سورة الحجر الآية 21-40

وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ قيل : أي: وما من شي‏ء إلّا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه، فضرب الخزائن مثلا لاقتداره. أو شبّه مقدوراته بالأشياء المخزونة الّتي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد.

وَ ما نُنَزِّلُهُ: من بقاع  القدرة.

إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ : حدّه الحكمة وتعلّقت به المشيئة، فإنّ تخصيص بعضها بالإيجاد في بعض الأوقات مشتملا على بعض الصّفات والحالات، لا بدّ له من مخصّص حكيم.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال في قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ قال: «الخزانة» الماء الّذي ينزل من السّماء، فينبت لكلّ ضرب من الحيوان ما قدّر اللّه له من الغذاء.

و في روضة الواعظين  للمفيد- رحمه اللّه-: وروي جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه- عليهم السّلام- أنّه قال: في العرش تمثال جميع ما خلق اللّه من البرّ والبحر.

قال: وهذا تأويل قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ.

وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ قيل : حوامل، شبّه الرّيح الّتي جاءت بخير من إنشاء سحاب  ماطر بالحامل، كما شبّه ما لا يكون كذلك بالعقيم. أو ملقّحات للشّجر والسّحاب، ونظيره الطّوائح، بمعنى: المطيحات، في قوله:

         ومختبط ممّا تطيح الطوائح.

 

 

و قرئ : «و أرسلنا الرّيح» على تأويل الجنس.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: الّتي تلقّح الأشجار.

و في تفسير العيّاشي»: عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: لا تسبّوا الرّيح، فإنّها [بشر، وإنّها نذر،]  وإنّها لواقح، فاسألوا اللّه من خيرها وتعوّذوا به من شرّها.

فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ: فجعلناه لكم سقيا.

وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ : قادرين متمكّنين من إخراجه، نفى عنهم ما أثبته لنفسه.

أو حافظين في الغدران والعيون والآبار، وذلك- أيضا- يدلّ على تدبير المدبّر، كما تدلّ حركة الماء في بعض الأوقات من بعض الجهات على وجه ينتفع به النّاس، فإنّ طبيعة الماء تقتضي الغور، فوقوفه دون حدّ لا بدّ له من سببب مخصّص.وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي: بإيجاد الحياة في بعض الأجسام المقابلة لها.

وَ نُمِيتُ: بإزالتها.

و قد أوّل الحياة بما يعمّ الحيوان والنّبات.

و تكرير الضّمير ، للدّلالة على الحصر.

وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ .

في تفسير عليّ بن إبراهيم : أي: نرث الأرض ومن عليها.

وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ .

قيل : من استقدم ولادة وموتا، ومن استأخر. أو من خرج من أصلاب الرّجال، ومن لم يخرج بعد. أو من تقدّم في الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة، أو تأخّر، لا يخفى علينا شي‏ء من أحوالكم. وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فإنّ ما يدلّ على قدرته دليل على علمه.

و قيل : رغّب رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في الصّف الأوّل، فازدحموا عليه، فنزلت.

و قيل : إنّ امرأة حسناء تصلّي خلف رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-، فتقدّم بعض القوم لئّلا ينظر إليها، وتأخّر بعض ليبصرها، فنزلت.

و في تفسير العيّاشي : عن أبي بصير ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: هم المؤمنون من هذه الأمّة.

وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ: لا محالة للجزاء.

و توسيط الضّمير، للدّلالة على أنّه القادر والمتولّي لحشرهم لا غير.

و تصدير الجملة «بأنّ» لتحقيق الوعد.

إِنَّهُ حَكِيمٌ: باهر الحكمة، متّقن في أفعاله.

عَلِيمٌ : وسع علمه كلّ شي‏ء.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ: من طين يابس يصلصل، أي: يصوّت إذا نقر، وهو غير مطبوخ. فإذا طبخ، فهو فخار.

و قيل : وهو من صلصل: إذا نتن، تضعيف «صل».

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: الماء المتصلصل بالطّين.

مِنْ حَمَإٍ: من طين تغيّر واسودّ من طول مجاورة الماء. وهو صفة «صلصال»، أي: كائن من حمأ.

مَسْنُونٍ : مصوّر، مأخوذ من سنّة الوجه.

أو مصبوب مفرّغ، كالجواهر المذابة تصبّ في القوالب. من السّنّ وهو الصّبّ، كأنّه افرغ الحمأ فصوّر منها تمثال إنسان أجوف فيبس، حتّى إذا نقر صلصل، ثمّ غيّر ذلك طورا بعد طور حتّى سوّاه ونفخ فيه من روحه.

أو منتن. من سننت الحجر على الحجر: إذا حككته به. فإنّ ما يسيل بينهما يكون منتنا، ويسمّى: السّنين.

في حديث خلق آدم : فاغترف- جلّ جلاله- غرفة من الماء، فصلصلها فجمدت. (الحديث).

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حَمَإٍ متغيّر .

و في نهج البلاغة : ثمّ جمع- سبحانه- من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها، تربة سنّها بالماء حتّى خلصت، ولاطها بالبلّة حتّى لزبت، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول، وأعضاء وفصول، أجمدها حتّى استمسكت ، وأصلدها حتّى صلصلت، لوقت معدود وأجل معلوم. ثمّ نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان‏يجيلها، وفكر يتصرّف بها، وجوارح يختدمها ، وأدوات يقلّبها ، ومعرفة يفرق بها بين [الحقّ والباطل و]  الأذواق  والمشامّ والألوان والأجناس، معجونا بطينة الألوان المختلفة، والأشباه المؤتلفة  والأضداد المتعادية، والأخلاط المتباينة، من الحرّ والبرد والبلّة والجمود. [و المسناة والسّرور]  (الحديث).

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسن، عن النّضر بن شعيب، عن عبد الغفّار الجازيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سمعته يقول: طينة النّاصب من حمأ مسنون.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و يحمل الحمأ المسنون في هذا الخبر على معنى أخصّ ممّا أريد به في الآية، جمعا بين الأخبار.

وَ الْجَانَّ: أبا الجنّ.

و قيل : إبليس. ويجوز أن يراد به الجنس، كما هو الظّاهر من الإنسان، لأنّ تشعّب الجنس لمّا كان من شخص [واحد]  خلق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقا منها.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: هو أبو إبليس.

و انتصابه بفعل، يفسّره. خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ: خلق الإنسان.

مِنْ نارِ السَّمُومِ : من نار الحرّ الشّديد، النّافذ في المسام.

و لا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة، كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجرّدة، فضلا عن الأجساد المؤلّفة الّتي الغالب فيها الجزء النّاريّ، فإنّها أقبل لها من الّتي الغالب فيها الجزء الأرضي .و قوله: «من نار» باعتبار الغالب، كقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ.

و مساق الآية، كما هو للدّلالة على كمال قدرة اللّه وبيان بدء خلق الثّقلين، فهو للتّنبيه على المقدّمة الثّانية الّتي يتوقّف عليها إمكان الحشر، وهو قبول الموادّ للجمع والإحياء.

و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- في هاروت وماروت حديث طويل، وفيه بعد أن مدح- عليه السّلام- الملائكة وقال: معاذ اللّه من ذلك، إنّ الملائكة معصومون محفوظون من الكفر والقبائح بألطاف اللّه- تعالى-.

قالا: قلنا له: فعلى هذا لم يكن إبليس- أيضا- ملكا؟

فقال: لا، بل كان من الجنّ. أما تسمعان اللّه يقول: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ؟ فأخبر- عزّ وجلّ- أنّه كان من الجنّ، وهو الّذي قال اللّه- تعالى-: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ.

و في كتاب الخصال : عن الصّادق- عليه السّلام-: الآباء ثلاثة: آدم ولد مؤمنا، والجانّ ولد [مؤمنا و]  كافرا، وإبليس ولد كافرا، وليس فيهم نتاج إنّما يبيض ويفرخ، وولده ذكور ليس فيهم إناث.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: الجنّ من ولد الجانّ، منهم مؤمنون و[منهم‏]  كافرون ويهود ونصارى، وتختلف أديانهم. والشّياطين من ولد إبليس، وليس فيهم مؤمن إلّا واحد، اسمه: هام بن هيم بن لا قيس بن إبليس، جاء إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فرآه جسيما عظيما وامرأ مهولا.

فقال له: من أنت؟

قال: أنا هام بن هيم بن لاقيس بن إبليس، كنت يوم قتل قابيل غلاما ابن أعوام، أنهي عن الاعتصام وآمر بإفساد الطّعام.فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: بئس لعمري الشّابّ المؤمل والكهل المؤمر.

فقال: دع عنك هذا، يا محمّد، فقد جرت توبتي على يد نوح، ولقد كنت معه في السّفينة فعاتبته على دعائه على قومه، ولقد كنت مع إبراهيم حين القي في النّار فجعلها اللّه عليه بردا وسلاما، ولقد كنت مع موسى حين أغرق  اللّه فرعون ونجّى بني إسرائيل، ولقد كنت مع هود حين دعا على قومه فعاتبته، ولقد كنت مع صالح فعاتبته على دعائه على قومه، ولقد قرأت الكتب فكلّها تبشّرني بك، والأنبياء يقرءونك السّلام، ويقولون:

أنت أفضل الأنبياء وأكرمهم، فعلّمني ممّا أنزل اللّه عليك شيئا.

فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لأمير المؤمنين- عليه السّلام-: علّمه.

فقال هام: يا محمّد، إنّا لا نطيع إلّا نبيّا أو وصيّ نبيّ، فمن هذا؟

قال: أخي ووصيّي ووزيري ووارثي، عليّ بن أبي طالب.

قال: نعم، نجد اسمه في الكتب إليا.

فعلّمه أمير المؤمنين- عليه السّلام-. فلمّا كانت ليلة الهرير بصفين جاء إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام-.

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ: واذكر وقت قوله لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ: عدّلت خلقته، وهيّأته لنفخ الرّوح فيه.

وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي: حتّى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي.

و أصل «النّفخ» إجراء الرّيح في تجويف جسم آخر. ولمّا كان الرّوح يتعلّق أوّلا بالبخار اللّطيف المنبعث من القلب، وتفيض عليه القوّة الحيوانيّة فيسرى حاملا لها في تجاويف الشّرايين إلى أعماق البدن، جعل تعليقه بالبدن نفخا. فهو تمثيل لما يحصل به الحياة، وذلك لأنّ الرّوح ليس من عالم الحسّ والشّهادة، وإنّما هو من عالم الملكوت والغيب، والبدن بمنزلة قشر وغلاف وقالب له، وإنّما حياته به وهو الخلق الآخر المشار إليه بقوله- سبحانه-: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ لا يشبه هذا الخلق.

و إضافة الرّوح إلى نفسه قد مرّ وجهها .

فَقَعُوا لَهُ: فاسقطوا له ساجِدِينَ . أمر، من وقع، يقع.في كتاب علل الشّرائع : عن أبي جعفر- عليه السّلام- عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه: قال اللّه- جلّ جلاله- للملائكة: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ. وكان ذلك من اللّه- عزّ وجلّ- تقدمة منه  إلى الملائكة في آدم- عليه السّلام- من قبل أن يخلقه احتجاجا منه عليهم.

قال: فاغترف- تبارك وتعالى- غرفة من الماء العذب الفرات فصلصلها فجمدت، ثمّ قال لها: منك أخلق النّبيّين والمرسلين وعبادي الصّالحين والأئمّة المهديّين  الدّعاة إلى الجنّة وأتباعهم إلى يوم القيامة ولا أبالي، ولا اسال عمّا أفعل وهم يسألون، يعني بذلك:

 

خلقه أنّه [يسألهم. ثمّ‏] .

اغترف من الماء المالح الأجاج فصلصلها فجمدت، ثمّ قال لها: منك أخلق الجبّارين والفراعنة والعتاة، إخوان الشّياطين والدّعاة إلى النّار إلى يوم القيامة وأتباعهم [و لا أبالي‏]  ولا اسال عمّا أفعل وهم يسألون.

قال: وشرط في ذلك البداء، ولم يشترط في أصحاب اليمين البداء.

ثمّ خلط الماءين فصلصلها، ثمّ ألقاهما قدّام عرشه، وهما سلالة  من طين، ثمّ أمر الملائكة الأربعة: الشّمال والدّبور والصّبا والجنوب، أن جولوا على هذه السلالة  الطّين، وأبروها وانسموها، ثمّ جزّوها وفصّلوها، وأجروا إليها الطّبائع الأربعة: الرّيح والمرّة والدّم والبلغم.

قال: فجالت  الملائكة عليها، وهي الشّمال والصّبا والجنوب والدّبور، فأجروا فيها الطّبائع الأربعة.

قال: والرّيح في الطّبائع الأربعة في البدن من ناحية الشّمال.

قال: والبلغم في الطّبائع الأربعة في البدن من ناحية الصّبا . والمرّة في الطّبائع‏الأربعة في البدن من ناحية الجنوب . والدّم في الطّبائع الأربعة في البدن من ناحية الدّبور .

قال فاستقلّت النّسمة وكمل البدن.

قال: فلزمه من ناحية الرّيح حبّ الحياة وطول الأمل والحرص، ولزمه من ناحية البلغم حبّ الطّعام والشّراب واللّين والرّفق، ولزمه من ناحية المرّة الغضب والسّفه والشّيطنة والتّجبّر والتّمرّد والعجلة، ولزمه من ناحية الدّم حبّ  النّساء واللّذّات وركوب المحارم والشّهوات.

قال عمرو: أخبرني جابر، أنّ أبا جعفر- عليه السّلام- قال: وجدناه في كتاب من كتب عليّ- عليه السّلام-.

و بإسناده  إلى إسحاق القمّي: عن أبي جعفر الباقر- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام-: لمّا كان اللّه متفردا بالوحدانيّة ابتدأ الأشياء لا من شي‏ء، فأجرى الماء العذب على أرض طيّبة طاهرة سبعة أيّام مع لياليها، ثمّ نضب الماء عنها، فقبض من صفاء  ذلك الطين، وهي طينتنا  أهل البيت، ثمّ قبض قبضة من أسفل ذلك الطّين ، وهي طينة شيعتنا، ثمّ اصطفانا لنفسه، فلو أنّ طينة شيعتنا تركت، كما تركت طينتنا، لما زنى أحد منهم ولا سرق ولا لاط ولا شرب المسكر ولا ارتكب  شيئا ممّا ذكرت.

و لكنّ اللّه- عزّ وجلّ- أجرى الماء المالح على أرض ملعونة سبعة أيّام ولياليها، ثمّ نضب الماء عنها، ثمّ قبض قبضة، وهي طينة ملعونة من حمأ مسنون، وهي طينة خبال، وهي طينة أعدائنا، فلو أنّ اللّه- عزّ وجلّ- ترك طينتهم، كما أخذها، لم تروهم في خلق الآدميّين، ولم يقرّوا بالشّهادتين، ولم يصوموا ولم يصلّوا ولم يزكّوا ولم يحجّوا البيت، ولم تروا أحدا منهم بحسن خلق.

و لكنّ اللّه- تبارك وتعالى- جمع الطّينتين: طينتكم وطينتهم، فخلطهما وعركهماعرك  الأديم، ومزجهما  بالمائين. فما رأيت من أخيك المؤمن من مباشرة لواط ، أو زنا، أو شي‏ء ممّا ذكرت من شرب مسكر أو غيره، فليس من جوهريّته ولا من إيمانه، إنّما هو بمسحة النّاصب اجترح هذه السّيّئات الّتي ذكرت. وما رأيت من النّاصب من حسن وجه وحسن خلق، أو صوم أو صلاة أو حجّ بيت اللّه أو صدقة أو معروف، فلبس من جوهريّته، إنّما تلك الأفاعيل من مسحة الإيمان اكتسبها، وهو اكتساب مسحة الإيمان.

و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن أبن أذينة، عن الأحول قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن الرّوح الّتي في آدم قوله: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي.

قال: هذه روح مخلوقة، والرّوح الّتي في عيسى مخلوقة.

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه، عن عبد اللّه بن بحر ، عن أبي أيّوب الخزّاز، عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عمّا يروون، أنّ اللّه خلق آدم على صورته.

قال: هي صورة محدثة مخلوقة اصطفاها اللّه واختارها على سائر الصّور المختلفة، فأضافها إلى نفسه، كما أضاف الكعبة إلى نفسه والرّوح إلى نفسه، فقال: «بيتي»، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي.

و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي.

قال: روح اختاره اللّه واصطفاه وخلقه، وأضافه إلى نفسه وفضّله على جميع الأرواح، فنفخ منه في آدم.

و بإسناده  إلى أبي جعفر الأصمّ قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن الرّوح الّتي في آدم، والّتي في عيسى، ما هما؟

قال: روحان مخلوقان اختارهما اللّه واصطفاهما، روح آدم وروح عيسى- صلوات‏اللّه عليهما-.

و بإسناده  إلى أبي بصير: عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي قال: من قدرتي.

و بإسناده  إلى عبد الكريم بن عمرو: عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ-: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي قال: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- خلق خلقا وخلق روحا، ثمّ أمر ملكا فنفخ فيه، فليست بالّتي نقصت من [قدرة]  اللّه شيئا من قدرته .

و بإسناده  إلى عبد الحميد الطّائي: عن محمّد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي كيف هذا النّفخ؟

فقال: إنّ الرّوح متحرّك كالرّيح، وإنّما سمّي: روحا، لأنّه اشتقّ اسمه من الرّيح، وإنّما أخرجت على لفظة  الرّوح لأنّ الرّوح مجانس للرّيح، وإنّما أضافه إلى نفسه لأنّه اصطفاه على سائر الأرواح، كما اصطفى بيت من البيوت، فقال: «بيتي»، وقال لرسول من الرّسل: خليلي، وأشباه ذلك، كلّ ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدّبر.

و في الكافي ، مثل هذا الحديث الأخير سواء.

 

و في قرب الإسناد  للحميريّ، بإسناده إلى مسعدة بن زياد قال: حدّثني جعفر بن محمّد، عن أبيه- عليهما السّلام-: أنّ روح آدم- عليه السّلام- لمّا أمرت أن تدخل فكرهته، فأمرها اللّه أن تدخل كرها وتخرج كرها.

و في تفسير العيّاشي : عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ.

قال: روح خلقها اللّه، فنفخ في آدم منها.عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي قال: خلق خلقا وخلق روحا، ثمّ أمر الملك فنفخ فيه، وليست بالّتي نقصت من اللّه شيئا، هي من قدرته- تبارك وتعالى- عنه .

و في رواية سماعة ، عنه: خلق آدم فنفخ فيه وسألته عن الرّوح، قال: هي من قدرته من الملكوت.

و في كتاب بصائر الدّرجات : عن الصّادق- عليه السّلام- [قال‏] : مثل المؤمن وبدنه، كجوهرة في صندوق، إذ أخرجت الجوهرة منه طرح الصّندوق ولم يعبأ  به.

و قال: إنّ الأرواح لا تمازج البدن ولا تداخله، إنّما هي  كالكلل للبدن محيطة به.

و في كتاب الاحتجاج : عنه- عليه السّلام-: الرّوح لا يوصف بثقل ولا خفّة، هي جسم رقيق البس قالبا كثيفا، فهي بمنزلة الرّيح في الزّقّ، فإذا نفخت فيه امتلأ الزّقّ منها، فلا يزيد في وزن الزّق ولوجها  ولا ينقصه  خروجها ، وكذلك الرّوح ليس لها ثقل ولا وزن.

قيل: أ فيتلاشى  الرّوح بعد خروجه عن قالبه، أم هو باق؟

قال: بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصّور، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حسّ ولا محسوس، ثمّ أعيدت الأشياء، كما بدأها مدبّرها، وذلك أربعمائة سنة يسبت  فيها الخلق، وذلك بين النّفختين.

و قال- عليه السّلام- أيضا: إنّ الرّوح مقيمة في مكانها، و روح المحسن في ضياء وفسحة، وروح المسي‏ء في ضيق وظلمة، والبدن يصير ترابا. (الحديث).و روي  أنّه قال: وبها يؤمر [البدن‏]  وينهى، ويثاب ويعاقب، وقد تفارقه، ويلبسها اللّه- سبحانه- غيره، كما تقتضيه حكمته.

و ليعلم أنّ الأرواح متعدّدة في بدن الإنسان، ويزيد عددها بزيادة صاحبها في الفضل والشّرف، كما استفاض فيه الأخبار عن الأئمّة الأطهار- سلام اللّه عليهم-:

ففي الكافي : عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- أنّه جاء رجل إليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ أناسا زعموا أنّ العبد لا يزني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن، ولا يأكل الرّبا وهو مؤمن، ولا يسفك الدّم وهو مؤمن. فقد ثقل عليّ هذا وحرج منه صدري حين أزعم أنّ هذا العبد يصلّي صلاتي، ويدعو دعائي، ويناكحني  وأناكحه، ويوارثني وأوارثه، وقد خرج من الإيمان من أجل ذنب يسير أصابه.

فقال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: صدقت ، سمعت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: والدّليل عليه كتاب اللّه، خلق اللّه النّاس ثلاث طبقات وأنزلهم ثلاثة منازل ، وذلك قول اللّه- عزّ وجلّ- في الكتاب: أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ، وأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ.

فأمّا ما ذكره من امرّ  السّابقين فإنّهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين، جعل اللّه فيهم خمسة أرواح، روح القدس، وروح الإيمان، وروح القوّة، وروح الشّهوة، وروح البدن.فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين وغير مرسلين، وبها علموا الأشياء.

و بروح الإيمان عبدوا اللّه، ولم يشركوا به شيئا.

و بروح القوّة جاهدوا عدوّهم، وعالجوا معاشهم.

و بروح الشّهوة أصابوا لذيذ الطّعام، ونكحوا الحلال من شباب النّساء.

و بروح البدن دبّوا  ودرجوا. فهؤلاء مغفور لهم مصفوح عن ذنوبهم.

ثم قال: قال اللّه- تعالى-: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ. ثمّ قال في جماعتهم: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ يقول: أكرمهم بها ففضلهم على من سواهم. فهؤلاء مغفور لهم مصفوح عن ذنوبهم.

ثمّ ذكر أصحاب الميمنة، وهم المؤمنون حقّا بأعيانهم، جعل اللّه فيهم أربعة أرواح: روح الإيمان، وروح القوّة، وروح الشّهوة، وروح البدن. فلا يزال العبد يستكمل هذه الأرواح الأربعة حتّى يأتي عليه حالات.

فقال الرّجل: يا أمير المؤمنين، ما هذه الحالات؟

فقال: أمّا أولاهنّ، فهو كما قال اللّه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً فهذا ينتقص منه جميع الأرواح، وليس بالّذي يخرج من دين اللّه، لأنّ الفاعل به ردّه إلى أرذل العمر ، فهو لا يعرف للصّلاة وقتا ولا يستطيع التّهجّد باللّيل ولا بالنّهار ولا القيام في الصّف مع النّاس، فهذا نقصان من روح الإيمان وليس يضرّه شيئا . ومنهم من ينتقص منه روح القوّة، فلا يستطيع جهاد عدوّه ولا يستطيع طلب المعيشة. ومنهم من ينتقص منه روح الشّهوة، فلو مرّت به أصبح  بنات آدم لم يحنّ إليها ولم يقم. ويبقى روح البدن فيه فهو يدبّ ويدرج حتّى يأتيه ملك الموت، فهذا بحال  خير لأنّ اللّه هو الفاعل به. وقد يأتي عليه حالات في قوّته وشبابه فيهمّ بالخطيئة، فيشجّعه  روح القوّة ويزين له روح الشّهوة ويقوده روح البدن حتّى يوقعه  في الخطيئة.

فإذا لامسها نقص من الإيمان وتفصّى منه، فليس يعود فيه حتّى يتوب. فإذا تاب تاب اللّه عليه، وإن عاد أدخله اللّه نار جهنّم.

فأمّا أصحاب المشأمة فهم اليهود والنّصارى، يقول اللّه- عزّ وجلّ-: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ يعرفون محمّدا والولاية في التّوراة والإنجيل، كما يعرفون أبناءهم في منازلهم وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أنّك الرّسول إليهم فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فلمّا جحدوا ما عرفوا ابتلاهم [اللّه‏]  بذلك، فسلبهم روح الإيمان وأسكن أبدانهم ثلاثة أرواح: روح القوّة، وروح الشّهوة، وروح البدن. ثمّ أضافهم إلى الأنعام فقال: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ لأنّ الدّابّة إنّما تحمل بروح القوّة، وتعتلف بروح الشّهوة، وتسير بروح البدن.

فقال [له‏]  السّائل: أحييت قلبي بإذن اللّه، يا أمير المؤمنين.

و روي  عن كميل بن زياد أنّه قال: سألت مولانا أمير المؤمنين، عليّا- عليه السّلام- فقلت: يا أمير المؤمنين، أريد أن تعرّفني نفسي.

قال: يا كميل، وأيّ الأنفس تريد أن أعرّفك؟

قلت: يا مولاي، هل هي إلّا نفس واحدة؟

قال: يا كميل، إنّما هي أربعة: النّامية النّباتيّة، والحسّيّة الحوانيّة، والنّاطقة القدسيّة، والكلّيّة الإلهيّة.

و لكلّ واحدة من هذه خمس قوى وخاصّيتان:

فالنّاميّة النّباتيّة لها خمس قوى: ماسكة، وجاذبة، وهاضمة، ودافعة، ومربيّة.

و لها خاصيّتان: الزّيادة والنّقصان. وانبعاثها من الكبد.

و الحسّيّة الحيوانيّة لها خمس قوى: سمع، وبصر، وشمّ، وذوق، ولمس. ولها خاصّيتان: الرّضا والغضب. وانبعاثها من القلب.

و النّاطقة القدسيّة لها خمس قوى: فكر، وذكر، وعلم، وحلم، ونباهة. وليس لها انبعاث، وهي أشبه الأشياء بالنّفوس الملكيّة. ولها خاصّيتان: النّزاهة والحكمة.و الكلّيّة الإلهية لها خمس قوى: بقاء في فناء، ونعيم في شقاء، وعزّ في ذلّ، وفقر في غناء، وصبر في بلاء. ولها خاصّيتان: الرّضا والتّسليم. وهذه هي الّتي مبدؤها من اللّه وإليه تعود، قال اللّه: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي. وقال- تعالى-: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. والعقل وسط الكلّ.

فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ .

بتأكيدين، للمبالغة في التّعميم، ومنع التّخصيص.

و قيل : أكدّ «بالكلّ» للإحاطة، و«بأجمعين» للدّلالة على أنّهم سجدوا مجتمعين دفعة. واعترض بأنّه لو كان الأمر كذلك، كان الثّاني حالا لا تأكيدا .

إِلَّا إِبْلِيسَ: إن جعل منقطعا اتّصل به قوله: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ، أي: ولكنّ إبليس أبى. وإن جعل متّصلا كان استئنافا، على أنّه جواب سائل قال: هل سجد؟

قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ، أي: أيّ شي‏ء عرض لك في أن لا تكون مَعَ السَّاجِدِينَ : لآدم- عليه السّلام-.

قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ «الّلام» لتأكيد النّفي، أي: لا يصحّ منّي وينافي حالي أن أسجد لِبَشَرٍ:

جسمانيّ كثيف، وأنا ملك روحانيّ.

خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ : وهو أخسّ العناصر، وخلقتني من نار وهي أشرفها. استنقص آدم باعتبار الأصل، غرّته الحميّة وغلبت عليه الشّقوة. وقد سبق الجواب في سورة الأعراف.

قالَ فَاخْرُجْ مِنْها: من المنزلة الّتي أنت عليها من السّماء. أو زمرة الملائكة.

فَإِنَّكَ رَجِيمٌ : مطرود من رحمة اللّه والكرامة، فإنّ من يطرد يرجم بالحجر.

في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده إلى عبد العظيم بن عبد اللّه الحسنيّ قال:

 

سمعت أبا الحسين، عليّ بن محمّد العسكريّ- عليه السّلام- يقول: معنى الرّجيم: أنّه‏مرجوم باللّعن مطرود من [مواضع‏]  الخير، لا يذكره مؤمن إلّا لعنه. وأنّ في علم اللّه السّابق [أنّه‏]  إذا خرج القائم- عليه السّلام- لا يبقى مؤمن في زمانه إلّا رجمه بالحجارة، كما كان قبل ذلك مرجوما باللّعن .

وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ: هذا الطّرد والإبعاد إِلى يَوْمِ الدِّينِ : فإنّه منتهى أمد اللّعن، لأنّه يناسب أيّام التّكليف. ومنه زمان الجزاء وما في قوله: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ بمعنى آخر ينسى عنده هذه.

و قيل : إنّما حدّ اللّعن به، لأنّه أبعد غاية يضر بها النّاس، أو لأنّه يعذّب فيه بما ينسى اللّعن معه فتصير كالزّائل.

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي: فأخّرني.

و «الفاء» متعلّقة بمحذوف دل عليه فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ.

و المعنى: إذا طردتني فأخّرني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ .

أراد أن يجد فسحة في الإغواء، أو نجاة من الموت إذ لا موت بعد أن يجد وقت البعث. فأجابه إلى الأوّل دون الثّاني قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ  إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ : المسمّى فيه أجلك عند اللّه.

و في كتاب الخصال : عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: رنّ  إبليس أربع رنّات: أوّلهنّ يوم لعن، وحين اهبط إلى الأرض.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى يحيى بن أبي العلاء الرّازيّ: عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه وقد سئل عن قول اللّه- عزّ وجلّ- لإبليس:

فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ.

قال- عليه السّلام-: ويوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصّور نفخة واحدة، فيموت إبليس ما بين النّفخة الأولى والثّانية.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عنه- عليه السّلام- قال: يوم الوقت المعلوم يوم يذبحه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- على الصّخرة الّتي في بيت المقدّس.

و في تفسير العيّاشي : عن وهب بن جميع، مولى إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول إبليس: فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. قال له وهب: جعلت فداك، أيّ يوم هو؟

قال: يا وهب، أ تحسب  أنّه يوم يبعث اللّه فيه النّاس؟ إنّ اللّه أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا، فإذا بعث اللّه قائمنا كان في مسجد الكوفة وجاء إبليس حتّى يجثو بين يديه على ركبتيه، فيقول: يا ويله، من هذا اليوم. فيأخذ ناصيته فيضرب عنقه، فذلك يوم الوقت المعلوم.

و بين الأخبار الثّلاثة اختلاف من وجوه:

الأوّل، أنّ في بعضها أنّه يموت بين النّفختين، وفي بعضها أنّه قتيل. ويمكن دفعه بأنّه يقتل وقت الرّجعة، ثمّ يحيى ثمّ يموت بالنّفخة، بناء على بعض أحاديث الرّجعة أنّ كلّ نفس تذوق موتة وقتلة.

الثّاني والثّالث، أنّ في بعضها أنّه يقتله القائم في مسجد الكوفة، وفي بعضها أنّه يذبحه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في بيت المقدس. ويمكن دفعه بحمل القتل على المتعدّد.

عن الحسن بن عطيّة  قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: إنّ إبليس عبد اللّه في السّماء الرّابعة في ركعتين ستّة آلاف  سنة، وكان إنظار اللّه إيّاه إلى يوم الوقت المعلوم ممّا سبق من تلك العبادة.

عن أبان  قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّ عليّ بن الحسين إذا أتى الملتزم  قال: اللّهم، إنّ عندي أفواجا من ذنوب وأفواجا من خطايا، وعندك أفواج من رحمة وأفواج من مغفرة، يا من استجاب لأبغض خلقه إليه إذ قال: فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏

 استجب لي، وأفعل بي كذا وكذا.

قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي قيل : «الباء» للقسم، و«ما» مصدريّة وجوابه لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ.

و المعنى: أقسم بإغوائك إيّاي، وهو تكليفي بما يوقعني في الغواية، لأزيّننّ لهم المعاصي في الدّنيا الّتي هي دار الغرور.

و قيل : للسّببيّة.

وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ : ولأحملنّهم أجمعين على الغواية.

و في نهج البلاغة : قال- عليه السّلام-: لعمري، لقد فوّق لكم  سهم الوعيد، وأغرق  إليكم  بالنّزع الشّديد، ورماكم من مكان قريب فقال: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ قذفا بغيب بعيد ورجما بظنّ [غير]  مصيب، صدّقه به أبناء الحميّة وإخوان العصبيّة وفرسان الكبر والجاهليّة.

إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ : أخلصتهم لطاعتك وطهّرتهم من الشّوائب، فلا يعمل فيهم كيدي.

و قرأ  ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو، بالكسر، في كلّ القرآن، أي: الّذين أخلصوا نفوسهم للّه.

و في كتاب معاني الأخبار : حدّثنا أبي- رحمه اللّه- قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عن أبيه قال: جاء جبرئيل إلى النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- فقال له النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: يا جبرئيل، ما تفسير الإخلاص؟

قال : المخلص الّذي لا يسأل النّاس شيئا حتّى يجد، وإذا وجد رضي، وإذا بقي عنده شي‏ء أعطاه [في اللّه‏]  فإنّ [من‏]  لم يسأل المخلوق [فقد]  أقرّ اللّه- عزّ وجلّ-بالعبوديّة، وإذا وجد فرضي فهو عند اللّه راض واللّه- تبارك وتعالى- عنه راض، وإذا أعطى للّه- عزّ وجلّ- فهو على حدّ الثّقة بربّه- عزّ وجلّ-.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.