سورة براءة الآية 61-80

وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ: يسمع كلّ ما يقال له ويصدقه.

سمي بالجارحة للمبالغة، كأنّه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع، كما سمي الجاسوس: عينا، لذلك. أو أشتقّ له فعل من اذن، أذنا: إذا سمع، كأنفّ وشلل.

نقل : أنّهم قالوا: محمّد أذن سامعة. نقول ما شئنا، ثمّ نأتيه فيصدّقنا بما نقول.

قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ: تصديق لهم بأنّه له أذن ولكن لا على الوجه الّذي ذمّوا به، بل من حيث إنّه يسمع الخير ثمّ يقبله.

ثم فسر ذلك بقوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ: يصدق به، لما قام عنده من الأدلّة.

وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ: ويصدّقهم لما علم من خلوصهم.

و «اللّام» مزيدة للتّفرقة بين إيمان التّصديق، فإنه بمعنى: التسليم، وايمان الأمان.

و في كتاب الاحتجاج  للطبرسيّ- رحمه اللَّه-، بإسناده إلى محمّد بن عليّ الباقر- عليهما السّلام-: عن النبي- صلّى اللَّه عليه وآله- حديث طويل. يقول فيه، وقد ذكر عليا- عليه السّلام- وما أوصى اللَّه فيه: وذكر المنافقين والآثمين والمستهزئين بالإسلام وكثرة أذاهم لي، حتّى سمّوني أذنا. وزعموا أنّي كذلك لكثرة ملازمته إيّاي وإقبالي عليه، حتّى أنزل اللَّه- عزّ وجلّ- في ذلك قرآنا  وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ، قُلْ أُذُنُ على الّذين يزعمون أنّه أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ (الآية). ولو شئت أن أسمي بأسمائهم لسميت، وأن أومئ إليهم بأعيانهم لأومأت، وأن ادلّ عليهم لدللت ، ولكني، واللَّه، في أمورهم قد تكرّمت.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: كان سبب نزولها، أنّ عبد اللَّه بن نفيل كان‏منافقا، وكان يقعد إلى رسول اللَّه - صلّى اللَّه عليه وآله- فيسمع كلامه وينقله إلى المنافقين وينم عليه. فنزل جبرئيل- عليه السّلام- على رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-.

فقال: يا محمّد، إنّ رجلا من المنافقين ينمّ عليك، وينقل حديثك إلى المنافقين.

فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: من هو؟

فقال: الرّجل الأسود، الكثير شعر الرأس، ينظر بعينين، كأنّهما قدران وينطق بلسان شيطان.

فدعاه رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- فأخبره.

فحلف، أنه لم يفعل.

فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: قد قبلت منك، فلا تقعد.

فرجع إلى أصحابه، فقال: إنّ محمدا أذن. أخبره اللَّه اني أنمّ عليه وأنقل أخباره، فقبل. وأخبرته أني لم أفعل ذلك، فقبل.

فأنزل اللَّه على نبيّه وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أي: يصدق اللَّه فيما يقول له، ويصدقك فيما تعتذر إليه في الظّاهر ولا يصدّقك في الباطن. وقوله: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ، يعني: المقرّبين بالإيمان من غير اعتقاد.

و في تفسير العيّاشيّ : عن الصّادق- عليه السّلام-، يعني: يصدّق اللَّه ويصدّق المؤمنين، لأنّه كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام- لابنه إسماعيل: يا بنيّ، إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول في كتابه: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. يقول: يصدّق اللَّه ويصدق المؤمنين. فإذا شهد عندك المؤمنون، فصدّقهم.

حميد بن زياد ، عن الحسن بن محمّد بن سماعة، عن غير واحد، عن أبان بن عثمان، عن حمّاد بن بشير، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: إني أردت أن أستبضع بضاعة إلى اليمن، فأتيت أبا جعفر- عليه السّلام-.فقلت له: إنّي أريد أن أستبضع فلانا [بضاعة] .

فقال لي: أما علمت أنّه يشرب الخمر.

فقلت: قد بلغني من المؤمنين، أنّهم يقولون ذلك.

فقال لي: صدّقهم. فإنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ.

وَ رَحْمَةٌ، أي: هو رحمة.

لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ: لمن أظهر الإيمان، حيث يقبله ولا يكشف سرّه. وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم لجهله بحالكم، بل رفقا بكم وترحما عليكم.

و قرأ  حمزة، بالجرّ، عطفا على «خير».

و قرئ ، بالنّصب، على أنّها علّة فعل دلّ عليه «أذن خير»، أي: يأذن لكم رحمة.

و قرأ  نافع: «أذن» بالتّخفيف فيهما.

و قرئ : «أذن خير» على أنّ الخير صفة له، أو خبر ثاني.

وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ : بإيذائه.

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ: على معاذيرهم فيما قالوا أو تخلّفوا.

لِيُرْضُوكُمْ، أي: لترضوا عنهم. والخطاب للمؤمنين.

وَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ: أحقّ بالإرضاء بالطاعة والوفاق.

و توحيد الضّمير، لتلازم الرّضاءين. أو لأنّ الكلام في إيذاء الرّسول وإرضائه. أو لأنّ التقدير: واللَّه أحقّ أن يرضوه، والرسول كذلك.

إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ : صدقا.

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ: الشأن.

و قرئ ، بالتّاء.

مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: يشاقق. مفاعلة، من الحدّ.

فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها: على حذف الخبر، أي: فحقّ أن له. أو على تكرير «أنّ»، للتأكيد. ويحتمل أن يكون معطوفا على «أنّه» ويكون الجواب محذوفا.تقديره: «من يحادد اللَّه ورسوله» يهلك.

و قرئ : «فإنّ» بالكسر.

ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ : يعني: الهلاك الدّائم.

يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ: على المؤمنين.

سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ: وتهتك عليهم أستارهم.

و يجوز أن تكون الضمائر «للمنافقين». فإنّ النّازل فيهم، كالنّازل عليهم من حيث أنّه مقروء ومحتج به عليهم. وذلك يدلّ على تردّدهم- أيضا- في كفرهم، وأنّهم لم يكونوا على بت في أمر الرّسول بشي‏ء.

و قيل : إنّه خبر في معنى الأمر.

و قيل : إنّهم كانوا يقولونه فيما بينهم، استهزاء. لقوله: قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ: مبرز ومظهر.

ما تَحْذَرُونَ ، أي: ما تحذرونه من إنزال السّورة فيكم. أو ما تحذرون إظهاره من مساوئكم.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ‏

في تفسير عليّ بن إبراهيم : كان قوم من المنافقين لمّا خرج رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- إلى تبوك، يتحدثون فيما بينهم ويقولون: أ يرى محمّد أنّ حرب الروم، مثل حرب غيرهم، لا يرجع منهم أحد أبدا.

فقال بعضهم: ما أخلفه أن يخبر اللَّه محمّدا بما كنا فيه وبما في قلوبنا، وينزل عليه بهذا قرآنا يقرأه النّاس. وقالوا هذا على حدّ الاستهزاء.

فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- لعمّار بن ياسر: الحق القوم، فإنهم قد احترقوا.

فلحقهم عمّار، فقال: ما قلتم؟

قالوا: ما قلنا شيئا، انّما كنا نقول شيئا على حدّ اللّعب والمزاح. فنزلت‏

و في مجمع البيان : عن الباقر- عليه السّلام-: نزلت في اثني عشر رجلا وقفوا على‏العقبة، ائتمروا بينهم ليقتلوا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. وقال بعضهم لبعض: إن فطن، نقول إنّما كنّا نخوض ونلعب. وإن لم يفطن، نقتله وذلك  عند رجوعه من تبوك.

فأخبر جبرئيل- عليه السّلام- رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بذلك، وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم.

 [و عمار كان يقود دابّة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وحذيفة يسوقها.

فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم‏] . فضربها حتّى نحّاهم. فلمّا نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟

فقال: لم أعرف منهم أحدا.

فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: فلان بن فلان. حتّى عددهم.

فقال حذيفة: ألا تبعث إليهم فتقتلهم.

فقال: أكره أن تقول العرب لما ظفر أصحابه أقبل يقتلهم.

و في الجوامع : توافقوا على أن يدفعوه عن راحلته في الوادي إذا تسنّم العقبة في اللّيل. فأمر  عمّار بن ياسر بخطام ناقته يقودها، وحذيفة خلفها يسوقها. فبينا هما كذلك، إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح. فالتفت، فإذا قوم ملتثمون.

فقال: إليكم، يا أعداء اللّه. وضرب وجوه رواحلهم حتّى نحّاهم. (الحديث).

إلى آخر ما ذكره في مجمع البيان، أورده عند تفسير يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا من هذه السّورة، كما يأتي.

قُلْ أَ بِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ : توبيخا على استهزاءهم بمن لا يصحّ الاستهزاء به، وإلزاما للحجّة عليهم. ولا تعبأ باعتذارهم الكاذب.

لا تَعْتَذِرُوا: لا تشتغلوا باعتذاراتكم، فإنّها معلومة الكذب.

قَدْ كَفَرْتُمْ: قد أظهرتم الكفر بإيذاء رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- والطعن فيه.بَعْدَ إِيمانِكُمْ: بعد إظهاركم الإيمان.

إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ: لتوبتهم وإخلاصهم، أو لتجنّبهم عن الإيذاء والاستهزاء.

نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ : مصرّين على النّفاق، أو مقدمين على الإيذاء والاستهزاء.

و قرأ  عاصم، بالنّون، فيهما.

و قرئ ، بالياء، وبناء الفاعل فيهما. وهو اللَّه. و«إن تعف» بالتّاء والبناء على المفعول، ذهابا إلى المعنى، كأنّه قيل: إن ترحم طائفة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: لا تَعْتَذِرُوا.

قال: هؤلاء قوم كانوا مؤمنين صادقين، ارتابوا وشكوا ونافقوا بعد إيمانهم. وكانوا أربعة نفر. وقوله: «إن نعف عن طائفة منكم» كان أحد الأربعة مختبر بن الحمير ، فاعترف وتاب.

و قال: يا رسول اللَّه، أهلكني اسمّي.

فسمّاه رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: عبد اللَّه بن عبد الرّحمن.

فقال: يا ربّ، اجعلني شهيدا حيث لا يعلم [أحد]  أين أنا.

فقتل يوم اليمامة، ولم يعلم أحد أين قتل. فهو الّذي عفا اللَّه عنه.

و في مجمع البيان : إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً. و

يروي أنّ هاتين الطّائفتين كانوا ثلاثة نفر، فهزأ اثنان وضحك واحد.

و هو الّذي تاب من نفاقه.

و اسمه مختبر بن حمير  فعفا اللَّه عنه.

و في تفسير العياشيّ : عن جابر الجعفيّ قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: نزلت هذه الآية وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ- إلى قوله-: نُعَذِّبْ طائِفَةً.قال: قلت لأبي جعفر- عليه السّلام-: ما  تفسير هذه الآية؟

قال: تفسيرها، واللَّه، ما نزلت آية قطّ إلّا ولها تفسير.

ثمّ قال: نعم، نزلت في [عدد بني اميّة  والعشرة منهما] . إنّهم اجمعوا اثني عشر، فكمنوا لرسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- [في العقبة وائتمروا بينهم ليقتلوه فقال بعضهم لبعض ان فطن نقول انما كنا نخوض ونلعب وان لم يفطن لنقتلنه‏] . فأنزل اللَّه هذه الآية وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. قال اللَّه لنبيّه: قُلْ أَ بِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ، يعني: محمدا- صلّى اللَّه عليه وآله-. كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ [يعني: عليا، أن يعف عنهما في أن يلعنهما على المنابر ويلعن غيرهما فذلك قوله- تعالى-: «إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ‏]  نُعَذِّبْ طائِفَةً».

الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، أي: متشابهة في النّفاق والبعد عن الإيمان، كأبعاض الشي‏ء الواحد.

و قيل : إنّه تكذيبهم في حلفهم باللَّه «أنّهم لمنكم»، وتقرير لقوله: «و ما هم منكم»، وما بعده، كالدّليل عليه. فإنّه يدلّ على مضادّة حالهم لحال المؤمنين. وهو قوله: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ: بالكفر والمعاصي. وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ: عن الإيمان والطّاعة. وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ: عن المبارّ.

و قبض اليد، عبارة عن الشّحّ.

نَسُوا اللَّهَ: أغفلوا ذكر اللَّه، وتركوا طاعته.

فَنَسِيَهُمْ: فتركهم من لطفه وفضله.

و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى عبد العزيز بن مسلم قال: سألت الرّضا- عليه السّلام- عن قول اللَّه: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ.

فقال: إنّ اللَّه لا يسهو ولا ينسى، وإنّما ينسى ويسهو المخلوق والمحدث. ألاتسمعه- عزّ وجلّ- يقول: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا . وإنّما يجازي من نسيه ونسى لقاء يومه بأن ينسيهم أنفسهم، كما قال- تعالى-: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ . وقال- عزّ وجلّ-: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا ، أي: نتركهم، كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا.

و في كتاب التّوحيد : عن أمير المؤمنين- عليه السّلام-: يعني: نسوا اللَّه في دار الدّنيا فلم يعملوا بطاعته، فنسيهم في الآخرة، أي: لم يجعل لهم في ثوابه نصيبا، فصاروا منسيين من الخير.

و قد يقول العرب في باب النّسيان: قد نسينا فلان فلا يذكرنا، أي: أنّه لم يأمر لهم بخير ولا يذكرهم به.

و في تفسير العيّاشيّ : عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- «نسوا اللَّه». قال:

تركوا طاعة اللَّه. «فنسيهم» قال: فتركهم.

عن أبي معمّر العمريّ  قال : قال عليّ- عليه السّلام- في قول اللَّه- تعالى-: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ: فإنّما يعني: أنّهم نسوا اللَّه في دار الدنيا فلم يعملوا له بالطّاعة ولم يؤمنوا به وبرسوله، فنسيهم في الآخرة، أي: لم يجعل لهم في ثوابه نصيبا، فصاروا منسيّين من الخير.

إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ : الكاملون في التمرد والفسوق، والخروج من دائرة الخير.

وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها: مقدرين الخلود.

هِيَ حَسْبُهُمْ: عقابا وجزاء. وفيه دليل على عظم عذابها.

وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ: أبعدهم من رحمته وأهانهم.

وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ : لا ينقطع.

و المراد به: ما وعدوه، أو ما يقاسونه من تعب النّفاق.كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أي: أنتم، مثل الّذين. أو فعلتم، مثل الذين من قبلكم.

كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً: بيان لتشبيههم بهم، وتمثيل حالهم بحالهم.

فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ: بنصيبهم من ملاذّ الدّنيا. واشتقاقه من الخلق، بمعنى: التّقدير. فإنه ما قدر لصاحبه.

فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ:

ذمّ الأوّلين باستمتاعهم بحظوظهم المخدجة من الشّهوات الفانية، والتّهائهم بها عن النّظر في العاقبة، والسّعي في تحصيل اللّذائذ الحقيقية، تمهيدا لذمّ المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم.

وَ خُضْتُمْ: دخلتم في الباطن.

كَالَّذِي خاضُوا، كالّذين خاضوا. أو كالفوج الّذى خاضوا. أو كالخوض الذي خاضوه.

أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ: لم يستحقّوا عليها ثوابا في الدّارين.

وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ : الّذين خسروا الدّنيا والآخرة.

أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ: اغرقوا بالطّوفان.

وَ عادٍ: أهلكوا بالرّيح.

وَ ثَمُودَ: أهلكوا بالرّجفة.

وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ: أهلك نمرود ببعوض، وأهلك أصحابه.

وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ: وأهل مدين، وهم قوم شعيب أهلكوا بالنّار يوم الظلة.

وَ الْمُؤْتَفِكاتِ: قريات قوم لوط ائتفكت بهم، أي: انقلبت فصارت عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجيل.

و قيل : قريات المكذبين المتمرّدين. وائتفاكهنّ، انقلاب أحوالهنّ من الخير إلى الشّرّ.و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن عليّ بن الحسين، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: قلت: وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ.

قال: أولئك قوم لوط. ائتفكت عليهم: انقلبت عليهم.

و في من لا يحضره الفقيه : روى جويرية  بن مسهر أنّه قال: أقبلنا مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- عليه السّلام- من قتل الخوارج. حتّى إذا قطعنا في  أرض بابل، حضرت صلاة العصر. فنزل أمير المؤمنين- عليه السّلام- ونزل النّاس فقال عليّ- عليه السّلام-: أيّها النّاس، إنّ هذه الأرض ملعونة. قد عذّبت في الدّهر ثلاث مرّات.

و في خبر آخر: مرّتين. وهي تتوقّع الثالثة. وهي إحدى المؤتفكات.

و الحديثان طويلان أخذت منهما موضع الحاجة.

أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ، يعني: الكلّ.

بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ: أي: لم يكن من عادته ولم يجز له ظلم النّاس، كالعقوبة بلا جرم.

وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ : حيث عرّضوها للعقاب، بالكفر والتّكذيب.

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ: في مقابلة قوله: «المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض».

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عن صفوان الجمّال قال: قلت لأبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: بأبي أنت وأمي، تأتيني المرأة المسلمة قد عرفتني بعملي وعرفتها بإسلامها وحبّها إيّاكم وولايتها لكم، وليس لها محرم.

قال: فإذا جاءتك المرأة المسلمة، فاحملها. فإنّ المؤمن محرم المؤمنة. وتلا هذه‏

الآية: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.

يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: في سائر الأمور.

أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ: لا محالة. فانّ السّين مؤكدة للوقوع.

إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ: غالب على كلّ شي‏ء، لا يمتنع عليه ما يريده.

حَكِيمٌ : يضع الأشياء مواضعها.

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً: تستطيبها النّفس، أو يطيب فيها العيش.

فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ: إقامة وخلود.

و مرجع العطف فيها يحتمل أن يكون إلى تعدد الموعود لكلّ واحد. أو للجميع، على سبيل التّوزيع. أو إلى تغاير وصفه، وكأنّه وصفه أوّلا بأنّه من جنس ما هو أبهى الأماكن الّتي يعرفونها لتميل إليه طباعهم، أو إلى  ما يقرع أسماعهم. ثمّ وصفه بأنّه محفوف بطيب العيش، معرّى عن شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شي‏ء منها أماكن الدنيا، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين. ثمّ وصفه بأنّه دار إقامة وثبات في جوار العليين، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيّر.

و في مجمع البيان : عن النّبي- صلّى اللَّه عليه وآله- [أنّه قال‏]  «عدن» دار اللَّه التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر. لا يسكنها غير ثلاثة: النّبيين والصّديقين والشّهداء. يقول اللَّه- تعالى-: طوبى لمن دخلك.

و في كتاب الخصال ، في احتجاج عليّ- عليه السّلام- على النّاس يوم الشّورى.

 

قال: نشدتكم باللَّه، هل فيكم أحد قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: من سره أن يحيى حياتي ويموت ومماتي ويسكن جنتي التي وعدني اللَّه ربي، جنّات عدن، قضيب غرسه اللَّه بيده. ثمّ قال له: كن فيكون، فليوال عليّ بن أبي طالب وذرته من بعده- [إلى قوله- غيري قالوا: اللهم، لا] .و عن أمير المؤمنين - عليه السّلام- أنّه سأله يهوديّ: أين يسكن نبيّكم  من الجنّة؟

فقال: في أعلاها درجة وأشرفها مكانا، في جنات عدن.

فقال: صدقت، واللَّه، انه لبخطّ هارون وإملاء موسى.

و في من لا يحضره الفقيه ، في حديث بلال: جنة عدن في وسط الجنّان، سورها ياقوت أحمر وحصاؤها اللّؤلؤ.

وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ: لأنّه المبدأ لكل سعادة وكرامة، والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللّقاء.

ذلِكَ، أي: الرّضوان. أو جميع ما تقدّم.

هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ : الّذي تستحقر دونه الدّنيا وما فيها.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : عن يونس ، عن عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- قال: إذا صار أهل الجنة في الجنّة ودخل ولي اللَّه جناته ومساكنه واتكى  كلّ مؤمن منهم على أريكته، حفته زوجاته وخدامه، وتهدّلت عليه الثّمار، وتفجرت حوله العيون، وجرت من تحته الأنهار، وبسطت له الزرابي، وصفقت له النّمارق، وأتته الخدام بما شاءت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك.

قال: وتخرج عليهم الحور العين من الجنان، فيمكثون بذلك ما شاء اللَّه. ثمّ أن الجبّار يشرف عليهم، فيقول لهم: أوليائي وأهل طاعتي وسكّان جنّتي في جواري، الأهل أنبئكم بخير ممّا أنتم فيه؟

فيقولون: ربّنا، وأيّ شي‏ء خير ممّا نحن فيه؟ [نحن‏]  فيما اشتهت أنفسنا ولذّت أعيننا من النّعم في جوار الكريم.

قال: فيعود عليهم بالقول.

فيقولون: ربّنا [نعم، فأتنا بخير ممّا نحن فيه.فيقول لهم- تبارك وتعالى-: رضاي عنكم ومحبتي لكم خير وأعظم مما أنتم فيه.

قال: فيقولون: نعم، يا ربّنا]  رضاك عنّا ومحبتك لنا خير لنا وأطيب لأنفسنا.

ثمّ قرأ عليّ بن الحسين- عليهما السلام- هذه الآية: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ- إلى قوله- هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ قيل : بالسّيف.

وَ الْمُنافِقِينَ.

قيل : بالزام الحجّة، وإقامة الحدود.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام- جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ: بإلزام الفرائض.

و فيه ، في سورة التّحريم: أخبرني الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، [عن أحمد بن محمّد] ، عن أحمد بن محمّد بن عبد اللَّه، عن يعقوب بن يزيد، عن سليمان الكاتب، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ.

 [قال‏] : هكذا نزلت: فجاهد رسول الله- صلى الله عليه وآله- الكفار وجاهد علي- عليه السلام- المنافقين. فجاهد عليّ جهاد رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-.

و في مجمع البيان ، في قراءة أهل البيت- عليهم السلام-: «جاهد الكفار بالمنافقين».

قالوا: لأنّ النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- لم يكن يقاتل المنافقين، ولكن كان يتألفهم. ولان المنافقين لا يظهرون الكفر، وعلم اللَّه بكفرهم لا يبيح قتلهم إذ  كانوا يظهرون الإيمان.و فيه ، في سورة التحريم: عن الصادق- عليه السّلام- أنه قرأ: «جاهد الكفّار بالمنافقين».

قال: انّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- لم يقاتل منافقا قط، إنّما كان يتألّفهم.

و في أمالي شيخ الطائفة - قدس سره- بإسناده إلى ابن عبّاس قال: لمّا نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ قال: النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله-: لأجاهدن  العمالقة، يعني: الكفّار والمنافقين.

فأتاه جبرئيل- عليه السّلام- وقال: أنت أو عليّ.

وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ: في ذلك، ولا تحابهم.

وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ : مصيرهم.

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ:

و أظهروا الكفر بعد إظهار إسلامهم.

وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا: من قتل الرّسول- صلّى اللَّه عليه وآله-.

و في تفسير عليّ بن ابراهيم : نزلت في الّذين تحالفوا في الكعبة، أن لا يردّوا هذا الأمر في بني هاشم. فهي كلمة الكفر. ثمّ قعدوا لرسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- في العقبة وهموا بقتله، وهو قوله: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا.

قال في موضع آخر : فلما أطلع اللَّه نبيّه وأخبره، حلفوا أنّهم لم يقولوا ذلك ولم يهموا به، حتّى أنزل اللَّه- تعالى- يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا (الآية).

و عن الصادق - عليه السّلام-: لمّا أقام رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- أمير المؤمنين- عليه السّلام- يوم غدير خمّ، كان بحذائه سبعة نفر من المنافقين، وهم أبو بكر، وعمر، وعبد الرّحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وسالم مولى أبي حذيفة، والمغيرة بن شعبة.

قال عمر: أما ترون عينيه، كانّها عينا مجنون، يعني: النبيّ- صلّى اللَّه عليه‏و آله-. السّاعة يقوم ويقول: قال لي ربيّ.

فلمّا قام، قال: يا أيها الناس، من أولى بكم من أنفسكم؟

قالوا: اللّه ورسوله.

قال: اللّهم، فاشهد.

ثمّ قال: ألا من كنت مولاه، فعلي مولاه. وسلّموا عليه بإمرة المؤمنين.

فنزل جبرئيل- عليه السّلام- وأعلم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بمقالة القوم.

فدعاهم وسألهم، فأنكروا وحلفوا. فأنزل اللّه يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا.

و في مجمع البيان : نزلت في أهل العقبة. فإنّهم أضمروا أن يقتلوا  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في عقبة حين مرجعهم من تبوك، وأرادوا أن يقطعوا أنساع  راحلته ثمّ ينخسوا به. فأطلعه اللّه على ذلك. وكان من جملة معجزاته. لأنه لا يمكن معرفة ذلك  إلّا بوحي من اللّه. فبادر  رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في العقبة وحده  وعمّار وحذيفة [معه‏] ، أحدهما يقود ناقته والآخر يسوقها. وأمر النّاس كلّهم بسلوك بطن الوادي.

و كان الّذين همّوا بقتله اثني عشر رجلا أو خمسة عشر [رجلا على الخلاف فيه‏] ، عرفهم رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وسمّاهم بأسمائهم.

قال: وقال الباقر - عليه السّلام-: ثمانية منهم من قريش، وأربعة من العرب.

أقول: قد مضى بعض هذه القصّة عند تفسير يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ من المائدة، وعند تفسير إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ من هذه السورة.

و في تفسير العيّاشيّ . عن جابر بن [أرقم، عن أخيه زيد بن‏]  أرقم قال: لمّا أقام النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- عليا- عليه السّلام- بغدير خمّ وبلّغ فيه عن اللَّه- عزّ وجلّ-ما بلّغ ثمّ نزل، انصرفنا إلى رحالنا. وكان إلى جانب الخباء النّفر  من قريش، وهم ثلاثة، ومعي  حذيفة بن اليمان .

فسمعنا أحد الثّلاثة وهو يقول: واللَّه، انّ محمدا لأحمق ان كان يرى أنّ الأمر يستقيم لعلي من بعده.

و قال آخر: أ تجعله أحمق، ألم تعلم أنّه مجنون قد كاد أن يصرع  عند امرأة ابن أبي كبشة؟

و قال الثّالث: دعواه إن [شاء أن يكون أحمق وإن‏]  شاء أن يكون مجنونا. واللَّه، ما يكون ما يقول أبدا.

فغضب حذيفة من مقالتهم، فرفع جانب الخباء، فأدخل رأسه إليهم وقال:

فعلتموها ورسول اللَّه بين أظهركم ووحي اللَّه ينزل إليكم. واللَّه، لأخبرنه  بكرة بمقالتكم.

فقالوا له: يا أبا عبد اللَّه، وإنّك لها هنا وقد سمعت ما قلنا؟ أكتم علينا. فانّ لكلّ جوار أمانة.

فقال لهم: ما هذا من جوار الأمانة، ولا من مجالسها: ما نصحت اللَّه ورسوله إن أنا طويت عند هذا الحديث.

فقالوا: يا أبا عبد اللَّه، فاصنع ما شئت. فو اللَّه، لنحلفنّ إنا لم نقل وانّك قد كذبت علينا. أ فتراه يصدقك ويكذبنا ونحن ثلاثة؟

فقال لهم: أما أنا، فلا أبالي إذا ادّيت النّصيحة إلى اللَّه وإلى رسوله. فقولوا ما شئتم أن تقولوا.

ثم مضى حتى أتى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- وعليّ- عليه السّلام- إلى‏جانبه محتب  بحمائل سيفه . فأخبره بمقالة القوم. فبعث إليهم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- فأتوه.

فقال لهم: ما ذا قلتم؟

فقالوا: واللَّه، ما قلنا شيئا. فإن كنت أبلغت عنّا شيئا، فمكذوب  علينا.

فهبط جبرئيل- عليه السّلام- بهذه الآية «يحلفون- إلى قوله- بعد إسلامهم».

و قال [عليّ‏] - عليه السّلام- عند ذلك: ليقولوا ما شاءوا، واللَّه، إنّ قلبي بين أضلاعي وإن سيفي لفي عنقي، ولإن همّوا، لأهمنّ.

فقال جبرئيل- عليه السّلام- للنبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله-: اصبر للأمر  الّذي هو كائن.

فأخبر النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- عليا- عليه السّلام- بما أخبره به جبرئيل.

فقال: إذا أصبر للمقادير.

عن جعفر بن محمّد الخزاعيّ ، عن أبيه قال: سمعت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- يقول: لمّا قال النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- ما قال في غدير خم وصار بالأخبية ، مرّ المقداد بجماعة منهم يقولون: إذا دنا موته وفنيت أيّامه وحضر أجله، أراد أن يولّينا عليا من بعده.

أما واللَّه، ليعلمنّ.

قال: فمضى المقداد وأخبر النبي- صلّى اللَّه عليه وآله- به.

فقال: الصّلاة جامعة.

فقالوا: قد رمانا المقداد، فقوموا نحلف عليه.

قال: فجاءوا حتى جثوا بين يديه، فقالوا: بآبائنا وأمّهاتنا يا رسول اللَّه، والذي  بعثك بالحقّ والّذي أكرمك بالنّبوة، ما قلنا ما بلغك والذي  اصطفاك على‏البشر.

قال: فقال النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله-: بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بك، يا محمّد، ليلة العقبة.

وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.

كان أحدهم يبيع الرّؤوس وآخر يبيع الكراع ويفتل القرامل ، فأغناهم اللَّه برسوله. ثمّ [جعلوا]  حدّهم وحديدهم عليه.

قال أبان بن تغلب  [عنه‏] : لمّا نصب رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- عليا- عليه السّلام- يوم غدير خم فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، قال رجلان من قريش وسمّاهما: واللَّه، لا نسلّم له ما قال أبدا.

فأخبر النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله-. فسألهما عمّا قالا، فكذبا وحلفا باللَّه ما قالا شيئا.

فنزل جبرئيل- عليه السّلام- إلى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا (الآية).

قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: لقد تولّيا وماتا .

وَ ما نَقَمُوا: وما أنكروا. أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم.

إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ.

قد مرّ تفسيره في ذيل الحديث السابق.

و الاستثناء مفرغ من أعمّ المفاعيل، أو العلل.

فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ.

الضّمير في «يك» للتّوب.

وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا: بالإصرار على النّفاق.

يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ: بالقتل والنّار.

وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ : فينجيهم من العذاب.

وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ .

في تفسير عليّ بن إبراهيم : عن الباقر- عليه السّلام-: هو ثعلبة من حاطب  بن عمرو بن عوف، كان محتاجا، فعاهد اللَّه- عزّ وجلّ-. فلمّا آتاه، بخل به.

و في الجوامع : هو ثعلبة بن حاطب. قال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يرزقني مالا.

فقال: يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه.

فقال: والّذي بعثك بالحق، لئن رزقني اللَّه مالا لأعطين كلّ ذي حقّ حقّه.

فدعا له، فاتّخذ غنما، فنمت، كما ينمي  الدّود حتّى ضاقت بها المدينة.

فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة. فبعث رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- إليه المصّدق، ليأخذ الصّدقة. فأبى وبخل، وقال: ما هذه إلّا أخت الجزية.

فقال- صلّى اللَّه عليه وآله-: يا ويح ثعلبة.

و في مجمع البيان ، روي ذلك مرفوعا.

 

فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ: منعوا حقّ اللَّه منه.

وَ تَوَلَّوْا: عن طاعة اللَّه.

وَ هُمْ مُعْرِضُونَ : وهم قوم عادتهم الإعراض عنها.

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ، أي: فجعل اللَّه عاقبا فعلهم ذلك نفاقا وسوء اعتقاد في قلوبهم.

و يجوز أن يكون الضمير للبخل. والمعنى: فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم.

إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ: يلقون اللَّه بالموت. أو يلقون عملهم، أي: جزاءه، وهو يوم القيامة.

و في كتاب التّوحيد . عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه‏

 و قد سأله رجل عما اشتبه عليه من الآيات: وذكره  المؤمنين الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ . وقوله لغيرهم: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ.

إلى أن قال- عليه السّلام-: فاللّقاء ها هنا، ليس بالرّؤية. واللّقاء: هو البعث.

فافهم جميع ما في كتاب اللَّه من لقائه، فإنّه يعني بذلك: البعث.

بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ: بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصديق والصلاح.

وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ : وبكونهم كاذبين فيه. فإنّ خلف الوعد متضمن للكذب، مستقبح من الوجهين. أو المقال مطلقا.

و قرئ : «يكذّبون» بالتشديد.

وفي كتاب الخصال : عن عبد اللَّه بن مسعود، عن النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- قال: أربع من كنّ فيه، فهو منافق. فان كانت فيه واحدة منهنّ، كان فيه خصلة من النّفاق حتى يدعها، من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر.

و في مجمع البيان : وقد صحّ في الحديث عن النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- أنه قال: للمنافق ثلاث علامات: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان.

أَ لَمْ يَعْلَمُوا: أي: المنافقون. أو من عاهد اللَّه.

و قرئ ، بالتّاء، على الالتفات.

أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ: ما أسرّوه في أنفسهم من النّفاق، أو العزم على الأخلاف.

وَ نَجْواهُمْ: وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن. أو تسمية الزكاة: جزية.

وَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ : فلا يخفى عليه ذلك.

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ، أي: يعيبون.

ذمّ مرفوع، أو منصوب، أو بدل من الضّمير في «سرّهم».و قرئ : «يلمزون» بالضّمّ.

الْمُطَّوِّعِينَ: المتطوّعين.

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ: إلّا طاقتهم، فيتصدّقون بالقليل.

و في مجمع البيان : أنّه سئل، فقيل: يا رسول اللَّه، أيّ الصدقة أفضل؟

قال: جهد المقلّ .

و قرئ : بالفتح. وهو مصدر جهد في الأمر، إذا بالغ فيه.

فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ: يستهزئون بهم.

سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ: جازاهم على سخريتهم، كقوله: «اللَّه يستهزئ بهم».

و في عيون الأخبار ، بإسناده إلى الحسن بن عليّ بن فضّال [عن أبيه‏]  عن الرّضا- عليه السّلام- أنه قال في كلام طويل: إنّ اللَّه- تعالى- لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع، ولكنّه- تعالى- يجازيهم جزاء السّخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة. تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ : على كفرهم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : جاء سالم بن عمير الأنصاري بصاع من تمر، فقال:

يا رسول اللَّه، كنت ليلتي أجر  الجرير، حتى عملت بصاعين من تمر. فأمّا إحداهما، فأمسكته. وأما الآخر، فأقرضته ربي.

فأمر رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- أن ينشره في الصدقات. فسخر منه المنافقون، فقالوا: واللَّه، وإنّ اللَّه لغنيّ عن هذا الصّاع. ما يصنع اللَّه بصاعه شيئا. ولكن‏أبا عقيل أراد أن يذكر نفسه، ليعطي من الصّدقات. فنزلت.

و في تفسير العياشي : عن أبي الجارود، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: ذهب أمير المؤمنين- عليه السّلام- فآجر نفسه على أن يسقي كلّ دلو بتمرة يخيارها . فأتى به النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- وعبد الرّحمن بن عوف [على الباب‏] . فلمزه، أي: وقع فيه. فأنزلت هذه الآية.

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ: يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم، كما نصّ عليه بقوله: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.

قيل : إنّ الوجه في تعليق الاستغفار  بسبعين مرة، المبالغة لا العدد المخصوص.

و يجرى ذلك مجرى قول القائل: لو قلت لي ألف مرّة ما قبلت. والمراد: أني لا أقبل منك، فكذا الآية. المراد فيها: نفي الغفران جملة.

و ما روي عن النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- أنّه قال: «و اللَّه، لأزيدنّ على السّبعين»

فإنّه خبر واحد لا يعوّل عليه، ولا  يتضمّن أنّ النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- يستغفر الكفّار، وذلك غير جائز بالإجماع.

و قد  روي أنّه قال: لو علمت أنّه لو زدت على السبعين مرّة لغفر لهم، لفعلت.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أنّها نزلت لمّا رجع رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- إلى المدينة، ومرض عبد اللَّه بن ابيّ، وكان ابنه عبد اللَّه بن عبد اللَّه مؤمنا. فجاء إلى النبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- وأبوه يجود بنفسه.

فقال: يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأمي، إنّك إن لم تأت أبي كان ذلك عارا علينا.

فدخل عليه رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- والمنافقون عنده.

فقال ابنه عبد اللَّه بن عبد اللَّه: يا رسول اللَّه، استغفر له.

فاستغفر له.

فقال عمر: ألم ينهك اللَّه، يا رسول اللَّه، أن تصلّي عليهم أو تستغفر لهم؟فأعرض عنه رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-.

فأعاد عليه.

فقال له: ويلك، إنّي خيّرت فاخترت. إنّ اللَّه يقول: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.

فلما مات عبد اللَّه، جاء ابنه إلى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- فقال: بأبي أنت وأمي، يا رسول اللَّه، إن رأيت أن تحضر جنازته.

فحضر رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- وقام على قبره.

فقال عمر: يا رسول اللَّه، ألم ينهك اللَّه أن تصلي على أحد منهم [مات‏]  أبدا وأن تقيم  على قبره؟

فقال له رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-: ويلك، وهل تدري ما قلت؟ إنّما قلت: اللّهم، احش قبره نارا وجوفه [نارا] . وأصله النّار.

فبدا من رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- ما لم يكن يحبّ.

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ: إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منّا ولا قصور فيك، بل لعدم قابليّتهم بسبب الكفر الصّارف عنها.

وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ: : المتمردين في كفرهم.