سورة الأحزاب‏ الآية 61-73

مَلْعُونِينَ: نصب على الشّتم، أو الحال. والاستثناء شامل له- أيضا-، أي:

لا يجاورونك إلّا ملعونين.

و لا يجوز أن ينتصب عن قوله: أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا : لأنّ ما بعد كلمة الشّرط لا يعمل فيما قبلها.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وأمّا قوله- عزّ وجلّ-: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، أي: شكّ. وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ [فِيها إِلَّا قَلِيلًا. فإنّها]  نزلت في قوم منافقين كانوا في المدينة يرجفون برسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه‏

و آله وسلم- إذا خرج إلى بعض غزواته. يقولون: قتل وأسر. فيغتمّ المسلمون لذلك، ويشكون إلى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-. فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ- في ذلك لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ [وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، أي: شكّ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ‏]  ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا.، أي: نأمرك بإخراجهم من المدينة إلّا قليلا مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا.

و في رواية أبي الجارود : عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: مَلْعُونِينَ فوجبت عليهم اللّعنة بقول اللَّه بعد اللّعنة [أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا.] .

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ: مصدر مؤكّد، أي: سنّ اللَّه ذلك في الأمم الماضية، وهو أن يقتل الّذين نافقوا الأنبياء وسعوا في وهنهم بالإرجاف ونحوه أينما ثقفوا.

وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا : لأنّه لا يبدّلها، ولا يقدر أحد أن يبدّلها.

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ: عن وقت قيامها، استهزاء وتعنّتا، أي امتحانا.

قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ: لم يطلع عليه أحدا، لا ملكا ولا نبّيا.

وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً : شيئا قريبا، أو تكون السّاعة عن قريب. وانتصابه على الظّرف. ويجوز أن يكون التّذكير، لأنّ السّاعة في معنى اليوم. وفيه تهديد للمستعجلين وإسكات للمتعنّتين.

إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً : نارا شديدة الإيقاد.

خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا: يحفظهم.

وَ لا نَصِيراً : يدفع العذاب عنهم.

و في أصول الكافي : عليّ بن محمّد، عن بعض أصحابه، عن آدم بن إسحاق، عن عبد الرزّاق بن مهران، عن الحسين بن ميمون، عن محمّد بن سالم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام-: ولا يلعن اللَّه مؤمنا. قال اللَّه- عزّ وجلّ-: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ: تصرّف من جهة إلى جهة، كالّلحم يشوى بالنّار.

أو  من حال إلى حال.

و قرئ: «تقلّب»، بمعنى: تتقلّب. [و تقلّب.

و]  متعلّق الظّرف  يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا : فلن نبتلي بهذا العذاب.

وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، يعنون: قادتهم الّذين لقّنوهم الكفر.

و قرأ ابن عامر ويعقوب: «ساداتنا» على جمع الجمع، للدّلالة على الكثرة .

فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا : بما زيّنوه لنا.

رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ: مثلي ما آتيتنا منه. لأنّهم ضلّوا وأضلّوا.

وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً : كثير العدد.

و قرأ عاصم، بالياء، أي: لعنا هو أشدّ اللّعن وأعظمه .

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقال عليّ بن إبراهيم في قوله- عزّ وجلّ-: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ: فإنّها كناية عن الّذين غصبوا آل محمّد حقّهم. يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا.، يعني: في أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه. وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. وهما رجلان. والسّادة والكبراء، هما أوّل من بدأ بظلمهم وغصبهم. وقوله- عزّ وجلّ-: فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، أي: طريق الجنّة. والسّبيل:

أمير المؤمنين- عليه السّلام-.

و في مصباح شيخ الطّائفة- قدّس سرّه - خطبة لأمير المؤمنين- عليه السّلام- خطب بها يوم الغدير، وفيها يقول- عليه السّلام-: وتقرّبوا إلى اللَّه بتوحيده وطاعة من أمركم أن تطيعوه. ولا تمسكوا بعصم الكوافر، ولا يخلج بكم الغيّ ، فتضلّوا عن سبيل الرّشاد باتّباع أولئك الّذين ضلّوا وأضلّوا. قال اللَّه- عزّ من قائل- في طائفة ذكرهم بالذّمّ في كتابة: إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً.يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا:

فأظهر براءته من مقولهم، يعني: مؤدّاه ومضمونه.

قيل : وذلك أنّ قارون حرّض امرأة على قذفه بنفسها، فعصمه كما مرّ في القصص.

أو اتّهمه ناس بقتل هارون لمّا خرج معه إلى الطّور فمات هناك، فحملته الملائكة ومرّوا بهم حتّى رأوه غير مقتول. وقيل: أحياه اللَّه فأخبرهم ببراءته .

أو قذفوه بعيب في بدنه من بصر أو أدرة  لفرط تستّره حياء، فأطلعهم اللَّه على أنّه بري‏ء منه.

أو : نسبوه إلى السّحر والجنون والكذب من بعد ما رأوا الآيات، فبّرأه اللَّه منه.

وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً : ذا قربة ووجاهة. أو خطر عند اللَّه لا يسأل شيئا إلّا أعطاه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن النّضر بن سويد، عن صفوان، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: أنّ بني إسرائيل كانوا يقولون: ليس لموسى ما للرّجال.

و كان موسى إذا أراد الاغتسال، ذهب إلى موضع لا يراه فيه أحد من النّاس. فكان يوما يغتسل على شطّ نهر، وقد وضع ثيابه على صخرة، فأمر اللَّه- عزّ وجلّ- الصّخرة فتباعدت عنه حتّى نظر بنو إسرائيل إليه فعلموا أنّه ليس كما قالوا. فأنزل اللَّه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى (الآية).

أخبرنا الحسين بن محمّد ، عن معلى بن محمّد، عن أحمد بن النّضر، عن محمّد بن مروان رفعه إليهم- عليهم السّلام- قال: يا أيّها الّذين آمنوا لا تؤذوا رسول اللَّه في عليّ والأئمّة- صلوات اللَّه عليهم، كما آذوا موسى فبّرأه اللَّه ممّا قالوا.

و في مجمع البيان : واختلف فيما أوذي به موسى على أقوال:

أحدها،

أنّ موسى وهارون صعدا الجبل فمات هارون. فقالت بنو إسرائيل: أنت‏قتلته. فأمر اللَّه الملائكة، فحملته حتّى مرّوا به على بني إسرائيل، تكلّمت الملائكة بموته حتّى عرفوا أنّه قد مات وبرّأه اللَّه من ذلك. عن عليّ- عليه السّلام-.

و ثانيها،

أنّ موسى- عليه السّلام- كان حييّا ستيرا  يغتسل وحده. فقالوا: ما تستر  منّا إلّا لعيب بجلده، إمّا برص، وإمّا أدرة. فذهب مرّة يغتسل فوضع ثوبه على حجر، فمرّ الحجر بثوبه، فطلبه موسى فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرّجال خلقا، فبّرأه اللَّه ممّا قالوا. رواه أبو هريرة مرفوعا.

و في أمالي الصّدوق ، بإسناده إلى الصّادق- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام- لعلقمة: يا علقمة، إنّ رضا النّاس لا يملك، وألسنتهم لا تضبط. ألم ينسبوا موسى- عليه السّلام- إلى أنّه عنّين وآذوه، حتّى برّأه اللَّه ممّا قالوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ: في ارتكاب ما يكرهه، فضلا عمّا يؤذي رسوله.

وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً : قاصدا إلى الحقّ. من سدّ، يسدّ، سدادا، والمراد، النّهي عن ضدّه.

يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ: يوفّقكم للأعمال الصّالحة. أو يصلحها بالقبول والإثابة عليها.

وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ: ويجعلها مكفّرة باستقامتكم في القول والعمل.

و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن يونس قال:

 

قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام- لعبّاد بن كثير البصريّ الصّوفيّ: ويحك يا عبّاد، غرّك أن عفّ بطنك وفرجك. إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول في كتابه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ. اعلم أنّه لا يقبل  اللَّه- عزّ وجلّ- منك شيئا، حتّى تقول قولا عدلا.

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: في الأوامر والنّواهي.

فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً : يعيش في الدّنيا حميدا وفي الآخرة سعيدا.و في أصول الكافي : الحسين بن محمّد، عن معلى بن محمّد، عن عليّ بن أسباط، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ-:

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في ولاية عليّ والأئمّة  من بعده فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً. هكذا نزلت.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللَّه- عن أحمد بن القاسم، عن أحمد بن محمّد السّيّاريّ، عن محمّد بن عليّ بن أسباط، عن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- أنّه قال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في ولاية عليّ والأئمّة من بعده فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً.

إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [قيل : تقرير للوعد السّابق بتعظيم الطّاعة. وسمّاها أمانة من حيث أنّها واجبة الأداء.

و المعنى: أنّها لعظمة شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام  العظام وكانت ذات شعور وإدراك، لأبين أن يحملنها وأشفقن منها. وحملها الإنسان‏]»

 مع ضعف بنيته ورخاوة قوّته، لا جرم فاز الرّاعي لها والقائم بحقوقها بخير الدّارين.

إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً: حيث لم يف بها ولم يراع حقّها.

جَهُولًا : يكنه عاقبتها. وهذا وصف للجنس، باعتبار الأغلب.

و قيل : المراد بالأمانة، الطّاعة الّتي تعمّ الطّبيعية والاختياريّة. وبعرضها، استدعاؤها الّذي يعمّ طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره. وبجملها، الخيانة [فيها والامتناع عن أدائها. ومنه قولهم: حامل الأمانة ومحتملها، لمن لا يؤدّيها]  فتبرأ ذمّته. فيكون الإباء عنه إتيانا بما يمكن أن يتأتّى منه. والظّلم والجهالة، الخيانة والتّقصير.

و قيل : إنّه- تعالى- لمّا خلق [هذه الأجرام، خلق‏]  فيها فهما. وقال لها: إنّي‏فرضت فريضة، وخلقت جنّة لمن أطاعني فيها ونارا لمن عصاني.

فقلن: نحن مسخّرات على ما خلقتنا، لا نحتمل فريضة ولا نبتغي ثوابا ولا عقابا.

و لمّا خلق آدم، عرض عليه مثل ذلك فحمله. فكان ظلوما لنفسه بتحمّل [ما يشقّ عليها، جهولا بوخامة عاقبته .

و لعلّ المراد بالأمانة، العقل أو التّكليف وبعرضها عليهنّ، اعتبار بالإضافة إلى استعدادهنّ.]  وبإبائهنّ، الإباء الطّبيعيّ الّذي هو عدم اللّياقة والاستعداد. وبحمل الإنسان، قابليّته واستعداده لها. وكونه ظلوما جهولا، لما غلب عليه من القوّة الغضبيّة والشّهويّة.

و على هذا يحسن أن يكون علّة للحمل عليه فإنّ من فوائد العقل، أن يكون مهيمنا على القوّتين، حافظا لهما عن التّعدّي ومجاوزة الحدّ. ومعظم مقصود التّكليف تعديلهما وكسر سورتهما.

و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من الأخبار المتفرّقة، بإسناده إلى الحسين بن خالد قال: سألت عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام- عن قول اللَّه- عزّ وجلّ-: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها [وَ أَشْفَقْنَ مِنْها (الآية)]  فقال: الأمانة، الولاية. من ادّعاها بغير حقّ [، فقد]  كفر.

و في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده إلى محمّد بن سنان، عن المفضّل بن عمر قال:

 

قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: إنّ اللَّه- تبارك وتعالى- خلق الأزواج قبل الأجساد بألفي عام. فجعل أعلاها وأشرفها أرواح محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة - عليهم السّلام-. فعرضها على السّماوات والأرض والجبال، فغشيها نورهم.

فقال اللَّه- تبارك وتعالى- السّماوات والأرض والجبال: هؤلاء أحبّائي وأوليائي‏و حججي على خلقي وأئمّة بريّتي، ما خلقت خلقا هو أحبّ إليّ منهم. لهم ولمن تولّاهم خلقت جنّتي، ولمن خالفهم وعاداهم خلقت ناري. فمن ادّعى منزلتهم منّي ومحلّهم من عظمتي، عذّبته عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين، وجعلته مع المشركين في أسفل درك من ناري. ومن أقرّ بولايتهم ولم يدّع منزلتهم منّي ومعانهم من عظمتي، جعلته  معهم في روضات جنّاتي، وكان لهم فيها ما يشاءون عندي، وأبحتهم كرامتي، وأحللتهم جواري، وشفّعتهم في المذنبين من عبادي وإمائي. فولايتهم أمانة عند خلقي. فأيّكم يحملها بأثقالها ويدّعيها لنفسه ؟

فأبت السّماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، من ادّعاء منزلتها وتمنّي محلّها من عظمة ربّهم .

فلمّا أسكن اللَّه- عزّ وجلّ- آدم وزوجته الجنّة قال لهما : كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ، يعني: شجرة الحنطة فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ.

فنظر  إلى منزلة محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمة بعدهم- صلوات اللَّه عليهم- فوجداها أشرف منازل أهل الجنّة.

فقالا: ربّنا، لمن هذه المنزلة؟

فقال اللَّه- جل جلاله-: ارفعا رؤوسكما إلى ساق العرش .

فرفعا رؤوسهما، فوجدا أسماء  محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمة [بعدهم-]  عليهم السّلام- مكتوبة على ساق العرش بنور اللَّه الجبّار- جلّ جلاله.

فقالا: يا ربّنا، ما أكرم أهل هذه المنزلة عليك، وما أحبّهم إليك، وما أشرفهم لديك! فقال اللَّه- جلّ جلاله- لولاهم ما خلقتكما. هؤلاء خزنة علمي وأمنائي على سريّ. إيّاكما أن تنظر إليهم بعين الحسد وتتمنّيا  منزلتهم عندي ومحلّهم من كرامتي، فتدخلابذلك في نهي وعصياني فتكونا من الظّالمين.

قالا: ربّنا، ومن الظّالمون؟

قال: المدّعون لمنزلتهم بغير حقّ.

قالا: ربّنا، فأرنا منازل ظالميهم  في نارك حتّى نراها، كما رأينا منزلتهم في جنّتك.

فأمر اللَّه- تبارك وتعالى- النّار، فأبرزت جميع ما فيها من ألوان النكال والعذاب.

و قال- عزّ وجلّ-: مكان الظّالمين لهم المدّعين منزلتهم في أسفل درك منها، كلّما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وكلّما نضجت جلودهم بدّلناهم  سواها ليذوقوا العذاب. يا آدم ويا حوّاء، لا تنظر إلى أنواري وحججي بعين الحسد فأهبطكما عن جواري وأحلّ بكما هواني فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما، وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ  وحملهما على تمنيّ منزلتهم، فنظرا إليهم بعين الحسد فخذلا حتّى أكلا من شجرة الحنطة، فعاد مكان ما أكلا شعيرا. فأصل الحنطة كلّها ممّا لم يأكلاه، وأصل الشّعير كلّه ممّا عاد مكان ما أكلاه.

فلمّا أكلا من الشّجرة، طار الحليّ والحلل عن أجسادهما وبقيا عريانين وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ  قالَ اهْبِطا  من جواري فلا يجاورني في جنّتي من يعصيني. فهبطا موكولين إلى أنفسهما في طلب المعاش.

فلمّا أراد اللَّه- عزّ وجلّ- أنّ يتوب عليهما، جاءهما جبرائيل- عليه السّلام- فقال لهما: إنكما إن ظلمتما أنفسكما بتمنّي منزلة من فضّل عليكما، فجزاؤكما ما قد عوقبتما من الهبوط من جوار اللَّه إلى أرضه. فسألا ربّكما بحقّ الأسماء الّتي رأيتموها على سابق العرش حتّى يتوب عليكما.

فقالا: اللّهمّ، إنّا نسألك بحقّ الأكرمين عليك، محمّد وعليّ وفاطمة والحسن‏و الحسين والأئمّة، إلّا تبت علينا ورحمتنا. فتاب اللَّه عليهما، إنّه هو التّوّاب الرّحيم. فلم يزل أنبياء اللَّه بعد ذلك يحفظون هذه الأمانة ويخبرون بها أوصيائهم والمخلصين من أمّتهم، فيأبون حملها ويشفقون من ادّعائها، وحملها الإنسان الّذي قد عرف. فأصل كلّ ظلم منه، إلى يوم القيامة. وذلك قول اللَّه- عزّ وجلّ-: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا.

حدّثنا [محمّد بن‏]  موسى بن المتوكّل- رضي اللَّه عنه - قال: حدّثنا عبد اللَّه بن جعفر الحميري، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن مروان بن مسلم، عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- عن قول اللَّه- عزّ وجلّ-: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا.

قال: الأمانة، الولاية. والإنسان، أبو البشر. روي: المنافق .

 

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن الحكم بن مسكين، عن إسحاق بن عمّار، عن رجل، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ-: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا.

قال: هي ولاية أمير المؤمنين- عليه السّلام-.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن أبي حمزة، عن عقيل الخزاعيّ، أنّ أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- كان إذا حضر الحرب، يوصي المسلمين-  بكلمات.

يقول: تعاهدوا الصّلاة، وحافظوا عليها، واستكثروا منها وتقرّبوا بها. ثمّ أنّ الزّكاة جعلت مع الصّلاة قربانا لأهل الإسلام على أهل الإسلام، ومن لم يعطها طيّب النّفس بها يرجو بها من الثّمن ما هو أفضل منها، فإنّه جاهل بالسّنّة مغبون الأجر ضالّ العمر طويل النّدم‏بترك أمر اللَّه- تعالى- والرّغبة عمّا عليه. صالحوا عباد اللَّه، يقول اللَّه- عزّ وجلّ-»: وَمَنْ ... يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى من الأمانة. فقد خسر من ليس من أهلها، وضلّ عمله، وعرضت على السّماوات المبنيّة والأرض المهاد والجبال المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم، لو امتنعت  من طول أو عرض أو قوّة أو عزّة  امتنعن ولكن أشفقن من العقوبة.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في نهج البلاغة : ثمّ أداء الأمانة، فقد خاب من ليس أهلها. إنّها عرضت على السّماوات المبنيّة والأرض  المدحوّة والجبال ذات الطّول المنصوبة، فلا أطول ولا أعرض ولا أعلى ولا أعظم منها، ولو امتنع شي‏ء بطول أو عرض أو قوّة أو عزّلا امتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة وعقلن ما جهل من  أضعف منهنّ وهو الإنسان إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا.

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللَّه-: عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام- لبعض الزّنادقة- وقد قال: وأجده يقول: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا.

فما هذه الأمانة، ومن هذا الإنسان؟ وليس من صفة  القدير الحكيم  التّلبيس على عباده.

و أمّا الأمانة الّتي ذكرتها، فهي الأمانة الّتي لا تجب ولا تجوز أن تكون إلّا في الأنبياء وأوصيائهم. لأنّ اللَّه- تبارك وتعالى- ائتمنهم على خلقه وجعلهم حججا في أرضه.

فبالسّامريّ  ومن اجتمع معه وأعانه من الكفّار [على‏]  عبادة العجل عند غيبة موسى، ما تمّ انتحال محلّ  موسى من الطّغام  والاحتمال لتلك الأمانة الّتي لا ينبغي إلّا لطاهر من‏

الرّجس. فاحتمال وزرها ووزر من سلك سبيله من الظّالمين وأعوانهم. ولذلك قال النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-: من استنّ بسنّة حقّ، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. [و من استنّ سنّة باطل، كان عليه ووزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.]

 

و في عوالي اللآلئ : وفي الحديث أنّ عليّا- عليه السّلام- إذا حضرت وقت الصّلاة يتململ ويتزلزل ويتلوّن.

فيقال له: مالك، يا أمير المؤمنين؟

فيقول: جاء وقت الصّلاة، وقت أمانة عرضها [اللَّه‏]  على السّماوات والأرض [و الجبال‏]  فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.

و في تهذيب الأحكام : الحسين بن سعيد، عن الحسن بن عليّ، عن عليّ بن النعمان وأبي [المغراء و]  الوليد بن مدرك، عن إسحاق قال: سألت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- عن الرّجل يبعث إلى الرّجل يقول له: ابتع لي ثوبا. فيطلب له في السّوق، فيكون عنده مثل ما يجد له في السّوق، فيعطيه من عنده؟

قال: لا يقربنّ هذا ولا يدنّس نفسه. إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا. وإن كان عنده خير ممّا يجد له في السّوق، فلا يعطيه من عنده.

و في بصائر الدّرجات : أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد [، عن عثمان بن سعيد،]  عن مفضّل بن صالح، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ-: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها قال: الولاية. فأبين أن يحملنها [كفرا بها وعنادا ، وحملها الإنسان. والإنسان الّذي حملها، أبو فلان.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقال عليّ بن إبراهيم في قوله- عزّ وجلّ-: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها قال‏] : الأمانة، هي الإمامة والأمر والنّهي. والدّليل على أنّ الأمانة هي الإمامة [قوله- عزّ وجلّ- للأئمّة - صلوات اللَّه عليهم -: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها، يعني: الإمامة. فالأمانة، هي الإمامة]  عرضت عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها. قال: أبين أن يدّعوها أو يغصبوها أهلها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ، أي: الأوّل  إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا.

و في شرح الآيات الباهرة : روى محمّد بن العبّاس- رحمه اللَّه- عن الحسين بن عامر، عن محمّد بن الحسين، عن الحكم بن مسكين ، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ-: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً لنفسه  جَهُولًا قال: يعني بها: ولاية عليّ بن أبي طالب.

و يؤيّده ما

رواه الشّيخ محمّد بن يعقوب- رحمه اللَّه - بطريق آخر: عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن الحسن بن مسكان ، عن إسحاق بن عمّار في قوله- عزّ وجلّ-: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ (إلى آخر الآية) قال: هي الولاية لأمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه وعلى ذرّيّته الطّيّبين، صلاة باقية دائمة إلى يوم الدّين.

لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى‏الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ: تعليل للحمل، من حيث أنّه نتيجة، كالتّأديب للّضرب في:

ضربته تأديبا.

و ذكر التّوبة في الوعد، إشعار بأنّ كونهم ظَلُوماً جَهُولًا في جبلتهم لا يخليهم عن فرطات.

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً : حيث تاب على فرطاتهم، وأثاب بالفوز على طاعاتهم.