سورة المؤمنون‏ الآية 21-40

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً تعتبرون بحالها وتستدلّون بها.

نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها من الألبان، أو من العلف. فإنّ اللّبن يتكوّن منه.

ف «من» للتّبعيض أو الابتداء.

وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ في ظهورها وأصوافها وشعورها.

وَ مِنْها تَأْكُلُونَ  فتنتفعون بأعيانها.

عَلَيْها: وعلى الأنعام. فإنّ منها ما يحمل عليه، كالإبل والبقر.

و قيل : المراد الإبل، لأنّها هي المحمول عليها عندهم، والمناسب للفلك، فإنّها سفائن البرّ. قال ذو الرّمّة:

سفينة برّ تحت خدّي زمامها فيكون الضّمير فيه، كالضّمير في وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ .

عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ‏

  في البرّ والبحر.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ:

إلى آخر القصص مسوق لبيان كفران النّاس ما عدّد عليهم من النّعم المتلاحقة وما حاقهم بهم من زوالها.

ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ:استئناف لتعليل الأمر بالعبادة.

و قرأ  الكسائيّ بالجرّ على اللّفظ.

أَ فَلا تَتَّقُونَ : أفلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه، فيهلككم ويعذّبكم، برفضكم عبادته إلى عبادة غيره، وكفرانكم نعمه الّتي لا تحصونها!؟فَقالَ الْمَلَأُ: الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لعوامّهم:

ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ: أن يطلب الفضل عليكم ويسودكم.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ أن يرسل رسولا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً رسلا.

ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ :و يعنون نوحا. أي: ما سمعنا به أنّه نبيّ. أو ما كلّمهم به من الحثّ على عبادة اللّه ونفي إله غيره، أو من دعوى النّبوّة. وذلك إمّا من فرط عنادهم، أو لأنّهم كانوا في فترة متطاولة.

إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ، أي: جنون. ولأجله يقول ذلك.

فَتَرَبَّصُوا بِهِ: فاحتملوه وانتظروا حَتَّى حِينٍ  لعلّه يفيق من جنونه.

قالَ بعد ما أيس من إيمانهم:رَبِّ انْصُرْنِي بإهلاكهم. أي: بإنجاز ما وعدتهم من العذاب.

بِما كَذَّبُونِ : بدل تكذيبهم إيّاي، أو بسببه.

فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا : بحفظنا نحفظه أن تخطئ فيه، أو يفسده عليك مفسد.

وَ وَحْيِنا: وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع.

فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بالرّكوب أو نزول العذاب.

وَ فارَ التَّنُّورُ:في جوامع الجامع : فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ (الآية).

روي أنّه قيل لنوح- عليه السّلام-: إذا رأيت الماء يفور من التّنّور، فاركب أنت ومن معك في السّفينة. فلمّا نبع الماء من التّنّور، أخبرته امرأته، فركب.

فَاسْلُكْ فِيها: فأدخل فيها.

يقال: سلك فيه، وسلك غيره. قال اللّه - تعالى-: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ.

مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ: من كلّ أمّتي الذّكر والأنثى واحدين مزدوجين.و قرأ  حفص: «من كلّ» بالتّنوين. أي: من كلّ نوع زوجين. و«اثنين» تأكيد.

وَ أَهْلَكَ: وأهل بيتك. أو: ومن آمن معك.

إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ:أي القول من اللّه بإهلاكه لكفره. وإنّما جي‏ء ب «على» لأنّ السّابق ضارّ ، كما جي‏ء باللّام حيث كان نافعا في قوله : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى.

وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا بالدّعاء لهم بالإنجاء.

إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ : لا محالة، لظلمهم بالإشراك والمعاصي.

و من هذا شأنه لا يشفع له، ولا يشفع فيه. كيف وقد أمره بالحمد على النّجاة منهم بهلاكهم بقوله:

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . كقوله : فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي في السّفينة، أو في الأرض.

مُنْزَلًا مُبارَكاً يتسبّب لمزيد الخير في الدّارين.

و قرئ : «منزلا» بمعنى إنزالا أو موضع إنزال.

وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ :ثناء مطابق لدعائه. أمره بأن يشفعه به مبالغة فيه، وتوسّلا به إلى الإجابة. وإنّما أفرده بالأمر والمعلّق به أن يستوي هو ومن معه، إظهارا لفضله، وإشعارا بأنّ في دعائه مندوحة عن دعائهم، فإنّه يحيط بهم.

و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن إسماعيل بن مهران، عن سيف بن عميرة، عن أبي بصير: قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: هل للشكر حدّ إذا فعله العبد كان شاكرا؟

قال: نعم.قلت: ما هو؟ قال : يحمد اللّه على كلّ نعمة عليه في أهل ومال. وإن كان فيما أنعم اللّه عليه في ماله حقّ، أدّاه. ومنه قوله- تعالى-: رَبِّ  أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

و في من لا يحضره الفقيه  قال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- لعليّ- عليه السّلام-: يا عليّ، إذا نزلت منزلا، فقل: اللّهمّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ. ترزق خيره، ويدفع عنك شرّه.

و في كتاب الخصال  فيما علّم أمير المؤمنين- عليه السّلام- أصحابه من الأربعمائة باب ممّا يصلح للمسلم في دينه ودنياه: وإذا نزلتم منزلا، فقولوا: اللّهمّ أنزلنا  مُنْزَلًا مُبارَكاً، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ.

إِنَّ فِي ذلِكَ: فيما فعل بنوح وقومه لَآياتٍ يستدلّ بها ويعتبر أو لو الاستبصار والاعتبار.

وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ : لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم. أو: ممتحنين عبادنا بهذه الآيات.

و «إن» هي المخفّفة. واللّام هي الفارقة.

و في نهج البلاغة : أيّها النّاس! إنّ اللّه قد أعاذكم من أن يجور عليكم، ولم يعذكم من أن يبتليكم. وقد قال- جلّ من قائل-: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ.

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ :هم عاد أو ثمود.

فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ:هو هود أو صالح. وإنّما جعل القرن موضع الإرسال، ليدلّ على أنّه لم يأتهم من مكان غير مكانهم، وإنّما اوحي إليه وهو بين أظهرهم.

أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ:تفسير ل «أرسلنا».

أي: قلنا لهم على لسان الرّسول: اعْبُدُوا اللَّهَ.

أَ فَلا تَتَّقُونَ  عذاب اللّه!؟

وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا:لعلّه ذكر بالواو، لأنّ كلامهم لم يتّصل بكلام الرّسول، بخلاف قول قوم نوح.

و حيث استؤنف به، فعلى تقدير السّؤال.

وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ: بلقاء ما فيها من الثّواب والعقاب. أو: بمعادهم إلى الحياة الثّانية بالبعث.

وَ أَتْرَفْناهُمْ: ونعّمناهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بكثرة الأموال والأولاد.

ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصّفة والحال.

يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ :تقرير للمماثلة. و«ما» خبريّة. والعائد إلى الثّاني منصوب محذوف، أو مجرور حذف مع الجارّ، لدلالة ما قبله عليه.

وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما يأمركم إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ  حيث أذللتم أنفسكم.

و «إذا» جزاء للشّرط، وجواب [للّذين قاولوهم من قومهم‏] .

أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً مجردة من اللّحوم والأعصاب، أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ  من الأجداث- أو من العدم- تارة أخرى إلى الوجود.

و «أنّكم» تكرير للأوّل. أكّد به، لمّا طال الفصل بينه وبين خبره. أو أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مبتدأ خبره الظّرف المقدّم. أو فاعل للفعل المقدّر، جوابا للشّرط. والجملة خبر الأوّل. أي: أنّكم  إخراجكم إذا متّم. أو: أنّكم إذا متّم، وقع إخراجكم. ويجوز أن بكون خبر الأوّل محذوفا، لدلالة خبر الثّاني عليه، لا أن يكون خبره الظّرف. لأنّ اسمه جثة ولا يكون اسم زمان خبرا عن جثّة.هَيْهاتَ هَيْهاتَ: بعد التّصديق أو الصّحّة لِما تُوعَدُونَ ، أي: بعد ما توعدون.

و اللّام للبيان كما في هَيْتَ لَكَ .

و قيل : «هيهات» بمعنى البعد. وهو مبتدأ خبره لِما تُوعَدُونَ.

و قرئ  بالفتح منوّنا، للتّنكير. وبالضّمّ منوّنا، على أنّه جمع هيهة. وغير منوّن، تشبيها ب «قبل». وبالكسر، على الوجهين. وبالسّكون على لفظ الوقف. وبإبدال التّاء هاء.

إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا:

أصله: إن الحياة إلّا حياتنا الدّنيا. فأقيم الضّمير مقام الأولى، لدلالة الثّانية عليها، حذرا عن التّكرير، وإشعارا بأنّ تعيّنها مغن عن التّصريح بها. كقوله:

هي النّفس ما حمّلتها تتحمّل.

و معناه: لا حياة إلّا هذه الحياة. لأنّ «إن» نافية دخلت على «هي» الّتي في معنى الحياة الدّالّة على الجنس، فكانت مثل «لا» الّتي تنفي ما بعدها نفي الجنس.

نَمُوتُ وَنَحْيا: يموت بعضنا، ويولد بعض.

وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ  بعد الموت.

إِنْ هُوَ: ما هو إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما يدّعيه من الرّسالة له، وفيما يعدنا من البعث.

وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ : بمصدّقين.

قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عليهم وانتقم لي منهم بِما كَذَّبُونِ : بسبب تكذيبهم إيّاي.

قالَ عَمَّا قَلِيلٍ: عن زمان قليل.

و «ما» صلة لتوكيد معنى القلّة. أو نكرة موصوفة.

لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ  على التّكذيب، إذا عاينوا العذاب.