سورة النّساء الآية 141-160

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ: ينتظرون وقوع أمر بكم. وهو بدل من «الّذين يتّخذون». أو صفة «للمنافقين والكافرين». أو ذمّ مرفوع، أو منصوب. أو مبتدأ، خبره.

فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ: مظاهرين لكم، فأسهموا لنا فيما غنمتم.

وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ: من الحرب. فإنّها سجال.

قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ، أي: أ لم نغلبكم ونتمكّن من قتلكم، فأبقيناعليكم؟

و «الاستحواذ»، الاستيلاء. وكان القياس، استحاذ يستحيذ استحاذة.

فجاءت على الأصل.

وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: بأن خذلناهم عنكم بتخييل ما ضعفت به قلوبهم، وتوانينا في مظاهرتهم، فأشركونا فيما أصبتم. سمّى ظفر المسلمين «فتحا» وظفر الكافرين «نصيبا» لخسّة نصيبهم. فإنّه مقصور على أمر دنيويّ سريع الزّوال.

فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ: يفصل بينكم بالحقّ.

وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا : بالحجّة، وإن جاز أن يغلبوهم بالقوّة.

و في عيون الأخبار : حدّثنا تميم بن عبد اللّه بن تميم القرشي- رضي اللّه عنه- قال: حدّثني أبي قال: حدّثني أحمد بن عليّ الأنصاريّ، عن أبي الصّلت الهرويّ قال: قلت للرّضا- عليه السّلام-: يا بن رسول اللّه، إنّ في سواد الكوفة قوما يزعمون أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لم يقع عليه السّهو في صلاته.

فقال: كذبوا- لعنهم اللّه- إنّ الّذي لا يسهو هو اللّه لا إله إلّا هو.

قال: قلت: يا بن رسول اللّه، وفيهم قوم يزعمون أنّ الحسين بن عليّ- عليهما السّلام- لم يقتل، وأنّه ألقى شبهه على حنظلة بن أسعد الشّاميّ، وأنّه رفع إلى السّماء كما رفع عيسى بن مريم- عليهما السّلام- ويحتجّون بهذه الآية وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.

فقال: كذبوا- عليهم غضب اللّه ولعنته- وكفروا بتكذيبهم لنبيّ اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في أخباره بأنّ الحسين- عليه السّلام- سيقتل. واللّه لقد قتل الحسين وقتل من كان خيرا من الحسين أمير المؤمنين والحسن بن عليّ- عليهم السّلام- وما منّا إلّا مقتول، وإنّي واللّه لمقتول بالسّمّ باغتيال من يغتالني، أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أخبره به جبرئيل عن ربّ العالمين- عزّ وجلّ-.

فأمّا قوله- عزّ وجلّ-: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فإنّه يقول: لن يجعل اللّه لهم على أنبيائه- عليهم السّلام- سبيلا من طريق الحجّة.إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ‏

: سبق في سورة البقرة.

وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‏

: متثاقلين، على نحو المكره على الفعل.

و قرئ: «كسالى» بالفتح. وهما جمع، كسلان .

في الكافي : سهل، عن ابن محبوب، عن سعد بن أبي خلف، عن أبي الحسن موسى- عليه السّلام- قال: قال أبي لبعض ولده: إيّاك والكسل والضّجر، فإنّهما يمنعانك من حظّك من الدّنيا والآخرة.

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن زرارة، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من كسل عن طهوره وصلاته، فليس فيه خير لأمر آخرته. ومن كسل عمّا يصلح به أمر معيشته، فليس فيه خير لأمر دنياه.

عليّ بن محمّد رفعه  قال: قال أمير المؤمنين عليّ- صلوات اللّه عليه-: إنّ الأشياء لمّا ازدوجت ازدوج الكسل والضّجر، فنتجا بينهما الفقر.

يُراؤُنَ النَّاسَ‏

: ليخالوهم مؤمنين. والمراءاة، المفاعلة، بمعنى: التّفضيل.

كنعم، وناعم. أو للمقابلة. فإنّ المرائي يرى من يرائيه عمله، وهو يريد استحسانه.

وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا

 : إذ المرائي لا يفعل إلّا بحضرة من يرائيه، وهو أقلّ أحواله. أو لأنّ ذكره باللّسان قليل بالإضافة إلى الذّكر بالقلب. ولا يذكرونه بالقلب. وإنّما يذكرونه باللّسان فقط للمراءاة. أو لأن ذكرهم اللّه بالقلب قليل، بالقياس إلى ما يخطر ببالهم من مراءاة من يراؤونه.

و قيل : المراد بالذّكر، الصّلاة.

و قيل : الذّكر فيها، فإنّهم لا يذكرون فيها غير التّكبير.

و في كتاب الخصال : عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال لقمان لابنه:

يا بنيّ لكلّ شي‏ء علامة يعرف بها ويشهد عليها- إلى قوله-: وللمنافق ثلاث‏علامات: يخالف لسانه قلبه، وفعله قوله، وعلانيته سريرته. وللكسلان ثلاث علامات:

يتوانى حتّى يفرّط، ويفرّط حتّى يضيّع، ويضيّع حتّى يأثم. وللمرائي ثلاث علامات:

يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان النّاس عنده، ويتعرّض في كلّ أمر للمحمدة.

و عن أبي الحسن الأوّل- عليه السّلام-  قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أربع خصال يفسدن القلب وينبتن النّفاق في القلب كما ينبت الماء الشّجر: استماع اللّهو، والبذاء، وإتيان باب السّلطان، وطلب الصّيد.

و في كتاب علل الشّرائع  بإسناده إلى زرارة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- حديث طويل، بقوله فيه: ولا تقم إلى الصّلاة متكاسلا ولا متناعسا ولا متثاقلا. فإنّها من خلال النّفاق. وقد نهي من خلال النّفاق. وقد نهى اللّه- عزّ وجلّ- أن يقوموا إلى الصلاة وهم سكارى، يعني: من النّوم. وقال للمنافقين: وإذا قاموا إلى الصّلاة قاموا كسالى يراؤون النّاس ولا يذكرون اللّه إلّا قليلا.

و في كتاب معاني الأخبار : حدّثنا أبي- رضي اللّه عنه- قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه، عن يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن أبي عمير، عن عبد اللّه بن سنان قال: كنّا جلوسا عند أبي عبد اللّه- عليه السّلام- إذا قال له رجل من الجلساء: جعلت فداك يا بن رسول اللّه، أخاف على أن أكون منافقا.

فقال له: إذا خلوت في بيتك ليلا أو نهارا، أليس تصلّي؟

فقال: بلى.

فقال: فلمن تصلّي؟

فقال: للّه- عزّ وجلّ-.

فقال: فكيف تكون منافقا وأنت تصلّي للّه- عزّ وجلّ- لا لغيره؟!

و في أصول الكافي»: عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن سليمان بن عمرو عن أبي المغرا الخصّاف رفعه قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: من ذكر اللّه- عزّ وجلّ- في السّرّ، فقد ذكر اللّه كثيرا. إنّ المنافقين كانوا يذكرون اللّه علانية ولا يذكرونه في السّرّ، فقال اللّه‏- عزّ وجلّ-: يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا.

 

الحسين بن محمّد، عن محمّد بن جمهور ، عن عبد اللّه بن عبد الرّحمن الأصمّ، عن الهيثم بن واقد، عن محمّد بن مسلم، عن ابن مسكان، عن أبي حمزة، عن عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- قال: إنّ المنافق ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي، وإذا قام إلى الصّلاة اعترض.

قلت: يا بن رسول اللّه، وما الاعتراض؟

قال: الالتفات. وإذا ركع ربض. يمسي وهمّه العشاء وهو مفطر. ويصبح وهمّه النّوم ولم يسهر وإن حدّثك كذبك. وإن ائتمنته خانك. وإن غبت اغتابك. وإن وعدك أخلفك.

أبو عليّ الأشعريّ، عن الحسين بن عليّ الكوفي ، عن عثمان بن عيسى، عن سعيد بن يسار، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: مثل المنافق، مثل جذع أراد صاحبه أن ينتفع به في بعض بنيانه فلم يستقم له في الموضع الّذي أراد، فحوّله في موضع آخر فلم يستقم، فكان آخر ذلك أن أحرقه بالنّار.

مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ: حال من واو «يراؤون»، كقوله: ولا يذكرون، أي:

يراؤونهم غير ذاكرين مذبذبين. أو واو «يذكرون». أو منصوب على الذّمّ، والمعنى:

مردّدين بين الإيمان والكفر. من الذّبذبة، وهو جعل الشّي‏ء مضطربا. وأصله، الذّبّ، بمعنى: الطّرد.

و قرئ، بكسر الذّال، بمعنى: يذبذبون قلوبهم، أو دينهم. أو يتذبذبون.

كقولهم: صلصل، بمعنى: تصلصل .

و قرئ، بالدّال الغير المعجمة، بمعنى: أخذوا تارة في دبّة وتارة في دبّة أخرى.

و هي الطّريقة .

لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ: لا يصيرون إلى المؤمنين بالكليّة، ولا إلى الكافرين. كذلك يظهرون الإيمان كما يظهره المؤمنون، ولكن لا يضمرونه كمايضمرون. ويضمرون الكفر كما يضمره الكافرون، ولكن لا يظهرونه كما يظهرون.

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا : إلى الحقّ والصّواب. ونظيره قوله- تعالى-: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ: فإنّه صنيع المنافقين وديدنهم، فلا تتشبّهوا بهم.

أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً : حجّة بيّنة، فإنّ موالاة الكافرين دليل على النّفاق. أو سلطانا يسلّط عليكم عقابه.

إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ: وهو الطّبقة الّتي في قعر جهنّم.

لأنّهم أخبث الكفرة، إذ ضمّوا إلى الكفر استهزاءا بالإسلام وخداعا للمسلمين. وللنّار دركات، وللجنّة درجات. وإنّما سمّيت طبقاتها دركات، لأنّها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض.

و قرأ الكوفيّون، بسكون الرّاء. وهو لغة، كالسّطر والسّطر. والتّحريك أوجه، لأنّه يجمع على أدراك .

و في كتاب الاحتجاج ، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- حديث طويل، وفيه يقول- عليه السّلام-: معاشر النّاس، سيكون من بعدي أئمّة يدعون إلى النّار ويوم القيامة لا ينصرون. معاشر النّاس، إنّ اللّه وأنا بريئان منهم. معاشر النّاس، إنّهم وأنصارهم وأشياعهم وأتباعهم في الدّرك الأسفل من النّار ولبئس مثوى المتكبّرين.

وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً : يخرجهم منه.

 [و في روضة الكافي  بإسناده إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام-: واعلم  أنّ المنكرين هم المكذّبون، وأنّ المكذّبين هم المنافقون، وإنّ اللّه قال للمنافقين وقوله الحقّ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً] .

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا: عن النّفاق.وَ أَصْلَحُوا: ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النّفاق.

وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ: وثقوا به، وتمسّكوا بدينه.

وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ: لا يريدون بطاعتهم إلّا وجهه.

فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ: ومن عدادهم في الدّارين.

وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً : فيساهمونهم فيه.

ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ، أي: أ يتشفّى  به غيظا، أو يدفع به ضررا، أو يستجلب به نفعا؟ سبحانه هو الغنيّ المتعالي عن النّفع والضّرر، وإنّما يعاقب المصرّ على كفره. لأنّ إصراره عليه كسوء مزاج يؤدّي إلى مرض، فإذا أزاله بالإيمان والشّكر ونقّى نفسه عنه تخلّص من تبعته. وإنّما قدّم الشّكر، لأنّ النّاظر يدرك النّعمة أوّلا فيشكر شكرا مبهما، ثمّ يمعن النّظر حتّى يعرف المنعم فيؤمن به.

وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً: مثيبا، يقبل القليل ويعطي الجزيل.

عَلِيماً : بحقّ شكركم وإيمانكم.

لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ: إلّا جهر من ظلم.

بالدّعاء على الظّالم، أو التّظلّم منه.

في مجمع البيان : المرويّ عن أبي جعفر- عليه السّلام-: لا يحبّ اللّه الشّتم في الانتصار إلّا من ظلم، فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدّين.

و روي عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- : أنّه الضّيف ينزل بالرّجل فلا يحسن ضيافته، فلا جناح عليه أن يذكره بسوء ما فعله.

و في تفسير العيّاشي ، عنه- عليه السّلام- في هذه الآية: من أضاف قوما فأساء ضيافتهم فهي ممّن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه.

و عنه- عليه السّلام- : قال: الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أن يذكر الرّجل بما فيه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : بعد ما يقرب ممّا ذكر في المجمع أوّلا.

و في حديث آخر في تفسير هذا : إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثّناء والعمل الصّالح، فلا تقبله منه وكذّبه، فقد ظلمك.

و قرئ: «إلّا من ظلم» على البناء للفاعل، فيكون الاستثناء منقطعا، أي:

و لكنّ الظّالم يفعل ما لا يحبّه اللّه .

وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً: لما يجهر به من سوء القول.

عَلِيماً : بصدق الصّادق وكذب الكاذب، فيجازي كلا بعمله.

إِنْ تُبْدُوا خَيْراً: طاعة وبرّا.

أَوْ تُخْفُوهُ: تفعلوه سرا.

أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ: لكم المؤاخذة عليه. وهو المقصود. وذكر إبداء الخير وإخفائه تشبيب له، ولذلك رتّب عليه قوله:

فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً : أي: يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام، فأنتم لعدم كمال قدرتكم أولى بذلك. وهو حثّ المظلوم على العفو، بعد ما رخّص له في الانتصار، حملا على مكارم الأخلاق.

و في تقديم «العفوّ» على «القدير» إشارة لطيفة إلى أنّ المعافي من كمال عفوه أن لا يشعر بقدرته حين العفو، ليتمّ إحسانه بالنسبة إلى المعفوّ عنه، ولا يصير كالمنّ بعد الصّدقة.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ: بأن يؤمنوا باللّه، ويكفروا برسله.

وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ: نؤمن ببعض الأنبياء، ونكفر ببعض. كما فعلته اليهود، صدّقوا بموسى ومن تقدّمه من الأنبياء، وكذّبوا عيسى ومحمّدا- صلوات اللّه عليهما-. وكما فعلت النّصارى، صدّقوا عيسى ومن تقدّمه، وكذّبوا محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله-. هكذا قيل .

و الأولى، أن يفسّر التّفريق بالإيمان باللّه والإيمان بالرّسل أو ببعضهم، ويجعل‏قوله: «و يقولون» بيانا للتّفريق، ليناسبه قوله:

وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا : طريقا وسطا بين الإيمان والكفر ولا واسطة. إذ الحقّ لا يختلف. فإنّ الإيمان باللّه إنّما يتمّ بالإيمان برسله وتصديقهم فيما بلّغوا عنه تفصيلا وإجمالا. فالكافر ببعض ذلك كالكافر بالكلّ في الضّلال، كما قال:

أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، أي: الكاملون في الكفر، لا عبرة بإيمانهم هذا.

حَقًّا: مصدر مؤكّد لغيره. أو صفة لمصدر «الكافرين»، يعني: هم الّذين كفروا كفرا حقّا، أي: يقينا محقّقا.

وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً : يهينهم ويذلّهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: هم الّذين أقرّوا برسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وأنكروا أمير المؤمنين- عليه السّلام-.

و معناه: أنّ ذلك كفر ببعض الرّسل ، أي: بما جاء به من ولاية أمير المؤمنين- عليه السّلام-. وكذلك الّذين أقرّوا برسول اللّه وأمير المؤمنين، وأنكروا ما قرّراه من الشّرع الظّاهر، وآمنوا بأمر آخر سمّوه: باطنا. وسمّوا الإيمان به: إيمانا حقيقيّا.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ: وآمنوا بجميعهم وجميع ما جاؤوا به. وإنّما دخل «بين» على «أحد» وهو يقتضي متعدّدا لعمومه، من حيث أنّه وقع في سياق النّفي.

أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ: الموعودة لهم. سمّي الثّواب أجرا، للدّلالة على استحقاقهم لها. والتّصدير «بسوف» للدّلالة على أنّه كائن لا محالة وإن تأخّر.

و قرأ حفص عن عاصم، وقالون عن يعقوب، بالياء، على تلوين الخطاب .

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً: لم يزل يغفر ما فرط منهم من المعاصي.

رَحِيماً : يتفضّل عليهم بتضعيف الحسنات.

يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ:

في مجمع البيان : روي أنّ كعب بن الأشرف وجماعة من اليهود قالوا: إن كنت‏صادقا، فأتنا بكتاب من السّماء جملة كما أتى موسى.

و قيل : كتابا محرّرا بخطّ سماويّ على ألواح، كما كانت التّوراة. أو كتابا نعاينه حين ينزل. أو كتابا إلينا بأعياننا، بأنّك رسول اللّه.

فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ: جواب شرط مقدّر، أي: إن استكبرت ما سألوه منك، فقد سألوا موسى أكبر منه.

و هذا السّؤال وإن كان من آبائهم أسند إليهم، لأنّهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم.

و المعنى: أنّ عرقهم راسخ في ذلك، وأنّ ما اقترحوه عليك ليس بأوّل جهالاتهم وخيالاتهم.

فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً: عيانا، أي: أرنا نره جهرة. أو مجاهرين ومعاينين.

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ: نار جاءت من السّماء، وأهلكتهم.

بِظُلْمِهِمْ: بسبب ظلمهم، وتعنّتهم، وسؤالهم ما يستحيل على اللّه- تعالى-.

ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ: هذه الجناية الثّانية الّتي اقترفها- أيضا- أوائلهم.

و «البيّنات» المعجزات ولا يجوز حملها على التّوراة، إذ لم تأتهم بعد.

فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ: لسعة رحمتنا.

 [وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً : حجّة بيّنة، تبيّن صدقه.

وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ: الجبل. بِمِيثاقِهِمْ: ليقبلوه‏] .

وَ قُلْنا لَهُمُ: على لسان موسى، والجبل مظلّ عليهم.

ادْخُلُوا الْبابَ، أي: باب حطّة.

سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ:

قيل : على لسان داود. ويحتمل أن يراد على لسان موسى حين ظلّل الجبل عليهم، فإنّه شرّع السّبت ولكن كان الاعتداء فيه والمسخ به في زمن داود.و قرأ ورش، عن نافع «و لا تعدّوا» على أن أصله «لا تعتدوا» فأدغمت التّاء في الدّال .

و قرأ قالون، بإخفاء حركة العين وتشديد الدّال والنّصّ عنه بالإسكان .

وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً : على ذلك. وهو قولهم: سمعنا وأطعنا.

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ، أي: فخالفوا ونقضوا، ففعلنا ما فعلنا بنقضهم.

و «ما» مزيدة للتّأكيد.

و «الباء» متعلّقة بالفعل المحذوف. ويجوز أن تتعلّق «بحرّمنا عليهم» المذكور الآتي. فيكون التّحريم بسبب النّقض، و«ما» عطف عليه إلى قوله: «فبظلم» لا بما دلّ عليه قوله: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها مثل «لا يؤمنون» لأنّه ردّ لقولهم: قُلُوبُنا غُلْفٌ فيكون من صلة قولهم المعطوف على المجرور، فلا يتعلّق به جارّه.

وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ: بالقرآن. أو بما في كتابهم.

وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ:

في تفسير عليّ بن إبراهيم  قال: هؤلاء لم يقتلوا الأنبياء وإنّما قتلهم أجدادهم، فرضي هؤلاء بذلك، فألزمهم اللّه القتل بفعل أجدادهم. وكذلك من رضى بفعل، فقد لزمه وإن لم يفعله.

وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ: أوعية للعلوم. أو في أكنّة. وقد مرّ تفسيره.

بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ: فجعلها محجوبة عن العلم. أو خذلها ومنعها التّوفيق للتّدبّر في الآيات والتّذكير بالمواعظ.

و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال: سألت أبا الحسن الرّضا- عليه السّلام- إلى أن قال: وسألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ.

قال: الختم، هو الطّبع على قلوب الكفّار، عقوبة على كفرهم. قال- عزّ وجلّ-: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ إلى قوله: بُهْتاناً عَظِيماً.

فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا : منهم، كعبد اللّه بن سلام. أو إيمانا قليلا،لا عبرة به لنقصانه.

وَ بِكُفْرِهِمْ: بعيسى. وهو معطوف على «بكفرهم»، لأنّه من أسباب الطّبع.

أو على قوله: «فبما نقضهم». ويجوز أن يعطف مجموع هذا وما عطف عليه، على مجموع ما قبله. ويكون تكرير ذكر الكفر إيذانا بتكرير كفرهم، فإنّهم كفروا بموسى ثمّ بعيسى ثمّ بمحمّد- صلّى اللّه عليه وآله-.

وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ، يعني: نسبتها إلى الزّنا.

في أمالي الصّدوق- رحمه اللّه -، بإسناده إلى الصّادق- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام- لعلقمة: يا علقمة، إنّ رضا النّاس لا يملك وألسنتهم لا تضبط، ألم ينسبوا مريم ابنة عمران- عليها السّلام-  إلى أنّها حملت بعيسى- عليه السّلام- من رجل نجّار اسمه يوسف.

وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ، يعني: رسول اللّه بزعمهم.

و يحتمل أنّهم قالوه استهزاء، ونظيره: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. وأن يكون استئنافا من اللّه بمدحه. أو وضعا للذّكر الحسن، مكان ذكرهم القبيح.

وَ ما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ: قد مضى ذكر هذه القصّة في سورة آل عمران، عند قوله- تعالى-: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ.

قيل : إنّما ذمّهم اللّه بما دلّ عليه الكلام من جرأتهم على اللّه، وقصدهم قتل نبيّه المؤيّد بالمعجزات القاهرة، وتبجّحهم به، لا لقولهم هذا على حسب حسبانهم.

و الظّاهر، أنّ ذمّهم لجرأتهم، وقولهم كليهما.

و «شبّه» مسند إلى الجار والمجرور، وكأنّه قيل: ولكن وقع لهم التّشبيه بين عيسى والمقتول. أو إلى الأمر. أو إلى ضمير المقتول، لدلالة «إنّا قتلنا» على أنّ ثمّة مقتولا.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة»، بإسناده إلى سدير الصّيرفيّ، عن أبي‏

 عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه: وأمّا غيبة عيسى- عليه السّلام- فإنّ اليهود والنّصارى اتّفقت على أنّه قتل، فكذّبهم اللّه- جل ذكره- بقوله- عزّ وجلّ-:

وَ ما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.

 [و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن صالح، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ عيسى- عليه السّلام- وعد أصحابه ليلة رفعه اللّه إليه، فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلا، فأدخلهم بيتا ثمّ خرج عليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه من الماء.

فقال: إنّ اللّه أوحى إليّ أنّه رافعي إليه السّاعة ومطهّري من اليهود. فأيّكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي؟ فقال شابّ منهم: أنا يا روح اللّه.

فقال: فأنت هو ذا.

فقال لهم عيسى: أما إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة.

فقال له رجل منهم: أنا يا نبيّ اللّه. فقال عيسى: أ تحسّ  بذلك في نفسك، فلتكن هو.

ثمّ قال لهم عيسى: أما إنّكم ستفترقون بعدي على ثلاث فرق، فرقتين مفتريتين على اللّه في النّار وفرقة تتّبع شمعون صادقة على اللّه في الجنّة.

ثمّ قال  رفع اللّه عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه.

ثمّ قال أبو جعفر- عليه السّلام-: إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى من ليلتهم، فأخذوا الرّجل الّذي قال له عيسى: إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة. وأخذوا الشّابّ الّذي ألقي عليه شبح عيسى- عليه السّلام- فقتل وصلب، وكفر الّذي قال له عيسى: تكفر قبل أن تصبح اثنتي عشرة كفرة] .

وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ: في شأن عيسى.

قال البيضاويّ : فإنّه لمّا وقعت تلك الواقعة اختلف النّاس. فقال بعض اليهود: إنّه كان كاذبا فقتلناه حقّا. وتردّد آخرون. فقال بعضهم: إن كان هذا عيسى‏فأين صاحبنا؟ وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا. وقال من سمع منه: إنّ اللّه يرفعني إلى السّماء، إنّه رفعه إلى السّماء. وقال قوم: صلب النّاسوت وصعد اللّاهوت.

لَفِي شَكٍّ مِنْهُ: لفي تردّد.

و «الشّكّ» كما يطلق على ما لا يترجّح أحد طرفيه، يطلق على مطلق التردّد وعلى ما يقابل العلم. ولذلك أكّده بقوله:

ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ: استثناء منقطع، أي: ولكنّهم يتّبعون الظّنّ.

و يجوز أن يفسّر «الشّكّ» بالجهل والعلم بالاعتقاد الّذي تسكن إليه النّفس، جزما كان أو غيره، فيتّصل الاستثناء.

وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً ، أي: وما قتلوه قتلا يقينا. أو ما قتلوه متيقّنين، كما ادّعوا ذلك في قولهم: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ. أو يجعل يقينا تأكيدا لقوله: وَما قَتَلُوهُ كقولك: وما قتلوه حقّا، أي: حقّ انتفاء قتله حقّا.

و قيل : هو من قولهم: قتلت الشّي‏ء علما، إذا بالغ فيه علمك.

و فيه تهكّم. لأنّه إذا نفى عنهم العلم نفيا كلّيا بحرف الاستغراق. ثمّ قيل: وما علموه علم يقين وإحاطة، لم يكن إلّا تهكّما بهم.

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ: ردّ وإنكار لقتله، وإثبات لرفعه.

و في من لا يحضره الفقيه ، عن زيد بن عليّ، عن أبيه سيّد العابدين- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه يقول- عليه السّلام-: وإنّ للّه- تبارك وتعالى- بقاعا في سماواته. فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه، ألا تسمع اللّه يقول :

تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ويقول- عزّ وجلّ- في قصّة عيسى بن مريم: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : رفع، وعليه مدرعه من صوف.و في تفسير العيّاشي : عن الصّادق- عليه السّلام- قال: رفع عيسى بن مريم- عليهما السّلام- بمدرعة صوف من غزل مريم ومن نسج مريم وخياطة مريم. فلمّا انتهى إلى السّماء نودي: يا عيسى، ألق عنك زينة الدّنيا.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى محمّد بن إسماعيل القرشي، عمّن حدّثه، عن إسماعيل بن أبي رافع، عن أبيه قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ جبرئيل- عليه السّلام- نزل عليّ بكتاب فيه خبر الملوك ملوك الأرض قبلي، وخبر من بعث قبلي من الأنبياء والرّسل- وهو حديث طويل، قال فيه- عليه السّلام-: إنّ عيسى بن مريم أتى بيت المقدس. فمكث يدعوهم ويرغّبهم فيما عند اللّه ثلاث وثلاثين سنة حتّى طلبته اليهود.

و ادّعت أنّها عذّبته ودفنته في الأرض حيّا. وادّعى بعضهم أنّهم قتلوه وصلبوه. وما كان اللّه ليجعل لهم سلطانا عليه. وإنّما شبّه لهم. وما قدروا على عذابه ودفنه ولا على قتله وصلبه. لأنّهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله- تعالى-: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بعد أن توفّاه- عليه السّلام-.

 [و بإسناده إلى أبان بن تغلب ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل يذكر فيه القائم، وفيه: فإذا نشر راية رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- انحطّ عليه  ثلاثة عشر ألف ملك وثلاثة عشر ملكا كلّهم ينظرون  القائم- عليه السّلام-. وهم الّذين كانوا مع نوح- عليه السّلام- في السّفينة، والّذين كانوا مع إبراهيم الخليل- عليه السّلام- حين  ألقي في النّار، وكانوا مع عيسى حين رفع.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد وعليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد جميعا عن ابن محبوب، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: لمّا قبض أمير المؤمنين- عليه السّلام- قام الحسن بن عليّ- عليهما السّلام- في مسجد الكوفة فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- ثمّ قال: يا أيّها النّاس، إنّه قد قبض في هذه اللّيلة رجل ما سبقه الأوّلون ولا يدركه الآخرون. واللّه لقدقبض في اللّيلة الّتي قبض فيها وصي موسى يوشع بن نون، واللّيلة الّتي عرج فيها بعيسى بن مريم ، واللّيلة الّتي ينزل  فيها القرآن.

و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.]

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني الحسين بن عبد اللّه السّكينيّ، عن أبي سعيد البجليّ، عن عبد الملك بن هارون، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- عن الحسن بن عليّ- عليهما السّلام-، وذكر حديثا طويلا، وفيه قال- عليه السّلام- وقد ذكر عيسى بن مريم- عليهما السّلام-: وكان عمره ثلاث وثلاثون سنة. ثمّ رفعه اللّه إلى السّماء. ويهبط إلى الأرض بدمشق. وهو الّذي يقتل الدّجّال.

وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً: لا يغلب على ما يريده.

حَكِيماً : فيما دبّر لعباده.

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ:

قيل : أي: وما من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمننّ به.

فقوله: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسميّة وقعت صفة «لأحد» ويعود الضّمير الثّاني إليه، والأوّل إلى عيسى، فالمعنى: ما من اليهود والنّصارى أحد، إلّا ليؤمننّ بأنّ عيسى عبد اللّه ورسوله قبل أن يموت ولو حين يزهقه روحه، ولا ينفعه إيمانه.

و يؤيّد ذلك، أنّه قرئ: «إلّا ليؤمننّ به قبل موتهم» بضمّ النّون، لأنّ «أحدا» في معنى الجمع. وهذا كالوعيد لهم، والتّحريض على معاجلة الإيمان به قبل أن يضطرّوا إليه ولم ينفعهم إيمانهم.

و قيل : الضّميران لعيسى، والمعنى: إذا نزل من السّماء آمن به أهل الملل جميعا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : [حدّثني أبي، عن القاسم بن محمّد، عن سليمان بن داود المنقريّ، عن أبي حمزة،]  عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجّاج: يا شهر، آية في كتاب اللّه قد أعيتني. فقلت: أيّها الأمير، أيّة آية هي؟فقال: قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ. واللّه إنّي لآمر باليهوديّ والنّصرانيّ فيضرب عنقه ثمّ أرمقه بعيني  فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يخمد.

فقلت: أصلح اللّه الأمير ليس على ما تأوّلت.

قال: كيف هو؟

قلت: إنّ عيسى ينزل  قبل يوم القيامة إلى الدّنيا، فلا يبقى أهل ملّة يهوديّ ولا غيره إلّا آمن به قبل موته، ويصلّي خلف المهديّ.

قال: ويحك، أنّى لك هذا، ومن أين جئت به؟

فقلت: حدّثني به محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب- عليهم السّلام-.

فقال: جئت بها من عين صافية.

و روي فيه - أيضا-: أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إذا رجع آمن به النّاس كلّهم.

و في تفسير العيّاشي : عن أبي جعفر- عليه السّلام- في تفسيرها: ليس من أحد من جميع الأديان يموت إلّا رأى رسول اللّه وأمير المؤمنين- عليهما السّلام- حقّا من الأوّلين والآخرين.

و في مجمع البيان : في أحد معانيها: ليؤمننّ بمحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- قبل موت الكتابيّ- عن عكرمة.

و رواه أصحابنا- أيضا- قال: وفي هذه الآية دلالة على أنّ كلّ كافر يؤمن عند المعاينة، وعلى أنّ إيمانه ذلك غير مقبول كما لم يقبل إيمان فرعون في حال اليأس عند زوال التّكليف.

و يقرب من هذا ما رواه الإماميّة: أنّ المحتضرين من جميع الأديان يرون رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وخلفاءه عند الوفاة.

و يروون في ذلك:

عن عليّ- عليه السّلام- أنّه قال للحارث الهمدانيّ:

         يا حار همدان من يمت يرني             من مؤمن أو منافق قبلا

 

 

         يعرفني طرفه وأعرفه             بعينه واسمه وما فعلا

 

 

و في الجوامع : عنهما- عليهما السّلام-: حرام على روح أن تفارق جسدها حتّى ترى محمّدا وعليّا.

و في تفسير العيّاشي : عن الصّادق- عليه السّلام- أنّه سئل عن هذه الآية.

فقال: هذه نزلت فينا خاصّة. أنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت ولا يخرج من الدّنيا حتّى يقرّ للإمام وبإمامته، كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا.

 [و في تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي» قال: حدّثني عبيد بن كثير معنعنا، عن جعفر بن محمّد- عليهما السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: يا عليّ، إنّ فيك مثلا من عيسى بن مريم، قال اللّه- تعالى-: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً. يا عليّ، إنّه لا يموت رجل يفتري على عيسى بن مريم- عليهما السّلام- حتّى يؤمن له قبل موته ويقول فيه الحقّ حيث لا ينفعه ذلك شيئا. وإنّك يا عليّ مثله  لا يموت عدوّك حتّى يراك عند الموت، فتكون عليه غيظا وحزنا حتّى يقرّ بالحقّ من أمرك ويقول فيك الحقّ ويقرّ بولايتك حيث لا ينفعه ذلك شيئا. وأمّا وليّك فإنّه يراك عند الموت فتكون له شفيعا ومبشّرا وقرّة عين‏] .

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً : على اليهود بالتّكذيب، وعلى النّصارى بأنّهم دعوه ابن اللّه، ويكون الرّسول والإمام شهيدا على أعمال كلّ واعتقاداتهم.

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا، أي: فبظلم عظيم منهم.

حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ: في الآية الّتي ذكرت في الأنعام :

وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا (الآية).في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن محبوب، عن عبد اللّه بن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: من زرع حنطة في أرض ولم يزكّ زرعه فخرج زرعه كثير الشّعير، فبظلم عمله في ملك رقبة الأرض، أو بظلم لمزارعه وأكرته، لأنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ، يعني: لحوم الإبل والبقر والغنم.

و في الكافي والعيّاشي ، عن الصّادق- عليه السّلام- مثله.

وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً : أناسا كثيرا، وصدّا كثيرا.