سورة المائدة الآية 81-100

وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ، يعني: نبيّهم. وإن كانت الآية في المنافقين، فالمراد نبيّنا- صلّى اللّه عليه وآله-.

وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ: إذ الإيمان يمنع ذلك.

وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ : خارجون عن دينهم. أو متمرّدون في نفاقهم.

 [و في تفسير عليّ بن إبراهيم  متّصلا بقوله: وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ- إلى قوله-:

وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ. قال الخنازير، على لسان داود. والقردة، على لسان‏عيسى.

حدّثني الحسين بن عبد اللّه السّكيني ، عن أبي سعيد البجلّي، عن عبد الملك بن هارون، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-  قال: لمّا بلغ أمير المؤمنين- عليه السّلام- أمر معاوية وأنّه في مائة ألف.

قال: من أيّ القوم؟

قالوا: من أهل الشّام.

قال: لا تقولوا: من أهل الشّام، ولكن قولوا: من أهل الشّؤم. هم من أبناء مصر . لعنوا على لسان داود، فجعل اللّه منهم القردة والخنازير.

و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.] .

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا: لشدّة شكّهم، وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتّباع الهوى، وركونهم إلى التّقليد، وبعدهم عن التّحقيق، وتمرّنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم.

وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى: للين جانبهم، ورقّة قلوبهم، وقلّة حرصهم على الدّنيا، وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل.

ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ : عن قبول الحقّ إذا فهموه. أو يتواضعون ولا يتكبّرون.

و في تفسير العيّاشي : عن مروان، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: ذكر النّصارى وعداوتهم، فقال: قول اللّه: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. قال: أولئك كانوا بين عيسى- عليه السّلام- ومحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- وينتظرون مجي‏ء محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-.

وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ: عطف‏على «لا يستكبرون.» وهو بيان لرقّة قلوبهم، وشدّة خشيتهم، ومسارعتهم إلى قبول الحقّ، وعدم تأبّيهم عنه.

و الفيض: انصباب عن امتلاء. فوضع موضع الامتلاء، للمبالغة. أو جعلت أعينهم من فرط البكاء، كأنّها تفيض بأنفسها.

مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ: «من» الأولى، للابتداء.

و الثّانية، لتبين «ما عرفوا». أو للتّبعيض، فإنّه بعض الحقّ، والمعنى بأنّهم عرفوا بعض الحقّ فأبكاهم، فكيف إذا عرفوا كلّه.

يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا: بذلك. أو بمحمّد.

فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ : من الّذين شهدوا بأنّه حقّ. أو بنبوّته. أو من أمّته، الّذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة.

وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ : استفهام إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام الدّاعي، وهو الطّمع في الانخراط مع الصّالحين والدّخول مداخلهم. أو جواب سائل قال: لم آمنتم ولا نؤمن؟ حال من الضّمير.

و العامل ما في «الّلام» من معنى الفعل، أي: أيّ شي‏ء حصل لنا غير مؤمنين باللّه، أي: بوحدانيّته- فإنّهم كانوا مثلّثين- أو بكتابه ورسوله، فإنّ الإيمان بهما إيمان به حقيقة. وذكره توطئة وتعظيما.

 «و نطمع» عطف على «نؤمن». أو خبر محذوف، والواو للحال، أي: ونحن نطمع. والعامل فيها، عامل الأولى مقيّدا بها. أو «نؤمن».

فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا أي: من اعتقاد. من قولك: هذا قول فلان، أي:

معتقده.

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ : الّذين أحسنوا النّظر والعمل. أو الّذين اعتادوا الإحسان في الأمور.

 

في تفسير عليّ بن إبراهيم : [كان سبب نزولها]  أنّه لمّا اشتدّت قريش في أذى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وأصحابه الّذين آمنوا به بمكّة قبل الهجرة، أمرهم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أن يخرجوا إلى الحبشة. وأمر جعفر بن أبي طالب أن يخرج معهم. فخرج جعفر ومعه سبعون رجلا من المسلمين، حتّى ركبوا البحر. فلمّا بلغ قريشا»

 خروجهم، بعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى النّجاشي ليردّهم  إليهم. وكان عمرو وعمارة متعاديين، فقالت قريش: كيف نبعث رجلين متعاديين؟ فبرئت بنو مخزوم من جناية عمارة وبرئت بنو سهم من جناية عمرو بن العاص. فخرج عمارة وكان حسن الوجه شابّا مترفا، فأخرج عمرو بن العاص أهله معه. فلمّا ركبوا السّفينة، شربوا الخمر.

فقال عمارة لعمرو بن العاص: قل لأهلك تقبّلني.

فقال عمرو: أ يجوز هذا، سبحان اللّه؟ فسكت عمارة.

فلمّا انتشى  عمرو وكان على صدر السّفينة دفعه عمارة وألقاه في البحر. فتشبّث عمرو بصدر السّفينة، وأدركوه فأخرجوه. فوردوا على النّجاشيّ، وقد كانوا حملوا إليه هدايا، فقبلها منهم.

فقال عمرو بن العاص: أيّها الملك، إنّ قوما منّا خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا وصاروا إليك، فردّهم إلينا.

فبعث النّجاشي إلى جعفر فجاءه ، فقال: يا جعفر، ما يقول هؤلاء؟

فقال جعفر: أيّها الملك، وما يقولون؟

قال: يسألون أن أردّكم إليهم.

قال: أيّها الملك، سلهم، أ عبيد نحن لهم؟

فقال: عمرو: لا، بل أحرار كرام.فقال: فسلهم، ألهم علينا ديون يطالبوننا  بها؟

فقال: لا، ما لنا عليكم ديون.

قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟

فقال عمرو: لا.

قال: فما تريدون منّا؟ آذيتمونا فخرجنا من بلادكم.

فقال عمرو بن العاص: أيّها الملك، خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا وأفسدوا شبابنا وفرّقوا جماعتنا، فردّهم إلينا لنجمع أمرنا.

فقال جعفر: نعم أيّها الملك، خالفناهم. بعث اللّه فينا نبيّا، أمر بخلع الأنداد وترك الاستقسام بالأزلام، وأمرنا بالصّلاة والزّكاة، وحرّم الظّلم والجور وسفك الدّماء بغير حقّها والزّنا والرّبا والميتة والدّم [و لحم الخنزير،]  وأمرنا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.

فقال النّجاشيّ: بهذا بعث اللّه عيسى بن مريم. ثمّ قال النّجاشيّ: يا جعفر، هل تحفظ ممّا أنزل اللّه على نبيّك شيئا؟

قال: نعم. فقرأ عليه سورة مريم، فلمّا بلغ قوله: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً.  فلمّا سمع النّجاشيّ بهذا، بكى بكاء شديدا وقال: هذا واللّه هو الحقّ.

فقال عمرو بن العاص: أيّها الملك، إنّ هذا مخالف لنا ، فردّه إلينا. فرفع النّجاشيّ يده فضرب بها وجه عمرو، ثمّ قال: اسكت، واللّه لئن ذكرته بسوء لأفقدنك نفسك.

فقام عمرو بن العاص من عنده والدّماء تسيل على وجهه، وهو يقول: إن كان هذا كما تقول أيّها الملك، فإنّا لا نتعرّض له.و كانت على رأس النّجاشيّ وصيفة له، تذبّ عنه. فنظرت إلى عمارة بن الوليد- وكان فتى جميلا- فأحبّته. فلمّا رجع عمرو بن العاص إلى منزله، قال لعمارة: لو راسلت  جارية الملك. فراسلها، فأجابته. فقال عمرو: قل لها تبعث إليك من طيب الملك شيئا. فقال لها، فبعثت إليه. فأخذ عمرو من ذلك الطّيب- وكان الّذي فعل به عمارة في قلبه حين ألقاه في البحر- فأدخل الطّيب على النّجاشيّ، فقال: أيّها الملك، إنّ حرمة الملك عندنا، وطاعته علينا. وما يكرمنا  إذ دخلناه بلاده ونأمن فيه، أن لا نغشّه ولا نريبه. وإنّ صاحبي هذا الّذي معي قد راسل  حرمتك  وخدعها، وبعثت إليه من طيبك. ثمّ وضع الطّيب بين يديه.

فغضب النّجاشيّ، وهمّ بقتل عمارة. ثمّ قال: لا يجوز قتله، فإنّهم دخلوا بلادي بأمان . فدعا النّجاشي السّحرة فقال لهم: اعملوا به شيئا أشدّ عليه من القتل. فأخذوه ونفخوا في إحليله الزّئبق، فصار مع الوحوش يغدو ويروح. وكان لا يأنس بالنّاس.

فبعثت قريش بعد ذلك، فكمنوا له في موضع حتّى ورد الماء مع الوحش فأخذوه. فما زال يضطرب في أيديهم ويصيح، حتّى مات.

و رجع عمرو إلى قريش، فأخبرهم أنّ جعفر في أرض الحبشة في أكرم كرامة.

فلم يزل بها حتّى هادن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قريشا وصالحهم، وفتح خيبر، فوافى بجميع من معه.

و ولد لجعفر بالحبشة من أسماء بنت عميس عبد اللّه بن جعفر. وولد للنّجاشي ابن، فسمّاه النّجاشيّ محمّدا.

و كانت أمّ حبيبة بنت أبي سفيان تحت عبد اللّه، فكتب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلى النّجاشي يخطب أمّ حبيب. فبعث إليها النّجاشيّ فخطبها لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فأجابته. فزوّجها منه، وأصدقها أربعمائة دينار،

و ساقها عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وبعث إليها بثياب وطيب كثير، وجهّزها، وبعثها إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وبعث إليها بمارية القبطيّة، أمّ إبراهيم.

و بعث إليه بثياب وطيب وفرس. وبعث ثلاثين رجلا من القسّيسين فقال لهم: انظروا إلى كلامه، وإلى مقعده ومشربه ومصلاه.

فلمّا وافوا المدينة، دعاهم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلى الإسلام. وقرأ عليهم القرآن وإذ قال اللّه : يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي [التي أنعمت‏]  عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ- إلى قوله- فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ فلمّا سمعوا ذلك من رسول اللّه بكوا، وآمنوا. ورجعوا إلى النّجاشيّ، فأخبروه خبر رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وقرأوا عليه ما قرأ عليهم، فبكى النّجاشيّ وبكى القسّيسون. وأسلم النّجاشيّ، ولم يظهر للحبشة إسلامه وخافهم على نفسه. وخرج من بلاد الحبشة يريد  النبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- فلمّا عبر البحر، توفّي. فأنزل اللّه على رسوله لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ إلى قوله: وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ..

 

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ :

عطف التّكذيب بآيات اللّه على الكفر. وهو ضرب منه. لأنّ القصد إلى بيان حال المكذّبين وذكرهم في معرض المصدّقين بها جمعا، بين التّرغيب والتّرهيب.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا: لا تمنعوا أنفسكم.

طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ: ما طاب منه ولذّ.

قيل : كأنّه لمّا تضمّن ما قبله مدح النّصارى على ترهّبهم والحثّ على كسر النّفس ورفض الشّهوات، عقّبه بالنّهي عن الإفراط في ذلك والاعتداء عمّا حدّ اللّه بجعل الحلال حراما. فقال:

وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ :قيل : ويجوز أن يراد به: ولا تعتدوا ما أحلّ اللّه لكم إلى ما حرّم عليكم. فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحلّ وتحليل ما حرّم، داعية إلى القصد بينهما.

و فيه: أنّه ينافيه ما روي في سبب نزوله. فإنّه‏

قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره :

 

حدّثني ابن أبي عمير، عن بعض رجاله، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين- عليه السّلام- وبلال وعثمان بن مظعون. فأمّا أمير المؤمنين، فحلف أن لا ينام باللّيل أبدا. وأمّا بلال، فحلف أن لا يفطر بالنّهار أبدا. وأمّا عثمان بن مظعون، فإنّه حلف أن لا ينكح أبدا. فدخلت امرأة عثمان على عائشة [و كانت امرأة  جميلة.] .

فقالت عائشة: ما لي أراك متعطّلة؟

فقالت: ولمن أتزيّن؟ فو اللّه، ما قربني زوجي منذ كذا وكذا. فإنّه قد ترهّب، ولبس المسوح، وزهد في الدّنيا.

فلمّا دخل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أخبرته عائشة بذلك. فخرج، فنادى: الصّلاة جامعة. فاجتمع النّاس. وصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه. ثمّ قال:

ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطّيّبات، إنّي أنام باللّيل وأنكح وأفطر بالنّهار. فمن رغب عن سنّتي، فليس منّي.

فقام هؤلاء، فقالوا: يا رسول اللّه، فقد حلفنا على ذلك. فأنزل اللّه لا يُؤاخِذُكُمُ (الآية).

و اعلم، أنّه ليس في هذا الخطاب منقصة على المخاطب. ونظيره قوله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ. لأنّه من البيّن، أنّ منع النّفس عن النّوم باللّيل عبادة شريفة محبوبة عند اللّه، فالمنع منه لكمال الرّأفة والشّفقة، وإن كان المنع على سبيل المعاتبة.و في كتاب الاحتجاج : عن الحسن بن عليّ- عليه السّلام- أنّه قال لمعاوية وأصحابه: أنشدكم باللّه، أ تعلمون أنّ عليّا- عليه السّلام- أوّل من حرّم الشّهوات على نفسه من أصحاب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فأنزل اللّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ..

وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً، أي: وكلوا ما حلّ لكم وطاب، ممّا رزقكم اللّه. فيكون «حلالا» مفعول «كلوا». و«ممّا» حال منه تقدّمت عليه، لأنّه نكرة. ويجوز أن تكون «من» ابتدائيّة، متعلّقة «بكلوا».

و يجوز أن تكون مفعولا، و«حلالا» حالا من الموصول، أو العائد المحذوف. أو صفة لمصدر محذوف، لأنّ «من» لا تزاد في الإثبات.

و في مجمع البيان : وقد روي أنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- كان يأكل الدّجاج والفالوذ. وكان يعجبه الحلواء والعسل. وقال: إنّ المؤمن حلو يحبّ الحلاوة. وقال: إنّ المؤمن حلو يحبّ الحلاوة. وقال: في بطن المؤمن زاوية، لا يملؤها إلّا الحلواء.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ : استدعاء إلى التّقوى بألطف الوجوه.

لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ: هو ما يبدو من المرء بلا قصد.

كقول الرّجل: لا واللّه، وبلى واللّه.

و في من لا يحضره الفقيه : روى أبو بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في هذه الآية قال: هو، لا واللّه. وبلى واللّه.

 [و في تفسير العيّاشي : عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- في هذه الآية؟قال: هو، لا واللّه. وبلى واللّه. وكلا واللّه ولا يعقد عليها]  ولا يعقد على شي‏ء.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سمعته يقول في هذه الآية: قول الرّجل: لا واللّه، وبلى واللّه. ولا يعقد على شي‏ء.

أبو عليّ الأشعريّ : عن محمّد بن عبد الجبّار، عن محمّد بن إسماعيل، عن عليّ بن النّعمان، عن سعيد الأعرج قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن الرّجل يحلف على اليمين، فيرى ان تركها أفضل، وإن لم يتركها خشي أن يأثم. أ يتركها؟

قال: أما سمعت قول رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها.

 [محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن سنان، عمّن رواه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فأتى ذلك، فهو كفّارة يمينه وله حسنة. ] .

و يمكن أن يراد باللّغو، ما يشمل هذا الأخير. ويكون جريانه فيما نقل، باعتبار هذا المعنى، و«في أيمانكم» صلة «يؤاخذكم»، أو «اللّغو». لأنّه مصدر، أو حال منه.

وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ: بما وثّقتم الأيمان عليه بالقصد والنّيّة. والمعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم. أو بنكث ما عقّدتم. فحذف للعلم به.

و قرأ حمزة والكسائيّ وابن عيّاش [عن عاصم: «]  عقدتم» بالتّخفيف. وابن عامر برواية ابن ذكوان: «عاقدتم» وهو من فاعل، بمعنى: فعل .فَكَفَّارَتُهُ: فكفّارة نكثه، أي: الفعل الّذي يذهب إثمه ويستره.

إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ: من أقصده في النّوع، أو القدر.

في مجمع البيان : عن الصّادق- عليه السّلام- أنّه قرأ: «أهاليكم.».

و محلّه النّصب، لأنّه صفة مفعول محذوف. تقديره: أن تطعموا عشرة مساكين طعاما من أوسط ما تطعمون. أو الرّفع على البدل من «إطعام».

و أهلون، كأرضون.

و في الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن حديد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: الإيمان ثلاث: يمين ليس فيها كفّارة [و يمين فيها كفّارة]  ويمين غموس  توجب النّار. فاليمين الّتي ليس فيها كفّارة، الرّجل يحلف على باب برّ أن لا يفعله، فكفّارته أن يفعله. واليمين الّتي تجب فيها الكفّارة، الرّجل يحلف على باب معصية أن لا يفعله فيفعله، فتجب عليه الكفّارة. واليمين الغموس الّتي توجب النّار، الرّجل يحلف على حقّ امرئ مسلم [على حبس ماله.] .

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيّوب، عن ابن مسكان، عن حمزة بن حمران، عن زرارة قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: أيّ شي‏ء الّذي فيه الكفّارة من الأيمان؟

فقال: ما حلفت عليه ممّا فيه البرّ، فعليه  الكفّارة إذا لم تف به. وما حلفت عليه ممّا فيه المعصية، فليس عليك  فيه الكفّارة إذا رجعت عنه. وما كان سوى ذلك ممّا ليس فيه برّ ولا معصية، فليس بشي‏ء.

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبي جميلة، عن‏

 أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: في كفّارة اليمين عتق رقبة. أو إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم. أو كسوتهم. والوسط، الخلّ والزّيت . وأرفعه، الخبز واللّحم. والصّدقة، مدّ من حنطة لكلّ مسكين. والكسوة، ثوبان. فمن لم يجد فعليه الصّيام. يقول اللّه- عزّ وجلّ-: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ..

عليّ، عن أبيه ، عن حمّاد، عن حريز، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: وكلّ شي‏ء في القرآن،  أو فصاحبه بالخيار يختار ما يشاء .

أَوْ كِسْوَتُهُمْ: عطف على «إطعام». أو «من أوسط» إن جعل بدلا. وهو ثوب يغطي العورة.

و قيل : ثوب جامع قميص. أو رداء. أو إزار.

و قرئ، بضمّ الكاف. وهو لغة. [كقدوة في قدوة.]  وكأسوتهم، بمعنى: أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافا أو تقتيرا، تواسون بينهم وبينهم إن لم تطعموهم [الأوسط. و«الكاف» في محلّ رفع. وتقديره: أو إطعامهم‏]  كأسوتهم .

و في مجمع البيان : أَوْ كِسْوَتُهُمْ الذي رواه أصحابنا: أنّ لكلّ واحد ثوبين، مئزرا وقميصا وعند الضّرورة، يجزئ قميص واحد.

أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ: أو إعتاق إنسان.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ: واحدا منها.

فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ: فكفّارته صيام ثلاثة أيّام.

في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، عن إسحاق بن‏

 عمّار، عن أبي إبراهيم- عليه السّلام- قال: سألته عن كفّارة اليمين في قوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ما حدّ من لم يجد، وأنّ الرّجل يسأل في كفّه وهو يجد؟

فقال: إذا لم يكن عنده فضل عن قوت عياله، فهو ممّن لم يجد.

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: كلّ صوم يفرّق فيه، إلّا ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين.

و عنه، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: صيام ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين متتابعات، لا يفصل بينهنّ.

عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسن بن عليّ الوشّاء [، عن أبان، عن الحسين بن زيد،]  عن الحسن بن يزيد، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: السّبعة الأيّام والثّلاثة الأيّام في الحجّ لا تفرّق. إنّما هي بمنزلة الثّلاثة الأيّام في اليمين.

ذلِكَ، أي: المذكورة.

كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ: وحنثتم.

في كتاب الخصال : عن الأعمش، عن جعفر بن محمّد- عليهما السّلام- قال:

لا حنث ولا كفّارة على من حلف تقيّة، يدفع بذلك ظلما عن نفسه.

و عن أمير المؤمنين- عليه السّلام-  قال: لا يمين لولد مع والده، ولا للمرأة مع زوجها.

وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ: بأن تضنّوا بها، ولا تبذلوها لكلّ أمر. أو بأنّ تبرّوا فيها ما استطعتم، ولم يفت فيها خير. أو بأن تكفّروها إذا حنثتم.

كَذلِكَ، أي: مثل ذلك البيان.يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ: أعلام شرائعه.

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ : نعمة التّعليم. أو نعمة الواجب شكرها. فإنّ مثل هذا التّبيين يسهّل لكم المخرج.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ، أي: الأصنام الّتي نصبت للعبادة.

وَ الْأَزْلامُ: سبق تفسيرها في أوّل السّورة.

رِجْسٌ: قذر، تعاف عنه العقول. وأفرده ، لأنّه خبر «للخمر» وخبر المعطوف محذوف. أو لمضاف محذوف، كأنّه قال: إنّما تعاطي الخمر والميسر رجس.

في الكافي : أبو عليّ الأشعريّ، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن أحمد بن النّضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: لمّا أنزل اللّه- عزّ وجلّ- على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- هذه الآية قيل: يا رسول اللّه، ما الميسر؟

فقال: كلّ ما تقومر به، حتّى الكعاب والجوز.

قيل: فما الأنصاب؟

قال: ما ذبحوه لآلهتهم.

قيل: فما الأزلام؟

قال: قداحهم الّتي يستقسمون بها.

مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ: لأنّه مسبّب عن تسويله وتزيينه.

فَاجْتَنِبُوهُ: الضّمير «للرّجس». أو لما ذكر. أو للتعاطي.

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ : لكي تفلحوا بالاجتناب عنه. وفي تحريم الخمر والميسر في الآية ضروب من التّأكيد: تصدير الجملة بإنّما، وقرنهما بالأنصاب والأزلام، وتسميتهما رجسا، وجعلهما من عمل الشّيطان.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في هذه الآية: أمّا الخمر، فكلّ مسكر من الشّراب إذا خمّر  فهو خمر»

.

و ما أسكر  كثيره فقليله  حرام. وذلك، أنّ أبا بكر شرب قبل أن يحرّم الخمر، فسكر.

فجعل يقول الشّعر، ويبكي على قتلى المشركين من أهل بدر. فسمع النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- فقال: اللّهمّ، أمسك على لسانه. فأمسك على لسانه، فلم يتكلّم حتّى ذهب عنه السّكر. فأنزل اللّه تحريمها بعد ذلك. وإنّما كانت الخمر يوم حرّمت بالمدينة فضيخ البسر والتّمر. فلمّا نزل تحريمها، خرج رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقعد في المسجد . ثمّ دعا بآنيتهم الّتي كانوا ينبذون فيها، فكفأها  كلّها وقال: هذه كلّها خمر، وقد حرّمها اللّه. فكان أكثر شي‏ء كفئ من ذلك يومئذ من الأشربة، الفضيخ. ولا أعلم أكفئ يومئذ من خمر العنب بشي‏ء، إلّا إناء واحدا كان فيه زبيب وتمر جميعا. فأمّا عصير العنب، فلم يكن يومئذ بالمدينة منه شي‏ء. حرّم اللّه الخمر قليلها وكثيرها، وبيعها وشراءها والانتفاع بها.

و قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: من شرب الخمر، فاجلدوه. فإن  عاد، فاجلدوه. فإن  عاد، فاجلدوه. فإن  عاد في الرّابعة، فاقتلوه. وقال: حقّ على اللّه أن يسقي من شرب الخمر، ممّا يخرج من فروج المومسات. والمومسات: الزّواني، يخرج من فروجهنّ صديد. والصّديد: قيح ودم غليظ مختلط، يؤذي أهل النّار حرّه ونتنه.

و قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: من شرب الخمر، لم تقبل منه  صلاة أربعين ليلة. فإن عاد، فأربعين ليلة من يوم شربها. فإن مات في تلك الأربعين ليلة من غير توبة، سقاه اللّه يوم القيامة من طينة خبال. وسمّي المسجد الّذي قعد فيه رسول اللّه‏- صلّى اللّه عليه وآله- يوم أكفئت الأشربة: مسجد الفضيخ يومئذ. لأنّه كان أكثر شي‏ء أكفئ من الأشربة، الفضيخ.

و أمّا الميسر، فالنّرد والشّطرنج. وكلّ قمار ميسر.

و أمّا الأنصاب، فالأوثان الّتي كان يعبدها المشركون.

و أمّا الأزلام، فالقداح الّتي كان  يستقسم بها مشركو العرب [في الأمور]  في الجاهليّة. كلّ هذا، بيعه وشراؤه والانتفاع بشي‏ء من هذا حرام من اللّه محرّم. وهو رجس من عمل الشّيطان. فقرن اللّه الخمر والميسر مع الأوثان.

و في مجمع البيان : وقال الباقر- عليه السّلام-: يدخل في الميسر، اللّعب بالشّطرنج والنّرد وغير ذلك من أنواع القمار. حتّى أنّ لعب الصّبيان بالجوز، من القمار.

و قال ابن عبّاس : يريد بالخمر، جميع الأشربة الّتي تسكر.

و قد قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: الخمر من تسع : من البتع  وهو العسل، ومن العنب، ومن الزّبيب، ومن التّمر، ومن الحنطة، ومن الذّرة، ومن الشّعير، والسّلت.

و قال: في الميسر، يريد القمار. وهو في أشياء كثيرة  (انتهى كلام ابن عباس).

و في من لا يحضره الفقيه ، بإسناده إلى الصّادق- عليه السّلام- أنّه قال في حديث طويل، في تعداد الكبائر وبيانها من كتاب اللّه: وشرب الخمر، لأنّ اللّه- عزّ وجلّ- عدل بها عبادة الأوثان.

و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى الرّيّان بن الصّلت قال: سمعت الرّضا- عليه السّلام- يقول: ما بعث اللّه- عزّ وجلّ- نبيّا إلّا بتحريم الخمر.

و في كتاب الخصال : عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: لعن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في الخمر عشرة: غارسها، وحارسها، وعاصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمول إليه، وبائعها، ومشتريها، وآكل ثمنها.

و عن الأعمش ، عن جعفر بن محمّد- عليهما السّلام- أنّه قال في حديث: والبراءة من الأنصاب والأزلام وأئمّة الضّلال وقادة الجور كلّهم أوّلهم وآخرهم، واجبة.

و في كتاب عيون الأخبار  في باب ما كتبه الرّضا- عليه السّلام- للمأمون من محض الإسلام وشرائع الدين: والبراءة من الأنصاب. «و الأزلام» أئمّة الضّلالة.

إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ :

قيل : إنّما خصّ الخمر والميسر  بإعادة الذّكر وشرح ما فيهما من الوبال، تنبيها على أنّهما المقصود من البيان. وذكر الأنصاب والأزلام، للدّلالة على أنّهما مثلهما في الحرمة والشّرارة

لقوله - صلّى اللّه عليه وآله-: شارب الخمر كعابد الوثن.

و خصّ الصّلاة من الذّكر بالإفراد، للتّعظيم والإشعار. بأنّ الصّادّ عنها كالصّادّ عن الإيمان، من حيث أنّها عماده والفارق بينه وبين الكفر. ثم أعاد  الحثّ على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتّبا على ما تقدّم من أنواع الصّوارف، إيذانا بأنّ الأمر في المنع والتّحذير بلغ الغاية، وأنّ الأعذار قد انقطعت.

 [و في الكافي : بعض أصحابنا مرسلا قال: إنّ أوّل ما نزل في تحريم الخمر قول اللّه- عزّ وجلّ-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ (الآية) ثمّ أنزل اللّه آية أخرى:إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وكانت هذه الآية أشدّ من الأولى، وأغلظ في التّحريم. ثمّ ثلّث بآية أخرى، فكانت أغلظ من الأولى والثّانية وأشدّ فقال اللّه- عزّ وجلّ-: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. فأمر اللّه- عزّ وجلّ- باجتنابها، وفسّر عللها الّتي لها ومن أجلها حرّمها.] .

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ: فيما أمرا به.

وَ احْذَرُوا: ما نهيا عنه. أو عن مخالفتهما.

 [و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّه سيكون قوم يبيتون وهم على اللّه وشرب الخمر والغناء، فبيناهم كذلك إذ مسخوا من ليلتهم وأصبحوا قردة وخنازير. وهو قوله: واحذروا أن تعتدوا كما اعتدى أصحاب السّبت. فقد كان أملي لهم حتّى آثروا، و قالوا: إنّ السّبت لنا حلال، وإنّما كان حرام على أوّلينا وكانوا  يعاقبون على استحلالهم السّبت، فأمّا نحن فليس علينا حرام، وما زلنا بخير منذ استحللناه وقد كثرت أموالنا وصحّت أجسامنا. ثمّ أخذهم اللّه ليلا وهم غافلون. فهو قوله: احذروا أن يحلّ بكم مثل ما حلّ بمن تعدّى وعصى.] .

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ : فاعلموا أنّكم لا تضرّون الرّسول بتولّيكم، فإنّما عليه البلاغ وقد أدّى، وإنّما ضررتم به أنفسكم.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن الحسين بن نعيم الصّحّاف قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن هذه الآية؟

فقال: أما واللّه، ما هلك من كان قبلكم وما هلك من هلك حتّى يقوم قائمنا، إلّا في ترك ولايتنا وجحود حقّنا. وما خرج رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- من الدّنياحتّى ألزم رقاب هذه الأمّة حقّنا. واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا: من المستلذّات، أكلا كان أو شربا. فإنّ الطّعم يعمّهما.

و في مجمع البيان : في تفسير أهل البيت- عليهم السّلام-: فيما طعموا من الحلال.

إِذا مَا اتَّقَوْا: المحرّم.

وَ آمَنُوا: باللّه.

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا: الإشراك في العمل.

وَ آمَنُوا: إيمانا خالصا.

ثُمَّ اتَّقَوْا: ثمّ ثبتوا  على اتّقاء المعاصي.

وَ أَحْسَنُوا: وتحرّوا الأعمال الجميلة، واشتغلوا بها.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم»

: لمّا نزل تحريم الخمر والميسر والتّشديد في أمرهما، قال النّاس من المهاجرين والأنصار: يا رسول اللّه، قتل أصحابنا وهم يشربون الخمر، وقد سمّاه اللّه رجسا وجعله من عمل الشّيطان، وقد قلت ما قلت، أ فيضرّ أصحابنا ذلك شيئا بعد ما ماتوا؟ فأنزل اللّه هذه الآية. فهذا لمن مات أو قتل قبل تحريم الخمر. و«الجناح» هو الإثم على من شربها بعد التّحريم.

و قيل : فِيما طَعِمُوا، أي: ممّا لم يحرّم عليهم. إِذا مَا اتَّقَوْا، أي:

المحرّم. وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، أي: ثبتوا على الإيمان، والأعمال الصّالحة. ثُمَّ اتَّقَوْا، أي: ما حرّم عليهم بعد، كالخمر وَآمَنُوا بتحريمه. ثُمَّ اتَّقَوْا، أي: استمرّوا وثبتوا على اتّقاء المعاصي. وَأَحْسَنُوا، أي: وتحرّوا الأعمال الجميلة واشتغلوا بها.

و ما ذكره عليّ بن إبراهيم موافق لهذا القول. وهما موافقان لمذهب العامّة. وقد سبق ما يدلّ على تحريم الخمر دائما، فإن ورد من طريق الخاصّة ما يدلّ على ما قاله‏عليّ بن إبراهيم كان محمولا على التّقيّة. قيل : ويحتمل أن يكون هذا التّكرير، باعتبار الأوقات الثّلاثة. أو باعتبار الحالات الثّلاث: استعمال الإنسان التقوى والإيمان بينه وبين نفسه [، وبينه‏]  وبين النّاس، وبينه وبين اللّه. ولذلك بدّل الإيمان والإحسان في الكرّة الثّالثة، إشارة إلى ما قاله- عليه السّلام- في تفسيره. أو باعتبار المراتب الثّلاث:

المبدأ، والوسط، والمنتهى. أو باعتبار ما يتّقى، فإنّه ينبغي أن يترك المحرّمات توقّيا من العذاب ، والشّبهات تحرّزا عن الوقوع في الحرام، وبعض المباحات تحفّظا للنّفس عن الخمسّة وتهذيبا لها عن دنس الطّبيعة.

و اعلم، أنّه لمّا كان لكلّ من الإيمان والتّقوى درجات ومنازل كما ورد عنهم- عليهم السّلام- لم يبعد أن يكون تكريرهما في الآية إشارة إلى تلك الدّرجات والمنازل.

ففي الكافي : عن الصّادق- عليه السّلام-: للإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل. فمنه التّامّ المنتهى تمامه، ومنه النّاقص البيّن نقصانه، ومنه الرّاجح الزّائد رجحانه.

و عن الباقر- عليه السّلام-: إنّ المؤمنين على منازل. منهم على واحدة، ومنهم على اثنتين، ومنهم على ثلاث، ومنهم على أربع، ومنهم على خمس، ومنهم على ستّ، ومنهم على سبع. فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقو، وعلى صاحب الثّنتين ثلاثا لم يقو. وساق الحديث، ثمّ قال: وعلى هذه الدّرجات.

و في مصباح الشّريعة ، عنه- عليه السّلام-: التّقوى على ثلاثة أوجه: تقوى [باللّه‏]  في اللّه، وهو  ترك الحلال فضلا عن الشّبهة، وهو  تقوى خاصّ الخاصّ. وتقوى من اللّه، وهو  ترك الشّبهات فضلا عن الحرام، وهي تقوى الخاصّ. وتقوى من خوف‏النّار والعقاب، وهو  ترك الحرام، وهو  تقوى العامّ.

و مثل التّقوى، كماء يجري في نهر. ومثل هذه الطّبقات الثّلاث في معنى التّقوى، كأشجار مغروسة على حافّة ذلك النّهر [من‏] كلّ لون وجنس، وكلّ شجر  منها يستمصّ الماء من ذلك النّهر على قدر جوهره وطبعه  ولطافته وكثافته، ثمّ منافع الخلق من تلك الأشجار والثّمار على قدرها وقيمتها. قال اللّه- تعالى -: صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ..

فالتّقوى للطّاعات، كالماء للأشجار. ومثل طبائع الأشجار [و الثّمار]  في لونها وطعمها، مثل مقادير الإيمان. فمن كان أعلى درجة  في الإيمان وأصفى جوهرا بالروح، كان أتقى. [و من كان أتقى،]  كانت عبادته أخلص وأطهر. ومن كان كذلك، كان من اللّه أقرب. وكلّ عبادة غير مؤسّسة على التّقوى، فهي هباء منثور. قال اللّه- تعالى -: أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ. (انتهى كلامه- صلوات اللّه عليه وسلامه-.).

بيان ذلك: أنّ أوائل درجات الإيمان تصديقا، مشوبة بالشّبهة والشّكوك على اختلاف مراتبها. ويمكن معها الشّرك، كما قال- سبحانه- : وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. ويعبّر عنها بالإسلام، كما قال اللّه- عزّ وجلّ- : قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ..

و التّقوى المتقدّمة عليها، هي تقوى العامّ. وأوسطها تصديقات، لا يشوبها شكّ ولا شبهة كما قال- عزّ وجلّ- : الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وأكثرإطلاق الإيمان عليها خاصّة، كما قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ..

و التّقوى المتقدّمة عليها، هي تقوى الخاصّ. وأواخرها ، تصديقات. كذلك مع إيقان كامل ومحبة كاملة للّه- عزّ وجلّ- كما قال : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ويعبّر عنها تارة بالإحسان،

كما ورد في الحديث النّبويّ : الإحسان أن تعبد اللّه كأنّك تراه.

و الأخرى بالإيقان، كما قال : وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ..

و التّقوى المقدّمة عليها، هي تقوى خاصّ الخاصّ. وإنّما قدّمت التّقوى على الإيمان، لأنّ الإيمان إنّما يتحصّل ويتقوّى بالتّقوى. لأنّها كلّما ازدادت، ازداد الإيمان بحسب ازديادها. وهذا لا ينافي تقدّم أصل الإيمان على التّقوى، بل ازديادها بحسب ازدياده- أيضا- لأنّ الدّرجة المتقدّمة لكلّ منها غير الدّرجة المتأخّرة. ومثل ذلك مثل من يمشي بسراج في ظلمة، فكلّما أضاء له من الطّريق قطعة مشى فيها. فيصير ذلك المشي سببا لإضاءة قطعة أخرى منه، وهكذا.

و في الكافي  [: يونس، عن عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: الحدّ في الخمر، إن شرب قليلا أو كثيرا.

قال: ثمّ‏]  قال: أتي عمر بقدامة بن مظعون، وقد شرب الخمر، وقامت عليه البيّنة. فسأل أمير المؤمنين- عليه السّلام- فأمره أن يجلد ثمانين.

فقال قدامة: يا أمير المؤمنين، ليس عليّ حدّ. أنا من أهل هذه الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا..

قال: فقال عليّ- عليه السّلام-: لست من أهلها. إنّ طعام أهلها لهم حلال.

ليس يأكلون ولا يشربون إلّا ما أحلّه اللّه لهم. ثمّ قال عليّ- عليه السّلام-: إنّ الشّارب‏إذا شرب، لم يدر ما يأكل ولا ما يشرب. فأجلدوه ثمانين جلدة.

 [وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ : ويجازيهم أحسن جزاء.] .

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ، يعني: في حال إحرامكم.

و في تحقير «شي‏ء» بالتّنكير، تنبيه على أنّه ليس من العظام الّتي تدحي الإقدام، كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال. فمن لم يثبت عنده، فكيف يثبت عند ما هو أشدّ منه.

في تفسير عليّ بن إبراهيم  قال: نزلت في غزوة الحديبية، جمع اللّه عليهم الصّيد فدخلوا بين رحالهم.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن هذه الآية؟

قال: حشر عليهم الصّيد في كلّ مكان حتّى دنا منهم، ليبلوهم به.

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: حشرت لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في عمرة الحديبية  الوحوش، حتّى نالتها أيديهم ورماحهم.

و في رواية : ما تناله الأيدي: البيض والفراخ. وما تناله الرّماح: فهو ما لا تصل إليه الأيدي.

و في مجمع البيان»: عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: الّذي تناله الأيدي:

فراخ الطّير، وصغار الوحش، والبيض. والّذي تناله الرّماح: الكبار من الصّيد.

لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ: ليتميّز الخائف من عقابه وهو غائب منتظرلقوّة إيمانه، ممّن لا يخافه لضعف قلبه وقلّة إيمانه. فذكر العلم، وأراد وقوع المعلوم وظهوره.

أو تعلّق العلم.

فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ: الابتلاء.

فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ :

فإنّ من لا يملك نفسه في مثل ذلك ولا يراعي حكم اللّه فيه، فكيف به فيما تكون النّفس أميل إليه وأحرص عليه؟!

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ، أي: محرمون. جمع، حرام. كرداح، وردح. فذكر القتل دون الذّبح والذّكاة، للتّعميم.

و في الكافي : عليّ، عن أبيه ومحمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا، عن ابن أبي عمير وصفوان، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إذا أحرمت فاتّق قتل الدّوابّ كلّها، إلّا الأفعى والعقرب والفأرة. [فأمّا الفأرة،]  فإنّها توهي السّقاء وتضرم على أهل البيت. وأمّا العقرب، فإنّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- مدّ يده إلى الجحر فلسعته عقرب فقال: لعنك اللّه لا برّا تدعين  ولا فاجرا. والحيّة إذا أرادتك فاقتلها، وإن لم تردك فلا تردها. والكلب العقور والسّبع إذا أراداك فاقتلهما، فإن لم يريداك فلا تردهما. والأسود الغدر فاقتله على كلّ حال. وارم الغراب رميّا والحدأة على ظهر بعيرك.

و في التّهذيب، مثله .

 

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في المحرم يصيد الطّير. قال: عليه الكفّارة في كلّ ما أصاب.

عليّ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه‏

 - عليه السّلام- قال: يقتل في الحرم والإحرام، الأفعى والأسود الغدر وكلّ حيّة سوء والعقرب والفأرة وهي الفويسقة. ويرجم الغراب والحدأة رجما. فإن عرض لك لصوص، امتنعت منهم.

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن يحيى ، عن غياث بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: يقتل المحرم الزّنبور والنّسر والأسود الغدر والذّئب وما خاف أن يعدو عليه. وقال: الكلب العقور: هو الذّئب.

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: كلّما خاف المحرم على نفسه من السّباع والحيّات وغيرها، فليقتله. فان لم يردك، فلا ترده.

وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً: والتّقييد به، لأنّ الآية نزلت فيمن تعمّد على ما نقل : أنّه عنّ  لهم في عمرة الحديبية حمار وحش، فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله. فنزلت.

و ليترتّب عليه قوله: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ ... وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ لا لتقييد وجوب الجزاء. فإنّ إتلاف العامد والمخطئ والنّاسي، واحد في إيجاب الكفّارة.

في مجمع البيان : فأمّا إذا قتل الصّيد خطأ أو ناسيا، فهو كالمتعمّد في وجوب الجزاء عليه. وهو مذهب عامّة أهل التّفسير والعلم. وهو المرويّ عن أئمّتنا- عليهم السّلام-

و كذا ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره ، وسيأتي.

فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ:

قرأ الكوفيّون ويعقوب، برفع «الجزاء» و«المثل»، بمعنى: فعليه، أي: فواجبه جزاء يماثل ما قتل من النّعم. وعلى هذا، لا يتعلّق الجارّ «بجزاء» للفصل بينهما بالصّفة. فإنّ متعلّق المصدر كالصّلة له. فلا يوصف ما لم يتمّ بها، وإنّما يكون صفته.و قرأ الباقون، على الإضافة إلى المفعول. وإقحام «مثل» كما في قولهم: مثلي لا يقول كذا، والمعنى: فعليه أن يجزئ مثل ما قتل. وقرئ: «فجزاء مثل ما قتل» بنصبهما على: فليجزئ جزاء. أو فعليه أن يجزئ جزاء يماثل ما قتل .

في مجمع البيان : اختلف في هذه المماثلة، أ هي في القيمة أو الخلقة؟ والّذي عليه معظم أهل التّفسير، أنّ المماثلة معتبرة في الخلقة. ففي النّعامة، بدنة. وفي حمار الوحش وشبهه، بقرة. وفي الظّبى والأرنب، شاة. وهو المرويّ عن أهل البيت- عليهم السّلام-.

و في تفسير العيّاشي : عن زرارة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في هذه الآية. قال: من أصاب نعامة، فبدنة. ومن أصاب حمارا أو شبهه، فعليه بقرة. ومن أصاب ظبيا، فعليه شاة.

و في تهذيب الأحكام : الحسين بن سعيد، عن أبي الفضيل، عن أبي الصّباح قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن هذه الآية؟

قال: في الظّبي، شاة. وفي حمار وحش، بقرة، وفي النّعامة، جزور.

و روي عنه ، عن حمّاد، عن حريز، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في هذه الآية قال: في النّعامة، بدنة. وفي حمار وحش، بقرة. [و في الظّبي، شاة.]  وفي البقرة، بقرة.

يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ: صفة «جزاء».

و يحتمل أن يكون حالا من الضّمير في «جزاء». أو منه إذا أضفته، أو وصفته ورفعته بخبر مقدّر: لمن.

و في مجمع البيان : عن الباقر والصّادق- عليهما السّلام-: «ذو عدل.».

و في الكافي ، عنهما، وفي روضته ، عن أبي عبد اللّه، وفي تفسير العيّاشي ، عن أبي جعفر- عليهما السّلام-: العدل: رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- والإمام من بعده. ثمّ قالا: هذا ممّا أخطأت به الكتّاب.

و زاد العيّاشيّ في رواية : يعني: رجلا وحدا، يعني: الإمام- عليه السّلام-.

و معنى قوله- عليه السّلام-: «هذا ممّا أخطأت به الكتّاب» أنّ رسم الألف في «ذوا عدل» من تصرّف نسّاخ القرآن وخطأ. والصّواب عدم نسخها. وذلك، لأنّه يفيد أنّ الحاكم اثنان. والحال، أنّه واحد. وهو الرّسول في زمانه. ثمّ كلّ إمام في زمانه، على سبيل البدل.

و في تهذيب الأحكام : محمّد بن الحسن الصّفّار، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن حمّاد بن عثمان، عن زرارة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في هذه الآية: العدل: رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- والإمام من بعده يحكم به. وهو ذو عدل. فإذا علمت ما حكم به رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- والإمام، فحسبك ولا تسأل عنه.

و الوجه في الرّجوع إلى ذي العدل، أنّ الأنواع تتشابه كثيرا. فيحتاج تحقيق الماثلة الرّجوع إليه.

هَدْياً: حال من الهاء في «به». أو من «جزاء» وإن نوّن، لتخصّصه بالصّلة. أو بدل عن «مثل» باعتبار محلّه، أو لفظه فيمن نصبه.

بالِغَ الْكَعْبَةِ: وصف به «هديا» لأنّ إضافته لفظيّة.

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد، عن بعض رجاله، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من وجب عليه هدي في إحرامه، فله أن ينحره حيث شاء. إلّا فداء الصّيد، فإنّ اللّه- تعالى- يقول:هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ..

أبو عليّ الأشعريّ، عن محمّد بن عبد الجبّار ، عن صفوان بن يحيى، عن عبد اللّه بن سنان قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: من وجب عليه فداء صيد أصابه وهو محرم، فإن كان حاجّا نحر هديه الّذي يجب عليه بمنى، وإن كان معتمرا نحر بمكّة قبالة الكعبة.

و عن أبي جعفر- عليه السّلام-  مثله. وزاد: وإن شاء تركه إلى أن يقدم فيشتريه، فإنّه يجزئ عنه.

أَوْ كَفَّارَةٌ: عطف على «جزاء» إن رفعته. وإن نصبته، فخبر محذوف.

طَعامُ مَساكِينَ: عطف بيان. أو بدل منه. أو خبر مبتدأ محذوف، أي:

هي طعام.

و قرأ نافع وابن عامر، بالإضافة، للتّبيين .

أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً، أي: ما ساواه من الصّوم. وهو في الأصل مصدر، أطلق للمفعول.

و قرئ، بكسر العين. وهو ما عدل بالشي‏ء في المقدار، كعدلي الحمل. وذلك، إشارة إلى الطّعام. و«صياما» تمييز «للعدل».

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في محرم قتل نعامة. قال: عليه بدنة.

فإن لم يجد فإطعام ستّين مسكينا. وإن كان قيمة البدنة أقل من إطعام ستّين مسكينا، لم يكن عليه إلّا قيمة البدنة.

أحمد بن محمّد، عن الحسن بن عليّ بن فضّال ، عن ابن بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- تعالى-: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً

 قال: يثمّن  قيمة الهدي طعاما، ثمّ يصوم لكلّ مدّ يوما. فإن»

 زادت الأمداد على شهرين، فليس عليه أكثر.

و فيه ، عن الصّادق- عليه السّلام- أنّه سئل عن محرم أصاب نعامة أو حمار وحش؟

قال: عليه بدنة.

قيل : فإن لم يقدر على بدنة؟

قال: فيطعم ستّين مسكينا.

قيل : فإن لم يقدر على أن يتصدّق؟

قال: فليصم ثمانية عشر يوما، والصّدقة مدّ على كلّ مسكين.

و سئل  عن محرم أصاب بقرة؟

قال: عليه بقرة.

قيل : فإن لم يقدر على بقرة؟

قال: فليطعم ثلاثين مسكينا.

قيل : فإن لم يقدر على أن يتصدّق؟

قال: فليصم تسعة أيّام.

قيل : فإن أصاب ظبيا؟

قال: عليه شاة.

قيل : فإن لم يقدر؟

 [قال: فإطعام عشرة مساكين. فإن لم يجد ما يتصدّق به، فعليه صيام ثلاثة أيّام.و ما ذكر في هذا الخبر: «أنّه يصوم ثمانية عشر إن لم يقدر]  على التّصدّق» محمول على أنّه، إذا لم يقدر على التّصدّق فصيام شهرين. أو الزّيادة على الثّمانية عشر على الاستحباب. حتّى يوافق ما في الخبر الأوّل من أنّه: يصوم شهرين.

و في من لا يحضره الفقيه، وتفسير عليّ بن إبراهيم ، عن السّجّاد في حديث الزّهريّ: أو تدري كيف يكون عدل ذلك صياما، يا زهريّ؟

قال: لا أدري.

قال: يقوّم الصّيد قيمة، ثمّ تفضّ تلك القيمة على البرّ، ثمّ يكال ذلك البرّ أصواعا، فيصوم لكلّ نصف صاع يوما.

و ما يتراءى من المنافاة بين ما ذكر في هذا الخبر، الّذي ذكر فيه: «أنّه يصوم لكلّ مدّ يوما» محمول على أنّه يصوم شهرين. فربّما يساوي مدّا من البرّ من قيمة البدنة. وربّما يساوي مدّين.

و في مجمع البيان : واختلفوا في هذه الكفّارات الثّلاث، فقيل: إنّها مرتّبة.

و قيل: إنّها على التّخيير. وكلا القولين رواه أصحابنا.

و في تفسير العيّاشي : عن أبي حمزة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: كلّ شي‏ء في القرآن، أو فصاحبه فيه بالخيار.

و في الكافي ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- مثله. وزاد فيه: يختار ما يشاء.

فوقع المنافاة، فمن ثمّ ذهب إلى كلّ قوم. ويمكن أن يقال في الجمع: إنّ المراد:

أنّ كلّ ما في القرآن، أو فصاحبه بالخيار فيما لم يكن بيان من السّنّة. وأمّا ما كان فيه بيان، فمستثنى منه. فتأمّل.

لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ: متعلّق بالمحذوف، أي: فعليه الجزاء، أو الطّعام ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه بحرمة الإحرام. أو الثّقل الشّديد على مخالفة أمر اللّه.و أصل الوبل: الثّقل. ومنه: الطّعام الوبيل.

عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ: من قتل الصّيد في الجاهليّة. أو قبل التّحريم. أو في هذه المرّة.

وَ مَنْ عادَ: إلى مثل هذا.

فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ: فليس عليه كفّارة. فهو ممّن ينتقم اللّه منه.

وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ : ممّن أصرّ على عصيانه.

في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في محرم أصاب صيدا.

قال: عليه الكفّارة.

قلت: فإن أصاب آخر؟

قال: إذا أصاب آخر، فليس عليه كفّارة. وهو ممّن قال اللّه- تعالى-: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ..

هذا إذا أصاب متعمّدا. وأمّا إذا أصاب خطأ، فدائما عليه الكفّارة. كما

رواه في التّهذيب : عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه [، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إذا أصاب المحرم الصّيد خطأ، فعليه الكفّارة. فإن أصابه ثانية خطأ، فعليه الكفّارة أبدا إذا كان خطأ. فإن أصابه متعمّدا، كان عليه الكفّارة.

فإن أصابه ثانية متعمّدا، فهو ممّن ينتقم اللّه منه ولم يكن عليه الكفّارة.

و في الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن بعض أصحابه،]  عن أبي جميلة، عن زيد الشّحّام، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ قال: إنّ رجلا انطلق وهو محرم. فأخذ ثعلبا، فجعل يقرّب النّار إلى  وجهه، وجعل الثّعلب يصيح ويحدث من أسته، وجعل‏أصحابه ينهونه عمّا يصنع. ثمّ أرسله بعد ذلك، فبينا  الرّجل نائم إذ جاءته حيّة فدخلت في فيه، فلم تدعه حتّى جعل يحدث كما أحدث الثّعلب ثمّ خلت عنه.

و الخبر الّذي وعدنا [به‏] سابقا، هو

ما ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره  قال:

 

حدّثني محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عون النّصيبيّ قال: لمّا أراد المأمون أن يزوّج أبا جعفر محمّد بن عليّ بن موسى- عليهم السّلام- ابنته أم الفضل، اجتمع إليه أهل بيته الأدنين منه فقالوا: يا أمير المؤمنين، ننشدك اللّه أن تخرج  عنّا أمرا قد ملكناه، وتنزع عنّا عزّا قد ألبسنا اللّه. فقد عرفت الأمر الّذي بيننا وبين آل عليّ قديما وحديثا.

فقال المأمون: اسكتوا، فو اللّه لا قبلت من أحد منكم  في أمره.

فقالوا: يا أمير المؤمنين، أ فتزوّج  قرّة عينك صبيّا لم يتفقّه في دين اللّه، ولا يعرف فريضة ولا سنّة، ولا يميّز بين الحقّ والباطل- ولأبي جعفر يومئذ عشر سنين، أو إحدى عشرة  سنة- فلو صبرت عليه حتّى يتأدّب ويقرأ القرآن، ويعرف فرضا من سنّة.

فقال لهم المأمون: واللّه إنّه لأفقه منكم، وأعلم باللّه ورسوله وفرائضه وسننه وأحكامه، وأقرأ لكتاب اللّه، وأعلم بمحكمه ومتشابهه وخاصّه وعامّه وناسخه ومنسوخه وتنزيله وتأويله منكم. فاسألوه، فإن كان الأمر كما قلتم قبلت منكم في أمره، وإن كان كما قلت علمتم أنّ الرّجل خير منكم. فخرجوا من عنده، وبعثوا إلى يحيى بن أكثم، وأطمعوه في هداياهم بأن  يحتال على أبي جعفر بمسألة لا يدري كيف الجواب فيها عند المأمون إذا اجتمعوا للتّزويج. فلمّا حضروا وحضر أبو جعفر- عليه السّلام- قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا يحيى بن أكثم، إن أذنت له أن يسأل أباجعفر عن مسألة.

فقال المأمون: يا يحيى، سل أبا جعفر عن مسألة في الفقه، لننظر كيف فقهه.

فقال يحيى: يا أبا جعفر، أصلحك اللّه، ما تقول في محرم قتل صيدا؟

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: قتله في حلّ أو حرم، عالما أو جاهلا، عمدا أو خطأ، عبدا أو حرّا، صغيرا أو كبيرا، مبتدئا أو معيدا، من ذوات الطّير أو من غيرها، من صغار الطّير أو كبارها، مصرّا عليه  أو نادما، باللّيل في وكرها أو في النّهار  عيانا، محرما للعمرة أو للحجّ؟

قال: فانقطع يحيى بن أكثم انقطاعا لم يخف على أهل المجلس. وأكثر  النّاس تعجّبا من جوابه. ونشط المأمون فقال: نخطب  يا أبا جعفر؟

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: نعم، يا أمير المؤمنين.

فقال المأمون: الحمد للّه إقرارا بنعمته، ولا إله إلّا اللّه إخلاصا لعظمته، وصلّى اللّه على محمّد عند ذكره. وقد كان من  فضل اللّه على الأنام، أن أغناهم بالحلال عن الحرام. فقال : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ. ثمّ أنّ محمّد بن عليّ ذكر أم الفضل بنت عبد اللّه، وبذل لها من الصّداق خمسمائة درهم، وقد زوّجتك . فهل قبلت، يا أبا جعفر؟

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: نعم يا أمير المؤمنين، قد قبلت هذا التّزويج بهذا الصّداق. ثمّ أو لم عليه المأمون. وجاء النّاس على مراتبهم، الخاصّ والعامّ.

قال: فبينما نحن كذلك، إذ سمعنا كلاما كأنّه من كلام الملاحين في محاوراتهم. فإذا نحن بالخدم يجرّون سفينة من فضّة، وفيها نسائج من إبريسم مكان‏القلوس، مملوءة غالية. فخضّبوا لحاء أهل الخاصّ بها، ثمّ مرّوا بها  إلى دار العامّة فطيّبوهم. فلمّا تفرّق النّاس قال المأمون: يا أبا جعفر، إن رأيت أن تبيّن لنا ما الّذي يجب على كلّ صنف من هذه الأصناف، الّتي ذكرت في قتل الصّيد.

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: نعم يا أمير المؤمنين، إنّ المحرم إذا قتل صيدا في الحلّ والصّيد من ذوات الطّير من كبارها، فعليه شاة. وإذا أصابه في الحرم، فعليه الجزاء مضاعفا.

و إذا قتل فرخا في الحلّ، فعليه حمل قد فطم. وليس عليه قيمته، لأنّه ليس في الحرم. وإذا قتله في الحرم، فعليه الحمل وقيمته لأنّه في الحرم.

و إذا كان من الوحوش ، فعليه في حمار الوحش بدنة. وكذلك في النّعامة. وإن لم يقدر، فإطعام  ستّين مسكينا. فإن لم يقدر، فصيام ثمانية عشر يوما.

و إن كانت بقرة، فعليه بقرة. فإن لم يقدر، فعليه إطعام ثلاثين مسكينا فإن  لم يقدر، فيضم تسعة أيّام.

و إن كان ظبيا، فعليه شاة. فإن لم يقدر، فإطعام عشرة مساكين. فإن لم يقدر، فصيام ثلاثة أيّام.

و إن كان في الحرم، فعليه الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة حقّا واجبا عليه أن ينحره [حيث ينحر النّاس.]  [فإن كان في حجّ بمنى‏]  وإن كان في عمرة، ينحره بمكة ويتصدّق بمثل ثمنه حتّى يكون مضاعفا.

و كذلك إذا أصاب أرنبا، فعليه شاة.

و إذا قتل الحمامة، تصدّق بدرهم. أو يشتري به طعاما لحمام [الحرم.]  وفي الفرخ نصف درهم. وفي البيضة ربع درهم.و كلّما أتى به المحرم بجهالة، فلا شي‏ء عليه فيه. إلّا الصّيد، فإنّ عليه الفداء بجهالة كان أو بعلم، بخطإ كان أو بعمد.

و كلّما أتى به العبد، فكفارته على صاحبه بمثل ما يلزم صاحبه. وكلّما أتى به الصّغير الّذي ليس ببالغ، فلا شي‏ء عليه فيه.

و إن كان ممّن عاد، فهو ممّن ينتقم اللّه منه ليس عليه كفّارة والنّقمة في الآخرة.

 [و إن دلّ على الصّيد وهو محرم فقتل، فعليه الفداء. والمصر عليه يلزمه بعد الفداء عقوبة الآخرة.] .

و النّادم عليه، لا شي‏ء عليه بعد الفداء.

و إذا أصاب ليلا في وكرها خطأ، فلا شي‏ء عليه إلّا أن يتعمّده. فإن تعمّد بليل أو نهار، فعليه الفداء.

و المحرم بالحجّ، ينحر الفداء  بمنى حيث ينحر النّاس. والمحرم بالعمرة،  ينحر بمكّة. فأمر المأمون، أن يكتب ذلك كلّه عن أبي جعفر- عليه السّلام-

و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللّه- كلام لعلي- عليه السّلام- فيه: وأمّا قولكم، إنّي حكمت في دين الرّجال، فما حكمت الرّجال. وإنّما حكمت كلام ربّي، الّذي جعله اللّه حكما بين أهله. وقد حكم اللّه الرّجال كما في طائر فقال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ.

 

فدماء المسلمين أعظم من دم طائر.

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ: في حال الإحرام.

قيل : هو ما صيد منه، ممّا لا يعيش إلّا في الماء.وَ طَعامُهُ:

قيل : ما قذفه، أو نضب عنه.

و قيل: الضّمير «للصّيد». و«طعامه» أكله.

و في تفسير العيّاشي : عن زيد الشّحّام، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال:

سألته عن قول اللّه: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ..

قال: هي الحيتان، المالح وما تزوّدت منه- أيضا- وإن لم يكن مالحا، فهو طعام.

و في الكافي: عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: لا بأس بأن يصيد المحرم السّمك، ويأكل مالحه وطريّه ويتزوّد. وقال: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ. قال:

مالحه، الّذي يأكلون. وفصل ما بينهما: كلّ طير يكون في الآجام يبيض في البرّ ويفرخ في البرّ، فهو من صيد البرّ. وما كان من صيد البرّ يكون في البرّ ويبيض في البحر [و يفرخ في البحر،]  فهو من صيد البحر.

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: كلّ شي‏ء يكون أصله في البحر ويكون في البرّ والبحر، فلا ينبغي للمحرم أن يقتله. فإن قتله، فعليه الجزاء كما قال اللّه- سبحانه وتعالى-.

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن عليّ بن الحكم، عن العلاء بن رزين [، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: مرّ عليّ- عليه السّلام- على قوم يأكلون جرادا فقال: سبحان اللّه وأنتم محرمون؟ فقالوا: إنّما هو من صيد البحر. فقال: ارمسوه  في الماء إذا.

أحمد بن زياد، عن الحسن بن محمّد  بن سماعة، عن غير واحد، عن أبان، عن الطّيّار، عن أحدهما- عليهما السّلام- قال: لا يأكل المحرم طير الماء.

مَتاعاً لَكُمْ: تمتيعا لكم. نصب على الغرض.

وَ لِلسَّيَّارَةِ: ولسيّارتكم. يتزودونه قديدا.

وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ، أي: ما صيد فيه. وإن صاده المحلّ في الحلّ.

ما دُمْتُمْ حُرُماً: محرمين. وقرئ، بكسر الدّال. من دام، يدام .

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ : لأنّه إذا حشرتم إليه، جازاكم على أعمالكم. فيجب اتّقاؤه فيما نهى عنه.

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ: صيّرها.

في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى الحسن بن عبد عليه السّلام، عن آبائه، عن جدّه الحسن بن عليّ بن أبي طالب- عليهم السّلام- قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فسألوه عن أشياء. فكان فيما سألوه عنه، أنّه قال له أحدهم:

لأيّ شي‏ء سمّيت الكعبة كعبة؟

 [فقال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: لأنّها وسط الدّنيا.

و روي عن الصادق- عليه السّلام- أنّه سئل: لم سمّيت الكعبة كعبة؟] .

قال: لأنّها مربّعة. فقيل له: ولم صارت مربّعة؟

قال: لأنّها بحذاء البيت المعمور، وهو مربّع.

فقيل له: ولم صار البيت المعمور مربّعا؟

قال: لأنّه بحذاء العرش [و هو مربّع.] .

فقيل له: ولم صار العرش مربّعا.؟

قال: لأنّ الكلمات الّتي بني عليها [الإسلام‏]  أربع [و هي:]  سبحان اللّه،و الحمد للّه، ولا إله إلّا اللّه، واللّه أكبر.

الْبَيْتَ الْحَرامَ: عطف بيان، على جهة المدح. أو المفعول الثّاني.

و في العلل ، بإسناده إلى حنان قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام- لم سمّي بيت اللّه الحرام ؟ قال: لأنّه حرام على المشركين أن يدخلوه.

قِياماً لِلنَّاسِ: انتعاشا لهم، أي: سبب انتعاشهم في أمر معاشهم ومعادهم.

يلوذ به الخائف، ويأمن فيه الضّعيف، ويربح فيه التّجّار، ويتوجّه إليه الحجّاج والعمّار. أو ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم.

في تفسير العيّاشي : عن [أبان‏]  بن تغلب قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ قال: جعلها اللّه لدينهم ودنياهم .

و في مجمع البيان : عن الصّادق- عليه السّلام-: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدّنيا والآخرة، أصابه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم  قال: ما دامت الكعبة قائمة ويحجّ النّاس إليها، لم يهلكوا. فإذا هدمت وتركوا الحجّ، هلكوا.

و قرأ ابن عامر: «قيما» على أنّه مصدر على فعل، كالشبع. اعلّ عينه، كما أعلّت في فعله. ونصبه على المصدر. أو الحال .

وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ: مضى تفسيرها. والمراد بالشّهر، الشّهر الّذي يؤدّى فيه الحجّ، لأنّه المناسب لقرنائه. وقيل : الجنس.ذلِكَ: إشارة إلى الجعل. أو إلى ما ذكر من الأمر، بحفظ حرمة الإحرام وغيره.

لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: فإنّ شرع الأحكام لدفع المضارّ قبل وقوعها وجلب المنافع المترتّبة عليها، يدلّ على حكمة الشّارع لها وكمال علمه.

وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ : تعميم بعد تخصيص. ومبالغة بعد إطلاق.

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ : وعد ووعيد لمن انتهك محارمه، ولمن حافظ عليها. أو لمن أصرّ عليها، ولمن انقلع عنها.

في كتاب التوحيد : حدّثنا أبي رحمه اللّه قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عمير، عن معاذ الجوهريّ، عن جعفر بن محمّد الصّادق- عليه السّلام- عن آبائه- صلوات اللّه عليهم أجمعين- عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عن جبرئيل قال: قال اللّه- جلّ جلاله-: من أذنب ذنبا صغيرا أو كبيرا وهو لا يعلم أنّ لي أن أعذّبه [به‏]  أو أعفو عنه، لا غفرت له ذلك الذّنب أبدا.

و من أذنب ذنبا صغيرا [كان‏]  أو كبيرا وهو يعلم أنّ لي أن أعذبه وأن أعفو عنه، عفوت عنه.

ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ: تشديد في إيجاب القيام بما أمر، أي: الرّسول أتى بما أمر به من التّبليغ، ولم يبق لكم عذر في التّفريط.

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ : من تصديق وتكذيب، وفعل وعزيمة.

قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ: حكم عامّ في نفي المساواة عند اللّه، بين الردي‏ء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيّدها. رغّب به في صالح العمل والحلال‏من المال.

وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ: فإنّ العبرة بالجودة والرّداءة، دون القلّة والكثرة. فإنّ المحمود القليل، خير من المذموم الكثير.

و الخطاب لكلّ معتبر. ولذلك قال:

فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ، أي: فاتَّقوه في تحرّي الخبيث وإن كثر، وآثروا الطّيّب وإن قلّ.

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ : راجين أن تبلغوا الفلاح.

نقل: أنّها نزلت في حجّاج اليمامة، لمّا همّ المسلمون أن يوقعوا بهم. فنهوا عنه وإن كانوا مشركين .