أركان القسم

إنّ القسم من الاَُمور ذات الاِضافة وهو فعل فاعل مختار له إضافة إلى أُمور أربعة:

أ. الحالف.

ب. ما يحلف به.

ج. ما يحلف عليه.

د. الغاية من القسم.

 

أمّا الاَوّل: فالحلف عبارة عن فعل الفاعل المختار، فلا يصدر إلاّ منه سواء أكان واجباً كاللّه سبحانه أم ممكناً كالاِنسان وغيره.

 

والذي يتناوله بحثنا في هذا الكتاب هو القسم الذي صدر عن الواجب في كتابه العزيز دون سواه.

 

فلا نتعرض لما حلف به الشيطان في القرآن وقال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعين﴾.(1)

 

ثمّ إنّ أدوات القسم عبارة عن الاَُمور الاَربعة، أعني: الباء والتاء والواو واللام، وأمثلة الكل واضحة، وأمّا الاَخير فكقول الشاعر:

 

للّهِ لا يبقى على الاَيام ذُو حيَدٍ

 

 

بمُشمَخر به الطيّانُ والآسُ (2)

 

 

وسيوافيك انّ حرف الباء يجتمع مع فعل القسم دون سائر الاَدوات، إذ يحذف فيها فعله، أعني: أقسم.

 

وأمّا الثاني ـ أي ما يحلف به ـ:فانّلكلّ قوم، أُموراً مقدّسة يحلفون بها، وأمّا القرآن الكريم فقد حلَفَ سبحانه بأُمور تجاوزت عن الاَربعين مقسماً به.

 

وأمّا الثالث ـ أي ما يحلف عليه ـ:والمراد هو جواب القسم الذي يراد منه التأكيد عليه وتثبيته وتحقيقه، وهذا ما يقال القصد بالقسم تحقيق الخبر وتوكيده.

 

ففي الآية التالية تتجلّى الاَركان الثلاثة، وتقول: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللّهُ مَنْ يَمُوت﴾. (3)

فقوله: ﴿وأقسموا﴾ فهو الركن الاَوّل.

وقوله: ﴿باللّه﴾ هو المقسم به.

وقوله: ﴿لا يبعث اللّه من يموت﴾ هو المقسم عليه وكثيراً ما يحذف الفعل وذلك لكثرة تردّد القسم في كلامهم ويكتفى بالواو أو التاء في أسماء اللّه.

 

نعم، يلازم الاِقسام بالباء ذكر الفعل، كما في الآية السابقة، وقوله: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرضُوكُمْ وَاللّهُ وَرسولُهُ أَحَقُّ أن يُرْضُوهُ﴾. (4)

 

وعلى ضوء ذلك فباء القسم يلازم مع ذكر فعله، كما أنّواو القسم وتاءه يلازم مع حذفه، فيقال: أقسم باللّه، ولا يقال: أقسم تاللّه أو أقسم واللّه بل يقتصر على قوله: تاللّه، واللّه، يقول سبحانه: ﴿وَتَاللّهِ لاََكِيدَنّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَن تُولُّوا مُدْبِرِين﴾ (5)، وقوله: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أنْ قالُوا وَاللّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكين﴾. (6)

 

وثمة نكتة جديرة بالاِشارة وهي أنّأكثر المفسرين حينما تطرّقوا إلى الاَقسام الواردة في القرآن الكريم ركّزوا جهودهم لبيان ما للمقسم به من أسرار و رموز كالشمس والقمر في قوله سبحانه: ﴿والشَّمْسِ وَضُحاها * وَالْقَمرِ إِذا تَلاها﴾ (7) أو قوله: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون﴾ (8) ولكنّهم غفل والعلاقة بين المقسم به والمقسم عليه لاحظ مثلاً قوله سبحانه: ﴿وَالضُّحى* وَالليلِ إِذا سَجى* ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى﴾ (9) فالضحى والليل مقسم بهما وقوله: ﴿ما ودَّعك ربّك وما قلى﴾ هو جواب القسم الذي نعبّر عنه بالمقسم عليه، فهناك صلة في الواقع بين المقسم به والمقسم عليه، وهو أنّه لماذا لم يقسم بالشمس ولا بالقمر ولا بالتين ولا بالزيتون بل حلف بالضحى والليل لاَجل المقسم عليه أعني قوله: ﴿ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى﴾؟

 

وصفوة القول: إنّ كلّ قسم جدير لتحقيق الخبر، ولكن يقع الكلام في كلّقسم ورد في القرآن الكريم أنّه لماذا اختار المقسم به الخاص دون سائر الاَُمور الكثيرة التي يقسم بها؟ فمثلاً: لماذا حلف في تحقيق قوله: ﴿ما ودّعك﴾ بقوله: ﴿والضحى والليل﴾ ولم يقسم بالشمس والقمر؟ وهذا هو المهم في بيان أقسام القرآن، ولم يتعرّض له أكثر المفسرين ولا سيما ابن قيم الجوزية في كتابه "التبيان في أقسام القرآن" إلاّ نزراً يسيراً.

 

ثمّإنّ الغالب هو ذكر جواب القسم، وربما يحذف كما يحذف جواب لو كثيراً، أمّا الثاني فكقوله سبحانه: ﴿وَلَو أَنَّ قُرآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاََرْضُ أَوْكُلِّمَ بِهِ الْمَوتى﴾ (10) فانّ الجواب محذوف، وهو نظير قوله: "لما آمنوا".

 

وأمّا الاَوّل، فكقوله سبحانه: ﴿ص والقُرآنِ ذِي الذِّكر﴾ (11)، فانّ الحلف بالقرآن الكريم المعرب عن تعظيمه ووصفه بأنّه مذكِّر للعباد يدل على جوابه وهو انّه منزّل من عنده سبحانه غير مفترى، وما أشبه ذلك. وعلى كلّحال، فالغالب هو الاَوّل أي الاِتيان بالجواب.

 

إلى هنا تمّ بيان أركان القسم الثلاثة، وثمة ركن رابع، وهو الغاية المتوخّاة من القسم، فنقول: إنّ الغاية إمّا هي تحقيق الخبر ودعوة المخاطب إلى الاِيمان والاِذعان به، كما هو الغالب، أو إلفات النظر إلى عظمة المقسم به، وما يكمن فيه من أسرار ورموز، أو لبيان قداسته وكرامته، كما في قوله:﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُون﴾. (12)

 

ومن خلال هذا البيان، يتضح الجواب على ما ربما يقال من أنّحلفه سبحانه إن كان لاَجل الموَمن فهو يصدقه بلا حلف، وإن كان لاَجل الكافر فلا يفيده.

 

والجواب: انّ إيمان الموَمن بصدق إخباره سبحانه لا ينافي تأكيده بالحلف، مضافاً إلى ما عرفت من أنّ حلفه سبحانه بشيء إشارة إلى كرامته وقداسته أو إلى عظمته وما يكمن فيه من أسرار ورموز.

 

 

 

1- ص:82.

2- والحيد كعنب جمع حيدة وهو القرن فيه عقد، والمشمخر الجبل العالي، والطيّان الياسمين الصحرائي والآس شجر معروف.

3- النحل:38.

4- التوبة: 62.

5- الاَنبياء:57.

6- الاَنعام:23.

7- الشمس: 1ـ2.

8- التين:1.

9- الضحى: 1ـ3.

10- الرعد:31.

11- ص:1.

12- الحجر:72.