باب 2- باب سائر ما جرى من الفتن من غارات أصحاب معاوية على أعماله عليه السلام و تثاقل أصحابه عن نصره و فرار بعضهم عنه إلى معاوية و شكايته عليه السلام عنهم و بعض

 قال عبد الحميد بن أبي الحديد إنّ قوما بصنعاء كانوا من شيعة عثمان، يعظمون قتله، لم يكن لهم نظام و لا رأس، فبايعوا لعلي عليه السلام على ما في أنفسهم، و عامل عليّ عليه السلام على صنعاء يومئذ عبيد اللّه بن العباس، و عامله على الجند سعيد بن نمران. فلمّا اختلف الناس على عليّ بالعراق، و قتل محمّد بن أبي بكر بمصر، و كثرت غارات أهل الشام، تكلّموا و دعوا إلى الطلب بدم عثمان، و منعوا الصّدقات، و أظهروا الخلاف. فكتب عبيد اللّه و سعيد ذلك إلى أمير المؤمنين، فلمّا وصل كتابهما ساء عليّا عليه السلام و أغضبه و كتب إليهما من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى عبيد اللّه بن العبّاس و سعيد بن  نمران سلام اللّه عليكما، فإنّي أحمد إليكما اللّه الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعد فإنّه أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة، و تعظّمان من شأنها صغيرا، و تكثران من عددها قليلا، و قد علمت أنّ ]نخب. خ[ أفئدتكما، و صغر أنفسكما، و تباب رأيكما، و سوء تدبيركما، هو الذي أفسد عليكما من لم يكن عليكما فاسدا، و جرّأ عليكما من كان عن لقائكما جبانا، فإذا قدم رسولي عليكما، فامضيا إلى القوم حتّى تقرءا عليهم كتابي إليهم، و تدعواهم إلى حظّهم و تقوى ربّهم، فإن أجابوا حمدنا اللّه و قبلناهم، و إن حاربوا استعنا باللّه عليهم و نابذناهم على سواء، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ. فكتب عليه السلام إليهم من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين، إلى من شاقّ و غدر من أهل الجند و صنعاء أما بعد فإنّي أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلّا هو، الذي لا يعقّب له حكم، و لا يردّ له قضاء، وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. ]أمّا بعد فقد. خ[ بلغني تحزّبكم و شقاقكم و إعراضكم عن دينكم، بعد الطاعة و إعطاء البيعة و الألفة، فسألت أهل الدين الخالص، و الورع الصّادق، و اللبّ الراجح، عن بدء مخرجكم، و ما نويتم به و ما أحمشكم له، فحدّثت عن ذلك بما لم أر لكم في شي‏ء منه عذرا مبينا، و لا مقالا جميلا، و لا حجّة ظاهرة، فإذا أتاكم رسولي فتفرّقوا و انصرفوا إلى رحالكم أعف عنكم، و اتقوا اللّه و ارجعوا إلى الطاعة، و أصفح عن جاهلكم، و أحفظ عن قاصيكم، و أقوم فيكم بالقسط، و أعمل فيكم بحكم الكتاب. فإن لم تفعلوا، فاستعدوا لقدوم جيش جمّ الفرسان، عظيم الأركان، يقصد لمن طغا و عصى فتطحنوا كطحن الرّحى فمن أحسن فَلِنَفْسِهِ،  وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. و إلّا فلا يحمد حامد إلّا ربه، و لا يلوم لائم إلّا نفسه، و السّلام عليكم و رحمة اللّه. و وجّه الكتاب مع رجل من همدان فقدم عليهم الكتاب فلم يجيبوه إلى خير، فرجع فأخبره عليه السلام. و كتبت تلك العصابة إلى معاوية يخبرونه بما جرى، و بطاعتهم ]له[. فلما قدم كتابهم، دعا معاوية بسر بن أرطاة العامري و يقال ابن أبي أرطاة و كان قاسي القلب، فظّا، سفّاكا للدماء، لا رأفة عنده و لا رحمة، و أمره أن يأخذ طريق الحجاز و المدينة و مكّة حتى ينتهي إلى اليمن، و قال له لا تنزل على بلد أهله على طاعة عليّ، إلّا بسطت عليهم لسانك، حتّى يروا أنّهم لا نجاء لهم و أنّك محيط بهم، ثم اكفف عنهم، و ادعهم إلى البيعة لي، فمن أبى فاقتله، و اقتل شيعة عليّ حيث كانوا. و في رواية أخرى، بعث بسرا في ثلاثة آلاف و قال سر حتّى تمرّ بالمدينة، فاطرد الناس، و أخف من مررت به، و انهب أموال كلّ من أصبت له مالا ممّن لم يكن في طاعتنا، فإذا دخلت المدينة فأرهم أنّك تريد أنفسهم، و أخبرهم أنّه لا براءة لهم عندك و لا عذر، حتى إذا ظنّوا أنّك موقع بهم، فاكفف عنهم، ثم سر حتّى تدخل مكّة، و لا تعرض فيها لأحد، و أرهب النّاس عنك فيما بين مكّة و المدينة، و اجعلها شردات، حتى تأتي صنعاء و الجند، فإنّ لنا بهما شيعة، و قد جاءني كتابهم.

  فسار بسر حتى أتى المدينة، و صعد المنبر و هدّدهم و أوعدهم، و بعد الشفاعة أخذ منهم البيعة لمعاوية، و جعل عليها أبا هريرة، و أحرق دورا كثيرة. و خرج إلى مكة، فلمّا قرب منها هرب قثم بن العبّاس عامل عليّ عليه السلام عليها، و دخلها بسر فشتم أهل مكة و أنّبهم، ثم خرج عنها و استعمل عليها شيبة بن عثمان، و أخذ فيها سليمان و داود ابني عبيد اللّه بن العبّاس فذبحهما، و قتل فيما بين مكة و المدينة رجالا و أخذ أموالا. ثم خرج من مكّة و كان يسير و يفسد في البلاد، حتى أتى صنعاء، و هرب منها عبيد اللّه و سعيد، فدخلها و قتل فيها ناسا كثيرا، و كان هكذا يفسد في البلاد. فندب عليّ عليه السلام أصحابه لبعث سريّة في أثر بسر فتثاقلوا، و أجابه جارية بن قدامة، فبعثه في ألفين، فشخص إلى البصرة، ثم أخذ طريق الحجاز حتى قدم يمن، و سأل عن بسر فقيل أخذ على بلاد بني تميم، فقال أخذ في ديار قوم يمنعون أنفسهم. و بلغ بسرا مسير جارية فانحدر إلى اليمامة، و أغذّ جارية السّير، ما يلتفت إلى مدينة مرّ بها، و لا أهل حصن، و لا يعرج على شي‏ء إلّا أن يرمل بعض أصحابه من الزاد، فيأمر أصحابه بمواساته. أو يسقط بعير رجل، أو تحفى دابّته، فيأمر أصحابه بأن يعقبوه، حتى انتهى إلى أرض اليمن، فهربت شيعة عثمان، حتى لحقوا بالجبال، و أتبعهم شيعة عليّ عليه السلام، و تداعت عليهم من كلّ جانب، و أصابوا منهم. و مر ]جارية[ نحو بسر، و بسر يفرّ من جهة إلى جهة، حتى أخرجه من أعمال عليّ عليه السلام كلّها. فلمّا فعل ذلك به، أقام جارية بحرس نحوا من شهر، حتى استراح و أراح أصحابه. و وثب الناس ببسر في طريقه لما انصرف من بين يدي جارية، لسوء  سيرته و فظاظته و ظلمه و غشمه. و أصاب بنو تميم ثقلا من ثقله في بلادهم. فلمّا رجع بسر إلى معاوية قال أحمد اللّه يا أمير المؤمنين، إنّي سرت في هذا الجيش أقتل عدوّك ذاهبا و جائيا، لم ينكب رجل منهم نكبة. فقال معاوية اللّه فعل ذلك لا أنت. و كان الذي قتل بسر في وجهه ذلك، ثلاثين ألفا، و حرّق قوما بالنار. قال و دعا عليّ عليه السلام على بسر فقال اللّهمّ إنّ بسرا باع دينه بالدّنيا، و انتهك محارمك، و كانت طاعة مخلوق فاجر، آثر عنده من طاعتك، اللّهمّ فلا تمته حتى تسلبه عقله، و لا توجب له رحمتك، و لا ساعة من النهار. اللّهمّ العن بسرا و عمرا و معاوية، و ليحلّ عليهم غضبك، و لتنزل بهم نقمتك، و ليصبهم بأسك و رجزك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين. فلم يلبث بسر بعد ذلك إلّا يسيرا، حتى وسوس و ذهب عقله. و كان يهذي بالسّيف و يقول أعطوني سيفا أقتل به. لا يزال يردّد ذلك حتّى اتّخذ له سيفا من خشب، و كانوا يدنون منه المرفقة، فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه، فلبث كذلك إلى أن مات.

بيان ]قال ابن الأثير[ في ]مادّة »نخب من«[ النهاية فيه »بئس العون على الدّين قلب نخيب، و بطن رغيب«. النخيب الجبان الّذي لا فؤاد له. و قيل الفاسد العقل. قوله عليه السلام »لا يعقب له حكم« تضمين لقوله تعالى لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. و قال البيضاوي أي لا رادّ له. و حقيقته الذي يعقب الشي‏ء بالإبطال.  و منه قيل لصاحب الحقّ معقّب لأنّه يقفو غريمه للاقتضاء. انتهى. و أحمشت الرجل أغضبته. قوله عليه السلام »و أحفظ عن قاصيكم« أي أذبّ و أدفع عن حريم من بعد و غاب. قال في القاموس المحافظة الذّب عن المحارم. و الحفيظة الحميّة و الغضب. و قال قصى عنه بعد، فهو قصيّ و قاص. »و الشّردات« لم يذكر في اللغة هذا الجمع و الشرد التفريق. و في بعض النسخ »سروات« ]و هو[ جمع سراة. ]و هو[ الطريق، أي وسطه. كناية عن جعلها خرابا خالية عن أهلها. و قال في القاموس الجند بالتحريك بلد باليمن. و قال أرملوا، أي نفد زادهم. و قال الحفا رقّة القدم. و الخفّ و الحافر. حفي يحفى حفّا فهو حف و حاف. و قال أعقب زيد عمرا ركبا بالنوبة. و قال تداعى العدو أقبل. أقول و ذكر الثقفي في كتاب الغارات مفصّل القصص التي أوردناها محملة.

 و روي عن الوليد بن هشام، قال خرج بسر من مكّة، و استعمل عليها شيبة بن عثمان، ثم مضى يريد اليمن، فلمّا جاوز مكّة رجع قثم بن العبّاس إلى مكّة فغلب عليها. و كان بسر إذا قرب من منزل، تقدم رجل من أصحابه حتّى يأتي أهل الماء فيسلّم فيقول ما تقولون في هذا المقتول بالأمس عثمان فإن قالوا قتل  مظلوما. لم يعرض لهم. و إن قالوا كان مستوجبا للقتل. قال ضعوا السلاح فيهم. فلم يزل على ذلك حتّى دخل صنعاء. فهرب منه عبيد اللّه بن العبّاس، و كان واليا لعليّ عليه السلام عليها، و استخلف عمر بن أراكة فأخذه بسر، فضرب عنقه. و أخذ ابني عبيد اللّه فذبحهما على درج صنعاء، و ذبح في آثارهما مائة شيخ من أبناء فارس. و ذلك أنّ الغلامين كانا في منزل أمّ النعمان بنت بزرج، امرأة من الأبناء.

 و بإسناده عن الكلبي و لوط بن يحيى، أنّ ابن قيس قدم على عليّ عليه السلام فأخبره بخروج بسر، فندب ]عليّ عليه السلام[ الناس فتثاقلوا عنه، فقال أ تريدون أن أخرج بنفسي في كتيبة تتبع كتيبة في الفيافي و الجبال ذهب و اللّه منكم أولو النهى و الفضل، الذين كانوا يدعون فيجيبون، و يؤمرون فيطيعون، لقد هممت أن أخرج عنكم، فلا أطلب بنصركم ما اختلف الجديدان. فقام جارية بن قدامة فقال أنا أكفيكهم يا أمير المؤمنين، فقال ]له أمير المؤمنين عليه السلام[ أنت لعمري لميمون النقيبة، حسن النيّة، صالح العشيرة. و ندب معه ألفين، و قال بعضهم ألفا و أمره أن يأتي بالبصرة و يضمّ إليه مثلهم. فشخص جارية، و خرج معه ]علّي عليه السلام[ يشيّعه، فلمّا ودّعه قال اتّق اللّه الذي إليه تصير، و لا تحتقر مسلما و لا معاهدا، و لا تغصبنّ مالا و لا ولدا و لا دابّة، و إن حفيت و ترجّلت، و صلّ الصّلاة لوقتها. فقدم جارية البصرة، و ضمّ إليه مثل الذي معه، ثم أخذ طريق الحجاز حتّى قدم اليمن. و لم يغصب أحدا، و لم يقتل أحدا إلّا قوما ارتدّوا باليمن، فقتلهم و حرّقهم، و سأل عن طريق بسر، فقالوا أخذ على بلاد بني تميم، فقال أخذ في ديار قوم يمنعون أنفسهم. فانصرف جارية فأقام بحرس.

   قال إبراهيم و من حديث الكوفيّين عن نمير بن وعلة عن أبي الودّاك قال قدم زرارة بن قيس فخبّر عليّا عليه السلام بالقدمة التي خرج فيها بسر، فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال أمّا بعد، أيّها الناس إنّ أوّل فرقتكم، و بدء نقصكم، ذهاب أولي النّهى و أهل الرأي منكم، الذين كانوا يلقون فيصدّقون، و يقولون فيعدلون، و يدعون فيجيبون، و أنا و اللّه قد دعوتكم عودا و بدءا و سرّا و جهارا و في اللّيل و النهار، و الغدوّ و الآصال، فما يزيدكم دعائي إلّا فرارا و إدبارا. أ ما تنفعكم العظة و الدعاء إلى الهدى و الحكمة و إنّي لعالم بما يصلحكم و يقيم أودكم، و لكني و اللّه لا أصلحكم بفساد نفسي، و لكن أمهلوني قليلا، فكأنّكم و اللّه بامرئ قد جاءكم، يحرمكم و يعذّبكم، فيعذّبه اللّه كما يعذّبكم. إنّ من ذلّ المسلمين و هلاك الدين، أنّ ابن أبي سفيان يدعو الأراذل و الأشرار فيجاب، و أدعوكم و أنتم الأفضلون الأخيار، و تدافعون، ما هذا بفعل المتّقين. إن بسر بن أبي أرطاة وجّه إلى الحجاز، و ما بسر لعنه اللّه لينتدب إليه منكم عصابة حتّى تردّوه عن سننه، فإنّما خرج في ستمائة أو يزيدون. قال فأسكت القوم مليّا لا ينطقون. فقال ما لكم مخرسون لا تكلّمون.

 فذكر عن الحارث بن حصيرة، عن مسافر بن عفيف، قال قام أبو بردة بن عوف الأزدي، فقال إن سرت يا أمير المؤمنين، سرنا معك فقال اللّهمّ ما لكم  ما سددتم لمقال الرشد ]أ[ في مثل هذا ينبغي لي أن أخرج إنّما يخرج في مثل هذا، رجل ممّن ترضون من فرسانكم و شجعانكم، و لا ينبغي لي أن أدع الجند و المصر و بيت المال و جباية الأرض و القضاء بين المسلمين و النظر في حقوق الناس، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى في فلوات و شغف الجبال، هذا و اللّه الرأي السوء. و اللّه لو لا رجائي الشهادة عند لقائهم، لو قد حم لي لقاؤهم، لقرّبت ركابي، ثم لشخصت عنكم، فلا أطلبكم ما اختلف جنوب و شمال، فو اللّه إنّ فراقكم لراحة للنفس و البدن. فقام إليه جارية بن قدامة السعدي رحمه اللّه، فقال يا أمير المؤمنين، لا أعدمنا اللّه نفسك، و لا أرانا فراقك، إنا لهؤلاء القوم، فسرّحني إليهم. قال فتجهّز فإنّك ما علمت ميمون النقيبة. و قام إليه وهب بن مسعود الخثعمي فقال أنا أنتدب إليهم يا أمير المؤمنين، قال فانتدب بارك اللّه فيك. فنزل ]عليه السلام عن المنبر[ و دعا جارية فأمره أن يسير إلى البصرة. فخرج منها في ألفين، و ندب مع الخثعمي من الكوفة ألفين ]و[ قال لهما أخرجا في طلب بسر حتى تلحقاه، ]و[ أينما لحقتماه فناجزاه، فإذا التقيتما، فجارية على الناس. فخرجا في طلب بسر، و التقيا بأرض الحجاز، فذهبا في طلب بسر.

 و عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الرحمن بن عبيد قال لمّا بلغ عليّا عليه السلام دخول بسر الحجاز، و قتله ابني عبيد اللّه بن العبّاس، و قتل عبد اللّه بن عبد المدان و مالك بن عبد اللّه، بعثني بكتاب في إثر جارية بن قدامة، قبل أن يبلغه أنّ بسرا ظهر على صنعاء و أخرج عبيد اللّه منها و ابن نمران، فخرجت بالكتاب حتى لحقت بجارية ففضّه فإذا فيه  أمّا بعد، فإنّي بعثتك في وجهك الذي وجّهت له، و قد أوصيتك بتقوى اللّه، و تقوى ربّنا جماع كلّ خير، و رأس كلّ أمر، و تركت أن أسمّي لك الأشياء بأعيانها، و إنّي أفسّرها حتى تعرفها، سر على بركة اللّه، حتى تلقى عدوّك، و لا تحتقر من خلق اللّه أحدا، و لا تسخرنّ بعيرا و لا حمارا، و إن ترجّلت و حبست، و لا تستأثرنّ على أهل المياه بمياههم، و لا تشربنّ من مياههم إلّا بطيب أنفسهم، و لا تسبي مسلما و لا مسلمة، و لا تظلم معاهدا و لا معاهدة، و صلّ الصلاة لوقتها، و اذكر اللّه باللّيل و النهار، و احملوا راجلكم، و تأسوا على ذات أيديكم و أغذ السير حتى تلحق بعدوّك فتجليهم عن بلاد اليمن و تردهم صاغرين إن شاء اللّه، و السّلام عليك و رحمة اللّه و بركاته.

 و عن فضيل بن خديج قال كان وائل بن حجر عند عليّ عليه السلام بالكوفة، و كان يرى رأي عثمان، فاستأذن عليّا عليه السلام ليذهب إلى بلاده، ثم يرجع إليه عن قريب، فخرج إلى بلاد قومه و كان عظيم الشأن فيهم، و كان الناس بها أحزابا، فشيعة ترى رأي عثمان، و أخرى ترى رأي عليّ عليه السلام. فكان وائل هناك، حتّى دخل بسر صنعاء، فكتب إليه أمّا بعد، فإن شيعة عثمان ببلادنا شطر أهلها، فاقدم علينا فإنّه ليس بحضرموت رجل يردّك عنها فأقبل إليها بسر بمن معه حتى دخلها، فزعم أنّ وائلا استقبل بسرا، فأعطاه عشرة آلاف، و أنّه كلّمه في حضرموت. فقال له ما تريد قال أريد أن أقتل ربع حضرموت. قال إن كنت تريد ذلك فاقتل عبد اللّه بن ثوابة لرجل فيهم، كان من المقاولة العظام. و كان له عدوا، في رأيه مخالفا. فجاءه بسر حتّى أحاط بحصنه، و كان بناء معجبا لم ير في ذلك الزمان  مثله، فدعاه إليه فنزل، و كان للقتل آمنا، فلمّا نزل، قال اضربوا عنقه. قال له أ تريد قتلي قال نعم. قال فدعني أتوضّأ و أصلّي ركعتين. قال افعل ما أحببت. فاغتسل و توضّأ، و لبس ثيابا بيضاء، و صلّى ركعتين، ثم قال اللّهم إنّك عالم بأمري. فقدّم فضرب عنقه و أخذ ماله. و بلغ عليّا عليه السلام، مظاهرة وائل بن حجر شيعة عثمان، على شيعته، و مكاتبته بسرا، فحبس ولديه عنده.

 و عن عبد الرحمن بن عبيد، أن جارية أغذّ السير في طلب بسر، ما يلتفت إلى مدينة مرّ بها، و لا أهل حصن، حتى انتهى إلى بلاد اليمن، فهربت شيعة عثمان فلحقوا بالجبال، و اتبعه عند ذلك شيعة عليّ و تداعت عليهم من كلّ جانب و أصابوا منهم. و خرج جارية في أثر القوم، و ترك المدائن أن يدخلها، و مضى نحو بسر. فمضى بسر من حضرموت حين بلغه أنّ الجيش ]قد[ أقبل و أخذ طريقا على الجوف، و ترك الطريق الذي أقبل منه. و بلغ ذلك جارية فاتّبعه حتّى أخرجه من اليمن كلّها، و واقعه في أرض الحجاز، فلمّا فعل ذلك به، أقام بحرس نحوا من شهر، حتى استراح و أراح أصحابه، و سأل عن بسر فقيل إنّه بمكّة فسار نحوه. و وثب الناس ببسر حين انصرف لسوء سيرته، و اجتنبه الناس بمياه الطريق، و فرّ الناس عنه لغشمه و ظلمه. و أقبل جارية حتى دخل مكّة، و خرج بسر منها يمضي قبل اليمامة، فقام جارية على منبر مكة، و قال بايعتم معاوية قالوا أكرهنا. قال أخاف أن يكونوا من الذين قال اللّه فيهم وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ قوموا فبايعوا. قالوا لمن نبايع رحمك اللّه، و قد هلك أمير المؤمنين عليه السّلام، و لا ندري ما صنع الناس بعد قال و ما عسى  أن يصنعوا، إلّا أن يبايعوا للحسن بن عليّ، قوموا فبايعوا. ثم اجتمعت عليه شيعة عليّ فبايعوا. و خرج منها و دخل المدينة، و قد اصطلحوا على أبي هريرة يصلّي بالناس، فلمّا بلغهم مجي‏ء جارية، توارى أبو هريرة. فجاء جارية و صعد المنبر، و حمد اللّه و أثنى عليه، و ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فصلّى عليه، ثم قال أيّها الناس إن عليّا عليه السلام يوم ولد و يوم توّفاه اللّه، و يوم يبعث حيّا، كان عبدا من عباد اللّه الصالحين، عاش بقدر، و مات بأجل. فلا يهنأ الشامتون، هلك سيّد المسلمين، و أفضل المهاجرين، و ابن عمّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله. أما و الذي لا إله إلّا هو، لو أعلم الشامت منكم، لتقرّبت إلى اللّه عزّ و جلّ بسفك دمه، و تعجيله إلى النار، قوموا فبايعوا الحسن بن عليّ. فقام الناس فبايعوا. و أقام يومه ذلك، ثم غدا منها منصرفا إلى الكوفة، و غدا أبو هريرة يصلّي بالناس، و رجع بسر فأخذ على طريق السماوة حتى أتى الشام. قال و أقبل جارية، حتى دخل على الحسن بن عليّ عليه السلام، فضرب على يده فبايعه و عزّاه. و قال ما يجلسك سر يرحمك اللّه إلى عدوّك قبل أن يسار إليك. فقال لو كان الناس كلّهم مثلك، سرت بهم.

 و عن القاسم بن الوليد، أنّ عبيد اللّه بن العبّاس، و سعيد بن نمران، قدما على عليّ عليه السلام، و كان عبيد اللّه عامله على صنعاء، و سعيد عامله على الجند، خرجا هاربين من بسر، و أصاب ]بسر[ ابني عبيد اللّه، لم يدركا الحنث، فقتلهما. قال و كان أمير المؤمنين يجلس كلّ يوم في موضع من المسجد الأعظم، يسبّح به بعد الغداة إلى طلوع الشمس، فلمّا طلعت، نهض إلى المنبر، فضرب  بإصبعيه على راحته و هو يقول ما هي إلّا الكوفة أقبضها و أبسطها ]ثمّ أنشد[

لعمر أبيك الخير يا عمرو أنّني على وضر من ذا الإناء قليل

و من حديث بعضهم إنّه قال إن لم تكوني إلّا أنت تهبّ أعاصيرك، فقبّحك اللّه. ثم قال أيّها الناس ألا إنّ بسرا قد أطلع اليمن و هذا عبيد اللّه بن العباس، و سعيد بن نمران، قدما عليّ هاربين، و لا أرى هؤلاء إلّا ظاهرين عليكم لاجتماعهم على باطلهم، و تفرّقكم عن حقّكم، و طاعتهم لإمامهم، و معصيتكم لإمامكم، و أداءهم الأمانة إلى صاحبهم، و خيانتكم إيّاي، ولّيت فلانا فخان و غدر، و احتمل في‏ء المسلمين إلى مكّة، و ولّيت فلانا فخان و غدر، و فعل مثلها، فصرت لا آتمنكم على علاقة سوط. و إن ندبتكم إلى السّير إلى عدوكم في الصّيف، قلتم أمهلنا ينسلخ الحرّ عنا، و إن ندبتكم في الشتاء، قلتم أمهلنا ينسلخ القرّ عنّا. اللّهم إنّي قد مللتهم و ملّوني، و سئمتهم و سئموني، فأبدلني بهم من هو خير لي منهم، و أبدلهم بي من هو شرّ لهم مني. اللّهم أمث قلوبهم ميث الملح في الماء.

 و عن عبد اللّه بن الحارث بن سليمان عن أبيه قال قال عليّ عليه السلام لا أرى هؤلاء القوم إلّا ظاهرين عليكم بتفرّقكم عن حقّكم، و اجتماعهم على باطلهم، فإذا كان عليكم إمام يعدل في الرعيّة، و يقسم بالسويّة، فاسمعوا له و أطيعوا فإنّ الناس لا يصلحهم إلّا إمام برّ أو فاجر. فإن كان برّا فللراعي و الرعيّة، و إن كان فاجرا عبد المؤمن ربّه فيها، و عمل فيها الفاجر إلى أجله.  ]ألا[ و إنّكم ستعرضون بعدي على سبّي و البراءة منّي، فمن سبّني فهو في حلّ من سبّي، و لا يتبرأ مني، فإنّ ديني الإسلام.

 و عن أبي عبد الرحمن السّلمي، أنّ الناس تلاقوا و تلاوموا، و مشت الشيعة بعضها إلى بعض، و لقي أشراف الناس بعضهم بعضا، فدخلوا على عليّ عليه السلام، فقالوا يا أمير المؤمنين، اختر منّا رجلا، ثم ابعث معه إلى هذا الرجل جندا، حتى يكفيك أمره، و مرنا بأمرك فيما سوى ذلك، فإنّك لن ترى منّا شيئا تكرهه ما صحبتنا. قال فإنّي قد بعثت رجلا إلى هذا الرجل، لا يرجع أبدا حتى يقتل أحدهما صاحبه، أو ينفيه، و لكن استقيموا لي فيما آمركم به، و أدعوكم إليه من غزو الشام و أهله. فقام إليه سعيد بن قيس الهمداني، فقال يا أمير المؤمنين، و اللّه لو أمرتنا بالمسير إلى قسطنطينية، روميّة، مشاة، حفاة، على غير عطاء و لا قوة، ما خالفتك أنا و لا رجل من قومي. قال فصدقتم جزاكم اللّه خيرا. ثم قام زياد بن حفصة، و وعلة بن مخدوع ]و[ قالا نحن شيعتك يا أمير المؤمنين، التي لا تعصيك، و لا تخالفك، فقال أجل أنتم كذلك. فتجهّزوا إلى غزو الشام. فقال الناس سمعا و طاعة. فدعا ]أمير المؤمنين[ معقل بن قيس الرياحي، و سرّحه في حشر الناس من السواد إلى الكوفة، ]فخرج معقل لإنفاذ أمره عليه السلام، و امتثل ما أمره  به، ثم كرّ راجعا إلى الكوفة، و لم يصل إليها[ حتى أصيب أمير المؤمنين عليه السلام.

 قال و روي أنّه اجتمع ذات يوم بسر و عبيد اللّه بن العبّاس عند معاوية، فقال ابن عباس لمعاوية أنت أمرت هذا القاطع البعيد الرحم، القليل الرّحم بقتل ابني فقال معاوية ما أمرته و لا هويت. فغضب بسر، و رمى بسيفه و قال قلّدتني هذا السّيف، و قلت اخبط به الناس، حتى إذا بلغت من ذلك، قلت ما هويت، و لا أمرت. فقال معاوية خذ سيفك، إنّك لعاجز حين تلقي سيفك بين يدي رجل من بني عبد مناف، ]و[ قد قتلت ابنيه. فقال ابن عباس أراني كنت قاتله بهما فقال ابن لعبيد اللّه ما كنّا نقتل بهما إلّا يزيد و عبد اللّه ابني معاوية، فضحك معاوية و قال ما ذنب يزيد و عبد اللّه

بيان قال الجوهري النقيبة النفس. يقال فلان ميمون النقيبة، إذا كان مبارك النفس. ]و[ قال ابن السّكيت إذا كان ميمون الأمر، ينجح فيما حاول و يظفر. و قال ثعلب إذا كان ميمون المشورة. انتهى. و راغ الثعلب روغا ذهب يمنة و يسرة في سرعة و خديعة. و سخّره تسخيرا كلّفه عملا بلا أجرة و كذلك تسخره. و الإغذاذ في السير الإسراع. و تداعت الحيطان للخراب، أي تهادمت.

 و قال ابن أبي الحديد كتب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه عليّ  عليه السلام، حين بلغه خذلان أهل الكوفة و تقاعدهم به لعبد اللّه عليّ أمير المؤمنين، من عقيل بن أبي طالب سلام اللّه عليك، فإنّي أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلّا هو أمّا بعد، فإنّ اللّه جارك من كلّ سوء، و عاصمك من كلّ مكروه، و على كلّ حال. إنّي خرجت إلى مكّة معتمرا، فلقيت عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء، فعرفت المنكر في وجوههم. فقلت إلى أين يا أبناء الشانئين، أ بمعاوية تلحقون عداوة و اللّه منكم قديما، غير مستنكر، تريدون بها إطفاء نور اللّه، و تبديل أمره. فأسمعني القوم، و أسمعتهم. فلمّا قدمت مكّة، سمعت أهلها يتحدّثون أنّ الضحاك بن قيس، أغار على الحيرة، فاحتمل من أموالها ما شاء، ثم انكفأ راجعا سالما. فأفّ لحياة في دهر جرأ عليك الضحّاك، و ما الضحّاك فقع بقرقر، و قد توهّمت حيث بلغني ذلك، أنّ شيعتك و أنصارك خذلوك، فاكتب إليّ يا ابن أمّي برأيك، فإن كنت الموت تريد، تحمّلت إليك ببني أخيك و ولد أبيك، فعشنا معك ما عشت، و متنا معك إذا متّ، فو اللّه ما أحبّ أن أبقى في الدنيا بعدك فواقا، و أقسم بالأعزّ الأجلّ، أنّ عيشا نعيشه بعدك في الحياة، لغير هني‏ء و لا مري‏ء و لا نجيع و السّلام عليك و رحمة اللّه و بركاته. فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام   بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين، إلى عقيل بن أبي طالب، سلام عليك، فإنّي أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلّا هو أمّا بعد، كلأنا اللّه و إيّاك كلاءة من يخشاه بالغيب، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. قد وصل إليّ كتابك مع عبد الرحمن بن عبيد الأزدي، تذكر فيه أنّك لقيت عبد اللّه ابن ]سعد بن[ أبي سرح، مقبلا من »قديد« في نحو من أربعين فارسا من أبناء الطلقاء، متوجّهين إلى جهة الغرب، و إن ابن أبي سرح، طال ما كاد اللّه و رسوله و كتابه، و صدّ عن سبيله و بغاها عوجا، فدع ابن أبي سرح، و دع عنك قريشا و خلّهم و تركاضهم في الضلال و تجوالهم في الشقاق. ألا و إنّ العرب قد اجتمعت على حرب أخيك اليوم، اجتماعها على حرب النّبي صلّى اللّه عليه و آله قبل اليوم، فأصبحوا قد جهلوا حقّه، و جحدوا فضله و بادءوه العداوة، و نصبوا له الحرب، و جهدوا عليه كلّ الجهد، و جرّوا إليه جيش الأحزاب. اللهم فاجز قريشا عنّي الجوازي فقد قطعت رحمي، و تظاهرت عليّ، و دفعتني عن حقّي، و سلبتني سلطان ابن أمّي، و سلّمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول، و سابقتي في الإسلام، إلّا أن يدّعي مدّع ما لا أعرفه، و لا أظنّ اللّه يعرفه، و الحمد للّه على كل حال. و أمّا ما ذكرت من غارة الضحّاك على أهل الحيرة، فهو أقلّ و أذلّ من أن يلمّ بها، أو يدنو منها، و لكنّه قد كان أقبل في جريدة خيل، فأخذ على السماوة، حتى مر بواقصة و شراف و القطقطانة، فما والى ذلك الصّقع، فوجّهت إليه جندا كثيفا من المسلمين، فلمّا بلغه ذلك فرّ هاربا، فأتبعوه، فلحقوه ببعض الطريق، و قد أمعن، و كان ذلك حين طفلت الشمس للإياب، فتناوش القتال قليلا كلا و لا، فلم يصبر لوقع المشرفية، و ولّى هاربا، و قتل من أصحابه بضعة  عشر رجلا، بعد ما أخذ منه بالمخنق، فلأيا بلأي ما نجا. و أمّا ما سألتني أن أكتب إليك برأيي فيما أنا فيه فإنّ رأيي جهاد المحلّين حتى ألقى اللّه، لا يزيدني كثرة الناس معي عزّة، و لا تفرّقهم عنّي وحشة لأنّي محق، و اللّه مع المحقّ. و و اللّه ما أكره الموت على الحقّ، و ما الخير كلّه إلّا بعد الموت، لمن كان محقّا. و أمّا ما عرضت به مسيرك إليّ ببنيك و بني أبيك، فلا حاجة لي في ذلك، فأقم راشدا محمودا، فو اللّه ما أحبّ أن تهلكوا معي إن هلكت، و لا تحسبنّ ابن أمّك و إن أسلمه الناس متخشعا، و لا متضرّعا، إنّه لكما قال أخو بني سليم

فإن تسأليني كيف أنت فإنّني صبور على ريب الزّمان صليب‏يعزّ عليّ أن ترى بي كآبة فيشمت عاد أو يساء حبيب

 أقول روى السيّد رضي اللّه عنه في النهج، بعض هذا الكتاب هكذا فسرحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين، فلمّا بلغه ذلك، شمّر هاربا، و نكص نادما. فلحقوه ببعض الطريق، و قد طفّلت الشمس للإياب، فاقتتلوا شيئا كلا و لا، فما كان إلّا كموقف ساعة، حتّى نجا جريضا، بعد ما أخذ منه بالمخنّق، و لم يبق منه غير الرّمق، فلأيا بلأي ما نجا. فدع عنك قريشا و تركاضهم في الضّلال، و تجوالهم في الشّقاق، و جماحهم في التّيه، فإنّهم قد أجمعوا على حربي، كإجماعهم على حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبلي. فجزت قريشا عنّي الجوازي فقد قطعوا رحمي، و سلبوني سلطان ابن أمّي. و أمّا ما سألت عنه من رأيي في القتال، فإنّ رأيي قتال المحلّين حتّى  ألقى اللّه، لا يزيدني كثرة الناس حولي عزّة، و لا تفرّقهم عنّي وحشة، و لا تحسبنّ ابن أبيك و لو أسلمه الناس متضرّعا متخشّعا، و لا مقرا للضّيم واهنا، و لا سلس الزّمام للقائد و لا وطئ الظّهر للرّاكب المقتعد، و لكنّه كما قال أخو بني سليم، ثمّ ذكر البيتين.

بيان قوله »فقع بقرقر« لعلّه خبر »إنّ«. و قوله »و ما الضحّاك« معترضة. و قال الجوهري الفقع ضرب من الكماة. و كذلك الفقع بالكسر. و يشبّه به الرّجل الذليل فيقال هو فقع قرقر لأنّ الدّوابّ تنجله بأرجلها. قال النابغة يهجو النعمان بن المنذر.

حدّثوني بني الشقيقة ما يمنع فقعا بقرقر أن يزولا

و قال القرقر القاع الأملس. و الفواق بالفتح و الضم ما بين الحلبتين من الوقت. و التركاض و التجوال بفتح التاء فيهما مبالغتان في الركض و الجولان. و الركض تحريك الرجل، و ركضت الفرس برجلي حثثته ليعدو، ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا. و الواو فيهما يشبه أن يكون بمعنى مع، و يحتمل العاطفة. و استعار لفظ الجماح، باعتبار كثرة خلافهم للحقّ، و حركاتهم في تيه الجهل، و الخروج عن طريق العدل، من قولهم جمح الفرس إذا اعتزّ راكبه و غلبه. و يحتمل أن يكون من جمح، بمعنى أسرع كما ذكره الجوهري. و قوله عليه السلام »فجزت قريشا عني الجوازي«، الجوازي جمع جازية، أي جزت قريشا عني بما صنعت كلّ خصلة من نكبة، أو شدّة، أو  مصيبة، أي جعل اللّه هذه الدّواهي كلّها، جزاء قريش بما صنعت. و قال ابن أبي الحديد »سلطان ابن أمّي« يعني به الخلافة، و ابن أمّه، هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لأنّهما ابنا فاطمة بنت عمرو بن عمران بن مخزوم، أمّ عبد اللّه و أبي طالب، و لم يقل سلطان ابن أبي، لأنّ غير أبي طالب من الأعمام، تشركه في النسبة إلى عبد المطلب. و قال الراوندي يعني نفسه لأنّه ابن أمّ نفسه، و لا يخفى ما فيه. و قيل لأنّ فاطمة بنت أسد كانت تربّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين كفله أبو طالب، فهي كالأمّ له. و يحتمل أن يكون المراد »سلطان أخي« مجازا و مبالغة في تأكّد الأخوّة التي جرت بينه و بين النّبي صلّى اللّه عليه و آله، و إشارة إلى حديث المنزلة، و قوله تعالى حكاية عن هارون يا ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي و قد مرّ بعض ما يؤيّد هذا الوجه. و واقصة موضع بطريق الكوفة، و اسم مواضع أخرى. و شراف كقطام موضع و ماء لبني أسد أو جبل عال. و كغراب ماء. و القطاقط و القطقط و القطقطانة بضمّهما موضع الأصرة بالكوفة، كانت سجن النعمان بن المنذر. ]قوله عليه السلام[ »فما والى ذلك« أي قاربه. و يقال أمعن الفرس، أي تباعد في عدوه. و قال الجوهري تطفيل الشّمس ميلها للغروب. و الطفل بالتحريك بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب. و الإياب الرجوع، أي الرجوع إلى ما كانت عليه في اللّيلة التي قبلها. و قال الجوهري آبت الشمس لغة في غابت. و تفسير الراوندي بالزوال بعيد. و قال الجوهري المناوشة في القتال، و ذلك إذا تدانى الفريقان. و التناوش التناول.  قوله عليه السلام »شيئا كلا و لا« قال ابن أبي الحديد أي شيئا قليلا كلا شي‏ء. و موضع »كلا و لا«. نصب لأنّه صفة »شيئا«، و هي كلمة يقال لما يستقصر جدا. و المعروف عند أهل اللغة »كلا و ذا«، قال ابن هاني المغربي

و أسرع في العين من لحظة و أقصر في السمع من لا و ذا

و في شعر الكميت

كلا و كذا ]تغميضة ثم هجتم لدى حين أن كانوا إلى النوم أفقرا[

و قد رويت في نهج البلاغة كذلك، إلّا أن في أكثر النسخ »كلا و لا«، و من الناس من يرويها »كلا و لات«، و هي حرف أجري مجرى »ليس«، و لا يجي‏ء إلّا مع حين، إلّا أن يحذف في شعر. و من الرواة من يرويها »كلا و لأي«. و لأى. فعل معناه أبطأ. و قال ابن ميثم قوله عليه السلام »كلا و لا«، تشبيه بالقليل السّريع الفناء، و ذلك لأنّ »لا و لا« لفظان قصيران قليلان في المسموع، و استشهد بقول ابن هاني. أقول و يحتمل أن يكون المعنى شيئا كلا شي‏ء، و ليس بلا شي‏ء، أو يكون العطف للتأكيد. و الموقف هنا مصدر. و المشرفية بالفتح سيوف نسبت إلى مشارف، و هي قرى من أرض العرب. و في النهاية الجرض بالتحريك أن تبلغ الروح الحلق. و الإنسان جريض. و في الصّحاح الجرض بالتّحريك الرّيق يغصّ به، يقال جرض بريقه ابتلع ريقه على همّ و حزن بالجهد. و الجريض الغصّة. و مات فلان جريضا أي مغموما. و قال خنقه و أخنقه و خنّقه، و موضعه من العنق، مخنّق. يقال بلغ منه المخنّق، و أخذت بمخنّقه و خناقه أي حلقه.  و قال ابن ميثم »لأيا« مصدر، و العامل محذوف. و ما مصدرية في موضع الفاعل، و التقدير فلأى لأيا نجاؤه، أي عسر و أبطأ. و قوله »بلأي« أي مقرونا بلأي، أي شدّة بعد شدّة. و قال الكيدري »ما« زائدة. و تقدير الكلام فنجا لأيا، أي صاحب لأي، أي في حال كونه صاحب جهد و مشقّة متلبّسة بمثلها، أي نجا في حال تضاعف الشّدائد. و قال الراوندي نصب »لأيا« على الظرف. و تفيد ما الزائدة في الكلام إبهاما، أي بعد شدّة و إبطاء و نجا. قوله عليه السلام »قتال المحلّين« أي البغاة. قال الجوهري أحلّ، أي خرج إلى الحلّ، أو من ميثاق كان عليه، و منه قول زهير

]جعلنا القنان عن يمين و حزنه[ و كم بالقنان من محلّ و محرم

و قال أسلمه، أي خذله. قوله عليه السلام »و لا مقرّا للضّيم« أي راضيا بالظلم، صابرا عليه. و السلس السهل، اللين المنقاد. »و لا وطئ الظهر« أي متهيّئا للركوب. و مقتعد البعير راكبه. و الصّليب الشديد.

 

904-  أقول روى ابن أبي الحديد من كتاب الغارات لإبراهيم بن محمّد الثقفي، كما رأيته في أصل كتابه، روى بإسناده عن جندب الأزدي، عن أبيه قال أوّل غارة كانت بالعراق، غارة الضّحّاك بن قيس، بعد الحكمين، و قبل قتال النهروان و ذلك أنّ معاوية لمّا بلغه أنّ عليّا عليه السلام بعد واقعة  الحكمين، تحمّل إليه مقبلا هاله ذلك، فخرج من دمشق معسكرا، و بعث إلى كور الشام، فصاح بها ]فيها »خ ل«[ إنّ عليّا قد سار إليكم. و كتب إليهم نسخة واحدة، فقرئت على الناس أمّا بعد، فإنّا كنّا كتبنا بيننا و بين عليّ كتابا، و شرطنا فيه شروطا، و حكمنا رجلين يحكمان علينا و عليه بحكم الكتاب، لا يعدوانه، و جعلنا عهد اللّه و ميثاقه على من نكث العهد، و لم يمض الحكم، و إنّ حكمي الذي كنت حكّمته أثبتني، و إنّ حكمه خلعه، و قد أقبل إليكم ظالما، » فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ« تجهّزوا للحرب، بأحسن الجهاز، و أعدّوا آلة القتال، و أقبلوا خفافا و ثقالا و كسالى و نشاطا، يسّرنا اللّه و إيّاكم لصالح الأعمال. فاجتمع إليه ناس من كلّ كورة، و أرادوا المسير إلى صفّين، فاستشارهم فاختلفوا في ذلك، فمكثوا يجيلون الرأي يومين أو ثلاثة، حتى قدمت عليهم عيونهم، أنّ عليّا عليه السلام اختلف عليه أصحابه، ففارقته منه فرقة أنكرت أمر الحكومة، و أنّه قد رجع عنكم إليهم، فكبّر الناس سرورا لانصرافه عنهم، و ما ألقي من الخلاف بينهم. فلم يزل معاوية معسكرا في مكانه، حتّى جاء الخبر أنّ عليا عليه السلام، قد قتل أولئك الخوارج، و أنّه أراد بعد قتلهم أن يقبل إليه بالناس، و أنّهم استنظروه و دافعوه، فسرّ بذلك هو و من قبله من الناس. و عن عبد الرحمن بن مسعدة قال جاءنا كتاب عمارة بن عقبة بن أبي معيط من الكوفة، و نحن معسكرون مع معاوية نتخوّف أن يفرغ عليّ من خارجته، ثم يقبل إلينا، و كان في كتابه أمّا بعد فإنّ عليّا خرج عليه علية أصحابه و نسّاكهم، فخرج إليهم فقتلهم، و قد فسد عليه جنده و أهل مصره، و وقعت بينهم العداوة و تفرّقوا أشدّ الفرقة، فأحببت إعلامك. و السّلام. قال فقرأه ]معاوية[ على أخيه و على أبي الأعور، ثم نظر إلى أخيه الوليد بن عقبة و قال لقد رضي أخوك أن يكون لنا عينا. قال فضحك الوليد و قال  إنّ في ذلك أيضا لنفعا. فعند ذلك دعا معاوية الضحّاك بن قيس الفهري، و قال له سر حتى تمرّ بناحية الكوفة، و ترتفع عنها ما استطعت، فمن وجدته من الأعراب في طاعة عليّ، فأغر عليه، و إن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليهما، و إذا أصبحت في بلدة، فأمس في أخرى، و لا تقيمنّ لخيل بلغك عنها أنّها قد سرّحت إليك لتلقاها فتقاتلها. فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف. فأقبل الضّحاك لنهب الأموال، و قتل من لقي من الأعراب، حتّى مرّ بالثعلبيّة فأغار على الحاجّ، فأخذ أمتعتهم، ثم أقبل فلقي عمرو بن عميس بن مسعود الذهلي و هو ابن أخي عبد اللّه بن مسعود فقتله في طريق الحاجّ، عند القطقطانة، و قتل معه ناسا من أصحابه. فصعد أمير المؤمنين عليه السلام المنبر و قال يا أهل الكوفة اخرجوا إلى ]العبد[ الصالح عمرو بن عميس و إلى جيوش لكم قد أصيب منهم طرف، اخرجوا فقاتلوا عدوّكم، و امنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين. فردّوا عليه ردّا ضعيفا و رأى منهم عجزا و فشلا فقال و اللّه لوددت أنّ لي بكل مائة منكم رجلا منهم، ويحكم اخرجوا معي، ثم فرّوا عنّي ما بدا لكم، فو اللّه ما أكره لقاء ربّي على نيّتي و بصيرتي، و في ذلك روح لي عظيم، و فرج من مناجاتكم و معاناتكم و مقاساتكم و مداراتكم، مثل ما تدارى البكار العمدة، و الثياب المتهتّرة، كلّما خيطت من جانب، تهتّكت على صاحبها من جانب آخر. ثم نزل، فخرج يمشي حتّى بلغ الغريّين، ثم دعا حجر بن عدي الكندي فعقد له راية على أربعة آلاف، فخرج حجر حتى مرّ بالسماوة و هي  أرض كلب، فلقي بها إمرأ القيس بن عدي بن أوس الكلبي، و هم أصهار الحسين بن عليّ عليه السلام، فكانوا أدلّاءه في الطريق، و على المياه، فلم يزل مغذّا في إثر الضحّاك، حتّى لقيه بناحية تدمر فواقعه فاقتتلوا ساعة، فقتل من أصحاب الضحّاك تسعة عشر رجلا، و قتل من أصحاب حجر رجلان، و حجز الليل بينهم، فمضى الضحّاك، فلما أصبحوا لم يجدوا له و لأصحابه أثرا، فكتب عقيل هذا الكتاب إليه عليه السلام في إثر هذه الواقعة.

 و قال ابن أبي الحديد أيضا ذكر صاحب كتاب الغارات، أن النعمان بن بشير قدم هو و أبو هريرة على عليّ عليه السلام من عند معاوية، بعد أبي مسلم الخولاني، يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية، ليقيدهم بعثمان. و إنما أراد أن يشهدا له عليه أهل الشام بذلك، و أن يظهرا عذره، فلمّا أتياه عليه السلام، و أدّيا الرسالة، قال عليه السلام للنعمان حدّثني عنك أ أنت أهدى من قومك سبيلا يعني الأنصار. قال لا. قال فكلّ قومك قد اتّبعني، إلّا شذاذ منهم ثلاثة أو أربعة، فتكون أنت من الشّذّاذ فقال النعمان أصلحك اللّه، إنّما جئت لأكون معك، و قد طمعت أن يجري اللّه تعالى بينكما صلحا، فإذا كان غير ذلك رأيك، فإنّي ملازمك. فأقام النعمان، و لحق أبو هريرة بالشام. و فر النعمان بعد أشهر منه عليه السلام إلى الشام، فأخذه في الطريق مالك بن كعب الأرحبي، و كان عامل عليّ عليه السلام بعين التمر، فتضرّع و استشفع ]له قرظة عند مالك بن كعب[ حتى خلّى سبيله، و قدم على معاوية و خبّر بما لقي و لم يزل معه. فلمّا غزى الضحّاك بن قيس أرض العراق، بعث معاوية النعمان مع  ألفي رجل و أوصاه أن يتجنّب المدن و الجماعات، و أن لا يغير على مسلحة، و أن يعجلّ الرجوع، فأقبل النعمان حتّى دنا من عين التّمر و بها مالك، و مع مالك ألف رجل، و قد أذن لهم فرجعوا إلى الكوفة فلم يبق معه إلّا مائة أو نحوها، فكتب مالك إلى عليّ عليه السلام، فصعد عليه السلام المنبر، فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال يا أهل الكوفة المنسر من مناسر أهل الشام، إذا أظلّ عليكم انجحرتم في بيوتكم و أغلقتم أبوابكم، انجاز الضّبّة في جحرها، و الضبع في وجارها، الذليل و اللّه من نصرتموه، و من رمى بكم رمى بأفوق ناصل، أفّ لكم، لقد لقيت منكم ترحا و يحكم يوما أناجيكم، و يوما أناديكم، فلا أحرار عند النداء، و لا إخوان صدق عند اللّقاء، أنا و اللّه منيت بكم، صمّ لا تسمعون، بكم لا تعقلون، عمي لا تبصرون ف الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، ويحكم اخرجوا هداكم اللّه إلى مالك بن كعب أخيكم، فإنّ النّعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ليس بالكثير، فانهضوا إلى إخوانكم لعلّ اللّه يقطع بكم من الكافرين طرفا. ثم نزل. فلم يخرجوا، فأرسل إلى وجوههم و كبرائهم، فأمرهم أن ينهضوا و يحثّوا الناس على المسير، فلم يصنعوا شيئا. و اجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثمائة أو دونها فقام عليه السلام فقال ألا إنّي منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، و لا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم، ما تنتظرون بنصركم ربّكم أ ما دين يجمعكم و لا حميّة تحمشكم أقوم فيكم مستصرخا، و أناديكم متغوّثا، فلا تسمعون لي قولا، و لا تطيعون لي أمرا، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثار، و لا يبلغ بكم مرام  دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، و تثاقلتم تثاقل النضو الأدبر، ثم خرج إليّ منكم جنيد متذائب كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ. ثم نزل فدخل منزله. فقام عدي بن حاتم فقال هذا و اللّه الخذلان، ما على هذا بايعنا أمير المؤمنين عليه السلام. ]ثم دخل عليه فقال يا أمير المؤمنين[ إنّ معي من طي ألف رجل لا يعصوني، فإن شئت أن أسير بهم سرت. قال ما كنت لأعرّض قبيلة واحدة من قبائل العرب للناس، و لكن اخرج إلى النخيلة و عسكر بهم. فخرج ]عدي[ فعسكر و فرض عليّ عليه السلام لكلّ رجل منهم سبعمائة. فاجتمع إليه ألف فارس، عدا طيّا أصحاب عدي. و ورد عليه عليه السلام الخبر بهزيمة النعمان و نصرة مالك.

 و روى عبد اللّه بن جوزة الأزدي قال كنت مع مالك بن كعب حين نزل بنا النعمان، و هو في ألفين و ما نحن إلّا مائة فقال لنا قاتلوهم في القرية و اجعلوا الجدر في ظهوركم، و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، و اعلموا أنّ اللّه تعالى ينصر العشرة على المائة، و المائة على الألف، و القليل على الكثير. ثم قال إنّ أقرب من هاهنا إلينا من شيعة أمير المؤمنين قرظة بن كعب، و مخنف بن سليم، فاركض إليهما فأعلمهما حالنا، و قل لهما فلينصرانا. فمررت بقرظة فاستصرخته، فقال إنّما أنا صاحب خراج، و ليس عندي من أغيثه به فمضيت إلى مخنف، فسرّح معي عبد الرحمن بن مخنف في خمسين رجلا، و قاتل مالك و أصحابه، النعمان و أصحابه إلى العصر، فأتيناه و قد كسر هو و أصحابه جفون سيوفهم، و استقبلوا الموت، فلو أبطأنا منهم هلكوا، فما هو إلّا أن رآنا أهل الشام و قد أقبلنا عليهم، أخذوا ينكصون عنهم و يرتفعون، و رآنا مالك و أصحابه، فشدّوا عليهم حتى دفعوهم عن القرية، فاستعرضناهم فصرعنا  منهم رجالا ثلاثة، فظنّ القوم أنّ لنا مددا، و حال الليل بيننا و بينهم، فانصرفوا إلى أرضهم. و كتب مالك إلى عليّ عليه السلام أمّا بعد، فإنّه نزل بنا النعمان بن بشير في جمع من أهل الشام كالظاهر علينا، و كان عظم أصحابي متفرّقين، و كنّا للذي كان منهم آمنين، فخرجنا إليهم رجالا مصلتين، فقاتلناهم حتى المساء، و استصرخنا مخنف بن سليم، فبعث إلينا رجالا من شيعة أمير المؤمنين و ولده، فنعم الفتى، و نعم الأنصار كانوا، فحملنا على عدوّنا و شددنا عليهم، فأنزل اللّه علينا نصره، و هزم عدوّه، و أعزّ جنده، وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، و السلام على أمير المؤمنين، و رحمة اللّه و بركاته.

 و عن أبي الطّفيل قال، قال عليّ عليه السلام يا أهل الكوفة دخلت إليكم و ليس لي سوط إلّا الدرة، فرفعتموني إلى السوط، ثم رفعتموني إلى الحجارة، أو قال الحديد، ألبسكم اللّه شيعا، و أذاق بعضكم بأس بعض، فمن فاز بكم فقد فاز بالقدح الأخيب.

 و عن أبي صالح الحنفي قال رأيت عليّا عليه السلام يخطب، و قد وضع المصحف على رأسه، حتّى رأيت الورق يتقعقع على رأسه قال، فقال اللّهم قد منعوني ما فيه، فأعطني ما فيه، اللّهم قد أبغضتهم و أبغضوني، و مللتهم و ملّوني و حملوني على غير خلقي و طبيعتي و أخلاق لم تكن تعرف لي. اللّهم فأبدلني بهم خيرا منهم، و أبدلهم بي شرّا منّي. اللّهمّ أمث قلوبهم ميث الملح في الماء.

 و عن سعد بن إبراهيم عن ابن أبي رافع قال رأيت عليّا عليه السلام قد ازدحموا عليه حتّى أدموا رجله، فقال اللّهم قد كرهتهم و كرهوني، فأرحني منهم، و أرحهم مني.

 و روى محمّد بن فرات الجرمي، عن زيد بن عليّ عليه السلام قال  قال علي عليه السلام في هذه الخطبة أيّها النّاس إنّي دعوتكم إلى الحق فتولّيتم عنّي و ضربتكم بالدرّة فأعييتموني. أما إنّه سيليكم بعدي ولاة لا يرضون منكم بذلك حتى يعذّبونكم بالسياط و الحديد، فأمّا أنا فلا أعذبكم بهما، إنّه من عذّب الناس في الدّنيا عذّبه اللّه في الآخرة، و آية ذلك أن يأتيكم صاحب اليمن حتى يحلّ بين أظهركم، فيأخذ العمّال و عمّال العمّال رجل يقال له يوسف بن عمر، و يقوم عند ذلك رجل منّا أهل البيت فانصروه، فانه داع إلى الحق. قال فكان الناس يتحدّثون أنّ ذلك الرجل هو زيد ]عليه السلام[.

بيان أحمشته أي أغضبته. و المستصرخ المستنصر. و المتغوّث القائل وا غوثاه. و الثار الدّم و الطلب به، و قاتل حميمك. ذكره الفيروزآبادي. و الجرجرة صوت يردّده البعير في حنجرته، و أكثر ما يكون ذلك عند الإعياء و التّعب. و السرر داء يأخذ البعير في سرّته، يقال منه جمل أسرّ. و النضو البعير المهزول. و الأدبر الذي به دبر و هي القروح في ظهره. و الجنيد تصغير الجند. و قال السّيّد الرضيّ رضي اللّه عنه »متذائب« أي مضطرب، من قولهم تذاءبت الريح أي اضطرب هبوبها، و منه سمّي الذئب لاضطراب مشيه. أقول أورد السّيّد في النهج قوله عليه السلام »ألا إني منيت إلى قوله وَ هُمْ يَنْظُرُونَ«.  

 و قال ابن أبي الحديد نقلا من كتاب الغارات، لإبراهيم بن محمد الثقفي و وجدته في أصل كتابه أيضا روى بإسناده عن عمرو بن محصن أنّ معاوية لمّا أصاب محمّد بن أبي بكر بمصر، بعث عبد اللّه بن عامر الحضرمي إلى أهل البصرة ليدعوهم إلى نفسه، و إلى الطلب بدم عثمان، فلمّا أتاهم و قرأ عليهم كتاب معاوية اختلفوا، فبعضهم ردّوا، و أكثرهم قبلوا و أطاعوا. و كان الأمير يومئذ بالبصرة، زياد بن عبيد، قد استخلفه عبد اللّه بن العباس، و ذهب إلى عليّ عليه السلام يعزّيه عن محمد بن أبي بكر، فلمّا رأى زياد إقبال الناس على ابن الحضرمي، استجار من الأزد و نزل فيهم، و كتب إلى ابن عباس و أخبره بما جرى فرفع ابن عباس ذلك إلى عليّ عليه السلام، و شاع في الناس بالكوفة ما كان من ذلك، و اختلف أصحابه عليه السلام فيمن يبعثه إليهم حميّة فقال عليه السلام تناهوا أيّها الناس، و ليردعكم الإسلام و وقاره عن التباغي و التهاوي، و لتجتمع كلمتكم، و الزموا دين اللّه الذي لا يقبل من أحد غيره، و كلمة الإخلاص التي هي قوام الدين، و حجّة اللّه على الكافرين، وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا مشركين متباغضين متفرقين فألّف بينكم بالإسلام، فكثرتم و اجتمعتم و تحاببتم، فلا تتفرقوا بعد إذ اجتمعتم، و لا تباغضوا بعد إذ تحاببتم، و إذا رأيتم الناس و بينهم النائرة و قد تداعوا إلى العشائر و القبائل فاقصدوا لهامهم و وجوههم بسيوفكم، حتّى يفزعوا إلى اللّه و كتابه و سنّة نبيّه، فأمّا تلك الحمية فإنّها من خطوات الشياطين فانتهوا عنها لا أبا لكم تفلحوا و تنجحوا. 34  -3404-   ثم قال ابن أبي الحديد و روى الواقدي أنّ عليّا عليه السلام استنفر بني تميم أيّاما، لينهض منهم إلى البصرة من يكفيه أمر ابن الحضرمي، و يردّ عادية بني تميم الذين أجاروه بها، فلم يجبه أحد فخطبهم و قال ليس من العجب أن ينصرني الأزد و يخذلني مضر. و أعجب من ذلك تقاعد تميم الكوفة بي، و خلاف تميم البصرة عليّ، و أن أستنجد بطائفة منهم ما يشخص إليّ أحد منها فيدعوهم إلى الرشاد، فإن أجابت و إلّا فالمنابذة و الحرب. فكأنّي أخاطب صما بكما لا يفقهون حوارا، و لا يجيبون نداء، كلّ ذلك جنبا عن البأس و حبّا للحياة. ]و[ لقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، نقتل آباءنا و أبناءنا و إخواننا و أعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلّا إيمانا و تسليما، و مضيا على اللقم، و صبرا على مضض الألم، و جدّا في جهاد العدوّ. و لقد كان الرجل منّا و الآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا و مرّة لعدوّنا منّا. فلمّا رأى اللّه صدقنا، أنزل بعدوّنا الكبت، و أنزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقيا جرانه، و متبوئا أوطانه. و لعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم، ما قام للدين عمود، و لا اخضرّ للإيمان عود. و ايم اللّه لتحتلبنّها دما، و لتتبعنّها ندما. قال فقام إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي، فقال أنا إن شاء اللّه أكفيك يا أمير المؤمنين هذا الخطب، فأتكفّل لك بقتل ابن الحضرميّ، أو إخراجه عن البصرة. فأمره بالتهيّؤ للشخوص، فشخص حتى قدم البصرة.

 رجعنا إلى رواية الثقفي، قال إبراهيم فلمّا قدمها دخل على زياد و هو  بالأهواز مقيم، فرحّب به و أجلسه إلى جانبه، فأخبره بما قال له عليّ عليه السلام، و إنّه ليكلّمه إذ جاءه كتاب من عليّ فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من عبد اللّه أمير المؤمنين، عليّ إلى زياد بن عبيد سلام عليك، أما بعد، فإنّي قد بعثت أعين بن ضبيعة ليفرّق قومه عن ابن الحضرميّ، فارقب ما يكون منه، فإن فعل و بلغ من ذلك ما يظنّ به، و كان في ذلك تفريق تلك الأوباش، فهو ما نحبّ، و إن ترامت الأمور بالقوم إلى الشقاق و العصيان، فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك فجاهدهم، فإن ظفرت فهو ما ظننت، و إلّا فطاولهم و ماطلهم، فكأنّ كتائب المسلمين قد أظلّت عليك، فقتل اللّه الظالمين المفسدين، و نصر المؤمنين المحقّين و السلام. فلما قرأه زياد، أقرأه أعين بن ضبيعة فقال له إنّي لأرجو أن تكفي هذا الأمر إن شاء اللّه. ثم خرج من عنده فأتى رحله، فجمع إليه رجالا من قومه، فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال يا قوم على ما ذا تقتلون أنفسكم، و تهريقون دماءكم على الباطل مع السّفهاء و الأشرار و إنّي و اللّه ما جئتكم حتّى عبّأت إليكم الجنود، فإن تنيبوا إلى الحقّ نقبل منكم، و نكفّ عنكم، و إن أبيتم فهو و اللّه استيصالكم و بواركم. فقالوا بل نسمع و نطيع فقال انهضوا اليوم على بركة اللّه، فنهض بهم على جماعة ابن الحضرمي، فخرجوا إليه فصافّوه، و واقفهم عامّة يومه يناشدهم اللّه و يقول يا قوم لا تنكثوا بيعتكم، و لا تخالفوا إمامكم، و لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فقد رأيتم و جرّبتم كيف صنع اللّه بكم عند نكثكم بيعتكم و خلافكم. فكفّوا عنه، و هم في ذلك يشتمونه.  فانصرف عنهم و هو منهم منتصف فلمّا آوى إلى رحله، تبعه عشرة نفر يظنّ الناس أنّهم خوارج، فضربوه بأسيافهم و هو على فراشه، لا يظنّ أن الذي كان يكون، فخرج يشتدّ عريانا فلحقوه في الطريق فقتلوه. فكتب زياد إلى عليّ عليه السلام ما وقع. و كتب إنّي أرى أن تبعث إليهم جارية بن قدامة، فإنّه نافذ البصيرة، و مطاع العشيرة، شديد على عدوّ أمير المؤمنين عليه السلام، فلمّا قرأ عليه السلام الكتاب، دعا جارية فقال يا ابن قدامة تمنع الأزد عن عاملي و بيت مالي و تشاقّني مضر و تنابذني، و بنا ابتدأها اللّه بالكرامة، و عرّفها الهدى، و تدعو إلى المعشر الذين حادّوا اللّه و رسوله و أرادوا إطفاء نور اللّه سبحانه حتى علت كلمته عليهم و أهلك الكافرين.

 فروى إبراهيم بإسناده عن كعب بن قعين قال خرجت مع جارية من الكوفة في خمسين رجلا من بني تميم، و ما كان فيهم يماني غيري، و كنت شديد التشيع، فقلت لجارية إن شئت كنت معك، و إن شئت ملت إلى قومي. فقال بل سر معي، فو اللّه لوددت أنّ الطير و البهائم تنصرني عليهم فضلا عن الإنس. فلمّا دخلنا البصرة، بدأ بزياد فرحّب به و أجلسه إلى جانبه، و ناجاه ساعة و ساءله ثم خرج فقام في الأزد فقال جزاكم اللّه من حيّ خيرا، ثم قرأ عليهم و على غيرهم كتاب أمير المؤمنين فإذا فيه من عبد اللّه أمير المؤمنين، إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين و المسلمين سلام عليكم، أمّا بعد، فإنّ اللّه حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة قبل البيّنة، و لا يأخذ المذنب عند أوّل وهلة، و لكنّه يقبل التوبة، و يستديم الأناة، و يرضى بالإنابة، ليكون أعظم للحجّة، و أبلغ في المعذرة. و قد كان من شقاق جلّكم أيّها الناس، ما استحققتم أن تعاقبوا عليه، فعفوت عن مجرمكم، و رفعت السّيف عن مدبركم و قبلت من مقبلكم، و أخذت  بيعتكم، فإن تفوا ببيعتي و تقبلوا نصيحتي و تستقيموا على طاعتي، أعمل فيكم بالكتاب و قصد الحقّ، و أقيم فيكم سبيل الهدى فو اللّه ما أعلّم أنّ واليا بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله أعلم بذلك مني، و لا أعمل. أقول قولي هذا صادقا غير ذامّ لمن مضى، و لا منتقصا لأعمالهم. و إن خطت بكم الأهواء المردية، و سفه الرأي الجائر إلى منابذتي تريدون خلافي، فها أنا ذا قرّبت جيادي، و رحلت ركابي. و ايم اللّه لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم، لأوقعنّ بكم وقعة لا يكون يوم الجمل عندها إلّا كلعقة لاعق، و إنّي لظانّ إن شاء اللّه أن لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا. و قد قدّمت هذا الكتاب حجّة عليكم، و ليس أكتب إليكم من بعده كتابا إن أنتم استغششتم نصيحتي، و نابذتم رسولي، حتى أكون أنا الشاخص نحوكم إن شاء اللّه و السّلام. فلما قرئ الكتاب على الناس، قام صبرة بن شيمان فقال سمعنا و أطعنا و نحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب، و لمن سالم سلم. إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك، و إن أحببت أن ننصرك نصرناك. و قام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك، فلم يأذن ]جارية[ لأحد أن يسير معه و مضى نحو بني تميم و كلّمهم فلم يجيبوه، و خرج منهم أوباش فناوشوه بعد أن شتموه، فأرسل إلى زياد و الأزد يستصرخهم ]و[ يأمرهم أن يسيروا إليه فسارت الأزد بزياد. و خرج إليهم ابن الحضرمي فاقتتلوا ساعة، و اقتتل شريك بن الأعور الحارثي، و كان من شيعة عليّ عليه السلام و صديقا لجارية ]فقال له ألا أقاتل معك عدوّك فقال بلى. فقاتلهم.[ فما لبث بنو تميم أن هزموهم و اضطرّوهم إلى دار سنبل السعدي، فحصروا ابن الحضرمي فيها، و أحاط جارية و زياد بالدار و قال جارية عليّ بالنّار. فقالت الأزد لسنا من الحريق في شي‏ء، و هم قومك  و أنت أعلم. فحرّق جارية الدار عليهم، فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلا أحدهم عبد الرحمن بن عثمان القرشي. و سارت الأزد بزياد حتى أوطئوا قصر الإمارة و معه بيت المال، و قالت له هل بقي علينا من جوارك شي‏ء. قال لا. فانصرفوا عنه. و كتب زياد إلى أمير المؤمنين عليه السلام أمّا بعد، فإنّ جارية بن قدامة العبد الصالح قدم من عندك فناهض جمع ابن الحضرمي بمن نصره، و أعانه من الأزد ففضّه و اضطرّه إلى دار من دور البصرة في عدد كثير من أصحابه فلم يخرج حتى حكم اللّه بينهما، فقتل ابن الحضرمي و أصحابه، منهم من أحرق، و منهم من ألقي عليه جدار، و منهم من هدم عليه البيت من أعلاه، و منهم من قتل بالسيف، و سلم منهم نفر ثابوا و تابوا فصفح عنهم و بعدا لمن عصى و غوى، و السّلام على أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته. فلمّا وصل الكتاب قرأه عليه السلام على الناس فسرّ بذلك و سرّ أصحابه و أثنى على جارية و على الأزد و ذمّ البصرة فقال إنها أوّل القرى خرابا، إما غرقا و إمّا حرقا، حتى يبقى مسجدها كجؤجؤة سفينة.

 نهج و من كلام له عليه السلام لمّا هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية، و كان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين و أعتقهم فلمّا طالبه بالمال خاس به و هرب إلى الشام قبّح اللّه مصقلة، فعل فعل السادة و فرّ فرار العبيد، فما أنطق مادحه حتى أسكته، و لا صدّق واصفه حتى  بكته، و لو أقام لأخذنا ميسوره و انتظرنا له وفوره.

بيان أقول قد مضى هذا الكلام و مضت قصته في أبواب أحوال الخوارج. و قال الشرّاح بنو ناجية ينسبون أنفسهم إلى قريش، و قريش تدفعهم عنه و ينسبونهم إلى ناجية، و هي أمّهم، و قد عدّوا من المبغضين لعليّ عليه السلام. و اختلف الرواية في سبيهم،

 ففي بعضها أنّه لمّا انقضى أمر الجمل دخل أهل البصرة في الطاعة غير بني ناجية، فبعث إليهم عليّ عليه السلام رجلا من الصحابة في خيل ليقاتلهم، فأتاهم و قال لهم ما لكم عسكرتم و قد دخل في الطاعة غيركم فافترقوا ثلاث فرق فرقة قالوا كنّا نصارى فأسلمنا و نبايع، فأمرهم فاعتزلوا. و فرقة قالوا كنّا نصارى فلم نسلم و خرجنا مع القوم الذين كانوا خرجوا، قهرونا فأخرجونا كرها فخرجنا معهم فهزموا، فنحن ندخل فيما دخل الناس فيه، و نعطيكم الجزية كما أعطيناهم. فقال اعتزلوا، فاعتزلوا. و فرقة قالوا كنّا نصارى فأسلمنا و لم يعجبنا الإسلام فرجعنا فنعطيكم الجزية كالنصارى. فقال لهم توبوا و ارجعوا إلى الإسلام. فأبوا، فقاتل مقاتلهم و سبى ذراريهم، فقدم بهم على أمير المؤمنين عليه السلام.

 و في بعضها أن الأمير من قبل عليّ عليه السلام كان معقل بن قيس، و لمّا انقضى أمر الحرب لم يقتل من المرتدّين من بني ناجية إلّا رجلا واحدا و رجع الباقون إلى الإسلام، و استرقّ من النصارى منهم الذين ساعدوا في الحرب و شهروا السيف على جيش الإمام، ثم أقبل بالأسارى حتّى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني، و هو عامل لعليّ عليه السلام على أردشيرخرّة، و هم خمسمائة  إنسان، فبكت إليه النساء و الصبيان، و تصايح الرجال و سألوا أن يشتريهم و يعتقهم، فابتاعهم بخمسمائة ألف درهم. فأرسل إليه أمير المؤمنين أبا حرّة الحنفي ليأخذ منه المال، فأدّى إليه مائتي ألف درهم و عجز عن الباقي فهرب إلى معاوية. فقيل له عليه السلام اردد الأسارى في الرقّ. فقال ليس ذلك في القضاء بحقّ، قد عتقوا إذ أعتقهم الذي اشتراهم، و صار مالي دينا عليه.

أقول فعلى الرواية الأولى كانوا من المرتدّين عن الإسلام و لا يجوز سبي ذراريهم عندنا و عند الجمهور أيضا، إلّا أنّ أبا حنيفة قال بجواز استرقاق المرأة المرتدّة إذا لحقت بدار الحرب. و أيضا ما فيها من أنّه قدم بالأسارى إلى عليّ عليه السلام، يخالف المشهور من اشتراء مصقلة عن عرض الطريق و قد قال بعض الأصحاب بجواز سبي البغاة، إلّا أنّ الظاهر أنّه مع إظهار الكفر و الارتداد لا يبقى حكم البغي. و الصحيح ما في الرواية الثانية من أنّ الأسارى كانت من النصارى. ]قوله[ »و خاس به« أي غدر و خاف. و خاس بالوعد أي أخلف. »و قبّحه اللّه« أي نحّاه عن الخير. و السادة جمع السيّد و يطلق على الرّب و المالك و الشريف و الفاضل و الكريم و الحليم و متحمّل الأذى من قومه و الرئيس و المقدم. قوله عليه السلام »حتى أسكته« قيل كلمة »حتى« تحتمل أن تكون بمعنى اللّام، أي أنّه لم ينطق مادحه ليقصد إسكاته بهربه، فإنّ إسكاته لو قصد لا يتصوّر إلّا بعد إنطاقه، و هو لم يتمم فعله الذي يطلب به إنطاق مادحه، فكيف يقصد إسكاته بهربه و يحتمل أن يكون المراد أنّه لسرعة إتباعه الفضيلة بالرذيلة، كأنّه جمع بين غايتين متنافيتين. و التبكيت التقريع و التعنيف و التوبيخ و استقبال الرجل بما يكره. و الميسور ما تيسّر. و قيل هو مصدر على مفعول. و قيل الغنى و السعة. و الوفور بالضم مصدر وفر المال، ككرم و وعد، أي تمّ و زاد. و في بعض النسخ  »موفوره« و هو الشي‏ء التامّ، أي انتظرنا حصول الموفور في يده. و الغرض دفع عذره في الهرب و هو توهّم التشديد عليه.

 نهج و من خطبة له عليه السلام اللّهمّ أيّما عبد من عبادك سمع مقالتنا العادلة غير الجائرة، و المصلحة في الدين و الدّنيا غير المفسدة، فأبى بعد سمعه لها إلّا النّكوص عن نصرتك، و الإبطاء عن إعزاز دينك، فإنّا نستشهدك عليه يا أكبر الشاهدين شهادة، و نستشهد عليه جميع من أسكنته أرضك و سماواتك، ثم أنت بعد، المغني عن نصره و الآخذ له بذنبه.

بيان قال ابن ميثم هذا الفصل من خطبة كان يستنهض عليه السلام بها أصحابه إلى جهاد أهل الشام، قاله بعد تقاعد أكثرهم عن معاوية. و »ما« في »أيّما« زائدة مؤكّدة. و في وصف المقالة بالعادلة توسّع. و النكوص الرجوع قهقهرى. »فإنّا نستشهدك« أي نسألك أن تشهد عليه. »ثم أنت بعد« أي بعد تلك الشهادة عليه.

 نهج من كلام له عليه السلام يحثّ فيه أصحابه على الجهاد و اللّه مستأديكم شكره، و مورّثكم أمره، و ممهلكم في مضمار ممدود لتتنازعوا سبقه. فشدّوا عقد المآزر، و اطووا فضول الخواصر لا تجتمع عزيمة و وليمة ما أنقض النّوم لعزائم اليوم، و أمحى الظّلم لتذاكير الهمم.

توضيح الاستيداء طلب الأداء. و الأمر هو الملك و الغلبة، كما قال تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الآية.  و المضمار مدّة تضمير الفرس و موضعه. و فسّر بالميدان أيضا. و المراد مدّة التّكليف و الحياة أو دار الدّنيا. و السّبق بالفتح كما في النسخ المصدر. و بالتحريك ما يتراهن عليه. و الضّمير راجع إليه سبحانه كالسّوابق، أو إلى المضمار. و العقد جمع العقدة بالضمّ، و هي موضع العقد. قال ابن أبي الحديد أي شمّروا عن ساق الاجتهاد. و يقال لمن يوصى بالجدّ و التّشمير اشدد عقدة إزارك. لأنّه إذا شدّها كان أبعد من العثار و أسرع للمشي. و قوله »و اطووا فضول الخواصر« نهي عن كثرة الأكل، لأنّ الكثير الأكل لا يطوي فضول خواصره، و القليل الأكل يأكل في بعضها و يطوي بعضها. انتهى. و قيل من شرع في أمر بجدّ و اجتهاد يطوي ما فضل من أزراره، و يلتف بقدميه في خاصرته، و يجعله محكما فيها. فهذه أيضا كناية عن الجدّ و الاجتهاد. و قال الكيدري وجدت في نسخة صحيحة »اطروا فضول الخواصر«. و الطر الشقّ و القطع، أي اقطعوا من ثيابكم ما فضل و يزاد على بدنكم. و هو كناية عن المبالغة في التشمير عن ساق الجد. انتهى. و الوليمة طعام العرس أو كلّ طعام صنع لدعوة، و المعنى إنّ العزيمة الجازمة تنافي الاشتغال بالملاذ، و لا تنال المطالب الجليلة إلّا بركوب المشاقّ. »و ما أنقض النوم لعزائم اليوم« كثيرا ما يعزم الإنسان في النهار على المسير و الارتحال في اللّيلة المستقبلة لتقريب المنزل، فإذا جاء اللّيل نام و استراح و شقّ عليه القيام، أي ففاته ما عزم عليه من السير، أو المراد فوت ما عزم عليه من مهمات الأمور في يومه بنوم الليلة التي قبله. »و التذاكير« جمع التذكار بالفتح، و هو الذكر و الحفظ للشي‏ء. و المعنى ما  أكثر ما يهمّ الإنسان و يعزم على السير باللّيل، فإذا أدركته ظلمة الليل، نام و مال إلى الرّاحة و نسي ما عزم عليه، فانمحى و اضمحلّ ما همّه.

911-  كتاب الغارات لإبراهيم الثقفي عن محمّد بن إسماعيل، عن نصر بن مزاحم، عن عمر بن سعد، عن نمير بن وعلة، عن أبي الودّاك أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام لمّا فرغ من حرب الخوارج، قام في الناس بنهروان خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال أمّا بعد، فإنّ اللّه قد أحسن بكم و أحسن نصركم، فتوجّهوا من فوركم هذا إلى عدوّكم من أهل الشام. فقاموا إليه فقالوا يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا، و كلّت سيوفنا، و نصلت أسنّة رماحنا، و عاد أكثرها قصدا، ارجع بنا إلى مصرنا نستعد بأحسن عدّتنا، و لعلّ أمير المؤمنين يزيد في عدّتنا عدّة من هلك منّا، فإنّه أقوى لنا على عدّونا. و كان الّذي ولي كلام الناس يومئذ الأشعث بن قيس.

 و عن إبراهيم بن العبّاس عن ابن المبارك البجلي ]عن بكر بن عيسى[ عن الأعمش عن المنهال بن عمرو ]عن قيس بن السكن أنه[ قال سمعت عليّا عليه السلام يقول و نحن بمسكن يا معشر المهاجرين » ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ« [21-  المائدة 5] فبكوا ]فتلكّئوا »خ ل«[ و قالوا البرد شديد. و كان غزاتهم في البرد. فقال إنّ القوم يجدون البرد كما تجدون. قال فلم يفعلوا و أبوا، فلمّا رأى ذلك منهم قال أفّ لكم، إنّها سنّة جرت عليكم.

   و سمعت أصحابنا عن أبي عوانة عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السّكن قال قال عليّ عليه السلام » يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ« فاعتلّوا عليه فقال أفّ لكم، إنّها سنّة جرت.

 و عن إبراهيم بن العباس عن ابن المبارك عن بكر بن عيسى عن عمر بن عمير الهجري عن طارق بن شهاب إنّ عليّا عليه السلام انصرف من حرب النهروان، حتّى إذا كان في بعض الطّريق نادى في الناس فاجتمعوا، فحمد اللّه و أثنى عليه و رغّبهم في الجهاد و دعاهم إلى المسير إلى الشام من وجهه ذلك، فأبوا و شكوا البرد و الجراحات، و كان أهل النهروان قد أكثروا الجراحات في الناس. فقال إنّ عدوّكم يألمون كما تألمون، و يجدون البرد كما تجدون فأعيوه و أبوا، فلمّا رأى كراهيتهم، رجع إلى الكوفة و أقام بها أيّاما و تفرّق عنه ناس كثير من أصحابه، فمنهم من أقام يرى رأي الخوارج، و منهم من أقام شاكّا في أمرهم.

 و عن محمد بن إسماعيل عن نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد عن نمير بن وعلة عن أبي الودّاك قال لمّا أكره عليّ الناس على المسير إلى الشام أقبل بهم حتّى نزل النخيلة، و أمر الناس أن ينزلوا معسكرهم، و يوطّنوا على الجهاد أنفسهم، و أن يقلّوا زيارة أبنائهم و نسائهم حتّى يسيروا إلى عدوّهم.

 و بهذا الإسناد عن أبي الودّاك أنّ الناس ]أ[ قاموا بالنخيلة مع عليّ عليه السلام أيّاما، ثم أخذوا يتسلّلون و يدخلون المصر. فنزل و ما معه من الناس إلّا رجال من وجوههم قليل، و ترك المعسكر خاليا، فلا من دخل الكوفة خرج إليه، و لا من أقام معه صبر فلمّا رأى ذلك دخل الكوفة في استنفاره الناس.

   و عن محمد بن إسماعيل عن نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد عن نمير العبسي قال مرّ عليّ عليه السلام على الشغار من همدان فاستقبله قوم فقالوا أ قتلت المسلمين بغير جرم، و داهنت في أمر اللّه، و طلبت الملك، و حكّمت الرجال في دين اللّه لا حكم إلّا للّه. فقال عليه السلام حكم اللّه في رقابكم، ما يحبس أشقاها أن يخضبها من فوقها بدم، إنّي ميّت أو مقتول، بل قتلا، ثمّ جاء حتّى دخل القصر.

 و عن إبراهيم بن قادم عن شريك عن شعيب بن غرقدة عن المستظل بن حصين قال، قال عليّ عليه السلام يا أهل الكوفة، و اللّه لتجدنّ و لتقاتلن على طاعته، أو ليسوسنّكم قوم أنتم أقرب إلى الحقّ منهم فليعذّبنّكم و ليعذّبنّهم اللّه.

 و عن محمّد بن إسماعيل عن يزيد بن معدل عن ابن وعلة عن أبي الودّاك قال لمّا تفرّق الناس عن عليّ بالنخيلة و دخل الكوفة، جعل يستفزهم على جهاد أهل الشام حتى بطلت الحرب تلك السنة.

 و عن زيد بن وهب أنّ عليّا عليه السلام قال للناس و هو أوّل كلام له بعد النهروان و أمور الخوارج التي كانت فقال يا أيّها الناس استعدّوا إلى عدوّ في جهادهم القربة من اللّه، و طلب الوسيلة إليه، حيارى عن الحقّ لا يبصرونه، و موزعين بالكبر و الجور، لا يعدلون به، جفاة عن الكتاب، نكب عن الدين، يعمهون في الطغيان، و يتسكّعون في غمرة الضّلال، فأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة و من رباط الخيل، و توكّلوا على اللّه وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا، وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً. قال فلم ينفروا و لم ينتشروا، فتركهم أيّاما حتى أيس من أن يفعلوا،  و دعا رءوسهم و وجوههم فسألهم عن رأيهم و ما الذي يثبّطهم، فمنهم المعتلّ و منهم المنكر و أقلّهم النشيط، فقام فيهم ثانية فقال عباد اللّه ما لكم إن أمرتكم أن تنفروا اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ثوابا و بالذلّ و الهوان من العزّ خلفا و كلّما ناديتكم إلى الجهاد دارت أعينكم كأنّكم من الموت في سكرة، يرتجّ عليكم ]حواري[ فتبكون، فكأنّ قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون، و كأن أبصاركم كمه فأنتم لا تبصرون، للّه أنتم ما أنتم إلّا أسود الشرى في الدّعة، و ثعالب روّاغة حين تدعون، ما أنتم بركن يضال به و لا زوافر عزّ يعتصم إليها. لعمر اللّه لبئس حشاش نار الحرب أنتم. إنّكم تكادون و لا تكيدون، و تنتقص أطرافكم و لا تتحاشون، و لا ينام عنكم و أنتم في غفلة ساهون. إنّ أخا الحرب اليقظان، أودى من غفل، و يأتي الذلّ من وادع، غلب المتخاذلون و المغلوب مقهور و مسلوب. أمّا بعد، فإنّ لي عليكم حقا و لكم عليّ حق، فأمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة، و النصح لي في المشهد و المغيب، و الإجابة حين أدعوكم، و الطاعة حين آمركم. و أما حقّكم عليّ فالنصيحة لكم ما صحبتكم، و التوفير عليكم و تعليمكم كيلا تجهلوا، و تأديبكم كي تعلموا، فإن يرد اللّه بكم خيرا تنزعوا عما أكره، و ترجعوا إلى ما أحبّ تنالوا ما تحبّون و تدركوا ما تأملون.

 و عن الفضل بن دكين عن أبي عاصم الثقفي عن أبي عون الثقفي قال جاءت امرأة من بني عميس ]عبس »خ«[ و عليّ عليه السلام على المنبر فقالت  يا أمير المؤمنين ثلاث بلبلن القلوب ]عليك[ قال و ما هنّ قالت رضاؤك بالقضيّة، و أخذك بالدنيّة، و جزعك عند البليّة. قال ويحك إنما أنت امرأة، انطلقي فاجلسي على ذيلك. قالت لا و اللّه ما من جلوس إلّا في ظلال السيوف.

 و بإسناده عن بكر بن عيسى أنّ عليّا عليه السلام كان يخطب الناس و يحضّهم على المسير إلى معاوية و أهل الشام، فجعلوا يتفرّقون عنه، و يتثاقلون عليه و يعتلّون بالبرد مرّة و بالحرّ أخرى.

 و بإسناده عن ]قيس بن[ أبي حازم قال سمعت عليّا عليه السلام يقول يا معشر المسلمين، يا أبناء المهاجرين انفروا إلى أئمة الكفر و بقيّة الأحزاب و أولياء الشّيطان، انفروا إلى من يقاتل على دم حمّال الخطايا فو الّذي فلق الحبّة و برأ النسمة، إنّه ليحمل خطاياهم إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئا.

 قال إبراهيم و حدّثنا بهذا الكلام من قول أمير المؤمنين عليه السلام غير واحد من العلماء.

 و عن إسماعيل بن أبان الأزدي عن عمرو بن شمر عن جابر عن رفيع عن فرقد البجلي قال سمعت عليّا عليه السلام يقول أ لا ترون يا معاشر أهل الكوفة و اللّه لقد ضربتكم بالدّرّة التي أعظ بها السّفهاء فما أراكم تنتهون، و لقد ضربتكم بالسّياط التي أقيم بها الحدود فما أراكم ترعوون، فما بقي إلّا سيفي، و إنّي لأعلم الذي يقوّمكم بإذن اللّه، و لكنّي لا أحبّ أن آتي تلك منكم. و العجب منكم و من أهل الشام، إن أميرهم يعصي اللّه و هم يطيعونه، و إن أميركم يطيع اللّه و أنتم تعصونه  إن قلت لكم انفروا إلى عدوّكم ]في أيّام الحرّ، قلتم هذه حمارة القيظ. و إذا أمرتكم بالسّير إليهم في الشتاء[ قلتم القرّ يمنعنا. أ فترون عدوّكم لا يجدون القرّ كما تجدونه و لكنكم أشبهتم قوما قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله انفروا في سبيل اللّه فقال كبراؤهم لا تنفروا في الحرّ. فقال اللّه لنبيّه قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ. و اللّه لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، و لو صببت الدنيا بحذافيرها على الكافر ما أحبّني و ذلك أنّه قضي فانقضى على لسان النبي الأمّي »أنّه لا يبغضك مؤمن و لا يحبّك كافر« و قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً و افْتَرى. يا معاشر أهل الكوفة، و اللّه لتصبرنّ على قتال عدوّكم، أو ليسلّطن اللّه عليكم قوما أنتم أولى بالحق منهم، فليعذبنّكم و ليعذبنّهم اللّه بأيديكم أو بما شاء من عنده. أ فمن قتلة بالسيف تحيدون إلى موتة على الفراش فاشهدوا أني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ]يقول[ »موتة على الفراش أشدّ من ضربة ألف سيف أخبرني به جبرائيل« فهذا جبرائيل يخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بما تسمعون.

 و عن محرز بن هشام عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة الضبّي قال كان أشراف أهل الكوفة غاشّين لعلّي، و كان هواهم مع معاوية و ذلك أنّ عليّا عليه السلام كان لا يعطي أحدا من الفي‏ء أكثر من حقّه، و كان معاوية جعل الشرف في العطاء ألفي درهم.

 و عن عبد الرّحمن بن جندب عن أبيه أنّ أهل دومة الجندل من كلب لم  يكونوا في طاعة علّي عليه السلام و لا معاوية، و قالوا نكون على حالنا حتى يجتمع الناس على إمام. قال فذكرهم معاوية مرّة فبعث إليهم مسلم بن عقبة فسألهم الصدقة و حاصرهم، فبلغ ذلك عليّا عليه السلام فبعث إلى مالك بن كعب فقال استعمل على »عين التّمر« رجلا و أقبل إليّ. فولّاها عبد الرحمن بن عبد اللّه الأرحبي و أقبل إلى عليّ عليه السلام فسرّحه في ألف فارس، فما شعر مسلم بن عقبة إلّا و مالك بن كعب إلى جنبه نازلا، فتواقفا قليلا ثم اقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل، حتى إذا كان من الغد صلّى مسلم بأصحابه ثم انصرف، و قام مالك ابن كعب إلى دومة الجندل يدعوهم إلى الصلح عشرا فلم يفعلوا، فرجع إلى عليّ عليه السلام

 و بإسناده عن أبي الكنود عن سفيان بن عوف الغامدي قال دعاني معاوية فقال إنّي باعثك في جيش كثيف فالزم لي جانب الفرات حتى تمرّ بهيت فتقطعها، فإن وجدت بها جندا فأغر عليهم، و إلّا فامض حتّى تغير على الأنبار، فإن لم تجد بها جندا فامض حتّى تغير على المدائن، ثم أقبل إليّ و اتّق أن تقرب الكوفة، و اعلم أنّك إن أغرت على أهل الأنبار و أهل المدائن، فكأنّك أغرت على الكوفة، إنّ هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق ترهب قلوبهم، و تجرّئ كلّ من كان له فينا هوى منهم، و يرى فراقهم، و تدعو إلينا كلّ من كان يخاف الدوائر، و خرّب كلّ ما مررت به، و اقتل كلّ من لقيت ممّن ليس هو على رأيك، و حرب الأموال فإنّه شبيه بالقتل و هو أوجع للقلوب.  قال فخرجت من عنده و عسكرت، و قام معاوية و ندب النّاس إلى ذلك، فما مرّت بي ثلاثة حتّى خرجت في ستّة آلاف، ثم لزمت شاطئ الفرات فأسرعت السّير حتّى مررت بهيت، فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات، فمررت بها و ما بها عريب. كأنّها لم تحلل قطّ فوطئتها حتّى مررت بصندوداء، فتنافروا فلم ألق بها أحدا، فمضيت حتّى أفتتح الأنبار و قد أنذروا بي، فخرج إليّ صاحب المسلحة فوقف لي، فلم أقدم عليه حتّى أخذت غلمانا من أهل القرية فقلت لهم خبّروني كم بالأنبار من أصحاب عليّ قالوا عدّة رجال المسلحة خمسمائة، و لكنّهم قد تبدّدوا و رجعوا إلى الكوفة و لا ندري الذي يكون فيها قد يكون مائتي رجل. قال فنزلت فكتبت أصحابي كتائب، ثم أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة، فيقاتلونهم و اللّه و يصبرون لهم و يطاردونهم في الأزقّة فلمّا رأيت ذلك أنزلت إليهم نحوا من مائتين ثم أتبعتهم الخيل، فلمّا مشت إليهم الرجال و حملت عليهم الخيل فلم يكن إلّا قليلا حتّى تفرّقوا و قتل صاحبهم في رجال من أصحابه، فأتيناه في نيف و ثلاثين رجلا فحملنا ما كان في الأنبار من أموال أهلها ثم انصرفت، فو اللّه ما غزوت غزوة أسلم و لا أقرّ للعيون و لا أسرّ للنفوس منها، و بلغني و اللّه أنّها أفزعت الناس. فلمّا أتيت معاوية فحدّثته الحديث على وجهه قال كنت و اللّه عند ظنّي بك. قال فو اللّه ما لبثنا إلّا يسيرا حتّى رأيت رجال أهل العراق يأتون على الإبل هرابا من قبل عليّ عليه السلام.

 و عن جندب بن عفيف قال و اللّه إنّي لفي جند الأنبار مع أشرس بن حسان البكري، إذ صبّحنا سفيان في كتائب تلمع الأبصار منها، فهالونا و اللّه، و علمنا إذ رأيناهم أنّه ليس لنا بهم طاقة و لا يد، فخرج إليهم صاحبنا و قد تفرّقنا، فلم يلقهم نصفنا و لم يكن لنا بهم طاقة. و ايم اللّه لقد قاتلناهم ثم إنّهم  و اللّه هزمونا، فنزل صاحبنا و هو يتلو فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ثم قال لنا من كان لا يريد لقاء اللّه و لا يطيب نفسا بالموت فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم فإنّ قتالنا إيّاهم شاغل لهم عن طلب هارب، و من أراد ما عند اللّه ف ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ. ثم نزل في ثلاثين رجلا قال فهممت و اللّه بالنزول معه ثم إنّ نفسي أبت و استقدم هو و أصحابي فقاتلوا حتى قتلوا رحمهم اللّه، فلمّا قتلوا أقبلنا منهزمين.

 و بإسناده عن محمد بن مخنف أنّ سفيان بن عوف لمّا أغار على الأنبار قدم علج من أهلها على عليّ عليه السلام فأخبره الخبر فصعد المنبر فقال أيّها الناس إنّ أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار، و هو مغتر لا يظنّ ما كان فاختار ما عند اللّه على الدنيا، فانتدبوا إليهم حتّى تلاقوهم، فإن أصبتم منهم طرفا أنكلتموهم عن العراق أبدا ما بقوا. ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلّموا أو يتكلّم متكلّم منهم بخير، فلمّا رأى صمتهم على ما في أنفسهم، خرج يمشي راجلا حتى أتى النخيلة، ]و الناس يمشون خلفه حتى أحاط به قوم من الأشراف[ فقالوا ارجع يا أمير المؤمنين نحن نكفيك. فقال ما تكفونني و لا تكفون أنفسكم. فلم يزالوا به حتّى صرفوه إلى منزله فرجع و هو واجم كئيب. و دعا سعيد بن مسلم الهمداني فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف و قال اتبع هذا الجيش حتى تخرجهم من أرض العراق. فخرج على شاطئ الفرات في طلبه حتى إذا بلغ عانات، سرّح سعيد أمامه هانئ بن الخطاب الهمداني فأتبع آثارهم حتّى بلغ أداني أرض قنسّرين و قد فاتوه ثم انصرف. قال فلبث عليّ عليه السلام ترى فيه الكآبة و الحزن حتّى قدم سعيد، فكتب كتابا و كان في تلك الأيام عليلا، فلم يطق القيام في الناس بكلّ ما أراد  من القول، فجلس بباب السّدّة التي تصل إلى المسجد و معه الحسن و الحسين و عبد اللّه بن جعفر، فدعا سعيدا مولاه فدفع الكتاب إليه، فأمره أن يقرأه على الناس، فقام سعيد حيث يسمع عليّ عليه السلام قراءته، و ما يردّ عليه الناس، ثم قرأ الكتاب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين، إلى من قرئ عليه كتابي من المسلمين سلام عليكم. أمّا بعد، ف الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، و لا شريك للّه الأحد القيّوم، و صلوات اللّه على محمّد و السّلام عليه في العالمين. أمّا بعد، فإنّي قد عاتبتكم في رشدكم حتّى سئمت، و راجعتموني بالهزء من قولكم حتّى برمت هزءا من القول لا يعاد به، و خطلا لا يعزّ أهله، و لو وجدت بدّا من خطابكم و العتاب إليكم ما فعلت. و هذا كتابي يقرأ عليكم فردّوا خيرا و افعلوه، و ما أظنّ أن تفعل وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ. أيّها الناس إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة... إلى آخر ما مرّ و سيأتي بروايات مختلفة. ثم قال فقام إليه رجل من الأزد يقال له حبيب بن عفيف آخذا بيد ابن أخ ]له[ يقال له عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عفيف، فأقبل يمشي حتّى استقبل أمير المؤمنين عليه السلام بباب السّدّة، ثم جثا على ركبتيه و قال يا أمير المؤمنين، ها أنا ذا لا أملك إلّا نفسي و أخي فمرنا بأمرك، فو اللّه لننفذن له و لو حال دون ذلك شوك الهراس و جمر الغضا حتى ننفذ أمرك أو نموت دونه فدعا لهما بخير و قال لهما أين تبلغان بارك اللّه عليكما ممّا نريد. ثم أمر الحارث الأعور فنادى في الناس أين من يشري نفسه لربّه، و يبيع دنياه بآخرته، أصبحوا غدا بالرّحبة إن شاء اللّه، و لا يحضرنا إلّا صادق النيّة في  المسير معنا و الجهاد لعدوّنا. فأصبح بالرّحبة نحو من ثلاثمائة، فلمّا عرضهم قال لو كانوا ألفا كان لي فيهم رأي. قال و أتاه قوم يعتذرون و تخلّف آخرون، فقال و جاء المعذّرون و تخلّف المكذّبون. قال و مكث عليه السلام أياما باديا حزنه، شديد الكآبة، ثم إنّه نادى في الناس فاجتمعوا، فقام خطيبا فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال أمّا بعد، أيها الناس فو اللّه لأهل مصركم في الأمصار، أكثر من الأنصار في العرب. و ساق الحديث إلى آخر ما سيأتي برواية ابن الشيخ في مجالسه عن ربيعة بن ناجد ]في أواخر هذا الباب[.

 و عن أبي مسلم قال سمعت عليّا عليه السلام يقول لو لا بقيّة المسلمين لهلكتم.

 و عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي أنّ عليّا عليه السلام خطبهم بعد هذا الكلام فقال بعد أن حمد اللّه و أثنى عليه أيّها الناس المجتمعة أبدانهم المتفرقة أهواؤهم، ما عزّ من دعاكم و لا استراح من قاساكم. كلامكم يوهن الصمّ الصّلاب، و فعلكم يطمع فيكم عدوّكم. إن قلت لكم سيروا إليهم في الحر. قلتم أمهلنا ينسلخ عنّا الحرّ. و إن قلت لكم سيروا إليهم في الشتاء. قلتم حتّى ينسلخ عنّا البرد. فعل ذي الدّين المطول، من فاز بكم فاز بالسّهم الأخيب أصبحت لا أصدّق قولكم، و لا أطمع في نصركم، فرّق اللّه بيني و بينكم أيّ دار بعد داركم تمنعون و مع أي إمام بعدي تقاتلون أما إنّكم ستلقون بعدي أثرة تتخذها عليكم الضّلّال سنّة، فقر  يدخل في بيوتكم، و سيف قاطع، و تتمنون عند ذلك أنّكم رأيتموني و قاتلتم معي و قتلتم دوني و كأن قد.

 و عن بكر بن عيسى أنّهم لما أغاروا بالسواد، قام عليّ عليه السلام فخطب إليهم فقال أيّها الناس ما هذا فو اللّه إن كان ليدفع عن القرية بالسبعة نفر من المؤمنين تكون فيها.

 و عن ثعلبة بن يزيد الحماني أنّه قال بينما أنا في السوق إذ سمعت مناديا ينادي الصّلاة جامعة، فجئت أهرول و الناس يهرعون، فدخلت الرحبة فإذا عليّ عليه السلام على منبر من طين مجصّص و هو غضبان، قد بلغه أنّ ناسا قد أغاروا بالسّواد، فسمعته يقول أما و ربّ السماء و الأرض ثم ربّ السماء و الأرض، إنّه لعهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ الأمّة ستغدر بي.

 و عن المسيّب بن نجبة الفزاري أنّه قال سمعت عليّا عليه السلام يقول إنّي قد خشيت أن يدال هؤلاء القوم عليكم بطاعتهم إمامهم و معصيتكم إمامكم، و بأدائهم الأمانة و خيانتكم، و بصلاحهم في أرضهم و فسادكم في أرضكم، و باجتماعهم على باطلهم و تفرّقكم عن حقّكم حتّى تطول دولتهم و حتّى لا يدعو اللّه محرّما إلّا استحلّوه، حتّى لا يبقى بيت وبر و لا بيت مدر إلّا دخله جورهم و ظلمهم حتّى يقوم الباكيان، باك يبكي لدينه و باك يبكي لدنياه، و حتى لا يكون منكم إلّا نافعا لهم أو غير ضارّ بهم و حتّى يكون نصرة أحدكم منهم كنصرة العبد من سيّده إذا شهد أطاعه و إذا غاب سبّه، فإن أتاكم اللّه بالعافية فاقبلوا و إن ابتلاكم فاصبروا ف إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.

   و عن يحيى بن صالح عن أصحابه أنّ عليّا عليه السلام ندب الناس عند ما أغاروا على نواحي السّواد، فانتدب لذلك شرطة الخميس، فبعث إليهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ثمّ وجّههم فساروا حتّى وردوا تخوم الشام، و كتب عليّ عليه السلام إلى معاوية إنّك زعمت أنّ الذي دعاك إلى ما فعلت الطّلب بدم عثمان، فما أبعد قولك من فعلك. ويحك، و ما ذنب أهل الذمّة في قتل ابن عفّان و بأيّ شي‏ء تستحل أخذ في‏ء المسلمين فانزع و لا تفعل و احذر عاقبة البغي و الجور. و إنّما مثلي و مثلك كما قال بلعاء لدريد بن الصمة

مهلا دريد عن التّسرع إنّني ماضي الجنان بمن تسرّع مولع‏مهلا دريد عن السّفاهة إنّني ماض على رغم العداة سميدع‏مهلا دريد لا تكن لاقيتني يوما دريد فكلّ هذا يصنع‏و إذا أهانك معشر أكرمهم فتكون حيث ترى الهوان و تسمع

فأجابه معاوية أمّا بعد، فإنّ اللّه أدخلني في أمر عزلك عنه نائيا عن الحق، فنلت منه أفضل أملي، فأنا الخليفة المجموع عليه و لم تصب مثلي و مثلك، إنّما مثلي و مثلك كما قال بلقاء حين صولح على دم أخيه ثم نكث فعنّفه قومه فأنشأ يقول

ألا آذنتنا من تدلّلها ملس و قالت أما بيني و بينك من بلس‏و قالت ألا تسعى فتدرك ما مضى و ما أهلك الحانون و القدح الضرس‏أ تأمرني سعد و ليث و جندع و لست براض بالدنيئة و الوكس

  يقولون خذ وكسا و صالح عشيرة فما تأمرني بالهموم إذا أمسي

 قال جندب بن عبد اللّه الوائلي كان عليّ عليه السلام يقول أما إنّكم ستلقون بعدي ثلاثا ذلا شاملا، و سيفا قاتلا، و أثرة يتّخذها الظالمون عليكم سنّة، فستذكروني عند تلك الحالات فتمنّون لو رأيتموني و نصرتموني و أهرقتم دماءكم دون دمي فلا يبعد اللّه إلّا من ظلم. و كان جندب بعد ذلك إذا رأى شيئا مما يكرهه قال لا يبعد اللّه إلّا من ظلم.

و عن عمرو بن قعين قال دعا معاوية يزيد بن شجرة الرّهاوي فقال إنّي مسرّ إليك سرّا فلا تطلعنّ على سرّي أحدا حتى تخرج من أهل الشام كلّها، إنّي باعثك إلى أهل اللّه و إلى حرم اللّه و أهلي و عشيرتي و بيضتي التي انفلقت عنّي، و فيها جلّ من قتل عثمان و سفك دمه، فسر على بركة اللّه حتى تنزل مكة فإنّك الآن تلاقي الناس هناك بالموسم، فادع الناس إلى طاعتنا و اتّباعنا فإن أجابوك فاكفف عنهم و اقبل منهم، و إن أدبروا عنك فنابذهم و ناجزهم و لا تقاتلهم حتّى تبلغهم أني قد أمرتك أن تبلغ عنّي، فإنّهم الأصل و العشيرة و إنّي لاستبقائهم محبّ و لاستيصالهم كاره ثمّ صلّ بالناس و تولّ أمر الموسم. فقال له يزيد إنّك وجّهتني إلى قوم اللّه و مجمع الصالحين، فإن رضيت أن أسير إليهم و أعمل فيهم برأيي و بما أرجو أن يجمعك اللّه و إيّاهم به سرت إليهم، و إن كان لا يرضيك عنّي إلّا الغشم و تجريد السّيف و إخافة البري‏ء و ردّ العذرة فلست بصاحب ما هناك، فاطلب لهذا الأمر غيري.  فقال له سر راشدا فقد رضيت برأيك و بسيرتك، و كان رجلا ناسكا يتألّه و كان عثمانيا و كان ممن شهد مع معاوية صفّين. فخرج ]ابن شجرة[ من دمشق مسرعا و قال اللّهمّ إن كنت قضيت أن يكون بين هذا الجيش الذي وجّهت، و بين أهل حرمك الذي وجّهت إليه قتال فاكفنيه، فإنّي لست أعظّم قتال من شرك في قتل عثمان خليفتك المظلوم و لا قتال من خذله و لكني أعظّم القتال في حرمك الذي حرمت. فخرج يسير و قدّم أمامه الحارث بن نمير، فأقبلوا حتّى مرّوا بوادي القرى ثم أخذوا على الجحفة ثمّ مضوا حتّى قدموا مكّة في عشر ذي الحجّة.

 و عن عبّاس بن ]سهل بن[ سعد الأنصاريّ قال لمّا سمع قثم بن العباس بدنوهم منه قبل أن يفصلوا من الجحفة و كان عاملا لعليّ عليه السلام على مكّة، فقام في أهل مكّة و ذلك في سنة تسع و ثلاثين، فحمد اللّه و أثنى عليه و دعاهم إلى الجهاد و قال بيّنوا لي ما في أنفسكم و لا تغرّوني. فسكت القوم مليّا فقال قد بيّنتم لي ما في أنفسكم. فذهب لينزل فقام شيبة بن عثمان فقال رحمك اللّه أيّها الأمير لا يقبح فينا أمرك و نحن على طاعتنا و بيعتنا و أنت أميرنا و ابن عمّ خليفتنا فإن تدعنا نجبك فيما أطقنا و نقدر عليه. فقرّب ]قثم[ دوابّه و حمل متاعه و أراد التنحّي من مكّة، فأتاه أبو سعيد الخدري و قال ما أردت قال قد حدث هذا الأمر الذي بلغك و ليس معي جند أمتنع به، فرأيت أن أعتزل عن مكّة فإن يأتني جند أقاتل بهم، و إلّا كنت قد تنحيّت بدمي. قال له إنّي لم أخرج من المدينة حتّى قدم علينا حاجّ أهل العراق و تجّارهم يخبرون أنّ الناس بالكوفة قد ندبوا إليك مع معقل بن قيس الرياحي. قال هيهات هيهات يا أبا سعيد إلى ذلك ما يعيش أولادنا. فقال له أبو سعيد رحمك اللّه فما عذرك عند ابن عمك، و ما عذرك عند العرب انهزمت قبل أن تطعن و تضرب فقال يا أبا سعيد إنّك لا تهزم عدوك و لا تمنع حريمك  بالمواعيد و الأماني اقرأ كتاب صاحبي فقرأه أبو سعيد فإذا فيه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى قثم بن العبّاس سلام عليك. أمّا بعد، فإنّ عيني بالمغرب كتب إليّ يخبرني أنّه قد وجّه إلى الموسم ناس من العرب، من العمي القلوب، الصّمّ الأسماع، الكمه الأبصار، الذين يلبسون الحقّ بالباطل، و يطيعون المخلوقين في معصية الخالق، و يجلبون الدنيا بالدين، و يتمنّون على اللّه جوار الأبرار، و إنّه لا يفوز بالخير إلّا عامله، و لا يجزى بالسّيئ إلّا فاعله. و قد وجهت إليكم جمعا من المسلمين ذوي بسالة و نجدة مع الحسيب الصليب الورع التقيّ معقل بن قيس الرّياحي، و قد أمرته باتباعهم و قصّ آثارهم حتى ينفيهم من أرض الحجاز. فقم على ما في يديك مما إليك مقام الصليب الحازم المانع سلطانه الناصح للأمة، و لا يبلغني عنك وهن و لا خور و ما تعتذر منه، و وطّن نفسك على الصبر في البأساء و الضراء، و لا تكوننّ فشلا و لا طائشا و لا رعديدا و السلام. فلما قرأ أبو سعيد الكتاب قال قثم ما ينفعني من هذا الكتاب و قد سمعت بأن قد سبقت خيلهم خيله و هل يأتي جيشه حتّى ينقضي أمر الموسم كلّه فقال له أبو سعيد إنّك إن أجهدت نفسك في مناصحة إمامك خرجت من اللائمة، و قضيت الذي عليك من الحقّ، فإنّ القوم قد قدموا و أنت في الحرم، و الحرم حرم اللّه. فأقام قثم و جاء يزيد بن شجرة حتّى دخل مكّة، ثم أمر مناديا فنادى في الناس ألا إنّ النّاس كلّهم آمنون، إلّا من عرض لنا في عملنا و سلطاننا و ذلك قبل التروية بيوم.  فلمّا كان ذلك مشت قريش و الأنصار و من شهد الموسم من الصّحابة و صلحاء الناس فيما بينهما و سألتهما أن يصطلحا، فكلاهما سرّه ذلك الصلح، فأما قثم فإنّه لم يثق بأهل مكة و لا رأى أنّهم يناصحونه، و أما يزيد فكان رجلا متنسّكا و كان يكره أن يكون منه في الحرم شرّ.

 و عن عمرو بن محصن قال قام يزيد بن شجرة فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال أمّا بعد يا أهل الحرم و من حضره فإنّي وجّهت إليكم لأصلّي بكم و أجمع و آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر فقد رأيت والي هذه البلدة كره الصّلاة معنا و نحن للصّلاة معه كارهون فإن شاء اعتزلنا الصّلاة بالناس و اعتزلها و تركنا أهل مكّة يختارون لأنفسهم من أحبّوا حتّى يصلّي بهم فإن أبى فأنا آب و آب و الذي لا إله غيره لو شئت لصليت بالنّاس و أخذته حتى أرده إلى الشام و ما معه من يمنعه و لكن و اللّه ما أحبّ أن أستحلّ حرمة هذا البلد الحرام. قال ثمّ إنّ يزيد بن شجرة أتى أبا سعيد الخدري فقال رحمك اللّه الق هذا الرجل فقل له لا أب لغيرك اعتزل الصّلاة بالناس و أعتزلها و دع أهل مكّة يختاروا لأنفسهم فو اللّه لو أشاء لبعتك و إيّاهم و لكن و اللّه ما يحملني على ما تسمع إلا رضوان اللّه و احترام الحرم فإنّ ذلك أقرب للتقوى و خير في العاقبة. قال له أبو سعيد ما رأيت من أهل المغرب أصوب مقالا و لا أحسن رأيا منك. فانطلق أبو سعيد إلى قثم فقال أ لا ترى ما أحسن ما صنع اللّه لك و ذكر له ذلك فاعتزلا الصلاة و اختار الناس شيبة بن عثمان فصلّى بهم. فلمّا قضى الناس حجّهم رجع يزيد إلى الشام، و أقبلت خيل عليّ عليه السلام فأخبروا بعود أهل الشام، فتبعوهم و عليهم معقل بن قيس فأدركوهم و قد رحلوا عن وادي القرى، فظفروا بنفر منهم و أخذوهم أسارى و أخذوا ما معهم و رجعوا إلى أمير المؤمنين، ففادى بهم أسارى كانت له عند معاوية.

   و قال إبراهيم قال أمير المؤمنين عليه السلام لأهل الكوفة ما أرى هؤلاء القوم يعني أهل الشام إلّا ظاهرين عليكم. قالوا تعلم بما ذا يا أمير المؤمنين قال أرى أمورهم قد غلت، و أرى نيرانكم قد خبت، و أراهم جادّين و أراكم وانين، و أراهم مجتمعين و أراكم متفرّقين، و أراهم لصاحبهم طائعين و أراكم لي عاصين. و ايم اللّه لئن ظهروا عليكم لتجدنّهم أرباب سوء من بعدي، كأنّي أنظر إليهم قد شاركوكم في بلادكم و حملوا إلى بلادهم فيئكم. و كأنّي أنظر إليكم يكشّ بعضكم على بعض كشيش الضّباب، لا تمنعون حقّا و لا تمنعون للّه حرمة، و كأنّي أنظر إليهم يقتلون قرّاءكم. و كأنّي بهم يحرمونكم و يحجبونكم و يدنون أهل الشام دونكم، فإذا رأيتم الحرمان و الأثرة و وقع السّيف، تندّمتم و تحزّنتم على تفريطكم في جهادكم، و تذكّرتم ما فيه من الحفظ حين لا ينفعكم التذكار.

 و عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال سمعت عليّا عليه السلام يقول ما لقي أحد من الناس ما لقيت. ثمّ بكى.

توضيح في النهاية فيه »كأن في جوفي شوكة الهراس« هو شجر أو بقل ذو شوك. و في القاموس الهراس كسحاب شجر شائك ثمره كالنبق. انتهى. ]قوله عليه السلام[ »و كأن قد« هذا من قبيل الاكتفاء أي و كأن قد وقع هذا الأمر عن قريب. و السّميدع بالفتح السّيد الموطوء الأكتاف. ذكره الجوهري. و قال ضرست السهم إذا أعجمته. و الوكس النقص قوله »إلى ذلك  ما يعيش أولادنا« هذا استبطاء للجيش أي يأتي المدد بعد أن قتلنا و أولادنا.

 نهج أمّا بعد، فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة، فتحه اللّه تعالى لخاصّة أوليائه، و هو لباس التقوى، و درع اللّه الحصينة، و جنّته الوثيقة. فمن تركه ألبسه اللّه لباس الذلّ، و شمله البلاء، و ديّث بالصّغار و القماء، و ضرب على قلبه بالإسداد، و أديل الحقّ منه بتضييع الجهاد، و سيم الخسف، و منع النّصف. ألا و إنّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا و نهارا، و سرّا و إعلانا، و قلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فو اللّه ما غزي قوم قطّ في عقر دارهم إلّا ذلوا. فتواكلتم و تخاذلتم حتى شنّت عليكم الغارات، و ملكت عليكم الأوطان. هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، و قد قتل حسان بن حسان البكري و أزال خيلكم عن مسالحها. و لقد بلغني أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة و الأخرى المعاهدة فينتزع حجلها و قلبها و قلائدها و رعاثها، ما تمتنع منه إلّا بالاسترجاع و الاسترحام، ثمّ انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم، و لا أريق لهم دم. فلو أنّ امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا، ما كان به ملوما بل كان به عندي جديرا. فيا عجبا عجبا، و اللّه يميت القلب، و يجلب الهمّ، من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، و تفرّقكم عن حقّكم فقبحا لكم و ترحا حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه فيكم و ترضون. فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيّام الحرّ، قلتم هذه حمّارة القيظ أمهلنا يسبّخ عنّا الحرّ. و إذا أمرتكم بالسّير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبّارة القرّ أمهلنا ينسلخ عنّا البرد. كلّ هذا فرار من الحرّ و القرّ، فإذا كنتم من الحرّ و البرد تفرّون، فأنتم و اللّه من  السّيف أفرّ. يا أشباه الرجال و لا رجال، حلوم الأطفال، و عقول ربّات الحجال، لوددت أني لم أركم و لم أعرفكم معرفة. و اللّه جرّت ندما و أعقبت ذمّا. قاتلكم اللّه، لقد ملأتم قلبي قيحا، و شحنتم صدري غيظا، و جرّعتموني نغب التهمام أنفاسا، و أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان و الخذلان، حتّى قالت قريش إن ابن أبي طالب رجل شجاع و لكن لا علم له بالحرب. للّه أبوهم، و هل أحد منهم أشدّ لها مراسا، و أقدم فيها مقاما مني و لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين، فها أنا ذا قد ذرّفت على السّتين، و لكنّه لا رأي لمن لا يطاع.

 كا أحمد بن محمّد بن سعيد عن جعفر بن عبد اللّه العلوي و أحمد بن محمد الكوفي عن عليّ بن العبّاس عن إسماعيل بن إسحاق، جميعا عن فرج بن قرّة عن مسعدة بن صدقة عن ابن أبي ليلى عن أبي عبد الرحمن السلمي عنه عليه السلام مثله.

بيان قال ابن ميثم و غيره هذه الخطبة مشهورة، ذكرها أبو العبّاس المبرد و غيره، و السّبب المشهور لها،

 أنّه ورد عليه علج من الأنبار فأخبره أن سفيان بن عوف الغامدي قد ورد في خيل معاوية إلى الأنبار، و قتل عامله حسّان بن حسّان البكري، فصعد عليه السلام المنبر و خطب الناس و قال إنّ أخاكم البكري قد أصيب بالأنبار فانتدبوا إليهم حتّى تلاقوهم،  فإن أصبتم منهم طرفا أنكلتموهم عن العراق أبدا ما بقوا. ثم سكت رجاء أن يجيبوه بشي‏ء، فلمّا رأى صمتهم نزل و خرج يمشي راجلا حتى أتى النخيلة و الناس يمشون خلفه، حتى أحاط به قوم من أشرافهم و قالوا ترجع يا أمير المؤمنين و نحن نكفيك. فقال ما تكفوني و لا تكفون أنفسكم. فلم يزالوا به حتّى ردّوه إلى منزله. فبعث سعيد بن قيس الهمداني في ثمانية آلاف في طلب سفيان، فخرج حتى انتهى إلى أداني أرض قنّسرين و رجع. و كان عليه السلام في ذلك الوقت عليلا لا يقوى على القيام في الناس بما يريده من القول، فجلس بباب السدّة التي تصل إلى المسجد و معه الحسن و الحسين عليهما السلام و عبد اللّه بن جعفر، و دعا سعيدا مولاه فدفع إليه كتابا كتب فيه هذه الخطبة، و أمره أن يقرأه على الناس بحيث يسمع و يسمعونه.

 و في رواية المبرّد أنّه لما انتهى إليه ورود خيل معاوية الأنبار و قتل حسّان، خرج مغضبا يجرّ رداءه حتى أتى النخيلة و معه الناس و رقي رباوة من الأرض، فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبي صلّى اللّه عليه و آله ثم ذكر الخطبة.

و لنرجع إلى الشرح و البيان قوله عليه السلام »باب من أبواب الجنّة« روي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال للجنّة باب يقال له باب المجاهدين، يمضون إليه فإذا هو مفتوح و هم متقلّدون بسيوفهم و الجمع في الموقف و الملائكة ترحّب بهم. و في الكافي »لخاصّة أوليائه، و سوّغهم كرامة منه لهم، و نعمة ذخرها، و الجهاد لباس التقوى« فقوله عليه السلام »نعمة« عطف على »باب« أو على »كرامة«. قوله عليه السلام »و هو لباس التقوى« أي به يتّقى في الدّنيا من غلبة  الأعادي، و في الآخرة من النار، أو هو يدفع المضارّ عن التقوى و يحرسها، أو عن أهلها بحذف المضاف، و كونه تأويلا لقوله تعالى وَ لِباسُ التَّقْوى يحتاج إلى تكلّف ما. »و درع اللّه« أي درع جعلها اللّه لحفظ عباده. و المراد درع الحديد و هي مؤنثة و قد تذكّر. و »الحصينة« الواقية. و الجنّة بالضم. كلّ ما وقاك و استترت به. و الوثيقة المحكمة. »فمن تركه« في الكافي »رغبة عنه« أي كراهة له بغير علّة. ]قوله عليه السلام[ »لباس الذلّ« الإضافة للبيان. قوله عليه السلام »و شمله البلاء« ربما يقرأ بالتاء و هي كساء يغطى به، و الفعل أظهر كما هو المضبوط. قوله عليه السلام »و ديّث بالصّغار« أي ذلّل كما مرّ و الصّغار الذلّ و الضّيم. و القماء ممدودا الذّلّ و الصّغار. و رواه الراوندي مقصورا و هو غير معروف. و في الكافي »القماءة«. قوله عليه السلام »و ضرب على قلبه بالإسداد« قال الفيروزآبادي و ضربت عليه بالسّداد سدّت عليه الطرق، و عميت عليه مذاهبه. و في بعض النسخ »بالإسهاب«، يقال أسهب الرجل على البناء للمفعول إذا ذهب عقله من أذى يلحقه. »و أديل الحقّ منه« أي يغلب الحقّ عليه فيصيبه الوبال لترك الحق كقوله ]عليه السلام[ في الصحيفة ]السجّادية[ »أدل لنا و لا تدل منا«. و الإدالة الغلبة. و الباء في قوله بتضييع الجهاد للسّببية.

 و قال في ]مادة خسف من[ النهاية في حديث عليّ عليه السلام »من ترك الجهاد ألبسه اللّه الذلّ و سيم الخسف«

الخسف النقصان و الهوان و أصله أن تحبس الدّابّة على غير علف، ثم استعير موضع الهوان. و سيم كلّف و ألزم.  »و منع النصف« أي لا يتمكن من الانتصاف و الانتقام. و عقر الشي‏ء أصله و وسطه. و تواكل القوم اتّكل بعضهم بعضا و ترك الأمر إليه. و تخاذلوا، أي خذل بعضهم بعضا. ]قوله عليه السلام[ »و شنّت« أي فرقّت. قال ابن أبي الحديد ما كان من ذلك متفرّقا نحو إرسال الماء على الوجه دفعة بعد دفعة فهو بالشين المعجمة، و ما كان إرسالا غير متفرّق فبالسّين المهملة. و كلمة »على« في »ملكت عليكم« تفيد الاستعلاء بالقهر و الغلبة، أي أخذوا الأوطان منكم بالقهر. »و أخو غامد« هو سفيان بن عوف الغامدي. »و الأنبار« بلد قديم من بلاد العراق. و حسّان من أصحابه عليه السلام كان و الياء عليه. و المسالح جمع المسلحة و هي الحدود التي يرتب فيها ذوو الأسلحة لدفع العدوّ كالثغر. و الحجل بكسر الحاء و فتحها الخلخال. و القلب بالضم السوار المصمت. و الرعاث جمع رعثة بفتح الراء و سكون العين و فتحها و هي القرط. و الرعاث أيضا ضرب من الحلي و الخرز. و الاسترجاع قول إنّا للّه و إنّا إليه راجعون و قيل ترديد الصوت في البكاء. و الاسترحام مناشدة الرحم، أي قول أنشدك اللّه و الرحم. و قيل طلب الرحم و هو بعيد.  قوله عليه السلام »وافرين« أي تامّين، يقال وفر الشي‏ء أي تمّ. و وفّرت الشي‏ء أي أتممته. و في رواية المبرّد »موفورين« بمعناه. و الكلم الجراحة. قوله عليه السلام »فيا عجبا« أصله يا عجبي، أي احضر هذا أوانك. »و عجبا« منصوب بالمصدريّة، أي أيّها الناس، تعجّبوا منهم عجبا. و القسم معترض بين الصفة و الموصوف. و »الترح« محركة ضدّ الفرح. »و حمارة القيظ« بتشديد الرّاء شدّة حرّه و ربّما خفّفت للضّرورة في الشعر. »و صبارة الشتاء« بتشديد الرّاء شدّة برده. و في القاموس تسبّخ الحرّ فتر و سكن كسبخ تسبيخا. و الحلوم جمع الحلم بالكسر و هو الإناءة و العقل. و »ربات الحجال« النساء، أي صواحبها أو اللاتي ربين فيها. و في بعض النسخ بنصب »الحلوم و العقول« ففي الكلام تقدير، أي يا ذوي حلوم الأطفال، و ذوي عقول النساء. و في بعضها بضمها أي حلومكم حلوم الأطفال، و عقولكم عقول النساء. قوله عليه السلام »معرفة« يمكن أن يكون فعله محذوفا، أي عرفتكم معرفة. »أعقب ذمّا« أي ذمي أياكم أو أياها. و في بعض النسخ »سدما« و هو بالتحريك الهم أو مع ندم أو غيظ. و »مقاتلة اللّه« كناية عن اللعن و الإبعاد. و »القيح« الصديد بلا دم. قوله عليه السلام »و شحنتم« أي ملأتم. و »النغب« جمع نغبة و هي الجرعة. و »التهمام« بفتح التاء الهمّ. »أنفاسا« أي جرعة جرعة. قوله عليه السلام »للّه أبوهم« كلمة مدح، و لعلّها استعملت هنا للتعجب. و »المراس« بالكسر العلاج. و الضمائر الثلاثة للحرب و هي مؤنّثة و قد  تذكر. قوله عليه السلام »ذرفت« بتشديد الراء أي زدت.

[933-  نهج و[ من خطبة له عليه السلام أيّها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم كلامكم يوهي الصمّ الصلاب، و فعلكم يطمع فيكم الأعداء. تقولون في المجالس كيت و كيت، فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد. ما عزّت دعوة من دعاكم، و لا استراح قلب من قاساكم. أعاليل بأضاليل دفاع ذي الدّين المطول. لا يمنع الضيم الذليل، و لا يدرك الحق إلّا بالجدّ. أي دار بعد داركم تمنعون و مع أي إمام بعدي تقاتلون المغرور و اللّه من غررتموه و من فاز بكم ]فقد[ فاز ]و اللّه[ بالسّهم الأخيب، و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل. أصبحت و اللّه لا أصدّق قولكم، و لا أطمع في نصركم، و لا أوعد العدوّ بكم. ما بالكم ما دواؤكم ما طبّكم القوم رجال أمثالكم. أ قولا بغير علم و غفلة من غير ورع و طمعا في غير حقّ

 شا ]و[ من كلامه عليه السلام في استبطاء من قعد عن نصرته أيّها الناس المجتمعة أبدانهم ]و ساق الخطبة الشريفة[ إلى قوله و فعلكم  يطمع فيكم عدوّكم المرتاب«. ]ثمّ ساقها[ إلى قوله »سألتموني التأخير دفاع ذي الدين«. ]ثم ساق الكلام[ إلى قوله »أطمع في نصرتكم فرّق اللّه بيني و بينكم، و أبدلني بكم من هو خير لي منكم. و اللّه لوددت أنّ لي بكلّ عشرة منكم رجلا من بني فراس بن غنم، صرف الدينار بالدرهم.

بيان قال الشرّاح لمّا سمع معاوية اختلاف النّاس على عليّ عليه السلام، و تفرّقهم عنه، و قتله من قتل من الخوارج، بعث الضّحاك بن قيس في أربعة آلاف و أوعز إليه بالنّهب و الغارة، فأقبل ]الضّحاك[ يقتل و ينهب حتّى مرّ بالثّعلبية و أغار على الحاجّ، فأخذ أمتعتهم، و قتل عمرو بن عميس بن مسعود صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قتل معه ناسا من أصحابه، فلمّا بلغ ذلك عليّا عليه السلام، استصرخ أصحابه و استشارهم إلى لقاء العدوّ، فتلكّئوا و رأى منهم فشلا، فخطبهم بهذه الخطبة. و الوهي الضّعف. و هي الحجر و السّقاء كوقي أي انشقّ. و أوهاه شقّه. و الصمّ و الصلاب من أوصاف الحجارة. و الصّخرة الصّمّاء التي ليس فيها صدع و لا خرق. و »كيت و كيت« كناية عن القول. قوله عليه السلام »حيدي حياد« قال ابن أبي الحديد هي كلمة يقولها الهارب الفارّ، و هي نظير قولهم فيحي فياح أي اتّسعي. و قال ابن ميثم حياد اسم للغارة، و المعنى اعدلي عنّا أيّتها الحرب. و يحتمل أن يكون حياد من أسماء الأفعال كنزال فيكون قد أمر بالتّنحّي مرّتين بلفظين مختلفين.  أقول قسم السّيّد الرّضي رحمه اللّه صيغة »فعال« المبنيّ إلى أربعة أقسام، و عدّ منها ما كانت صفة للمؤنّث غير لازمة للنداء، و عدّ من هذا القسم »حياد و فياح« و قال ]معنى[ حيدي حياد أي ارجعي يا راجعة. و جعل حذف حرف النّداء عن »حياد« و أمثالها دليلا على أنّها أعلام للأجناس، و حينئذ لا يكون »حياد« اسما للغارة و لا بمعنى الأمر، و هي و أمثالها مبنيّة على الكسر. و العزّة الغلبة و الشدّة و في الإسناد إلى الدّعوة توسّع. ]قوله عليه السلام[ »و لا استراح« أي ما وجد الراحة. و »قاساه« كابده. و الباء في قوله عليه السلام »بأضاليل« متعلّقة ب »أعاليل« أي يتعلّلون بالأضاليل الّتي لا جدوى لها. و قال ابن ميثم رحمه اللّه »أعاليل و أضاليل« جمع أعلال و أضلال، و هما جمع علّة اسم ما يتعلّل به من مرض و غيره. و ضلّة اسم الضّلال و هو خبر مبتدإ محذوف، أي إذا دعوتكم إلى القتال تعلّلتم، و هي أعاليل باطلة ضلّة عن سبيل اللّه. قوله عليه السلام »دفاع« قال ابن ميثم يحتمل أن يكون تشبيها لدفاعهم بدفاع ذي الدين المطول، فيكون منصوبا بحذف الجار. و يحتمل أن يكون استعارة لدفاعهم ليكون مرفوعا. و »المطول« كثير المطال، و هو تطويل الوعد و تسويفه. و »الضيم« الظلم. قوله عليه السلام »أيّ دار بعد داركم« أي دار الإسلام أو العراق، أي إذا أخرجكم العدوّ عن دياركم و مساكنكم فعن أيّ دار أو في أيّ دار تمنعونهم و في بعض النسخ »تمتّعون« على التفعّل بحذف إحدى التاءين، أي بأيّ دار تنتفعون.  ]قوله عليه السلام[ »المغرور« أي الكامل الغرور. أو ليس المغرور إلّا من غرّرتموه. و التّعبير عن الابتلاء بهم بالفوز على التهكّم. و قال ابن ميثم و »الأخيب« أشدّ خيبة و هي الحرمان. و »السهم الأخيب« الّتي لا غنم لها في الميسر، كالثلاثة المسماة بالأوغاد، أو التي فيها غرم، كالّتي لم تخرج حتّى استوفيت أجزاء الجزور فحصل لصاحبها غرم و خيبة. و يكون إطلاق الفوز على حصولها مجازا من باب إطلاق أحد الضّدّين على الآخر. و »الأفوق« السهم المكسور الفوق و هو موضع الوتر منه. و »الناصل« الذي لا نصل فيه. و الإيعاد و الوعيد في الشّر غالبا كالوعد و العدة في الخير. و عدم الإيعاد إمّا لعدم الطمع في نصرهم، أو لعدم خوف العدوّ منهم. و البال الحال و الشأن. قوله عليه السلام »ما طبّكم« أي ما علاجكم. و قيل أي ما عادتكم. قوله عليه السّلام »أ قولا بغير علم« نصب المصادر بالأفعال المقدّرة و قولهم بغير علم ]هو[ قولهم »إنّا نفعل بالخصوم كذا و كذا« مع أنّه لم يكن في قلوبهم إرادة الحرب، أو دعواهم الإيمان و الطاعة مع عدم الإطاعة، فكأنّهم لا يذعنون بما يقولون. و في بعض النسخ »]أ قولا[ بغير عمل« و هو أظهر. و »غفلة« أي عمّا يصلحكم. »من غير ورع« يحجزكم عن محارم اللّه و ينبّهكم عن الغفلة. و في بعض النسخ »و عفّة من غير ورع، و طمعا في غير حقّ« ]و[ لعلّه عليه السّلام كان علم أنّ سبب تسويف بعضهم، ]هو[ طمعهم في أن يعطيهم زيادة على ما يستحقّونه كما فعل معاوية و الخلفاء قبله. 

 نهج ]و[ من خطبة له عليه السلام في استنفار النّاس إلى أهل الشّام أفّ لكم لقد سئمت عتابكم. أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا و بالذّلّ من العزّ خلفا إذا دعوتكم إلى جهاد عدوّكم دارت أعينكم كأنّكم من الموت في غمرة، و من الذهول في سكرة. يرتج عليكم حواري فتعمهون فكأنّ قلوبكم مألوسة، فأنتم لا تعقلون. ما أنتم لي بثقة سجيس اللّيالي، و ما أنتم بركن يمال بكم و لا زوافر عزّ يفتقر إليكم. ما أنتم إلّا كإبل ضلّ رعاتها، فكلّما جمعت من جانب انتشرت من آخر. لبئس لعمر اللّه سعر نار الحرب أنتم تكادون و لا تكيدون، و تنتقص أطرافكم فلا تمتعضون. لا ينام عنكم و أنتم في غفلة ساهون ]لاهون »خ«[ غلب و اللّه المتخاذلون. و ايم اللّه، إنّي لأظنّ بكم أن لو حمس الوغى، و استحرّ الموت، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس من الجسد. و اللّه إن امرأ يمكّن عدوّه من نفسه، يعرق لحمه، و يهشم عظمه، و يفري جلده، لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره، أنت فكن ذاك إن شئت، فأمّا أنا فو اللّه دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفيّة يطير منه فراش الهام، و تطيح السّواعد و الأقدام، وَ يَفْعَلُ اللَّهُ بعد ذلك ما يَشاءُ. أيّها النّاس إنّ لي عليكم حقّا، و لكم عليّ حقّ. فأمّا حقّكم ]علّي[ فالنّصيحة لكم، و توفير فيئكم عليكم، و تعليمكم كيلا تجهلوا، و تأديبكم كيما تعلموا ]تعلموا »خ«[. و أمّا حقّي عليكم، فالوفاء بالبيعة، و النّصيحة في المشهد و المغيب، و الإجابة حين أدعوكم، و الطاعة حين آمركم.

  بيان روي أنّه عليه السلام خطب بهذه الخطبة بعد فراغه من أمر الخوارج، بالنهروان فحمد اللّه و أثنى عليه و قال أمّا بعد فإنّ اللّه تعالى قد أحسن نصركم، فتوجّهوا من فوركم هذا إلى عدوّكم من أهل الشام. فقالوا له قد نفدت نبالنا، و كلّت سيوفنا، ارجع بنا إلى مصرنا لنصلح عدّتنا، و لعلّ أمير المؤمنين يزيد في عددنا مثل من هلك منّا لنستعين به. فأجابهم يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ. فتلكّئوا عليه و قالوا إنّ البرد شديد. فقال ]لهم[ إنّهم يجدون البرد كما تجدون، ثمّ تلا قوله تعالى قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ و إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. فقام ناس منهم و اعتذروا بكثرة الجراح في الناس، و طلبوا ]منه[ أن يرجع بهم إلى الكوفة أيّاما ثمّ يخرج ]بهم[. فرجع بهم غير راض ]بما اقترحوا[ و أنزلهم النخيلة، و أمرهم أن يلزموا معسكرهم، و يقلّوا زيارة أهلهم، فلم يقبلوا و دخلوا الكوفة حتّى لم يبق معه إلّا قليل، فلما رأى ذلك دخل الكوفة فخطب النّاس فقال أيّها الناس استعدوا لقتال عدوّ في جهادهم القربة إلى اللّه، و درك الوسيلة عنده، قوم حيارى عن الحقّ لا يبصرونه، موزعين بالجور و الظّلم لا يعدلون به، و جفاة عن الكتاب، نكب عن الدّين، يعمهون في الطّغيان، و يتسكّعون في غمرة الضّلالة، ف أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ،  و توكّلوا على اللّه وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. فتركهم أيّاما ثمّ خطبهم بهذه الخطبة.

و »أفّ« بالضمّ و التّشديد و التّنوين كلمة تضجّر و تكرّه، و لغاتها أربعون، منها كسر الفاء كما في بعض النّسخ. و ]قوله عليه السلام[ »عوضا« و »خلفا« نصبهما على التّميز. و دوران أعينهم إمّا للخوف من العدوّ، أو للحيرة و التّردّد بين مخالفته عليه السلام و الإقدام على الحرب، و في كليهما خطر عندهم. و الغمرة الشّدّة. و غمرات الموت سكراته الّتي يغمر فيها العقل. و السكر بالفتح ضدّ الصّحو، و الاسم بالضّمّ. و سكرة الموت شدّته و غشيته. و في الكلام إشارة إلى قوله تعالى ]فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ[ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ. »يرتج عليكم حواري« أي يغلق عليكم محاورتي و مخاطبتي. و الألس الجنون و اختلاط العقل، يقال ألس فهو مألوس. ]و[ »سجيس اللّيالي« كلمة يقال للأبد، تقول لا أفعله سجيس الليالي، أي أبدا. ]و[ »يمال بكم« أي يستند إليكم و يمال بكم إلى العدوّ، أو الباء بمعنى إلى. و زوافر الرجل أنصاره و عشيرته. و زفرت الحمل حملته. و ]لفظة[ »زوافر« في أكثر النسخ بالجرّ عطفا على المجرور. و في بعضها بالنّصب عطفا على الظّرف.  و الإبل اسم للجمع. ]و[ »ضلّ رعاتها« أي ضاع و فقد من يعلم حالها و الحيلة في جمعها، أو لم يهتد من يرعاها إلى طريق جمعها. »لبئس لعمر اللّه« اللّام جواب القسم، و التكرير للتأكيد، و العمر بالفتح العمر هو قسم ببقاء اللّه. و السعر اسم جمع لساعر، و إسعار النّار و سعرها إيقادها. و الامتعاض الغضب. و »ايم« مخفّف أيمن. و هو جمع يمين، أي ايم اللّه قسمي. و »حمس« كفرح اشتدّ. و »الوغى« الأصوات و الجلبة، و منه قيل للحرب وغى. و »استحرّ الموت« أي اشتدّ و كثر. ]قوله عليه السلام[ »قد انفرجتم« أي تفرّقتم. و انفراج الرأس مثل لشدّة التّفرّق. قيل أوّل من تكلم به أكثم بن ضيفي في وصيّة له ]لبنيه قال[ يا بنيّ لا تنفرجوا عند الشدائد انفراج الرأس فإنّكم بعد ذلك لا تجتمعون على عزّ. و في معناه أقوال الأوّل قال ابن دريد معناه أنّ الرأس إذا انفرج عند البدن لا يعود إليه. الثاني قال المفضل الرأس اسم رجل تنسب إليه قرية من قرى الشّام يقال لها بيت الرأس، و فيها تباع الخمر، و هذا الرجل قد انفرج عن قومه و مكانه فلم يعد فضرب به المثل. الثالث قال بعضهم معناه أنّ الرأس إذا انفرج بعض عظامه عن بعض، كان بعيدا عن الالتئام و العود إلى الصحّة. الرابع قيل معناه انفرجتم عنّي رأسا. و ردّ بأنّ »رأسا« لا يعرّف.  الخامس قيل المعنى انفراج رأس من أدنى رأسه إلى غيره ثمّ حرف رأسه عنه. السادس قيل الرأس الرجل العزيز لأنّ الأعزّاء لا يبالون بمفارقة أحد. السابع معناه انفراج المرأة عن رأس ولدها حالة الوضع، فإنّه في غاية الشّدّة ]و[ نحوه قوله عليه السّلام في موضع آخر »انفراج المرأة عن قبلها«. و بعده واضح. و عرق اللّحم كنصر أكله و لم يبق منه على العظم شيئا. و هشم العظم كضرب كسره. و فريت الشي‏ء قطعته. و »الجوانح« الأضلاع الّتي تحت التّرائب، و هي ممّا يلي الصدر كالضلوع ممّا يلي الظّهر. »و ما ضمّت عليه« هو القلب. و المذكورات كنايات عن النهب و الأسر و الاستئصال و أنواع الضّرر. قوله عليه السلام »فكن ذاك إن شئت« قال ابن أبي الحديد خاطب من يمكّن عدوّه من نفسه خطابا عاما، لكن الرّواية وردت بأنّه عليه السّلام خاطب بذلك الأشعث بن قيس، فإنّه قال لعليّ عليه السلام حين ]كان[ يلوم الناس على تقاعدهم ]عنه[ »هلّا فعلت فعل ابن عفّان«. فقال »إنّ فعل ابن عفّان مخزاة على من لا دين له و لا وثيقة معه، إنّ امرأ مكن عدوّه من نفسه، يهشم عظمه، و يفري جلده لضعيف رأيه، مأفون عقله، فكن ذاك إن أحببت. فأمّا أنا فدون أن أعطي ذاك ضرب بالمشرفيّة« إلى آخر الفصل. انتهى. أقول سيأتي تمام القول برواية المفيد. ]قوله عليه السلام[ »فأمّا أنا فو اللّه« الظاهر أنّ خبر »أنا« الجملة التي خبرها »دون«، و المبتدأ ]هو قوله[ »ضرب«. و ]قوله[ »ذلك« إشارة إلى تمكين العدوّ، أو فعل ما فعله عثمان.  و المشرفيّة بفتح الميم و الراء سيوف منسوبة إلى مشارف اليمن. و فراش الهام العظام الرقيقة تلي القحف. و طاح يطيح أي سقط. و أوزعه بالشّي‏ء أغراه. و سكع كمنع و فرح مشى مشيا متعسفا لا يدري أين يأخذ من بلاد اللّه و تحيّر كتسكّع. ]قوله عليه السلام[ »كيلا تجهلوا« أي ]كي لا[ تبقوا على الجهالة.

937-  نهج و من كلام له عليه السّلام في ذمّ أصحابه كم أداريكم كما تداري البكار العمدة، و الثّياب المتداعية، كلّما حيصت من جانب، تهتّكت من أخرى. أ كلّما أظلّ عليكم منسر من مناسر أهل الشّام، أغلق كلّ رجل منكم بابه، و انجحر انجحار الضّبة في جحرها، و الضبّع في وجارها، الذّليل و اللّه من نصرتموه، و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل. إنكم و اللّه لكثير في الباحات، قليل تحت الرّايات. و إنّي لعالم بما يصلحكم و يقيم أودكم، و لكنّي لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي، أضرع اللّه خدودكم، و أتعس جدودكم، لا تعرفون الحقّ كمعرفتكم الباطل، و لا تبطلون الباطل كإبطالكم الحقّ. و قال عليه السلام في سحرة اليوم الذي ضرب فيه ملكتني عيني و أنا جالس، فسنح لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقلت يا رسول اللّه ما ذا لقيت من أمّتك من الأود و اللّدد. فقال »ادع عليهم«. فقلت أبدلني اللّه بهم خيرا لي منهم، و أبدلهم بي شرّا لهم منّي.

قال السيّد ]الرضيّ[ رضي اللّه عنه يعني عليه السلام ب »الأود« الاعوجاج، و ب »اللدد« الخصام. و هذا من أفصح الكلام. إيضاح البكار بالكسر، جمع بكر بالفتح، و هو الفتي من الإبل.  و العمدة بكسر الميم من العمد ]و هو[ الورم و الدبر. و قيل العمدة الّتي كسرها ثقل حملها. و قيل الّتي قد انشدخت أسنمتها من داخل و ظاهرها صحيح. و الثّياب المتداعية الخلقة التي تنخرق، فكأنّه يدعو الباقي إلى الانخراق. و حاص الثّوب يحوصه حوصا خاطه. و تهتّكت أي تخرّقت. و »أظلّ عليكم« أي أقبل إليكم و دنا منكم. و في بعض النّسخ »]أطلّ عليكم[« بالمهملة أي أشرف. و المنسر كمجلس و كمنبر القطعة من الجيش تمر قدّام الجيش الكثير. و الجحر بالضمّ كلّ شي‏ء يحتفره السبّاع و الهوامّ لأنفسها. و جحر الضّبّ كمنع أي دخله. و جحره غيره أدخله فانجحر و تجحّر و كذلك أجحره. و الضّبع مؤنّثة و وجارها بالكسر جحرها. و الأفوق المكسور الفوق و النّاصل النزوع النصل. و الباحة الساحة. و الراية العلم. و الأود بالتحريك العوج. و المراد يصلحهم إقامة مراسم السّياسة ]فيهم[ من القتل و التعذيب و الحيل و التدابير المخالفة لأمر اللّه تعالى. و الضراعة الذّلّ و الاستكانة. و التّعس الهلاك و الانحطاط. و الجدّ البخت و الحظّ. و الغرض، الدعاء عليهم بالخزي و الخيبة. قوله عليه السلام »لا تعرفون الحقّ« المراد بالحقّ إمّا أوامر اللّه تعالى، أو أمور الآخرة. و بالباطل زخارف الدّنيا. أو الحقّ متابعته عليه السّلام و نصره. و الباطل عصيانه و ترك نصرته. أو الحق الدّلائل الدّالّة على فرض طاعته، و الباطل الشّبه الفاسدة، كشبهتهم في خطر قتال أهل القبلة. و ]المراد ب[ المعرفة إمّا العلم أو العمل بما يقتضيه من نصرة الحقّ و إنكار المنكر. و السحرة بالضمّ السحر الأعلى. و ملك العين كناية عن غلبة النّوم. و »سنح لي« أي رأيته في المنام، أو مرّ بي معترضا.  و بناء التّفضيل في ]قوله عليه السلام[ »شرا« على اعتقاد القوم، فإنّهم لمّا لم يطيعوه حقّ الطاعة، فكأنّهم زعموا فيه شرا.

 نهج من كلام له عليه السّلام »و لئن أمهل اللّه الظّالم، فلن يفوت أخذه، و هو له بالمرصاد على مجاز طريقه، و بموضع الشّجا من مساغ ريقه. أما و الّذي نفسي بيده، ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم، و لكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم، و إبطائكم عن حقّي. و لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، و أصبحت أخاف ظلم رعيّتي. استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، و أسمعتكم فلم تسمعوا، و دعوتكم سرّا و جهرا فلم تستجيبوا، و نصحت لكم فلم تقبلوا، أ شهود كغيّاب و عبيد كأرباب أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها، و أعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها، و أحثّكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبا، ترجعون إلى مجالسكم و تتخادعون عن مواعظكم، أقوّمكم غدوة و ترجعون إليّ عشيّة كظهر الحنيّة ]الحيّة »خ«[ عجز المقوّم و أعضل المقوّم. أيّها الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلى بهم أمراؤهم صاحبكم يطيع اللّه و أنتم تعصونه، و صاحب أهل الشام يعصي اللّه و هم يطيعونه لوددت و اللّه أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدّينار بالدرهم، فأخذ منّي عشرة منكم و أعطاني رجلا منهم. يا أهل الكوفة، منيت منكم بثلاث و اثنتين صمّ ذوو أسماع، و بكم ذوو كلام، و عمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللّقاء و لا إخوان ثقة عند البلاء. تربت أيديكم يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها كلّما جمعت من جانب  تفرّقت من جانب ]آخر[، و اللّه لكأنّي بكم فيما إخال لو حمس الوغى، و حمي الضّراب قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها. و إنّي لعلى بيّنة من ربّي، و منهاج من نبيّي، و إنّي لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطا. انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم، و اتّبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى و لن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا، و إن نهضوا فانهضوا، و لا تسبقوهم فتضلّوا، و لا تتأخّروا عنهم فتهلكوا. لقد رأيت أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله فما أرى أحدا منكم يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا، ]و[ قد باتوا سجّدا و قياما، يراوحون بين جباههم و خدودهم، و يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر اللّه سبحانه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم، و مادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف، خوفا من العقاب، و رجاء الثواب.

تبيان ]قوله عليه السّلام[ »فلن يفوت« المفعول محذوف أي فلن يفوته. و الأخذ التّناول و العقوبة. و المرصاد الطريق يرصد بها. و الشّجا ما ينشب في الحلق من عظم و غيره، و موضع الشجا هو الحلق. و مساغ ريقه موضع إساغته. و ساغ الشراب سهل مدخله في الحلق. و سغت الشراب يتعدّى و لا يتعدّى. و هذا ]الكلام منه عليه السلام[ إمّا تهديد لأهل الشام أو لأصحابه، كما سيأتي من نسبة الظلم إليهم. و ظهر عليه غلبه و راعي القوم من ولي عليهم. و الاستنفار. الاستنجاد و الاستنصار أو طلب النفور و الإسراع إلى القتال. قوله عليه السّلام »و عبيد كأرباب« أي أخلاقكم أخلاق العبيد من  الخلاف و النفاق و دناءة الأنفس، و فيكم مع ذلك كبر السّادات و تيههم و عدم إطاعتهم، أو حكمكم حكم العبيد في وجوب الإطاعة و تأبون عنها كالسّادة. و هذا أنسب بالفقرة السابقة. و »أيادي سبا« مثل يضرب للمتفرّقين، و أصله قوله تعالى عن أهل سبإ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ و سبأ مهموز يصرف و لا يصرف، و يمدّ و لا يمدّ، و هو بلدة »بلقيس« و لقب ابن يشجب بن يعرب يقال ذهبوا أيدي سبا و أيادي سبا الياء ساكنة و كذلك الألف هكذا نقل المثل أي متفرّقين، و هما اسمان جعلا واحدا، مثل معديكرب ضرب المثل بهم لأنّهم لمّا غرق مكانهم و ذهبت جنّاتهم تبدّدوا في البلاد، و لهم قصّة غريبة مذكورة في كتب الأمثال. قوله عليه السّلام »و تتخادعون« المخادعة هي الاستغفال عن المصلحة، أي إذا رجعتم عن مجلس الوعظ أخذ كلّ منكم يستغفل صاحبه و يشغله بالأحاديث، و إن لم يكن عن قصد خداع بل يقع منهم صورة المخادعة. كذا ذكره ابن ميثم. و قال ابن أبي الحديد تتخادعون عن مواعظكم أي تمسكون عن الاتّعاظ من قولهم كان فلان يعطي ثمّ خدع أي أمسك و أقلع. و يجوز أن يريد تتلوّنون و تختلفون في قبول الوعظ من قولهم خلق فلان خلق خادع أي متلوّن. و سوق خادعة أي متلوّنة مختلفة. و لا يجوز أن يراد المعنى المشهور منها، لأنّه إنّما يقال فلان يتخادع فلانا إذا كان يريد أن ينخدع له و ليس بمنخدع في الحقيقة، و هذا لا يناسب المقام. و الحنيّة على فعلية القوس، أي ترجعون ]إليّ[ معوجّا كاعوجاج ظهر القوس و أعضل و أشكل، و كأنّ غيبة عقولهم كناية عن تركهم العمل بما تقتضيه، أو عن ذهابها. قوله عليه السلام »منيت« أي ابتليت. و إنّما لم يجمع الخمس لكون  الثلاث من جنس، و الاثنتين من ]جنس[ آخر أو لأنّ الثلاث إيجابيّة دون الاثنتين. و الحرّ خلاف العبد و الخيار من كلّ شي‏ء. و اللقاء ملاقات الأحباب أو العدوّ. و قوله ]عليه السلام[ »تربت أيديكم« كلمة يدعى على الإنسان بها أي لا أصبتم خيرا. و أصل »ترب« أصابه التراب، فكأنّه يدعى عليه بأن يفتقر. و قال ]ابن الأثير[ في ]مادة »ترب« من كتاب[ النهاية هذه الكلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، و لا وقوع الأمر بها، كما يقولون قاتله اللّه. و قيل معنى للّه درّك. قال و كثيرا ترد للعرب ألفاظ ظاهرها الذمّ و إنّما يريدون بها المدح، كقولهم لا أب لك، و لا أمّ لك. و هوت أمّه. و لا أرض لك. و نحو ذلك. و قال المطرّزي في قولهم »كأنّي بك تنحط« الأصل كأنّي أبصرك تنحط ثمّ حذف الفعل و زيدت الباء. و يحتمل أن يكون الباء متعلّقا بملتصق و نحوه، نحو »به داء« أو بمعنى في. و خال الشي‏ء يخاله أي ظنّه. و تقول خلت إخال بالكسر و بالفتح، لغة بني أسد كما في النسخ، و »ما« مصدريّة، أي في ظنّي. و حمس كفرح أي اشتدّ. و حمي كرضي اشتدّ حرّه. و انفرجتم تفرّقتم. قال ابن ميثم شبّه انفراجهم عنه بانفراج المرأة عن قبلها ليرجعوا إلى الأنفة، و تسليم المرأة قبلها و انفراجها عنه إمّا وقت الولادة، أو وقت الطّعان. قوله ]عليه السّلام[ »ألقطه« كأنّه إشارة إلى أنّ الضّلال غالب على الهدى، فيحتاج السالك إلى التقاط طريق الهدى من بين طرق الضّلالة. و في

  بعض النسخ »ألفظه لفظا« أي أبيّنه بيانا. و السمت الجهة و الطريق و هيئة أهل الخير. »فإن لبدوا« أي قعدوا عن طلب الخلافة و الجهاد و لزموا البيوت فتابعوهم، و إن قاموا بها فانصروهم، يقال لبد الشي‏ء بالأرض كنصر أي التصق بها. ]و قوله عليه السّلام[ »و لا تسبقوهم« أي ما لم يأمروكم به. »و لا تتأخّروا عنهم« أي لا تخالفوهم فيما يأمرونكم به. ]قوله عليه السلام[ »يراوحون« أي يسجدون بالجبهة مرّة و بالخدود أخرى، و وقوفهم على مثل الجمر ]و هو[ جمع جمرة و هي النار المتّقدة كناية عن قلقهم و اضطرابهم من خوف المعاد. و »المعزى« بالكسر خلاف الضأن كالمعز. و المراد ب »بين أعينهم« جباههم مجازا. ]و[ »هملت« أي سالت. و »مادوا« أي تحرّكوا و اضطربوا.

 نهج و من كلام له عليه السّلام في ذمّ ]العصاة من[ أصحابه أحمد اللّه على ما قضى من أمر، و قدّر من فعل، و على ابتلائي بكم أيّتها الفرقة الّتي إذا أمرت لم تطع، و إذا دعوت لم تجب، إن أمهلتم ]أهملتم[ خضتم، و إن حوربتم خرتم، و إن اجتمع النّاس على إمام طعنتم، و إن أجبتم ]أجئتم »خ ل«[ إلى مشاقّة نكصتم، لا أبا لغيركم ما تنتظرون بنصركم، و الجهاد على حقّكم الموت أو الذّلّ لكم فو اللّه لئن جاء يومي و ليأتيني ليفرّقن بيني و بينكم، و أنا لصحبتكم قال، و بكم غير كثير.  للّه أنتم أ ما دين يجمعكم، و لا محمية تشحذكم أ و ليس عجبا أنّ معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتّبعونه على غير معونة و لا عطاء، و أنا أدعوكم و أنتم تريكة الإسلام و بقيّة الناس إلى المعونة أو طائفة من العطاء، فتفرّقون عنّي و تختلفون عليّ إنّه لا يخرج إليكم من أمري رضي فترضونه، و لا سخط فتجتمعون عليه، و إنّ أحبّ ما أنا لاق إليّ الموت. قد دارستكم الكتاب، و فاتحتكم الحجاج، و عرّفتكم ما أنكرتم، و سوّغتكم ما مججتم، لو كان الأعمى يلحظ، أو النّائم يستيقظ و أقرب بقوم من الجهل باللّه قائدهم معاوية، و مؤدّبهم ابن النابغة

توضيح ]قوله عليه السّلام[ »على ما قضى من أمر« قيل الأمر أعمّ من أن يكون فعلا، و لمّا كان القدر هو تفصيل القضاء و إيجاد الأشياء على وفقه، قال »و قدّر من فعل«. و الابتلاء الامتحان. و أمهله أي رفق به و أخّره. و في بعض النسخ »]إن[ أهملتم« أي تركتم، »خضتم« أي في الضلالة و الأهواء الباطلة. ]و[ »خرتم« بالخاء من الخور بمعنى الضّعف. أو من خوار الثّور بمعنى الصياح. و يروى ]»جرتم«[ بالجيم، أي عدلتم عن الحقّ أو عن الحرب فرارا. قوله عليه السّلام »أجئتم« قال ابن أبي الحديد بالهمزة الساكنة بعد الجيم المكسورة، أي ألجئتم قال تعالى »فأجاءها المخاض«. و في بعض النسخ »أجبتم« على بناء المعلوم بالباء. و المشاقّة المقاطعة و المصارمة. و النكوص الرجوع إلى ما وراء. قوله عليه السلام »لا أبا لغيركم« قال ابن ميثم أصله لا أب و الألف مزيدة، إمّا لاستثقال توالي أربع حركات، أو لأنّهم قصدوا الإضافة و أتوا باللّام للتأكيد. و في الدعاء بالذلّ لغيرهم نوع تلطّف لهم.  قوله عليه السّلام »الموت أو الذّلّ« في أكثر النّسخ برفعهما، و في بعضها بالنصب. قال ابن أبي الحديد ]و هذا[ دعاء عليهم بأن يصيبهم أحد الأمرين، كأنّه شرع داعيا عليهم بالفناء الكلّي و هو الموت، ثمّ استدرك فقال أو الذلّ لأنّه نظير الموت، و لقد أجيب دعاؤه بالدعوة الثّانية، فإنّ شيعته ذلّوا بعده في الأيّام الأموية. أقول هذا على الرفع ظاهر، و أمّا على النّصب فيحتمل الدعاء أيضا بتقدير أرجو أو أطلب، و يحتمل الاستفهام، أي أ تنتظرون الموت و قيل في قوله عليه السلام »و ليأتينّي« حشوة لطيفة بين الكلام لأنّ لفظة »إن« أكثر ما تستعمل لما لا يعلم حصوله، فأتى بعدها بما يردّ ما تقتضيه من الشكّ في إتيان الموت، و أشعر بأنّ الموضع موضع »إذا«. و القالي المبغض. قوله عليه السّلام »غير كثير« أي لستم سبب كثرة أعواني. و ]قوله عليه السلام[ »للّه أنتم« من قبيل للّه أبوك، و لعلّه هنا للتعجّب على سبيل الذمّ، و يحتمل المدح تلطّفا. و ارتفاع قوله »دين« بفعل مقدّر يفسّرها الفعل المذكور بعده. و شحذت النصل حددته. و الطغام أراذل الناس الواحد و الجمع سواء. و معونة الجند شي‏ء يسير من المال يعطيهم الوالي لترميم أسلحتهم و إصلاح دوابّهم سوى العطاء المفروض في كلّ شهر كما قيل. و منشأ تعجبه عليه السلام أمور أحدها أنّ الداعي لهم معاوية، و لهؤلاء أمير المؤمنين، و كيف يساوي  عاقل بينهما و ثانيها أنّ المدعوّ هناك، الجفاة الطغام مع خلوّهم غالبا عن الحميّة و المروءة، و هاهنا أصحابه الذين هم تريكة الإسلام. و ثالثها أنّ أصحاب معاوية يتّبعونه على غير معونة و لا عطاء، و أصحابه عليه السلام لا يجيبونه إلى المعونة و العطاء، فإنّ معاوية إنّما كان يعطي رؤساء القبائل الأموال الجليلة، و لا يعطي الجند على وجه العطاء و المعونة شيئا، و هم كانوا يطيعون الرؤساء للحميّة أو العطايا من هؤلاء لهم. و التريكة بيضة النعامة تتركها في مجثمها، أي أنتم خلف الإسلام و بقيّته، كالبيضة التي تتركها النّعامة. و قوله ]عليه السّلام[ »إلى المعونة« متعلّق ب ]قوله[ »أدعوكم«.. قوله عليه السلام »لا يخرج إليكم« أي إنكم لا تقبلون مما أقول لكم شيئا، سواء كان مما يرضيكم أو مما يسخطكم. »و إلى« متعلّق بقوله »أحبّ«. و درس الكتاب كنصر و ضرب أي قرأ فقوله »دارستكم الكتاب« أي قرأته عليكم للتعليم، و قرأتم عليّ للتعلّم. قوله عليه السّلام »و فاتحتكم« أي حاكمتكم بالمحاجّة و المجادلة. و ساغ الشّراب في الحلق أي دخل بسهولة. و مججته من فمي أي رميت به أي بينت لكم الأمور الدينيّة ما كنتم تنكرونه بآرائكم، و أعطيتكم من العطايا ما كنتم محرومين منها. و كلمة »لو« في قوله عليه السلام »لو كان« للتمنّي أو الجزاء محذوف. و قوله عليه السلام »و أقرب بقوم« بصيغة التعجّب، أي ما أقربهم إلى الجهل. و قوله عليه السلام »قائدهم معاوية« صفة لقوم، فصل بين الصفة و الموصوف بالجار و المجرور، و هو مجوّز. و ورد مثله في الكلام المجيد. 

 نهج من خطبة له عليه السلام عباد اللّه، إنكم و ما تأملون من هذه الدّنيا أثوياء مؤجّلون، و مدينون مقتضون، أجل منقوص، و عمل محفوظ، فربّ دائب مضيّع و ربّ كادح خاسر. و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلّا إدبارا، و الشرّ فيه إلّا إقبالا، و الشيطان في هلاك النّاس إلّا طمعا، فهذا أوان قويت عدّته، و عمّت مكيدته، و أمكنت فريسته. اضرب بطرفك حيث شئت من الناس، فهل تبصر إلّا فقيرا يكابد فقرا، أو غنيا بدّل نعمة اللّه كفرا، أو بخيلا اتّخذ البخل بحقّ اللّه وفرا، أو متمرّدا كأنّ بأذنه عن سمع المواعظ وقرا أين خياركم و صلحاؤكم و أين أحراركم و سمحاؤكم و أين المتورّعون في مكاسبهم، و المتنزّهون في مذاهبهم أ ليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدّنيا الدنيّة و العاجلة المنغّصة و هل خلّفتم إلّا في حثالة لا تلتقي بذمّهم الشّفتان استصغارا لقدرهم، و ذهابا عن ذكرهم ف إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. ظهر الفساد فلا منكر مغيّر، و لا زاجر مزدجر. أ فبهذا تريدون أن تجاوروا اللّه في دار قدسه، و تكونوا أعزّ أوليائه عنده هيهات لا يخدع اللّه عن جنّته، و لا تنال مرضاته إلّا بطاعته. لعن اللّه الآمرين بالمعروف التّاركين له، و النّاهين عن المنكر العاملين به.

بيان الأثوياء جمع ثوى و هو الضّيف. ]و[ »مؤجّلون« أي مؤخّرون إلى وقت معلوم. و »المدين« المديون. و »المقتضون«. جمع مقتضى على بناء المفعول.  ]قوله عليه السلام[ »أجل منقوص« أي أجلكم أجل منقوص يوما بعد يوم، و لحظة فلحظة، و عملكم عمل مفحوظ عند اللّه. و الدائب المجتهد ذو الجدّ و التعب. و »الكادح« الساعي. و »أمكنت« أي أمكنته، يقال أمكنني الأمر أي سهل و تيسّر. و كابده مكابدة أي قاساه و تحمّل المشاقّ فيه. و ذكره في هذا المقام، إمّا لأنّ الغرض بيان ما سبق من إدبار الخير و إقبال الشرّ و عموم الضلال و مقاساة الفقراء بيان للأولين، فالخير و الشرّ يعمّان الدنيويّين و الأخرويّين. و إمّا لأنّ شيوع الفقر لمنع الحقوق الواجبة، أو المراد بمكابدة الفقر ترك الصبر عليه و هو أيضا من المنكرات. ]قوله عليه السلام[ »بدّل نعمة اللّه« أي الغنى. أو ولايته عليه السلام. و التخصيص لشدّة إنكارهم لقوتهم أو الأعمّ. و الوفر المال الكثير. و قوله ]عليه السلام[ »بحقّ اللّه« متعلّق ب ]قوله[ »البخل« أي يعدّ بخله بحقّ اللّه توفير المال و الزيادة فيه. و الوقر ثقل الأذن. »أين أحراركم« أي الّذين أعتقوا من رقّ الشهوات. و التورّع. مبالغة في الورع. و التّنزّه التباعد عن القبيح. و ظعن كمنع أي سار و ارتحل. و أنغص اللّه عليه العيش و نغّصه كدّره و الحثالة الرّدي‏ء من كل شي‏ء. ]قوله عليه السّلام[ »لا تلتقي بذمّهم« أي إنّهم أحقر من أن يشتغل الإنسان بذمّهم لأنّه لا بدّ من الذمّ من إطباق إحدى الشّفتين على الأخرى و »ذهابا« أي ترفّعا يقال فلان ذهب بنفسه عن كذا، أي رفعها عنه. »و لا زاجر مزدجر« أي من يزجر غيره عن القبائح و تمتنع نفسه أيضا عنها. ]قوله[ »في دار قدسه« أي الجنّة لأنّ أهلها يقدّسونه تعالى و هم منزّهون  عن العيوب. و مجاورة اللّه سكون تلك الدّار المنسوبة إليه سبحانه تشريفا. و قربه مجاورة رحمته. »هيهات« أي بعد ما تريدون. »لا يخدع اللّه عن جنّته« أي لا يمكن أخذها منه تعالى بالخديعة. و المرضاة الرّضا. و آخر الكلام يدلّ على اشتراط الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر بالعمل بهما، و سيأتي الكلام فيه في محلّه إن شاء اللّه. و لعلّ غرضه عليه السّلام التّعريض بالسابقين الغاصبين.

 941-  نهج ]و[ من خطبة له عليه السّلام أرسله داعيا إلى الحقّ، و شاهدا على الخلق فبلّغ رسالات ربّه غير وان و لا مقصّر، و جاهد في اللّه أعداءه غير واهن و لا معذّر، ]فهو[ إمام من اتّقى، و بصر من اهتدى. ]و[ منها و لو تعلمون ما أعلم ممّا طوي عنكم غيبه، إذا لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أعمالكم، و تلتدمون على أنفسكم، و لتركتم أموالكم لا حارس لها و لا خالف عليها و لهمّت كل امرئ منكم نفسه لا يلتفت إلى غيرها. و لكنكم نسيتم ما ذكرّتم، و أمنتم ما حذّرتم، فتاه عنكم رأيكم و تشتّت عليكم أمركم. لوددت أنّ اللّه فرّق بيني و بينكم، و ألحقني بمن هو أحقّ بي منكم، قوم و اللّه ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مقاويل بالحقّ، متاريك للبغي مضوا قدما على الطريقة، و أوجفوا على المحجّة، فظفروا بالعقبى الدّائمة و الكرامة الباردة. أما و اللّه ليسلّطنّ عليكم غلام ثقيف، الذّيال الميّال، يأكل خضرتكم، و يذيب شحمتكم، إيه أبا وذحة

  قال السّيّد رحمه اللّه الوذحة الخنفساء، و هذا القول يومئ به إلى الحجاج و له مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره. توضيح الواني الفاتر الكال. و الواهن الضّعيف. و المعذّر الذي يعتذر من تقصيره من غير عذر كما قال تعالى » وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ« [90-  التّوبة 9]. ]قوله عليه السلام[ »مما طوي عنكم« أي كتم و أخفي. و قال ]ابن الأثير[ في ]مادّة »صعد« من كتاب[ النهاية ]و[ فيه »إيّاكم و القعود بالصعدات« هي الطرق، و هي جمع صعد و صعد جمع صعيد كطريق و طرق و طرقات. و قيل جمع صعدة كظلمة، و هي فناء باب الدّار و ممّر النّاس بين يديه. و منه الحديث »و لخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى اللّه«. و قال ابن أبي الحديد الصعيد التراب. و يقال وجه الأرض. و الجمع صعد و صعدات. و ]قال الفيروزآبادي[ في القاموس الصعيد التراب أو وجه الأرض، و الجمع صعد و صعدات، و الطريق، و منه »إيّاكم و القعود بالصّعدات«. و القبر. انتهى. فالمعنى خرجتم عن البيوت و تركتم الاستراحة و الجلوس على الفرش، للقلق و الانزعاج، و جلستم في الطّريق أو على التراب أو لازمتم القبور. و الالتدام ضرب النّساء وجوههنّ في النّياحة. قوله عليه السلام »و لا خالف« أي و لا مستخلف عليها. قوله عليه السلام »و لهمّت« قال ابن أبي الحديد أي أذابته و أنحلته من ]قولهم[ هممت الشحم أي أذبته.  و يروى »و لأهمّت« و هو أصحّ من ]قولهم[ أهمّني الأمر أي أحزنني. و فيه نظر لأنّ »همّ« أيضا يكون بمعنى »أهمّ«. قال ]الفيروزآبادي[ في القاموس همّه الأمر همّا حزنه، كأهمّه فاهتمّ انتهى. و ]كلمة[ »كلّ« منصوب على المفعولية و الفاعل ]لفظة[ »نفسه«. و يقال تاه فلان يتيه، إذا تحيّر و ضلّ. و تاه يتوه أي هلك و اضطرب عقله. و تشتّت أي تفرّق. و المراد بمن هو أحقّ به عليه السّلام ]هو[ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و حمزة و جعفر، و من لم يفارق الحق من الصحابة. و المراجيح الحكماء. و قال الجوهري راجحته فرجحته أي كنت أرزن منه، و منه قوم مراجيح الحلم. انتهى. و المقاويل جمع مقوال أي حسن القول أو كثيره. و المتاريك جمع متراك أي كثير الترك. قوله عليه السلام »مضوا قدما« بالضمّ و بضمّتين أي متقدّمين لا ينثنون. و »أوجفوا« أي أسرعوا. و »الكرامة الباردة« ]هي[ الّتي ليس فيها حرّ تعب، و لا مشقّة حرب. و »الذّيال« هو الذي يجرّ ذيله على الأرض تبخترا، يقال ذال فلان و تذيّل أي تبختر. و »الميّال« الظّالم. قوله عليه السلام »يأكل خضرتكم« أي يستأصل أموالكم. و »الخضرة« بفتح الخاء و كسر الضاد الزرع و البقلة الخضراء و الغصن. و إذابة الشحمة مثله كما قيل و المراد تعذيب الأبدان. قوله عليه السّلام »إيه أبا وذحة« إيه كلمة استزادة أي زد و هات. و قال ابن أبي الحديد في قول السيّد »الوذحة الخنفساء«  أقول لم أسمع هذا من شيخ من أهل اللّغة، و لا وجدته في كتاب من كتب اللّغة، و المشهور أنّ الوذح ]هو[ ما يتعلّق بأذناب الشّاة من أبعارها فيجفّ. ثمّ إنّ المفسّرين بعد الرضي رضي اللّه عنه قالوا في قصّة هذا الخنفساء وجوها منها أنّ الحجّاج رأى خنفساء تدبّ إلى مصلّاه فطردها، فعادت، ثمّ طردها فعادت، فأخذها بيده فقرصته قرصا، ورمت يده منه ورما كانت فيه حتفه. قتله اللّه تعالى بأهون خلقه، كما قتل نمرود بن كنعان بالبقّة. و منها أنّ الحجاج كان إذا رأى خنفساء، يأمر بإبعادها و يقول هذه وذحة من وذح الشيطان، تشبيها بالبعرة المعلّقة بذنب الشاة. و منها أنّه قد رأى خنفساوات مجتمعات، فقال وا عجبا لمن يقول إنّ اللّه خلق هذه. قيل فمن خلقها أيّها الأمير قال الشّيطان، إنّ ربكم لأعظم شأنا من أن يخلق هذه الوذح. قالوا فجمعها على »فعل« كبدنة و بدن، فنقل قوله هذا إلى الفقهاء في عصره فأكفروه. و منها أنّ الحجّاج كان مثفارا أي ذا أبنة، و كان يمسك الخنفساء حيّة ليشفي بحركتها في الموضع حكاكه. و قالوا و لا يكون صاحب هذا الدّاء إلّا شائنا مبغضا لأهل البيت عليهم السلام. قالوا و لسنا نقول كلّ مبغض فيه هذا الدّاء، بل ]نقول[ كلّ من فيه هذا الدّاء فهو مبغض. قالوا و قد روى أبو عمر الزاهد و لم يكن من رجال الشيعة في أماليه و أحاديثه عن السّياري، عن أبي خزيمة الكاتب قال ما فتّشنا أحدا فيه هذا الداء، إلّا وجدناه ناصبيا.

 قال أبو عمر و أخبرني العطافي عن رجاله، قالوا سئل جعفر بن محمّد  الصّادق عليه السّلام عن هذا الصّنف من النّاس، فقال لهم رحم منكوسة، يؤتى و لا يأتي. و ما كانت هذه الخصلة في وليّ اللّه تعالى أبدا قطّ، و لا تكون أبدا و إنّما كانت في الفسّاق و الكفّار و النّاصب للطّاهرين.

و كان أبو جهل بن هشام المخزومي من القوم، و كان أشدّ الناس عداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. قالوا و لذلك قال له عتبة بن ربيعة يوم بدر يا مصفّر استه. ]ثم قال ابن أبي الحديد[ و يغلب على ظنّي أنّه ]عليه السلام أراد[ معنى آخر، و ذلك أنّ عادة العرب أن تكنّي الإنسان إذا أرادت تعظيمه بما هو مظنّة التّعظيم، و إذا أرادت تحقيره ]كنّته[ بما يستحقر و يستهان به، كقولهم في كنية يزيد بن معاوية لعنه اللّه أبو زنّة، يعنون القرد. و كقولهم في كنية سعيد بن حفص البخاري المحدّث أبو الفأر. و كقولهم للطفيلي أبو لقمة. و كقولهم لعبد الملك أبو الذبّان لبخره. و كقول ابن بسّام لبعض الرؤساء

فأنت لعمري أبو جعفر و لكنّنا نحذف الفاء منه

و قال أيضا

لئيم درن الثوب نظيف القصب و القدرأبو النتن أبو الدفر أبو البعر أبو الجعر

فلنجاسته بالذّنوب و المعاصي، كنّاه أمير المؤمنين عليه السلام أبا وذحة. و يمكن أن يكنّيه بذلك لدمامته في نفسه، و حقارة منظره، و تشويه خلقته، فإنّه كان دميما قصيرا سخيفا، أخفش العينين معوّج الساقين قصير الساعدين، مجدور الوجه أصلع الرأس، فكنّاه بأحقر الأشياء و هو البعرة. و قد روى قوم ]هذه اللّفظة بصيغة أخرى، قالوا[ »إيه أبا ودجة« قالوا ]هي[ واحدة الأوداج كنّاه بذلك لأنّه كان قتّالا يقطع الأوداج بالسيف. و رواه قوم »أبا وحرة« ]بالراء المهملة[ و هي دويبة تشبه الحرباء قصير الظهر، شبّهه بها.  ]ثمّ قال ابن أبي الحديد[ و هذا و ما قبله ضعيف. و أقول الذبّان بكسر الذال و تشديد الباء جمع الذباب، و من عادته أن يجلس على المنتن. و القعب بالفتح القدح الضخم. و الدفر بالمهملة ثم الفاء النتن و الذلّ. و بالقاف مصدر دقر كفرح، إذا امتلأ من الطعام. و الجعفر بالفتح ما يبس من العذرة في المعجز أي الدّبر.

 نهج ]و[ من كلام له عليه السلام و قد جمع الناس و حضّهم على الجهاد، فسكتوا مليا، فقال عليه السّلام ما بالكم أ مخرسون أنتم فقال قوم منهم يا أمير المؤمنين إن سرت سرنا معك فقال ]عليه السّلام[ ما بالكم لا سددتم لرشد و لا هديتم لقصد أ في مثل هذا ينبغي لي أن أخرج و إنّما يخرج في مثل هذا رجل ممّن أرضاه من شجعانكم و ذوي بأسكم، و لا ينبغي لي أن أدع الجند و المصر و بيت المال و جباية الخراج و القضاء بين المسلمين و النظر في حقوق المسلمين ]المطالبين »خ ل«[ ثمّ أخرج في كتيبة أتبع أخرى، أ تقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ، و إنّما أنا قطب الرحى تدور عليّ، و أنا بمكاني، فإذا فارقته استحار مدارها، و اضطرب ثفالها، هذا لعمر اللّه الرّأي السّوء. و اللّه لو لا رجائي الشهادة عند لقائي العدوّ لو قد حمّ لي لقاؤه لقرّبت ركابي، ثمّ شخصت عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب و شمال. ]طعّانين عيّابين حيّادين روّاغين[. إنّه لا غناء في كثرة عددكم مع قلّة اجتماع قلوبكم.  لقد حملتكم على الطّريق الواضح الّتي لا يهلك عليها إلّا هالك، من استقام فإلى الجنّة و من زلّ فإلى النّار.

]بيان[ قال ابن أبي الحديد ]و هذا كلام[ قاله ]أمير المؤمنين[ عليه السّلام، في بعض غارات أهل الشام على أطراف العراق، عند انقضاء أمر صفّين و النّهروان. قوله »مليّا« أي ساعة طويلة. ]و[ قوله عليه السّلام »لا سددتم« بالتخفيف و التشديد دعاء عليهم بعدم السداد و الاستقامة لما فيه رشدهم و صلاحهم. و القصد من الأمور المعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي الإفراط و التفريط. و الشّجعاء جمع شجيع. و في بعض النسخ »شجعانكم« و هو بالضمّ و الكسر جمع شجاع. و البأس الشجاعة. و الكتيبة القطعة العظيمة من الجيش. و التقلقل التحرّك. و القدح بالكسر السهم. و الجفير الكنانة. و قيل وعاء السهام أوسع من الكنانة. و الغرض ]من هذا[ التشبيه، في اضطراب الحال و الانفصال عن الجنود و الأعوان، بالقدح الذي لا يكون حوله قداح تمنعه من التقلقل و لا يستقرّ في مكانه. »و استحار مدارها« أي اضطرب. و المدار هنا مصدر. كذا ذكره ابن أبي الحديد، و لم نجده بهذا المعنى في اللّغة. ]و[ قال الجوهري المستحير سحاب ثقيل متردّد ليس له ريح تسوقه. فالأنسب أن يكون ]كلامه عليه السلام[ كناية عن الوقوف عن الحركة. و الثفال الجلد الذي يوضع عليه الرحى ليسقط عليه الدقيق و يسمّى  الحجر الأسفل من حجري الرحى أيضا ثفالا، و لعلّه أنسب. قوله عليه السلام »لو قد حمّ لي« على ]بناء[ المجهول أي قضي و قدّر. و الركاب الإبل التي يسار عليها. و شخوص المسافر خروجه. و الاختلاف التردّد. و يحتمل ]أيضا[ المخالفة. و الغناء بالفتح و المدّ النفع. ]قوله عليه السلام[ »لا يهلك عليها« أي كائنا عليها أو سببها. و الطريق يذكّر و يؤنّث. ]و قوله[ »من استقام« أي اعتزل و لزم الطريق الواضح. »و من زلّ« أي زلق و عدل عن الطريق.

 نهج من خطبة له عليه السّلام أيّها النّاس إنّا قد أصبحنا في دهر عنود، و زمن شديد، يعدّ فيه المحسن مسيئا، و يزداد الظالم فيه عتوّا، لا ننتفع بما علمنا، و لا نسأل عمّا جهلنا، و لا نتخوّف قارعة حتّى تحلّ بنا، فالنّاس على أربعة أصناف منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض، إلّا مهانة نفسه و كلالة حدّه و نضيض وفره. و منهم المصلت بسيفه و المعلن بشرّه ]بسّره »خ«[ و المجلب بخيله و رجله، قد أشرط نفسه و أوبق دينه لحطام ينتهزه، أو مقنب يقوده، أو منبر يفرعه، و لبئس المتجر أن ترى الدّنيا لنفسك ثمنا، و مما لك عند اللّه عوضا. و منهم من يطلب الدّنيا بعمل الآخرة، و لا يطلب الآخرة بعمل الدّنيا. قد طأمن من شخصه، و قارب من خطوه، و شمّر من ثوبه، و زخرف من نفسه للأمانة، و اتّخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية. و منهم من أقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه، و انقطاع سببه، فقصرته  الحال على ]عن »خ«[ حاله، فتحلّى باسم القناعة و تزيّن بلباس أهل الزّهادة، و ليس من ذلك في مراح و لا مغدى. و بقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع، و أراق دموعهم خوف المحشر، فهم بين شريد نادّ، و خائف مقموع، و ساكت مكعوم، و داع مخلص، و ثكلان موجع، قد أخملتهم التقيّة، و شملتهم الذّلة. فهم في بحر أجاج، أفواههم ضامزة و قلوبهم قرحة، قد وعظوا حتّى ملّوا، و قهروا حتّى ذلّوا، و قتلوا حتّى قلّوا. فلتكن الدّنيا أصغر في أعينكم من حثالة القرظ و قراضة الجلم، و اتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم، و ارفضوها ذميمة فإنّها قد رفضت من كان أشغف به منكم.

]بيان[ عند عن الطريق كنصر عدل و مال. و العنود فعول بمعنى فاعل. و قيل مفاعل. و الزمن اسم لقيل الوقت و كثيره. و قيل الشديد بمعنى البخيل. و في بعض النسخ »و زمن كنود« و هو الكفور. و قيل اللّوام. و وصف الزمان بتلك الأوصاف توصيف لأهله. و عدّ المحسن مسيئا، إمّا لعدم الإذعان بالحقّ، أو لحملهم الأفعال الجميلة على المحامل القبيحة، كزعم العابد مرائيا. و العتوّ الاستكبار و مجاوزة الحدّ. قوله عليه السّلام »لا ننتفع« التعبير بلفظ المتكلّم مع الغير، من قبيل »إيّاك أعني و اسمعي يا جارة« و عدم الانتفاع بالعلم لترك العمل، و عدم السؤال لعدم العلم بفضله مع عدم الرغبة في العمل به. و القارعة الخطب العظيم و الداهية. و مهانة النفس حقارتها. ]مشتقّة[ من »مهن« أو »هان«. و كلّ حدّ السيف و غيره، إذا وقف عن القطع. ]قوله عليه السلام[ »و نضيض وفره« أيّ قلّة ماله. و هذا القسم هم المريدون للدنيا غير القادرين عليها. و المجلب اسم فاعل من أجلب عليهم أي تجمّع و تألّب. و كذلك إذا صاح به و استحثّه. و أجلبه أي أعانه. و الرجل جمع راجل. »قد أشرط نفسه« أي هيّأها و أعدّها للفساد في الأرض. و الحطام المال و أصله ما تكسّر من اليبس. و الانتهاز الاختلاس و الاستلاب بقدر الإمكان. و المقنب بكسر الميم و فتح النون الجمع من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين. ]و[ »يفرعه« أي يعلوه. و عمل الدّنيا ما يفعله المكلّف فيها أو ما يصير بانضمام القربة و التوصّل به إلى الطاعة طاعة. »و قد طأمن« أي خفض. و يقال طأمن منه أي سكنه. »و قارب من خطوه« أي لم يسرّع و مشى رويدا. »و شمّر« ]من ثوبه[« أي قصّر ثوبه أو رفعه إظهار لمتابعة السنّة. »و زخرف« أي زيّن ]نفسه[ للأمانة، أي لأن يجعلوه أمينا على أموالهم و أعراضهم و يحتمل تعلّقه بالأخير و بالجميع. ]قوله عليه السّلام[ »و اتخذ ستر اللّه« أي التقوى و العمل بشرائع الدّين، فإنّ اللّه حرّم تتبّع عورات من ظاهره الصلاح و ذكر عيوبه. قال الكيدري في كتاب المضاف و المنسوب ستر اللّه الإسلام، و الشيب، و الكعبة، و ضمائر صدور الناس. يعني جعل ظاهر الإسلام و ما يجنّه صدره، بحيث لا يطّلع عليه مخلوق وسيلة و طريقا إلى معصية اللّه. انتهى. و أقول يحتمل أن يكون المراد أنّه اتّخذ ستر اللّه على عيوبه، حيث لم يفضحه و لم يطلع الناس على بواطنه، ذريعة إلى أن يخدع الناس. و الضئولة الحقارة. و السبب الحبل، و ما يتوصّل به إلى غيره. و المراح المكان الذي تأوي إليه الماشية في اللّيل. و المغدى ما تأوي إليه بالغداة و لعلّ المعنى ليس يومه كيومهم في الصوم و غيره، و لا ليله كليلهم في العبادات. و المرجع بكسر الجيم مصدر أو اسم مكان، و المراد به من إليه مصير العباد أو القيامة أو الرجوع إليهما. ]و المراد من قوله عليه السلام »غضّ أبصارهم ذكر المرجع هو[ غضّ البصر عن المعاصي، أو الأعمّ لخشوعهم، أو للحياء، أو ]غضّهم[ أبصار قلوبهم عمّا سوى اللّه. و الشريد الطريد. و النّادّ المنفرد و المراد به المتوحّش من الناس الذاهب في الأرض، إمّا لعدم صبره على رؤية المنكرات، أو لكثرة أذى الظالمين في الأوطان لإنكاره المنكر و أشباه ذلك. و قمعه ضربه بالمقمعة و قهره و ذلّله. و المكعوم الّذي لا يمكنه الكلام، كأنّ شدّ فوه من التقيّة بالكعام الذي يجعل في فم البعير عند الهياج. و الثكل الحزن على فقد الأقارب. و لعلّ المعنى أنّ بعضهم ترك الأوطان أو مجامع الناس لما ذكر، و بعضهم لم يترك ذلك، و ينكر منكرا ثمّ يخاف مما يجري عليه بعد ذلك، و منهم من هو بينهم و لا ينهاهم تقيّة و معرض عنهم و مشتغل بالدعاء، و منهم من هو بينهم بالضرورة و يرى أعمالهم و لا يؤثّر نهيه فيهم، فهو كالثكلان الموجع. و خمل ذكره و صوته خفي. ]قوله عليه السلام[ »فهم في بحر أجاج« كناية عن عدم استمتاعهم بالدنيا، كالسابح في ماء مالح، فإنّه لا يمكنه التروي منه و شربه و إن بلغ غاية العطش. ]قوله عليه السلام[ »أفواههم ضامزة« بالزاي المعجمة، أي ساكنة. أو

 بالراء المهملة كناية عن صومهم و عدم أكلهم من المحرّمات و الشبهات. قال الكيدري أي ساترة خفيّة من الضمير. و يروى بالزّاي أي مشدودة بالسكوت. »و قلوبهم قرحة« لكثرة المنكرات مع عدم تمكّنهم من إنكارها، أو لخوفهم من اللّه أو من الناس. و »القرض« ورق السلم يدبغ به. و حثالته ما يسقط منه. و »الحلم« المقصّ يجزّ به أوبار الإبل. و قراضته ما يسقط من قرضه و قطعه. ]قوله عليه السلام[ »و ارفضوها ذميمة« أي اتركوا ما حاله الحقارة. و الذمامة. و الشغف الحب الشديد.

 نهج من خطبة له عليه السّلام إنّ الوفاء توأم الصدّق، و لا أعلم جنّة أوقى منه، و لا يغدر من علم كيف المرجع. و لقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا، و نسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. ما لهم قاتلهم اللّه قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة، و دونه مانع من أمر اللّه و نهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين.

بيان الوفاء لزوم العهد و البقاء عليه كما ينبغي و يكون في الأفعال و الأقوال. و الصّدق يعمّ العهد و غيره فبينهما عموم من وجه. و قد يقال الوفاء في الإنشاء ]خاصّة[ و الصّدق في الأخبار، و لا يجتمعان. و يردّه صادق الوعد و إن كان مجازا، و المراد تلازمهما غالبا مع تشاركهما في الفضل، و ترتّب الآثار الحسنة. و »المرجع« مصدر، أي الرجوع إلى اللّه. أو اسم مكان. و الكيس الفطنة و الذكاء. و الضمير في »فيه« راجع إلى الزمان أو الغدر. و »الحوّل القلّب« هو الذي كثر تحوّله و تقلّبه في الأمور و جرّبها و عرف وجوهها. و الوجه الجهة. و الضّمير في ]قوله[ »دونه« يعود إليه أي قبل الوصول إليه. أو إلى »الحوّل« أي أمامه. و في بعض النّسخ »دونها« فيعود إلى الحيلة. »رأي عين« أي رؤية معاينة فهو منصوب على المصدر من ]قوله[ »يدع« بتقدير موصوف أي يتركها تركا معاينا غير ناش عن غفلة، أو ]منصوب[ على الحاليّة أي حال كونها مرئيّة له. و جوّز بعضهم في قوله تعالى » يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ« [13-  آل عمران 3] أن يكون ظرف مكان. و الحريجة التحرّج، و هو التحرّز من الحرج و الإثم. و قيل الحريجة التقوى.

 نهج من كلام له عليه السلام في ذمّ أهل العراق أمّا بعد يا أهل العراق، فإنّما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلمّا أتمّت أملصت و مات قيّمها، و طال تأيّمها و ورثها أبعدها. أما و اللّه ما أتيتكم اختيارا، و لكن جئت إليكم سوقا. و لقد بلغني أنكم تقولون »عليّ يكذب«، قاتلكم اللّه فعلى من أكذب أ على اللّه فأنا أوّل من آمن به أم على نبيّه فأنا أوّل من صدّقه كلّا و اللّه، و لكنّها لهجة غبتم عنها و لم تكونوا من أهلها، ويل أمّه كيلا بغير ثمن لو كان له وعاء وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.

توضيح »أملصت« ألقت ولدها ميّتا. و المملاص معتادته. و قيّم المرأة زوجها لأنّه يقوم بأمرها. و تأيّم المرأة خلوّها من الزوج. و ]قوله عليه السلام[ »]و ورثها[ أبعدها« أي من لم يكن له قرابة الولد و نحوه. و التشبيه بالمرأة الموصوفة لأنّهم تحمّلوا مشاقّ الحرب، فلمّا قرب الظّفر رضوا بالتحكيم و حرموا الظفر، و صار بعضهم خوارج و بعضهم شكّاكا. و المراد بالسّوق الاضطراري، كأنّ القضاء ساقه عليه السلام إليهم، فإنّه خرج لقتال أهل الجمل، و احتاج إلى الاستنصار بأهل الكوفة، و اتّصلت تلك الفتن بفتنة أهل الشام، فاضطرّ إلى المقام بينهم. و في بعض النّسخ »و لا جئتكم شوقا«. و »قاتلكم اللّه« أي قتلكم اللّه أو لعنكم اللّه. و »كلّا« للرّدع و الإنكار. أو بمعنى حقّا. و اللّهجة اللّسان، و يتجوّز بها عن الكلام. و المراد إمّا لهجته عليه السلام أي ]إنّ[ ما أخبركم به أمور غابت عقولكم الضعيفة عن إدراكها و لستم أهلا لفهمها. أو لهجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أي سمعت كلامه صلّى اللّه عليه و آله، و لم تسمعوه و لو سمعتموه لم تكونوا من أهله. و الويل حلول الشرّ ]أ[ و كلمة عذاب، أو واد في جهنّم. و إضافته إلى الأمّ، دعاء عليها بأن تصاب بأولادها، من قبيل »ثكلته أمّه«. و الضمير ]في »أمّه«[ راجع إلى المكذّب. و قيل ]الضمير راجع[ إلى ما دلّ عليه الكلام من العلم الذي خصّه به الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و يقال هذه الكلمة قد تطلق للتّعجّب و الاستعظام، يقال ويل أمّه فارسا، و مرادهم التعظيم و المدح. و »كيلا« انتصب لأنّه مصدر في موضع الحال أو تمييز أي أنا أكيل لكم العلم و الحكمة كيلا، و لا أطلب لذلك ثمنا لو وجدت حاملا للعلم. و قيل الكلمة تستعمل للتّرحم و التعجب، و الضمير راجع إلى الجاهل المكذّب، فالمفاد التّرحّم عليهم لجهلهم، أو التّعجّب من قوّة جهلهم، أو من كثرة كيله للحكم عليهم مع إعراضهم عنها. و قال ]ابن الأثير في مادّة »ويل« من كتاب[ النهاية قد يرد الويل بمعنى التعجّب. و منه الحديث »ويل أمّه مسعر حرب« تعجّبا من شجاعته و جرأته و إقدامه، و منه حديث علي عليه السّلام »و يلمّه كيلا بغير ثمن لو أنّ له وعاء« أي يكيل العلوم الجّمة بلا عوض، إلّا أنّه لا يصادف واعيا. و قيل »وي« كلمة مفردة. ]»و لأمّه« أيضا كلمة مفردة[ و هي كلمة تفجّع و تعجّب، و حذفت الهمزة من »أمّه« تخفيفا، و ألقيت حركتها على اللام، و ينصب ما بعدها على التمييز. انتهى. و الحين بالكسر الدهر أو وقت مبهم يصلح لجميع الأزمان طال أو قصر، و المعنى لتعلمنّ ثمرة تكذبكم و إعراضكم عمّا أبيّن لكم، و أنّي صادق فيما أقول.

 نهج من خطبة له عليه السّلام أمّا بعد، فإنّ اللّه سبحانه لم يقصم جبّاري دهر قطّ، إلّا بعد تمهيل و رخاء. و لم يجبر عظم أحد من الأمم، إلّا بعد أزل و بلاء. و في دون ما استقبلتم من خطب ]عتب »خ«[ و استدبرتم من خطب ]خصب »خ«[ معتبر، و ما كلّ ذي قلب بلبيب، و لا كلّ ذي سمع بسميع، و لا كلّ ذي ناظر ببصير. فيا عجبا و ما لي لا أعجب من خطإ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصّون أثر نبيّ و لا يقتدون بعمل وصي، و لا يؤمنون بغيب، و لا يعفّون عن عيب يعملون في الشبهات و يسيرون في الشّهوات، المعروف فيهم ما عرفوا، و المنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، و تعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأنّ كلّ امرئ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرى وثيقات و أسباب محكمات.

بيان القصم الكسر. و التمهيل التأخير و كذلك الإرجاء و الرّخاء سعة العيش. و الجبر إصلاح الكسر ]و هو هنا[ كناية عن دفع الجبّارين و الظالمين. ]قوله[ »و في دون« أي ]في[ أقلّ من ذلك. و الأزل بالفتح الضيق و الشدّة. ]قوله[ »ما استقبلتم من خطب« أي شأن و أمر و داهية. و روي »من عتب« أي مشقّة. قيل يعني ما لاقوه في مستقبل زمانهم من الشيب و ولاة السوء و تنكّر الوقت. »و ما استدبرتم من خطب« يعني ما تقدّم من الحروب و الوقائع الّتي قضوها. و يروى من »خصب« و هو رخاء العيش. فيمكن أن يراد بالأمور المستقبلة و المستدبرة جميعا المواضي باعتبارين. قوله عليه السلام »لا يعفون« في النسخ بالتشديد من العفّة، فالمراد بالعيب عيوب أنفسهم، و في بعضها بالتخفيف فالمراد عيوب غيرهم. ]قوله عليه السلام »يعملون[ في الشبهات« ]لفظة[ »في« بمعنى الباء، أو فيه توسّع. قوله عليه السلام »]المعروف فيهم[ ما عرفوا« أي بعقولهم و أهوائهم. ]و قوله عليه السلام[ »قد أخذ منها« الضمير راجع إلى النفس أو إلى المبهمات و المعضلات.

 نهج من خطبة له عليه السلام في خطاب أصحابه و قد بلغتم من كرامة اللّه منزلة، تكرم بها إماؤكم، و توصل بها جيرانكم، و يفضّلكم من لا فضل لكم عليه و لا يدلكم عنده، و يهابكم من لا يخاف لكم سطوة و لا لكم عليه إمرة، و قد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تغضبون، و أنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون. و كانت أمور اللّه عليكم ترد و عنكم تصدر و إليكم ترجع، فمكّنتم الظّلمة من منزلتكم، و ألقيتم إليهم أزمّتكم، و أسلمتم أمور اللّه في أيديهم، يعملون بالشّبهات و يسيرون في الشهوات. و ايم اللّه لو فرّقوكم تحت كلّ كوكب، لجمعكم اللّه لشرّ يوم لهم.

بيان الوصل ضدّ القطع و الهجران. ]و المراد من قوله[ »جيرانكم« أي أهل الذمّة و المعاهدين، و يحتمل المجاورين في المسكن. قوله عليه السلام »من لا فضل لكم عليه« كتعظيم الروم و الحبشة مسلمي العرب. قوله عليه السلام »من لا يخاف لكم سطوة« كالملوك في أقاصي البلاد، لما شاع و ذاع من أنّهم قوم صالحون، إذا دعوا اللّه استجاب لهم، و ينصرهم بملائكته كما قيل. قوله عليه السلام »و أنتم« الواو للحال. و الذمّة العهد و الأمان و الضمان و الحرمة و الحقّ. و أنف كفرح استنكف. و الغرض توبيخهم على تركهم إنكار المنكرات. و المراد بنقض العهود ما ظهر من الناكثين و القاسطين و المارقين و غيرهم من نقض البيعة و قتل المسلمين و الإغارة عليهم، و لا ريب أنّ السكوت عن إنكار تلك المنكرات مع الاستنكاف عن نقض ذمم الآباء، يدلّ على أنّ عهود اللّه أضعف عندهم من عهود آبائهم، و هو في حدّ الكفر. ]قوله عليه السّلام[ »و كانت أمور اللّه عليكم ترد« أي و أنتم المخاطبون بالأوامر و النواهي، أو كنتم قبل ذلك في أيّام الرسول صلّى اللّه عليه و آله، موارد أمور اللّه و مصادرها، مطيعين له منكرين للمنكرات. و كأنّ المراد بالورود، السؤال. و بالصدور، الجواب، و بالرجوع، التحاكم. و يمكن تعميم الورود و الصدور، فالمراد بالرجوع. رجوع النفع و الضرّ في الدارين. و قيل أي كانت أمور اللّه عليكم ترد أي بتعليمي لكم، و عنكم تصدر إلى من تعلّمونه إيّاها، ثمّ إليكم ترجع بأن يتعلّمها بنوكم و إخوتكم منهم. ]قوله عليه السلام[ »لشرّ يوم« أي يوم ظهور المسودة، أو خروج المهدي عليه السلام. و الجمع في الرجعة، أو المراد جمع صنفهم.

 نهج ]و[ من خطبة له عليه السلام و لقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله، أنّي لم أردّ على اللّه سبحانه و لا على رسوله ساعة قطّ، و لقد واسيته ]آسيته »خ«[ في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، و تتأخّر الأقدام، نجدة أكرمني اللّه بها. و لقد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إنّ رأسه لعلى صدري، و قد سالت نفسه في كفّي، فأمررتها على وجهي. و لقد وليت غسله صلّى اللّه عليه و آله و الملائكة أعواني، فضجّت الدّار و الأفنية، ملأ يهبط و ملأ يعرج، و ما فارقت سمعي هينمة منهم، يصلّون عليه حتّى واريناه في ضريحه. فمن ذا أحقّ به منّي حيا و ميّتا، فانفذوا على بصائركم، و لتصدق نيّاتكم في جهاد عدوّكم، فو الّذي لا إله إلّا هو، إنّي لعلى جادّة الحقّ، و إنّهم لعلى مزلّة الباطل. أقول ما تسمعون و أستغفر اللّه ]العظيم »خ«[ لي و لكم.

بيان استحفظته الشّي‏ء أودعته عنده و سألته أن يحفظه. و »المستحفظون« على بناء المفعول المطّلعون على أسرار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سيرته، الصّادقون في الشهادة الذي لم يغيّروا و لم يبدّلوا للأغراض الدنيويّة. و قال ابن أبي الحديد الظاهر أنّه عليه السلام يومئ في قوله »لم أردّ على اللّه...« إلى أمور وقعت عن غيره. ثمّ ذكر أمورا كثيرة من مخالفات عمر و معارضاته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و ]أيضا[ قال ]ابن أبي الحديد[ في ]شرح[ قوله عليه السلام »و لقد آسيته بنفسي« يقال واسيته، بالهمزة أفصح. و هذا مما اختصّ عليه السلام بفضيلته غير مدافع، ثبت معه يوم أحد. و فرّ الناس، و ثبت معه يوم حنين و فرّ الناس، و ثبت يوم خيبر حتّى فتحها و فرّ من كان بعث بها قبله. انتهى. و قال الجوهري نكص ينكص ]من باب ضرب[ و ينكص ]من باب نصر[ رجع. و »نجدة« منصوب على المصدر لفعل محذوف و هي الشجاعة. ]قوله عليه السلام[ »و إنّ رأسه لعلى صدري« قيل لعلّه أسنده إلى صدره عند اشتداد علّته، أو كان رأسه صلّى اللّه عليه و آله على ركبته، فيكون رأسه في صدره عند إكبابه عليه. و قد يقال المراد بسيلان النفس، هبوب النّفس عند انقطاع الأنفاس. و قيل أراد بنفسه دمه. يقال إنّ رسول اللّه قاء عند وفاته دما يسيرا، و أنّ عليا مسح بذلك وجهه. و لا ينافي ذلك نجاسة الدم لجواز أن يخصّص دم الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و الضجيج الصياح عند المكروه و الجزع. و الهيمنة الكلام الخفيّ لا يفهم. و الصلاة تحتمل الحقيقة و الدعاء. و انتصاب قوله »حيا و ميتا« بالحالية عن الضمير المجرور في ]قوله[ »به«، لا عن الضمير في »منّي« كما لا يخفى. قوله عليه السلام »فانفذوا« أي أسرعوا إلى الجهاد على بصيرة منكم. و المزلّة الموضع الذي يزلّ فيه الإنسان كالمزلقة.

949-  نهج ]و[ من له كلام عليه السلام أيّها ]أيّتها »خ«[ النّفوس المختلفة، و القلوب المتشتّتة الشّاهدة أبدانهم، و الغائبة عنهم عقولهم، أظأركم على الحقّ و أنتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الأسد، هيهات أن أطلع بكم سرار العدل، أو أقيم اعوجاج الحقّ. اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، و لا التماس شي‏ء من فضول الحطام و لكن لنرد المعالم من دينك، و نظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك و تقام المعطّلة من حدودك. اللّهم إنّي أوّل من أناب، و سمع و أجاب، لم يسبقني بالصّلاة إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون على الفروج و الدّماء و المغانم و الأحكام و إمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، و لا الجاهل فيضلّهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه، و لا الحائف للدّول فيتّخذ قوما دون قوم، و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق بها دون المقاطع، و لا المعطّل للسنّة فيهلك الأمّة.

بيان »الغائبة عنهم عقولهم« غيبة العقول عن أربابها، أبلغ في الدلالة من غيبتها عمّن اعتبر الشهود بالنّسبة إليه. »أظأركم« أي أعطفكم. يقال ظأرت الناقة إذا عطفت على ولد غيرها. و قال الجوهري المعز من الغنم خلاف الضأن، و هو اسم جنس، و كذلك المعزى. و الوعوعة الصوت. قوله عليه السلام »هيهات« قال ابن أبي الحديد يفسّره الناس بمعنى هيهات أن أطلعكم مضيئين و منوّرين سرار العدل و السرّار آخر ليلة من الشهر، و تكون مظلمة، و يمكن أن يفسّر بوجه آخر، و هو أن يكون السرار بمعنى السّرور و هو خطوط مضيئة في الجبهة و هو نصّ أهل اللّغة على أنّه يجوز فيه السّرار. قالوا و يجمع السرار على أسرّة. و يقولون برقت أسرة وجهه، فالمعنى هيهات أن تلمع بكم لوامع العدل و يبرق وجهه و يمكن أن ينصب »سرار« على الظرفية، و يكون التقدير هيهات أن أطلع بكم الحقّ زمان استسراره و استخفائه، فيكون قد حذف المفعول و حذفه كثير. و قال الكيدري سرار الشهر و سرره آخر ليلة منه. و السرار المسارّة من السّر. و جمع سرر الكتف و الجبهة و »سرار العدل« أي في سرار ]العدل[ فحذف حرف الجرّ و وصل الفعل. و قيل أي هيهات أن أظهر بمعونتكم ما خفي و استسرّ من أقمار العدل و أنواره انتهى. ]أقول[ و لعلّ المراد ب »الذي كان« ]هو[ الرغبة في الخلافة أو الحروب أو الجميع. و »لم يكن« ناقصة، و »كان« تامّة. و المنافسة المغالبة في الشي‏ء. و »الحطام« ما تكسّر من اليبس، و هو كناية عن متاع الدنيا. و المراد بفضوله زخارفها و زينتها و ما لا يحتاج إليه منها. و معالم الدين الآثار التي يهتدى بها. و الإنابة الرجوع. قوله عليه السلام »نهمته« أي حرصه و جشعه على أموال رعيّته. و من رواه »نهمة« بالتحريك فهي إفراط الشهوة في الطعام. و الجفاء خلاف البرّ و الصلة، و رجل جافي الخلقة و الخلق أي منقبض غليظ. ]قوله عليه السلام[ »فيقطعهم« أي عن الوصول إليه أو عن حاجاتهم أو بعضهم عن بعض لتفرّقهم. و الأوّل أظهر و إن لم يكن يذكره أحد. قوله عليه السّلام »و لا الحائف« بالحاء المهملة من الحيف و هو الظلم و الجور. و الدول بضمّ الدال المهملة جمع الدّولة بالضم و هي اسم المال المتداول، قال اللّه تعالى كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي إذا لم يقسم الإمام بالسّوية، و يخصّ بالمال بعضهم دون بعض، فيتّخذ قوما دون قوم فيفرّق المسلمين. و روي »الخائف« بالمعجمة. و الدول بكسر الدال جمع دولة بالفتح و هي الغلبة أي من يخاف دول الأيّام و تقلّب الدهور، فيتّخذ قوما يتوقّع نفعهم في دنياه، و يقوّيهم و يضعف آخرين. قوله عليه السلام »دون المقاطع« أي يقف عند مقطع الحكم فلا يقطعه، بأن يحكم بالحقّ بل يحكم بالباطل، أو يسوّف الحكم حتّى يضطر المحقّ و يرضى بالصلح، فيذهب بعض حقّه. و يحتمل أن يكون »دون« بمعنى »غير« أي يقف في غير مقطعه. و قال ابن أبي الحديد فإن قلت أ فتراه عنى بهذا قوما بأعيانهم قلت الإمامية تزعم أنّه رمز بالجفاء و العصبيّة لقوم دون قوم إلى عمر. و رمز بالجهل إلى من كان قبله، و رمز بتعطيل السنّة إلى عثمان و معاوية. انتهى. و الأظهر أنّ المراد بالبخيل ]هو[ عثمان، لما هو المعلوم من أكله أموال المسلمين و لما مرّ منه عليه السلام في ]الخطبة[ الشقشقية. و ]المراد[ ب »الجاهل« جميعهم. و ب »الجافي« عمر كما مرّ ]أيضا[ في ]الخطبة[ الشقشقية. و ب »الحائف للدول« عمر و عثمان كما هو المعلوم من سيرتهما. و ب »المعطّل للسنّة« أيضا جميعهم.

 نهج ]و[ من خطبة له عليه السّلام ليتأس صغيركم بكبيركم، و ليرؤف كبيركم بصغيركم، و لا تكونوا كجفاة الجاهليّة، لا في الدّين يتفقّهون، و لا عن اللّه يعقلون، كقيض بيض في أداح يكون كسره وزرا، و يخرج حضانها شرّا. ]و[ منها افترقوا بعد ألفتهم، و تشتّتوا عن أصلهم، فمنهم آخذ بغصن أينما مال مال معه، على أنّ اللّه تعالى سيجمعهم لشرّ يوم لبني أميّة، كما تجتمع قزع الخريف، يؤلّف اللّه بينهم ثمّ يجعلهم ركاما كركام السّحاب، ثمّ يفتح اللّه لهم أبوابا يسيلون من مستثارهم كسيل الجنّتين، حيث لم تسلم عليه قارة، و لم تثبت له أكمة، و لم يردّ سننه رصّ طود، و لا حداب أرض. يذعذعهم اللّه في بطون أوديته، ثمّ يسلكهم يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ، يأخذ بهم من قوم حقوق قوم، و يمكّن لقوم في ديارهم قوم. و ايم اللّه ليذوبنّ ما في أيديهم بعد العلوّ و التمكين، كما تذوب الألية على النار. أيّها النّاس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحقّ، و لم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، و لم يقو من قوي عليكم، لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل. و لعمري ليضعّفنّ لكم التيه من بعدي أضعافا بما خلّفتم الحقّ وراء ظهوركم، و قطعتم الأدنى و وصلتم الأبعد. و اعلموا أنّكم إن اتّبعتم الدّاعي لكم، سلك بكم منهاج الرّسول، و كفيتم مئونة الاعتساف، و نبذتم الثقل الفادح عن الأعناق.

إيضاح ]لزوم[ تأسّي الصغير بالكبير، لأنّه أكثر تجربة و أحزم. و قال الكيدري أي ليتأسّ من صغر منزلته في العلم و العمل بمن له متانة فيهما، و ليرحم كلّ من له جاه و منزلة في الدنيا بالمال و القوّة كلّ من دونه. و »القيض« بالفتح قشرة البيض العليا اليابسة. و قيل التي خرج ما فيها من فرخ أو ماء. و في بعض النسخ »كبيض هيض« أيّ كسر. و الأداحي جمع الأدحي بالضمّ، و قد يكسر و هو الموضع الذي تبيض فيه النعامة و تفرخ، و هو أفعول من دحوت لأنّها تدحوه برجلها أي تبسطه، ثمّ تبيض فيه و ليس للنعام عشّ. و قال ابن أبي الحديد وجه الشبه، أنّه إن كسرها كاسر أثم لأنّه يظنّ بيض القطاة، و إن لم يكسر، يخرج حضانها شرّا، إذ يخرج أفعى قاتلا. و استعار لفظ الأداحي للأعشاش مجازا لأنّ الأداحي لا يكون إلّا للنعام. و قال ابن ميثم نهاهم أن يشبهوا جفاة الجاهليّة في عدم تفقّههم في الدين، فيشبهون إذا بيض الأفاعي في أعشاشها. و وجه الشّبه أنّه إن كسره كاسر أثم لتأذّي الحيوان به، فكذلك هؤلاء إذا أشبهوا جفاة الجاهلية، لا يحلّ أذاهم لحرمة الإسلام، و إن أهملوا و تركوا على الجهل، خرجوا شياطين. و الحضان بالكسر مصدر، حضن الطائر بيضه إذا ضمّه إلى نفسه تحت جناحه، و هو مرفوع بالفاعليّة. قوله عليه السلام »افترقوا...« يذكر حال أصحابه و شيعته. و قال ابن أبي الحديد الأخذ بالغصن من تمسّك بعده عليه السلام بذرّية الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و تقدير الكلام و منهم من لا يكون كذلك. ثمّ ذكر عليه السّلام أنّ الفريقين يجتمعان لشرّ يوم. و »القزع« جمع قزعة و هي سحب صغار تجتمع فتصير ركاما، و الركام ما كثف من السحاب. و »مستثارهم« موضع ثورانهم و هيجانهم. و الجنّتان هما اللّتان ذكرهما اللّه في القرآن في قصّة أهل سبإ. و القارّة الجبل الصغير. و الأكمة الموضع يكون أشدّ ارتفاعا ممّا حوله، و هو غليظ لا يبلغ أن يكون حجرا. و »سننه« طريقه. و طود مرصوص أي جبل شديد التصاق الأجزاء بعضها ببعض. و الحداب جمع حدبة و هي الروابي و النجاد. و الذعذعة التفريق و لعلّها كناية عن اختفائهم بين الناس، ثمّ إظهارهم بالإعانة و التأييد. و المراد بالقوم ثانيا آل الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و هو إشارة إلى ظهور بني عباس و انقراض بني أميّة. و قوله عليه السلام »و ايم اللّه ليذوبنّ ما في أيديهم« يحتمل أن يكون إشارة إلى ذهاب ملك بني أميّة أو بني العباس. و تاه في الأرض ذهب متحيرا، و المتاه مصدر. و المراد بالأدنى نفسه عليه السلام، و بالأبعد من تقدم عليه. و ]المراد ب[ الداعي هو عليه السلام أو القائم عليه السلام. و الاعتساف سلوك غير الطريق. و فدحه الدين أثقله. و المراد بالثقل الفادح الإثم و العذاب في الآخرة أو الأعمّ.

951-  نهج ]و[ من خطبة له عليه السّلام أمّا بعد أيّها الناس فأنا فقأت عين الفتنة، و لم يكن ليجترئ عليها أحد غيري، بعد أن ماج غيهبها و اشتدّ كلبها. فاسألوني قبل أن تفقدوني، فو الذي نفسي بيده لا تسألونني عن شي‏ء فيما بينكم و بين الساعة، و لا عن فئة تهدي مائة و تضلّ مائة، إلّا أنبأتكم بناعقها و قائدها و سائقها، و مناخ ركابها و محطّ رحالها، و من يقتل من أهلها قتلا و من يموت منهم موتا و لو قد فقدتموني و نزلت ]بكم »خ«[ كرائه الأمور و حوازب الخطوب، لأطرق كثير من السّائلين، و فشل كثير من المسئولين، و ذلك إذا قلّصت حربكم، و شمّرت عن ساق، و ضاقت ]و كانت »خ«[ الدّنيا عليكم ضيقا تستطيلون معه أيّام البلاء عليكم، حتّى يفتح اللّه لبقيّة الأبرار منكم. ألا إنّ الفتن إذا أقبلت شبّهت، و إذا أدبرت نبّهت، ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات، يحمن حوم الرياح يصبن بلدا و يخطئن بلدا. ألا ]و[ إنّ أخوف الفتن عندي عليكم، فتنة بني أميّة، فإنها فتنة عمياء مظلمة، عمّت خطّتها، و خصّت بليّتها، و أصاب البلاء من أبصر فيها، و أخطأ البلاء من عمي عنها. و ايم اللّه لتجدنّ بني أميّة لكم أرباب سوء بعدي، كالنّاب الضّروس، تعذم بفيها، و تخبط بيدها، و تزبن برجلها، و تمنع درّها. لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا منكم إلّا نافعا لهم، أو غير ضائر بهم. و لا يزال بلاؤهم حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلّا مثل انتصار العبد من ربّه، و الصاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة، و قطعا جاهليّة، ليس فيها منار هدى و لا علم يرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة، و لسنا فيها بدعاة. ثمّ يفرّجها اللّه عنكم كتفريج الأديم، بمن يسومهم خسفا، و يسوقهم عنفا، و يسقيهم بكأس مصبّرة لا يعطيهم إلّا السيف، و لا يحلسهم إلّا الخوف، فعند ذلك تودّ قريش بالدنيا و ما فيها لو يروني ]يرونني »خ«[ مقاما واحدا، و لو قدر جزر جزور، لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونني.

إيضاح قال ابن أبي الحديد هذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السيرة، و هي متداولة منقولة مستفيضة خطب بها عليّ عليه السلام بعد انقضاء أمر النّهروان، و فيها ألفاظ لم يوردها الرّضي رحمه اللّه. ثمّ ذكر بعض الألفاظ المتروكة منها

 قوله عليه السلام »و لم يكن ليجترئ عليها غيري، و لو لم أك فيكم ما قوتل أهل الجمل و النهروان. و ايم اللّه لو لا أن تتّكلوا فتدعوا العمل، لحدّثتكم بما قضى اللّه عزّ و جلّ على لسان نبيكم صلّى اللّه عليه و آله، لمن قاتلهم مبصرا لضلالتهم، عارفا للهدى الذي نحن عليه. سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّي ميّت عن قريب أو مقتول، بل قتلا. ما ينتظر أشقاها أن يخضب هذه بدم هذه و ضرب ]عليه السلام[ بيده على لحيته.

 و منها في ذكر بني أميّة يظهر أهل باطلها على أهل حقّها حتّى يملأ الأرض عدوانا و ظلما و بدعا، إلى أن يضع اللّه عزّ و جلّ جبروتها، و يكسر عمدها، و ينزع أوتادها. ألا و إنّكم مدركوها، فانصروا قوما كانوا أصحاب رايات بدر و حنين تؤجروا، و لا تمالئوا عليهم عدوّهم، فيصير عليهم البليّة و يحلّ بكم النّقمة.

 و منها إلّا مثل انتصار العبد من مولاه، إذا رآه أطاعه، و إذا توارى عنه شتمه. و ايم اللّه لو فرّقوكم تحت كلّ حجر لجمعكم اللّه لشرّ يوم لهم.

 و منها فانظروا أهل بيت نبيكم فإن لبدوا فالبدوا، و إن استنصروكم فانصروهم، فليفرّجنّ اللّه ]الفتنة[ برجل منّا أهل البيت. بأبي ابن خيرة الإماء، لا يعطيهم إلّا السيف هرجا هرجا، موضوعا على عاتقه ثمانية أشهر، حتّى تقول قريش لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا. يغريه اللّه ببني أميّة، حتّى يجعلهم حطاما و رفاتا » مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا«.

 ثمّ قال ]ابن أبي الحديد[ فإن قيل فمن هذا الرجل الموعود به قيل أمّا الإماميّة فيزعمون أنّه إمامهم الثاني عشر، و أنّه ابن أمة اسمها نرجس. و أمّا أصحابنا، فيزعمون أنّه فاطمي يولد في مستقبل الزمان، لأمّ ولد و ليس بموجود الآن. فإن قيل فمن يكون من بني أميّة في ذلك الوقت موجودا حتّى ينتقم منهم قيل أمّا الإماميّة فتقول بالرجعة، و يزعمون أنّه سيعاد قوم بأعيانهم من بني أمية و غيرهم، إذا ظهر إمامهم المنتظر، و أنّه يقطع أيدي أقوام و أرجلهم، و يسمل عيون بعضهم و يصلب قوما آخرين، و ينتقم من أعداء آل محمّد عليهم السلام المتقدّمين ]منهم[ و المتأخّرين. و أمّا أصحابنا فيزعمون أنّه سيخلق اللّه تعالى في آخر الزمان رجلا من ولد فاطمة عليها السّلام يستولي على السفياني و أشياعه من بني أميّة. ثمّ قال فإن قيل لما ذا خصّ أهل الجمل و أهل النهروان بالذّكر، و لم يذكر ]أهل[ صفّين قيل لأنّ الشبهة كانت في أهل الجمل و أهل النهروان ظاهرة الالتباس، أمّا أهل الجمل ]ف[ لحسن ظنّهم بطلحة و الزبير، و كون عائشة زوجة الرسول صلّى اللّه عليه و آله معهم. و أمّا أهل النهروان، فكانوا أهل قرآن و عبادة و اجتهاد، و عزوف عن الدنيا، و هم كانوا قرّاء العراق و زهّادها. و أمّا معاوية، فكان فاسقا مشهورا بقلّة الدين و الانحراف عن الإسلام، و كذلك ناصره و مظاهره على أمره، عمرو بن العاص و من اتّبعهما من طغام أهل الشام و أجلافهم و جهّال الأعراب، فلم يكن أمرهم خافيا في جواز قتالهم و محاربتهم. انتهى. قوله عليه السّلام »فأنا فقأت« يقال فقأت العين أي شققتها أو قلعتها بشحمها، أو أدخلت الإصبع فيها. و فقأ عين الفتنة كسر ثورانها. و حذف المضاف أي عين أهلها بعيد. و عدم اجتراء غيره عليه السلام على إطفاء تلك الفتنة لأنّ الناس كانوا يهابون قتال أهل القبلة، و يقولون كيف نقاتل من يؤذّن كأذاننا و يصلّي بصلاتنا و الغيهيب الظلمة و تموّجها و عمومها و شمولها، تشبيها لها بالبحر. و الكلب بالتحريك داء يعرض الإنسان من عضّ الكلب، و العطش. و المراد شرّها و أذاها. و الفئة الطائفة و الجماعة ]و[ لا واحد لها من لفظها. و ناعقها الداعي لها، أو إليها. و المناخ بضمّ الميم موضع الإناخة. و الركاب الإبل التي يسار عليها. و الواحدة راحلة و الرحل بالفتح كلّ شي‏ء يعدّ للرحيل. و حططت الرحل أنزلته عن الإبل. و المحطّ اسم مكان. و قيل هو و المناخ مصدران. و الكريهة النازلة و كرائه الأمور المصائب التي تكرهها النفوس. و الحوازب جمع حازب. و هو الأمر الشديد، و حزبه أمر اشتدّ عليه و دهمه. و الخطب بالفتح الشأن و الحال و الأمر الذي تقع فيه المخاطبة. و الإطراق السكوت، و إطراق السائل لصعوبة الأمر و شدّته ]عليه[ حتّى أنّه يبهته عن السؤال و يتحيّر كيف يسأل. و الفشل الجبن و الضعف. قوله عليه السّلام »و ذلك« أي النّزول و الإطراق و الفشل. و »قلّصت« بالتشديد أي اجتمعت و انضمّت.. و الحرب إذا كانت في موضع واحد يكون أشدّ و أصعب و يكون التشديد للمبالغة. و هي بالتخفيف بمعنى ارتفعت فالمراد شدّتها و كثرتها.

 و يقال ]هي[ بالتشديد بمعنى استمرّت في المضيّ. و يقال قلص قميصه فقلّص تقليصا أي شمّر. لازم ]و[ متعدّ. و في بعض النسخ »قلصت حربكم عن ساق« بدون كلمة »شمّرت«. و يروى »إذا قلصت عن حربكم« بالتخفيف أي إذا انكشفت كرائه الأمور و حوازب الخطوب عن حربكم. و »شمّرت عن ساق« أي كشفت عن شدّة و مشقّة كما قيل في قوله تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ. و قيل كشف الساق مثل في اشتداد الأمر و صعوبة الخطب. و أصله تشمير المخدّرات عن سوقهنّ في الهرب. و قيل يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ أي عن أصل الأمر و حقيقته بحيث يصير عيانا. و يحتمل أن يكون الغرض تشبيه الحرب بالمجدّ في أمر، فإنّ الإنسان إذا جدّ في السعي شمّر عن ساقه و رفع ثوبه لئلّا يمنعه. و استطالة الأيّام عدّها طويلة. و يوم البؤس و الشدّة يطول على الإنسان. و لعلّ المراد ببقيّة الأبرار، أولادهم و إن لم يكونوا أبرارا في أنفسهم، إن كان ]الكلام[ إشارة إلى دولة بني العباس. و الأظهر أنّه ]عليه السلام[ أراد القائم عليه السلام. قوله عليه السلام »شبهت« على المعلوم أي جعلت نفسها أو الأمور الباطلة شبيهة بالحقّ. أو على ]بناء[ المجهول أي أشكل أمرها و التبس على الناس. قوله عليه السلام »نبهت« أي أيقظت القوم من النوم، و أظهرت بطلانها عليهم. »ينكرن« أي لا يعرف حالهنّ. و حام الطائر حول الماء إذا طاف و دار لينزل عليه. و ]قوله عليه السلام[ »حوم الرياح« أي كحومها. و الخطّة بالضّم شبه القصّة و الأمر و الخطب. و عموم خطّة تلك البليّة لكونها رئاسة عامّة و سلطنة شاملة. و خصوص البليّة لكون حظّ أهل البيت عليهم السلام و شيعتهم منها أوفر. و إصابة البلاء من أبصر فيها، لحزن المبصر من مشاهدة أفعالهم الشنيعة، و قصدهم إيّاه بأنواع الأذى بخلاف الجاهل المنقاد لهم. و يطلق الرب على المالك و السيّد و المدبّر و المربّي و المنعم. و الباب الناقة المسنّة. و الضروس السيّئة الخلق تعضّ حالبها. و عذم الفرس كضرب إذا أكل بجفاء أو عضّ. و خبط البعير إذا ضرب بيده الأرض شديدا. و الزبن الدفع. و زبنت الناقة إذا ضربت بثفنات رجلها عند الحلب. و الدّرّ اللّبن. و يقال لكلّ خير على التوسّع. قوله عليه السلام »لا يزالون بكم« أي لا يزالون يؤذونكم بأنواع الأذى حتّى لا يبقى منكم إلّا من ينفعهم في مقاصدهم، أو لا يضرّهم بإنكار المنكرات عليهم. و الضائر المضرّ. و الانتصار الانتقام. و الصاحب التابع. و المستصحب المتبوع. و الغرض إمّا نفي إمكان الانتصار، أو إثبات انتصار الأذلّاء و المقهورين، كالغيبة و الذمّ مع الأمن من الوصول إلى المغتاب. و الشوهاء القبيحة. و المخشية المخوّفة. و الجاهلية الحالة التي كانت العرب عليها قبل الإسلام. و المنجاة موضع النجاة. و الغرض خلاصهم من لحوق الآثام و المتابعة في الدعوة إلى الباطل، لا الخلاص من الأذيّة. و الأديم الجلد. و وجه الشبه انكشاف الجلد عمّا تحته من اللّحم. و يحتمل أن يكون المراد بالأديم، الجلد الذي يلفّ الإنسان فيه للتّعذيب لأنّه يضغطه شديدا إذا جفّ و في تفريجه راحة. و يسومهم أي يكلّفهم و يلزمهم. و الخسف النقصان و الذلّ و الهوان. و المصبّرة الممزوجة بالصبر المرّ. و قيل أي المملوءة إلى أصبارها، أي جوانبها. و الحلس بالكسر كساء رقيق يكسى على ظهر البعير تحت البرذعة. و أحلس البعير ألبسه الحلس. و يحتمل أن يكون من الحلس الذي يبسط تحت حرّ الثياب، إشعارا بأنّهم في بيوتهم أيضا خائفون. و هو إشارة إلى ظهور دولة بني العبّاس. و الجزور الناقة التي تجزر. قوله عليه السلام »ما أطلب اليوم بعضه« أي الطاعة و الانقياد، أي يتمنّون أن يروني فيطيعوني إطاعة كاملة، و قد رضيت منهم اليوم بأن يطيعوني إطاعة ناقصة فلم يقبلوا. و قد روي في ]كتب[ السّير أنّ مروان بن محمّد و هو آخر ملوك بني أميّة، قال يوم الزاب لمّا شاهد عبد اللّه بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن العبّاس بإزائه في صفّ خراسان لوددت أنّ عليّ بن أبي طالب تحت هذه الراية بدلا من هذا الفتى. و يحتمل أن يكون التمنّي عند قيام القائم عليه السلام.

 نهج ]و[ من كلام له عليه السلام. فلا أموال بذلتموها للّذي رزقها، و لا أنفس خاطرتم بها للّذي خلقها، تكرمون باللّه على عباده و لا تكرمون اللّه في عباده، فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، و انقطاعكم عن أوصل إخوانكم.

بيان انتصاب ]قوله[ »أموال« بفعل مقدّر دلّ عليه »بذلتموها« و كذلك »أنفس«. و خاطر فلان بنفسه و بماله أي ألقاهما في الهلكة. »تكرمون باللّه« أي يعزّكم الناس بأنّكم أهل طاعة اللّه. »و لا تكرمون اللّه« أي لا تطيعونه في الإحسان إلى عباده، أو ]في[ إجراء أحكامه بينهم.

 نهج من خطبة له عليه السلام روي عن نوف البكالي قال خطبنا ]ب[ هذه الخطبة أمير المؤمنين ]عليه السلام[ و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي، و عليه مدرعة من صوف، و حمائل سيفه ليف ]من ليف »خ«[ و في رجليه نعلان من ليف، و كأنّ جبينه ثفنة بعير فقال الحمد للّه الّذي إليه مصائر الخلق و عواقب الأمر، نحمده على عظيم إحسانه، و نيّر برهانه، و نوامي فضله و امتنانه، حمدا يكون لحقّه قضاء، و لشكره أداء، و إلى ثوابه مقرّبا، و لحسن مزيده موجبا. و نستعين به استعانة راج لفضله مؤمّل لنفعه، واثق بدفعه، معترف له بالطّول، مذعن له بالعمل و القول. و نؤمن به إيمان من رجاه موقنا، و أناب إليه مؤمنا، و خنع له مذعنا و أخلص له موحّدا، و عظّمه ممجّدا، و لاذ به راغبا مجتهدا. لم يولد سبحانه فيكون في العزّ مشاركا، و لم يلد فيكون موروثا هالكا، و لم يتقدّمه وقت و لا زمان، و لا يتعاوره زيادة و لا نقصان، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التّدبير المتقن و القضاء المبرم. فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطّدات بلا عمد، قائمات بلا سند، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات غير متلكّئات و لا مبطّئات، و لو لا إقرارهنّ بالربوبيّة و إذعانهنّ بالطواعية، لما جعلهنّ موضعا لعرشه و لا مسكنا لملائكته و لا مصعدا للكلم الطيّب و العمل الصّالح من خلقه. جعل نجومها أعلاما يستدلّ به الحيران في مختلف فجاج الأقطار. لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف اللّيل المظلم، و لا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع في السّماوات من تلألؤ نور القمر. فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج، و لا ليل ساج في بقاع الأرضين المتطأطئات، و لا في يفاع السّفع المتجاورات، و ما يتجلجل به الرعد في أفق السماء، و ما تلاشت عنه بروق الغمام، و ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء، و انهطال السّماء. و يعلم مسقط القطرة و مقرّها، و مسحب الذّرّة و مجرّها، و ما يكفي البعوضة من قوتها، و ما تحمل الأنثى في بطنها. و الحمد للّه الكائن قبل أن يكون كرسيّ أو عرش أو سماء أو أرض أو جانّ أو إنس. لا يدرك بوهم، و لا يقدّر بفهم، و لا يشغله سائل، و لا ينقصه نائل، و لا ينظر بعين، و لا يحدّ بأين، و لا يوصف بالأزواج، و لا يخلق بعلاج، و لا يدرك بالحواس، و لا يقاس بالنّاس، الذي كلّم موسى تكليما و أراه من آياته عظيما، بلا جوارح و لا أدوات، و لا نطق و لا لهوات. بل إن كنت صادقا أيّها المتكلّف لوصف ربّك فصف جبرئيل و ميكائيل و جنود الملائكة المقرّبين، في حجرات القدس مرجحنّين، متولّهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين. و إنّما يدرك بالصّفات ذوو الهيئات و الأدوات، و من ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفناء. فلا إله إلّا هو، أضاء بنوره كلّ ظلام، و أظلم بظلمته كل نور. أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذي ألبسكم الرّياش، و أسبغ عليكم المعاش، و لو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلما، أو لدفع الموت سبيلا، لكان ذلك سليمان بن داود الذي سخر له ملك الجنّ و الإنس مع النّبوّة، و عظيم الزّلفة، فلمّا استوفى طعمته، و استكمل مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الدّيار منه خالية، و المساكن معطّلة و ورثها قوم آخرون. و إنّ لكم في القرون السالفة لعبرة، أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الّذين قتلوا النّبيّين و أطفئوا سنن المرسلين و أحيوا سنن الجبارين أين الّذين ساروا بالجيوش و هزموا الألوف و عسكروا العساكر و مدّنوا المدائن

]و[ منها قد لبس للحكمة جنّتها، و أخذها بجميع أدبها من الإقبال عليها، و المعرفة بها، و التّفرّغ لها، و هي عند نفسه ضالّته الّتي يطلبها، و حاجته الّتي يسأل عنها، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام، و ضرب بعسيب ذنبه و ألصق الأرض بجرانه بقيّة من بقايا حجّته، خليفة من خلائف أنبيائه.

 ثمّ قال عليه السلام أيّها النّاس إنّي قد بثثت لكم المواعظ الّتي وعظ بها الأنبياء أممهم، و أدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم، و أدّبتكم بسوطي فلم تستقيموا، و حدوتكم بالزّواجر فلم تستوثقوا، للّه أنتم أ تتوقّعون إماما غيري يطأ بكم الطريق و يرشدكم السّبيل ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار، و باعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى. ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص، و يشربون الرنق، قد و اللّه لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم، و أحلّهم دار الأمن بعد خوفهم. أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحقّ أين عمّار و أين ابن التيهان و أين ذو الشهادتين و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة، و أبرد برءوسهم إلى الفجرة قال ]نوف[ ثمّ ضرب يده إلى لحيته و أطال البكاء، ثمّ قال عليه السلام أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه و تدبّروا الفرض فأقاموه و أحيوا السنّة و أماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، و وثقوا بالقائد فاتّبعوا. ثمّ نادى بأعلى صوته. الجهاد الجهاد عباد اللّه ألا و إنّي معسكر في يومي هذا، فمن أراد الرّواح إلى اللّه فليخرج ]فليبرح »خ«[. قال نوف و عقد للحسين عليه السلام في عشرة آلاف، و لقيس بن سعد رحمه اللّه في عشرة آلاف، و لأبي أيّوب الأنصاري ]في[ عشرة آلاف، و لغيرهم على أعداد أخر، و هو يريد الرّجعة إلى صفّين، فما دارت الجمعة حتّى ضربه الملعون ابن ملجم، لعنه اللّه، فتراجعت العساكر. فكنّا كأغنام فقدت راعيها، تختطفها الذئاب من كلّ مكان.

تبيان قد مرّ شرح صدر الخطبة في كتاب التوحيد، و قال ]ابن الأثير[ في ]كتاب[ النهاية الرياش و الريش ما ظهر من اللّباس. و قيل الرياش جمع الريش، و يقع الرياش على الخصب و المعاش و المال المستفاد. و »أسبغ« أي أكمل و أوسع. و المعاش و المعيشة مكسب الإنسان الّذي يعيش به. و السلّم كسكّر ما يرتقى عليه. و استعمل هنا في الوسيلة. و كون النّبوّة و الزّلفة أي القرب و المنزلة من الوسائل إلى البقاء، لاستجابة الدعاء معهما، فهما مظنّتان للتوصّل إلى البقاء في الباطن، كما أنّ السلطنة الكاملة مظنّة لأن تكون وسيلة إليه في الظّاهر. و الطعمة الرزق المقدّر. و القسيّ جمع القوس. و النبل السهّام العربيّة، لا واحد من لفظها. و قال ابن أبي الحديد نبال الموت أسبابه. و الإضافة البيانية للمبالغة بعيدة. و العمالقة أولاد عمليق أو عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح. و الفراعنة ملوك مصر. و قد مضى ذكر أصحاب الرّسّ. و عسكروا ]العساكر[ أي جمعوها. و مدّنوا المدائن أي بنوها. قوله عليه السّلام »قد لبس للحكمة جنّتها« إشارة إلى القائم عليه السلام كما ذكره ابن أبي الحديد نقلا عن الإماميّة. و »التفرّغ لها« أي عن العلائق و الشواغل. قوله عليه السلام »ضالّته« إشارة إلى قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم »الحكمة ضالّة المؤمن«. قوله عليه السلام »فهو مغترب« أي هذا الشخص يخفي نفسه و يخملها إذا ظهر الفسق و الجور و اغترب الإسلام باغتراب العدل و الصلاح، و هو إشارة إلى غيبة القائم عليه السلام. و قال ]ابن الأثير[ في ]مادّة »ذنب« من كتاب[ النهاية في حديث عليّ عليه السلام أنّه ذكر فتنة فقال »إذا كان ذلك ضرب يعسوب الدين بذنبه« أي فارق أهل الفتنة و ضرب في الأرض ذاهبا في أهل دينه و أتباعه الذين يتّبعونه على رأيه و هم الأذناب. و قال الزمخشري الضرب بالذنب هاهنا مثل للإقامة و الثبات، يعني يثبت هو و من يتبعه على الدين. و قال الفيروزآبادي العسيب عظم الذنب أو منبت الشعر منه، و البعير إذا أعيا و تأذّى ضرب بعسيب ذنبه. و إلصاق الأرض بجرانه كناية عن ضعف الإسلام و قلّة نفعه، فإنّ البعير أقلّ ما يكون نفعه حال بروكه. و جران البعير صدره أو مقدّم عنقه. و بثّ الخبر نشره. و الحداء سوق الإبل و الغناء لها. ]قوله عليه السلام[ »و استوثقوا« استجمعوا و انضموا. و »الزواجر« النواهي و الإيعادات. »يطأ بكم الطريق« أي يذهب بكم في سبيل الحقّ. قوله عليه السلام »ما كان مقبلا« أي الهدى و الرشاد الذي كان في أيّام الرسول صلّى اللّه عليه و آله، أو في أيّام خلافته عليه السلام، فيكون إشارة إلى قرب ارتحاله عليه السلام من دار الفناء. و ]المراد من قوله[ »ما كان مدبرا« الضلال و الفساد. و »أزمع الأمر« أي عزم عليه. و الترحال بالفتح مبالغة في الرحلة. و كلمة »ما« في ]قوله عليه السلام[ »ما ضرّ« نافية، و يحتمل الاستفهام ]أيضا[ على الإنكار. و الفاعل ]هو قوله[ »أن لا يكونوا«. و إساغة الغصص هنا كناية عن كثرة الآلام و مشاهدة المنكرات، بحيث صار تجرّع الغصص عادة لهم، أو عن الرضا بقضاء اللّه. و الغصّة ما يعترض في الحلق. و الرنق بالفتح و التحريك الكدر من الماء.

 و عمار هو ابن ياسر المعروف و قد مرّ فضله. و ابن التّيّهان بالياء المنقوطة باثنتين تحتها، المشدّدة المكسورة، و قبلها تاء منقوطة باثنتين فوقها، ذكره ابن أبي الحديد و جوّز فتح الياء أيضا. و المضبوط في أكثر النسخ بالياء الساكنة و فتح التاء و كسرها معا. و في القاموس و تيهان و تيّهان مشدّدة الياء و يكسر، و هو أبو الهيثم و اسمه مالك. و قال ابن أبي الحديد الصحيح أنّه أدرك صفّين و شهدها مع عليّ عليه السلام... و قيل توفّي في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و ذو الشهادتين هو خزيمة بن ثابت و قصته مشهورة، يكنّى أبا عمارة، شهد بدرا و ما بعدها من المشاهد، و شهد صفين مع علي عليه السلام، فلما قتل عمّار قاتل حتّى قتل. قوله عليه السلام »تعاقدوا« أي جعلوا الموت بينهم عقدا. أو تابعوا على الموت و روي »تعاهدوا«. »و أبرد برءوسهم« ]مأخوذ[ من البريد أي أرسل للبشارة بها. و »الفجرة« أمراء عسكر الشام. و »أوه« ساكنة الواو مكسورة الهاء كلمة شكوى و توجّع، و ربما قلبوا الواو ألفا، فقالوا آه من كذا، و آه على كذا. و ربما شدّد الواو و كسروها و سكنوا الهاء، فقالوا أوّه من كذا. و ربما حذفوا الهاء مع التشديد و كسروا الواو، فقالوا أو من كذا بلا مدّ. و قد يقولون آوّه بالمدّ و التشديد و فتح الواو و سكون الهاء، لتطويل الصوت بالشكاية. و ربما أدخلوا فيه التاء تارة يمدّونه، و تارة لا يمدّونه، فيقولون أوتاه و آوتاه، و الاسم منه الآهة بالمدّ. ذكره الجوهري و ابن أبي الحديد. و إحكامه ]أي القرآن[ تلاوته كما ينبغي مع رعاية المحسنّات، و التدبّر في معانيه و العمل بمقتضاه. و أراد عليه السلام بالقائد نفسه. و الرواح إلى اللّه الذهاب إلى الفوز برضوانه، أو إلى لقائه بالشهادة. و قيس هو من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كان شجاعا جوادا من كبار شيعة علي عليه السّلام، شهد حروبه كلّها. و أبوه سعد بن عبادة، كان رئيس الخزرج، و لم يبايع أبا بكر، و مات على عدم البيعة. و المشهور أنّهم قتلوه لذلك، و أحالوا قتله على الجنّ، و افتروا شعرا من قبل الجنّ كما مرّ. و أبو أيوب هو خالد بن سعد بن كعب الخزرجيّ من بني النّجار، شهد العقبة و بدرا و سائر المشاهد، و عليه نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين قدم المدينة، و شهد مع أمير المؤمنين عليه السلام مشاهده كلّها، و كان على مقدّمته يوم النهروان. و الاختطاف أخذك الشي‏ء بسرعة. و المراد هنا إمّا الأخذ بالنهب و القتل و الإذلال، أو الإغواء و الإضلال.

 ما جماعة عن محمد بن عمران المرزباني، عن محمد بن موسى عن محمد بن سهل عن هشام عن أبي مخنف عن ابن حصيرة عن أبي صادق عن جندب بن عبد اللّه الأزدي قال قام عليّ بن أبي طالب عليه السلام في الناس، ليستنفرهم إلى أهل الشام، و ذلك بعد انقضاء المدّة التي كانت بينه و بينهم، و قد شنّ معاوية على بلاد المسلمين الغارات، فاستنفرهم في الرغبة في الجهاد و الرهبة فلم ينفروا، فأضجره ذلك، فقال يا أيّها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم ما عزّت دعوة من دعاكم، و لا استراح قلب من قاساكم. كلامكم يوهن الصمّ الصلاب، و تثاقلكم عن طاعتي يطمع فيكم عدوّكم ]المرتاب[. إذا أمرتكم قلتم »كيت و كيت و عسى« أعاليل بأباطيل و تسألوني التأخير، دفاع ذي الدين المطول. هيهات هيهات لا يدفع الضيم الذليل، و لا يدرك الحقّ إلّا بالجدّ و الصبر. أيّ دار بعد داركم تمنعون و مع أيّ إمام بعدي تقاتلون المغرور و اللّه من غررتموه، و من فاز بكم فاز بالسّهم الأخيب. أصبحت لا أطمع في نصرتكم، و لا أصدّق قولكم، فرّق اللّه بيني و بينكم، و أعقبني بكم من هو خير لي منكم. أما إنّكم ستلقون بعدي ذلا شاملا، و سيفا قاطعا، و أثرة يتّخذها الظالمون فيكم سنّة، يفرّق جماعتكم، و تبكي عيونكم، و تمنّون عمّا قليل أنّكم رأيتموني فنصرتموني، و ستعرفون ما أقول لكم عمّا قليل، و لا يبعد اللّه إلّا من ظلم. قال فكان جندب لا يذكر هذا الحديث إلّا بكى، و قال صدق و اللّه أمير المؤمنين، قد شملنا الذّلّ و رأيناه الأثرة، و لا يبعد اللّه إلّا من ظلم.

 شاج روي أنّه لمّا عزم على المسير إلى الشام لقتال معاوية، قال بعد حمد اللّه و الثناء عليه، و الصلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اتّقوا اللّه عباد اللّه و أطيعوه و أطيعوا إمامكم، فإنّ الرعيّة الصّالحة تنجو بالإمام العادل، ألا و إنّ الرعيّة الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر. و قد أصبح معاوية غاصبا لما في يديه من حقّي، ناكثا لبيعتي، طاعنا في دين اللّه عزّ و جلّ. و قد علمتم أيّها المسلمون ما فعل الناس بالأمس، فجئتموني راغبين إليّ في أمركم، حتّى استخرجتموني من منزلي لتبايعوني، فالتويت عليكم لأبلو ما عندكم، فراودتموني القول مرارا، و راددتكم، و تداككتم عليّ تداكّ الإبل الهيم على حياضها، حرصا على بيعتي، حتّى خفت أن يقتل بعضكم بعضا، فلمّا رأيت ذلك منكم، رأيت في أمركم و أمري، و قلت إن أنا لم أجبهم إلى القيام بأمرهم، لم يصيبوا أحدا منهم يقوم فيهم مقامي، و يعدل فيهم عدلي. و قلت و اللّه لألينّهم و هم يعلمون حقّي و فضلي، أحبّ إليّ من أن يلوني و لا يعرفون حقّي و فضلي. فبسطت يدي فبايعتموني يا معاشر المسلمين، و فيكم المهاجرون و الأنصار و التابعون بإحسان، و أخذت عليكم عهد بيعتي و واجب صفقتي ]و[ عهد اللّه و ميثاقه. و أشدّ ما أخذ على النبيّين من عهد و ميثاق لتقرّنّ لي، و لتسمعن لأمري، و لتطيعوني و تناصحوني، و تقاتلون معي كلّ باغ عليّ، أو مارق إن مرق. فبايعتم لي بذلك جميعا، و أخذت عليكم عهد اللّه و ميثاقه و ذمّة اللّه و ذمّة رسوله، فأجبتموني إلى ذلك، و أشهدت اللّه عليكم، و أشهدت بعضكم على بعض. فقمت فيكم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله. فالعجب من معاوية بن أبي سفيان ينازعني الخلافة، و يجحدني الإمامة، و يزعم أنّه أحقّ بها منّي، جرأة منه على اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بغير حقّ له فيها، و لا حجّة. و لم يبايعه المهاجرون، و لا سلّم له الأنصار و المسلمون. يا معاشر المهاجرين و الأنصار و جماعة من سمع كلامي أ ما أوجبتم لي على أنفسكم الطاعة أ ما بايعتموني على الرغبة أ ما أخذت عليكم العهد بالقبول لقولي أ ما بيعتي لكم يومئذ أوكد من بيعة أبي بكر و عمر فما بال من خالفني لم ينقض عليهما حتّى مضيا، و نقض عليّ و لم يوف لي أ ما يجب عليكم نصحي و يلزمكم أمري أ ما تعلمون أنّ بيعتي تلزم الشاهد منكم و الغائب فما بال معاوية و أصحابه طاعنون في بيعتي و لم لم يفوا لي و أنا في قرابتي و سابقتي و صهري، أولى بالأمر ممن تقدّمني أ ما سمعتم قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه

 و آله يوم الغدير في ولايتي و موالاتي. فاتّقوا اللّه أيّها المسلمون و تحاثّوا على جهاد معاوية القاسط الناكث و أصحابه القاسطين، ]و[ اسمعوا ما أتلو عليكم من كتاب اللّه المنزل على نبيّه المرسل لتتّعظوا، فإنّه و اللّه عظة لكم. فانتفعوا بمواعظ اللّه و ازدجروا عن معاصي اللّه، فقد وعظكم اللّه بغيركم فقال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. أيّها النّاس إنّ لكم في هذه الآيات عبرة لتعلموا أنّ اللّه جعل الخلافة و الإمرة من بعد الأنبياء في أعقابهم، و أنّه فضّل طالوت و قدّمه على الجماعة باصطفائه إيّاه، وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ، فهل تجدون اللّه اصطفى بني أميّة على بني هاشم، و زاد معاوية عليّ بسطة في العلم و الجسم فاتّقوا اللّه عباد اللّه و جاهدوا في سبيله قبل أن ينالكم سخطه بعصيانكم له، قال اللّه سبحانه لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ. ]و قال اللّه تعالى[ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. و قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. اتّقوا اللّه عباد اللّه و تحاثّوا على الجهاد مع إمامكم. فلو كان لي بكم عصابة بعدد أهل بدر، إذا أمرتهم أطاعوني، و إذا استنهضتهم نهضوا معي، لاستغنيت بهم عن كثير منكم، و أسرعت النهوض إلى حرب معاوية و أصحابه، فإنّه الجهاد المفروض.

بيان إنّما أوردته في هذا الباب لأنّه بالنهوض الثاني أنسب منه بالأوّل، و إن احتمله.

 شاج ]و[ من كلامه عليه السلام يجري مجرى الاحتجاج، مشتملا على التوبيخ لأصحابه على تثاقلهم لقتال معاوية، و التفنيد، متضمّنا للّوم و الوعيد أيّها النّاس إنّي استنفرتكم لجهاد هؤلاء القوم فلم تنفروا، و أسمعتكم فلم تجيبوا، و نصحت لكم فلم تقبلوا، شهودا كالغيّب. أتلو عليكم الحكمة فتعرضون عنها، و أعظكم بالموعظة البالغة فتنفرون عنها، كأنّكم حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ و أحثّكم على جهاد أهل الجور فما آتي على آخر قولي، حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبا ترجعون إلى مجالسكم تتربّعون حلقا، تضربون الأمثال، و تنشدون الأشعار، و تجسّسون الأخبار، حتّى إذا تفرّقتم، تسألون عن الأشعار. جهلة من غير علم، و غفلة من غير ورع، و تتبعا من غير خوف. و نسيتم الحرب و الاستعداد لها، فأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها، شغلتموها بالأعاليل و الأضاليل. فالعجب كلّ العجب و كيف لا أعجب من اجتماع قوم على باطلهم و تخاذلكم عن حقّكم. يا أهل الكوفة أنتم كأمّ مجالد، حملت فأملصت، فمات قيّمها، و طال أيّمها و ورثها أبعدها. و الّذي فلق الحبّة و برأ النّسمة، إنّ من ورائكم الأعور الأدبر جهنّم الدنيا، لا يبقي و لا يذر. و من بعده النّهاس الفرّاس، الجموع المنوع، ثمّ ليتوارثنكم من بني أميّة عدّة، ما الآخر ]منهم[ بأرأف بكم من الأوّل، ما خلا رجلا واحدا ]منهم[ بلاء قضاه اللّه على هذه الأمّة، لا محالة كائن. يقتلون خياركم، و يستعبدون أرذالكم، و يستخرجون كنوزكم و ذخائركم من جوف حجالكم، نقمة بما ضيّعتم من أموركم و صلاح أنفسكم و دينكم. يا أهل الكوفة أخبركم بما يكون قبل أن يكون، لتكونوا منه على حذر، و لتنذروا به من اتّعظ و اعتبر. كأنّي بكم تقولون إن عليا يكذب كما قالت قريش لنبيّها و سيّدها نبيّ الرحمة محمد بن عبد اللّه حبيب اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم. فيا ويلكم، فعلى من أكذب أ على اللّه فأنا أوّل من عبد اللّه و وحّده، أم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأنا أوّل من آمن به و صدّقه و نصره. كلّا و لكنها لهجة خدعة كنتم عنها أغبياء. و الذي فلق الحبّة و برأ النّسمة، لتعلمنّ نبأها بَعْدَ حِينٍ، و ذلك إذا صيّركم إليها جهلكم، و لا ينفعكم عندها علمكم. فقبحا لكم يا أشباه الرّجال و لا رجال، حلوم الأطفال و عقول ربّات الحجال. أما و اللّه أيّها الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم ما أعزّ اللّه نصر من دعاكم، و لا استراح قلب من قاساكم، و لا قرّت عين من آواكم. كلامكم يوهي الصّمّ الصّلاب، و فعلكم يطمع فيكم عدّوكم المرتاب. يا ويحكم، أيّ دار بعد داركم تمنعون و مع أيّ إمام بعدي تقاتلون و المغرور و اللّه من غررتموه، و من فاز بكم فاز بالسهّم الأخيب. أصبحت لا أطمع في نصركم، و لا أصدّق قولكم. فرّق اللّه بيني و بينكم، و أعقبني بكم من هو خير لي منكم، و أعقبكم بي من هو شرّ لكم منّي. إمامكم يطيع اللّه و أنتم تعصونه، و إمام أهل الشام يعصي اللّه و هم يطيعونه. و اللّه لوددت أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدّينار بالدرهم، فأخذ منّي عشرة منكم و أعطاني واحدا منهم و اللّه لوددت أنّي لم أعرفكم، و لم تعرفوني، فإنّها معرفة جرّت ندما لقد ورّيتم صدري غيظا، و أفسدتم عليّ أمري بالخذلان و العصيان، حتى لقد قالت قريش إنّ عليا رجل شجاع ]و[ لكن لا علم له بالحروب. للّه درّهم هل كان فيهم أحد أطول لها مراسا منّي و أشدّ لها مقاساة لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين، ثمّ ها أنا قد ذرّفت على الستّين، و لكن لا أمر لمن لا يطاع. أما و اللّه لوددت أنّ ربّي قد أخرجني من بين أظهركم إلى رضوانه، و إنّ المنيّة لترصدني، فما يمنع أشقاها أن يخضبها و نزل ]عليه السلام[ يده على رأسه و لحيته عهدا عهده إليّ النّبيّ الأمّي صلّى اللّه عليه و آله. وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى

، و نجا من اتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى. يا أهل الكوفة قد دعوتكم إلى جهاد هؤلاء القوم ليلا و نهارا، و سرّا و إعلانا، و قلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم فإنّه ما غزي قوم في عقر دارهم إلّا ذلوا. فتواكلتم و تخاذلتم، و ثقل عليكم قولي، و استصعب عليكم أمري، وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا حتّى شنّت عليكم الغارات، و ظهرت فيكم الفواحش و المنكرات، تمسيكم و تصبحكم كما فعل بأهل المثلات من قبلكم، حيث أخبر اللّه عزّ و جلّ عن الجبابرة العتاة الطّغاة، و المستضعفين الغواة في قوله تعالى يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ. أما و الذي فلق الحبّة و برأ النّسمة لقد حلّ بكم الّذي توعدون. عاتبتكم يا أهل الكوفة بمواعظ القرآن فلم أنتفع بكم، و أدّبتكم بالدّرّة فلم تستقيموا لي، و عاقبتكم بالسوط الذي يقام به الحدود فلم ترعووا. و لقد علمت أنّ الذي يصلحكم هو السيف. و ما كنت متحرّيا صلاحكم بفساد نفسي، و لكن سيسلّط عليكم سلطان صعب، لا يوقر كبيركم، و لا يرحم صغيركم، و لا يكرم عالمكم، و لا يقسم الفي‏ء بالسّويّة بينكم، و ليضربنّكم و ليذلّنّكم، و ليجرّنّكم في المغازي، و يقطعنّ سبلكم، و ليحجبنّكم على بابه حتى يأكل قويّكم ضعيفكم، ثم لا يبعد اللّه إلّا من ظلم. و لقلّ ما أدبر شي‏ء فأقبل، إنّي لأظنّكم على فترة، و ما عليّ إلّا النّصح لكم. يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث و اثنتين صمّ ذوو أسماع، و بكم ذوو ألسن، و عمي ذوو أبصار. لا إخوان صدق عند اللّقاء، و لا إخوان ثقة عند البلاء. اللّهم إنّي قد مللتهم و ملّوني، و سئمتهم و سئموني. اللّهم لا ترض عنهم أميرا، و لا ترضهم عن أمير، و أمث قلوبهم كإيماث الملح في الماء. أما و اللّه لو ]كنت[ أجد بدا من كلامكم و مراسلتكم ما فعلت. و لقد عاتبتكم في رشدكم حتّى سئمت الحياة، ]و أنتم في[ كلّ ذلك ترجعون بالهزء من القول، فرارا من الحقّ، و إلحادا إلى الباطل الذي لا يعزّ اللّه بأهله الدين، و إنّي لأعلم بكم أنّكم لا تزيدونني غير تخسير. كلّما أمرتكم بجهاد عدوّكم اثاقلتم إلى الأرض، و سألتموني التأخير دفاع ذي الدّين المطول. إن قلت لكم في القيظ سيروا. قلتم الحرّ شديد. و إن قلت لكم سيروا في البرد. قلتم القرّ شديد. كلّ ذلك فرارا عن الحرب إذا كنتم عن الحرّ و البرد تعجزون، فأنتم عن حرارة السيف أعجز و أعجز. ف إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. يا أهل الكوفة قد أتاني الصريح يخبرني أنّ ابن غامد قد نزل الأنبار على أهلها ليلا في أربعة آلاف، فأغار عليهم كما يغار على الرّوم و الخزر، فقتل بها عاملي ابن حسّان، و قتل معه رجالا صالحين ذوي فضل و عبادة و نجدة، بوّأ اللّه لهم جنّات النّعيم، و إنّه أباحها. و قد بلغني أنّ العصبة من أهل الشام، كانوا يدخلون على المرأة المسلمة و الأخرى المعاهدة، فيهتكون سترها، و يأخذون القناع من رأسها، و الخرص من أذنها، و الأوضاح من يديها و رجليها و عضديها، و الخلخال و المئزر عن سوقها، فما تمتنع إلّا بالاسترجاع و النّداء »يا للمسلمين« فلا يغيثها مغيث و لا ينصرها ناصر، فلو أنّ مؤمنا مات من دون هذا أسفا، ما كان عندي ملوما بل كان عندي بارا محسنا. وا عجبا كلّ العجب من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم، و فشلكم عن حقّكم قد صرتم غرضا يرمى و لا ترمون، و تغزون و لا تغزون، و يعصون اللّه و ترضون، فتربت أيديكم يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها، كلّما اجتمعت من جانب تفرّقت من جانب.

بيان التّفنيد اللّوم و تضعيف الرأي. و القسورة الأسد. و قال الجوهري أملصت المرأة بولدها أي أسقطته. و نهس اللحم أخذه بمقدّم الأسنان. و نهس الحيّة لسعها. و فرس الأسد فريسته دقّ عنقها. و المراد بالنّهاس الفراس، إمّا هشام بن عبد الملك لاشتهاره بالبخل، أو سليمان بن عبد الملك، فإنّه الّذي قيضت له الخلافة بعد وفاة الحجّاج بقليل. و الأوّل أنسب. و المراد بالرّجل الواحد ]هو[ عمر بن عبد العزيز. قوله عليه السّلام »و لكنّها لهجة خدعة« أي إذا قلت لكم سأظفر على الخصم إن شاء اللّه، فليس هذا من الكذب، بل هو كما مرّ و كذا أشباهه من مصالح الحرب و غيره. و يحتمل إرجاع ضمير »لكنّها« إلى ما ذكره من نسبته عليه السلام إلى الكذب، خصوصا على نسخة »أغنياء« بالنّون، أي ما ذكرتم لهجة خدعتم فيها من الشيطان، و لم تكن لكم حاجة إلى ذكرها. و في الصحاح و هي السّقاء يهي وهيا إذا انخرق و انشقّ. و فيه ورى القيح جوفه يريه وريا أكله و الاسم الورى بالتحريك. و ورّى الجرح سائره تورية أصابه الورى. و المراس الممارسة و المعالجة. و رصده رقبه. و الترصّد الترقّب. قوله عليه السلام »تمسيكم و تصبحكم« لعلّ الضمير المستتر فيهما راجع إلى الفواحش و المنكرات أي يأتيكم إمّا صباحا أو مساء عقوبات تلك المنكرات كما فعل بمن قبلكم. أو الكاف اسميّ أي يأتيكم مثل ما فعل بهم. أو قبله تقدير أي يأتيكم عقوبته كما فعل بهم. أو الضميران راجعان إلى شنّ الغارات و ظهور الفواحش و المنكرات، و يكون المراد ظهورها من المخالفين فيهم فهذه عقوبة أعمالهم. قوله عليه السلام »و ليجرّنكم« أي يبعثكم جبرا. و في بعض النسخ »و ليجهّزنّكم«. و في بعضها »و ليجمّرنكم« و تجمير الجيش أن تحبسهم في أرض العدوّ و لا تقفلهم من الثغر. و تجمّروا أي تحبسوا. و ]قوله عليه السلام[ »و ليحجبنّكم« ضمّن معنى القيام فعدّي ب »على«. قوله عليه السّلام »إن قلت لكم في القيظ« ]كذا في كتاب الإحتجاج و[ في ]كتاب[ الإرشاد »إذا قلت لكم انفروا في الشتاء. قلتم هذا أوان قرّ و صر. و إن قلت لكم انفروا في الصيف. قلتم »هذه حمارّة القيظ أنظرنا ينصرم الحرّ عنّا كلّ ذلك فرارا عن الجنّة. ]و[ إذا كنتم عن الحرّ و البرد...« إلى آخر الكلام. قوله عليه السلام »قد أتاني الصريح« ]كذا[ في أكثر النسخ بالحاء المهملة، و هو الرجل الخالص النسب. و كلّ خالص صريح. و الأظهر أنّه بالخاء المعجمة كما في ]كتاب[ الإرشاد أي المستغيث أي من يطلب الإغاثة و المدد لدفع ظلمهم. و العصبة من الرجال بالضمّ ما بين العشرة إلى الأربعين. و في القاموس الخرص بالضمّ و يكسر حلقة الذهب و الفضّة أو حلقة القرط أو الحلقة الصغيرة من الحلي. و في النهاية ]الخرص بالضمّ و الكسر[ الحلقة الصغيرة من الحلي و هو من حلي الأذن. و ]أيضا[ قال ]ابن الأثير[ فيه »أنّ يهوديا قتل جارية على أوضاح لها« هي نوع من الحلي يعمل من الفضّة سمّيت بها لبياضها، واحدها وضح. و قد أوردنا شرح بعض الفقرات في الروايات الأخر.

 مع الطالقاني عن الجوهري عن الجلودي و هشام بن عليّ معا عن ابن عائشة، بإسناد ذكره أنّ عليا ]عليه السلام[ انتهى إليه أنّ خيلا لمعاوية وردت الأنبار، فقتلوا عاملا له يقال له حسّان بن حسّان. فخرج مغضبا يجرّ ثوبه حتّى أتى النخيلة، و أتبعه النّاس فرقي رباوة من الأرض، فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال أمّا بعد فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة، فتحه اللّه لخاصّة أوليائه، و هو لِباسُ التَّقْوى، و درع اللّه الحصينة، و جنّته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذلّ، و سيماء الخسف، و ديّث بالصغار. و قد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلا و نهارا و سرّا و إعلانا، و قلت لكم اغزوهم من قبل أن يغزوكم، فو الذي نفسي بيده ما غزي قوم قطّ في عقر ديارهم، إلّا ذلّوا، فتواكلتم و تخاذلتم و ثقل عليكم قولي، وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا حتّى شنّت عليكم الغارات. هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار، و قتلوا حسّان بن حسّان و رجالا منهم كثيرا و نساء، و الذي نفسي بيده لقد بلغني أنّه كان ]الرجل من أهل الشام[ يدخل على المرأة المسلمة و المعاهدة فينتزع أحجالهما و رعثهما، ثمّ انصرفوا موفورين لم يكلم أحد منهم كلما. فلو أنّ امرأ مسلما مات من دون هذا أسفا، ما كان عندي فيه ملوما، بل كان عندي به جديرا. يا عجبا كلّ العجب من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم و فشلكم عن حقّكم إذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء، قلتم هذا أوان قرّ و صرّ. و إن قلت لكم اغزوهم في الصيف، قلتم هذه حمارّة القيظ، أنظرنا ينصرم الحرّ عنّا. فإذا أنتم من الحرّ و البرد تفرون، فأنتم و اللّه من السيف أفرّ. يا أشباه الرجال و لا رجال و يا طغام الأحلام و يا عقول ربّات الحجال. و اللّه لقد أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان، و لقد ملأتم جوفي غيظا حتّى قالت قريش إنّ ابن أبي طالب شجاع و لكن لا رأي له في الحرب. للّه درّهم و من ذا يكون أعلم بها و أشدّ لها مراسا منّي فو اللّه لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين، و لقد نيّفت اليوم على الستّين، و لكن لا رأي لمن لا يطاع. يقولها ثلاثا. فقام إليه رجل و معه أخوه فقال يا أمير المؤمنين أنا و أخي هذا كما قال اللّه عزّ و جلّ حكاية عن موسى رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي فمرنا بأمرك، فو اللّه لننتهينّ إليه و لو حال بيننا و بينه جمر الغضا و شوك القتاد. فدعا له بخير ثمّ قال و أين تقعان مما أريد ثمّ نزل ]عليه السلام[.

قال الصدوق رضي اللّه عنه تفسير قال المبرد سيماء الخسف تأويله علامة ]الخسف[ قال اللّه عزّ و جلّ سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ و قال اللّه عزّ و جلّ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ و قال اللّه عزّ و جلّ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ أي معلّمين. و قوله »ديّث بالصّغار« تأويل ذلك يقال للبعير إذ ذلّلته الرياضة بعير مديث أي مذلّل. و قوله »في عقر ديارهم« أي في أصل ديارهم. و العقر الأصل. و من ثمّ يقال لفلان عقار أي أصل مال. و قوله »تواكلتم« هو مشتقّ من وكلت الأمر إليك و وكلته إليّ إذا لم يتولّه أحد دون صاحبه، و لكن أحال به كلّ واحد على الآخر. و من ذلك قول الحطيئة أمور إذا واكلتها لا تواكلوا. و قوله »و اتّخذتموه وراءكم ظهريّا« أي لم تلتفتوا إليه. يقال في المثل لا تجعل حاجتي منك بظهري أي لا تطرحها غير ناظر إليها. و قوله »حتّى شنّت عليكم الغارات« يعني صبّت. يقال شننت الماء على رأسه أي صببته. و من كلام العرب فلمّا لقي فلان فلانا شنّه بالسيف أي صبّه عليه صبا. و قوله »هذا أخو غامد« فهو رجل مشهور من أصحاب معاوية من بني غامد بن نصر من الأزد. قوله »فينتزع أحجالهما« يعني الخلاخيل، واحدها حجل، و من ذلك قيل للدابة محجلة. و يقال للقيد حجل لأنّه يقع في ذلك الموضع. و ]أمّا[ قوله »و رعثهما« فهي الشنوف واحدها رعثة، و جمعها رعاث و جمع الجمع رعث. و قوله »ثمّ انصرفوا موفورين« من الوفر أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ في بدن و لا مال. يقال فلان موفور، و فلان ذو وفر أي ذو مال، و يكون موفورا في بدنه. و قوله »لم يكلم أحد منهم كلما« أي لم يخدش أحد منهم خدشا، و كل جرح صغير أو كبير فهو كلم. و قوله »مات من دون هذا أسفا« يقول تحسرا، و قد يكون الأسف الغضب، قال اللّه عزّ و جلّ »فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ« و الأسيف يكون الأجير، و يكون الأسير. و قوله »من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم« أي من تعاونهم و تظاهرهم. و قوله »و فشلكم من حقكم« يقال فشل فلان عن كذا إذا هابه فنكل عنه و امتنع من المضي فيه. و قوله »قلتم هذا أوان قرّ و صرّ«. فالصرّ شدّة البرد، قال اللّه عزّ و جلّ »كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ«. و قوله »هذه حمارّة القيظ«. فالقيظ الصيف، و حمارته اشتداد حرّه. بيان قوله »و جمع الجمع رعث«. ]قال ابن أثير[ في ]مادّة »رعث« من كتاب[ النهاية الرّعاث القرطة و هي من حلي الأذن، واحدتها رعثة رعثه و جنسها الرعث. أقول قد مرّ شرح باقي الفقرات، في رواية أخرى.

 ما قال أمير المؤمنين عليه السلام الموت طالب و مطلوب، لا يعجزه المقيم، و لا يفوته الهارب، فقدّموا و لا تنكلوا، فإنّه ليس عن الموت محيص، إنّكم إن لم تقتلوا تموتوا. و الذي نفس عليّ بيده، لألف ضربة بالسيف على الرأس، أهون من موت على فراش.

 ما المفيد عن التّمّار عن محمد بن الحسين عن أبي نعيم، عن صالح بن عبد اللّه عن هشام عن أبي مخنف عن الأعمش، عن أبي إسحاق السبيعي عن الأصبغ بن نباتة رحمه اللّه، قال إنّ أمير المؤمنين ]عليه السلام[ خطب ذات يوم فحمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال أيّها الناس اسمعوا مقالتي و عوا كلامي، إنّ الخيلاء من التّجبّر، و النّخوة من التكبّر، و إنّ الشيطان عدوّ حاضر يعدكم الباطل. ألا إنّ المسلم أخو المسلم، فلا تنابزوا و لا تخاذلوا، فإنّ شرائع الدّين واحدة، و سبله قاصدة، من أخذ بها لحق، و من تركها مرق و من فارقها محق. ليس المسلم بالخائن إذا ائتمن، و لا بالمخلف إذا وعد، و لا بالكذوب إذا نطق. نحن أهل بيت الرّحمة، و قولنا الحقّ، و فعلنا القسط، و منّا خاتم النّبيّين، و فينا قادة الإسلام و أمناء الكتاب، ندعوكم إلى اللّه و رسوله، و إلى جهاد عدوه و الشّدة في أمره و ابتغاء رضوانه، و إلى إقام الصلاة و إيتاء الزّكاة و حجّ البيت و صيام شهر رمضان و توفير الفي‏ء لأهله. ألا و إنّ ]من[ أعجب العجب أنّ معاوية بن أبي سفيان الأموي و عمرو بن عاص السهمي، يحرّضان الناس على طلب الدّين بزعمهما و إنّي و اللّه لم أخالف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قطّ، و لم أعصه في أمر قطّ، أقيه بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، و ترعد فيها الفرائص، بقوّة أكرمني اللّه بها فله الحمد. و لقد قبض النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إنّ رأسه في حجري، و لقد وليت غسله، أغسله بيدي، و تقلّبه الملائكة المقرّبون. و ايم اللّه، ما اختلفت أمّة بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على حقّها، إلّا ما شاء اللّه. قال فقام عمّار بن ياسر رحمة اللّه عليه فقال أمّا أمير المؤمنين فقد أعلمكم أنّ الأمّة لم تستقم عليه. فتفرّق الناس و قد نفذت بصائرهم.

 ما المفيد عن الكاتب عن الزعفراني عن الثقفي، عن محمد بن إسماعيل عن زيد بن المعدّل عن يحيى بن صالح الطيالسي عن إسماعيل بن زياد عن ربيعة بن ناجد قال لمّا وجّه معاوية بن أبي سفيان ابن عوف الغامدي إلى الأنبار إلى الغارة، بعثه في ستّة آلاف فارس، فأغار على »هيت« و »الأنبار« و قتل المسلمين و سبي الحريم و عرض الناس على البراءة من أمير المؤمنين عليه السلام، استنفر أمير المؤمنين عليه السلام الناس و قد كانوا تقاعدوا عنه و اجتمعوا على خذلانه، و أمر مناديه في الناس فاجتمعوا فقام خطيبا، فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال أمّا بعد أيّها الناس فو اللّه لأهل مصركم في الأمصار، أكثر في العرب من الأنصار. و ما كان يوم عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يمنعوه و من معه من المهاجرين، حتّى يبلّغ رسالات اللّه إلّا قبيلتان، صغير مولدهما، ما هما بأقدم العرب ميلادا، و لا بأكثرهم عددا، فلمّا آووا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و نصروا اللّه و دينه، رمتهم العرب عن قوس واحدة، و تحالفت عليهم اليهود، و غزتهم القبائل قبيلة بعد قبيلة. فتجرّدوا للدّين، و قطعوا ما بينهم و بين العرب من الحبائل، و ما بينهم و بين اليهود من العهود، و نصبوا لأهل نجد و تهامة و أهل مكّة و اليمامة و أهل الحزن و أهل السهل، قناة الدّين، و تصبّروا تحت أحلاس الجلاد، حتّى دانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله العرب، و رأى فيهم قرّة العين قبل أن يقبضه اللّه إليه. فأنتم في الناس أكثر من أولئك في أهل ذلك الزمان من العرب. فقام إليه رجل آدم طوال فقال ما أنت كمحمد، و لا نحن كأولئك الذين ذكرت، فلا تكلّفنا ما لا طاقة لنا به. فقال أمير المؤمنين عليه السلام اخسأ ]أحسن »خ«[ مستمعا تحسن إجابة، ثكلتكم الثواكل ما تزيدوني إلّا غما، هل أخبرتكم أنّي مثل محمد أو أنّكم مثل أنصاره و إنّما ضربت ]لكم[ مثلا، و أنا ]كنت[ أرجو أنّ تأسّوا بهم. ثمّ قام رجل آخر و قال ما أحوج أمير المؤمنين و من معه إلى أصحاب النهروان. ثمّ تكلم الناس من كلّ ناحية و لغطوا. فقام رجل فقال بأعلى صوته استبان فقد الأشتر على أهل العراق، أن لو كان حيا لقلّ اللغط، و لعلم كلّ امرئ ما يقول. فقال لهم أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه هبلتكم الهوابل، لأنا أوجب عليكم حقّا من الأشتر، و هل للأشتر عليكم من الحقّ إلّا حقّ المسلم على المسلم و غضب فنزل. فقام حجر بن عديّ و سعيد بن قيس فقالا لا يسوءك اللّه يا أمير المؤمنين، مرنا بأمرك نتّبعه، فو اللّه العظيم ما يعظم جزعنا على أموالنا أن تفرّق، و لا على عشائرنا أن تقتل في طاعتك. فقال لهم تجهّزوا للمسير إلى عدوّنا. ثمّ دخل عليه السلام منزله، و دخل عليه وجوه أصحابه فقال لهم أشيروا عليّ برجل صليب ناصح يحشر الناس من السواد. فقال سعيد بن قيس عليك يا أمير المؤمنين بالناصح الأريب ]و[ الشجاع الصليب معقل بن قيس التميمي. قال نعم. ثمّ دعاه فوجّهه و سار ]معقل[ و لم يعد حتّى أصيب أمير المؤمنين عليه السلام.

بيان المراد بالقبيلتين الأوس و الخزرج. و قال الجوهري تجرّد للأمر جدّ فيه. قوله عليه السلام »و تصبّروا تحت أحلاس الجلاد« أي صبروا صبرا شديدا على ملازمة القتال. ]قال ابن الأثير[ في ]مادة »حلس« من كتاب[ النهاية »كونوا أحلاس بيوتكم« أي الزموها. و فيه »نحن أحلاس الخيل« يريدون لزومهم ظهورها. و استحلسنا الخوف أي لم نفارقه. و في بعض النسخ »تحت حماس الجلاد« ]قال الفيروزآبادي[ في القاموس حمس كفرح اشتدّ و صلب في الدين. و القتال و الحمس الأمكنة الصلبة، و الأحمس الشجاع كالحميس. و الحمس الصوت. و الآدم من الناس الأسمر. و الطوال بالضمّ الطويل. قوله عليه السلام »اخسأ« أي ابعد، يقال خسأت الكلب خسأ طردته. و خسأ الكلب بنفسه. يتعدى و لا يتعدّى. و »مستمعا« على بناء الفاعل. و في بعض النسخ »أحسن« بالحاء المهملة و النون. و »مستمعا« بفتح الميم مصدر. و اللغط بالتحريك الصوت و الجلبة و هبلته أمّه ثكلته.

 شا ]و[ من كلامه صلوات اللّه عليه حين نقض معاوية العهد، و بعث بالضّحاك بن قيس للغارة على أهل العراق، فلقي عمرو بن عميس بن مسعود فقتله و قتل ناسا معه من أصحابه، و ذلك بعد أن حمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال يا أهل الكوفة اخرجوا إلى العبد الصّالح و إلى جيش لكم قد أصيب منه طرف. اخرجوا فقاتلوا عدوّكم، و امنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين. قال فردّوا عليه ردّا ضعيفا، و رأى منهم عجزا و فشلا فقال و اللّه لوددت أنّ لي بكلّ ثمانية منكم رجلا منهم ويحكم اخرجوا معي ثمّ فرّوا عنّي إن بدا لكم، فو اللّه ما أكره لقاء ربّي على نيّتي و بصيرتي، و في ذلك روح لي عظيم، و فرج من مناجاتكم و مقاساتكم و مداراتكم مثل ما تدارى البكار العمدة، و الثّياب المتهتّرة، كلّما خيطت من جانب، تهتّكت من جانب على صاحبها.

بيان قال الجوهري الطرف بالتحريك الناحية من النواحي، و الطائفة من الشي‏ء. و ]قوله عليه السلام[ »المتهتّرة« في بعض النسخ بالتاء المثنّاة قال ]الفيروزآبادي[ في القاموس الهتر مزق العرض. و بالكسر السقط من الكلام. و هتره الكبر يهتره ]جعله خرفا و أفقده عقله[. و في بعضها ]»المهبرة«[ بالباء الموحّدة من قولهم »هبره« قطعه قطعا كبارا و هو أنسب. و يحتمل الياء من قولهم هار البناء هدمه، فهار و تهور و تهيّر و انهار، و هو أنسب بما في بعض الروايات مكانه من المتداعية.

 شا ]و[ من كلامه عليه السلام في استنفار القوم و استبطائهم عن الجهاد، و قد بلغه مسير بسر بن أرطاة إلى اليمن أمّا بعد أيّها الناس فإنّ أوّل رفثكم و بدء نقضكم، ذهاب أولي النّهى و أهل الرّأي منكم، الّذين كانوا يلقون فيصدّقون، و يقولون فيعدلون، و يدعون فيجيبون. و إنّي و اللّه قد دعوتكم عودا و بدءا، و سرّا و جهرا، و في اللّيل و النّهار، و الغدوّ و الآصال، ]ف[ ما يزيدكم دعائي إلّا فرارا و إدبارا. أ ما يعظكم ]تنفعكم »خ«[ العظة و الدّعاء إلى الهدى و الحكمة و إنّي لعالم بما يصلحكم و يقيم لي أودكم، و لكنّي و اللّه لا أصلحكم بفساد نفسي. و لكن أمهلوني قليلا فكأنّكم و اللّه بامرئ قد جاءكم، يحرمكم و يعذّبكم فيعذّبه اللّه كما يعذّبكم. إنّ من ذلّ المسلمين و هلاك الدّين، أنّ ابن ]ظ[ أبي سفيان يدعو الأرذال فيجاب، و أدعوكم و أنتم الأفضلون الأخيار فتراوغون و تدافعون. ما هذا فعل المتّقين

بيان »أوّل رفثكم« في أكثر النسخ بالفاء و الثاء المثلّثة و هو الفحش من القول. و لا يناسب كثيرا. و يحتمل التّاء ]المثنّاة الفوقانية[ من قولهم »رفته يرفته ]من باب ضرب و نصر[ كسره و دقّه. و ]رفت الشي‏ء[ انكسر و اندقّ. و ]رفت الحبل[ انقطع. لازم و متعدّ. و في بعض النسخ بالقاف و التاء و هو أظهر أي ضعفكم و قلّتكم. و مراوغة الثعلب و روغانه مشهوران.

963-  شا ]و[ من كلامه صلوات اللّه عليه في هذا المعنى، بعد حمد اللّه و الثناء عليه ما أظنّ هؤلاء القوم يعني أهل الشام إلّا ظاهرين عليكم. فقالوا له بما ذا يا أمير المؤمنين فقال أرى أمورهم قد علت، و نيرانكم قد خبت، و أراهم جدّين، و أراكم وانين، و أراهم مجتمعين، و أراكم متفرّقين، و أراهم لصاحبهم مطيعين، و أراكم لي عاصين. أم و اللّه لئن ظهروا عليكم لتجدنّهم أرباب سوء من بعدي لكم. لكأنّي أنظر إليهم و قد شاركوكم في بلادكم، و حملوا إلى بلادهم فيئكم. و كأنّي أنظر إليكم تكشّون كشيش الضبّاب، و لا تأخذون حقّا و لا تمنعون للّه من حرمة. و كأنّي أنظر إليهم يقتلون صالحيكم، و يخيفون قرّاءكم، و يحرمونكم و يحجبونكم و يدنون الناس دونكم. فلو قد رأيتم الحرمان و الأثرة و وقع السّيوف و نزول الخوف، لقد ندمتم و حسرتم على تفريطكم في جهادكم، و تذاكرتم ما أنتم فيه اليوم من الخفض و العافية، حين لا ينفعكم التّذكار.

بيان قال الجوهري كشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فمها، و قد كشّت تكشّ. و قال الحسرة أشدّ التلهف على الشي‏ء الفائت، تقول منه حسر على الشي‏ء بالكسر يحسر حسرا و حسرة فهو حسير.

 شا ]و[ من كلامه عليه السلام لمّا نقض معاوية بن أبي سفيان شرط الموادعة، و أقبل يشنّ الغارات على أهل العراق، فقال بعد أن حمد اللّه و أثنى عليه ما لمعاوية قاتله اللّه لقد أرادني على أمر عظيم، أراد أن أفعل كما يفعل فأكون قد هتكت ذمّتي و نقضت عهدي، فيتّخذها عليّ حجّة، فيكون عليّ شينا إلى يوم القيامة كلّما ذكرت. فإن قيل له أنت بدأت، قال ما عملت و لا أمرت. فمن قائل يقول صدق. و من قائل يقول كذب. أم و اللّه إنّ اللّه لذو أناة و حلم عظيم، لقد حلم عن كثير من فراعنة الأوّلين، و عاقب فراعنة، فإن يمهل اللّه فلم يفته، و هو له بالمرصاد على مجاز طريقه، فليصنع ما بدا له فإنّا غير غادرين بذمّتنا، و لا ناقضين لعهدنا، و لا مروّعين لمسلم و لا معاهد حتّى ينقضي شرط الموادعة بيننا إن شاء اللّه تعالى.

 شا و من كلامه عليه السلام في مقام آخر. الحمد للّه و سلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. أمّا بعد، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رضيني لنفسه أخا، و اختصّني له وزيرا. أيّها الناس أنا أنف الهدى و عيناه، فلا تستوحشوا من طريق الهدى لقلّة من يغشاه من زعم أنّ قاتلي مؤمن فقد قتلني. ألا و إنّ لكلّ دم ثائرا يوما، و إنّ الثّائر في دمائنا و الحاكم في حقّ نفسه و حقّ ذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السّبيل، ]هو[ الذي لا يعجزه ما طلب، و لا يفوته ما هرب، وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. و أقسم باللّه الذي فلق الحبّة و برأ النّسمة، لتنتحرنّ عليها يا بني أميّة، و لتعرفنّها في أيدي غيركم و دار عدوّكم عمّا قليل، و ستعلمنّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ.

بيان قال الجوهري انتحر الرجل أي نحر نفسه. و في المثل سرق السارق فانتحر. و انتحر القوم على الشي‏ء إذا تشاحوا عليه و تناحروا في القتال ]تقاتلوا مستميتين[.

 شا و من كلامه عليه السلام في معنى ما تقدم يا أهل الكوفة خذوا أهبتكم لجهاد عدوّكم معاوية و أشياعه. فقالوا يا أمير المؤمنين أمهلنا يذهب عنّا القرّ. فقال أما و اللّه الذي فلق الحبّة و برأ النّسمة، ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم ليس بأنّهم أولى بالحقّ منكم، و لكن لطاعتهم معاوية و معصيتكم لي. و اللّه لقد أصبحت الأمم كلّها تخاف ظلم رعاتها، و أصبحت أنا أخاف ظلم رعيّتي لقد استعملت منكم رجالا فخانوا و غدروا، و لقد جمع بعضهم ما ائتمنته عليه من في‏ء المسلمين، فحمله إلى معاوية. و آخر حمله إلى منزله تهاونا بالقرآن، و جرأة على الرّحمن، حتّى أنّي لو ائتمنت أحدكم على علاقة سوط لخان، و لقد أعييتموني. ثمّ رفع ]عليه السلام[ يده إلى السماء و قال أللّهمّ إنّي سئمت الحياة بين ظهراني هؤلاء القوم، و تبرّمت الأمل، فأتح لي صاحبي حتّى أستريح منهم و يستريحوا منّي، و لن يفلحوا بعدي.

بيان تاح له الشي‏ء و أتيح له الشي‏ء أي قدّر له. ذكره الجوهري. و المراد بالصاحب ملك الموت. عبّر كذلك لأظهار الاشتياق إلى الموت. و يحتمل ]أنّه[ أراد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو ]أراد[ ابن ملجم لعنه اللّه، فالمراد بصاحبي من قدّر لقتلي.

 شا روى مسعدة بن صدقة قال سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام يقول خطب الناس أمير المؤمنين ]عليه السلام[ بالكوفة فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال أنا سيّد الشّيب، و فيّ سنّة من أيّوب، و سيجمع اللّه لي أهلي كما جمع ليعقوب شمله، و ذلك إذا استدار الفلك، و قلتم مات أو هلك. ألا فاستشعروا قبلها بالصبر و بوءوا إلى اللّه بالذنب، فقد نبذتم قدسكم، و أطفأتم مصابيحكم، و قلّدتم هدايتكم من لا يملك لنفسه و لا لكم سمعا و لا بصرا، ضعف و اللّه الطالب و المطلوب. هذا و لو لم تتواكلوا أمركم، و لم تتخاذلوا عن نصرة الحقّ بينكم، و لم تهنوا عن توهين الباطل، لم يتشجّع عليكم من ليس مثلكم، و لم يقو من قوي عليكم، و لا هضم الطاعة و أزواؤها عن أهلها فيكم. تهتم كما تاهت بنو إسرائيل على عهد موسى. و بحقّ أقول ليضعفنّ عليكم التّيه من بعدي باضطهادكم ولدي، ضعف ما تاهت بنو إسرائيل على عهد موسى. و بحقّ قد استكملتم نهلا، و امتلأتم عللا من سلطان الشّجرة الملعونة في القرآن. لقد اجتمعتم على ناعق ضلال، و لأجبتم الباطل ركضا، ثمّ لغادرتم داعي الحقّ، و قطعتم الأدنى من أهل بدر، و وصلتم الأبعد من أبناء حرب. ألا و لو ذاب ما في أيديهم. لقد دنا التّمحيص للجزاء، و كشف الغطاء، و انقضت المدّة، و أزف الوعد، و بدا لكم النّجم من قبل المشرق، و أشرق لكم قمركم كملاء شهره، و كليلة تمّ، فإذا استبان ذلك، فراجعوا التّوبة، و خالفوا الحوبة، و اعلموا أنّكم إن أطعتم طالع المشرق سلك بكم منهاج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فتداويتم من الصمم، و استشفيتم من البكم، و كفيتم مئونة التّعسّف و الطّلب، و نبذتم الثّقل الفادح عن الأعناق. فلا يبعد اللّه إلّا من أبى الرّحمة، و فارق العصمة، وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.

 جا الكاتب عن الزّعفراني عن الثقفي عن محمد بن إسماعيل، عن زيد ابن المعدّل عن يحيى بن صالح عن الحارث بن حصيرة عن أبي صادق عن جندب بن عبد اللّه الأزدي قال سمعت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ]عليه السّلام[ يقول لأصحابه، و قد استنفرهم أيّاما إلى الجهاد فلم ينفروا أيّها الناس إنّي قد استنفرتكم فلم تنفروا، و نصحت لكم فلم تقبلوا، فأنتم شهود كأغياب و صمّ ذوو أسماع، أتلو عليكم الحكمة، و أعظكم بالموعظة الحسنة و أحثّكم على جهاد عدوّكم الباغين، فما آتي على آخر منطقي حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبا، فإذا أنا كففت عنكم عدتم إلى مجالسكم حلقا عزين تضربون الأمثال و تتناشدون الأشعار و تسألون عن الأخبار، قد نسيتم الاستعداد للحرب و شغلتم قلوبكم بالأباطيل. تربت أيديكم اغزوا القوم من قبل أن يغزوكم فو اللّه ما غزي قوم قطّ في عقر ديارهم إلّا ذلّوا. و ايم اللّه ما أراكم تفعلون حتّى يفعلوا، و لوددت أنّي لقيتهم على نيّتي و بصيرتي فاسترحت من مقاساتكم، فما أنتم إلّا كإبل جمّة أضلّ راعيها، فكلّما ضمّت من جانب انتشرت من جانب آخر. و اللّه لكأنّي بكم لو حمس الوغا و أحمّ البأس، قد انفرجتم عن عليّ بن أبي طالب انفراج الرّأس، و انفراج المرأة عن قبلها. فقام إليه الأشعث بن قيس الكندي فقال له يا أمير المؤمنين فهلّا فعلت كما فعل ابن عفّان فقال له عليه السّلام يا عرف النار ويلك إنّ فعل ابن عفّان لمخزاة على من لا دين له و لا حجّة معه، فكيف و أنا على بيّنة من ربّي ]و[ الحقّ في يدي و اللّه إنّ امرأ يمكّن عدوّه من نفسه، يخذع لحمه و يهشم عظمه و يفري جلده و يسفك دمه، لضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره أنت فكن كذلك إن أحببت، فأمّا أنا فدون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفي، يطير منه فراش الهام، و تطيح منه الأكفّ و المعاصم، و يفعل اللّه بعد ما شاء. فقام أبو أيّوب الأنصاري خالد بن زيد، صاحب منزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال أيّها الناس إنّ أمير المؤمنين قد أسمع من كانت له أذن واعية و قلب حفيظ، إنّ اللّه قد أكرمكم بكرامة لم تقبلوها حقّ قبولها، إنّه نزل بين أظهركم ابن عمّ نبيكم و سيّد المسلمين من بعده، يفقّهكم في الدين، و يدعوكم إلى جهاد المحلّين، فكأنّكم صمّ لا تسمعون، أو على قلوبكم غلف، مطبوع عليها، فأنتم لا تعقلون. أ فلا تستحيون عباد اللّه أ ليس إنّما عهدكم بالجور و العدوان أمس قد شمل البلاء و شاع في البلاد، فذو حقّ محروم و ملطوم وجهه و موطّأ بطنه، و ملقى بالعراء تسفي عليه الأعاصير، لا يكنّه من الحرّ و القرّ و صهر الشمس و الضّحّ، إلّا الأثواب الهامدة و بيوت الشعر البالية، حتّى جاءكم اللّه بأمير المؤمنين، فصدع بالحقّ، و نشر العدل، و عمل بما في الكتاب. يا قوم فاشكروا نعمة اللّه عليكم و لا تولّوا مدبرين، وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ، اشحذوا السيوف، و استعدّوا لجهاد عدوّكم، فإذا دعيتم فأجيبوا، و إذا أمرتم فاسمعوا و أطيعوا، و ما قلتم فليكن ما أضمرتم عليه تكونوا بذلك من الصادقين.

 كتاب الغارات بإسناده إلى جندب مثله.

بيان الحلق بفتح الحاء و كسرها و فتح اللام جمع حلقة. و قال الجوهري العزة الفرقة من الناس، و الهاء عوض من الباء، و الجمع عزى على ]وزن[ فعل. و عزون و عزون أيضا بالضمّ و منه قوله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ [37-  المعارج 70] قال الأصمعي يقال في الدار عزون أي أصناف من الناس. ]قوله عليه السلام[ »أضلّ راعيها« في بعض النسخ »ضلّ«. ]قال الجوهري[ في الصحاح قال ابن السّكّيت أضللت بعيري إذا ذهب منك. و ضللت المسجد و الدار إذا لم تعرف موضعها. و في الحديث »لعلي أضلّ اللّه« يريد أضلّ عنه أي أخفى عليه. و قال حمّ الشي‏ء و أحمّ قدّر و أحمّه أمر أي أهمّه. و أحمّ خروجنا أي دنا. و في سائر الروايات »و حمي البأس«. قوله عليه السلام »يا عرف النار« لعلّه عليه السلام شبّهه بعرف الديك، لكونه رأسا فيما يوجب دخول النار، أو المعنى أنّك من القوم الذين يتبادرون دخول النار من غير رويّة، كقوله تعالى » وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً«. و قال ]الفيروزآبادي[ في القاموس خذع اللحم و ما لا صلابة فيه كمنع خرزه و قطعه في مواضع. و قال صهرته الشمس كمنع صحرته. و الشي‏ء أذابه. و الصهر بالفتح الحار. و اصطهر و اصهار تلألأ ظهره من حرّ الشمس. و قال الضّحّ بالكسر الشمس و ضوؤها، و البراز من الأرض و ما أصابته الشمس. و قال الهمود الموت و تقطع الثوب من طول الطي. و الهامد البالي المسود المتغيّر.

 نهج ]و[ من خطبة له عليه السلام و قد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد، و قدم عليه عاملاه على اليمن و هما عبيد اللّه بن العباس و سعيد بن نمران، لمّا غلب عليهما بسر بن أرطاة، فقام عليه السلام إلى المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد و مخالفتهم ]له[ في الرأي فقال ما هي إلّا الكوفة أقبضها و أبسطها، إن لم تكوني إلّا أنت تهبّ أعاصيرك فقبّحك اللّه. و تمثّل ]عليه السلام بقول الشاعر[

لعمر أبيك الخير يا عمرو إنّني على وضر من ذا الإناء قليل

]ثم قال عليه السلام[ أنبئت بسرا قد اطّلع اليمن، و إنّي و اللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم و تفرّقكم عن حقّكم، و بمعصيتكم إمامكم في الحقّ و طاعتهم إمامهم في الباطل، و بأدائهم الأمانة إلى صاحبهم و خيانتكم، و بصلاحهم في بلادهم و فسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته أللّهم إنّي قد مللتهم و ملّوني، و سئمتهم و سئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، و أبدلهم بي شرّا منّي. اللّهم مث قلوبهم كإيماث الملح في الماء. أما و اللّه لوددت أنّ لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم، ]ثمّ تمثّل عليه السلام[

هنالك لو دعوت أتاك منهم فوارس مثل أرمية الحميم

ثمّ نزل عليه السلام من المنبر.

قال السيّد ]الرّضي[ رضي اللّه عنه الأرمية جمع »رميّ« و هو السحاب. و الحميم هاهنا وقت الصيف، و إنّما خصّ الشّاعر سحاب الصيف بالذكر لأنّه أشدّ جفولا و أسرع خفوقا، لأنّه لا ماء فيه و إنّما يكون السحاب ثقيل السير، لامتلائه بالماء. و ذلك لا يكون في الأكثر إلّا في زمان الشتّاء. ]و إنّما[ أراد ]الشاعر[ وصفهم بالسرعة إذا دعوا، و الإغاثة إذا استغيثوا، و الدليل عليه، قوله

»هنالك لو دعوت أتاك منهم«

بيان قوله عليه السلام »ما هي إلّا الكوفة أقبضها و أبسطها« أي ما مملكتي إلّا الكوفة أتصرّف فيها كما يتصرّف الإنسان في ثوبه يقبضه و يبسطه. و الكلام في معرض التحقير، أي ما أصنع بتصرّفي فيها مع حقارتها. و يحتمل أن يكون المراد عدم التمكن التامّ من التصرّف فيها لنفاق أهلها، كمن لا يقدر على لبس ثوب بل على قبضه و بسطه. أو المراد بالبسط بثّ أهلها للقتال عند طاعتهم. و بالقبض الاقتصار على ضبطهم عند المخالفة. و ]الخطاب[ في قوله ]عليه السلام[ »إن لم تكوني ]إلّا أنت«[ التفات. قوله عليه السلام »تهبّ أعاصيرك« الجملة في موضع الحال، و خبر »كان« محذوف، و لفظ الأعاصير على حقيقته، فإنّ الكوفة معروفة بهبوب الإعصار فيها. و يحتمل أن يكون مستعارا لآراء أهلها المختلفة، و التقدير إن لم تكوني إلّا أنت عدّة لي و جنّة ألقى بها العدوّ، و حظّا من الملك و الخلافة مع ما فيك من المذامّ، فقبحا لك و بعدا. و يمكن أن يقدر المستثنى منه حالا، أي إن لم تكوني على حال إلّا أن تهبّ فيك الأعاصير دون أن يكون فيك من يستعان به على العدوّ. و الإعصار ريح تهبّ و تمتدّ من الأرض كالعمود نحو السّماء. و قيل ]هو[ كلّ ريح فيها العصار، و هو الغبار الشّديد. و الوضر بفتح الضاد الدرن الباقي في الإناء بعد الأكل، و يستعار لكلّ بقيّة من شي‏ء يقلّ الانتفاع بها. و استعار بلفظ الإناء للدّنيا و بلفظ الوضر للقليل لما فيها لحقارتها. و روي »من ذي الآلاء« فإنّما أراد أنّي على بقيّة من هذا الأمر كالقدر الحاصل لناظر الآلاء، مع عدم انتفاعه بشي‏ء آخر فإنّ الآلاء كسحاب. ]»و سبا« غير مهموز[ شجر حسن المنظر مرّ الطعم. قوله عليه السّلام »قد اطّلع اليمن« أي غلبها و غزاها و أغار عليها. من الاطّلاع و هو الإشراف من مكان عال. قوله عليه السلام »سيدالون منكم« أي يغلبونكم و يكون لهم الدولة عليكم. و لعلّ التفرّق عن الحقّ و معصية الإمام واحد، أتى بهما تأكيدا. و قيل المراد بالحقّ الذي تفرّقوا عنه ]هو[ تصرّفهم في الفي‏ء و الغنائم و غيرها بإذن الإمام. و أداء الأمانة الوفاء بالعهد و البيعة أو مطلقا. و الصلاح في البلاد ترك التعرّض للناس و تهييج الفتن. و القعب القدح الضخم. قوله عليه السّلام »أن يذهب بعلاقته« الضمير المستتر راجع إلى الأحد ]في قوله »فلو ائتمنت أحدكم«[ و الباء للتعدية، أو إلى »القعب« و الباء بمعنى مع. و قوله عليه السّلام »خيرا منهم و شرّا منّي« صيغة أفعل فيه بمنزلتها في قوله تعالى » أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ« [51-  الفرقان 25] على سبيل التّنزل أو التهكم، أو أريد بالصيغة أصل الصفة بدون تفضيل. و لعلّ المراد بقوله »خيرا منهم« قوم صالحون ينصرونه و يوفّقون لطاعته، أو ما بعد الموت من مرافقة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و غيره من الأنبياء عليهم السلام. و تمنّيه عليه السلام لفوارس ]من[ فراس بن غنم ربما يؤيّد ]الوجه[ الأوّل. و يروى أنّ اليوم الذي دعا فيه عليه السلام ولد الحجّاج. و روي أنّه ولد بعد ذلك بمدّة يسيرة، و فعل الحجاج بأهل الكوفة مشهور. و يقال ماث زيد الملح في الماء أي أذابه. قوله عليه السّلام »لوددت ]أنّ لي بكم« إلى قوله »هنالك لو دعوت أتاك منهم«[ البيت لأبي جندب الهذلي، و بنو فراس حيّ مشهور بالشجاعة. و الجفول الإسراع. و الخفوق العجلة.

 نهج و قال عليه السلام لمّا بلغه إغارة أصحاب معاوية على الأنبار، فخرج بنفسه ماشيا حتّى أتى النخيلة فأدركه الناس، و قالوا يا أمير المؤمنين نحن نكفيكهم. فقال عليه السلام و اللّه لا تكفوني أنفسكم فكيف تكفوني غيركم إن كانت الرّعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، و إنّي اليوم لأشكو حيف رعيّتي، كأنّي المقود و هم القادة، أو الموزوع و هم الوزعة و لمّا قال عليه السلام هذا القول في كلام طويل قد ذكرنا مختاره في جملة الخطب تقدّم إليه رجلان من أصحابه فقال أحدهما » إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي، فمرنا بأمرك يا أمير المؤمنين ننفذ له«. فقال ]عليه السلام[ و أين تقعان ممّا أريد

بيان وزعه يزعه كفّه و منعه.

973-  كتاب الغارات لإبراهيم بن محمّد الثقفي بإسناده عن عمارة بن عمير أنّه قال كان لعلي عليه السلام صديق يكنّى بأبي مريم من أهل المدينة، فلمّا سمع بتشتّت الناس عليه أتاه، فلمّا رآه ]علي عليه السلام[ قال أبو مريم قال نعم. قال ما جاء بك قال إنّي لم آتك لحاجة، و لكنّي ]كنت[ أراك لو ولّوك أمر هذه الأمّة أجزأته. قال يا أبا مريم إنّي صاحبك الذي عهدت، و لكنّي منيت بأخبث قوم على وجه الأرض أدعوهم إلى الأمر ]الصائب[ فلا يتّبعوني، فإذا تابعتهم على ما يريدون تفرقوا عنّي.

 و عن فضيل بن جعد عن مولى الأشتر قال شكا عليّ عليه السلام إلى الأشتر فرار الناس إلى معاوية، فقال الأشتر يا أمير المؤمنين إنّا قاتلنا أهل البصرة بأهل البصرة، و أهل الكوفة، و الرأي واحد، و قد اختلفوا بعد و تعادوا، و ضعفت النّية، و قلّ العدل، و أنت تأخذهم بالعدل، و تعمل فيهم بالحقّ، و تنصف الوضيع من الشريف، و ليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع، فضجّ طائفة ممّن معك على الحقّ إذا عمّوا به، و اغتمّوا من العدل إذ صاروا فيه، و صارت صنائع معاوية عند أهل الغنى و الشرف، فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا، و قلّ من الناس من ليس للدنيا بصاحب، و أكثرهم من يجتوي الحقّ و يستمرئ الباطل و يؤثر الدنيا. فإن تبذل المال يا أمير المؤمنين تمل إليك أعناق الناس، و تصفو نصيحتهم، و تستنزل ودّهم، صنع اللّه لك يا أمير المؤمنين و كبت عدوّك، و فضّ جمعهم، و وهن كيدهم و شتّت أمورهم، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ. فأجابه عليّ عليه السلام فحمد اللّه و أثنى عليه و قال أمّا ما ذكرت من عملنا و سيرتنا بالعدل فإنّ اللّه يقول مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ و أنا من أكون مقصّرا فيما ذكرت أخوف. و أمّا ما ذكرت من أنّ الحقّ ثقل عليهم ففارقونا لذلك، فقد علم اللّه أنّهم لم يفارقونا من جور، و لم يلجئوا إلى عدل، و لم يلتمسوا إلّا دنيا زائلة عنهم، كأن قد فارقوها، و ليسألنّ يوم القيامة أ للدنيا أرادوا أم للّه عملوا و أمّا ما ذكرت من بذل الأموال و اصطناع الرجال، فإنّا لا يسعنا أن نؤتي امرأ من الفي‏ء أكثر من حقّه، و قد قال اللّه و قوله الحقّ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ و ]قد[ بعث ]اللّه[ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله وحده فكثره بعد القلّة، و أعزّ فئته بعد الذلّة، و إن يرد اللّه ]أن[ يولينا هذا الأمر، يذلّل لنا صعبه و يسهّل لنا حزنه و أنا قابل من رأيك ما كان للّه ]فيه[ رضا، و أنت من أعزّ أصحابي و أوثقهم في نفسي و أنصحهم عندي.

 كنز الكراجكي روي أنّ هذه الأبيات لأمير المؤمنين عليه السلام

أخذتكم درعا حصينا لتدفعوا سهام العدى عنّي فكنتم نصالهافإن أنتم لم تحفظوا لمودّتي ذماما فكونوا لا عليها و لا لهاقفوا موقف المعذور عنّي بجانب و خلّوا نبالي للعدى و نبالها