سورة الانعام الآية 1-20

في كتاب ثواب الأعمال ، بإسناده، عن ابن عبّاس قال: من قرأ سورة الأنعام في كلّ ليلة، كان من الآمنين يوم القيامة، ولم ير بعينه مقدم النّار .

و قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام- : نزلت سورة الأنعام جملة واحدة يشيّعها ، سبعون ألف ملك، حتّى أنزلت  على محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- فعظّموها وبجّلوها، فإنّ اسم اللّه فيها في سبعين موضعا، ولو علم النّاس ما فيها ما تركوها.

و في أصول الكافيّ ، بإسناده إلى الحسن بن عليّ بن أبي حمزة رفعه قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّ سورة الأنعام نزلت جملة [واحدة] .- وذكر كما في كتاب‏ثواب الأعمال سواء، إلّا أنّ في آخر الحديث: ولو يعلم النّاس ما في قراءتها ما تركوها.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن الحسن  بن خالد، عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- قال: نزلت الأنعام جملة واحدة يشيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتّسبيح والتّهليل والتّكبير، فمن قرأها سبّحوا له إلى يوم القيامة.

و في مجمع البيان : أبيّ بن كعب، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال: نزلت  عليّ الأنعام جملة واحدة يشيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتّسبيح والتّحميد، فمن قرأها صلّى عليه أولئك السّبعون ألف ملك بعدد كلّ آية من الأنعام يوما وليلة.

و روى جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ ، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال: من قرأ ثلاث آيات من أوّل سورة الأنعام إلى قوله وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ وكّل اللّه به أربعين ألف ملك يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة، وينزل ملك من السّماء السّابعة ومعه مرزبة  من حديد فإذا أراد الشّيطان أن يوسوس  أو يرمي  في قلبه شيئا، ضربه بها ضربة .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: أخبر بأنّه- تعالى- حقيق بالحمد، ونبّه على أنّه المستحقّ له على هذه النّعم الجسام حمد أو لم يحمد، ليكون حجّة على الّذين هم «بربّهم يعدلون».

و جمع «السموات» دون «الأرض» وهي مثلهنّ، لأنّ طبقاتها مختلفة بالذّات، متفاوتة الآثار والحركات، وقدّمها لشرفها وعلو مكانها وتقدّم وجودها.وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ: أنشأهما.

و الفرق بين «خلق» و«جعل» الّذي له مفعول واحد، أنّ الخلق فيه معنى التّقدير، والجعل فيه معنى التّضمّين. ولذلك عبّر عن إحداث النّور والظّلمة بالجعل، تنبيها على أنّهما لا يقومان بأنفسهما، كما زعمت الثّنويّة .

و جمع «الظّلمات» لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها، أو لأنّ المراد بالظّلمة الضّلالة وبالنّور الهدى والهدى واحد والضّلال متعدّد. وتقديمها، لتقدّم  الإعدام على الملكات. ومن زعم أنّ الظّلمة عرض يضادّ النّور، احتجّ بهذه الآية ولم يعلم أنّ عدم الملكة كالعمى، ليس صرف العدم حتّى لا يتعلّق به الجعل.

ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ : عطف على قوله: «الحمد للّه» على معنى: أنّ اللّه حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد «ثمّ الّذين كفروا به يعدلون» فيكفرون نعمته. ويكون «بربّهم» للتّنبيه على أنّه خلق هذه الأشياء أسبابا لتكوّنهم وتربّيهم، فمن حقّه أن يحمد عليها ولا يكفر. أو على قوله: «خلق» على معنى: أنّه خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ، ثمّ هم يعدلون به ما لا يقدر على شي‏ء منه.

و معنى «ثمّ» استبعاد عدولهم بعد هذا البيان.

و الباء على الأوّل متعلّق ب «كفروا» وجملة «يعدلون» محذوفة، أي: يعدلون عنه، ليقع الإنكار على نفس الفعل. وعلى الثّاني متعلّقة ب «يعدلون» والمعنى: أنّ الكفّار يعدلون بربّهم الأوثان، أي: يسوّونها به.

و في كتاب الاحتجاج» للطّبرسيّ- رحمه اللّه- قال أبو محمّد الحسن العسكريّ- عليه السّلام-: ذكر عند الصّادق- عليه السّلام- الجدال في الدّين، وأنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- والأئمّة- عليهم السّلام- قد نهوا عنه.

فقال الصّادق- عليه السّلام-: لم ينه عنه مطلقا ولكن نهى عن الجدال بغير الّتي‏هي أحسن، أما تسمعون قول اللّه - تعالى-: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وقوله- تعالى-: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلى أن قال الصّادق- عليه السّلام-: ولقد حدّثني أبي الباقر، عن جدّى عليّ بن الحسين [عن أبيه الحسين‏]  بن علىّ سيّد الشّهداء، عن [أبيه‏]  أمير المؤمنين- صلوات اللّه عليهم- أنّه اجتمع يوما عند رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أهل [خمسة]  أديان، اليهود والنّصارى والدّهريّة والثّنويّة ومشركوا العرب. إلى أن قال- عليه السّلام-:

ثمّ أقبل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- على الدّهريّة.

فقال: وأنتم، فما الّذي دعاكم إلى القول: بأنّ الأشياء لا بدء لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال؟

فقالوا: لأنّا لا نحكم إلّا بما نشاهده، ولم نجد للأشياء محدثا  فحكمنا بأنّها لم تزل، ولم نجد لها انقضاء وفناء فحكمنا بأنّها لا تزال.

فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أ وجدتم لها قدما أم وجدتم لها بقاء أبد الآبد؟ فإن قلتم إنّكم وجدتم ذلك، أنهضتم لأنفسكم أنّكم لم تزالوا على [الّذين يشاهدون على أنفسكم‏]  وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك. ولئن قلتم هذا، دفعتم العيان وكذّبكم  العالمون الّذين  يشاهدونكم.

قالوا: بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد.

قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: فلم صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما، لأنّكم لم تشاهدوا حدوثها وانقضاءها أولى من تارك التّميّز لها مثلكم فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع، لأنّه لم يشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد، أو لستم تشاهدون اللّيل والنّهار وأحدهما بعد الآخر؟

فقالوا: نعم.فقال: أ ترونهما  لم يزالا ولا يزالان؟

فقالوا: نعم.

قال: أ فيجوز عندكم اجتماع اللّيل والنّهار؟

فقالوا: لا.

فقال- صلّى اللّه عليه وآله-: فإذا ينقطع  أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثّاني جاريا بعده؟

قالوا: كذلك هو.

فقال: قد حكمتم بحدوث ما تقدّم من ليل ونهار ولم تشاهدوهما، فلا تنكروا للّه قدرته .

ثمّ قال- صلّى اللّه عليه وآله-: أ تقولون ما قبلكم من اللّيل والنّهار متناه أم غير متناه؟ فإن قلتم: غير متناه، فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوّله. وإن قلتم: إنّه متناه، فقد كان ولا شي‏ء منهما.

قالوا: نعم.

قال لهم أقلتم: إنّ العالم قديم غير محدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه؟

قالوا: نعم.

قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: فهذا الّذي تشاهدونه من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر لأنّه لا قوام للبعض إلّا بما يتّصل به، ألا ترى  البناء محتاجا بعض أجزائه إلى بعض وإلّا لم يتّسق ولم يستحكم وكذلك سائر ما نرى.

قال: فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوّته وتمامه هو القديم، فأخبروني أن لو كان محدثا كيف كان يكون [ربّا]  وما ذا كانت تكون صفته؟قال: فبهتوا، وعلموا أنّهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلّا وهي موجودة في هذا الّذي زعموا أنّه قديم [فوجموا]  وقالوا: سننظر في أمرنا.

ثمّ أقبل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- على الثّنويّة الّذين قالوا: إنّ النّور والظّلمة هما المدبّران.

فقال: وأنتم فما الّذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا؟

فقالوا: لأنّا وجدنا العالم صنفين، خيرا وشرّا. ووجدنا الخير ضدّا للشّرّ، فأنكرنا أن يكون فاعل واحد يفعل الشّي‏ء وضدّه، بل لكلّ واحد منهما فاعل. ألا ترى أنّ الثّلج محال أن يسخن، كما أنّ النّار محال أن تبرد، فأثبتنا لذلك صانعين قديمين، ظلمة ونورا.

فقال لهم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أ فلستم [قد وجدتم‏]  سوادا وبياضا وحمرة وصفرة وخضرة وزرقة، وكلّ واحد ضدّ لسائرها لاستحالة اجتماع اثنين منها  في محلّ واحد، كما كان الحرّ والبرد ضدّين لاستحالة اجتماعهما في محلّ واحد؟

قالوا: نعم.

قال: فهلا أثبتم بعدد كلّ لون صانعا قديما، ليكون فاعل كلّ ضدّ من هذه الألوان غير فاعل الضّدّ الآخر؟

قال: فسكتوا.

ثمّ قال- صلّى اللّه عليه وآله-: وكيف اختلط النّور والظّلمة وهذا من طبعه الصّعود وهذا من طبعه  النزول؟ أرأيتم لو أنّ رجلا أخذ شرقا يمشي إليه والآخر غربا أ كان يجوز عندكم أن يلتقيا ما داما سائرين على وجوههما ؟

قالوا: لا.

قال- عليه السّلام-: فوجب أن لا يختلط النّور والظّلمة لذهاب كلّ واحد منهما في غير جهة الآخر، فكيف وجدتم حدث هذا العالم من امتزاج ما لا مجال  أن يمتزج بل‏

هما مدبّران جميعا مخلوقان؟

فقالوا: سننظر في أمرنا.

ثمّ أقبل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- على مشركي العرب فقال: وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون اللّه- تعالى-؟

فقالوا: نتقرّب بذلك إلى اللّه- تعالى-.

فقال لهم: أو هي سامعة مطيعة لربّها عابدة له حتّى تتقرّبوا بتعظيمها إلى اللّه- عزّ وجلّ-؟

قالوا: لا.

قال: فأنتم الّذين نحتّموها  بأيديكم؟

 [قالوا: نعم.

قال:]  فلئن تعبدكم هي- لو كان يجوز منها العبادة- أحرى من أن تعبدوها، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلّفكم.

قال: فلمّا قال لهم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- هذا اختلفوا.

فقال بعضهم: إنّ اللّه قد حلّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصّورة، فصوّرنا هذه الصّور نعظّمها لتعظيمنا تلك الصّورة الّتي حلّ فيها [ربّنا] .

و قال آخرون منهم: إنّ هذه صور أقوام سلفوا كانوا بها  مطيعين للّه قبلنا، فمثّلنا صورهم وعبدناها تعظيما للّه.

و قال آخرون منهم: إنّ اللّه لمّا خلق آدم وأمر الملائكة بالسّجود له [فسجدوه تقرّبا للّه‏]  كنّا نحن أحقّ بالسّجود لآدم من الملائكة، ففاتنا ذلك، فصوّرنا صورته، فسجدنا لها [تقرّبا]  إلى اللّه، كما تقرّبت الملائكة بالسّجود لآدم إلى اللّه، وكما أمرتم بالسّجود بزعمكم إلى جهة مكّة ففعلتم، ثمّ نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب‏سجدتم إليها وقصدتم الكعبة لا محاريبكم، وقصدكم  بالكعبة إلى اللّه لا إليها.

فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أخطأتم الطّريق وضللتم، أمّا أنتم- وهو صلّى اللّه عليه وآله يخاطب الّذين قالوا: إنّ اللّه يحلّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصّورة الّتي صوّرناها، فصوّرنا هذه الصّور نعظّمها  لتعظيمنا لتلك الصّور الّتي حلّ فيها ربّنا- فقد وصفتم ربّكم بصفة المخلوقات، أو يحلّ ربّكم في شي‏ء حتّى يحيط به ذلك الشّي‏ء؟! فأيّ فرق بينه إذا وبين سائر ما يحلّ فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقله وخفته؟ ولم صار هذا المحلول فيه محدثا وذلك قديما دون أن يكون ذلك محدثا وهذا قديما؟ وكيف يحتاج إلى المحلّ  من لم يزل قبل المحلّ  وهو- عزّ وجلّ- كان  لم يزل.

و إذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول، فقد لزمكم أن تصفوه بالزّوال وما وصفتموه بالزّوال والحدوث فصفوه بالفناء. لأنّ ذلك أجمع من صفات الحالّ والمحلول  فيه، وجميع ذلك متغيّر الذّات. فإن كان لم يتغيّر ذات الباري- تعالى- بحلوله في شي‏ء، جاز أن لا يتغيّر، بأن يتحرّك ويسكن ويسودّ ويبيضّ ويحمرّ ويصفرّ وتحلّه  الصّفات الّتي تتعاقب على الموصوف بها حتّى يكون فيه جميع صفات المحدثين ويكون محدثا تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

 

ثمّ قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: فإذا بطل ما ظننتموه من أنّ اللّه- تعالى- يحلّ في شي‏ء، فقد فسد ما بنيتم عليه قولكم.

قال: فسكت القوم وقالوا: سننظر في أمورنا.

ثمّ أقبل [رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-]  على الفريق الثّاني فقال: أخبرونا عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد اللّه فسجدتم لها وصلّيتم فوضعتم الوجوه الكريمة على‏التّراب بالسّجود لها، فما الّذي أبقيتم لربّ العالمين؟ أما علمتم أنّ من حقّ من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوى به عبده؟ أرأيتم ملكا أو عظيما إذا سوّيتموه بعبيده» في التّعظيم والخشوع والخضوع أ يكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصّغير؟

فقالوا: نعم.

قال: أفلا تعلمون أنّكم من حيث تعظّمون اللّه بتعظيم صور عباده المطيعين له تزرون على ربّ العالمين.

قال: فسكت القوم بعد أن قالوا: سننظر في أمرنا.

ثمّ قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- للفريق الثّالث لقد ضربتم لنا مثلا وشبّهتمونا بأنفسكم ولسنا سواء، وذلك أنّا عباد اللّه مخلوقون مربوبون، نأتمر فيما أمرنا وننزجر عمّا زجرنا ونعبده من حيث يريده منّا. فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعدّ إلى غيره ممّا لم يأمرنا اللّه به ولم يأذن لنا، لأنّا لا ندري لعلّه وإن أراد منّا الأوّل فهو يكره الثّاني وقد نهانا أن نتقدّم بين يديه. فلمّا أمرنا أن نعبده بأن نتوجّه  إلى الكعبة أطعناه، ثمّ أمرنا بعبادته بالتّوجّه نحوها في سائر البلدان الّتي نكون بها فأطعناه. فلم نخرج في شي‏ء من ذلك من اتّباع أمره، واللّه- عزّ وجلّ- حيث أمر  بالسّجود لآدم لم يأمر  بالسّجود لصورته الّتي هي غيره، فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه لأنّكم لا تدرون لعلّه يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به.

ثمّ قال لهم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أرأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوما بعينه، أ لكم أن [تدخلوها بعد ذلك بغير أمره، أو لكم أن‏]  تدخلوا دارا له أخرى مثلها بغير أمره؟ أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه أو عبدا من عبيده أو دابّة من دوابّه، أ لكم أن تأخذوا ذلك؟ [قالوا: نعم.

قال:]  فإن لم تأخذوه ألكم أخذ  آخر مثله؟

قالوا: لا، لأنّه لم يأذن لنا في الثّاني، كما أذن في الأوّل.

قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: فأخبروني اللّه أولى بأن لا يتقدّم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين؟

قالوا: بل اللّه أولى بأن لا يتصرّف في ملكه بغير إذنه .

قال: فلم عملتم  ومتى أمركم  أن تسجدوا لهذه الصّور؟

قال: فقال القوم: سننظر في أمرنا ، ثمّ سكتوا.

و قال الصّادق- عليه السّلام-: والّذي بعثه بالحقّ نبيّا، ما أتت على جماعتهم إلّا ثلاثة أيّام حتّى أتوا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فأسلموا، وكانوا خمسة وعشرين رجلا، من كلّ فرقة خمسة، وقالوا: ما رأينا مثل حجّتك، يا محمّد، نشهد أنّك رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

و قال الصّادق- عليه السّلام-: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام- فأنزل اللّه- تعالى- الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وكان في هذه الآية ردّ على ثلاثة أصناف منهم، لما قال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كان ردّا على الدّهريّة الّذين قالوا: إنّ الأشياء لا بدء لها وهي دائمة. ثمّ قال: [وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فكان ردّا على الثنويّة الّذين قالوا:

إنّ النور والظلمة هما المدبّران. ثم قال: ثُمَ‏]  الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فكان ردّا على مشركي العرب الّذين قالوا: إنّ أوثاننا آلهة.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.و في تفسير العيّاشيّ : عن جعفر بن أحمد، عن العمركيّ بن عليّ، عن العبيديّ، عن يونس بن عبد الرّحمن، عن عليّ بن جعفر، عن أبي إبراهيم قال: لكلّ صلاة وقتان، وقت يوم الجمعة زوال الشّمس. ثمّ تلا هذه الآية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [قال: يعدلون‏]  بين الظّلمات والنّور وبين الجور والعدل.

و في كتاب التّوحيد ، خطبة لعليّ- عليه السّلام- يقول فيها: فمن ساوى ربّنا بشي‏ء فقد عدل به، والعادل به الكافر بما تنزّلت  به محكمات آياته ونطقت به شواهد حجج بيّناته. لأنّه اللّه الّذي لم يتناه في العقول، فيكون في نهب  فكرها مكيفا وفي حواصل رويّات همم النّفوس محدودا مصرّفا. المنشئ أصناف الأشياء بلا رويّة احتاج إليها، ولا قريحة غريزة أضمر عليها، ولا تجربة أفادها من مرّ حوادث  الدّهور، ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور.

و فيها- أيضا-: كذب العادلون باللّه إذ شبّهوه بمثل أصنافهم، وحلّوه حلية المخلوقين بأوهامهم وجزّوه  بتقديره منتج  خواطرهم وقدّروه على الخلق المختلفة القوى بقرائح عقولهم.

و في تهذيب الأحكام : عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إذا قرأتم الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ينبغي  أن تقول: كذب العادلون باللّه.

قلت له: فإن لم يقل الرّجل شيئا من هذا إذا قرأ؟قال: ليس عليه شي‏ء.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ: ابتدأ خلقكم منه، فإنّه المادة الأولى. أو أنّ آدم الّذي هو أصل البشر خلق منه.

قيل : أو خلق آباءكم، فحذف المضاف.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن ربعي بن عبد اللّه، عن رجل، عن عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- قال: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- خلق النّبيّين من طينة علّيّين قلوبهم وأبدانهم وخلق قلوب المؤمنين من تلك الطّينة، وجعل خلق أبدان المؤمنين من دون ذلك. وخلق الكفّار من طينة سجّين [قلوبهم وأبدانهم،]  فخلط بين الطّينتين. فمن هذا يلد المؤمن الكافر ويلد الكافر المؤمن، ومن هاهنا يصيب المؤمن السّيّئة ومن هاهنا يصيب الكافر الحسنة، فقلوب المؤمنين تحنّ إلى ما خلقوا منه وقلوب الكفّار تحنّ إلى ما خلقوا منه.

محمّد بن عيسى ، عن محمّد بن الحسين ، عن النّضر بن شعيب، عن عبد الغفّار الجازيّ ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سمعته يقول: الطّينات ثلاثة: طينة الأنبياء والمؤمن من تلك الطّينة، إلّا أنّ الأنبياء من صفوتها، هم الأصل ولهم فضلهم، والمؤمنون الفرع من طيب لازب، لا يفرّق اللّه- تعالى- بينهم وبين شيعتهم.

و قال: طينة النّاصب من حمأ مسنون. وأمّا المستضعفون فمن تراب لا يتحوّل مؤمن من إيمانه ولا ناصب عن نصبه، وللّه المشيئة فيهم.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن صالح بن سهل قال: قلت‏لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: جعلت فداك، من أيّ شي‏ء خلق اللّه- عزّ وجلّ- طينة المؤمن؟

فقال: من طينة الأنبياء، فلن تنجس  أبدا.

عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد وغير واحد، عن الحسين بن الحسن جميعا، عن محمّد بن أورمة، عن محمّد بن عليّ، عن إسماعيل بن يسار، عن عثمان بن يوسف قال: أخبرني عبد اللّه بن كيسان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قلت له:

جعلت فداك، مولاك عبد اللّه بن كيسان.

قال: أمّا النسب فأعرفه، وأمّا أنت فلست أعرفك.

قال: قلت له: إنّي ولدت بالجبل ونشأت في أرض فارس. وإنّني أخالط [النّاس في التجارات وغير ذلك، فأخالط]  الرّجل فأرى له حسن السّمت  وحسن الخلق وكثرة أمانة، ثمّ أفتّشه [فأفتّشه عن عداوتكم. وأخالط الرّجل فأرى منه سوء الخلق وقلّة أمانة ودعارة ، ثمّ أفتّشه‏]  فأفتّشه  عن ولايتكم. فكيف يكون ذلك؟

قال: فقال لي: أما علمت، يا بن كيسان، أنّ اللّه- عزّ وجلّ- أخذ طينة من الجنّة وطينة من النّار فخلطهما جميعا ثمّ نزع  هذه من هذه وهذه من هذه، فما رأيت من أولئك من الأمانة وحسن الخلق وحسن السّمت فممّا مسّهم من طينة الجنّة وهم يعودون إلى ما خلقوا منه، وما رأيت من هؤلاء من قلّة الأمانة وسواء الخلق والدعارة  فممّا مسّهم من طينة النّار وهم يعودون إلى ما خلقوا.

ثُمَّ قَضى أَجَلًا: كتب غير مسمّى، يمحوه ويثبت غيره للصّدقة والدّعاء وصلة الرّحم وغيرها. وفيه البداء.وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ: لا يتقدّم ولا يتأخّر، وهو المحتوم». والأوّل يسمّى موقوفا. وقد أطلق في بعض الأخبار «المسمّى» في مقابل «المحتوم» عليه، وسيأتي.

و في تفسير العيّاشيّ : عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- تعالى-: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ قال: الأجل الّذي غير مسمّى موقوف يقدّم منه ما يشاء ، وأمّا الأجل المسمّى فهو الّذي ينزل ممّا يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها [من قابل‏] . قال: فذلك قول اللّه- تعالى-: إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ .

عن حمران ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ-:

ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى.

قال: المسمّى عنده  ما يسمّى  لملك الموت في تلك اللّيلة، وهو الّذي قال اللّه- تعالى-: إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ وهو الّذي يسمّي  لملك الموت في ليلة القدر. والآخر له فيه المشيئة، إن شاء قدّمه، وإن شاء أخّره.

و في رواية حمران عنه : وأمّا الأجل الّذي غير مسمّى عنده، فهو أجل موقوف يقدّم فيه ما يشاء ويؤخر فيه ما يشاء. وأمّا الأجل المسمّى، فهو الّذي سمّي في ليلة القدر.

عن حصين ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله: قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ قال: [ثمّ قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-]  الأجل الأوّل هو ما نبذه إلى الملائكة والرّسل والأنبياء، والأجل المسمّى عنده هو الّذي ستره عن الخلائق.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن فضال، عن‏

 ابن بكير، عن زرارة، عن حمران، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ.

قال هما أجلان: أجل محتوم وأجل موقوف.

و أمّا

ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره  قال: «حدّثني أبي، عن النّضر بن سويد ، عن عبد اللّه بن مسكان، عن الحلبيّ ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:

الأجل المقضيّ [هو]  المحتوم الّذي قضاه [اللّه‏]  وحتمه، والمسمّى  هو الّذي فيه البداء، يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء. والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير »

فمعناه: أنّ الأجل المقضيّ وأمّا محتوم أو غير محتوم. والمقضيّ المحتوم هو ما ليس فيه البداء. [و المقضيّ الغير المحتوم فيه البداء]  ويطلق عليه المسمّى لكن بالقرينة، كما في الخبر.

لا أنّ المراد في الآية بالمسمّى ذلك حتّى ينافي الأخبار الأوّلة. والدّليل على ما ذكرنا أنّ المقضيّ في الخبر موصوف بالمحتوم، فلو كان المقضيّ هو المحتوم لم يفد التّوصيف.

ثمّ‏

قال : وحدّثني ياسر، عن الرّضا- عليه السّلام- قال: ما بعث اللّه نبيّا إلّا بتحريم الخمر، وأن يقرّ له بالبداء أن يفعل اللّه ما يشاء، وأن يكون في تراثه الكندر .

وَ أَجَلٌ: نكرة خصّت بالصّفة، ولذلك استغنى عن تقديم الخبر والاستئناف به لتعظيمه، ولذلك نكّر ووصف بأنّه «مسمّى».

ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ : استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت أنّه خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم  إلى آجالهم. فإنّ من قدر على خلق الموادّ وجمعها وإبداع الحياة فيها وإبقائها ما شاء، كان أقدر على جمع تلك الموادّ وإحيائها ثانيا. فالآية الأولى دليل‏

التّوحيد، والثّانية دليل البعث.

و الامتراء: الشّكّ. وأصله، المري، وهو استخراج اللّبن من الضّرع.

وَ هُوَ اللَّهُ: الضّمير للّه، و«اللّه» خبره.

فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ: متعلّق باسم اللّه. والمعنى: هو المستحقّ للعبادة فيهما لا غير، كقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ. أو بقوله:

يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ: خبر ثان. أو هي الخبر و«اللّه» بدل. ويكفي لصحّة الظّرفيّة [كون المعلوم فيهما، كقولك: رميت الصيد في الحرم، إذا كنت خارجه والصيد فيه‏]  أو ظرف مستقرّ وقع خبرا، بمعنى: أنّه- تعالى- لكمال علمه بما فيهما [كأنّه فيهما]  ويَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ بيان وتقرير له وليس متعلّقا بالمصدر، لأنّ صفته لا تتقدّم عليه.

في كتاب التّوحيد ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في هذه الآية قال: كذلك هو في كلّ مكان.

قلت : بذاته؟

قال: ويحك، إنّ الأماكن أقدار. فإذا قلت في مكان بذاته، لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك. ولكن هو بائن من خلقه، محيط بما خلق علما وقدرة [و إحاطة]  وسلطانا [و ملكا.]  وليس علمه بما في الأرض بأقل ممّا في السّماء، ولا يبعد منه شي‏ء، والأشياء عنده  سواء علما وقدرة وسلطانا وملكا وإحاطة.

وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ : من خير أو شرّ.

قيل : ولعلّه أريد بالسّرّ والجهر ما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس، وبالمكتسب أعمال الجوارح.و في تفسير عليّ بن إبراهيم  قال: السّرّ، ما أسرّ في نفسه. والجهر، ما أظهره.

و الكتمان ، ما عرض بقلبه ثمّ نسيه.

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ:

 «من» الأولى زائدة للاستغراق. والثّانية للتّبعيض، أي: ما يظهر لهم دليل قطّ من الأدلّة، أو معجزة من المعجزات، أو آية من آيات القرآن.

إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ : تاركين النّظر فيه غير ملتفتين.

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ:

قيل : يعني: القرآن. وهو كالّلازم لما قبله، كأنّه قيل: إنّهم لمّا كانوا معرضين عن الآيات كلّها، كذّبوا به لمّا جاءهم. أو كالدّليل عليه، على معنى: أنّهم لمّا أعرضوا عن القرآن وكذّبوا له وهو أعظم الآيات، فكيف لا يعرضون عن غيره ولذلك رتّب عليه، بالفاء.

فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ :

قيل : أي: ما يخبرهم النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- من أحوال استهزائهم.

و قيل : أي سيظهر لهم ما كانوا به يستهزءون عند نزول العذاب بهم في الدّنيا والآخرة. أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره.

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ، أي: من أهل زمانهم.

قيل : القرن: مدّة أغلب أعمار النّاس، وهي سبعون سنة.

و قيل : ثمانون.

و قيل : القرن: أهل عصر فيه نبيّ أو فائق قلّت المدّة أو كثرت.

و في مجمع البيان : أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ. قال الزّجّاج:و الّذي يقع عندي، أنّ القرن أهل كلّ مدّة كان فيها نبيّ، أو كان فيها طبقة من أهل العلم قلّت السّنون أو كثرت. والدّليل عليه‏

قول النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: خيركم قرني ثمّ الّذين يلونكم.

مأخوذ من قرنت  لاجتماعهم  في العصر.

مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ: جعلنا لهم فيها مكانا، وقررناهم فيها. أو أعطيناهم من القوى والآلات ما تمكّنوا من أنواع التّصرّف فيها.

ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ: ما لم نجعل لهم في السّعة وطول المقام، يا أهل مكّة. أو ما لم نعطكم من القوّة والسّعة في المال والاستظهار بالعدد والأسباب.

وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ: أي: المطر والسّحاب، أو المظلّة. فإنّ مبدأ المطر منها.

مِدْراراً: مغزارا.

وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ: فعاشوا في الخصب بين الأنهار والأثمار.

فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، أي: لم يغن ذلك عنهم شيئا.

وَ أَنْشَأْنا: وأحدثنا.

مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ : بدلا منهم.

و المعنى: أنّه- تعالى- كما قدر أن يهلك من قبلكم كعاد وثمود وينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده، يقدر أن يفعل ذلك بكم.

وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ: مكتوبا في ورق.

فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فمسّوه. وتخصيص اللّمس، لأنّ التّزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا: إنّما سكّرت أبصارنا. ولأنّه يتقدّمه الإبصار حيث لا مانع. وتقييده بالأيدي، لرفع التّجوّز. فإنّه قد يتجوّز به للفحص، كقوله: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ.

لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ : تعنّتا وعنادا.

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ: يكلّمنا أنّه نبيّ.

وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ: جواب لقولهم، وبيان لما هو المانع ممّااقترحوه، يعني: أنّ الملك لو أنزل بحيث عاينوه، كما اقترحوا، لحقّ إهلاكهم. فإنّ سنة اللّه جرت بذلك فيمن قبلهم.

ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ : بعد نزوله طرفة عين.

وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا: جواب ثان، إن جعل الهاء للمطلوب. وإن جعل للرّسول، فإنّه جواب اقتراح ثان. فإنّهم تارة ينتحلون لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وتارة يقولون: لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة، يعني: ولو جعل قرينا لك ملكا يعاينونه. أو الرّسول ملكا لمثّلناه رجلا، كما مثّلنا جبرئيل في صورة دحية. فإنّ القوى البشريّة لا تقوى على رؤية الملك في صورته.

وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ :

قيل : جواب محذوف، أي: ولو جعلناه رجلا للبسنا، أي: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، فيقولون: ما هذا إلّا بشر مثلكم.

و الظّاهر، أنّه جواب للشّرط المذكور بعد اعتبار تقييده بالجواب الأوّل، فحينئذ لا احتياج إلى تقدير.

و قرئ : «لبسنا» بلا «لام» و«لبّسنا» بالتّشديد، للمبالغة.

في كتاب الاحتجاج : عن أبي محمّد الحسن العسكريّ- عليه السّلام- قال: قلت لأبي عليّ بن محمّد- عليهما السّلام-: هل كان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه، ويحاجّهم ؟

قال: بلى، مرارا كثيرة. إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- كان قاعدا ذات يوم بمكّة بفناء الكعبة ... إذ ابتدأه عبد اللّه بن أبي أميّة المخزوميّ.

فقال: يا محمّد، فقد ادّعيت دعوى عظيمة وقلت مقالا هائلا، زعمت أنّك رسول ربّ العالمين، [و ما ينبغي لربّ العالمين‏]  وخالق الخلق أجمعين أن يكون مثلك رسوله ...و لو كنت نبيّا، لكان معك ملك يصدّقك ونشاهده، بل لو أراد اللّه أن يبعث إلينا نبيّا لكان إنّما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا. ما أنت، يا محمّد، إلّا رجلا مسحورا ولست بنبيّ.

فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: اللّهمّ أنت السّامع لكلّ صوت والعالم بكلّ شي‏ء، تعلم ما قاله عبادك ... فأنزل عليه يا محمّد: وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ- إلى قوله- وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ.

ثمّ قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: ... وأمّا قولك لي: «و لو كنت نبيّا لكان معك ملك يصدّقك ونشاهده، بل لو أراد اللّه أن يبعث إلينا نبيّا لكان إنّما يبعث إلينا ملكا لا بشرا مثلنا» فالملك لا تشاهده حواسّكم، لأنّه من جنس هذا الهواء لا عيان منه.

و لو شاهدتموه بأن يزاد في قوى أبصاركم، لقلتم ليس هذا ملكا بل هذا بشر. لأنّه إنّما كان يظهر لكم بصورة البشر الّذي ألفتموه، لتفهموا عنه مقالته وتعرفوا خطابه ومراده.

فكيف كنتم تعلمون صدق الملك وأنّ ما يقوله حقّ، بل إنّما بعث اللّه بشرا وأظهر على يده المعجزات الّتي ليست في طبائع البشر الّذين قد علمتم  ضمائر قلوبهم، فتعلمون بعجزكم عمّا جاء به أنّه معجزة، وأنّ ذلك شهادة من اللّه بالصّدق له. ولو ظهر لكم ملك وظهر على يده ما يعجز عنه البشر، لم يكن في ذلك ما يدلّكم أنّ ذلك ليس في طبائع سائر أجناسه من الملائكة حتّى يصير ذلك معجزا، ألا ترون أنّ الطّيور الّتي تطير ليس ذلك منها بمعجز، لأنّ لها أجناسا يقع منها مثل طيرانها. ولو أنّ آدميًّا طار كطيرانها، كان ذلك معجزا. فاللّه- عزّ وجلّ- سهّل عليكم الأمر وجعل مثلكم، بحيث يقوم عليكم حجّته وأنتم تقترحون عمل الصعب الّذي لا حجّة فيه.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ: تسلية لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- على ما يرى من قومه.

فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ : فأحاط بهم الّذي كانوا يستهزئون به، حيث أهلكوا لأجله. أو فنزل بهم وبال استهزائهم.قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ، أي: كيف أهلكهم اللّه بعذاب الاستئصال، كي تعتبروا.

قيل : والفرق بينه وبين قوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا أنّ السّير ثمّة  لأجل النّظر، ولا كذلك هاهنا. ولذلك قيل: معناه، إباحة السّير للتّجارة وغيرها وإيجاب النّظر في آثار الهالكين.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، أي: انظروا في القرآن وأخبار الأنبياء فانظروا.

و قد مضى نظيره عن الصّادق- عليه السّلام- في سورة آل عمران.

قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: خلقا وملكا. وهو سؤال تبكيت.

قُلْ لِلَّهِ: تقرير لهم، وتنبيه على أنّه المتعيّن للجواب بالاتّفاق بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره.

كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ: التزمها تفضّلا وإحسانا.

و المراد بالرّحمة، ما يعمّ الدّارين. ومن ذلك الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده بنصب الأدلّة، وإنزال الكتب، والإمهال على الكفر والذّنوب لتدارك ما فرط.

و في روضة الكافي ، في رسالة أبي جعفر- عليه السّلام- إلى سعد الخير: فكتب على نفسه الرّحمة، فسبقت قبل الغضب فتمّت صدقا وعدلا. فليس يبتدئ العباد بالغضب قبل أن يغضبوه، وذلك من علم اليقين وعلم التّقوى.

لَيَجْمَعَنَّكُمْ: قرنا بعد قرن.

إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ:

قيل : استئناف، وقسم للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النّظر، أي: ليجمعنّكم في القبور [مبعوثين‏]  إلى يوم القيامة فيجازيكم على شرككم. أو في يوم القيامة.

و «إلى» بمعنى: «في».و قيل : بدل من الرّحمة، بدل البعض. فإنّ من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم.

لا رَيْبَ فِيهِ: في اليوم، أو الجمع.

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ: بتضييع رأس مالهم، وهو الفطرة الأصليّة والعقل السّليم.

و محلّ «الّذين» نصب على الذّمّ [أو رفع على الخبر، أي: وأنتم الذين‏]  أو رفع على الابتداء والخبر فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ : والفاء للدّلالة على أنّ عدم إيمانهم مسبّب عن خسرانهم. فإنّ إبطال العقل باتّباع الحواسّ والوهم والانهماك في التّقليد وإغفال النّظر، أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان.

وَ لَهُ: عطف على «اللّه».

ما سَكَنَ: فاعل الظّرف، لاعتماده على المعطوف عليه.

فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ:

و «سكن» إمّا من السكنى والتّعدية ب «في»، كما في قوله: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، يعني: ما اشتملا عليه. أو من السّكون، أي: ما سكن فيهما وتحرّك.

فاكتفى بأحد الضّدّين عن الآخر.

ذكر في الأوّل السّموات والأرض المشتملين على الأمكنة جميعا، وهنا اللّيل والنّهار المشتملين على الأزمنة جميعا، ليعمّ الموجودات الّتي تستدرج تحت الظّرفين.

وَ هُوَ السَّمِيعُ: لكلّ مسموع.

الْعَلِيمُ : بكلّ معلوم، فلا يخفى عليه شي‏ء. ويجوز أن يكون وعيدا للمشركين على أقوالهم وأفعالهم.

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا: إنكار لاتّخاذ غير اللّه وليّا، لا لاتخاذ الوليّ.

فلذلك قدّم الولي. وأولى الهمزة.

و المراد بالوليّ: المعبود. لأنّه ردّ لمن دعاه إلى الشّرك.فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: مبدعهما. ابتدأ بقدرته وحكمته من غير احتذاء مثال.

و عن ابن عبّاس : ما عرفت معنى الفاطر حتّى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها. وجرّه على الصّفة «للّه». فإنّه بمعنى الماضي، ولذلك قرئ: فطر.

و قرئ ، بالرّفع والنّصب، على المدح.

وَ هُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ: يرزق ولا يرزق، يعني: المنافع كلّها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع. وتخصيص الطّعام، لشدّة الحاجة إليه.

و قرئ : «و لا يطعم» بفتح الياء، وبعكس الأوّل، على أنّ الضّمير لغير اللّه.

و المعنى: كيف أشرك بمن هو فاطر السّموات والأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانات.

و بناؤهما للفاعل، على أنّ الثّاني من أطعم، بمعنى: استطعم. أو على معنى:

أنّه يطعم تارة ولا يطعم أخرى، كقوله: يقبض ويبسط .

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ: لأنّ النّبي- صلّى اللّه عليه وآله- سابق أمّته في الدّين.

وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ : وقيل لي: ولا تكوننّ. ويجوز عطفه على «قل».

قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ : مبالغة أخرى في قطع أطماعهم، وتعريض لهم بأنّهم عصاة مستوجبون للعذاب. والشّرط معترض بين الفعل والمفعول به، وجوابه محذوف دلّ عليه الجملة.

و في تفسير العيّاشيّ : عن منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:لم يزل  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ حتّى نزلت سورة الفتح، فلم يعد إلى ذلك الكلام.

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ، أي: يصرف العذاب عنه.

و قرأ  حمزة والكسائيّ وأبو بكر عن عاصم: «يصرف» على أنّ الضمير فيه للّه.

و قرئ ، بإظهاره، والمفعول به محذوف. أو «يومئذ» بحذف المضاف، أي:

عذاب يومئذ.

فَقَدْ رَحِمَهُ: نجّاه وأنعم عليه.

في مجمع البيان : روي أنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال: والّذي نفسي بيده، ما من النّاس أحد يدخل الجنّة بعمله.

قالوا: ولا أنت، يا رسول اللّه؟

قال: ولا أنا، الّا أن يتغمّدني اللّه برحمة منه وفضل.

وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ، أي: الصّرف. أو الرّحم.

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ: ببليّة، كمرض وفقر.

فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ: فلا قادر على كشفه إلّا هو.

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ: بنعمة، كصحّة وغنى.

فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ : فلا يقدر غيره على دفعه. لأنّ اللّه على كلّ شي‏ء قدير، فلا يقاوم معه أحد. وأقيم علّة الجزاء مقامه.

وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ: تصوير لقهره وعلوّه بالقدرة والغلبة، يعني: أنّهم تحت تسخيره وتذليله.

وَ هُوَ الْحَكِيمُ، أي: في أمره وتدبيره.

الْخَبِيرُ : بالعباد وخفايا أحوالهم، وبكلّ شي‏ء.

و في كتاب التوحيد : عن الرّضا- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه يقول- عليه‏

 السّلام: وأمّا القاهر، فإنّه ليس على معنى علاج ونصب واحتيال ومداراة ومكر، كما يقهر العباد بعضهم بعضا، فالمقهور منهم يعود قاهرا والقاهر يعود مقهورا، ولكن كلّ ذلك من اللّه- تبارك وتعالى- على أنّ جميع ما خلق متلبّس بالذّل لفاعله وقلّة الامتناع لما أراد به فلم يخرج منه طرفة عين إنّه يقول له: كن فيكون. والقاهر منّا على ما ذكرت ، فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً:

الشّي‏ء يقع على كلّ موجود. وجاز إطلاقه على اللّه- تعالى- لإخراجه عن حدّ التّعطيل، ولكنّه شي‏ء بخلاف الأشياء، كما في الكافيّ  عن الصّادق- عليه السّلام-.

و قد سبق في سورة البقرة، أي: قل: أيّ موجود أعظم وأصدق شهادة؟

قُلِ اللَّهُ، أي: اللّه أكبر شهادة. ثمّ ابتدأ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، أي: هو شهيد.

و يجوز أن يكون «اللّه شهيد» هو الجواب. لأنّه- تعالى- إذا كان شهيدا، كان أكبر شي‏ء شهادة.

في تفسير عليّ بن إبراهيم ، في رواية أبي الجارود: عن أبي جعفر- عليه السّلام- في هذه الآية: أن مشركي أهل مكّة قالوا: يا محمّد، ما وجد اللّه رسولا يرسله غيرك، ما نرى أحدا يصدّقك بالّذي تقول- وذلك في أوّل ما دعاهم يومئذ بمكّة- قالوا: ولقد سألنا عنك اليهود والنّصارى، فزعموا أنّه ليس لك ذكر عندهم، فائتنا من أمر يشهد أنّك رسول اللّه.

قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.

و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى محمّد بن عيسى بن عبيد قال: قال لي أبو الحسن- عليه السّلام-: ما تقول إذا قيل لك: أخبرني عن اللّه- عزّ وجلّ- أ شي‏ء هو أم لا؟

قال: فقلت له: قد أثبت- عزّ وجلّ- نفسه شيئا حيث يقول: قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فأقول: إنّه شي‏ء لا كالأشياء، إذ في نفي الشيئيّة عنه إبطاله ونفيه.

قال لي: صدقت وأصبت.

وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ، أي: بالقرآن. واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة.

وَ مَنْ بَلَغَ: عطف على ضمير المخاطبين، أي: لأنذركم به، يا أهل مكّة، وسائر من بلغه من الأسود والأحمر أو من الثّقلين. أو لأنذركم، أيّها الموجودون، ومن بلغه إلى يوم القيامة .

في كتاب علل الشّرائع : حدّثني محمّد بن يحيى العطّار- رحمه اللّه- قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه قال: حدّثنا عبد اللّه بن عبّاس، عن عبد الرّحمن بن أبي نجران، عن يحيى بن عمران الحلبيّ، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سئل عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.

قال: لكلّ إنسان .

و فيه دلالة على أنّ أحكام القرآن تعمّ الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم، وأنّه لا يؤخذ به من لم يبلغه. ولا ينافي ذلك‏

ما رواه في أصول الكافي : عن الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن الوشّاء، عن أحمد بن عائد ، عن ابن أذينة، عن مالك الجهنيّ قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام- في هذه الآية.

قال: من بلغ أن يكون إماما من آل محمد- صلّى اللّه عليه وآله- فهو ينذر بالقرآن، كما أنذر به رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

أحمد بن عبد العظيم ، عن ابن أذينة، عن مالك الجهنيّ قال: قلت لأبي‏عبد اللّه- عليه السّلام-: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ (الآية).

قال: من بلغ أن يكون إماما من آل محمّد ينذر بالقرآن، كما ينذر به رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-.

لأنّه ليس في الخبر أنّ معنى الآية هذا، بل أنّ الإمام من آل محمّد ينذر به، كما ينذر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-، لا أنّه معنى الآية. وعلى تقدير أن يكون المراد أنّه معنى الآية بأن يكون «من بلغ» عطفا على الضّمير في «لأنذركم» ويكون مفعول «بلغ» محذوفا، أي: ينذر من بلغ الإمامة به. فلا ينافيه- أيضا- لأنّ للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطن، كما سبق الخبر الدّالّ عليه.

و أمّا

ما في مجمع البيان وفي تفسير العيّاشيّ : «قال أبو جعفر وأبو عبد اللّه- عليهما السّلام-: ومن بلغ أن يكون إماما من آل محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- فهو ينذر بالقرآن، كما أنذر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-»

فمحمول على الوجه الأخير.

أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى: تقرير لهم مع إنكار واستبعاد.

في عيون الأخبار ، بإسناده إلى الحسين بن خالد قال: سمعت الرّضا- عليه السّلام- يقول: لم يزل اللّه- عزّ وجلّ- عليما قادرا حيّا قديما سميعا بصيرا.

فقلت له: يا ابن رسول اللّه، إنّ قوما يقولون لم يزل اللّه عالما بعلم وقادرا بقدرة وحيّا بحياة [قديما بقدم‏]  وسميعا بسمع وبصيرا ببصر.

فقال- عليه السّلام-: من قال ذلك ودان به ، فقد اتّخذ مع اللّه آلهة أخرى وليس من ولايتنا على شي‏ء.

ثمّ قال- عليه السّلام-: لم يزل اللّه عليما قادرا حيّا قديما سميعا بصيرا لذاته، تعالى عمّا يقول المشركون والمشبّهون علوّا كبيرا.

قُلْ لا أَشْهَدُ: بما تشهدون.

قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، أي: بل أشهد أن لا إله إلّا هو.و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى الفضل بن شاذان قال: سأل رجل من الثّنويّة أبا الحسن عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام- وأنا حاضر فقال: إنّي أقول: إنّ صانع العالم اثنان، فما الدّليل على أنّه واحد؟

فقال: قولك: إنّه اثنان، دليل على أنّه واحد. لأنّك لم تدع الثّاني إلّا بعد إثباتك الواحد. فالواحد مجمع عليه، والأكثر من واحد مختلف فيه.

و في نهج البلاغة : قال- عليه السّلام-: يا بنيّ، أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أحواله وصفاته، ولكنّه إله واحد، كما وصف نفسه، لا يضادّه في ملكه أحد ولا يزول أبدا.

وَ إِنَّنِي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، يعني: الأصنام.

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ، أي: يعرفون رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بحليته المذكورة في التّوراة والإنجيل.

كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ: بحلاهم.

في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن حريز، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: نزلت هذه الآية في اليهود والنّصارى. يقول اللّه- تبارك وتعالى-: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، [يعني: التوراة والإنجيل‏]  يَعْرِفُونَهُ، يعني: رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ لأنّ اللّه- عزّ وجلّ- قد أنزل عليهم في التّوراة والإنجيل والزّبور صفة محمّد بن عبد اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وصفة أصحابه ومبعثه وهجرته . وهو قوله- تعالى-: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ. فهذه صفة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في التّوراة والإنجيل، وصفة أصحابه. فلمّا بعثه اللّه‏- عزّ وجلّ- عرفه أهل الكتاب كما قال- جلّ جلاله-: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ: من أهل الكتاب والمشركين. فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ : لتضييعهم ما يكتسب به الإيمان.