سورة الفرقان الآية 1-20

سورة الفرقان مكّيّة وهي سبع وسبعون آية بسم الله الرحمن الرحيم‏

في كتاب ثواب الأعمال ، بإسناده عن أبي الحسن- عليه السّلام- قال: يا ابن عمّار! لا تدع قراءة سورة تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ. فإنّ من قرأها في كلّ ليلة، لم يعذّبه اللّه أبدا، ولم يحاسبه. وكان منزله في الفردوس الأعلى.

و في مجمع البيان : أبيّ بن كعب، قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: من قرأ سورة الفرقان، بعث يوم القيامة وهو مؤمن. أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.

 

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ. تكاثر خيره. من البركة، وهي كثرة الخير. أو: تزايد على كلّ شي‏ء، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله. فإنّ البركة تتضمّن معنى الزّيادة. وترتيبه على تنزيل القرآن، لما فيه من كثرة الخير، أو لدلالته على تعاليه.

أو: دام. من بروك الطّير على الماء. ومنه: البركة، لدوام الماء فيها. وهو لا يستعمل إلّا للّه، ولا يتصرّف فيه.

و الفرقان: مصدر فرق بين الشيئين: إذا فصل بينهما. سمّي به القرآن، لفصله بين الحقّ والباطل بتقريره، أو المحقّ والمبطل بإعجازه، أو لكونه مفصولا بعضه عن بعض في‏الإنزال.

و في كتاب علل الشّرايع  بإسناده إلى [عبد اللّه بن‏]»

 يزيد بن سلام أنّه سأل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فقال له: لم سمّي الفرقان فرقانا؟ قال: لأنّه متفرّق الآيات والسّور، أنزلت في غير الألواح، وغيره- من الصّحف والتّوراة والإنجيل والزّبور- أنزلت كلّها جملة في الألواح والورق.

و الحديث طويل: أخذت منه موضع الحاجة .

و قرئ : «على عباده». وهم: الرّسول- صلّى اللّه عليه وآله- وأمّته. كقوله: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ . أو: الأنبياء، على أنّ الفرقان اسم جنس للكتب السّماويّة.

لِيَكُونَ: العبد، أو الفرقان.

لِلْعالَمِينَ: للجنّ والإنس.

نَذِيراً : منذرال. أو: إنذارا. كالنّكير بمعنى الإنكار.

و هذه الجملة وإن لم تكن معلومة، لكنّها لقوّة دليلها، أجريت مجرى المعلوم، وجعلت صلة.

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ:

بدل من الأوّل، أو مدح، مرفوع أو منصوب.

وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً: كزعم النّصارى.

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ: كقول الثّنويّة.

أثبت له الملك مطلقا. ونفى ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه. ثمّ نبّه على ما يدلّ عليه، فقال:

وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ: أحدثه إحداثا، مراعي فيه التّقدير حسب إرادته، كخلقه الإنسان من موادّ مخصوصة وصور وأشكال معيّنة.فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً : فقدّره وهيّأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال، كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم والنّظر والتّدبير واستنباط الصّنائع المتنوّعة ومزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك: أو: فقدّره للبقاء إلى أجل مسمّى.

و قد يطلق الخلق لمجرّد الإيجاد، من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فيكون المعنى:

و أوجد كلّ شي‏ء فقدّرة في إيجاده، حتّى لا يكون متفاوتا.

و في عيون الأخبار،  بإسناده إلى حمدان بن سليمان، قال: كتبت إلى الرّضا- عليه السّلام- أسأله عن أفعال العباد، أ مخلوقة أم غير مخلوقة.

فكتب- عليه السّلام-: أفعال العباد مقدّرة في علم اللّه- تعالى- قبل خلق العباد بألفي عام.

و فيه ، في باب ما كتبه الرّضا- عليه السّلام- للمأمون من محض الإسلام وشرائع الدّين: وإنّ أفعال العباد مخلوقة للّه- تعالى- خلق تقدير، لا خلق تكوين. واللّه خالق كلّ شي‏ء. ولا نقول بالجبر والتّفويض.

و فيه ، عن الرّضا- عليه السّلام- بإسناده، قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- قدّر المقادير، ودبّر التّدابير، قبل أن يخلق آدم بألفي عام.

و في كتاب الخصال  مرفوع إلى عليّ- عليه السّلام- قال: الأعمال على ثلاثة أحوال: فرائض، وفضائل، ومعاصي. فأمّا الفرائض، فبأمر اللّه، وبرضا اللّه، وبقضاء اللّه وتقديره ومشيئته وعلمه- عزّ وجلّ. وأمّا الفضائل، فليس  بأمر اللّه، ولكن برضا اللّه، وبقضائه ، [و بقدر اللّه‏]  بمشيئة اللّه، وبعلم اللّه. وأمّا المعاصي، فليست بأمر اللّه، ولكن بقضاء اللّه، وبقدر اللّه، وبمشيئته وبعلمه. ثمّ يعاقب عليها.

عن الأعمش ، عن جعفر بن محمّد- عليهما السّلام- قال: هذه شرائع الدّين‏- إلى أن قال- عليه السّلام-: وأفعال العباد مخلوقة، خلق تقدير، لا خلق تكوين. واللّه خالق كلّ شي‏ء. ولا نقول بالجبر والتّفويض.

و في أصول الكافي : عليّ بن محمّد بن عبد اللّه، عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عن أبيه، عن محمّد بن سليمان الدّيلميّ، عن عليّ بن إبراهيم الهاشميّ، قال:

 

سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر- عليه السّلام- يقول: لا يكون شي‏ء إلّا ما شاء اللّه، وأراد، وقدّر، وقضى:

قلت: ما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل.

قلت: ما معنى قدّر؟ قال: تقدير الشّي‏ء من طوله وعرضه.

قلت: ما معنى قضى؟ قال: إذا قضى، أمضاه. فذلك الّذي لا مردّ له.

عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرّحمن، عن أبان، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: شاء وأراد وقدّر وقضى؟ قال: نعم.

قلت: وأحبّ؟ قال: لا.

قلت: وكيف شاء وأراد وقدّر وقضى ولم يجبّ؟ قال: هكذا خرج إلينا.

الحسين  بن محمّد  [عن معلّى بن محمّد] ، قال: سئل العالم- عليه السّلام-:

كيف علم اللّه؟ قال:

علم، وشاء، وأراد، وقضى، وقدّر ، وأمضى. فأمضى ما قضى، وقضى ما قدّر.

و قدّر ما أراد. فبعلمه كانت المشيئة. وبمشيئته كانت الإرادة. وبإرادته كان التّقدير.

و بتقديره كان القضاء. وبقضائه كان الإمضاء. والعلم متقدّم على المشيّة، والمشيئة ثانية، والإرادة ثالثة، والتّقدير واقع على القضاء بالإمضاء.

فللّه- تبارك وتعالى- البداء فيما علم، متى شاء، وفيما أراد لتقدير الأشياء. فإذا وقع القضاء بالإمضاء، فلا بداء.

فالعلم في المعلوم قبل كونه. والمشيئة في المشاء قبل عينه. والإرادة في المراد قبل‏

قيامه. والتّقدير لهذه المعلومات، قبل تفصيلها وتوصيلها عيانا ووقتا.

و القضاء بالإمضاء، هو المبرم من المفعولات، ذوات الأجسام المدركات بالحواسّ، من ذوي لون وريح ووزن وكيل، وما دبّ ودرج من إنس وجنّ وطير وسباع، وغير ذلك ممّا يدرك بالحواسّ. فللّه- تبارك وتعالى- فيه  البداء، ممّا لا عين له. فإذا وقع العين المفهوم المدرك، فلا بداء.

و اللّه يفعل ما يشاء. فبالعلم علم الأشياء قبل كونها. وبالمشيئة عرف صفاتها وحدودها، وأنشأها قبل إظهارها. وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها. وبالتّقدير قدر أقواتها، وعرف أوّلها وآخرها. وبالقضاء أبان للنّاس أماكنها، ودلّهم عليها. وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها. وذلك تقدير العزيز العليم.

و في كتاب التّوحيد ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه يقول- عليه السّلام-: لا حاجة به إلى شي‏ء ممّا خلق، وخلقه جميعا يحتاجون  إليه. وإنّما خلق الأشياء من غير حاجة ولا سبب، اختراعا وابتداعا.

و بإسناده  إلى عبد الرّحمن العزرميّ ، [عن أبيه عبد الرحمن‏]  بإسناده، رفعه إلى من قال: سمعت رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يقول: قدّر اللّه المقادير، قبل أن يخلق السّموات والأرض، بخمسين ألف سنة.

و بإسناده  إلى عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام- عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ- عليهم السّلام-، قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ اللّه- عزّ وجلّ- قدّر المقادير، ودّبر التّدابير، قبل أن يخلق آدم بألفي عام.

و بإسناده  إلى أبي بصير، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال: أفعال العباد مخلوقة، خلق تقدير، لا خلق تكوين. ومعنى ذلك أنّ اللّه- تبارك وتعالى- لم يزل عالما بمقاديرها قبل كونها.و بإسناده  إلى عبد الأعلى، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل، في آخره قال- عليه السّلام-: اللّه خالق الأشياء [لا من شي‏ء]  كان.

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى أبي إسحاق اللّيثيّ ، عن الباقر- عليه السّلام- حديث طويل، وفيه يقول- عليه السّلام-: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- لم يزل عالما قديما. خلق الأشياء لا من شي‏ء. ومن زعم أنّ اللّه- عزّ وجلّ- خلق الأشياء من شي‏ء، فقد كفر. لأنّه لو كان ذلك الشّي‏ء الّذي خلق منه الأشياء، قديما معه في أزليّته وهويّته، كان ذلك الشّي‏ء أزليّا. بل خلق اللّه- عزّ وجلّ- الأشياء كلّها، لا من شي‏ء.

و في أصول الكافي  خطبة لأمير المؤمنين- عليه السّلام- وفيها: وكلّ صانع شي‏ء، فمن شي‏ء صنع. واللّه لا من شي‏ء صنع ما خلق.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني محمّد بن عيسى، عن عبيد، عن يونس قال:

 

قال الرّضا- عليه السّلام-: تدري ما التّقدير؟ قلت: لا. قال: هو وضع الحدود، من الآجال والأرزاق والبقاء والفناء. تدري ما القضاء؟ قلت: لا. قال: هو إقامة العين.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً:

لمّا تضمّن الكلام إثبات التّوحيد والنّبوّة، أخذ في الرّدّ على المخالفين فيهما.

لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ:

لأنّ عبدتهم ينحتونهم، ويصوّر ونهم.

وَ لا يَمْلِكُونَ: ولا يستطيعون.

لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا: دفع ضرّ وَلا نَفْعاً: ولا جلب نفع.

وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً : ولا يملكون إماتة أحد وإحياءه أوّلا، وبعثه ثانيا.و من كان كذلك، فبمعزل  عن الألوهيّة، لعرائه عن لوازمها واتّصافه بما ينافيها.

و فيه تنبيه على أنّ الإله، يجب أن يكون قادرا على البعث والجزاء.

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ: كذب مصروف عن وجهه:

افْتَراهُ: اختلقه.

وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ:

قيل : أي اليهود، فإنّهم يلقون إليه أخبار الأمم، وهو يعبّر عنها بعبارته.

و قيل : جبر  ويسار وعداس. وقد سبق في قوله : إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ- إِفْكٌ افْتَراهُ، قال: الإفك الكذب. وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، يعنون أبا فكيهة وحبرا وعداسا وعابسا مولى حويطب.

فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً: وهو جعل الكلام المعجز مختلقا متلقّفا من اليهود.

وَ زُوراً : بنسبة ما هو بري‏ء منه إليه.

و أتى وجاء، يطلقان بمعنى فعل، فيعدّيان تعديته.

وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ: ما سطّره المتقدّمون.

اكْتَتَبَها: كتبها لنفسه. أو: استكتبها.

و قرئ  على البناء للمفعول، لأنّه أمّيّ، وأصله: اكتتبها كاتب له. فحذف اللّام وأفضى الفعل إلى الضّمير، فصار: اكتتبها إيّاه كاتب. ثمّ حذف الفاعل، وبني الفعل للضّمير، فاستتر فيه.

فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا : ليحفظها، فإنّه أمّيّ لا يقدر أن يكرّر من الكتاب. أو: ليكتب.

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لأنّه أعجزكم عن آخركم، بفصاحته وتضمّنه أخبارا عن مغيبات مستقبلة وأشياء مكنونة، لا يعلمها إلّا عالم الأسرار. فكيف تجعلونه أساطير الأوّلين!؟إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ، فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون، مع كمال قدرته عليها واستحقاقكم أن يصبّ عليكم العذاب صبّا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : ثمّ حكى- عزّ وجلّ- أيضا وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا يعني القرآن، إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ، قالوا: إن هذا الّذي يقرؤه رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله- ويخبرنا به، إنّما يتعلّمه من اليهود ويكتبه من علماء النّصارى، ويكتب عن رجل يقال له ابن قبيطة وينقله عنه بالغداة والعشي فحكى- سبحانه وتعالى - قولهم وردّ عليهم. فقال- جلّ ذكره-: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ- إلى قوله:- بُكْرَةً وَأَصِيلًا. فردّ اللّه- عزّ وجلّ- عليهم فقال:

قُلْ لهم- يا محمّد-: أَنْزَلَهُ الله الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وقوله- عزّ وجلّ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فهو قول النّضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة.

وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ: ما لهذا الّذي يزعم الرّسالة- وفيه استهانة وتهكّم- يَأْكُلُ الطَّعامَ كما نأكل!؟

وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ: يطلب المعاش، كما نمشي!؟

و المعنى: إن صحّ دعواه، فما باله لم يخالف حاله  حالنا!؟ وذلك لعمههم وقصور نظرهم على المحسوسات. فإنّ تميّز الرّسل عمّن عداهم، ليس بأمور جسمانيّة، وإنّما هو بأحوال نفسانيّة. كما أشار إليه بقوله - تعالى-: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.

لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً : ليعلم صدقه بتصديق الملك!؟

أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ، فيستظهر به، ويستغني عن تحصيل المعاش!؟

أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها!؟

هذا على سبيل التّنزّل، أي إن لم يلق إليه كنز، فلا أقلّ أن يكون له بستان، كماللدّهاقين والمياسير، فيتعيّش بريعه.

وَ قالَ الظَّالِمُونَ:

وضع الظّالمون موضع ضميرهم، تسجيلا عليهم بالظّلم فيما قالوه.

إِنْ تَتَّبِعُونَ: ما تتّبعون.

إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً : سحر، فغلب على عقله.

و قيل:  ذا سحر، وهو الرّئة، أي بشرا لا ملكا.

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللّه- عن أبي محمّد الحسن العسكريّ- عليه السّلام- أنّه قال: قلت لأبي، عليّ بن محمّد- عليهما السّلام-: هل كان رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- يناظر اليهود والمشركين إذا عاتبوه ويحاجّهم؟ قال: مرارا كثيرة. وذلك أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- كان قاعدا ذات يوم بمكّة، بفناء الكعبة. فابتدأ عبد اللّه بن أبي أميّة المحزوميّ، فقال: يا محمّد [صلّى اللّه عليه وآله‏]! لقد ادّعيت دعوى عظيمة، وقلت مقالا هائلا! زعمت أنّك رسول ربّ العالمين ، وما ينبغي لربّ العالمين وخالق الخلق أجمعين، أن يكون مثلك رسوله بشرا مثلنا، تأكل كما نأكل، وتمشي في الأسواق كما نمشي!؟ فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: اللّهمّ أنت السّامع لكلّ صوت، والعالم بكلّ شي‏ء، تعلم ما قاله عبادك. فأنزل اللّه عليه: يا محمّد وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ- إلى قوله: مَسْحُوراً.

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ، أي: قالوا فيك الأقوال الشّاذّة، واخترعوا لك الأحوال النّادرة.

فَضَلُّوا عن الطّريق الموصل إلى معرفة خواصّ النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-، والمميّز بينه وبين المتنبيّ، فخبطوا خبط عشواء.

فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا : إلى القدح في نبوّتك، أو إلى الرّشد والهدى.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا محمّد بن عبد اللّه، عن أبيه، عن محمّد بن الحسين، عن ابن سنان ، عن عمّار بن مروان، عن منخّل بن جميل الرّقيّ ، عن جابر بن يزيد الجعفيّ، قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: نزل جبرئيل على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- بهذه الآية هكذا: «و قال الظّالمون لآل محمّد- عليهم السّلام- حقّهم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى ولاية عليّ- عليه السّلام-». وعليّ- عليه السّلام- هو السّبيل.

حدّثني محمّد بن همّام،  عن جعفر بن محمّد بن مالك، قال: حدّثني محمّد بن المثنى ، عن أبيه، عن عثمان بن زيد، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر- عليه السّلام- بمثله.

 

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه- في تفسيره: حدّثنا محمّد بن القاسم، عن أحمد بن محمّد السّيّاريّ، عن محمّد بن خالد، عن محمّد بن عليّ الصّيرفيّ، عن محمّد بن فضيل، عن أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ- عليهما السّلام- أنّه قرأ: «و قال الظّالمون لآل محمّد حقّهم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً. يعنون محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله- فقال اللّه- عزّ وجلّ- لرسوله: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ إلى ولاية عليّ- عليه السّلام- سبيلا». وعليّ هو السّبيل.

تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ في الدّنيا.

خَيْراً مِنْ ذلِكَ: ممّا قالوا. ولكن أخرّه إلى الآخرة، لأنّه خير وأبقى.

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ:

بدل من «خيرا».

وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً :

عطف على محلّ الجزاء.

و قراء  ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بالرّفع. لأنّ الشّرط إذا كان ماضيا، جاز في جزائه الجزم والرّفع، كقوله:         وإن أتاه خليل يوم مسألة             يقول لا غائب مالي ولا حرم

 ويجوز أن يكون استئنافا بوعده، ما يكون له في الآخرة.

و قرئ  بالنّصب على أنّه جواب بالواو.

و

في كتاب الاحتجاج  للطّبرسي- رحمه اللّه- متّصلا بقوله إلى قوله: مَسْحُوراً:

ثمّ قال اللّه تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ثمّ قال: يا محمّد تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً. فقال له رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-:

يا عبد اللّه! أمّا ما ذكرت من أنّي آكل الطّعام كما تأكلون، وزعمت أنّه لا يجوز لأجل هذا أن أكون للّه رسولا، فإنّما الأمر للّه، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو محمود.

و ليس لك- ولا لأحد- الاعتراض بلم وكيف. ألا ترى أنّ اللّه كيف أفقر بعضا وأغنى بعضا!؟ وأعزّ بعضا وأذلّ بعضا!؟ وأصحّ بعضا وأسقم بعضا!؟ وشرّف بعضا ووضع بعضا!؟ وكلّهم ممّن يأكل الطّعام! ثمّ ليس للفقراء أن يقولوا: لم أفقرتنا وأغنيتهم!؟ ولا للوضعاء أن يقولوا: لم [وضعتنا وشرّفتهم!؟ ولا للزّمناء  والضّعفاء أن يقولوا: لم أزمنتنا وأضعفتنا وصحّحتهم!؟

و لا للأذلّاء أن يقولوا: لم‏]  أذللتنا وأعززتهم!؟ ولا لقباح الصّور أن يقولوا: لم أقبحتنا  وجمّلتهم!؟

بل إن قالوا ذلك، كانوا على ربّهم رادّين، وله في أحكامه منازعين، وبه كافرين.

و لكان جوابه لهم: أنا الملك الخافض الرّافع، المغني المفقر، المعزّ المذلّ، المصحّح المسقم. وأنتم العبيد، ليس لكم إلّا التّسليم لي والانقياد لحكمي. فإن سلّمتم، كنتم عبادا مؤمنين.  وإن‏أبيتم، كنتم بي كافرين، وبعقوباتي من الهالكين.

ثمّ قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: وأمّا قولك: «ما أنت إلّا رجل مسحور»، فكيف أكون كذلك، وقد تعلمون أنّي في صحّة التّميّز والعقل فوقكم!؟ فهل جرّبتم عليّ- مذ نشأت إلى أن استكملت أربعين سنة- خزية، أو ذلّة، أو كذبة، أو خيانة، أو خطأ من القول، أو سفها من الرّأي!؟ أ تظنّون أنّ رجلا يعتصم طول هذه المدّة بحول نفسه وقوّتها، أو بحول اللّه وقوّته؟ وذلك ما قال اللّه: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

و في إرشاد المفيد  بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة، عن عليّ- عليه السّلام- قال:

 

قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إنّ للّه- تعالى- قصرا»

 من ياقوت أحمر، لا يناله إلّا نحن وشيعتنا. وسائر النّاس منه بريئون.

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ، فقصرت أنظارهم على الحطام الدّنيويّة، وظنّوا أنّ الكرامة إنّما هي بالمال، فطعنوا فيك لفقرك. أو: فلذلك كذّبوك، لا لما تمحّلوا  من المطاعن الفاسدة. أو: فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب، ويصدّقونك بما وعد اللّه لك في الآخرة؟ أو:

فلا تعجب من تكذيبهم إيّاك، فإنّه أعجب منه.

وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً : نارا شديدة الإسعار.

و قيل : هو اسم لجهنّم، فيكون صرفه باعتبار المكان.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا أحمد بن عليّ قال: حدّثني الحسين بن أحمد، عن أحمد بن هلال، عن عمرو  الكلبيّ، عن أبي الصّامت قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّ اللّيل والنّهار اثنتا عشرة ساعة. وإنّ عليّ بن أبي طالب- صلوات اللّه عليه- أشرف ساعة من اثنتي عشرة ساعة. وهو قول اللّه- عزّ وجلّ-: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً.

إِذا رَأَتْهُمْ، أي: إذا كانت بمرأى منهم.كقوله- صلّى اللّه عليه وآله-: «لا تتراءى ناراهما»

، أي: لا تتقاربان، بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز. والتّأنيث، لأنّه بمعنى النّار أو جهنّم.

مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هو أقصى ما يمكن أن يرى منه.

و في مجمع البيان : إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، أي مسيرة مائة عام.

عن السّدّيّ والكلبيّ.

و قال أبو عبد اللّه - عليه السّلام-: من مسيرة سنة.

سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً : صوت تغيّظ.

شبّه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره، وهو صوت يسمع من جوفه.

قيل:  إنّ الحياة، لمّا لم تكن مشروطة [عندنا]  بالبيّنة، أمكن أن يخلق اللّه فيها حياة، فترى وتتغيّظ وتزفر. وهذا بناء على مذهب الأشاعرة.

و قيل : إنّ ذلك لزبانيتها، فنسب إليها على حذف المضاف.

وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً: في مكان.

و «منها» بيان تقدّم، فصار حالا.

ضَيِّقاً: لزيادة العذاب، فإنّ الكرب مع الضّيق والرّوح مع السّعة. ولذلك وصف اللّه الجنّة بأنّ عرضها السّموات والأرض.

و في مجمع البيان : وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً. و

في الحديث:

قال- عليه السّلام- في هذه الآية: والّذي نفسي بيده إنّهم يستكرهون في النّار، كما يستكره الوتد في الحائط.

مُقَرَّنِينَ: قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسّلاسل.

دَعَوْا هُنالِكَ: في ذلك المكان ثُبُوراً : هلاكا. أي: يتمنّون الهلاك وينادونه، فيقولون. يا ثبورا! تعال، فهذا حينك! لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً:

أي يقال لهم ذلك. وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً ، لأنّ عذابكم أنواع كثيرة،كلّ نوع منها ثبور لشدّته. أو لأنّه يتجدّد، كقوله - تعالى-: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ. أو لأنّه لا ينقطع، فهو في كلّ وقت ثبور.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إذا أراد اللّه أن يبعث الخلق، أمطر السّماء على الأرض أربعين صباحا، فاجتمعت الأوصال ونبتت اللّحوم.

و قال: أتى جبرئيل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- فأخذ بيده، وأخرجه إلى البقيع. فانتهى به إلى قبر. فصوّت بصاحبه، فقال: قم بإذن اللّه! فخرج منه رجل أبيض الرّأس واللّحية، يمسح التّراب عن وجهه، وهو يقول: الحمد للّه، واللّه أكبر. فقال جبرئيل: عد بإذن اللّه! ثمّ انتهى به إلى قبر آخر، فقال: قم بإذن اللّه! فخرج منه رجل مسودّ الوجه، وهو يقول: يا حسرتاه! يا ثبوراه! ثمّ قال له جبرئيل: عد إلى ما كنت فيه بإذن اللّه. فقال: يا محمّد! هكذا يحشرون يوم القيامة. فالمؤمنون يقولون. هذا القول. وهؤلاء يقولون ما ترى.

و في أمالي شيخ الطّائفة - قدّس سرّه- بإسناده إلى كثير بن طارق قال: سألت زيد بن عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- عن قول اللّه- تعالى- لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً.

فقال زيد: يا كثير، إنّك رجل صالح ولست بمتّهم. وإنّي أخاف عليك أن تهلك.

إنّ كلّ إمام جائر، فإنّ أتباعهم إذا أمر بهم إلى النّار، نادوا باسمه، فقالوا: يا فلان! يا من أهلكنا! هلمّ الآن، فخلّصنا ممّا نحن فيه! ثمّ يدعون بالويل والثّبور. فعندها يقال لهم:

لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً.

قال زيد: حدّثني أبي، عن أبيه- عليهم السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- لعليّ بن أبي طالب- عليه السّلام-:- أنت- يا عليّ!- وأصحابك في الجنّة. [أنت- يا عليّ!- وأصحابك في الجنّة].

 

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وَإِذا أُلْقُوا مِنْها، أي: فيها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ.

قال: مقيّدين بعضهم مع بعض. دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً.

قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ:

الإشارة إلى العذاب. والاستفهام والتّفضيل والتّرديد، للتّقريع مع التّهكّم. أو إلى الكنز والجنّة، والرّاجع إلى الموصول محذوف.

و إضافة الجنّة إلى الخلد للمدح، أو للدّلال على خلودها، أو التّمييز عن جنّات الدّنيا.

كانَتْ لَهُمْ في علم اللّه أو اللّوح- أو لأنّ ما وعده اللّه في تحقّقه كالواقع- جَزاءً على أعمالهم بالوعد، وَمَصِيراً : ينقلبون إليه.

و لا يمنع كونها جزاء لهم، أن يتفضّل بها على غيرهم برضاهم، مع جواز أن يراد بالمتّقين من يتّقي الكفر والتّكذيب، لأنّهم في مقابلتهم.

لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ: ما يشاءونه من النّعيم.

و لعلّه تقصر همم كلّ طائف على ما يليق برتبته من النّعيم، إذ الظّاهر أنّ النّاقص لا يدرك شيئا [ممّا يدركه الكامل‏]  بالتّشهّي. وفي تنبيه على أنّ كلّ المرادات لا تحصل إلّا في الجنّة.

خالِدِينَ:

حال من أحد ضمائرهم.

كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا .

الضّمير في «كان» ل «ما يشاءون». والوعد: الموعود. أي: كان ذلك موعودا، حقيقا بأن يسأل ويطلب. أو مسؤولا، سأله النّاس في دعائهم: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ، أو الملائكة بقولهم: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ.

و ما في «على» من معنى الوجوب، لامتناع الخلف في وعده. ولا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز فإنّ تعلّق الإرادة بالموعود، مقدّم على الوعد الموجب للإنجاز.

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ للجزاء.و قرئ  بكسر الشّين.

و قرأ  ابن كثير ويعقوب وحفص بالياء.

وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ:

يعمّ كلّ معبود سواه. واستعمال «ما» إمّا لأنّ وضعه أعمّ. ولذلك يطلق لكلّ شبح يرى ولا يعرف. أو لأنّه أريد به الوصف، كأنّه قيل: ومعبوديهم. أو لتغليب الأصنام، تحقيرا. أو اعتبارا لغلبة عبّادها. أو يخصّ الملائكة وعزيرا والمسيح، بقرينة السّؤال والجواب. أو الأصنام، ينطقها اللّه أو تتكلّم بلسان الحال، كما قيل في كلام الأيدي والأرجل.

فَيَقُولُ:

أي للمعبودين. وهو على تلوين الخطاب.

و قرأ  ابن عامر بالنّون.

أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ  لإخلالهم الصّحيح، وإعراضهم عن المرشد النّصيح!؟

و هو استفهام تقريع وتبكيت للعبدة. وأصله: «أ أضللتم أم ضلّوا»، فغيّر النّظم ليلي حرف الاستفهام المقصود بالسّؤال، وهو المتولّي للفعل دونه، لأنّه لا شبهة فيه، وإلّا لما توجّه العتاب. وحذف صلة «ضلّ» للمبالغة.

قالُوا سُبْحانَكَ:

تعجّبا ممّا قيل لهم، لأنّهم إمّا ملائكة، أو أنبياء معصومون، أو جمادات لا تقدر على شي‏ء. أو إشعارا بأنّهم الموسومون بتسبيحه وتوحيده. فكيف يليق بهم إضلال عبيده. أو تنزيها للّه عن الأنداد.

ما كانَ يَنْبَغِي لَنا: يصحّ لنا.

أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ، للعصمة، أو لعدم القدرة. فكيف يصحّ لنا أن ندعو غيرنا أن يتولّى أحدا دونك!؟

و قرئ : «أن نتّخذ»، على البناء للمفعول. من اتّخذ الّذي له مفعولان. كقوله‏تعالى : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا. ومفعوله الثّاني «من أولياء». و«من» للتّبعيض.

و على الأوّل، مزيدة لتأكيد النّفي.

وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ بأنواع النّعم وطول أعمارهم بعد موت الأنبياء، فاستغرقوا في الشّهوات.

حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ المنزل على الأنبياء.

وَ كانُوا قَوْماً بُوراً : هالكين فاسدين.

مصدر وصف به. ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع. أو جمع بائر كعائذ وعوذ.

فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ:

التفات إلى العبدة بالاحتجاج والإلزام، على حذف القول. والمعنى: قد كذّبكم المعبودون.

بِما تَقُولُونَ: في قولكم: إنّهم آلهة، وهؤلاء أضلّونا.

و الباء بمعنى «في»، أو مع المجرور بدل من الضّمير.

و عن ابن كثير  بالياء، أي: كذّبوكم بقولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا.

فَما تَسْتَطِيعُونَ:

أي المعبودون.

و قرأ  حفص بالتّاء على خطاب العابدين.

صَرْفاً: دفعا للعذاب عنكم.

و قيل : حيلة، من قولهم «إنّه ليتصرّف» أي يحتال. وَلا نَصْراً يعينكم عليه.

وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ، أيّها المكلّفون.

نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً ، أي: النّار.

و الشّرط، وإن عمّ كلّ من كفر أو فسق، لكنّه في اقتضاء الجزاء، مقيّد بعدم المزاحم وفاقا، وهو التّوبة والإحباط بالطّاعة.

وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ:

أي: إلّا رسلا إنّهم. فحذف الموصوف، لدلالة «المرسلين» عليه. وأقيمت الصّفةمقامه: كقوله - تعالى-: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ. ويجوز أن تكون حالا اكتفى فيها بالضّمير.

و هو جواب لقولهم: ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ.

و إذا قرى: «يمشّون» كان معناه تمشّيهم حوائجهم، أو النّاس.

و في مجمع البيان : وروي عن عليّ- عليه السّلام-: «و يمشّون في الأسواق» بضمّ الياء وفتح الشّين المشدّدة.

وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ، أيّها النّاس.

لِبَعْضٍ فِتْنَةً: ابتلاء.

و من ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء، والمرسلين بالمرسل إليهم. ومناصبتهم لهم العداوة وإيذائهم لهم. وهو تسلية لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- على ما قالوه بعد نقضه .

أَ تَصْبِرُونَ، علّة للجعل. والمعنى: وجعلنا بعضكم لبعض فتنة، لنعلم أيّكم يصبر. نظيره قوله :

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.

أو حثّ على الصّبر، على ما افتتنوا به.

وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً .

قيل : بمن يصبر، أو بالصّواب، فيما يبتلي به وغيره.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه-: حدّثنا محمّد بن همّام، عن محمّد بن إسماعيل العلويّ، عن عيسى بن داود [النجّار]  قال: حدّثني مولاي أبو الحسن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن أبي جعفر- عليهم السّلام- قال: جمع رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن، والحسين- عليهم السّلام- وأغلق عليه وعليهم الباب، وقال:

يا أهلي وأهل اللّه! إنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقرأ عليكم السّلام. وهذا جبرئيل معكم‏في البيت، يقول: [إنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقول‏]:  إنّي قد جعلت عدوّكم لكم فتنة، فما تقولون؟

قالوا: نصبر- يا رسول اللّه-! لأمر اللّه، وما نزل من قضائه. حتّى نقدم على اللّه- عزّ وجلّ- ونستكمل جزيل ثوابه. فقد سمعناه يعد الصّابرين الخير كلّه.

فبكى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- حتّى سمع نحيبه  من خارج البيت.

فنزلت هذه الآية: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أنّهم سيصبرون، أي: سيصبرون  كما قالوا- صلوات اللّه عليهم.