سورة الأنبياء الآية 1-20

سورة الأنبياء مكّيّة وهي مائة واثنتا عشرة آية.

بسم الله الرحمن الرحيم‏

في كتاب ثواب الأعمال  بإسناده إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من قرأ سورة الأنبياء، حبّا لها، كان كمن رافق النّبيّين أجمعين في جنّات النّعيم. وكان مهيبا في أعين النّاس حياة الدّنيا.

و في مجمع البيان : أبيّ بن كعب، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: قال: من قرأ سورة الأنبياء، حاسبه اللّه حسابا يسيرا، وصافحه وسلّم عليه كلّ نبيّ  ذكر اسمه في القرآن.

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ:

قيل : بالإضافة إلى ما مضى، أو عند اللّه، لقوله : إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً أو لأنّ كلّ ما هو آت قريب، وإنّما البعيد ما انقرض ومضى.

و في مجمع البيان : وإنّما وصف ذلك بالقرب، لأنّ أحد أشراط السّاعة مبعث

  [رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله. فقد قال:]  بعثت أنا والسّاعة كهاتين.

و في الجوامع  عن أمير المؤمنين- عليه السّلام-: أنّ الدّنيا ولّت حذّاء ، ولم يبق منها إلّا صبابة كصبابة الإناء.

و اللّام صلة ل «اقترب». أو تأكيد للإضافة، وأصله: اقترب حساب النّاس، ثمّ اقترب للنّاس الحساب، ثمّ اقترب للنّاس حسابهم.

قيل : وخصّ النّاس بالكفّار لتقييدهم بقوله:

وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ، أي: في غفلة من الحساب، معرضون عن التّفكّر فيه.

و هما خبران للضّمير. ويجوز أن يكون الظّرف حالا من المستكنّ في «معرضون».

ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ينبّههم عن سنة الغفلة والجهالة.

مِنْ رَبِّهِمْ:

صفة ل «ذكر» أو صلة ل «يأتيهم».

مُحْدَثٍ تنزيله، ليكرّر على أسماعهم التّنبيه، كي يتّعظوا.

و قرئ  بالرّفع، حملا على المحلّ.

إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ : يستهزئون به، لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النّظر في الأمور والتّفكّر في العواقب . وهُمْ يَلْعَبُونَ حال من الواو. وكذلك لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي: استمعوه جامعين بين الاستهزاء [به، والتّلهّي والذّهول عن التّفكّر فيه. ويجوز أن يكون الحال من واو «يلعبون».

و قرئ  بالرّفع‏]  على أنّه خبر آخر للضّمير.

وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى: بالغوا في إخفائها، أو جعلوها بحيث خفي تناجيهم بها.

الَّذِينَ ظَلَمُوا:بدل من واو «أسرّوا» للإيماء بأنّهم ظالمون فيما أسرّوا به. أو فاعل له، والواو لعلامة الجمع. أو مبتدأ والجملة المتقدّمة خبره. وأصله: وهؤلاء أسرّوا النّجوى. فوضع الموصول موضعه، تسجيلا على [فعلهم بأنّه ظلم. أو منصوب على الذّم.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس: حدّثنا أحمد بن القاسم، عن أحمد بن‏]  محمّد السّيّاريّ، عن محمّد بن خالد البرقيّ، عن محمّد بن عليّ، عن عليّ بن حمّاد الأزديّ، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [الَّذِينَ ظَلَمُوا قال:]  الّذين ظلموا آل محمّد حقّهم.

هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ :

بأسره في موضع النّصب، بدلا من «النّجوى» أو مفعولا لقول مقدّر.

قيل : كأنّهم استدلّوا بكونه بشرا على كذبه في ادّعاء الرّسالة، لاعتقادهم أنّ الرّسول لا يكون إلّا ملكا، واستلزموا منه أنّما جاء به من الخوارق- كالقرآن- سحر، فأنكروا حضوره. وإنّما أسرّوا به، تشاورا في استنباط ما يهدم أمره، ويظهر فساده للنّاس عامّة.

و في روضة الكافي : [عليّ بن محمّد عن‏]  عليّ  بن العبّاس، عن عليّ بن حمّاد، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: وقال: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ  يقول: بما ألقوه في صدورهم من العداوة لأهل بيتك والظّلم بعدك. وهو قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

قل رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، جهرا كان أو سرّا، فضلا عمّا أسرّوا به.

و قرأ  حمزة والكسائي وحفص: «قالَ» بالإخبار عن الرّسول.وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ  فلا يخفى عليه ما تسرّون، ولا ما تضمرون.

بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ:

قيل : إضراب لهم عن قولهم هو سحر، إلى أنّه تخاليط الأحلام، ثمّ إلى أنّه كلام افتراه، ثمّ إلى أنّه قول شاعر.

و الظّاهر أنّ «بل» الأولى لتمام حكاية والابتداء بأخرى. أو للإضراب عن تحاورهم في شأن الرّسول- صلّى اللّه عليه وآله- وما ظهر عليه من الآيات، إلى تقاولهم في أمر القرآن. والثّانية والثّالثة لإضرابهم عن كونه أباطيل خيّلت إليه وخلطت عليه، إلى كونه مفتريات اختلقها من تلقاء نفسه، ثمّ إلى أنّه كلام شعر يخيّل إلى السّامع معاني لا حقيقة لها، ويرغبّه فيها.

و يجوز أن يكون الكلّ  من اللّه تنزيلا لأقوالهم في درج الفساد. لأنّ كونه شعرا، أبعد من كونه مفترى، لأنّه مشحون بالحقائق والحكم، وليس فيه ما يناسب قول الشّعراء. وهو من كونه أحلاما، لأنّه مشتمل على مغيبات كثيرة طابقت الواقع والمفترى لا يكون كذلك بخلاف الأحلام. ولأنّهم جرّبوا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- نيفا وأربعين سنة، وما سمعوا منه كذبا قطّ. وهو من كونه سحرا، لأنّه يجانسه من حيث إنّهما من خوارق العادة.

فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ، أي: كما أرسل به الأوّلون، مثل اليد البيضاء والعصا وإبراء الأكمه وإحياء الموتى.

و صحّة التّشبيه  من حيث إنّ الإرسال يتضمّن الإتيان بالآية.

ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ: من أهل قرية أَهْلَكْناها باقتراح الآيات لمّا جاءتهم.

أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ  لو جئتهم بها!؟ وهم أعتى منهم!.

و فيه تنبيه على أنّ عدم الإتيان بالمقترح، للإبقاء عليهم. إذ لو أتى به لم يؤمنوا، واستوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: كيف يؤمنون، ولم يؤمن من كان قبلهم بالآيات حتّى هلكوا!؟

وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ :

جواب لقولهم: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ.

قيل : يأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب عن حال الرّسل المتقدّمة، لتزول عنهم الشّبهة.

و الإحالة عليهم، إمّا للإلزام- فإنّ المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- ويثقون بقولهم- أو لأنّ إخبار الجمّ الغفير يوجب العلم، وإن كانوا كفّارا.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه- حدّثنا [احمد بن‏]  محمّد بن سعيد، عن أحمد بن الحسن، عن أبيه، عن الحسين بن مخارق، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن عليّ أمير المؤمنين- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-:

فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ قال: نحن أهل الذّكر.

و قال أيضا : حدّثنا عليّ بن سليمان الرّازي، عن محمّد بن خالد الطّيالسيّ، عن العلا بن رزين القلا، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قلت له: إنّ من عندنا يزعمون أنّ قول اللّه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنّهم اليهود والنّصارى.

قال: إذا يدعونكم إلى دينهم. قال: ثمّ أومأ بيده إلى صدره وقال: نحن أهل الذّكر ونحن المسئولون.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا محمّد بن جعفر قال: حدّثنا عبد اللّه بن محمّد، عن أبي داود سليمان بن سفيان، عن ثعلبة، عن زرارة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.

من المعنيّون بذلك؟ قال: نحن [و اللّه‏] .قلت: فأنتم المسئولون؟ قال: نعم.

قلت: ونحن السائلون المسلمون؟ قال: نعم.

قلت: فعلينا أن نسألكم؟ قال: نعم.

قلت: وعليكم أن تجيبونا؟ قال: لا! ذاك إلينا. إن شئنا، فعلنا. وإن شئنا، تركنا.

ثمّ قال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ .

و قرأ  حفص: «نوحي» بالنّون.

وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ :

قيل : نفي لما اعتقدوا أنّها من خواصّ الملك عن الرّسل تحقيقا لأنّهم كانوا أبشارا مثلهم.

و قيل : جواب لقولهم: ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ . وما كانُوا خالِدِينَ تأكيد وتقرير له. فإنّ التّعيّش بالطّعام من توابع التّحليل المؤدّي إلى الفناء. وتوحيد الجسد لإرادة الجنس. أو لأنّه مصدر في الأصل. أو على حذف المضاف.

أو تأويل الضّمير بكلّ واحد، وهو جسم ذو لون، ولذلك لا يطلق على الماء والهواء.

و منه: «الجساد» للزّعفران.

و قيل : جسم ذو تركيب، لأنّ أصله لجمع الشّي‏ء واشتداده.

و في مجمع البيان : وفي تفسير أهل البيت- عليهم السّلام- بالإسناد عن زرارة ومحمّد بن مسلم وحمران بن أعين، عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه- عليهما السّلام- قالا: تبدّل بالأرض خبزة نقيّة يأكل النّاس منها حتّى يفرغ من الحساب. قال اللّه- تعالى-:

وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ.

و في تفسير العيّاشيّ : عن زرارة قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللّه - تعالى-: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ قال: يعني تبدّل  خبزة نقيّة يأكل‏النّاس منها، حتّى يفرغ من الحساب. قال اللّه- تعالى-: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ.

ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ- أي: في الوعد- فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ، يعني: المؤمنين بهم، ومن في إبقائه حكمة، كمن سيؤمن هو، أو واحد من ذرّيّته.

قيل : ولذلك حميت العرب من عذاب الاستئصال.

وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ  في الكفر والمعاصي.

لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا قريش كِتاباً- يعنى القرآن- فِيهِ ذِكْرُكُمْ، أي: صيتكم. أو: موعظتكم. أو: ما تطلبون به حسن الذّكر من مكارم الأخلاق.

أَ فَلا تَعْقِلُونَ  فتؤمنون!؟

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه-: حدّثنا محمّد بن همّام بن إسماعيل، عن عيسى بن داود [النجّار] ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر- عليهما السّلام- في هذه الآية قال: الطّاعة للإمام بعد النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله.

و معنى ذلك أنّ الّذي [أنزل في الكتاب الّذي‏]  فيه ذكركم وشرفكم [و عزّكم‏]  هو طاعة الإمام الحقّ بعد النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله.

وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ:

القصم: كسر يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم.

كانَتْ ظالِمَةً:

صفة لأهلها وصف بها لمّا أقيمت مقامه.

وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها- بعد إهلاك أهلها- قَوْماً آخَرِينَ  مكانهم.

فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا: فلمّا أدركوا شدّة عذابنا، إدراك المشاهد المحسوس.

و الضّمير للأهل المحذوف .إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ : يهربون مسرعين راكضين دوابّهم. أو مشبّهين  بهم من فرط إسراعهم.

لا تَرْكُضُوا:

على إرادة القول. أي: قيل لهم استهزاء: لا تركضوا. إمّا بلسان الحال، أو المقال.

و القائل ملك أو من ثمّ من المؤمنين.

وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من التّنعّم والتّلذذ- والإتراف: إبطار النّعمة- وَمَساكِنِكُمْ الّتي كانت لكم.

لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ  غدا عن أعمالكم. أو: تعذّبون. فإنّ السّؤال من مقدّمات العذاب. أو: تقصدون للسّؤال والتّشاور في المهام والنّوازل.

قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ :

قيل : لمّا رأوا العذاب، ولم يروا وجه النّجاة. فلذلك لم ينفعهم.

و قيل : إنّ أهل «حضور»- من قرى اليمن- بعث إليهم بنيّ. فقتلوه. فسلّط اللّه عليهم بخت نصّر، فوضع السّيف فيهم. فنادى مناد من السّماء: يا لثارات الأنبياء! فندموا وقالوا ذلك.

أقول: وسيأتي أنّ البأس خروج القائم- عليه السّلام.

فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ: فما زالوا يردّدون ذلك.

و إنّما سمّاه دعوى، لأنّ المولول  كأنّه يدعو الويل ويقول: يا ويل، تعال، فهذا أوانك.

قيل : وكلّ من «تلك» و«دعواهم» يحتمل الاسميّة والخبريّة.

و فيه نظر يعرف من له تتّبع في العربيّة.

حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً: مثل الحصيد. وهو النّبت المحصود. ولذلك لم يجمع.

خامِدِينَ : ميّتين. من: خمدت النّار.

و هو مع «حصيدا» بمنزلة المفعول الثّاني- كقولك: جعلته حلوا حامضا- إذ المعنى: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود. أو صفة له. أو حال من ضميره.

و في روضة الكافي  كلام  لعليّ بن الحسين- عليهما السّلام- في الوعظ والزّهد في الدّنيا، يقول فيه- عليه السّلام-: لقد أسمعكم اللّه في كتابه ما قد فعل بالقوم الظّالمين من أهل القرى قبلكم، حيث قال: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً.

و إنّما عنى بالقرية أهلها، حيث يقول: وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ. فقال- عزّ وجلّ-: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ، يعني: يهربون. قال: لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ.

فلمّا أتاهم العذاب، قالوا: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ. وايم اللّه إنّ هذه عظة لكم وتخويف، إن اتّعظتم وخفتم.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن فضّال، عن ثعلبة بن ميمون، عن بدر بن الخليل الأسديّ قال: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام- يقول: إذا قام القائم- صلوات اللّه عليه- وبعث إلى بني أميّة بالشّام، هربوا إلى الرّوم.

فتقول لهم الرّوم: لا ندخلكم حتّى تنصّروا. فيعلّقون في أعناقهم الصّلبان، فيدخلونهم.

فإذا نزل بحضرتهم أصحاب القائم، طلبوا الأمان والصّلح. فيقول أصحاب القائم: لا نفعل، حتّى تدفعوا إلينا من قبلكم منّا. فيدفعونهم إليهم. فذلك قوله: لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ.

قال: يسألهم الكنوز وهو أعلم بها. فيقولون: يا وَيْلَنا- إلى قوله:- خامِدِينَ.

أي: بالسّيف .

و في تفسير عليّ بن إبراهيم  ما يقرب منه. قال: وهذا كلّه ممّا لفظه ماض ومعناه‏مستقبل. وهو ممّا ذكرناه تأويله بعد تنزيله.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس: حدّثنا الحسين بن أحمد، عن محمّد بن عيسى، عن يونس بن منصور، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-:

فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا. قال: خروج القائم - عليه السّلام.

إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. قال: الكنوز الّتي كانوا يكنزون.

قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً بالسّيف «خامدين» لا تبقى منهم عين تطرف.

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ، وإنّما خلقناها مشحونة بضروب البدائع، تبصرة للنّظّار، وتذكرة لذوي الاعتبار، وتسبيبا لما ينتظم به أمور العباد في المعاش والمعاد. فينبغي ان يتسلّقوا بها إلى تحصيل الكمال، ولا يغترّوا بزخارفها، فإنّها سريعة الزّوال.

لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً: ما يتلهّى به ويلعب.

لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا:

قيل : من جهة قدرتنا. أو: من عندنا ممّا يليق بحضرتنا من المجرّدات، لا من الأجسام المرفوعة والأجرام المبسوطة، كعادتكم في رفع السّقوف وتزويقها وتسوية الفرش وتزيينها.

و قيل : اللّهو: الولد، بلغة اليمن.

و قيل : الزّوجة. والمراد به الرّدّ على النّصارى.

إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ  ذلك.

و يدلّ على جوابه الجواب المتقدّم.

و قيل : «إن» نافية. والجملة كالنّتيجة للشّرطيّة.

بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ:

إضراب من اتّخاذ اللّهو، وتنزيه لذاته من اللّعب. أي: بل من شأننا أن نغلب الحقّ‏الّذي من جملته الجدّ، على الباطل الّذي من عداده اللّهو.

فَيَدْمَغُهُ: فيمحقه.

و إنّما استعار لذلك القذف- وهو الرّمي البعيد المستلزم لصلابة المرميّ- والدّمغ- الّذي هو كسر الدّماغ، بحيث يشقّ غشاءه، المؤدّي إلى زهوق الرّوح- تصويرا لإبطاله به، ومبالغة فيه.

و قرئ : «فيدمغه» بالنّصب. ووجهه مع بعده الحمل على المعنى، والعطف على الحقّ.

فَإِذا هُوَ زاهِقٌ: هالك.

و الزّهوق: ذهاب الرّوح. وذكره لترشيح المجاز.

وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ : ممّا تصفونه به، ممّا لا يجوز عليه.

و هو في موضع الحال. و«ما» مصدريّة، أو موصولة، أو موصوفة.

و في الكافي ، محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن فضّال، عن يونس بن يعقوب، عن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن الغناء، وقلت: إنّهم يزعمون أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- رخّص في أن يقال: جئناكم، جئناكم ، حيّونا، حيّونا نحيّكم.

 

فقال: كذبوا. إنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقول: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ- إلى قوله:- وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ. ثمّ قال: ويل لفلان ممّا يصف . رجل لم يحضر المجلس.

و في محاسن البرقيّ  عنه، عن أبيه، عن يونس بن عبد الرّحمن، رفعه قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: ليس من باطل  يقوم بإزاء الحقّ ، إلّا غلب الحقّ الباطل.

و ذلك قول اللّه: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ.عنه ، عن يعقوب بن يزيد، عن رجل، عن الحكم بن مسكين، عن أيّوب بن الحرّ بيّاع الهرويّ قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: يا أيّوب، ما من أحد إلّا وقد يرد  عليه الحقّ، حتّى يصدع قلبه، قبله، أم تركه. وذلك أنّ اللّه  يقول في كتابه: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ (الآية).

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا.

وَ مَنْ عِنْدَهُ: يعني الملائكة المنزلين منه، لكرامتهم عليه، منزلة المقرّبين عند الملوك.

و هو معطوف على مَنْ فِي السَّماواتِ. وإفراده للتّعظيم. أو لأنّه أعمّ منه من وجه.

أو المراد به نوع من الملائكة متعال عن التّبوّؤ في السّماء والأرض. أو مبتدأ خبره:

لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ: لا يتعظّمون عنها.

وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ : ولا يعيون منها.

و إنّما جي‏ء بالاستحسار الّذي هو أبلغ من الحسور، تنبيها على أنّ عبادتهم بثقلها ودوامها، حقيق بأن يستحسر منها، ولا يستحسرون.

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ: ينزّهونه ويعظّمونه دائما.

لا يَفْتُرُونَ :

حال من الواو في «يسبّحون». وهو استئناف أو حال من ضمير قبله.

في عيون الأخبار  في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- في هاروت وماروت، حديث طويل. وفيه يقول- عليه السّلام-: إنّ الملائكة معصومون محفوظون من الكفر والقبائح بألطاف اللّه- تعالى- فيهم قال اللّه - تعالى- فيهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. وقال- عزّ وجلّ-: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ- إلى قوله:- لا يَفْتُرُونَ.

و في كتاب التّوحيد  عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: إنّ للّه- تبارك وتعالى- ملائكة ليس شي‏ء من أطباق أجسادهم إلّا وهو يسبّح اللّه- عزّ وجلّ- [و يحمّده من ناحيته  بأصوات مختلفة. لا يرفعون رؤوسهم إلى السّماء ولا يخفضونها إلى أقدامهم من البكاء والخشية للّه- عزّ وجلّ‏] .

و عن عليّ بن الحسين - عليهما السّلام- حديث طويل في صفة خلق العرش، يقول فيه: له ثمانية أركان. على كلّ ركن منها من الملائكة ما لا يحصى عددهم إلّا اللّه- عزّ وجلّ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة  بإسناده إلى داود بن فرقد العطّار، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه سئل عن الملائكة: أ ينامون؟ فقال:

ما من حيّ إلّا وهو ينام، خلا اللّه وحده. والملائكة ينامون.

فقلت: يقول اللّه: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ؟ قال: أنفاسهم تسبيح.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم  حديث طويل عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- في ذكر ما رأى في المعراج. وفيه قال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-:

ثمّ مررنا بملائكة من ملائكة اللّه- عزّ وجلّ- خلقهم اللّه [كيف شاء، ووضع وجوههم كيف شاء. ليس شي‏ء من أطباق أجسادهم إلّا]  وهو يسبّح اللّه ويحمّده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة. أصواتهم مرتفعة بالتّحميد والبكاء من خشية اللّه.

فسألت جبرئيل عنهم. فقال: كما ترى خلقوا. إنّ الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلّمه قطّ. ولا رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقها، ولا خفضوها إلى ما تحتها  خوف اللّه  وخشوعا.

فسلّمت عليهم. فردّوا عليّ إيماء برءوسهم، ولا ينظرون إليّ من الخشوع. فقال لهم جبرئيل: هذا محمّد نبيّ الرّحمة. أرسله اللّه إلى العباد رسولا ونبيّا. وهو خاتم النّبيّين وسيّدهم. أفلا تكلّمونه!؟

قال: فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل، أقبلوا عليّ بالسّلام، وأكرموني. وبشّروني بالخير لي ولأمّتي.و في نهج البلاغة : قال- عليه السّلام- في وصف الملائكة: ويسبّحون  لا يسأمون. ولا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النّسيان.