سورة الفرقان الآية 21-40

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ: لا يأملون.

لِقاءَنا، بالخير، لكفرهم بالبعث. أو: لا يخافون لقاءنا بالشّرّ، على لغة تهامة وهذيل يضعون الرّجاء موضع الخوف، إذا كان معه جحد. لأنّ من رجا شيئا خاف فوته.

فإنّه إذا لم يخف، كان يقينا. ومن خاف شيئا، رجا للخلاص منه. فوضع أحدهما موضع الآخر.

لَوْ لا: هلّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ، فيخبروننا بصدق محمّد- صلّى اللّه عليه وآله-.

و قيل : فيكونون رسلا إلينا.

أَوْ نَرى رَبَّنا، فيأمرنا بتصديقه واتّباعه.

لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ، حيث طلبوا إنزال الملائكة عليهم، كما على الأنبياء، واعتقدوا اللّه شيئا يجوز رؤيته مثلهم.

وَ عَتَوْا: وتجاوزوا الحدّ في الظّلم.

عُتُوًّا كَبِيراً : بالغا أقصى مراتبه، حيث عاينوا المعجزات القاهرة، فأعرضوا عنها.

و اللّام جواب قسم محذوف. وفي الاستئناف بالجملة، حسن وإشعار بالتّعجّب من استكبارهم وعتوّهم.

يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ: ملائكة الموت أو العذاب.

و «يوم» نصب باذكر، أو بما دلّ عليه.لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ، فإنّه بمعنى: يمنعون البشرى، أو يعدمونها.

و «يومئذ» تكرير، أو خبر. و«للمجرمين» تبيين، أو خبر ثان، أو ظرف لما يتعلّق به اللّام، أو ل «بشرى»، إن قدّرت منوّنة غير مبنيّة مع «لا» فإنّها لا تعمل.

و «للمجرمين»، إمّا عامّ يتناول حكمه حكمهم من طريق البرهان- ولا يلزم من نفي البشرى لعامّة المجرمين حينئذ، نفي البشرى بالعفو والشّفاعة في وقت آخر- وإمّا خاصّ، وضع موضع ضمير «هم»، تسجيلا على جرمهم، وإشعارا بما هو المانع للبشرى، والموجب لما يقابلها.

وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً :

عطف على المدلول، أي: ويقول الكفرة حينئذ هذه الكلمة، استعاذة وطلبا من اللّه أن يمنع لقاءهم. وهي ممّا كانوا يقولون عند لقاء عدوّ أو هجوم مكروه.

أو يقولها الملائكة، بمعنى: حراما محرّما عليكم الجنّة، أو البشرى.

و قرئ : «حُجرا» بالضّمّ. وأصله الفتح، غير أنّه لمّا اختصّ بموضع مخصوص  غيّر، كقعدك  وعمرك. ولذلك لا يتصرّف فيه، ولا يظهر ناصبه. ووصفه ب «محجورا»، للتّأكيد، كقولهم: موت مائت.

وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ، أي:

و قصدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم- كقري الضّيف وصلة الرّحم وإعانة الملهوف- فأحبطناه لفقد ما هو شرط اعتباره.

و هو تشبيه حالهم وأعمالهم بحال قوم استعصوا سلطانهم، فقدم إلى أشيائهم، فمزّقها وأبطلها، ولم يبق لها أثرا.

و الهباء، غبار يرى في شعاع الشّمس، يطلع من الكوّة. من الهبوة، وهي الغبار. و«منثورا»- أي: مفرّقا- صفته. شبّه به عملهم المحبط بالهباء، في حقارته وعدم نفعه، ثمّ بالمنثور منه في انتشاره- بحيث لا يمكن نظمه- أو تفرّقه نحو أغراضهم الّتي كانوا يتوجّهون به نحوها. أو مفعول ثالث، من حيث إنّه كالخبر بعد الخبر، كقوله:  كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وأمّا قوله- عزّ وجلّ-: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً، فإنّه‏

حدّثني أبي، عن النّضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: يبعث اللّه- عزّ وجلّ- يوم القيامة قوما بين أيديهم نور كالقباطيّ ، ثمّ يقول له: كن هباء منثورا. ثمّ قال: أما واللّه- يا أبا حمزة!- إنّهم كانوا ليصومون ويصلّون، ولكن كانوا إذا عرض لهم شي‏ء من الحرام، أخذوه. وإذا ذكر  لهم شي‏ء من فضل أمير المؤمنين- عليه السّلام- أنكروه. قال: والهباء المنثور، هو الّذي تراه يدخل البيت في الكوّة مثل شعاع الشّمس.

و في علل الشّرائع ، بإسناده إلى أبي إسحاق اللّيثيّ، عن الباقر- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه أبو إسحاق بعد أن قال: وأجد من أعدائكم ومن ناصبيكم  من يكثر من الصّلاة ومن الصّيام. ويخرج الزّكاة. ويتابع بين الحّج والعمرة ويحضّ  على الجهاد. ويأثر على البرّ وعلى صلة الأرحام . ويقضي حقوق إخوانه. ويواسيهم من ماله.

و يتجنّب شرب الخمر والزّنا واللّواط وسائر الفواحش. وأرى النّاصب- على ما هو عليه ممّا وصفته من أفعالهم- لو أعطي أحد [هم‏]  ما بين المشرق والمغرب ذهبا وفضّة، أن يزول عن محبّة الطّواغيت وموالاتهم إلى موالاتكم ما فعل ولا زال، ولو ضربت خياشيمه  بالسّيوف فيهم، ولو قتل فيهم، ما ارتدع ولا رجع. وإذا سمع أحدهم منقبة لكم وفضلا، اشمأزّ من ذلك وتغيّر لونه ورئي كراهة ذلك في وجهه، بغضا لكم ومحبّة لهم ! قال: فتبسّم الباقر- عليه السّلام- ثمّ قال : يا إبراهيم، هاهنا هلكت العاملة النّاصبة: تَصْلى ناراً حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ.  ومن ذلك قال- عزّ وجلّ-:وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً.

و في بصائر الدّرجات : أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن منصور [البرزج‏]  عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سمعته يقول: إنّ أعمال العباد تعرض كلّ خميس على رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-. فإذا كان يوم عرفة، هبط الرّبّ- تبارك وتعالى-. وهو قول اللّه- تبارك وتعالى-: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً. قال: أما واللّه أن كانت أعمالهم أشدّ بياضا من القباطيّ، ولكن فقلت: جعلت فداك، أفعال من هذه؟

فقال: أعمال مبغضينا ومبغضي شيعتنا.

و في أصول الكافي : ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً.

قال: أما واللّه أن كانت أعمالهم أشدّ بياضا من القباطيّ، ولكن كانوا إذا عرض لهم حرام  لم يدعوه.

و في الكافي : عليّ بن محمّد، عن صالح بن أبي حمّاد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله [- عزّ وجلّ-: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً قال: أن كانت أعمالهم لأشدّ بياضا من القباطيّ، فيقول اللّه‏] - عزّ وجلّ- لها: كوني هباء. وذلك أنّهم كانوا إذا شرع لهم الحرام، أخذوه.

أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا:

قيل : مكانا  يستقرّ فيه في أكثر الأوقات للتّجالس والتّحادث.

وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا :

قيل : مكانا يرد  إليه للاسترواح بالأزواج والتّمتّع بهنّ، تجوّزا له من مكان‏القيلولة على التّشبيه. أو لأنّه لا يخل من ذلك غالبا، إذ لا نوم في الجنّة، وفي أحسن رمز إلى ما يتزيّن به مقيلهم من حسن الصّور وغيره من المحاسن.

و يحتمل أن يراد بأحدهما المصدر أو الزّمان، إشارة إلى أنّ مكانهم وزمانهم أطيب ما يتخيّل من الأمكنة والأزمنة. والتّفضيل، إمّا لإرادة الزّيادة مطلقا، أو بالإضافة إلى ما للمترفين في الدّنيا.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عمرو بن عثمان، وعدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد بن [أبي نصر والحسن بن عليّ، جميعا عن أبي جميلة مفضّل بن صالح، عن جابر عن عبد الأعلى، وعليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن‏]  عيسى، عن يونس، عن إبراهيم بن  عبد الأعلى، عن سويد بن غفلة، قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من أيّام الدّنيا، وأوّل يوم من أيّام الآخرة، مثّل له ماله وولده وعمله. فيلتفت إلى ماله، فيقول: واللّه، إنّي كنت عليك لحريصا  شحيحا.

فما لي عندك؟ فيقول: خذ منّي كفنك.

قال: فيلتفت إلى ولده، فيقول: واللّه إنّي كنت لكم محبّا [و إنّي كنت لكم محاميا]  فما ذا لي عندكم؟ فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك، نواريك فيها.

قال: فيلتفت إلى عمله، فيقول: واللّه، إنّي كنت فيك لزاهدا وإن كنت عليّ لثقيلا. فما ذا عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك ويوم نشرك، حتّى أعرض أنا وأنت على ربّك.

قال: فإن كان للّه وليّا، أتاه أطيب النّاس ريحا، وأحسنهم رياشا، وأحسنهم منظرا.  فيقول: أبشر بروح وريحان وجنّة نعيم، ومقدمك خير مقدم. فيقول له: من أنت؟

فيقول: أنا عملك الصّالح. ارتحل من الدّنيا إلى الجنّة. وإنّه ليعرف غاسله، ويناشد حامله أن يعجّله.

فإذا أدخل قبره، أتاه ملكا القبر، يجرّان أشعارهما، ويخدّان الأرض بأقدامهما.أصواتهما كالرّعد القاصف. وأبصارهما كالبرق الخاطف. فيقولان له: من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ فيقول: اللّه ربّي. وديني الإسلام. ونبيّي محمّد- صلّى اللّه عليه وآله وسلم-. فيقولان له: ثبّتك اللّه فيما تحبّ وترضى. وهو قول اللّه - عزّ وجلّ-: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.

ثمّ يفسحان له في قبره مدّ بصره. ثمّ يفتحان له بابا إلى الجنّة. ثمّ يقولان له: نم قرير العين، نوم الشّابّ النّاعم! فإن اللّه- عزّ وجلّ- يقول: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

و فيه دلالة على أنّ المستقرّ والمقيل في القبر، و«يومئذ» يوم دخوله.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ- أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا. فبلغنا- واللّه أعلم- أنّه إذا استوى أهل النّار إلى النّار، لينطلق بهم قبل أن يدخلوا النّار، فيقال لهم:

ادخلوا إلى ظلّ ذي ثلاث شعب من دخان النّار.  فيحسبون أنّها الجنّة. ثمّ يدخلون النّار أفواجا، وذلك نصف النّهار. وأقبل أهل الجنّة فيما اشتهوا من التّحف، حتّى يأتوا  منازلهم في الجنّة نصف النّهار. فذلك قول اللّه- عزّ وجلّ-: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.

و في مجمع البيان : روي عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-، قال: لا ينتصف ذلك اليوم ، حتّى يقيل أهل الجنّة في الجنّة، وأهل النّار في النّار.

وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ:

أصله تتشقّق، فحذفت التّاء وأدغمها  ابن كثير ونافع وابن عامر ويعقوب.

بِالْغَمامِ:

قيل : بسبب طلوع الغمام منها. وهو الغمام المذكور في قوله: 

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ.

و قيل : المعنى تتشقّق السماء وعليها الغمام . كما يقال: ركب الأمير  بسلاحه وخرج بثيابه، أبي: وعليه سلاحه وثيابه.

وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا : في ذلك الغمام بصحائف أعمال العباد.

و قرأ  ابن كثير: «و ننزّل».

و قرئ:  «و نزلت»، «و أنزل» [ «و نزل»] ، «و نزّل الملائكة»  بحذف نون الكلمة.

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ: الثّابت له. لأنّ كلّ ملك يبطل يومئذ، ولا يبقى إلّا ملكه، فهو الخبر. و«للرّحمن» صلته، أو تبيين. و«يومئذ» معمول الملك، لا «الحقّ»، لأنّه متأخّر. أو صفة ، والخبر «يومئذ» أو «للرّحمن».

وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً : شديدا.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه-: حدّثنا محمّد بن الحسن بن عليّ، عن أبيه الحسن، عن أبيه، عليّ بن أسباط، قال: روى أصحابنا في قول اللّه- عزّ وجلّ- الْمُلْكُ  يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ. قال: إنّ الملك للرّحمن، اليوم، وقبل اليوم، وبعد اليوم. ولكن إذا اقام القائم- عليه السّلام- لم يعبد إلّا اللّه- عزّ وجلّ-.

وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ من فرط الحسرة.

قيل : عضّ اليدين وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها، كنايات عن الغيظ والحسرة لأنّها من روادفهما.

و قيل : يأكل يديه حتّى تذهبا إلى المرفقين. ثمّ تنبتان. ولا يزال هكذا، كلّما نبتت يده، أكلها ندامة على ما فعل.و المراد بالظّالم الجنس.

و

قيل : عقبة بن أبي معيط. كان يكثر مجالسة النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-. فدعا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- إلى ضيافته. فأبى أن يأكل طعامه، حتّى ينطق بالشّهادتين. ففعل. وكان أبيّ بن خلف صديقه. فعاتبه وقال: صبأت!؟ فقال: لا، ولكن الى أن لا يأكل  من طعامي وهو في بيتي. فاستحييت منه، فشهدت له. فقال: لا أرضى منك إلّا أن تأتيه فتطأ قفاه، وتبزق في وجهه.

فوجده ساجدا في دار النّدوة. ففعل ذلك.  فقال- صلّى اللّه عليه وآله-: لا ألقاك خارجا من مكّة، إلّا علوت رأسك بالسّيف. فأسر يوم بدر. فأمر عليّا بقتله .

و طعن- صلّى اللّه عليه وآله- أبيّا بأحد في المبارزة. فرجع إلى مكّة ومات.

و قال الضّحّاك : لمّا بزق عقبة في وجه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عاد بزاقه في وجهه، فأحرق خدّيه. فكان أثر ذلك فيه، حتّى مات.

يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا : طريقا إلى النّجاة، أو:

طريقا واحدا- وهو طريق الحقّ- ولم تتشعّب بي طرق الضّلالة.

و في شرح الآيات الباهرة:  روى محمّد بن إسماعيل- رحمه اللّه- بإسناده عن جعفر بن محمّد الطّيّار، عن أبي الخطّاب، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال: واللّه، ما كنّى اللّه في كتابه حتّى قال: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا. وإنّما هي في مصحف عليّ: يا ويلتى ليتني لم أتّخذ الثّاني خليلا. وسيظهر يوما.

و يؤيّده ما رواه محمّد بن جمهور ، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن رجل، عن أبي جعفر- عليه السّلام- أنّه قال: يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا. قال: يقول الأوّل للثّاني.

يا وَيْلَتى:

و قرئ  بالياء، على الأصل.لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا : يعني: من أضلّه.

و فلان كناية عن الأعلام. كما أنّ هنا كناية عن الأجناس.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه-: حدّثنا أحمد بن القاسم، عن أحمد بن محمّد السّيّاريّ، عن محمّد بن خالد، عن حمّاد، عن حريز، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال: قوله- عزّ وجلّ-: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يعني عليّ بن أبي طالب.

و بالإسناد المذكور» عن محمّد بن خالد، عن محمّد بن عليّ، عن محمّد بن فضيل، عن أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا: يعني عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام-.

و جاء في تفسير الإمام العسكري - عليه السّلام- بيان لذلك. قال العالم- عليه السّلام- عن أبيه، عن جدّه رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- قال: ما من عبد ولا أمة أعطى بيعة أمير المؤمنين عليّ- عليه السّلام- في الظّاهر ونكثها في الباطن وأقام على نفاقه، إلّا وإذا جاءه ملك الموت لقبض روحه، تمثّل له إبليس وأعوانه، وتمثّلت له النّيران وأصناف عقاربها لعينيه وقلبه ومقاعده من مضايقها. وتمثّل له أيضا الجنان ومنازله فيها، لو كان بقي على إيمانه ووفى ببيعته. فيقول له ملك الموت:

انظر إلى ملك  الجنان الّتي لا يقادر قدر سرّائها وبهجتها وسرورها إلّا اللّه ربّ العالمين، كانت معدّة لك. فلو كنت بقيت على ولايتك لأخ محمّد رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- كان إليها مصيرك يوم فصل القضاء. ولكن نكثت وخالفت، فتلك النّيران وأصناف عذابها وزبانيتها وأفاعيها الفاغرة أفواهها وعقاربها النّاصبة أذنابها وسباعها الشّائلة مخالبها وسائر أصناف عذابها، هو لك وإليها مصيرك.

فعند ذلك يقول: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا وقبلت ما أمرني به والتزمت من موالاة عليّ  ما ألزمني.

لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ:قيل:  عن ذكر اللّه أو كتابه، أو موعظة الرّسول أو كلمة الشّهادة.

بَعْدَ إِذْ جاءَنِي: إذ تمكّنت منه.

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللّه- عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل، يقول فيه- عليه السّلام- لبعض الزّنادقة- وقد قال: ثمّ وارى أسماء  من اغترّ وفتن خلقه وضلّ وأضلّ. وكنّى عن أسمائهم في قوله: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي. فمن هذا الظّالم الّذي لم يذكر من اسمه ما ذكر من أسماء الأنبياء؟-:

و لم يكنّ عن أسماء الأنبياء تبّجرا  وتعذّرا، بل تعريفا لأهل الاستبصار. إنّ الكناية عن أسماء ذوي الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن، ليست من فعله- تعالى- وإنّها من فعل المغيّرين والمبدّلين الّذين جعلوا القرآن عضين واعتاضوا الدّنيا من الدّين.

وَ كانَ الشَّيْطانُ، يعني: الخليل المضلّ. أو: إبليس، لأنّه حمله على ضلالته ومخالفة الرّسول. أو: كلّ من تشيّطن من جنّ وإنس.

لِلْإِنْسانِ خَذُولًا : يواليه، حتّى يؤدّيه إلى الهلاك، ثمّ يتركه ولا ينفعه.

فعول من الخذلان.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا محمّد بن همام قال: حدّثنا جعفر بن محمّد بن مالك، عن محمّد بن حمدان، عن محمّد بن سنان، عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللّه - عزّ وجلّ- وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ، قال: الغمام أمير المؤمنين- عليه السّلام-. وقوله يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. قال أبو جعفر- عليه السّلام-: يقول: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا عليّا وليّا. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا، يعني: الثّاني. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي، يعنيّ الولاية. وَكانَ الشَّيْطانُ وهو الثّاني لِلْإِنْسانِ خَذُولًا.و في روضة الكافي  خطبة لأمير المؤمنين- عليه السّلام- وهي خطبة الوسيلة، يقول فيها- عليه السّلام-: فيّ مناقب لو ذكرتها، لعظم بها الارتفاع، فطال لها الاستماع. ولئن تقمّصها  دوني الأشقيان ، ونازعاني فيما ليس لهما بحقّ، وركباها ضلالة واعتقداها جهالة، فلبئس ما عليه وردا. ولبئس ما لأنفسهما مهّدا. يتلاعنان في دورهما ويتبّرأ كلّ (واحد)  منهما من صاحبه.

يقول لقرينه إذا التقيا: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ  فيجيبه الأشقى على رثوثة : يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا.

فأنا الذّكر الّذي عنه ضلّ، والسّبيل الّذي عنه مال، والإيمان الّذي به كفر، والقرآن الّذي إيّاه هجر، والدّين الّذي به كذّب، والصّراط الّذي عنه نكب.

 

و في تفسير العيّاشي : عن داود بن فرقد، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: لو قرئ القرآن كما أنزل، لألفيتنا فيه مسمّين.

عن إبراهيم بن عمر ، قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: [إنّ في القرآن ما مضى، وما يحدث، وما هو كائن. كانت فيه أسماء الرّجال، فألقيت. وإنما الاسم الواحد منه في وجوه.]  لا تحصى. يعرف ذلك الوصاة.

و في مجمع البيان : وقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: ليس رجل من قريش، إلّا وقد نزلت فيه آية أو آيتان تقوده إلى جنّة أو تسوقه إلى نار. تجري في من بعده. إن خيرا، فخير. وإن شرّا، فشرّ.

وَ قالَ الرَّسُولُ: محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- يومئذ، أو في الدّنيا بثّا إلى اللّه:يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي: قريشا .

اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً : بأن تركوه وصدّوا عنه. أو هجروا ولغوا فيه إذا سمعوه . أو زعموا أنّه هجر وأساطير الأوّلين. فيكون أصله: مهجورا فيه، فحذف الجارّ. ويجوز أن يكون بمعنى الهجر.

و في عيون الأخبار ، في باب العلل الّتي ذكر الفضل بن شاذان في آخرها أنّه سمعها من الرّضا- عليه السّلام- مرّة بعد مرّة وشيئا بعد شي‏ء: فإن قال : فلم أمروا بالقراءة في الصّلاة؟ قيل: لئلّا يكون القرآن مهجورا مضيّعا، وليكون محفوظا، فلا يضمحلّ ولا يجهل.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النّوفليّ عن السّكونيّ، عن أبي عبد اللّه، عن آبائه- عليهم السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أيّها النّاس- وذكر حديثا، وفيه يقول- صلّى اللّه عليه وآله-:

فإذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم، فعليكم بالقرآن! فإنّه شافع مشفّع وماحل مصدّق. ومن جعله أمامه، قاده إلى الجنّة. ومن جعله خلفه، ساقه إلى النّار هو الدّليل، يدلّ على خير سبيل.

و هو كتاب، فيه تفصيل وبيان وتحصيل: وهو الفصل ليس بالهزل. وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم. ظاهره أنيق وباطنه عميق. له نجوم وعلى نجومه نجوم. لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه. فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة. ودليل على المغفرة لمن عرف الصّفة.

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن سنان، عن أبي الجارود

 قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام- قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: أنا أوّل وافد على العزيز الجبّار يوم القيامة، وكتابه وأهل بيتي، ثمّ أمّتي. ثمّ أسألهم: ما فعلتم بكتاب اللّه وبأهل بيتي؟

أبو عليّ الأشعريّ ، عن بعض أصحابه، عن الخشّاب، رفعه، قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: لا واللّه! لا يرجع الأمر والخلافة إلى آل أبي بكر وعمر أبدا، ولا إلى بني أميّة أبدا، ولا في ولد طلحة والزّبير أبدا. وذلك أنّهم نبذوا القرآن، وأبطلوا السّنن، وعطّلوا الأحكام.

و قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: القرآن هدى من الضّلالة ، وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظّلمة، وضياء من الأحداث، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان من الفتن، وبلاغ من الدّنيا إلى الآخرة. وفيه كمال دينكم.

و ما عدل أحد من القرآن، إلّا إلى النّار.

ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن يعقوب الأحمر، قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّ عليّ دينا كثيرا، وقد دخلني ما كان القرآن يتفلّت  منّي. فقال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-:

القرآن: القرآن! إنّ الآية من القرآن والسّورة، لتجي‏ء يوم القيامة، حتّى تصعد ألف درجة، يعني في الجنّة. فتقول: لو حفظتني، لبلغت بك هاهنا.

أبو عليّ الأشعري،» عن الحسن بن عليّ بن عبد اللّه، عن العبّاس بن عامر، عن الحجّاج الخشّاب، عن أبي كهمس  الهيثم بن عبد اللّه  قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن رجل قرأ القرآن ثمّ نسيه. فرددت عليه ثلاثا: أ عليه فيه حرج؟

قال: لا.عليّ ، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: القرآن عهد اللّه إلى خلقه. فقد ينبغي للمسلم  أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كلّ يوم خمسين آية.

وَ كَذلِكَ: وكما جعلنا لك عدوّا من مشركي قومك، جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ: من كفّار قومهم، فاصبر كما صبروا.

و العدوّ يحتمل الواحد والجمع. والمعنى في جعله إيّاهم عدوّا لأنبيائه، أنّه- تعالى- أمر الأنبياء أن يدعوهم إلى الإيمان باللّه- تعالى- وترك ما ألفوه من دينهم ودين آبائهم، وإلى ترك عبادة الأصنام وذمّها. وكانت هذه أسبابا داعية إلى العداوة. فإذا أمرهم بها، فقد جعلهم عدوّا لهم.

وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً إلى طريق الحقّ وطريق قهرهم.

وَ نَصِيراً  لأوليائه في الدّنيا والآخرة على أعدائهم.

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللّه- عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه يقول- عليه السّلام- مجيبا لبعض الزّنادقة: وأمّا ما ذكرته من الخطاب الدّالّ على تهجين النّبيّ- عليه السّلام- والإزراء به والتّأنيب له- مع ما أظهره اللّه تبارك وتعالى في كتابه من تفضيله إيّاه على سائر أنبيائه- فإنّ اللّه- عزّ وجلّ- «جعل لكلّ نبيّ عدوّا من المشركين» كما قال في كتابه.

و بحسب جلالة منزلة نبيّنا- صلّى اللّه عليه وآله- عند ربّه، كذلك عظّم محنته لعدوّه الّذي عاذ منه في حال  شقاقه ونفاقه، كلّ أذى ومشقّة لدفع نبوّته وتكذيبه إيّاه وسعيه في مكارهه، وقصده لنقض كل ما أبرمه واجتهاده، ومن مالأه على كفره وعناده ونفاقه وإلحاده في إبطال دعواه وتغيير ملّته ومخالفة  سنّته.

فلم ير شيئا أبلغ في تمام كيده من تنفيرهم عن موالاة وصيّة وإيحاشهم منه، وصدّهم عنه وإغرائهم لعداوته  والقصد لتغيير  الكتاب الّذي جاء به، وإسقاط ما فيه من فضل‏ذوي الفضل وكفر ذوي الكفر منه [و ممّن وافقه على ظلمه وبغيه وشركه‏] .

و لقد علم اللّه ذلك منهم، فقال : إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا- إلى قوله عليه- عليه السّلام-:- وتركوا منه ما قدّروا أنّه لهم وهو عليهم، وزادوا فيه ما ظهر تناكره وتنافره [و علم اللّه أنّ ذلك يظهر ويبين، فقال: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ .

و انكشف لأهل الاستبصار عوارهم وإغراؤهم‏]  والذي بدا في الكتاب من الإزراء على النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- من فرية الملحدين.

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، أي: أنزل عليه. كخبره بمعنى أخبر. لئلّا يناقض قوله:

جُمْلَةً واحِدَةً: دفعة واحدة، كالكتب الثّلاثة.

و هو اعتراض لا طائل تحته. لأنّ الاعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو متفرّقا، مع أنّ للتّفريق فوائد. منها ما أشار إليه بقوله:

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ، أي: كذلك أنزلناه مفرّقا، لنقوّي بتفريقه فؤادك على حفظه وفهمه.

لأنّ حاله يخالف حال موسى وداود وعيسى، حيث كان أمّيّا، وكانوا يكتبون.

فلو ألقي عليه جمل تعنّى  بحفظه. ولأنّ نزوله بحسب الوقائع، يوجب مزيد بصيرة. ولأنّه إذا نزل منجمّا  وهو يتحدّى بكلّ نجم، فيعجزون عن معارضته زاد ذلك قوّة قلبه. ولأنّه إذا أتى به جبرئيل حالا بعد حال، ثبّت به فؤاده. ومنها معرفة النّاسخ والمنسوخ. إلى غير ذلك.

و «كذلك» صفة مصدر محذوف، والإشارة إلى إنزاله مفرّقا، فإنّه المدلول عليه بقوله: لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً. ويحتمل أن يكون من تمام كلام الكفرة ولذلك وقف عليه فيكون حالا، والإشارة إلى الكتب السّابقة. واللّام على الوجهين، متعلّق بمحذوف.

وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا : وقرأناه عليك شيئا بعد شي‏ء، على تؤدة وتمهّل.قيل : في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين. وأصل التّرتيل في الأسنان، وهو تفليجها.

و في مجمع البيان : روي عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: يا ابن عبّاس، إذا قرأت القرآن، فرتّله ترتيلا. قال: وما التّرتيل؟ قال: بيّنه تبيينا. ولا تنثره نثر الرّمل . ولا تهذّه هذّ الشّعر. قفوا عند عجائبه. وحرّكوا به القلوب. ولا يكون همّ أحدكم آخر السّورة.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ بن سعيد ، عن واصل بن سليمان، عن أبي عبد اللّه بن سليمان  قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: بيّنه تبيانا. ولا تهذّه هذّ الشّعر. ولا تنثره نثر الرّمل. ولكن أفرغوا  قلوبكم القاسية. ولا يكن همّ أحدكم آخر السّورة.

 

وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ: سؤال عجيب- كأنّه مثل في البطلان- يريدون به القدح في نبوّتك، إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ: الدّامغ له في جوابه.

وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً : وبما هو أحسن بيانا، أو معنى من سؤالهم. أو: لا يأتونك‏

بحال عجيبة يقولون: هلّا كانت هذه حاله» إلّا أعطيناك من الأحوال ما يحقّ لك في حكمتنا وما هو أحسن كشفا لما بعثت له.

الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ، أي: مقلوبين أو مسحوبين إليها. أو: متعلّقة قلوبهم بالسّفليّات، متوجّهة وجوههم إليها.

و في مجمع البيان : روى أنس قال: إنّ رجلا قال: يا نبيّ اللّه، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: إنّ الّذي أمشاه على رجلين  قادر على ان يمشيه على وجهه يوم القيامة.

أورده البخاريّ في الصّحيح.

و روي عنه بطريق العامّة أيضا  أنّه قال- صلّى اللّه عليه وآله-: يحشر النّاس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدّوابّ، وصنّف على الأقدام، وصنف على الوجوه.

و هو ذمّ منصوب أو مرفوع، أو مبتدأ خبره:

أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً، أي: منزلا ومصيرا.

وَ أَضَلُّ سَبِيلًا ، أي دينا وطريقا من المؤمنين.

و قيل : المفضّل عليه هو الرّسول- صلّى اللّه عليه وآله وسلم-. وعلى التّقديرين، فمعنى التّفضيل بحسب ما ظنّوه من أنّه والمؤمنين ضلّال وشرّ المكان. كأنّه قيل: إنّ حاملهم على هذه الأسئلة تحقير مكانه وتضليل سبيله . ولا يعلمون حالهم، ليعلموا أنّهم شرّ مكانا وأضلّ سبيلا.

و يحتمل أن يكون المعنى- واللّه أعلم- أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا من سائر الكفّار، بناء على ما سبق من الأخبار الدّالّة على أنّ المراد بهم منكر والولاية.

و وصف السّبيل بالضّلال، من الإسناد المجازيّ للمبالغة.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً - يؤازره في الدّعوة وإعلاء الكلمة.

و لا ينافي ذلك مشاركته في النّبوّة. لأنّ المشاركين في الأمر، متآزران عليه.فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، يعنى: فرعون وقومه.

فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً ، أي: فذهبا إليهم، فكذّبوهما، فدمّرناهم.

فاقتصر على حاشيتي القصّة، اكتفاء بما هو المقصود منها، وهو إلزام الحجة ببعثة الرّسول، واستحقاق التّدمير بالتّكذيب والتّعقيب بالحكم  لا الواقع.

و قرئ»

: «فدمّرتهم».

و في مجمع البيان : «فدمّرانّهم تدميرا» على التّأكيد بالنّون الثقيلة.

روي ذلك عن عليّ- عليه السّلام.

و عنه: «فدمّراهم». وهذا كأنّه أمر لموسى وهارون- عليهما السّلام- أن يدمّراهم.

وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ: كذّبوا نوحا ومن قبله، أو نوحا وحده. ومن كذّب نبيّا، فقد كدّب جميع الأنبياء.

أَغْرَقْناهُمْ بالطّوفان. وهو مجي‏ء السّماء بماء منهمر، وتفجّر الأرض عيونا، فالتقى الماء على أمر قد قدر .

وَ جَعَلْناهُمْ: وجعلنا إغراقهم أو قصّتهم.

لِلنَّاسِ آيَةً: عبره.

وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً .

يحتمل التّعميم والتّخصيص. فيكون وضعا للظّاهر، موضع المضمر لهم تظليما لهم.

وَ عاداً وَثَمُودَ:

عطف على «هم» في «جعلناهم»، أو على الظّالمين.

و قرئ : «ثمود» على تأويل القبيلة.

وَ أَصْحابَ الرَّسِّ:

قيل : قوم كانوا يعبدون الأصنام. فبعث اللّه إليهم شعيبا، فكذّبوه. فبيناهم حول‏الرّسّ- وهي البئر الغير المطويّة - فانهارت، فخسف بهم وبديارهم.

و قيل : قرية بفلج اليمامة، وكان فيها بقايا ثمود. فبعث إليهم نبيّ، فقتلوه. فهلكوا.

و قيل : الأخدود.

و قيل : بئر بأنطاكية، قتلوا فيها حبيب النّجّار.

و قيل : هم أصحاب حنظلة بن صفوان النّبيّ. ابتلاهم اللّه بطير عظيم، كان فيها من كلّ لون. وسمّوها عنقاء، لطول عنقها. وكانت تسكن جبلهم الّذي يقال له فتح  أو ضمخ  تنقضّ كلى صبيانهم، فتخطفهم إذا أعوزها الصّيد. ولذلك سمّيت مغربا. فدعا عليها حنظلة. فأصابتها الصّاعقة. ثمّ إنّهم قتلوه. فأهلكوا.

و قيل : إنّهم قوم كذّبوا نبيّهم ورسّوه، أي: دسّوه في بئر.

و في عيون الأخبار  بإسناده إلى [عبد السلام بن‏]  صالح الهرويّ قال: حدّثنا عليّ بن موسى الرّضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ- عليهم السّلام- قال: أتى عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- قبل مقتله بثلاثة أيّام، رجل من أشراف تميم يقال له عمر . فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن أصحاب الرّسّ، في أيّ عصر كانوا؟

و أين كانت منازلهم؟ ومن كان ملكهم؟ وهل بعث اللّه تعالى إليهم رسولا أم لا؟ وبماذا أهلكوا!؟ فإنّي أجد في كتاب اللّه- تعالى- ذكرهم، ولا أجد خبرهم.

فقال له عليّ- عليه السّلام-: لقد سألت  عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك.

و لا يحدّثك به أحد بعدي الّا عنّي. وما في كتاب اللّه- تعالى- آية، إلّا وأنا [أعرفها و]  أعرف تفسيرها، وفي أيّ مكان نزلت من سهل أو جبل، وفي أيّ وقت من ليل أو نهار. وإنّ هنا  لعلما جمّا- وأشار إلى صدره- ولكن طلّابه يسير. وعن قليل تندمون لو فقدتموني .كان من قصّتهم- با أخا تميم- أنّهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر ، يقال لها «شاه درخت» كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين، يقال لها «روشاب»  كانت أنبتت لنوح- عليه السّلام- بعد الطّوفان وإنّما سمّوا أصحاب الرّسّ، لانّهم رسّوا نبيّهم في الأرض، وذلك بعد سليمان بن داود- عليهما السّلام-.

و كانت لهم اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر، يقال له  الرّس من بلاد المشرق.

و بهم سمّي ذلك النّهر. ولم يكن يومئذ في الأرض نهر أغزر منه ولا أعذب منه، ولا قرى أكثر ولا أعمر منها. تسمّى إحداهنّ «آبان»، والثّانية «آذر» والثّالثة «دي» والرّابعة «بهمن» والخامسة «إسفندار» والسّادسة «فروردين» والسّابعة «أردي بهشت» والثّامنة «خرداد» والتّاسعة «مرداد» والعاشرة «تير» والحادية عشرة «مهر» والثّانية عشرة «شهريور».

و كانت أعظم مدائنهم «إسفندار». وهي التّي ينزلها ملكهم وكان يسمّى تركوذ  بن غابور بن يارش بن سار بن نمرود بن كنعان فرعون إبراهيم- عليه السّلام-. وبها العين والصّنوبرة.

و قد غرسوا في كلّ قرية منها، حبّة من طلع تلك الصّنوبرة. فنبتت الحبّة، وصارت شجرة عظيمة. وحرّموا ماء العين والأنهار، فلا يشربون منها والا أنعامهم. ومن فعل ذلك قتلوه، ويقولون: هو حياة آلهتنا، فلا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتها.

و يشربون هم وأنعامهم من نهر الرّس الّذي عليه قراهم. وقد جعلوا في كلّ شهر من السّنة في كلّ قرية، عيدا يجتمع إليه أهلها. فيضربون على الشّجرة الّتي بها كلّة  من حرير، فيها من أنواع الصّور. ثمّ يأتون بشياه وبقر، فيذبحونها قربانا للشّجرة، ويشعلون فيها النّيران بالحطب. فإذا سطع دخان تل الذّبائح وقتارها  في الهواء، وحال بينهم وبين النّظر إلى السّماء، خرّوا سجّدا للشّجرة  ويبكون ويتضرّعون إليها أن ترضى عنه.

فكان الشّيطان يجي‏ء فيحرّك أغصانها، ويصيح من ساقها صياح الصّبيّ: «إني

 قد رضيت عنكم عبادي، فطيبوا نفسا وقرّوا عينا». فيرفعون رؤوسهم عند ذلك. ويشربون الخمر ويضربون بالمعازف، ويأخذون الدّست بند. فيكون  على ذلك يومهم. ثمّ ينصرفون.

و إنّما سمّت العجم شهورها بآبان ماه وآذر ماه وغيرهما، اشتقاقا من أسماء تلك القرى، لقول أهلها بعضهم لبعض: هذا عيد شهر كذا، وعيد شهر كذا. حتّى إذا كان عيد [شهر]  قريتهم العظمى، اجتمع عليها صغيرهم وكبيرهم.

فضربوا عند الصّنوبرة والعين، سرادقا من ديباج عليه من أنواع الصّور له اثنا عشر بابا، كلّ باب لأهل قرية منهم. ويسجدون للصّنوبرة خارجا من السّرادق، ويقرّبون لها الذّبائح، أضعاف ما قرّبوا للشّجرة الّتي في قراهم. فيجي‏ء إبليس عند ذلك، فيحرّك الصّنوبرة تحريكا شديدا، ويتكلّم من جوفها كلاما جهوريّا، ويعدهم ويمنّيهم بأكثر ممّا وعدتهم ومنّتهم الشياطين كلّها. فيرفعون رؤوسهم من السّجود، وبهم من الفرح والنّشاط مالا يفيقون ولا يتكلّمون من الشّرب والعزف. فيكونون على ذلك اثني عشر يوما ولياليها بعدد أعيادهم سائر السّنة. ثمّ ينصرفون.

فلمّا طال كفرهم باللّه- عزّ وجلّ- وعبادتهم غيره، بعث اللّه- عزّ وجلّ- إليهم نبيّا من بني إسرائيل، من ولد يهودا بن يعقوب. فلبث فيهم زمانا [طويلا] ، يدعوهم إلى عبادة اللّه- عزّ وجلّ- ومعرفته وربوبيّته، فلا يتّبعونه.

فلمّا رأى شدّة تماديهم في الغيّ والضّلال، وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرّشد والنّجاح، وحضر عيد قريتهم العظمى، قال: «يا ربّ، إنّ عبادك أبوا إلّا تكذيبي والكفر بك. وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضرّ، فأيبس شجرهم أجمع. وأرهم قدرتك وسلطانك».

فأصبح القوم، وقد يبس شجرهم، فهالهم، ذلك وفظع بهم، وصاروا فرقتين: فرقة قالت: سحر آلهتكم هذا الرّجل الّذي زعم  أنّه رسول ربّ السّماء والأرض إليكم، ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى إلهه. وفرقة قالت: لا، بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرّجل، يعيبها ويقع فيها ويدعوكم إلى عبادة غيرها. فحجبت حسنها وبهاءها، لكي تغضبوا عليه

 فتنتصروا منه.

فأجمع رأيهم على قتله. فاتّخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه، ثمّ أرسلوها في قرار العين  إلى أعلى الماء واحدة فوق الأخرى، مثل البرابخ.  ونزحوا ما فيها من الماء. [ثمّ حفروا في قرارها بئرا ضيّقة المدخل عميقة. فأرسلوا فيها نبيّهم، وألقموا فاها صخرة عظيمة. ثمّ أخرجوا الأنابيب من الماء.]  وقالوا: نرجو الآن أن ترضى عنّا آلهتنا، إذا رأت أنّا قد قتلنا من كان يقع فيها ويصدّ عن عبادتها، ودفنّاه تحت كبيرها يتشفّى منه، فيعود لنا نورها ونضرتها  كما كان.

فبقوا عامّة يومهم، يسمعون أنين نبيّهم- عليه السّلام- وهو يقول: «سيّدي، قد ترى ضيق مكاني وشدّة كربي. فارحم ضعف ركني وقلّة حيلتي. وعجّل بقبض روحي.

و لا تؤخر إجابة دعوتي» حتّى مات- عليه السّلام-.

فقال اللّه- جلّ جلاله- لجبرئيل: «يا جبرئيل، أ يظنّ عبادي هؤلاء الّذين غرّهم حلمي، وأمنوا مكري، وعبدوا غيري، وقتلوا رسولي، أن يقوموا لغضبي، ويخرجوا من سلطاني!؟ كيف، وأنا المنتقم ممّن عصاني ولم يخش عقابي!؟ وإنّي حلفت بعزّتي لأجعلنّهم عبرة ونكالا للعالمين».

فلم يرعهم، وهم في عيدهم ذلك، إلّا بريح عاصف شديد الحمرة. فتحيّروا فيها وذعروا منها، وتضامّ بعضهم إلى بعض. ثمّ صارت الأرض من تحتهم حجر  كبريت يتوقّد، وأظلّتهم سحابة سوداء. فألقت عليهم كالقبّة جمرا يلتهب، فذابت أبدانهم [في النار] ، كما يذوب الرّصاص في النّار. فنعوذ باللّه- تعالى ذكره- من غضبه ونزول نقمته. ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم.

و في نهج البلاغة : قال- عليه السّلام-: أين أصحاب مدائن الرّسّ الّذين قتلوا النّبيّين وأطفؤوا  سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبّارين!؟و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمّد بن أبي حمزة وهشام وحفص، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه دخل عليه نسوة. فسألته  امرأة منهنّ عن السّحق. فقال: حدّها حدّ الزّاني. فقالت المرأة: ما ذكر اللّه- عزّ وجلّ- ذلك في القرآن فقال: بلى. فقالت: وأين هو؟ قال: هنّ أصحاب الرّسّ.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: دخلت امرأة مع مولاة لها على أبي عبد اللّه- عليه السّلام- فقالت: ما تقول في اللّواتي مع اللّواتي؟ قال: هنّ في النّار. إذا كان يوم القيامة أتي  بهنّ، فألبسن جلبابا من نار وخفّين من نار وقناعا من نار، وأدخل في أجوافهنّ وفروجهنّ أعمدة من نار ، وقذف بهنّ في النّار. فقال: أ ليس هذا في كتاب اللّه؟ قال: نعم. قالت: أين هو؟

قال: قوله وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ، فهنّ الرّسّيّات.

و في أصول الكافي : الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن محمّد بن عليّ قال:

 

أخبرني سماعة بن مهران قال: أخبرني الكلبيّ النّسّابة، قال: صرت إلى منزل جعفر بن محمّد- عليهما السّلام- فقرعت الباب. فخرج غلام له، فقال: أدخل يا أخا كلب! فو اللّه لقد أدهشني. فدخلت وأنا مضطرب. ونظرت، فإذا شيخ على مصلّى بلا مرفقة ولا بردعة . فابتدأني بعد أن سلّمت عليه. فقال لي: من أنت؟ فقلت- في نفسي-:

يا سبحان اللّه! غلامه يقول لي بالباب: ادخل يا أخا كلب، ويسألني المولى من أنت. فقلت له: أنا الكلبيّ النّسّابة.

فضرب بيده على جبهته، وقال: كذب العادلون باللّه، وضلّوا ضلالا بعيدا، وخسروا خسرانا مبينا. يا أخا كلب! إنّ اللّه- عزّ وجلّ- يقول: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. أ فتنسبها أنت؟ فقلت: لا، جعلت فداك.و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.

وَ قُرُوناً: وأهل أعصار.

قيل : القرن أربعون سنة.

و قيل : سبعون.

و قيل : مائة وعشرون سنة.

بَيْنَ ذلِكَ: إشارة إلى ما ذكر.

كَثِيراً ، لا يعلمها إلّا اللّه.

أي: وأهلكنا أيضا قرونا كثيرا بين عاد وثمود وأصحاب الرّسّ، على تكذيبهم.

وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ: بيّنّا له القصص العجيبة من قصص الأوّلين إنذارا. فلمّا أصرّوا، أهلكوا.

وَ كُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً : فتّتنا تفتيتا.

و منه: التّبر، لفتات الذّهب والفضّة. و«كلّ» الأوّل منصوب، بما دلّ عليه «ضربنا» كأنذرنا. والثّاني ب «تبّرنا» لأنّه فارغ له.

في كتاب معاني الأخبار : أبي- رحمه اللّه- قال: حدّثنا سعد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن خالد البرقيّ، عمّن ذكره، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قول اللّه- عزّ وجلّ- وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً: يعني: كسّرنا تكسيرا. [قال: وهي بالنبطية]

 

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أخبرنا أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن خالد، عن حفص  بن غياث، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله: وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً: يعني: كسّرنا تكسيرا. قال: هي لفظة  بالنّبطيّة.

وَ لَقَدْ أَتَوْا، يعني: قريشا، مرّوا مرارا في متاجرهم إلى الشّام عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ، يعني سدوم، عظمى قرى قوم لوط. أمطرت عليها الحجارة.في تفسير عليّ بن إبراهيم : في رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: وأمّا القرية الّتي أمطرت مطر السّوء، فهي سدوم، قرية قوم لوط. أمطر اللّه عليهم حجارة من سجّيل،  يعني: من طين.

أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها: في مرار مرورهم، فيتّعظون بما يرون فيها من آثار عذاب اللّه.

بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً  بل كانوا كفرة، لا يتوقّعون نشورا ولا عاقبة.

فلذلك لم ينظروا ولم يتّعظوا. فمرّوا بها كما مرّت بها ركائبهم. أو: لا يأملون نشورا، كما يأمله المؤمنون، طمعا في الثّواب. أو: لا يخافونه، على اللّغة التّهاميّة والهذيليّة.