سورة يونس الآية 61-80

وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ: ولا تكون في أمر. 

و أصله الهمز، من شأنت شأنه: إذا قصدت قصده. والضّمير في وَما تَتْلُوا مِنْهُ له. لأنّ تلاوة القرآن معظّم شأن الرّسول، أو لأنّ القراءة تكون لشأن. فيكون التّقدير:

من أجله. ومفعول تتلو مِنْ قُرْآنٍ. على أنّ «من» تبعيضيّة، أو مزيدة لتأكيد النّفي، أو للقرآن. وإضماره قبل الذّكر ثمّ بيانه، تفخيم له أو للّه.

وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ: تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم. ولذلك ذكر حيث خصّ ما فيه فخامة، وذكر حيث عمّ ما يتناول الجليل والحقير.

إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً: رقباء مطّلعين عليه.

إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ: تخوضون فيه وتندفعون.

و في مجمع البيان : عن الصّادق- عليه السّلام-. وفي تفسير عليّ بن إبراهيم:

 

قال: كان رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- إذا قرأ هذه الآية، بكى بكاء شديدا.

وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ: ولا يبعد عنه، ولا يغيب عن علمه.

و قرأ  الكسّائيّ، بكسر الزّاء.

مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ: موازن نملة صغيرة، أو هباء.فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، أي: في الوجود والإمكان. فإنّ العامّة لا تعرف ممكنا غيرهما ليس فيهما ولا متعلّقا بهما. وتقديم «الأرض» لأنّ الكلام في حال أهلها.

و المقصود منه: هو البرهان على إحاطة علمه بها.

و في كتاب التّوحيد : عن عليّ- عليه السّلام-. يقول فيه، وقد سأله رجل عمّا اشتبه عليه من الآيات: وأمّا قوله: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ كذلك ربّنا لا يعزب عنه شي‏ء. وكيف يكون من خلق الأشياء لا يعلم ما خلق وهو الخلّاق العليم.

وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ : كلام برأسه مقرّر لما قبله.

و «لا» نافية للجنس. و«أصغر» أسمها. و«في كتاب» خبرها.

و قرأ  حمزة ويعقوب، بالرّفع، على الابتداء والخبر. ومن عطف على لفظ «مثقال ذرّة» وجعل الفتح بدل الكسر، لامتناع الصّرف، أو على محلّه مع الجارّ، جعل الاستثناء منقطعا.

و قيل : المراد بالكتاب: اللّوح المحفوظ.

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ: الّذين يتولّونه بالطّاعة، ويتولّاهم بالكرامة.

لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ: من لحوق مكروه.

وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ : لفوات مأمول.

و الآية، كمجمل فسّره قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ : بيان لتولّيهم إيّاه.

و محلّ «الّذين آمنوا» النّصب. أو الرّفع على المدح، أو على وصف الأولياء، أو على الابتداء، وخبره «لهم البشرى».

و في تفسير العيّاشي : عن عبد الرّحمن بن سالم الأشلّ، عن بعض الفقهاء قال:

 

قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ- إلى قوله- وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.

ثمّ قال: أ تدرون من أولياء اللَّه؟قالوا: من هم، يا أمير المؤمنين؟

فقال: هم نحن وأتباعنا. فمن تبعنا من بعدنا، طوبى لنا وطوبى لهم.

و طوباهم أفضل من طوبانا.

قيل: ما شأن طوباهم أفضل من طوبانا، ألسنا نحن وهم على أمر؟

قال: لا، لأنّهم حملوا ما لم تحملوا وأطاقوا ما لم تطيقوا.

عن بريد العجليّ ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: وجدنا في كتاب عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ- إلى قوله- يَحْزَنُونَ: إذا أدّوا فرائض اللّه، وأخذوا بسنن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-، وتورّعوا عن محارم اللّه، وزهدوا في عاجل زهرة الدّنيا، ورغبوا فيما عند اللّه، واكتسبوا الطّيّب من رزق اللّه، لا يريدون به التّفاخر والتّكاثر، ثمّ أنفقوا فيما يلزمهم من حقوق واجبة، فأولئك الّذين بارك اللّه لهم فيما اكتسبوا ويثابون على ما قدّموا لآخرتهم.

و في مجمع البيان ، مثله.

 

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى أبي بصير قال: قال الصّادق- عليه السّلام-: يا أبا بصير، طوبى لشيعة قائمنا المنتظرين لظهوره في غيبته والمطيعين له في ظهوره. أولئك أولياء الله- إلى قوله- وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.

و في الجوامع : عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- سئل عن أولياء اللّه.

فقال: هم الّذين يذكرون اللّه برؤيتهم، يعني: في السّمت والهيئة.

و في الكافي : عن الصّادق- عليه السّلام-، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: من عرف اللّه وعظّمه، منع فاه من الكلام وبطنه من الطّعام وعنّى نفسه بالصّيام والقيام.

فقالوا: بآبائنا وأمّهاتنا يا رسول اللّه، هؤلاء أولياء اللّه؟

قال: إنّ أولياء اللّه سكتوا فكان سكوتهم ذكرا، ونظروا فكان نظرهم عبرة، ونطقوا فكان نطقهم حكمة، ومشوا فكان مشيهم بين النّاس بركة. لو لا الآجال الّتي كتب اللّه عليهم ، لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم، خوفا من العذاب وشوقا إلى الثّواب.و في كتاب الخصال : عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- قال: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- أخفى أربعة في أربعة: أخفى وليّه في عباده، فلا تستصغرنّ عبدا من عبيد اللّه، فربّما يكون وليّه وأنت لا تعلم.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

ُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ

: وهو ما بشّر به المتّقين في كتابه وعلى لسان نبيّه، وما يريهم من الرّؤيا الصّادقة، وبشّرهم عند النّزع.

فِي الْآخِرَةِ

 بيان لتولّيه لهم.

و في من لا يحضره الفقيه : وأتى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- رجل من أهل البادية، له جسم  وجمال.

فقال: يا رسول اللّه، أخبرني عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: الَّذِينَ آمَنُوا- إلى قوله- فِي الْآخِرَةِ

.

فقال: أمّا قوله:هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، فهي الرّؤيا الحسنة يراها المؤمن فيبشّر بها في دنياه. وأمّا قوله- عزّ وجلّ-: «في الآخرة»، فإنّها بشارة المؤمن يبشّر بها عند موته. إنّ اللّه- عزّ وجلّ- قد غفر لك، ولمن يحملك إلى قبرك.

و في أصول الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- أنّه قال في قوله- تعالى-:هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ

: يبشّرهم بقيام القائم، وبظهوره، وبقتل أعدائهم، وبالنّجاة في الآخرة، والورود على محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- الصّادقين على الحوض.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن ابن فضّال، عن عليّ بن عقبة، عن أبيه قال: قال لي أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: يا عقبة، لا يقبل اللّه من العباد يوم القيامة إلّا هذا الأمر الّذي أنتم عليه. وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقرّ به عينه، إلّا أن تبلغ نفسه إلى هذه- ثمّ أهوى بيده الى الوريد، ثمّ اتكأ.

و كان معي المعلّى، فغمزني أن أسأله.فقلت: يا ابن رسول اللّه، فإذا بلغت نفسه هذه أيّ شي‏ء يرى؟ فقلت له بضع عشرة مرّة: أيّ شي‏ء؟

فقال في كلّها: يرى. لا يزيد عليها.

ثمّ جلس في آخرها، فقال: يا عقبة.

فقلت: لبيّك وسعديك.

فقال: أبيت إلّا أن تعلم؟.

فقلت: نعم، يا ابن رسول اللّه. إنّما ديني مع دينك، فإذا ذهب ديني كان ذلك . كيف لي بك، يا ابن رسول اللّه، كلّ ساعة؟ وبكيت فرقّ لي.

فقال: يراهما، واللّه.

قلت: بأبي وأمّي، من هما؟ قال: ذلك رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وعليّ- عليه السّلام-. يا عقبة، لن تموت نفس مؤمنة أبدا حتّى تراهما.

قلت: فإذا نظر إليهما المؤمن، أ يرجع إلى الدّنيا؟.

فقال: لا، يمضي أمامه. إذا نظر إليهما، مضى أمامه.

فقلت له: يقولان شيئا؟

قال: نعم. يدخلان جميعا على المؤمن، فيجلس رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عند رأسه وعليّ- عليه السّلام- عند رجليه. فيكبّ  عليه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فيقول: يا وليّ اللّه، أبشر أنا رسول اللّه. إنّي خير لك ممّا تركت من الدّنيا. ثمّ ينهض رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فيقوم عليّ- عليه السّلام- حتّى يكبّ عليه، فيقول: يا وليّ اللّه، أبشر أنا عليّ بن أبي طالب الّذي كنت تحبّه. أما لأنفعنّك.

ثمّ قال: إنّ هذا في كتاب اللّه- عزّ وجلّ-.

فقلت: أين، جعلني اللّه فداك، هذا من كتاب اللّه؟

قال: في يونس، قول اللّه- عزّ وجلّ- ها هنا:الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

ابن عثمان، عن عقبة أنّه سمع أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- يقول: إنّ الرّجل إذا وقعت نفسه في صدره، رأى.

قلت: جعلت فداك، وما يرى؟

قال: يرى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فيقول له رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أنا رسول اللّه أبشر. ثمّ يرى عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- فيقول: أنا عليّ بن أبي طالب الّذي كنت تحبّه، يجب عليّ  أن أنفعك اليوم؟

قال: قلت له: يكون أحد من النّاس يرى هذا ثمّ يرجع إلى الدّنيا؟

قال: إذا رأى هذا أبدا مات، وأعظم ذلك .

قال: وذلك في القرآن قول اللّه- عزّ وجلّ-: الَّذِينَ آمَنُوا- إلى قوله-كَلِماتِ اللَّهِ‏

.

أبو عليّ الأشعريّ ، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن صفوان بن يحيى، عن أبي المستهلّ، عن محمّد بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: جعلت فداك، حديث سمعته من بعض شيعتك ومواليك يرويه عن أبيك.

قال: وما هو؟

قلت: زعموا أنّه كان يقول: أغبط ما يكون أمر بما نحن عليه إذا كانت النّفس في هذه.

فقال: نعم. إذا كان ذلك، أتاه نبيّ اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وأتاه عليّ- عليه السّلام- وأتاه جبرئيل- عليه السّلام- وأتاه ملك الموت- عليه السّلام-.

فيقول ذلك الملك لعليّ- عليه السّلام-: يا عليّ، إنّ فلانا كان مواليا لك ولأهل بيتك؟

فيقول: نعم، كان يتولّانا ويتبرّأ من عدوّنا.فيقول ذلك نبيّ اللّه لجبرئيل- عليه السّلام-. فيرفع ذلك جبرئيل إلى اللّه- عزّ وجلّ-.

عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد، عن ابن محبوب، عن عبد العزيز العبديّ، عن ابن أبي يعفور قال: كان خطّاب الجهنيّ خليطا لنا، وكان شديد النّصب لآل محمّد، وكان يصحب نجدة الحروري  قال: فدخلت عليه أعوده للخلطة والتّقيّة، فإذا هو يغمى  عليه في حدّ الموت.

 

فسمعته يقول: ما لي ولك، يا عليّ؟

فأخبرت بذلك أبا عبد اللَّه- عليه السّلام-.

قال: رآه، وربّ الكعبة. رآه، وربّ الكعبة.

سهل بن زياد ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن حمّاد بن عثمان، عن عبد الحميد بن عوّاض قال: سمعت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- يقول: إذا بلغت نفس أحدكم هذه، قيل له: أما ما كنت تحذر  من همّ الدّنيا وحزنها، فقد أمنت منه. ويقال له: رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وعليّ وفاطمة- عليهما السّلام- أمامك.

و في روضة الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن معمر بن خلّاد ، عن الرّضا- عليه السّلام- قال: إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إذا أصبح، قال لأصحابه: هل من مبشرات، يعني به: الرّؤيا.

عنه ، عن أحمد بن محمّد، عن ابن فضّال، عن أبي جميلة، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قال رجل لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- في قول اللّه- عزّ وجلّ-:هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

.

قال: هي الرّؤيا الحسنة، يرى المؤمن فيبشّر بها في دنياه.

و في تفسير العيّاشي : عن عبد الرّحيم قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: أماأحدكم حين تبلغ نفسه ها هنا، ينزل عليه ملك الموت فيقول له: أمّا ما كنت ترجو، فقد أعطيته. وأمّا ما كنت تخافه، فقد أمنت منه. ويفتح له باب إلى منزله من الجنّة، ويقال له: انظر إلى مسكنك من الجنّة، وانظر هذا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وعليّ والحسن والحسين- عليهم السّلام- رفقاؤك. وهو قول اللّه- عزّ وجلّ-: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.

عن أبي حمزة الثّماليّ  قال: قلت لأبي جعفر- عليه السّلام-: ما يصنع بأحد عند الموت؟

قال: أما واللّه، يا أبا حمزة، ما بين أحدكم وبين أن يرى مكانه من اللّه ومكانه منّا إلّا أن تبلغ نفسه ها هنا- ثمّ أهوى بيده إلى نحره. ألا أبشرك، يا أبا حمزة؟

فقلت: بلى، جعلت فداك.

فقال: إذا كان ذلك، أتاه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- وعليّ- عليه السّلام- معه قعد عند رأسه.

فقال له إذا كان ذلك رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أما تعرفني؟ أنا رسول اللّه. هلّم إلينا، فما أمامك خير لك ممّا خلّفت. أمّا ما كنت تخاف، فقد أمنته. وأمّا ما كنت ترجو، فقد هجمت عليه. أيّتها الرّوح، اخرجي إلى روح اللّه ورضوانه.

فيقول له عليّ- عليه السّلام- مثل قول رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. ثمّ قال:

يا أبا حمزة، ألا أخبرك بذلك في كتاب اللّه الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (الآية).

تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ‏

: لا تغيير لأقواله، ولا إخلاف لمواعيده.

ِكَ‏

: إشارة إلى كونهم مبشّرين في الدّارين.

َ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏

 .

هذه الجملة والّتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشّر به وتعظيم شأنه. وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتصل بما قبله.

وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ: إشراكهم وتكذيبهم وتهديدهم.

و قرأ  نافع: «يحزنك» من أحزنه. وكلاهما بمعنى.إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً: استئناف، بمعنى التّعليل. ويدلّ عليه القراءة بالفتح، كأنّه قيل: لا تحزن بقولهم ولا تبال بهم، لأنّ الغلبة للّه جميعا لا يملك غيره شيئا منها، فهو يقهرهم وينصرك عليهم.

هُوَ السَّمِيعُ: لأقوالهم.

الْعَلِيمُ : بعزماتهم، فيكافئهم عليها.

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ: من الملائكة والثّقلين. وإذا كان هؤلاء الّذين هم أشرف الممكنات عبيدا لا يصلح أحد منهم للرّبوبيّة، فما لا يعقل منها أحقّ أن لا يكون له ندّا أو شريكا. وهو، كالدّليل على قوله: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ، أي: شركاء على الحقيقة وإن كان يسمّونها شركاء.

و يجوز أن يكون «شركاء» مفعول «يدعون». ومفعول «يتّبع» محذوف دلّ عليه إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ»، أي: ما يتّبعون يقينا، وإنّما يتّبعون ظنّهم أنّها شركاء.

و يجوز أن يكون «ما» استفهاميّة منصوبة «بيتّبع». وموصولة معطوفة على «من».

و قرئ : «تدعون» بالتّاء. والمعنى: أيّ شي‏ء يتّبع به الّذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنّبيّين، أي: أنّهم لا يتّبعون إلّا اللّه ولا يعبدون غيره، فما لكم لا تتّبعونهم فيه، كقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ فيكون إلزاما بعد برهان.

و ما بعده مصروف عن خطابهم، لبيان سندهم ومنشأ رأيهم.

وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ : يكذبون فيما ينسبون إلى اللّه. أو يحزرون ويقدّرون أنّها شركاء تقديرا باطلا.

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً: تنبيه على كمال قدرته وعظيم نعمته المتوحّد هو بهما، ليدلّهم على تفرده باستحقاق العبادة. وإنّما قال:

 «مبصرا» ولم يقل: «لتبصروا فيه» تفرقة بين الظّرف المجرّد والظّرف الّذي هو سبب.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ : سماع تدبّر واعتبار.

قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً: أي: تبنّاه.

سُبْحانَهُ: تنزيه له من التّبنّي، فإنّه لا يصحّ إلّا ممّن يتصوّر له الولد، وتعجّب‏

من كلمتهم الحمقاء.

هُوَ الْغَنِيُّ: علّة لتنزّهه. فإنّ اتّخاذ الولد [مسبب عن الحاجة. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: تقرير لغناه. إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا: نفي لمعارض‏]  ما أقامه من البرهان، مبالغة في تجهيلهم وتحقيقا لبطلان قولهم.

و «بهذا» متعلّق بسلطان. أو نعت له أو «بعندكم»، كأنّه قيل: إن عندكم في هذا من سلطان.

أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ : توبيخ وتقريع على اختلافهم وجهلهم. وفيه دليل على أنّ كلّ قول لا دليل عليه، فهو جهالة. والعقائد لا بدّ لها من قاطع، وأنّ التّقليد فيها غير سائغ.

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ: باتّخاذ الولد، وإضافة الشّريك إليه.

لا يُفْلِحُونَ : لا ينجون من النّار، ولا يفوزون بالجنّة.

مَتاعٌ فِي الدُّنْيا: خبر لمبتدأ محذوف، أي: افتراؤهم متاع في الدّنيا يقيمون به رئاستهم في الكفر. أو حياتهم، أو تقلّبهم متاع.

أو مبتدأ خبره محذوف، أي: لهم تمتّع في الدّنيا.

ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ: بالموت، فيلقون الشّقاء المؤبّد.

ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ : بسبب كفرهم.

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ: خبره مع قومه.

إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ: عظم عليكم وشقّ.

مَقامِي: نفسي، كقولك: فعلت كذا لمكان فلان. أو كوني وإقامتي بينكم مدّة مديدة. أو قيامي على الدّعوة.

وَ تَذْكِيرِي: إيّاكم.

بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ: وثقت به.

فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ: فاعزموا عليه.

وَ شُرَكاءَكُمْ: أي: مع شركائكم. ويؤيّده القراءة، بالرّفع، عطفا على‏الضّمير المتّصل. وجاز من غير أن يؤكّد، للفصل.

و قيل : إنّه معطوف على «أمركم» بحذف المضاف، أي: وأمر شركائكم.

و قيل : إنّه منصوب بفعل محذوف، تقديره: وادعوا شركاءكم. وقد قرئ به.

و عن نافع : «فاجمعوا» من الجمع. والمعنى: أمرهم بالعزم أو الاجتماع على قصده والسّعي في إهلاكه على أيّ وجه يمكنهم، ثقة باللّه وقلّة مبالاة بهم.

ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ: في قصدي.

عَلَيْكُمْ غُمَّةً: مستورا، واجعلوه ظاهرا مكشوفا. من غمّه: إذا ستره.

أو ثمّ لا يكن عليكم حالكم غمّا إذا أهلكتموني وتخلّصتم من ثقل مقامي وتذكيري.

في تفسير عليّ بن إبراهيم - رحمه اللَّه-: لا تغتمّوا.

ثُمَّ اقْضُوا: أدّوا.

إِلَيَّ: ذلك الأمر الّذي تريدون لي.

و قرئ : «ثمّ افضوا» بالفاء، أي: انتهوا إليّ بشرّكم، أو ابرزوا إليّ. من أفضى: إذا خرج إلى الفضاء.

وَ لا تُنْظِرُونِ : ولا تمهلوني.

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ: أعرضتم عن تذكيري.

فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ: يوجب تولّيكم لثقله عليكم واتّهامكم إيّاي لأجله، أو يفوتني لتولّيكم.

إِنْ أَجْرِيَ: ما ثوابي على الدّعوة والتّذكير.

إِلَّا عَلَى اللَّهِ: لا تعلّق له بكم يثيبني به، آمنتم أو تولّيتم.

وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : المنقادين لحكمه، لا أخالف أمره ولا أرجو غيره.

فَكَذَّبُوهُ: فأصرّوا على تكذيبه بعد ما ألزمهم الحجّة وبيّن أنّ تولّيهم ليس إلّالعنادهم وتمردّهم، لا جرم حقّت عليهم كلمة العذاب.

فَنَجَّيْناهُ: من الغرق.

وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ.

قيل : وكانوا ثمانين.

وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ: من الهالكين به.

وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا: بالطّوفان.

فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ : تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن كذّب الرّسول، وتسلية له.

ثُمَّ بَعَثْنا: أرسلنا.

مِنْ بَعْدِهِ: من بعد نوح.

رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ: كلّ رسول إلى قومه.

فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ: بالمعجزات الواضحة، المثبتة لدعواهم.

فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا: فما استقام لهم أن يؤمنوا، لشدّة شكيمتهم في الكفر وخذلان اللَّه إيّاهم.

بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ.

قيل : أي: بسبب تعوّدهم تكذيب الحقّ وتمرّنهم عليه قبل بعثة الرّسل.

و في الأخبار : أنّ المراد: في الذّرّ.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين عن  محمّد بن إسماعيل، عن صالح بن عقبة، عن عبد اللَّه بن عقبة ، عن عبد اللَّه بن محمّد الجعفيّ وعقبة جميعا، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- خلق الخلق. فخلق من أحبّ ممّا أحبّ، وكان ما أحبّ أن خلقه من طينة الجنّة. وخلق من أبغض ممّا أبغض، أن خلقه من طينة النّار. ثمّ بعثهم في الظّلال.

فقلت: وأي شي‏ء الظّلال؟فقال: ألم تر إلى ظلّك في الشّمس شيئا، وليس بشي‏ء؟ ثمّ بعث منهم النّبيّين، فدعوهم إلى الإقرار باللّه- عزّ وجلّ-. وهو قوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.

ثمّ دعوهم إلى الإقرار بالنّبيّين، فأقرّ بعضهم [و أنكر بعض‏] . ثمّ دعوهم إلى ولايتنا فأقرّ بها، واللَّه، من أحبّ وأنكرها من أبغض. وهو قوله: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ.

ثمّ قال أبو جعفر- عليه السّلام-: كان التّكذيب ثمّة .

و في تفسير العيّاشي : عن زرارة وحمران، عن أبي جعفر وأبي عبد اللَّه- عليهما السّلام- قالا: إنّ اللَّه خلق [الخلق‏] ، وهم  أظلّة. فأرسل رسوله محمّدا- صلّى اللَّه عليه وآله- فمنهم من آمن به ومنهم من كذّبه.

عن أبي بصير ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قوله: ثُمَّ بَعَثْنا- إلى قوله- مِنْ قَبْلُ.

قال: بعث اللَّه الرّسل إلى الخلق وهم كذبوا به من قبل في أصلاب الرّجال وأرحام النّساء. فمن صدّق حينئذ، صدّق بعد ذلك. ومن كذّب حينئذ، كذّب بعد ذلك.

 [كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ : بخذلانهم، لانهماكهم في الضّلال واتّباع المألوف. وفي أمثال ذلك دليل على أنّ الأفعال واقعة بقدرة اللَّه- تعالى- وكسب العبد. وقد مرّ تحقيق ذلك‏] .

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ: من بعد هؤلاء الرّسل.

مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا: بالآيات التّسع.

فَاسْتَكْبَرُوا: عن اتّباعهما.

وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ : معتادين الإجرام. فلذلك تهاونوا برسالة ربّهم،و اجترءوا على ردّها.

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا: وعرفوه بتظاهر المعجزات القاهرة المزيلة للشّكّ.

قالُوا: من فرط تمرّدهم.

إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ : ظاهر أنّه سحر. أو فائق في فنّه، واضح فيما بين إخوانه.

قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ: إنّه لسحر. فحذف محكي القول، لدلالة ما قبله عليه. ولا يجوز أن يكون أَ سِحْرٌ هذا لأنّهم بتّوا القول، بل هو استئناف بإنكار ما قالوه. اللّهمّ إلّا أن يكون الاستفهام فيه للتّقرير، والمحكي مفهوم قولهم.

و يجوز أن يكون معنى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ: أ تعيبونه. من قولهم: فلان يخاف القالة، كقوله: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ فيستغني عن المفعول.

وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ : من تمام كلام موسى. للدّلالة على أنّه ليس بسحر، فإنّه لو كان سحرا لاضمحلّ ولم يبطل سحر السّحرة، ولأنّ العالم بأنّه لا يفلح السّاحر لا يسحر.

أو من تمام قولهم، إن جعل أَ سِحْرٌ هذا محكيا، كأنّهم قالوا: أ جئتنا بالسّحر تطلب به الفلاح وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ.

قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا: لتصرفنا عن الحقّ.

و «اللّفت» و«الفتل» إخوان.

عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا: من عبادة الأصنام.

وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ: الملك فيها. سمّي بها لاتّصاف الملوك بالكبرياء، أو التّكبّر على النّاس باستتباعهم.

وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ : بمصدّقين فيما جئتما به.

وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ وقرأ  حمزة والكسائيّ: «بكلّ سحّار».

عَلِيمٍ : حاذق فيه.فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ