلعهم الله عليه

    و لم يجعل لهم طريقا إلى معرفته فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا كالحنطة و الشعير وَ عِنَباً وَ قَضْباً يعني الرطبة سميت بمصدر قضبه إذا قطعه لأنها تقضب مرة بعد أخرى وَ حَدائِقَ غُلْباً أي عظاما وصف به الحدائق لتكاثفها و كثرة أشجارها أو لأنها ذات أشجار غلاظ مستعار من وصف الرقاب وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا أي مرعى من أب إذا أم لأنه يؤم و ينتجع أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه مهيأ للرعي أو فاكهة يابسة تؤب للشتاء مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ فإن الأنواع المذكورة بعضها طعام و بعضها علف

1-  تفسير علي بن إبراهيم، عن أبيه عن القاسم بن محمد عن المنقري عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله ع قال يا حفص ما أنزلت الدنيا من نفسي إلا بمنزلة الميتة إذا اضطررت إليها أكلت منها الخبر

2-  المحاسن، عن محمد بن علي عن محمد بن أسلم عن عبد الرحمن بن سالم عن المفضل بن عمر قال قلت لأبي عبد الله ع أخبرني جعلت فداك لم حرم الله الخمر و الميتة و الدم و لحم الخنزير فقال إن الله تبارك و تعالى لم يحرم ذلك على عباده و أحل لهم سواه من رغبة منه فيما حرم عليهم و لا زهد فيما أحل لهم و لكنه عز و جل خلق الخلق و علم ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحله لهم و أباحه تفضلا منه عليهم به تبارك و تعالى لمصلحتهم و علم عز و جل ما يضرهم فنهاهم عنه و حرمه عليهم ثم أباحه للمضطر و أباحه له في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك ثم قال أما الميتة فلا يدمنها أحد   إلا ضعف بدنه و نحل جسمه و ذهبت قوته و انقطع نسله و لا يموت آكل الميتة إلا فجأة و أما الدم فإنه يورث أكله الماء الأصفر و يبخر الفم و يسي‏ء الخلق و يورث الكلب و القسوة للقلب و قلة الرأفة و الرحمة حتى لا يؤمن أن يقتل ولده و والديه و لا يؤمن على حميمه و لا يؤمن على من يصحبه و أما لحم الخنزير فإن الله تبارك و تعالى مسخ قوما في صور شتى شبه الخنزير و الدب و القرد و ما كان من الأمساخ ثم نهى عن أكل المثلة نسلها لكيلا ينتفع الناس بها و لا يستخف بعقوبته و أما الخمر فإنه حرمها لفعلها و فسادها و قال مدمن الخمر يورثه الارتعاش و يذهب بنوره و يهدم مروءته و يحمله على أن يجسر على المحارم من سفك الدماء و ركوب الزنا و لا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه و لا يعقل ذلك و الخمر لا تزيد شاربها إلا كل شر

 الكافي، عن العدة عن سهل بن زياد و علي بن إبراهيم عن أبيه جميعا عن عمرو بن عثمان عن محمد بن عبد الله عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله ع و عدة من أصحابنا أيضا عن أحمد بن محمد بن خالد عن محمد بن أسلم عن عبد الرحمن بن سالم عن مفضل بن عمر مثله. بيان يظهر من سند المحاسن أنه سقط عن محمد بن علي قبل عن محمد   بن أسلم في نسخ الكافي. و في القاموس البلغة بالضم ما يتبلغ به من العيش و قال الكلب بالتحريك العطش و الحرص و الشدة و الأكل الكثير بلا شبع و صياح من عضه الكلب الكلب و جنون الكلاب المعتري من أكل لحم الإنسان و شبه جنونها المعتري للإنسان من عضها انتهى و كأن المراد إما العطش أو الحرص في الأكل أو جنون يشبه حالة من عضه الكلب. و في القاموس مثل بفلان مثلا و مثلة بالضم نكل كمثل تمثيلا و هي المثلة بضم الثاء و سكونها و الوثوب كناية عن الجماع و الحرم بضم الحاء و فتح الراء اللواتي تحرم نكاحهن و يحتمل أن يراد بالوثوب القتل و بالحرمة نساؤه كما في القاموس

3-  معاني الأخبار، عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عمن ذكره عن أبي عبد الله ع في قول الله عز و جل فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال الباغي الذي يخرج على الإمام و العادي الذي يقطع الطريق لا يحل لهما الميتة

4-  و قد روي أن العادي اللص و الباغي الذي يبغي الصيد لا يجوز لهما التقصير في السفر و لا أكل الميتة في حال الاضطرار

5-  العياشي، عن محمد بن إسماعيل رفع إلى أبي عبد الله ع في قوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال الباغي الظالم و العادي الغاصب

6-  و منه، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله ع في قوله فَمَنِ اضْطُرَّ   غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال الباغي الذي يخرج على الإمام و العادي الذي يقطع الطريق لا يحل لهما الميتة

7-  و قد روي أن العادي اللص و الباغي الذي يبغي الصيد لا يجوز لهما التقصير في السفر و لا أكل الميتة في حال الاضطرار

8-  دعائم الإسلام، عن محمد بن إسماعيل رفع إلى أبي عبد الله ع في قوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال الباغي الظالم و العادي الغاصب

9-  و منه، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله ع في قوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال الباغي الخارج على الإمام و العادي اللص

 بيان الذي يتلخص من مجموع الأخبار هو أن السفر الذي لا يجوز فيه قصر الصلاة و الصوم للمعصية و العدوان لا يحل أكل الميتة إذا اضطر فيه إليها

10-  دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد ع أنه ذكر ما يحل أكله و ما يحرم بقول مجمل فقال أما ما يحل للإنسان أكله مما خرجت الأرض فثلاثة أصناف من الأغذية صنف منها جميع صنوف الحب كله كالحنطة و الأرز و القطنية و غيرها و الثاني صنوف الثمار كلها و الثالث صنوف البقول و النبات فكل شي‏ء من هذه الأشياء فيه غذاء للإنسان و منفعة و قوة فحلال أكله و ما كان فيه المضرة فحرام أكله إلا في حال التداوي به و أما ما يحل أكله من لحوم الحيوان فلحم البقر و الغنم و الإبل و من لحوم الوحش كل ما ليس له ناب و لا مخلب و من لحوم الطير كل ما   كانت له قانصة و من صيد البحر كل ما له قشر و ما عدا ذلك كله من هذه الأصناف فحرام أكله و ما كان من البيض مختلف الطرفين فحلال أكله و ما يستوي طرفاه فهو من بيض ما لا يؤكل لحمه

 بيان قال في النهاية فيه كان يأخذ من القطنية العشر هي بالكسر و التشديد واحدة القطاني كالعدس و الحمص و اللوبيا و نحوها. و في القاموس القطنية بالضم و الكسر النبات و حبوب الأرض أو ما سوى الحنطة و الشعير و الزبيب و التمر أو هي الحبوب التي تطبخ الشافعي العدس و الخلر و الفول و الدجر و الحمص الجمع القطاني أو هي الخلف و خضر الصيف

11-  الدعائم، عن علي ع أنه قال المضطر يأكل الميتة و كل محرم إذا اضطر إليه

12-  و قال جعفر بن محمد ع إذا اضطر المضطر إلى أكل الميتة أكل حتى يشبع و إذا اضطر إلى الخمر شرب حتى يروي و ليس له أن يعود إلى ذلك حتى يضطر إليه أيضا

13-  و منه، عن أبي جعفر ع أنه ذكر الجبن الذي يعمله المشركون و أنهم يجعلون فيه الإنفحة من الميتة و مما لم يذكر اسم الله عليه قال إذا علم ذلك لم يؤكل و إن كان الجبن مجهولا لا يعلم من عمله و بيع في سوق المسلمين فكله

14-  تفسير النعماني، بأسانيده عن أمير المؤمنين ع قال و أما ما في القرآن تأويله في تنزيله فهو كل آية محكمة نزلت في تحريم شي‏ء من الأمور المتعارفة التي كانت في أيام العرب تأويلها في تنزيلها فليس يحتاج فيها إلى تفسير أكثر من تأويلها و ذلك مثل قوله تعالى في التحريم حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ   وَ أَخَواتُكُمْ إلى آخر الآية و قوله إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ الآية و قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا الآية إلى قوله أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا و قوله تعالى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى آخر الآية و مثل ذلك في القرآن كثير مما حرم الله سبحانه لا يحتاج المستمع له إلى مسألة عنه و قوله عز و جل في معنى التحليل أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ و قوله وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا و قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ إلى قوله مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ و قوله وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ و قوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ و قوله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ و قوله لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ و مثله كثير

 تفسير علي بن إبراهيم، مرسلا مثله

15-  المحاسن، عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه ع أن عليا ع سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثر لحمها و خبزها و جبنها و بيضها و فيها سكين فقال يقوم ما فيها ثم يؤكل لأنه يفسد و ليس له بقاء فإن جاء طالب لها غرموا له الثمن قيل يا أمير المؤمنين لا ندري   سفرة مسلم أو سفرة مجوسي فقال هم في سعة حتى يعلموا

 الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي مثله

16-  نوادر الراوندي، عن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني عن محمد بن الحسن التميمي عن سهل بن أحمد الديباجي عن محمد بن محمد بن الأشعث عن موسى بن إسماعيل عن أبيه إسماعيل بن موسى عن أبيه موسى بن جعفر عن آبائه ع قال سئل علي ع عن سفرة وجدت في الطريق فيها لحم كثير و خبز كثير و بيض و فيها سكين فقال يقوم ما فيها ثم يؤكل لأنه يفسد فإذا جاء طالبها غرم له فقالوا له يا أمير المؤمنين لا نعلم أ سفرة ذمي هي أم مجوسي فقال هم في سعة من أكلها حتى يعلموا

17-  و منه، بهذا الإسناد قال سئل علي ع عن شاة مسلوخة و أخرى مذبوحة عمي على صاحبها فلا يدري الذكية من الميتة فقال يرمي بهما جميعا إلى الكلاب

18-  فقه الرضا، قال ع إن وجدت لحما و لم تعلم أنه ذكي أو ميتة فألق منه قطعة على النار فإن تقبض فهو ذكي و إن استرخى على النار فهو ميت و كل صيد إذا اصطدته في البر و البحر حلال سوى ما قد بينت لك مما جاء في الخبر بأن أكله مكروه

 توضيح و تبيين اعلم أنه يستفاد من هذه الأخبار أحكام مهمة الأول يستفاد من رواية السكوني و الديباجي أن الأصل في اللحم المطروح التذكية ما لم يعلم أنه ميتة كما هو الظاهر مما مر من عمومات الآيات و الأخبار و من   حصر المحرمات في أشياء معدودة ليس هذا منها و يمكن تقييده بما إذا كان في بلاد المسلمين و كأنه الظاهر بل يمكن تخصيصه بما إذا دلت القرائن على أنها كانت من مسلم و لا ينافيه قول السائل أو سفرة مجوسي إذ محض الاحتمال يكفي لهذا السؤال لكن قوله حتى يعلموا يدل على أن مع الظن بكونه من كافر يجوز أكله إلا أن يحمل العلم على ما يعم الظن و المشهور بين الأصحاب خلافه و الأصل عندهم عدم التذكية حتى يعلم بها أو يؤخذ من يد مسلم أو من سوق المسلمين حتى بالغ بعضهم بأن جلد المصحف إذا وجد في مسجد جلده في حكم الميتة و ذهب بعض الأصحاب إلى أنه يجوز التعويل على الأمارات المفيدة للظن في ذلك قال الشهيد الثاني قدس سره في التقاط النعلين و الإداوة و السوط لا يخفى أن الأغلب على النعل أن يكون من الجلد و كذا الإداوة و السوط و إطلاق الحكم بجواز التقاطها إما محمول على ما لا يكون منها من الجلد لأن المطروح منه مجهولا ميتة لأصالة عدم التذكية أو محمول على ظهور أمارات تدل على ذكاته فقد ذهب بعض الأصحاب إلى جواز التعويل عليها. و قال العلامة رحمه الله في التحرير لو وجد ذبيحة مطروحة لم يحل له أكلها ما لم يعلم أنه تذكية مسلم أو يوجد في يده. و قال المحقق الأردبيلي نور الله ضريحه في شرح الإرشاد دليل اجتناب اللحم المطروح غير معلوم الذبح هي أن الأصل في الميتة التحريم لأن زوال الروح معلوم و التذكية مشروطة بأمور كثيرة وجودية و الأصل عدمها و لكن قد يعلم بالقرائن و لهذا يعلم الهدي إذا ذبح و يدل عليه بعض الأخبار أيضا عموما مثل صحيحة عبد الله بن سنان من تغليب الحلال و خصوصا رواية السكوني و ذكر هذه الرواية ثم قال و ضعف السند لا يضر لأنها موافقة للعقل و لغيرها و فيها أحكام كثيرة منها طهارة اللحم المطروح و الجلد كذلك و يحمل على وجود القرينة الدالة على كونهما كانا في   يد المسلم و كون اللحم في يد المجوسي غير ظاهر فيحل ذبيحة الكافر فافهم و جواز التصرف بالأكل في مال الناس إذا علم الهلاك من غير إذن الحاكم مع التقويم على نفسه و عدم اشتراط العدالة في المقوم و المتصرف و الغرامة للصاحب و كون الجاهل معذورا حتى يعلم فتأمل و بالجملة القرينة المفيدة للظن الغالب معتبرة فكيف ما يفيد العلم و الظن المتأخم له انتهى. ثم اعلم أنه قال المحقق رحمه الله في الشرائع إذا وجد لحم و لا يدري أ ذكي هو أم ميت قيل يطرح في النار فإن انقبض به فهو ذكي و إن انبسط فهو ميت. و قال العلامة طاب ثراه في القواعد لو وجد لحم مطروح لا يعلم ذكاته اجتنب و قيل يطرح في النار فإن انقبض فهو ذكي و إن انبسط فميت. و قال الشهيد الثاني رفعت درجته في المسالك بعد إيراد كلام المحقق هذا القول هو المشهور بين الأصحاب خصوصا المتقدمين. قال الشهيد رحمه الله في الشرح لم أجد أحدا خالف فيه إلا المحقق في الشرائع و الفاضل فإنهما أورداها بلفظ قيل المشعر بالضعف مع أن المحقق وافقهم في النافع و في المختلف لم يذكرها في مسائل الخلاف و لعله لذلك و استدل بعضهم عليه بالإجماع قال الشهيد و هو غير بعيد و يؤيده موافقة ابن إدريس عليه فإنه لا يعتمد على أخبار الآحاد فلو لا فهمه الإجماع لما ذهب إليه و الأصل فيه

 رواية محمد بن يعقوب بإسناده إلى إسماعيل بن عمر عن شعيب عن أبي عبد الله ع في رجل دخل قرية فأصاب فيها لحما لم يدر أ ذكي هو أم ميت قال فاطرحه على النار فكل ما انقبض فهو ذكي و كل ما انبسط فهو ميت

   و مع هذا الاشتهار فطريقها لا يخلو من ضعف فلتوقف المصنف عن موافقتهم في الحكم وجه وجيه و ظاهر الرواية أنه لا يحكم بحل اللحم و عدمه باختبار بعضه بل لا بد من اختبار كل قطعة منه على حدة و يلزم كل واحدة حكمها بدليل قوله كل ما انقبض فهو حلال و كل ما انبسط فهو حرام و من هنا مال الشهيد رحمه الله في الدروس إلى تعديتها إلى اللحم المشتبه منه الذكي بغيره فيتميز بالنار كذلك انتهى. و أقول عبارة الفقه أحسن من عبارة هذا الخبر و يدل على الاكتفاء بالقطعة في الحكم على الكل و مما ذكره رحمه الله من امتحان كل قطعة إن كان مراده القطعات المتصلة ففي غاية البعد و يلزم أن نفصل حيث أمكن و نختبر بل إلى الأجزاء التي لا تتجزى مع إمكان وجودها و إن أراد القطعات المنفصلة فإن لم تعلم كونها من حيوان واحد فلا ريب أنه كذلك و مع العلم فيه إشكال و الأحوط التعدد. ثم اعلم أنه لا تنافي بين رواية شعيب و رواية السكوني فإن الأولى ظاهرة في الني غير المطبوخ و الثانية في المطبوخ و بعد الطبخ لا يفيد الامتحان إذ الظاهر أن الانقباض في المذكى لأنه يخرج منه أكثر الدم الكائن في العروق فينجمد على النار و الميتة غالبا لا يخرج منه الدم فينجمد في العروق فإذا مسته النار تسيل الدماء و تنبسط اللحم و بعد الطبخ تخرج منه الرطوبات و لا يبقى فيه شي‏ء حتى يمكن امتحانه بذلك. فإن قيل جوابه ع يشمل هذا المورد أيضا. قلت قوله هم في سعة لا عموم فيه و لو قيل برجوع الضمير إلى الناس فيمكن حمل هذا الخبر على الاستحباب أو يقال كونهم في سعة إذا لم يكن لهم طريق إلى العلم و هاهنا لهم طريق إليه.   الثاني ذهب أكثر الأصحاب إلى أنه إذا اختلط الذكي بالميت وجب الامتناع من الجميع حتى يعلم الذكي بعينه لكن خصوا الحكم بما إذا كان محصورا دفعا للحرج لوجوب اجتناب الميت و لا يتم إلا باجتناب الجميع

 و لعموم قول النبي ص ما اجتمع الحلال و الحرام إلا غلب الحرام الحلال

و يرد عليه أن وجوب اجتناب الميتة مطلقا ممنوع لجواز كون التحريم مخصوصا بما إذا كان عينه معلوما كما تدل عليه الأخبار الصحيحة و أما الرواية فهي عامية مخالفة للروايات المعتبرة و الأصل و العمومات و حصر المحرمات يرجح الحل مع أنه يمكن قراءة الحرام منصوبا ليكون مفعولا و موافقا لغيرها كما ذكره المحقق الأردبيلي رحمه الله. و قيل يباع ممن يستحل الميتة ذهب إليه الشيخ في النهاية و تبعه ابن حمزة و العلامة في المختلف و مال إليه المحقق قدس الله روحه في الشرائع مع قصده لبيع المذكى

 و المستند صحيحة الحلبي عن الصادق ع قال سمعته يقول إذا اختلط الذكي بالميتة باعه ممن يستحل الميتة

و حسنة الحلبي أيضا يدل عليه و منع ابن إدريس من بيعه و الانتفاع به   مطلقا لمخالفة الرواية لأصول المذهب و المحقق رحمه الله وجه الرواية بما إذا قصد بيع المذكى حسب و استشكل بأنه مع عدم التمييز يكون المبيع مجهولا و لا يمكن إقباضه فلا يصح بيعه منفردا و أجاب في المختلف بأنه ليس بيعا حقيقيا بل هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه فكان سائغا و إنما أطلق عليه اسم البيع لمشابهته له في الصورة من حيث إنه بذل مال في مقابلة عوض و اعترض عليه بأن مستحل الميتة أعم ممن يباح ماله إذ لو كان ذميا كان ماله محترما فلا يصح إطلاق القول ببيعه كذلك على مستحل الميتة فالأولى العمل بالرواية الصحيحة و ترك تلك المعارضات في مقابلها نعم رواية الراوندي ظاهرها عدم جواز البيع لكن لا تعارض هذه الصحيحة سندا مع أنه لا تعارض بينهما حقيقة فإن الظاهر أن الرمي إلى الكلاب كناية عن عدم جواز استعمالهما و أكلهما فلا ينافي جواز إعطائهما من يشبه الكلاب و كأنه لم يقل أحد بتعين إطعامهما الكلاب كسائر الميتات. و مال الشهيد إلى عرضه على النار و اختباره بالانبساط و الانقباض كما مر في اللحم المجهول و ضعف ببطلان القياس مع وجود الفارق و هو أن اللحم المطروح يحتمل كونه بأجمعه مذكى و كونه غير مذكى فكونه ميتة غير معلوم بخلاف المتنازع فيه فإنه مشتمل على الميتة قطعا فلا يلزم من الحكم في المشتبه تحريمه كونه كذلك في المعلوم التحريم و قال المحقق الأردبيلي رحمه الله هو محل تأمل لما علم من الرواية العلة و هي حصول العلم بتعين إحداهما و هو أعم من المطروح المشتبه بالميتة على أنه ليس بفارق فإن المطروح بحكم الميتة شرعا عندهم و أن كل واحد من الميتة و المشتبه يحتمل أن يكون ميتة فوجود الميتة يقينا هنا لا ينفع فلا بد أن يمنع استقلال العلة مع الاشتباه و مثله يرد في جميع القياسات المنصوصة العلة أو   يمنع الأصل انتهى. الثالث يدل الخبران الأولان على ما ذكره الأصحاب من أنه إذا التقط ما لا يبقى كالطعام فهو مخير بين أن يتملكه بالقيمة أو يبيعه و يأخذ ثمنه ثم يعرفه و بين أن يدفعه إلى الحاكم ليعمل فيه ما هو الحظ للمالك.

 و رووا عن النبي ص أنه قال من التقط طعاما فليأكله

لكن الخبران إنما يدلان على جواز الأكل و الأول على أنه إذا جاء صاحبه غرم له الثمن و سيأتي الكلام فيه إن شاء الله في محله. الرابع قوله ع كل صيد إلخ يدل على أن الأصل في الحيوان كونه حلالا و قابلا للتذكية إلا ما أخرجه الدليل. و قال الشهيد الثاني قدس سره الأصل فيما يحل أكله و ما يحرم أن يرجع إلى الشرع فما أباحه فهو مباح و ما حظره فهو محظور و ما لم يكن له في الشرع ذكر كان المرجع فيه إلى عادة العرب فما استطابته فهو حلال و ما استخبثته فهو حرام ثم استدل رحمه الله بالآيات المتقدمة و قد مر هنا الكلام فيه. و قال المحقق الأردبيلي طاب ثراه قد توافق دليل العقل و النقل على إباحة أكل كل شي‏ء خال عن الضرر و قد تبين دلالة العقل على أن الأشياء خالية عن الضرر مباحة ما لم يرد ما يخرجه عن ذلك و الآيات الشريفة في ذلك كثيرة أيضا مثل خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً هما حالان مؤكدان لا مقيدان و هو ظاهر و الأخبار أيضا كثيرة و الإجماع أيضا واقع فالأشياء كلها على الإباحة بالعقل و النقل كتابا و سنة و إجماعا إلا ما ورد النص بتحريمه   إما بالعموم مثل وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فما علم أنه خبيث فهو حرام و لكن معنى الخبيث غير ظاهر إذ الشرع ما بينه و اللغة غير مراد و العرف غير منضبط فيمكن أن يقال المراد عرف أوساط الناس و أكثرهم حال الاختبار مثل أهل المدن و الدور لا أهل البادية لأنه لا خبيث عندهم بل يطيبون جميع ما يمكن أكله و لا اعتداد بهم. و إما بالخصوص مثل حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الآية و بالجملة الظاهر الحل حتى يعلم أنه حرام لخبثه أو لغيره لما تقدم و لصحيحة ابن سنان و يؤيده حصر المحرمات مثل قُلْ لا أَجِدُ الآية فالذي يفهم من غير شك هو الحل ما لم يعلم وجه التحريم حتى في المذبوح من الحيوان و أجزاء الميتة فما علم أنه ميتة أو ما ذبح على الوجه الشرعي فهو أيضا حرام إلا ما يستثنى و أما المشتبه و المجهول غير المستثنى فالظاهر من كلامهم أنه حرام أيضا و فيه تأمل قد مر إليه الإشارة هذه الضابطة على العموم من غير نظر إلى دليل خاص و ما ورد فيه دليل الخصوصية مفصلا فهو تابع لدليله تحريما و تحليلا فتأمل انتهى كلامه قدس سره و هو في غاية المتانة

19-  الفقيه، و التهذيب، عن أبي الحسين الأسدي عن سهل بن زياد عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن أبي جعفر محمد بن علي الرضا ع أنه قال سألته عما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ قال ما ذبح لصنم أو وثن أو شجر حرم الله ذلك كما حرم الميتة و الدم و لحم الخنزير فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أن يأكل الميتة قال فقلت له يا ابن رسول الله ص متى تحل للمضطر الميتة فقال   حدثني أبي عن أبيه عن آبائه ع أن رسول الله ص سئل فقيل يا رسول الله إنا نكون بأرض فتصيبنا المخمصة فمتى تحل لنا الميتة قال ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا بقلا فشأنكم بها قال عبد العظيم فقلت له يا ابن رسول الله ما معنى قوله عز و جل فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال العادي السارق و الباغي الذي يبغي الصيد بطرا أو لهوا لا ليعود به على عياله ليس لهما أن يأكلا الميتة إذ اضطرا هي حرام عليهما في حال الاضطرار كما هي حرام عليهما في حال الاختيار و ليس لهما أن يقصرا في صوم و لا صلاة في سفر فقلت فقوله وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ قال المنخنقة التي انخنقت بإخناقها حتى تموت و الموقوذة التي مرضت و وقذها المرض حتى لم يكن بها حركة و المتردية التي تتردى من مكان مرتفع إلى أسفل أو تتردى من جبل أو في بئر فتموت و النطيحة التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت و ما أكل السبع منها فمات و ما ذبح على النصب على حجر أو صنم إلا ما أدركت زكاته فذكي قلت وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قال كانوا في الجاهلية يشترون بعيرا فيما بين عشرة أنفس و يستقسمون عليه بالقداح و كانت عشرة سبعة لها أنصباء و ثلاثة لا أنصباء لها أما التي لها أنصباء فالفذ و التوأم و النافس الحلس و المسبل و المعلى و الرقيب و أما التي لا أنصباء لها فالسفيح و المنيح و الوغد فكانوا يجيلون السهام بين عشرة فمن خرج باسمه   سهم من التي لا أنصباء لها ألزم ثلث ثمن البعير فلا يزالون كذلك حتى تقع السهام الثلاثة لا أنصباء لها إلى ثلاثة منهم فيلزمونهم ثمن البعير ثم ينحرونه و يأكله السبعة الذين لم ينقدوا في ثمنه شيئا و لم يطعموا منه الثلاثة الذين نقدوا ثمنه شيئا فلما جاء الإسلام حرم الله تعالى ذكره ذلك فيما حرم و قال عز و جل وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ يعني حراما

 تبيين المخمصة المجاعة قوله ع ما لم تصطبحوا هذا الخبر روته العامة أيضا عن أبي واقد عن النبي ص و اختلفوا في تفسيره قال في النهاية و منه الحديث أنه سئل متى تحل لنا الميتة فقال ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا بها بقلا الاصطباح هاهنا أكل الصبوح و هو الغداء و الغبوق العشاء و أصلهما في الشرب ثم استعملا في الأكل أي ليس لكم أن تجمعوهما من الميتة قال الأزهري قد أنكر هذا على أبي عبيد و فسر أنه أراد إذا لم تجدوا لبنية تصطبحونها أو شرابا تغتبقونه و لم تجدوا بعد عدم الصبوح و الغبوق بقلة تأكلونها حلت لكم الميتة و قال هذا هو الصحيح. و قال في باب الحاء مع الفاء قال أبو سعيد الضرير صوابه ما لم تحتفوا بها بغير همز من أحفى الشعر و من قال تحتفئوا مهموزا من الحفإ و هو البرري فباطل لأن البرري ليس من البقول و قال أبو عبيد هو من الحفإ مهموز مقصور و هو أصل البرري الأبيض الرطب منه و قد يؤكل يقول ما لم تقتلعوا هذا بعينه فتأكلوه و يروى ما لم تحتفوا بتشديد الفاء من احتففت الشي‏ء إذا أخذته كله كما تحف المرأة وجهها من الشعر. و قال في باب الجيم مع الفاء و منه الحديث متى تحل لنا الميتة قال ما لم تجتفئوا بقلا أي تقتلعوه و ترموا به من جفأت القدر إذا رميت بما يجتمع   على رأسها من الزبد و الوسخ. و قال في باب الخاء مع الفاء أو تختفوا بقلا أي تظهرونه يقال اختفيت الشي‏ء إذا أظهرته و أخفيته إذا سترته انتهى. و قال الطيبي تحتفوا بها أي بالأرض فشأنكم بها أي الزموا الميتة و أو بمعنى الواو فيجب نفي الخلال الثلاث حتى تحل لنا الميتة و ما للمدة أي يحل لكم مدة عدم اصطباحكم انتهى. و أقول في بعض نسخ الفقيه بالواو في الموضعين فلا يحتاج إلى تكلف و على الحاء المهملة يحتمل أن تكون كناية عن استيصال البقل فإن هذا شائع في عرفنا على التمثيل فلعله كان في عرفهم أيضا كذلك و في بعض نسخ التهذيب تحتقبوا بالحاء المهملة و القاف و الباء الموحدة فالمراد به الادخار قال في القاموس احتقبه ادخره و قال الحقيبة كل ما شد في مؤخر رحل أو قتب و الظاهر أنه تصحيف. بإخناقها كأنه على بناء الإفعال أي بأن يخنقها غيره أو بأن يختنق في مضيق أو بالفتح على صيغة الجمع أي بأسباب خنقها قال الجوهري الخنق بكسر النون مصدر قولك خنقه يخنقه و كذلك خنقه و منه الخناق و أخنق هو و اختنقت الشاة بنفسها فهي منخنقة. و في القاموس الزلم محركة قدح لا ريش عليه و الأنصباء جمع النصيب و الأسماء السبعة المذكورة في الخبر على خلاف الترتيب المشهور و لعله من الرواة أو يقال أنه ع لم يكن بصدد تعليمه بل أشار مجملا إلى ما كانوا يعلمونه بل يمكن أن يكون ع تعمد ذلك لئلا يكون تعليما للقمار و إن أمكن الاستدلال به على جواز تعليم القمار و تعلمه لغير العمل قال الجوهري سهام الميسرة عشرة أولها الفذ ثم التوأم ثم الرقيب ثم الحلس ثم النافس ثم المسبل ثم المعلى

    و ثلاثة لا أنصباء لها و هي السفيح و المنيح و الوغد انتهى مع أن بينهم أيضا خلافا في بعضها قال الفيروزآبادي المسبل كمحسن السادس أو الخامس من قداح الميسر

20-  تحف العقول، في خبر طويل عن الصادق ع قال أما ما يحل للإنسان أكله مما أخرجت الأرض فثلاثة صنوف من الأغذية صنف منها جميع الحب كله من الحنطة و الشعير و الأرز و الحمص و غير ذلك من صنوف الحب و صنوف السماسم و غيرها كل شي‏ء من الحب مما يكون فيه غذاء الإنسان في بدنه و قوته فحلال أكله و كل شي‏ء تكون فيه المضرة على الإنسان في بدنه فحرام أكله إلا في حال الضرورة و الصنف الثاني مما أخرجت الأرض صنوف الثمار كلها مما يكون فيه غذاء الإنسان و منفعة له و قوته به فحلال أكله و ما كان فيه المضرة على الإنسان في أكله فحرام أكله و الصنف الثالث جميع صنوف البقول و النبات و كل شي‏ء تنبت الأرض من البقول كلها مما فيه منافع الإنسان و غذاؤه فحلال أكله و ما كان من صنوف البقول مما فيه المضرة على الإنسان في أكله نظير بقول السموم القاتلة و نظير الدفلى و غير ذلك من صنوف السم القاتل فحرام أكله و أما ما يحل أكله من لحوم الحيوان فلحوم البقر و الغنم و الإبل و ما يحل من لحوم الوحش كل ما ليس فيه ناب و لا له مخلب و ما يحل من لحوم الطير كل ما كانت له قانصة فحلال أكله و ما لم يكن له قانصة فحرام أكله و لا بأس بأكل صنوف الجراد   و أما ما يجوز أكله من البيض فكل ما اختلف طرفاه فحلال أكله و ما استوى طرفاه فحرام أكله و ما يجوز أكله من صيد البحر من صنوف السمك ما كان له قشور فحلال أكله و ما لم يكن له قشور فحرام أكله و ما يجوز من الأشربة من جميع صنوفها فما لا يغير العقل كثيره فلا بأس بشربه و كل شي‏ء يغير منها العقل كثيره فالقليل منه حرام

 بيان جمع السماسم إما باعتبار أنواعها من البري و البستاني أو باعتبار معانيه على المجاز أو باعتبار إطلاقها على ما يشبهها من الحبوب الصغار توسعا. قال الفيروزآبادي السمسم بالكسر حب الحل و البري منه يعرف بخلبهنك و الجلجلان و حبه و قال الدفل بالكسر و كذكرى نبت مر فارسيه خرزهره قتال زهره كالورد الأحمر و حمله كالخرنوب نافع للجرب و الحكة طلاء و لوجع الركبة و الظهر ضمادا و لطرد البراغيث و الأرض رشا بطبيخه و لإزالة البرص طلاء بلبه اثنتي عشرة مرة بعد الإنقاء

21-  المحاسن، عن ابن محبوب عن عبد الله بن سليمان قال سألت أبا جعفر ع عن الجبن فقال لقد سألتني عن طعام يعجبني ثم أعطى الغلام دراهم فقال يا غلام ابتع لي جبنا و دعا بالغداء فتغدينا معه و أتي بالجبن فقال كل فلما فرغ من الغداء قلت ما تقول في الجبن قال أ و لم ترني أكلته قلت بلى   و لكني أحب أن أسمعه منك فقال سأخبرك عن الجبن و غيره كل ما يكون فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه

 الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن محبوب مثله. بيان في القاموس الجبن بالضم و بضمتين و كعتل معروف انتهى و الظاهر أن السؤال عن الجبن لأن العامة كانوا يتنزهون عنه لاحتمال أن تكون الإنفحة التي يأخذون منها الجبن مأخوذة من ميتة و الإنفحة عندنا من المستثنيات من الميتة فيمكن أن يكون جوابه ع على سبيل التنزل أي لو كانت الإنفحة بحكم الميتة لكان يجوز لنا أكل الجبن لعدم العلم باتخاذه منها فكيف و هي لا يجري فيها حكم الميتة أو باعتبار نجاستها قبل الغسل على القول بها أو باعتبار أن المجوس كانوا يعملونها غالبا كما يظهر من بعض الأخبار. و قال في النهاية في حديث ابن الحنفية كل الجبن عرضا أي اشتره ممن وجدته و لا تسأل عمن عمله من مسلم أو غيره مأخوذ من عرض الشي‏ء أي ناحيته

22-  المحاسن، عن أبيه عن محمد بن سنان عن أبي الجارود قال سألت أبا جعفر ع عن الجبن و قلت له أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة فقال من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله و إن لم تعلم فاشتر و كل و الله إني لأعترض السوق فأشتري بها اللحم و السمن و الجبن و الله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر و هذه السودان

    تبيين اعتراض السوق أن يأتيه و يشتري من أي بايع كان من غير تفحص و سؤال قال الجوهري و خرجوا يضربون الناس عن عرض أي عن شق و ناحية كيفما اتفق لا يبالون من ضربوا و قال محمد بن الحنفية كل الجبن عرضا قال الأصمعي يعني اعترضه و اشتره ممن وجدته و لا تسأل عن عمله أ من عمل أهل الكتاب أم عمل المجوس و يقال استعرض العرب أي سل من شئت منهم. و في القاموس بربر جيل و الجمع البرابرة و هم أمة بالمغرب و أمة أخرى بين الحبوش و الزنج يقطعون مذاكير الرجال و يجعلونها مهور نسائهم انتهى. ثم إن الخبر يدل على جواز شراء اللحوم و أمثالها من سوق المسلمين و مرجوحية التفحص و السؤال و قال المحقق رحمه الله و غيره ما يباع في أسواق المسلمين من الذبائح و اللحوم يجوز شراؤه و لا يلزم الفحص عن حاله. و قال في المسالك لا فرق في ذلك بين ما يوجد بيد رجل معلوم الإسلام و مجهوله و لا في المسلم بين كونه ممن يستحل ذبيحة الكتابي و غيره على أصح القولين عملا بعموم النصوص و الفتاوي و مستند الحكم أخبار كثيرة و مثله ما يوجد بأيديهم من الجلود و اعتبر في التحرير كون المسلم ممن لا يستحل ذبائح أهل الكتاب و هو ضعيف جدا لأن جميع المخالفين يستحلون ذبائحهم فيلزم على هذا أن لا يجوز أخذه من المخالفين مطلقا و الأخبار ناطقة بخلافه و اعلم أنه ليس في كلام الأصحاب ما يعرف به سوق الإسلام من غيره فكان الرجوع فيه إلى العرف

 و في موثقة إسحاق بن عمار عن الكاظم ع أنه قال لا بأس بالفر و اليماني و فيما صنع في أرض الإسلام قلت له و إن كان فيها غير أهل الإسلام قال إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس

و على هذا ينبغي أن يكون العمل و هو غير مناف للعرف أيضا فيتميز سوق الإسلام بأغلبية المسلمين فيه سواء كان حاكمهم مسلما و حكمه نافذا أم لا عملا   بالعموم و كما يجوز شراء اللحم و الجلد من سوق الإسلام لا يلزم البحث عنه هل ذابحه مسلم أم لا و أنه هل سمى و استقبل بذبيحته القبلة أم لا و لا يستحب و لو قيل بالكراهة كان وجها للنهي عنه في الخبر الذي أقل مراتبه الكراهة و في الدروس اقتصر على نفي الاستحباب

23-  المحاسن، عن أبيه عن صفوان عن منصور بن حازم عن بكر بن حبيب قال سئل أبو عبد الله ع عن الجبن و أنه توضع فيه الإنفحة من الميتة قال لا يصلح ثم أرسل بدرهم قال اشتر من رجل مسلم و لا تسأله عن شي‏ء

24-  و منه، عن اليقطيني عن صفوان عن معاوية عن رجل من أصحابنا قال كنت عند أبي جعفر ع فسأله رجل من أصحابنا عن الجبن فقال أبو جعفر ع إنه لطعام يعجبني فسأخبرك عن الجبن و غيره كل شي‏ء فيه الحلال و الحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه

25-  السرائر، نقلا من كتاب المشيخة لابن محبوب عن أبي أيوب عن ضريس الكناسي قال سألت أبا جعفر ع عن السمن و الجبن نجده في أرض المشركين في الروم أ نأكله قال فقال أما ما علمت أنه قد خالطه الحرام فلا تأكله و أما ما لم تعلم فكله حتى تعلم أنه حرام

26-  و منه، عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ع قال   كل شي‏ء يكون فيه حرام و حلال فهو لك حلال أبدا حتى تعرف منه الحرام بعينه فدعه

27-  تفسير الإمام ع، قال ع قال الله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ من ثمارها و أطعمتها حَلالًا طَيِّباً لكم إذا أطعتم ربكم في تعظيم من عظمه و الاستخفاف بمن أهانه و صغره

28-  و منه، قال الإمام ع قال الله عز و جل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله و نبوة محمد رسول الله ص و إمامة علي ولي الله كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ على ما رزقكم منها بالمقام على ولاية محمد و علي ليقيكم الله بذلك شرور الشياطين المتمردة على ربه عز و جل

29-  الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر ع في حديث طويل قال سأخبرك عن الجبن و غيره كل ما كان فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه

30-  و منه، عن أحمد بن محمد الكوفي عن محمد بن أحمد النهدي عن محمد بن الوليد عن أبان بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله ع في الجبن قال كل شي‏ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك أن فيه ميتة

 بيان يدل على أن أمثال هذه من قبيل ما تقبل فيه الشهادة لا الرواية و قد اختلف الأصحاب فيه

    -31  الشهاب، قال رسول الله ص إن محرم الحلال كمحل الحرام

 الضوء فائدة الحديث الأمر بالانتهاء إلى ما حده الله في التحليل و التحريم و إعلام أن من حرم الحلال عوقب معاقبة من حلل الحرام و الراوي ابن عمر

32-  المحاسن، عن حماد بن عيسى عن ابن أذينة عن محمد بن مسلم و إسماعيل الجعفي و عدة قالوا سمعنا أبا جعفر ع يقول التقية في كل شي‏ء و كل شي‏ء اضطر إليه ابن آدم فقد أحله الله له

33-  العياشي، عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله ع يقول المضطر لا يشرب الخمر لأنها لا تزيده إلا شرا فإن شربها قتلته فلا تشربن منها قطرة

 العلل، عن علي بن حاتم عن محمد بن عمر عن علي بن محمد بن زياد عن أحمد بن الفضل عن يونس بن عبد الرحمن عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير مثله و فيه و لأنه إن شربها قتلته فلا يشرب منه قطرة

34-  و روي لا تزيده إلا عطشا

 ثم قال الصدوق رحمه الله جاء هذا الحديث هكذا كما أوردته و شرب الخمر في حال الاضطرار مباح مطلق مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير و إنما أوردته لما فيه من العلة و لا قوة إلا بالله

35-  العياشي، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله ع في قوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال الباغي طالب الصيد و العادي السارق ليس لهما أن يقصرا   من الصلاة و ليس لهما إذا اضطرا إلى الميتة أن يأكلاها و لا يحل لهما ما يحل للناس إذا اضطروا

36-  تفسير الإمام، قال ع قال الله عز و جل إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ التي ماتت حتف أنفها بلا ذباحة من حيث أذن الله فيها وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ أن يأكلوه وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ما ذكر اسم غير الله عليه من الذبائح و هي التي يتقرب بها الكفار بأسامي أندادهم التي اتخذوها من دون الله ثم قال عز و جل فَمَنِ اضْطُرَّ إلى شي‏ء من هذه المحرمات غَيْرَ باغٍ و هو غير باغ عند ضرورته على إمام هدى وَ لا عادٍ و لا معتد قوال بالباطل في نبوة من ليس بنبي و لا إمامة من ليس بإمام فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في تناول هذه الأشياء إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ستار لعيوبكم أيها المؤمنون رَحِيمٌ بكم حين أباح لكم في الضرورة ما حرمه في الرخاء

 تبيين و تفضيل اعلم أنه لا خلاف في الجملة في أن تحريم تناول المحرمات مختص بحال الاختيار و مع الضرورة يسوغ التناول إلا للباغي و العادي و قد مضت الأقوال فيهما في تفسير الآية و اختلف الأصحاب أيضا فيهما فقيل الباغي الخارج على إمام زمانه و العادي الذي يقطع الطريق و قيل الباغي الآخذ عن مضطر مثله بأن يكون لمضطر آخر شي‏ء لسد رمقه فيأخذه منه و ذلك غير جائز بل يترك نفسه حتى يموت و لا يميت الغير و العادي الذي يتجاوز مقدار الضرورة قيل الباغي الطالب للميتة أو الطالب للذة و العادي الذي يتجاوز مقدار الشبع   و قد عرفت ما ورد في الأخبار من تفسيرهما و الاضطرار يحصل بخوف التلف و هل يشترط فيه الظن أو يكفي مجرد الخوف فيه إشكال و ألحق الأكثر بخوف التلف خوف المرض الذي ليس بيسير و كذا زيادته أو طوله و كذا خوف العجز بترك التناول عن المشي الضروري أو مصاحبة الرفقة الضرورية حيث يخاف بالتخلف عنهم على نفسه أو عرضه و كذا الخوف على من معه و ربما يلحق بها الخوف على تلف المال على بعض الوجوه لحصول معنى الاضطرار في هذه الصورة و قال الشيخ في النهاية لا يجوز أن يأكل الميتة إلا إذا خاف تلف النفس فإن خاف ذلك أكل ما يمسك به الرمق و لا يمتلئ منه و وافقه جماعة من الأصحاب و لا يجب الامتناع إلى أن يشرف على الموت فإن التناول حينئذ لا ينفع و لا يختص جواز تناول المحرم في حال الاضطرار بنوع منه لكن بعض المحرمات مقدم على بعض كما سيأتي و لا ريب و لا خلاف في أن المضطر يجوز له أن يتناول قدر سد الرمق يعني ما يحفظ نفسه عن الهلاك و لا يجوز له أن يزيد على الشبع اتفاقا و هل يجوز له أن يزيد عن سد الرمق إلى الشبع ظاهر الأكثر العدم و هو حسن إن اندفعت به الحاجة أما لو دعت الضرورة إلى الشبع كما لو كان في بادية و خاف أن لا يقوى على قطعها لو لم يشبع أو احتاج إلى المشي أو العدو و توقف على الشبع جاز تناول ما دعت الضرورة إليه و يجوز التزود منه إذا خاف عدم الوصول إلى الحلال ثم هل التناول في موضع الضرورة على وجه الوجوب أو على سبيل الرخصة فله التنزه عنه الأقرب الأول لأن تركه يوجب إعانته على نفسه و قد نهي عنه في الكتاب و السنة و إذا تمكن المضطر من أخذ مال الغير فإن كان الغير محتاجا مثله فلا يجوز الأخذ عنه ظلما و هو أحد معاني الباغي كما سبق و يحتمل عدم جواز الأخذ عنه مطلقا لأنه يوجب هلاكه فهو كإهلاك الغير لإبقاء نفسه و الأقرب أنه لا يجوز إيثار الغير إذا كان ذلك موجبا لهلاك نفسه لقوله تعالى وَ لا تُلْقُوا الآية.

    و قيل يجوز لقوله تعالى وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ و ضعف بأن الخاص حاكم على العام و لو لم يكن المالك مضطرا إليه و كان هناك مضطر وجب على المالك بذله له إن كان المضطر مسلما و كذا إذا كان ذميا أو مستأمنا على المعروف بينهم و لو ظن الاحتياج إليه في ثاني الحال ففي وجوب البذل للمضطر في الحال نظر و لو منع المالك جاز للمضطر الأخذ عنه قهرا بل يجب عليه ذلك بل المقاتلة عليه و لو كان للمضطر ثمن لم يجب على المالك البذل مجانا و لو طلب المالك الثمن حينئذ وجب على المضطر بذله و إن طلب زيادة عن ثمن المثل قال الشيخ لا تجب الزيادة و لعل الأقرب الوجوب لارتفاع الضرورة بالتمكن و لو لم يكن للمضطر ثمن ففي وجوب البذل عليه عند القدرة قولان و لو وجدت ميتة و طعام الغير فإن بذل له الغير طعامه بغير عوض أو بعوض هو قادر عليه لم تحل الميتة و إن كان العوض أكثر من ثمن المثل على الأقرب و إن لم يبذل المالك و قدر على الأخذ منه قهرا أو كان المالك غالبا ففي تقديم أكل الميتة أو مال الغير أو التخيير أوجه. و لو لم يوجد إلا الخمر قال الشيخ في المبسوط لا يجوز رفع الضرورة بها و ذهب جماعة منهم الشيخ في النهاية إلى الجواز ترجيحا لحفظ النفس و يدل عليه ما سيأتي من خبر محمد بن عذافر و غيره و هي و إن كان فيها جهالة لكنها مروية بأسانيد يؤيد بعضها بعضا و يدل على الأول ما تقدم من رواية أبي بصير التي رواها العياشي و الصدوق و في سندها ضعف و يمكن حملها على تحريم التداوي بها و إن كانت التتمة التي رواها الصدوق مرسلا ظاهرها شمولها للعطش أيضا و أما التداوي بالخمر و سائر المحرمات فقد مر الكلام فيه في أبواب الطب و قد مر أيضا أن عند الضرورة البول مقدم على الخمر و بول نفسه على بول غيره على قول و قالوا لو لم يجد إلا آدميا ميتا جاز له الأكل منه و استثنى بعضهم ما إذا كان الميت نبيا و لو وجد المضطر ميتة و لحم آدمي أكل الميتة دون الآدمي و لو   وجد آدميا حيا فإن كان معصوم الدم لم يجز و إن كان كافرا كالذمي و المعاهد و كذا لا يجوز للسيد أكل عبده و لا للوالد أكل ولده و إن لم يكن معصوم الدم كالحربي و المرتد جاز له قتله و أكله و إن كان قتله متوقفا على إذن الإمام لأن ذلك مخصوص بحالة الاختيار و في معناهما الزاني المحصن و المحارب و تارك الصلاة مستحلا و غيرهم ممن يباح قتله و لو كان له على غيره قصاص و وجده في حالة الاضطرار فله قتله قصاصا و أكله و أما المرأة الحربية و صبيان أهل الحرب ففي جواز قتلهم و أكلهم وجهان و رجح بعض المتأخرين الجواز لأنهم ليسوا بمعصومين و ليس المنع من قتلهم في غير حالة الضرورة لحرمة روحهم و لهذا لا يتعلق به كفارة و لا دية بخلاف الذمي و المعاهد و إذا لم يجد المضطر سوى نفسه بأن يقطع فلذة من فخذه و نحوه من المواضع اللحمة فإن كان الخوف فيه كالخوف على النفس بترك الأكل أو أشد حرم القطع قطعا و إن كان أرجى للسلامة ففيه وجهان