سورة الأحزاب‏ الآية 1-20

سورة الأحزاب مدنيّة. وهي ثلاث وسبعون آية. 

بسم الله الرحمن الرحيم‏

في كتاب ثواب الأعمال ، بإسناده إلى أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب، كان يوم القيامة في جوار محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- وأزواجه.

ثمّ قال: سورة الأحزاب فيها فضائح الرّجال والنّساء من قريش وغيرهم. يا أبن سنان، إنّ سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب. وكانت أطول من سورة البقرة، ولكن نقّصوها وحرّفوها.

و في مجمع البيان : أبيّ بن كعب، عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- قال: ومن قرأ سورة الأحزاب وعلّمها أهله وما ملكت يمينه، أعطي الأمان من عذاب القبر

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ: ناداه بالنّبي وأمره بالتّقوى، تعظيما له وتفخيما لشأن التّقوى.

و المراد به، الأمر بالثّبات عليه. ليكون مانعا عمّا نهى عنه بقوله: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، أي: فيما يعود بوهن في الدّين.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً: بالمصالح والمفاسد.حَكِيماً : لا يحكم إلّا بما تقتضيه الحكمة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم:  يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وهذا هو الّذي‏

قال الصّادق- عليه السّلام-: إنّ اللَّه بعث نبيّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- بإيّاك أعني واسمعي يا جارة. فالمخاطبة للنّبي- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- والمعنى للنّاس.

و في مجمع البيان : نزلت في أبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبي الأعور السّلمي. قدموا المدينة، ونزلوا على عبد اللَّه بن أبي بعد غزوة أحد بأمان من رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- ليكلّموه. فقاموا، وقام معهم عبد اللَّه بن أبيّ وعبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق. فدخلوا على رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-.

فقالوا: يا محمّد، ارفض ذكر آلهتنا اللّات والعزّى ومناة، وقل: إنّ لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربك.

فشقّ ذلك على رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-.

فقال عمر بن الخطّاب: ائذن لنا يا رسول اللَّه في قتلهم.

فقال: إنّي أعطيتهم الأمان. وأمر- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- فأخرجوا منه المدينة. ونزلت الآية وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ من أهل مكّة، أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة وَالْمُنافِقِينَ ابن أبيّ وابن سعد  وطعمة

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ: كالنّهي عن طاعتهم.

إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً : فموح إليك ما تصلحه وتغني من الاستماع إلى الكفرة. وقرأ أبو عمرو، بالياء. على أنّ الواو ضمير «الكفرة والمنافقين»، أي: إنّ اللَّه خبير بمكائدهم، فيدفعها عنك  وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ: وكّل أمرك إلى تدبيره.

وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا : موكولا إليه الأمور كلّها.

ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ أي: ما جمع قلبين في جوف. لأنّ القلب معدن الرّوح الحيوانيّ المتعلّق بالنّفس الانسانيّ أوّلا، ومنبع القوى بأسرها. وذلك يمنع‏

التّعدّد.

و في مصباح الشّريعة:  قال الصّادق- عليه السّلام- في كلام طويل-: فمن كان قلبه  متعلّقا في صلاته بشي‏ء دون اللَّه، فهو قريب من ذلك الشي‏ء بعيد عن حقيقة ما أراد اللَّه منه في صلاته. قال اللَّه- عزّ وجلّ-: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.

و في أمالي شيخ الطّائفة- قدّس سرّه - بإسناده إلى صالح بن ميثم التّمّار- رضي اللَّه عنه- قال: وجدت في كتاب ميثم- رضي اللَّه عنه- يقول: تمسّينا ليلة عند أمير المؤمنين- عليه السّلام- فقال لنا: إنّ عبدا لن يقصّر في حبّنا لخير جعله اللَّه في قلبه، ولن يحبّنا من يحبّ مبغضينا. إنّ ذلك لا يجتمع في قلب واحد ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ يحبّ. لهذا قوما، ويحبّ بالآخر عدوّهم. والّذي يحبّنا، فهو يخلص حبّنا كما يخلص الذّهب لا غش فيه. والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال علّي بن أبي طالب- عليه السّلام-:

لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان. إنّ اللَّه لم يجعل لرجل قلبين في جوفه، فيحبّ هذا ويبغض هذا. فأمّا محبّنا، فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذّهب بالنّار لا كدر فيه. فمن أراد أن يعلم حبّنا، فليمتحن قلبه. فإن شارك  في حبّنا حبّ عدوّنا، فليس منّا ولسنا منه.

و اللَّه عدوّهم وجبرائيل وميكائيل. واللَّه عدّو للكافرين.

و في مجمع البيان : قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ يحبّ لهذا قوما ويحبّ لهذا أعدائهم. وفيه: وقوله : ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ نزل في أبي معمّر [جميل بن معمّر]  بن حبيب الفهريّ. وكان لبيبا حافظا لما يسمع. وكان يقول: إنّ في جوفي لقلبين، أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد. وكانت قريش تسمية: ذا القلبين. فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم أبو معمّر، تلقّاه أبو سفيان بن حرب‏و هو آخذ بيديه إحدى نعليه والأخرى في رجله.

فقال له: يا أبا معمّر، ما حال النّاس؟

قال: انهزموا.

قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك وأخرى في رجلك؟

فقال أبو معمّر: ما شعرت إلّا أنّهما في رجلي.

فعرفوا يومئذ، أنّه لم يكن له إلّا قلب واحد لمّا نسي نعله في يده.

في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللَّه-: حدّثنا محمّد بن الحسين بن حميد بن الرّبيع ، عن جعفر بن عبد اللَّه المحمّدي، عن كثير بن عيّاش ، عن أبي الجارود، عن أبي عبد اللَّه- عليه السلام- في قوله- عزّ وجلّ-: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال: قال عليّ بن أبي طالب- صلوات اللَّه عليه-: ليس عبد من عبيد اللَّه ممّن امتحن قلبه للأيمان إلّا وهو يجدّد  مودّتنا على قلبه، فهو يودّنا. وما من عبد من عبيد اللَّه ممّن سخط اللَّه عليه إلّا وهو يجدّد  بغضنا على قلبه، فهو يبغضنا. فأصبحنا نفرح بحبّ المحبّ ونغتفر له، ونبغض المبغض. وأصبح محبّنا ينتظر رحمة اللَّه- عزّ وجلّ- فكأن أبواب الرّحمة قد فتحت له. وأصبح مبغضنا على شفا جرف من النّار، فكان ذلك الشّفا قد انهار به في نار جهنّم. فهنيئا لأهل الرّحمة رحمتهم، وتعسا لأهل النّار مثواهم. إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول :

فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.

و إنّه ليس عبد من عبيد اللَّه يقصّر في حبّنا لخير جعله اللَّه عنده. إذ لا يستوي  من يحبنا ويبغضنا، ولا يجتمعان في قلب رجل أبدا. إنّ اللَّه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه، يحب. بهذا ويبغض بهذا. أمّا محبّنا، فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذّهب بالنّار لا كدر فيه، ومبغضنا على تلك المنزلة. نحن النّجباء، وأفراطنا أفراط الأنبياء، وأنا وصيّ الأنبياء»

.

و الفئة الباغية من حزب الشّيطان، والشّيطان منهم. فمن أراد أن يعلم حبّنا، فليمتحن قلبه.فإن شارك في حبّنا عدوّنا، فليس منّا ولسنا منه. واللَّه عدوّه وجبرائيل وميكائيل. واللَّه عدوّ للكافرين.

و قال علىّ- عليه السّلام- [: لا يجتمع‏]  حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ‏

 

وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ: وما جمع الزوجيّة والأمومة في امرأة، ولا الدّعوة والبنّوة في رجل.

و المعنى: كما لم يجعل اللَّه قلبين في جوفه لأدائه إلى تناقض- وهو أن يكون كلّ منهما أصلا لكلّ القوى وغير أصل- لم يجعل الزّوجة والدّعيّ اللّذين لا ولادة بينهما وبينه وأمّه وابنه اللّذين بينهما وبينه ولادة.

و قرأ أبو عمرو: «و اللّاي» بالياء [وحده‏] ، على أنّ أصله «اللّاء»  لهمزة، فخففت. وعن الحجازّيين، مثله. وعنهما وعن يعقوب، بالهمزة وحده. وأصل «تظهرون» تتظهّرن، فأدغمت التّاء الثّانية في الظّاء .

و قرأ ابن عامر: «تظاهرون» بالإدغام. وحمزة والكسائي، بالحذف. وعاصم «تظاهرون» من ظاهر .

و قرئ: «تظهرون» من ظهر، بمعنى: ظاهر، كعقد بمعنى: عاقد. و«تظهرون» من الظّهور .

و معنى الظّهار، أن يقول للزّوجة: أنت عليّ كظهر أمّي. مأخوذة من «الظّهر» باعتبار للّفظ، كالتّلبية من «لبّيك».

و تعديته «بمن» لتضمّنه معنى التّجنّب. لأنّه كان طلاقا في الجاهليّة، وهو في الإسلام يقتضي الطّلاق أو الحرمة إلى أداء الكفّارة، كما عدّي «الى» بها. وهو بمعنى:

الحلف.

و ذكر الظّهر، للكناية عن البطن الّذي هو عموده، فإنّ ذكره يقارب ذكر الفرج.

أو التغّليظ في التّحريم، فإنّهم يحرّمون إتيان المرأة وظهرها إلى السّماء. والأدعياء، جمع دعيّ،على الشّذوذ. وكأنّه شبّه بفعيل، بمعنى: فاعل. فجمع جمعه ذلِكُمْ: إشارة إلى كلّ ما ذكر. أو إلى الأخير.

قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ: لا حقيقة له في الأحيان، كقول الهاذي.

وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ: ما له حقيقة عينيّة مطابقة له وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ :

سبيل الحقّ.

و في تفسير علّى بن إبراهيم : وقال علىّ بن ابراهيم- رضي اللَّه عنه- في قوله- عزّ وجلّ-: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ قال: فانّه حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: كان سبب [نزول‏]  ذلك، أنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- لمّا تزوّج بخديجة بنت خويلد، خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها، ورأى زيدا يباع، ورآه غلاما كيسا حصيفا، فاشتراه.

فلمّا نبّئ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- دعاه إلى الإسلام، فأسلم. وكان يدعى زيد مولى محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-.

فلمّا بلغ حارثة بن شراحيل  الكلبيّ خبر ولده زيد، قدم مكّة. وكان رجلا جليلا.

فأتى أبا طالب فقال: يا أبا طالب، إنّ ابني وقع عليه السّبي، وبلغني أنّه صار إلى ابن أخيك. فسله، إمّا أن يبيعه، وإما أن يفاديه، وإمّا أن يعتقه.

فكلّم أبو طالب رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-.

فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: هو حرّ، فليذهب حيث  شاء.

فقام حارثة، فأخذ بيد زيد. فقال له: يا بنىّ، الحق بشرفك وحسبك.

فقال زيد: لست أفارق رسول اللَّه [أبدا.

فقال له أبوه: فتدع حسبك ونسبك وتكون عبدا لقريش.

فقال زيد: لست أفارق رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-]  ما دمت حيّا.

فغضب أبوه، فقال: يا معشر قريش، اشهدوا أنّي قد برئت منه وليس هو ابني.

فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: اشهدوا أنّ زيدا ابني، أرثه ويرثني.فكان زيد يدعى ابن محمّد. وكان رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: يحبّه، وسمّاه: زيد الحّب.

فلمّا هاجر رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- إلى المدينة، زوّجه زينب بنت جحش وأبطأ عنه يوما، فأتى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- منزله يسأل عنه فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبها بفهر. [فدفع رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- الباب‏]  ونظر إليها. وكانت جميلة حسنة.

فقال: سبحان اللَّه خالق النّور، وتبارك اللَّه أحسن الخالقين. ثمّ رجع رسول اللَّه إلى منزله. ووقعت زينب في قلبه موقعا عجيبا.

و جاء زيد إلى منزله، فأخبرته زينب بما قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-.

فقال لها زيد: هل لك أن أطلّقك حتّى يتزوّجك رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-؟ فلعلك قد وقعت في قلبه.

فقالت: أخشى أن تطلّقني، ولا يتزوّجني رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-.

فجاء زيد إلى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه، أخبرتني زينب بكذا وكذا. فهل لك أن أطلّقها حتّى تتزوّجها؟

فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: لا، اذهب فاتّق اللَّه وأمسك عليك زوجك. ثمّ حكى اللَّه- عزّ وجلّ- فقال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها إلى قوله- تعالى-: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا فزوّجه اللَّه- عزّ وجلّ- من فوق عرشه.

فقال المنافقون: يحرّم علينا نساء أبنائنا ويتزوّج امرأة ابنه زيد. فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ- في هذا وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ إلى قوله- تعالى-: يَهْدِي السَّبِيلَ‏

 

ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ: انسبوهم إليهم. وهو إفراد للمقصود من أقواله الحقّه.

هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ: تعليل له. والضّمير لمصدر «ادعو».

و «أقسط» أفعل تفضيل، قصد به الزّيادة مطلقا. من القسط، بمعنى: العدل. ومعناه: البالغ  في الصّدق.

و في عيون الأخبار ، في باب ذكر ما كتب به الرّضا- عليه السّلام- محمّد بن سنان في جواب مسائله في العلل: وعلّة تحليل مال الولد لوالده بغير إذنه وليس ذلك للولد، لأنّ الولد موهوب  للوالد في قول اللَّه- تعالى -: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ.

مع أنّه المأمور  بمؤنته صغيرا أو كبيرا. والمنسوب إليه والمدعوّ له، لقوله- عزّ وجلّ-: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. وقول النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: أنت ومالك لأبيك.

و ليس الوالدة كذلك، لا تأخذ من ماله إلّا بإذنه أو بإذن الأب. لأنّ الأب مأخوذ بنفقة الولد ولا تؤخذ المرأة بنفقة ولدها.

فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ: فتنسبوهم إليهم.

فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ: وأولياؤكم فيه. فقولوا: هذا أخي ومولاي.

بهذا التأويل.

و قيل : بني أعمامكم. وقيل: معناه: معتقوكم ومحرّروكم. إذا أعتقتموهم من دقّ، فلكم ولاؤهم.

وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ: ولا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين من قبل النّهي، أو بعده على النّسيان، أو سبق اللّسان.

وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ: ولكنّ الجناح فيما تعمّدت قلوبكم. أو ولكن ما تعمّدت فيه الجناح.

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً: لما سلف من قولكم.

رَحِيماً  بكم.

و في الاية دلالة على أنّه، لا يجوز الانتساب إلى غير الأب. وقد وردت السّنّة بتغليظ الأمر فيه.

و في مجمع البيان : قال- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- من: انتسب إلى أبيه أوانتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة اللَّه.

النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ: في الأمور كلّها. فإنّه لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلّا بما فيه صلاحهم ونجاحهم، بخلاف النفّس. فلذلك أطلق. فيجب أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم، وأمره أنفذ فيهم من أمرها، وشفقتهم عليه أتمّ من شفقتهم عليها.

وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ: منزلات منزلتهم في التّحريم واستحقاق التّعظيم. وفيما عدا ذلك فكالأجنبيّات.

وَ أُولُوا الْأَرْحامِ: وذو القرابات.

بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في التّوارث.

 [فِي كِتابِ اللَّهِ: في اللّوح. أو فيما أنزل، وهو هذه الاية أو آية المواريث. أو فيما فرض اللَّه.

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ بيان لأولي الأرحام. أو صلة لأولي، أي: أولو الأرحام بحقّ القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحقّ الدّين، والمهاجرين بحقّ الهجرة .]

و هو نسخ لما كان في صدر إسلام من التّوارث بالهجرة والموالاة في الدّين، وبالمؤاخاة.

و في مجمع البيان : قال الكلبيّ: آخى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- بين النّاس. فكان يؤاخي بين الرّجلين. فإذا مات أحدهما، ورثه الثّاني دون أهله. فمكثوا بذلك ما شاء اللَّه حتّى نزلت وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فنسخت هذه الاية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة، ورث الأدنى فالأدنى من القرابات.

و قال قتادة: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث الأعراب المسلم من المهاجرين  شيئا، فنزلت هذه الآية فصار المواريث بالقرابات.

و في كتاب الخصال : عن عبد الرّحمن بن كثير، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- حديث طويل، يذكر فيه الكبائر. يقول فيه- عليه السّلام-: وأمّا عقوق الوالدين فقد أنزل اللَّه في كتابه النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ فعقّوا رسول اللَّه في ذرّيّته،و عقّوا أمهّم خديجة في ذرّيّتها.

و في مجمع البيان : وروي أنّ النّبي- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- لمّا أراد غزوة تبوك وأمر النّاس بالخروج، قال قوم: نستأذن آباءنا وأمّهاتنا. فنزلت هذه الآية.

و

روى عن أبيّ وابن مسعود وابن عبّاس أنّهم كانوا يقرءون: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم هو أب لهم. وكذلك هو في ومصحف أبي. وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد اللَّه- عليهما السّلام.

و في كتاب سعد السّعود  لابن طاوس- رحمه اللَّه-: روي عنه- صلوات اللَّه عليه-: أنا وعليّ أبوا هذه الأمّة.

و في تفسير علّي بن إبراهيم : وقوله- عزّ وجلّ-: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ قال: فنزلت «و هو أب لهم.»

و معنى أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [: أنّها بمنزلتهم في الحرمة والتعّظيم‏]  فجعل اللَّه- عزّ وجلّ- المؤمنين أولاد رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- وجعل رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- أباهم لمن لم يقدر أن يصون نفسه ولم يكن له مال وليس له على نفسه ولاية. فجعل اللَّه- تبارك وتعالى- لنبيّه الولاية على المؤمنين من أنفسهم.

و

قول رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- بغدير خمّ: أيّها النّاس، أ لست أولى بكم من أنفسكم؟

قالوا: بلى.

ثم أوجب لأمير المؤمنين- عليه السّلام- ما أوجبه لنفسه عليهم من الولاية فقال: ألا من كنت مولاه فعلي مولاه.

فلمّا جعل اللَّه- عزّ وجلّ- النّبي أبا للمؤمنين، ألزمه مؤنتهم وتربية أيتامهم. فعند ذلك صعد رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- المنبر فقال: من ترك مالا، فلورثته. ومن ترك دينا أو ضياعا، فعليّ وإلىّ. فألزم اللَّه- عزّ وجلّ- نبيّه للمؤمنين ما يلزم  الوالد. وألزم‏المؤمنين من الطّاعة له ما يلزم الولد للوالد.

فكذلك ألزم أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- ما ألزم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- من بعد ذلك، وبعده الأئمّة- صلوات اللَّه عليهم- واحدا واحدا.

و الدّليل على أنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- وأمير المؤمنين- عليه السّلام- هما والدان  قوله : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً. فالوالدان رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- وأمير المؤمنين- عليه السّلام-.

و قال الصّادق- عليه السّلام-: فكان إسلام عامّة اليهود لهذا السّبب لأنّهم أمنوا على أنفسهم وعيالاتهم.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى سعد بن عبد اللَّه القمّي، عن الحجة القائم- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه: قلت: فأخبرني، يا ابن مولاي، عن معنى الطّلاق الّذي فوّض رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- حكمه إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام-.

قال: إنّ اللَّه- تقدّس اسمه- عظّم شأن نساء النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- فخصّهنّ بشرف الأمّهات. فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: يا أبا الحسن، إنّ هذا الشّرف باق لهنّ ما دمن للَّه على الطّاعة. فأيّتهنّ عصت اللَّه بعدي بالخروج عليك، فأطلق لها في الأزواج وأسقطها [من تشرّف الأمّهات و]» من شرف أمومة المؤمنين.

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى علي بن الحسن بن فضّال، عن أبيه قال: سألت أبا الحسن- عليه السّلام- فقلت له: لم كنّي النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- بأبي القاسم؟

فقال: لأنّه كان له ابن يقال له: قاسم، فكنّي به.

قال: فقلت: يا ابن رسول اللَّه، فهل تراني أهلا للزّيادة؟

فقال: نعم، أما علمت أنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- قال: أنا وعلي أبوا هذه الأمّة؟قلت: بلى .

قال: أما علمت أنّ عليّا- عليه السّلام- قاسم الجنّة والنّار؟

قلت: بلى.

قال: فقيل له: أبو القاسم، لأنّه أبو قسيم الجنّة والنّار.

فقلت: ما معنى ذلك؟

فقال: إنّ شفقة النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- على أمّته كشفقة  الآباء على الأولاد. وأفضل أمّته علّي- عليه السّلام- وشفقته  عليهم كشفقته- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- لأنّه وصيّه وخليفته والامام بعده. فذلك قال: أنا وعلّي أبوا هذه الأمّة. وصعد النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- المنبر فقال: من ترك دينا أو ضياعا، فعليّ واليّ. ومن ترك مالا، فلورثته. فصار بذلك أولى من آبائهم وأمّهاتهم، وصار  أولى لهم منهم بأنفسهم.

و كذلك أمير المؤمنين- عليه السّلام- بعده، جرى ذلك له مثل ما جرى لرسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-.

و بإسناده إلى عبد الرّحمن بن القصير ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سألته عن قول اللَّه- عزّ وجلّ- النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فيمن نزلت [هذه الاية؟]  قال: نزلت في الامرة. إنّ هذه الاية جرت في الحسين بن عليّ- عليهما السّلام- وفي ولد الحسين من بعده. فنحن أولى بالأمر وبرسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- من المؤمنين والمهاجرين.

قلت: لولد جعفر فيها نصيب؟

فقال: لا

فقال: فعددت عليه بطون بني عبد المطّلب، كلّ ذلك يقول: لا. ونسيت ولد الحسن. فدخلت عليه بعد ذلك [فقلت: هل لولد الحسن- عليه السّلام- فيها نصيب؟

قال: لا، يا عبد الرّحمن ، ما لمحمّدي فيها نصيب غيرنا.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى،]  عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن المغيرة، عن ابن مسكان، عن عبد الرّحيم بن روح القصير ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ-: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فيمن نزلت؟

قال: نزلت في الامرة. إنّ هذه الآية جرت في ولد الحسين من بعده. فنحن أولى بالأمور وبرسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- من المؤمنين والمهاجرين والأنصار.

قلت: فلولد  جعفر لهم فيها نصيب؟

فقال: لا [قلت: فولد العبّاس لهم فيها نصيب؟

فقال: لا]  فعدّدت عليه بطون بني عبد المطلب، كلّ ذلك يقول: لا. قال: ونسيت ولد الحسن- عليه السّلام-. فدخلت بعد ذلك عليه فقلت له: هل لولد الحسن فيها نصيب؟

فقال: لا واللَّه، يا عبد الرّحيم، ما لمحمّديّ فيها نصيب غيرنا.

عليّ بن إبراهيم ، عن حمّاد بن عيسى، عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ، عن أبان بن أبي عيّاش، عن سليم بن قيس. ومحمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن أبي عمير، عن عمر أذينة. وعليّ بن محمّد، عن أحمد بن هلال، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن أذينة، عن ابن أبي عيّاش، عن سليم بن قيس قال: سمعت عبد اللَّه بن جعفر الطّيّار يقول: كنّا عند معاوية أنا والحسن والحسين وعبد اللَّه بن عبّاس وعمر بن أمّ سلمة وأسامة بن زيد، فجرى بيني وبين معاوية كلام. فقلت لمعاوية: سمعت رسول اللَّه- صلّى اللَّه‏عليه وآله وسلّم- يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثمّ أخي علّي بن أبي طالب أولى بالمؤمنين منه أنفسهم. فإذا استشهد علّي  فالحسن بن عليّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثمّ ابني الحسين من بعده أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فإذا استشهد- عليه السّلام- فابنه علّي بن الحسين- عليه السّلام- أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا عليّ، ثمّ ابنه محمّد بن عليّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وستدركه يا حسين، ثمّ تكملة اثني عشر إماما، تسعة من ولد الحسين.

قال عبد اللَّه بن جعفر: واستشهدت الحسن والحسين وعبد اللَّه بن عبّاس وعمر بن امّ سلمة وأسامة بن زيد، فشهدوا لي عند معاوية.

قال سليم: وقد سمعت ذلك من سلمان وأبي ذرّ والمقداد ذكروا أنّهم سمعوا ذلك من رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-.

عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرّحمن قال: حدّثنا حمّاد، عن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- عن قول العامّة: إنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- قال: من مات وليس له إمام ميتة جاهليّة.

قال: الحقّ واللَّه.

قلت: فإنّ إماما هلك ورجل بخراسان لا يعلم من وصيّه، لم يسعه ذلك؟

قال: لا يسعه. إنّ الإمام إذا هلك، وقعت حجّة وصيّه على من هو معه في البلد، وحقّ النّفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم. إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول : فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.

قلت: فنفر قوم فهلك بعضهم قبل أن يصل فيعلم؟

قال: إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول : وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.

قلت: فبلغ البلد بعضهم، فوجدك مغلقا عليك بابك ومرخى عليك سترك لا تدعوهم إلى نفسك ولا يكون من يدلّهم عليك، فبما يعرفون ذلك؟قال: بكتاب اللَّه المنزل.

قلت: فيقول اللَّه- جلّ وعزّ- كيف؟

قال: أراك قد تكلّمت في هذا قبل اليوم؟

قلت: أجل، قال: فذكر ما أنزل اللَّه في عليّ- عليه السلام- وما قال له رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- في حسن وحسين- عليهما السّلام- وما خصّ اللَّه به عليّا- عليه السّلام- وما قال فيه رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- من وصيّته إليه، ونصبه إيّاه، وما يصيبهم، وإقرار الحسن والحسين بذلك، ووصيّته إلى الحسن و[تسليم‏]  الحسين له. يقول اللَّه: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ‏

 

و الحديث طويل أخذت منه وضع الحاجة.

عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد البرقيّ . وعلي بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا، عن القاسم بن محمّد الاصبهانيّ، عن سليمان بن داود المنقريّ، عن سفيان بن عيينة، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: أنّ النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- قال: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه، وعليّ أولى به من بعدي. فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: قول النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: من ترك دينا أو ضياعا، فعليّ ومن ترك مالا، فلورثته. فالرّجل ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال، وليس على عياله أمر ولا نهي إذا لم يجر عليهم النّفقة.

و النّبيّ وأمير المؤمنين ومن بعدهما- سلام اللَّه عليهم- ألزمهم هذا. فمن هناك صاروا أولى لهم من أنفسهم. وما كان سبب إسلام عامّة اليهود إلّا من بعد هذا القول من رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- وإنّهم آمنوا على أنفسهم وعيالاتهم.

و في روضة الكافي ، بإسناده إلى عبد اللَّه- عليه السّلام- حديث طويل. وفي آخره يقول- عليه السّلام-: كان عليّ أفضل النّاس بعد رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- وأولى النّاس بالنّاس- حتّى قالها ثلاثا.

و في نهج البلاغة : قال- عليه السّلام-: فو اللَّه، إنّي لأولى النّاس بالنّاس.و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللَّه-: عن عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب حديث طويل. وفيه قال: سمعت رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- يقول: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم. من كنت أولى به من نفسه، فأنت [يا أخي‏]  أولى به من نفسه. وعليّ بين يديه- عليهم السّلام- في البيت.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللَّه- حدّثنا الحسين [بن محمّد]  بن عامر، عن محمّد بن الحسين، عن أحمد بن أبي نصر  عن حمّاد بن عثمان، عن عبد الرّحيم بن روح القصير، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: إنّه سأل عن قول اللَّه- عزّ وجلّ-: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ قال: نزلت في ولد الحسين- عليه السّلام.

قال: قلت: جعلت فداك، أنزلت في الفرائض؟

قال: لا.

قلت: ففي المواريث؟

قال: لا، قال: نزلت في إلّا مرة.

و قال- أيضا- : حدّثنا عبد العزيز بن يحيى، عن محمّد بن عبد الرّحمن بن الفضل، عن جعفر بن الحسين الكوفيّ، عن أبيه، عن محمّد بن زيد مولى أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سألت مولاي، فقلت: قوله- عزّ وجلّ-: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [فِي كِتابِ اللَّهِ‏]  قال: هو عليّ- عليه السّلام.

معناه: أنّه رحم النّبي- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- فيكون أولى به من المؤمنين والمهاجرين.

و قال- أيضا- : حدّثنا عليّ بن عبد اللَّه بن أسد ، عن إبراهيم بن محمّد، عن محمّد بن‏عليّ المقري ، بإسناده يرفعه الى زيد بن عليّ- عليه السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ- وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ.

قال: رحم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- أولى بالإمارة والملك والايمان.

إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً: استثناء من أعمّ ما يقدّر الألويّة فيه من النّفع. والمراد بفعل المعروف: التّوصية. أو منقطع به.

كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً : كان ما ذكر في الآيتين ثابتا في اللّوح، أو القرآن.

و قيل : في التّوراة.

و في الكافي : محمّد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن الجهم، عن حنان قال: قلت لأبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: أيّ شي‏ء للموالي؟

فقال: ليس لهم من الميراث إلّا ما قال اللَّه- عزّ وجلّ-: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً.

محمّد بن يحيى، أحمد بن محمّد ، عن ابن أبي الحمراء قال: قلت لأبي عبد اللَّه- عليه السّلام-: أيّ شي‏ء للموالي من الميراث؟

فقال: ليس لهم شي‏ء إلّا التّرباء، يعني: التّراب.

و المراد منهم: الأولياء بحسب الإيمان.

وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ: مقدّر «باذكر».

و «ميثاقهم»: عهودهم بتبليغ الرّسالة والدّعاء إلى الدّين القيّم.

و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن إسماعيل الجعفيّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: كانت شريعة نوح- عليه السّلام-  أن يعبد اللَّه بالتّوحيد والإخلاص. وخلع الأنداد. وهي الفطرة الّتي فطر النّاس عليها. وأخذ اللَّه ميثاقه على نوح وعلى النّبيّين- صلّى اللَّه عليهم أجمعين- أن يعبدوا اللَّه‏- تعالى- ولا يشركوا به شيئا. وأمر بالصّلاة والأمر بالمعروف والنهّي عن المنكر والحلال والحرام. ولم يفوّض عليه أحكام حدود ولا فرائض  مواريث. فهذه شريعة.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وَ مِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: خصّهم بالذّكر، لأنّهم مشاهير أرباب الشّرائع وقدّم نبيّنا، تعظيما له.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال: هذه «الواو» زيادة في قوله: «و منك» إنّما هو مِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ فأخذ اللَّه- عزّ وجلّ- الميثاق لنفسه على الأنبياء [، ثمّ أخذ لنبيّه على الأنبياء]  والأئمة- صلوات اللَّه عليهم- ثمّ أخذ الأنبياء على رسوله- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم.

وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً : عظيم الشّأن، أو مؤكّدا باليمين. والتّكرير لبيان هذا الوصف.

لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، أي: فعلنا ذلك ليسأل اللَّه يوم القيامة الأنبياء الذّين صدقوا عهدهم عمّا قالوه لقومهم. أو تصديقهم إيّاهم تبكيتا لهم. أو المصدّقين لهم عن تصديقهم، فإنّ مصدّق الصّادق صادق. أو المؤمنين الّذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم.

وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً : عطف على «أخذنا»، من جهة أنّ بعثة الرّسل وأخذ الميثاق منهم لإثابة المؤمنين. أو على ما دلّ عليه «ليسأل» كأنّه قال: فأثاب المؤمنين وأعدّ للكافرين.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، يعني:

الأحزاب. وهم قريش وغطفان ويهود قريضة والنّضير. وكانوا زهاء اثني عشر ألفا.

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً: ريح الصّبا.

وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها: الملائكة.

روي : أنّه- عليه السّلام- لمّا سمع [بإقبالهم‏]  ضرب الخندق على المدينة، ثمّ خرج إليهم في ثلاثة آلاف والخندق بينه وبينهم، ومضى على‏الفرقين قريب [من‏]  شهر لا حرب بينهم إلّا التّرامي بالنّبل والحجارة، حتّى بعث اللَّه عليهم ريحا  باردة في ليلة شاتية فأخضرتهم  وسفّت التّراب في وجوههم وأطفات نيرانهم وقلعت خيامهم وماجت الخيل بعضها في بعض وكبّرت الملائكة في جوانب العسكر. فقال طلحة بن خويلد الأسديّ: أمّا محمّد فقد بدأكم بالسحر، فالنّجاء النّجاء. فانهزموا من غير قتال.

وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ: من حفر الخندق.

و قرأ البصريّان بالياء، أي: بما يعمل المشركون من التّحزّب والمحاربة .

بَصِيراً : رائيا.

إِذْ جاؤُكُمْ: بدل من «إذ جاءتكم».

مِنْ فَوْقِكُمْ: من أعلى الوادي، من قبل المشرق بنو غطفان.

وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ: من أسفل الوادي، من قبل المغرب قريش.

وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ: مالت عن مستوى نظرها، حيرة وشخوصا.

وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ: رعبا. فإنّ الرّئة تنتفخ من شدّة التّروّع، فترتفع بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، وهي: منتهى الحلقوم مدخل الطّعام والشّراب.

و في مجمع البيان : وقال أبو سعيد الخدري: قلنا يوم الخندق: يا رسول اللَّه، هل من شي‏ء نقوله فقد بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ؟

فقال: قولوا: اللّهمّ، استر عوراتنا وأمن روعاتنا.

قال: فقلناها، فضرب وجوه أعداء اللَّه بالرّيح فهزموا.

وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا : الأنواع من الظّنّ. المخلصون أنّه ينصر محمّد، وظنّ المنافقون أنّه يتأصل، وظنّ بعضهم النّصر وبعضهم البؤس.

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللَّه-: روي عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن ابائه، عن الحسين بن عليّ- عليهم السّلام- قال: إنّ يهوديا من يهود الشّام وأحبارهم قال لأمير المؤمنين- عليه السّلام-: فإنّ هذا هود قد انتصر اللَّه له من أعدائه بالرّيح، فهل فعل‏لمحمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- شيئا منه هذا؟

قال له عليّ- عليه السّلام-: [لقد كان كذلك، ومحمّد- صلّى اللَّه عليه وآله‏]  أعطي ما هو أفضل من هذا. إنّ اللَّه- عزّ ذكره- قد انتصر له من أعدائه بالرّيح يوم الخندق، إذ أرسل عليهم ريحا تذر والحصى وجنودا لم يروها. فزاد اللَّه- تبارك وتعالى- محمّدا- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- [على هود]  بثمانية آلاف ملك، وفضّله على هود بأنّ ريح عاد [ريح‏]  سخط وريح محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- [ريح‏]  رحمة. قال اللَّه- تبارك وتعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها.

و في كتاب التّوحيد ، حديث طويل عن عليّ- عليه السّلام- يقول فيه، وقد سأله رجل عمّا اشتبه عليه من الآيات: وأمّا قوله : إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ وقوله :

يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ وقوله للمنافقين: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فإنّ قوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ يقول: إني أيقنت  أنّي أبعث فأحاسب. وقوله للمنافقين: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا فهذا الظّنّ ظنّ شكّ، وليس الظّنّ  ظنّ يقين. والظّنّ [ظنّان:]  ظنّ شكّ، وظنّ يقين. فما كان من أمر معاد من الظّنّ، فهو ظنّ يقين.

و ما كان من أمر الدّنيا، فهو ظنّ شكّ. فافهم ما فسّرت لك.

و

في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله- عزّ وجلّ-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ الآية فإنّها نزلت في قصّة الأحزاب من قريش والعرب، الذّين تحزّبوا على رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم.

قال: وذلك أنّ قريشا تجمّعت  في سنة خمس من الهجرة، وساروا في العرب،و جلبوا واستفزّوهم لحرب رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم. فوافوا في عشرة آلاف، ومعهم كنانة وسليم وفزارة. وكان رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- حين أجلى بني النّضير، وهم بطن من اليهود من المدينة، وكان رئيسهم حيّ بن أخطب، وهم يهود من بني هارون- على نبيّنا وعليه السّلام-، فلمّا أجلاهم من المدينة، صاروا إلى خيبر.

و خرج حيّ بن أخطب وهمّ إلى قريش بمكّة وقال لهم: إنّ محمّدا قد وتركم ووترنا، وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا، وأجلا بني عمّنا بني قنيقاع، فسيروا في الأرض واجمعوا حلفائكم وغيرهم حتّى نسير  إليهم، فإنّه قد بقي من قومي بيثرب سبعمائة فقاتل وهم بنو قريضة، وبينهم وبين محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- عهد وميثاق، وأنا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمّد، صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- ويكونون معنا عليهم، فتأتونه أنتم من فوق وهم من أسفل.

و كان موضع بني قريضة من المدينة على قدر ميلين، وهو الموضع الّذي يسمّى: بئر بني المطلّب . فلم يزل يسير معهم حيّ بن أخطب في قبائل العرب، حتّى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش وكنانة. والأقرع بن حابس في قومه، والعباس بن مرداس في بني سليم. فبلغ ذلك رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- فاستشار أصحابه وكانوا سبعمائة رجل.

فقال سلمان- رضي اللَّه عنه- يا رسول اللَّه، إنّ القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة.

قال: فما نصنع؟

قال: نحفر خندقا يكون بيننا وبينهم حجابا، فيمكنك منعهم في المطاولة، ولا يمكنهم أن يأتونا من كلّ وجه. فإنّا كنّا- معاشر العجم- في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدوّنا، نحفر الخنادق فتكون الحرب من مواضع معروفة.

فنزل جبرائيل- عليه السّلام- على رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- فقال:

أشار [سلمان‏]  بصواب.

فأمر رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- بحفره من ناحية أحد إلى راتج .

و جعل على كلّ عشرين خطوة وثلاثين خطوة قوما من المهاجرين والأنصار يحفرونه. فأمر، فحملت المساحي والمعاول. وبدأ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- وأخذ معولا،فحفر في موضع المهاجرين بنفسه وأمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- ينقل التّراب من الحفرة حتّى عرق رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- وعيسى. وقال: لا عيش إلّا عيش الآخرة. اللّهمّ اغفر للأنصار والمهاجرين.

فلمّا نظر النّاس إلى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- يحفر، اجتهدوا في الحفر ونقلوا التّراب. فلمّا كان في اليوم الثّاني بكروا إلى الحفر، وقعد رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم في مسجد الفتح. فبينا المهاجرون والأنصار يحفرون، إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه. فبعثوا جابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ- رضي اللَّه عنه- إلى رسول اللَّه يعلمه بذلك.

قال جابر: فجئت إلى المسجد ورسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- مستلق على قفاه ورداؤه تحت رأسه، وقد شدّ على بطنه حجرا. فقلت: يا رسول اللَّه، إنّه قد عرض لنا جبل لم تعمل المعامل فيه.

فقام مسرعا حتّى جاءه، ثمّ دعا بماء في إناء فغسل وجهه وذراعيه ومسح على رأسه ورجليه، ثم شرب ومجّ في ذلك الماء، ثمّ صبّه على ذلك الحجر، ثمّ أخذ معولا فضرب ضربة فبرقت برقة فنظرنا فيها إلى قصور الشّام، ثمّ ضرب أخرى  فبرقت برقة نظرنا فيها إلى قصور المدائن، ثمّ ضرب ضربة أخرى [فبرقت برقة أخرى‏]  فنظرنا فيها إلى قصور اليمن.

فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-: أما إنّه سيفتح اللَّه عليكم هذه المواطن الّتي برقت فيها البرق. ثمّ انهال علينا الجبل كما ينهال علينا الرّمل.

فقال جابر: فعلمت أنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- مقو، أي: جائع.

لمّا رأيت على بطنه الحجر. فقلت: يا رسول اللَّه، هل لك في الغذاء؟

قال: ما عندك، يا جابر؟

فقلت: عناق وصاع من شعير.

فقال: تقدّم وأصلح ما عندك.

قال جابر: فجئت إلى أهلي فأمرتها، فطحنت الشّعير وذبحت العنز وسلختها. وأمرتها أن تخبز وتطبخ وتشوي. فلما فرغت من ذلك جئت إلى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله‏

و سلم- فقلت: بأبي أنت وأميّ يا رسول اللَّه قد فرغنا فاحضر مع من أحببت.

فقام- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- إلى شفير الخندق، ثمّ قال: يا معاشر المهاجرين والأنصار، أجيبوا جابرا.

قال جابر: فكان في الخندق سبعمائة رجل فخرجوا كلّهم، ثمّ لم يمّر بأحد من المهاجرين والأنصار إلّا قال: أجيبوا جابرا.

قال جابر: فتقدّمت وقلت لأهلي: قد واللَّه أتاك محمّد رسول اللَّه بما لا قبل لك به.

فقالت: أعلمته أنت بما عندنا؟

قال: نعم.

قالت: فهو أعلم بما أتى.

قال جابر: فدخل رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- فنظر في القدر ثمّ قال:

أغرفي وأبقي. ثمّ نظر في التّنّور ثمّ قال: أخرجي وأبقي. ثمّ دعا بصحفة  فثرد فيها وغرف.

فقال: يا جابر، أدخل عليّ عشرة عشرة  فأدخلت عشرة، فأكلوا حتّى نهلوا وما يرى في القصعة إلّا آثار أصابعهم.

ثمّ قال: يا جابر، عليّ بالذّراع. فأتيته بالذّراع فأكلوا وخرجوا .

ثمّ قال: أدخل عليّ عشرة. فأدخلتهم  فأكلوا حتّى نهلوا وما يرى في القصعة إلّا آثار أصابعهم.

ثمّ قال: يا جابر [عليّ بالذّراع. فأتيته بالذّراع  فأكلوا وخرجوا.

ثمّ قال: أدخل عليّ عشرة. فأدخلتهم فأكلوا حتّى نهلوا، وما ير في القصعة إلّا آثار أصابعهم.

ثمّ قال: يا جابر، عليّ بالذّراع. فأتيته بالذّراع ]  فقلت: يا رسول اللَّه، كم للشّاة من ذراع؟

قال: ذراعان.فقلت: والّذي بعثك بالحقّ نبيّا، لقد أتيتك بثلاثة.

فقالت: أما لو سكتّ، يا جابر، لأكل النّاس كلّهم من الذّراع.

قال جابر: فأقبلت أدخل  عشرة عشرة فيأكلون ، حتّى أكلوا كلّهم. وبقي، واللَّه، لنا من ذلك الطّعام ما عشنا به أيّاما.

قال: وحفر رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- الخندق، وجعل له ثمانية أبواب، وجعل على كلّ باب رجلا من المهاجرين ورجلا من الأنصار مع جماعة يحفظونه.

و قدمت قريش وكنانة وسليم وهلال فنزلوا الزّغابة. ففرغ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيّام. وأقبلت قريش ومعهم حيّ بن أخطب.

فلمّا نزلوا العقيق، جاء حيّ بن أخطب إلى بني قريظة في جوف اللّيل. وكانوا في حصنهم قد تمسّكوا بعهد رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-. فدقّ باب الحصن، فسمع كعب بن أسد قرع الباب. فقال لأهله: هذا أخوك قد شأم قومه، وجاء الآن يشأمنا ويهلكنا، ويأمرنا بنقض العهد بيننا وبين محمّد، وقد وفى لنا محمّد وأحسن جوارنا. فنزل إليه من غرفته فقال له: من أنت؟

قال: حيّ بن أخطب، قد جئتك بعزّ الدّهر.

فقال كعب: بل جئتني بذلّ الدّهر.

فقال: يا كعب، هذه قريش في قادتها وسادتها قد نزلت بالعقيق مع حلفائهم من كنانة، وهذه فزارة مع قادتها وسادتها قد نزلت الزّغابة، وهذه سليم وغيرهم قد نزلوا حصن بني ذبيان، ولا يفلت محمّد وأصحابه من هذا الجمع أبدا. فافتح  الباب وانقض العهد الّذي بينك وبين محمّد.

قال كعب: لست بفاتح الباب، ارجع من حيث جئت.

فقال حيّ: ما يمنعك من فتح الباب إلّا جشيشتك  الّتي في التّنّور تخاف أن‏أشاركك فيها، فافتح فإنّك آمن من ذلك.

فقال له كعب: لعنك اللَّه، لقد دخلت عليّ من باب دقيق. ثمّ قال: افتحوا له الباب، ففتحوا  له.

فقال: ويلك، يا كعب، انقض العهد الّذي بينك وبين محمّد ولا تردّ رأيي. فأنّ محمّدا لا يفلت من هذه الجموع  أبدا. فإن فاتك هذا الوقت، لا تدرك مثله أبدا.

قال: واجتمع كلّ من كان في الحصن من رؤساء اليهود، مثل: غزال بن شمول، وياسر بن قيس، ورفاعة بن زيد، والّزبير بن ياطا.

فقال لهم كعب: ما ترون؟

قالوا: أنت سيّدنا والمطاع فينا، وأنت صاحب عهدنا. فإن نقضت، نقضنا. وإن أقمت، أقمنا معك. وإن خرجت، خرجنا معك.

فقال الزّبير بن ياطا، وكان شيخا كبيرا مجرّبا وقد ذهب بصره: قد قرأت التّوراة الّتي أنزلها اللَّه في سفرنا، بأنّه يبعث نبيّا في آخر الزّمان يكون مخرجه بمكّة ومهاجرته إلى المدينة في هذه البحيرة ، يركب الحمار العريّ ويلبس الشّملة ويجتزي بالكسيرات والتّميرات، وهو الضّحوك القتّال، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النّبوة، يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقاه، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر. فإن كان هذا هو، فلا يهولنّه هؤلاء وجمعهم ولو ناوأته هذه الجبال الرّواسي لغلبها.

فقال حيّ: ليس هذا ذاك، ذاك النّبيّ من بني إسرائيل وهذا من العرب من ولد إسماعيل. ولا يكون بنو إسرائيل أتباعا لولد إسماعيل أبدا، لأنّ اللَّه قد فضّلهم على النّاس جميعا وجعل لهم النّبوة والملك. وقد عهد إلينا موسى، أن لا نؤمن لرسول حتّى يأتينا بقربان تأكله النّار. وليس مع محمّد [صلّى اللَّه عليه وآله‏] آية، وإنّما جمعهم جمعا وسحرهم ويريد أن يغلبهم بذلك. فلم يزل يقلّبهم عن رأيهم حتّى أجابوه.

فقال لهم: اخرجوا الكتاب الّذي بينكم وبين محمّد [صلّى اللَّه عليه وآله وسلم‏] فأخرجوه، فأخذه حيّ بن أخطب فمزّقه وقال: قد وقع الأمر فتجهّزوا وتهيّئوا للقتال.

و بلغ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- ذلك، فغمّه غمّا شديدا وفزع أصحابه.فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- لسعد بن معاذ وأسيد بن حصين، وكانا من الأوس، وكانت بنو قريظة حلفاء الأوس، فقال لهما: ائتيا بني قريظة، فانظر  ما صنعوا. فإن كانوا نقضوا العهد، فلا تعلما أحدا إذا رجعتما إليّ وقولا: عضل والقارة .

فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حصين إلى باب الحصن. فأشرف عليهما كعب من الحصن، فشتم سعدا وشتم رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-.

فقال له سعد: إنّما أنت ثعلب في جحر. لتولينّ قريش وليحاصرنّك رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- ثمّ لينزلنّك على الصّغر والقماء  وليضر بنّ عنقك.

ثمّ رجعا إلى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-: فقالا له: عضل والقارة .

 [فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-: لعناء نحن أمرناهم بذلك. وذلك أنّه كان على عهد رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- عيون لقريش يتجسّسون أخباره .

و كانت‏]  عضل والقارة قبيلتان من العرب، دخلا في الإسلام ثمّ غدرا. فكان إذا غدر أحد ضرب بهما المثل، فيقال: عضل والقارة.

و رجع حيّ بن أخطب إلى أبي سفيان وقريش، فأخبرهم بنقض بني قريظة العهد

 بينهم وبين رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- ففرحت قريش بذلك.

فلمّا كان في جوف اللّيل، جاء نعيم بن مسعود الأشجعيّ إلى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- وقد كان أسلم قبل قدوم قريش بثلاثة أيّام. فقال: يا رسول اللَّه، قد آمنت باللَّه وصدّقتك وكتمت إيماني عن الكفرة. فإن أمرتني أن آتيك بنفسي وأنصرك بنفسي، فعلت. وإن أمرت أن أخذل بين اليهود وبين قريش، فعلت حتّى لا يخرجوا من حصنهم.

فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-: اخذل بين اليهود وبين قريش، فإنّه أوقع عندي.

قال: فتأذن لي أن أقول فيك ما أريد؟

قال: قل ما بدا لك.

فجاء إلى أبي سفيان، فقال له: تعرف  مودّتي لكم ونصحي ومحبّتي أن ينصركم اللَّه على عدوّكم. وقد بلغني أنّ محمّدا قد وافق اليهود أن يدخلوا بين عسكركم ويميلوا عليكم، ووعدهم إذا فعلوا ذلك أن يردّ عليهم. جناحهم  الّذي قطعه  بني النّظير  وقينقاع. فلا أرى أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتّى تأخذوا منهم رهنا تبعثوا به  إلى مكّة، فتأمنوا مكرهم وعذرهم.

فقال له أبو سفيان: وفّقك اللَّه وأحسن جزاك، مثلك من أهدى النّصائح. ولم يعلم أبو سفيان بإسلام نعيم ولا أحد من اليهود.

ثمّ جاء من فوره ذلك إلى بني قريظة، فقال: يا كعب، تعلم مودّتي لكم. وقد بلغني أنّ أبا سفيان قال: نخرج بهؤلاء اليهود فنضعهم في نحر محمّد [صلّى اللَّه عليه وآله وسلم‏] فإن ظفروا، كان الذّكر لنا دونهم. وإن كانت علينا، كانوا هؤلاء مقاديم الحرب. فما أرى لكم أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتّى تأخذوا منهم عشرة من أشرافهم يكونون في حصنكم. إنّهم إن لم يظفروا بمحمّد [صلّى اللَّه عليه وآله وسلم‏] لم يرجعوا  حتّى يردّوا عليكم [عهدكم و]  عقدكم بين محمّد [صلّى اللَّه عليه وآله وسلم‏] وبينكم. لأنّه إن ولّت قريش ولم يظفروابمحمّد، غزاكم محمّد [صلّى اللَّه عليه وآله وسلم‏] فيقتلكم.

فقالوا: أحسنت وأبلغت في النّصيحة. لا نخرج من حصننا. حتّى نأخذ منهم رهنا يكونون في حصننا.

و أقبلت قريش. فلمّا نظروا إلى الخندق، قالوا هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك.

فقيل لهم: هذا من تدبير الفارسيّ الّذي معه. فوافى عمرو بن عبد ودّ وهبيرة بن وهب وضرار بن الخطّاب إلى الخندق، وكان رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- قد صفّ أصحابه بين يديه، فصاحوا بخيلهم حتّى طفروا الخندق إلى جانب رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- فصار أصحاب رسول اللَّه كلّهم خلفا رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-، وقدّموا رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- بين أيديهم.

و قال رجل من المهاجرين، وهو فلان، لرجل بجنبه إخوانه: أما ترى هذا الشّيطان عمروا، لا واللَّه ما يفلت من يديه أحد، فهلمّوا ندفع إليه محمّدا ليقتله ونلحق نحن بقومنا.

فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ- على نبيّة- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- في ذلك الوقت- قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ إلى قوله»

 [: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ‏]  وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. وركز عمرو بن عبد ودّ رمحه في الأرض، وأقبل يجول حوله ويرتجز ويقول:

         ولقد بجحت من النّداء بجمعكم هل من مبارز             ووقفت إذ جبن الشّجاع مواقف القرن المناجز.

 

 

         إنّي كذلك لم أزل متسرّعا نحو الهزاهز             إنّ الشّجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز

 فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-: من لهذا الكلب؟ فلم يجبه أحد.

فوثب  إليه أمير المؤمنين- عليه السّلام- فقال: أنا له، يا رسول اللَّه.

فقال: يا عليّ، هذا عمرو بن عبد ودّ فارس يليل .

قال: أنا علّي بن أبي طالب.فقال له رسول اللَّه: ادن منّي. فدنا منه، فعمّمه بيده، ودفع إليه سيفه ذا الفقار، وقال له: اذهب وقاتل لهذا. وقال: اللّهمّ، احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته.

فمرّ أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- يهرول في مشيه وهو يقول:

         لا تعجلنّ فقد أتاك مجيب صوتك غير عاجز             ذو نيّة وبصيرة والصّدق منجى كلّ فائز

 

 

         إنّي لأرجو أن أقيم عليك ناحية الجنائز             من ضربة نجلاء يبقى صيتها بعد الهزاهز.

 

 

فقال: له عمرو: من أنت؟

قال: أنا علّي بن أبي طالب، ابن عمّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- وختنه.

فقال: واللَّه، إنّ أباك كان لي صديقا قديما ، وإنّي أكره أن أقتلك. ما أمن ابن عمّك حين بعثك إليّ أن أختطفك برمحي هذا، فأترك شائلا بين السّماء والأرض لا حيّ ولا ميّت.

فقال له أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه-: قد علم ابن عمّي أنّك إن قتلتني دخلت الجنّة، وأنت في النّار، وإن قتلتك فأنت في النّار وأنا في الجنّة.

فقال عمرو: كلتاهما لك، يا عليّ، تلك إذا قسمة ضيزى.

فقال عليّ- عليه السّلام-: دع هذا، يا عمرو، إنيّ سمعت منك وأنت متعلّق بأستار الكعبة تقول: لا يعرضنّ عليّ أحد في الحرب ثلاثة خصال، إلّا أجبته إلى واحدة منها. وأنا أعرض عليك ثلاث خصال، فأجبني إلى واحدة.

قال: هات، يا عليّ.

قال: أحدها، تشهد أن لا إله إلّا اللَّه وأنّ محمّدا رسول اللَّه.

قال: نحّ عنّي هذه، فاسال الثّانية.

فقال: أن ترجع وتردّ هذا الجيش عن رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-. فإن يك صادقا، فأنتم أعلى به عينا. وإن يك كاذبا، كفتكم ذؤبان العرب أمره.

قال: إذا لا تتحدّث نساء قريش بذلك، ولا تنشد الشّعراء في أشعارها، إنّي‏جبنت  ورجعت على عقبي من الحرب وخذلت قوما رأسوني عليهم.

فقال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: فالثّالثة، أن تنزل إليّ . فإنّك فارس ، وأنا راجل حتّى أنابذك.

فوثب عن فرسه وعرقبه، وقال: هذه خصلة ما ظننت أنّ أحدا من العرب يسومني عليها. ثمّ بدأ فضرب أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- بالسّيف على رأسه، فاتّقاه أمير المؤمنين- عليه السّلام- بالدّرقة فقطعها وثبت السّيف على رأسه.

فقال له عليّ- صلوات اللَّه عليه-: يا عمرو، أما كفاك أنّي بارزتك، وأنت فارس العرب، حتّى استعنت عليّ بظهير. فالتفت عمرو إلى خلفه. فضربه أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- مسرعا على ساقيه فقطعهما جميعا، وارتفعت بينهما عجاجة.

فقال المنافقون: قتل عليّ بن أبي طالب.

ثمّ انكشفت العجاجة ونظروا، فإذا أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- على صدره قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه فذبحه. ثمّ أخذ رأسه وأقبل إلى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- والدّماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو. وسيفه يقطر منه الدّم. وهو يقول والرّأس بيده:

 

         أنا [عليّ و]  ابن عبد المطّلب             الموت خير للفتى من الهرب‏

 فقال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-: يا علّي، ماكرته؟

قال: نعم، يا رسول اللَّه، الحرب خديعة.

و بعث رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- الزّبير إلى هبيرة بن وهب فضربه على رأسه ضربة فلق هامته وأمر رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- عمر بن الخطّاب أن يبارز ضرار بن الخطّاب. فلمّا برز إليه [ضرار]  انتزع له عمر سهما. فقال له ضرار: ويلك، يا ابن صهاك، أ ترميني في المبارزة ؟ واللَّه لئن رميتني لا تركت عدويّا بمكّة إلّا قتلة. فانهزم عند ذلك

 عمر. ومرّ نحوه ضرار وضربه ضرار على رأسه بالقناة ثمّ قال: احفظها، يا عمر، فإنّي آليت أن لا أقتل قريشيّا ما قدرت عليه. فكان عمر يحفظ له ذلك بعد ما ولي، فوّلاه.

فبقي رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- يحاربهم في الخندق خمسة عشر يوما.

فقال أبو سفيان لحيّ بن أخطب: ويلك يا يهوديّ، أين قومك؟

فصار حيّ بن أخطب إليهم، فقال: ويلكم اخرجوا، فقد نابذكم  محمّد الحرب، فلا أنتم مع محمّد [صلّى اللَّه عليه وآله وسلم‏] لم يرجعوا  حتّى يردّ محمّد علينا عهدنا [و عقدنا]  فإنّا لا نأمن أن تفّر  قريش ونبقى نحن في عقر دارنا ويغزونا محمّد [صلّى اللَّه عليه وآله وسلم‏] فيقتل رجالنا ويسبي نساءنا وذرارينا. وإن لم نخرج لعلّه يردّ علينا عهدنا.

فقال له حيّ بن أخطب: تطمع في غير مطمع قد نابذت العرب محمّدا الحرب، فلا أنتم مع محمّد [صلّى اللَّه عليه وآله وسلم‏] ولا أنتم مع قريش.

فقال كعب: هذا من شؤمك، إنّما أنت طائر تطير مع قريش غدا وتتركنا في عقر دارنا ويغزونا محمّد [صلّى اللَّه عليه وآله وسلم.]

فقال له: لك عهد اللَّه عليّ وعهد موسى، إنّه إن لم تظفر قريش بمحمّد أنيّ أرجع معك إلى حصنك يصيبني ما يصيبك.

فقال كعب: هو الّذي قد قلته لك، إن أعطتنا قريش رهنا يكونون عندنا وإلّا لم نخرج.

فرجع حيّ بن أخطب إلى قريش، فأخبرهم. فلمّا قال: يسألون الرّهن، قال أبو سفيان: هذا، واللَّه، أوّل الغدر. قد صدق نعيم بن مسعود. لا حاجة لنا في إخوان القردة والخنازير.

فلمّا طال على أصحاب رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- الأمر واشتدّ عليهم الحصار، وكانوا في وقت برد شديد وأصابتهم مجاعة وخافوا من اليهود خوفا شديدا، وتكلّم المنافقون بما حكى اللَّه- عزّ وجلّ- عنهم ولم يبق أحد من أصحاب رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه‏و آله وسلم- إلّا نافق إلّا القليل، وقد كان رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- أخبر أصحابه، أنّ العرب تتخرّب علىّ ويجيئونا  من فوق وتغدر اليهود ونخافهم من أسفل، وأنّه يصيبهم جهد شديد ولكن تكون العاقبة لي عليهم، فلمّا جاءت قريش وعذرت اليهود قال المنافقون: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً وكان قوم لهم دور في أطراف المدينة، فقالوا: يا رسول اللَّه، تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا، فإنّها في أطراف المدينة وهي عورة ونخاف اليهود أن يغيروا علينا؟

و قال قوم: هلمّوا فنهرب ونصير في البادية ونستجير بالأعراب. فإنّ الّذي كان يعدنا محمّد [صلّى اللَّه عليه وآله وسلم‏] كان باطلا كلّه.

 [و كان رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله-]  أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة باللّيل.

و كان أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- على العسكر كلّه باللّيل يحرسهم، فإن تحرّك أحد من قريش نابذهم. وكان أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- يجوز الخندق ويصير إلى قرب قريش حيث يراهم. فلا يزال اللّيل كلّه قائما وحده يصلّي، فإذا أصبح رجع إلى مركزه. ومسجد أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- هناك معروف، يأتيه من يعرفه فيصلّي فيه، وهو من مسجد الفتح إلى العقيق أكثر من غلوة نشاب .

فلمّا رأى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- من أصحابه الجزع لطول الحصار، صعد إلى مسجد الفتح- وهو الجبل الّذي عليه مسجد الفتح اليوم- فدعا اللَّه- عزّ وجلّ- وناجاه فيما وعده. وكان ممّا دعاه أن قال: يا صريخ المكروبين، ويا مجيب دعوة  المضطّرين، ويا كاشف الكرب العظيم، أنت مولاي ووليّي ووليّ آبائي الأوّلين، اكشف عنّا غمنّا وهمّنا وكربنا، واكشف عنّا [شرّ]  هؤلاء القوم بقوّتك وحولك وقدرتك.

فنزل عليه جبرائيل- عليه السّلام- فقال: يا محمّد، إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- قد سمع مقالتك، وأجاب دعوتك، وأمر الدّبور- وهي الرّيح- مع الملائكة أن تهزم قريشا والأحزاب.

و بعث اللَّه- عزّ وجلّ- على قريش الدّبور، فانهزموا وقلعت أخبيتهم. ونزل‏جبرائيل، فأخبره بذلك.

فنادى رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله- حذيفة بن اليمان- رضي اللَّه عنه- وكان قريبا منه، فلم يجبه  ثمّ ناداه ثانيا، فلم يجبه . ثمّ ناداه الثّالثة، فقال: لبّيك، يا رسول اللَّه.

فقال: أدعوك، فلا تجيبني.

قال: يا رسول اللَّه، بأبي أنت وأمي، من الخوف والبرد والجوع.

فقال: ادخل في القوم ائتني  بأخبارهم، ولا تحدّثنّ حدثا حتّى ترجع إلىّ. فإنّ اللَّه قد أخبرني أنّه قد أرسل الرّياح على قريش وهزمهم.

قال حذيفة: فمضيت وأنا أنتفض من البرد، فو اللَّه ما كان إلّا بقدر ما جزت الخندق حتّى كأنّي في حمّام. فقصدت خباء عظيما فإذا نار تخبو وتوقد، وإذا خيمة فيها أبو سفيان قد دلا خصيته على النّار، وهو ينتفض من شدّة البرد، ويقول:

يا معشر قريش، إن كنّا نقاتل أهل السّماء بزعم محمّد [صلّى اللَّه عليه وآله وسلم‏] فلا طاقة لنا بأهل السّماء، وإن كنّا نقاتل أهل الأرض فنقدر عليهم. ثمّ قال: لينظر كلّ رجل منكم إلى جليسه، لا يكون لمحمد عين فيما بيننا.

قال حذيفة: فبادرت أنا فقلت للّذي عن يميني: من أنت؟

فقال: أنا عمرو بن العاص.

ثمّ قلت للّذي عن يساري: من أنت؟

فقال: أنا معاوية.

و إنّما بادرت إلى ذلك لئلّا يسألني أحد: من أنت؟ ثمّ ركب أبو سفيان راحلته وهي معقولة. ولولا أنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- قال: لا تحدث حدثا حتّى ترجع إليّ، لقدرت أن أقتله.

ثمّ قال أبو سفيان لخالد بن الوليد: يا أبا سليمان، لا بدّ من أن أقيم أنا وأنت على ضعفاء النّاس. ثمّ قال: ارتحلوا إنّا مرتحلون. ففرّوا منهزمين.

فلمّا أصبح رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- قال لأصحابه: لا تبرحوا. فلمّا طلعت الشّمس دخلوا المدينة وبقي رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- في نفر يسير.

و كان ابن عرفة  الكنانيّ رمى سعد بن معاذ- رحمة اللَّه- بسهم في الخندق فقطع أكحله، فنزفه الدّم. فقبض سعد على أكحله بيده، ثمّ قال: اللّهمّ، إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فلا أحد أحبّ إليّ من محاربتهم من قوم حاربوا  اللَّه ورسوله.

و إن كانت الحرب قد وضعت أوزارها بين رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- وبين قريش فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة. فأمسك الدّم، وتورّمت يده.

و ضرب له رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- في المسجد خيمة، وكان يتعاهده بنفسه. فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، يعني: بني قريظة حين عذروا وخافوهم أصحاب رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ إلى قوله: إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً وهم الذّين قالوا لرسول اللَّه: تأذن لنا نرجع إلى منازلنا، فإنّها في أطراف المدينة ونخاف اليهود عليها. فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ- فيهم: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً إلى قوله- تعالى-: وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ونزلت هذه الآية في الثّاني لمّا قال لعبد الرّحمن بن عوف: هلمّ ندفع محمّدا- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- إلى قريش ونلحق نحن بقومنا.

هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ: اختبروا. فظهر المخلص من المنافق والثّابت من المتزلزل.

وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً : من شدّة الفزع.

و قرئ: «زلزالا» بالفتح .

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللَّه-: عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام-: أمّا إنّه سيأتي على النّاس زمان يكون الحقّ فيه مستورا والباطل ظاهرا مشهورا. وذلك إذا كان أولى النّاس به أعدائهم له، واقترب الوعد الحقّ، وعظم الإلحاد، وظهر الفساد هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً ونحلهم‏الأخيار أسماء الأشرار. فيكون جهد المؤمن أن يحفظ مهجته من أقرب النّاس إليه. ثمّ يفتح  اللَّه الفرج لأوليائه، ويظهر صاحب الأمر على أعدائه.

وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: ضعف اعتقاد.

ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ: من ظفر وإعلاء الدّين.

إِلَّا غُرُوراً : وعدا باطلا.

و قيل : قائله محتب بن قشير. قال: يعدنا محمّد فتح فارس والرّوم وأحدنا لا يقدر أن يتبرّز فرقا، ما هذا إلّا وعد غرور .

وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ، يعني: أوس بن قيظي وأتباعه.

و قيل : عبد اللَّه بن أبيّ وأصحابه.

و قيل»

: هم بنو سالم من المنافقين.

يا أَهْلَ يَثْرِبَ: أهل المدينة.

ذكر السّيّد المرتضى- قدّس اللَّه روحة -: أنّ من أسماء المدينة، يثرب وطيبة وطابة والدّار والسكينة وجائزة والمحبورة والمحبوبة والمحبّة والعذراء والمرحومة والقاصمة وتبدد، فذلك ثلاثة عشر اسما.

و قيل : هو اسم أرض وقعت المدينة في ناحية منها.

لا مُقامَ لَكُمْ: لا موضع قيام لكم ها هنا.

و قرأ حفص، بالضّمّ، على أنّه مكان. أو مصدر، من أقام .

فَارْجِعُوا إلى منازلكم هاربين.

و قيل : المعنى: لا مقام لكم على دين محمّد، فارجعوا إلى الشّرك وأسلموه لتسلموا. أو لا مقام لكم بيثرب، فارجعوا كفّارا ليمكنكم المقام بها.

وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ: للرّجوع.يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ: غير حصينة. وأصلها الخلل. ويجوز أن يكون تخفيف العورة، من عورت الدّار: إذا اختلّت. وقد قرئت بها .

وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ: بل هي حصينة.

إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً :، أي: ما يريدون بذلك إلّا الفرار من القتال.

و في مجمع البيان : يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ بل هي رفيعة السّمك حصينة. عن الصّادق- عليه السّلام-.

و في تفسير العيّاشيّ : عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله : رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ قال: مع النّساء. إنّهم قالوا: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وكانت بيوتهم في أطراف البيوت حيث ينفرد النّاس، فأكذبهم. قال: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً وهي رفيعة السّمك حصينة.

وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ: دخلت المدينة، أو بيوتهم.

مِنْ أَقْطارِها: من جوانبها. وحذف الفاعل، إيماء بأنّ دخول هؤلاء المتحزّبين عليهم ودخول غيرهم من العساكر سيّان في اقتضاء الحكم المرتّب عليه.

ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ: الرّدّة ومقاتله المسلمين.

لَآتَوْها: لأعطوها.

و قرأ الحجازيّان، بالقصر، بمعنى: جاؤوها وفعلوها .

وَ ما تَلَبَّثُوا بِها: بالفتنة، أي: بإعطائها.

إِلَّا يَسِيراً  وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ قيل : يعني: بني حارثة، عاهدوا رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- يوم أحد حين فشلوا ثمّ تابوا أن لا يعودوا لمثله.

وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا : عن الوفاء به، مجازي عليه.قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ: فإنّه لا بدّ لكلّ شخص من حتف أنف أو قتل في وقت معيّن، سبق القضاء وجرى عليه القلم.

وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ، أي: وإن نفعكم الفرار مثلا فمتّعتم بالتّأخير، لم يكن ذلك التّمتيع إلّا تمتيعا أو زمانا قليلا.

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً، أي:

يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة. فاختصر الكلام كما في قوله:

متقلّدا سيفا ورمحا  أو حمل الثّاني على الأوّل، لما في العصمة من معنى: المنع.

وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا: ينفعهم.

وَ لا نَصِيراً : يدفع الضّرّ عنهم.

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ: المثبّطين عن رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-. وهم المنافقون.

وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ: من ساكني المدينة.

هَلُمَّ إِلَيْنا: قرّبوا أنفسكم إلينا.

وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا : إلّا إتيانا، أو زمانا، أو بأسا قليلا. فإنّهم يعتذرون ويثبّطون ما أمكن لهم. أو يخرجون مع المؤمنين ولكن لا يقاتلون إلّا قليلا، كقوله: ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا.

و قيل : إنّه من تتمّة كلامهم. ومعناه: لا يأتي أصحاب محمّد حرب الأحزاب ولا يقاومونهم إلّا قليلا.

و في نهج البلاغة ، من كتاب له- عليه السّلام- إلى معاوية جوابا: ثمّ ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه، فأيّنا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله، أمّن بذل له نصرته فاستنقذه  واستكفّه ، أم من استنصره فتراخى عنه وبثّ المنون  إليه حتّى أتى قدرة عليه؟ كلّا واللَّه‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا.

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ: بخلاء بالمعاونة، أو النّفقة في سبيل اللَّه، أو الظّفر والغنيمة. جمع، شحيح.

و نصبها على الحال من فاعل «يأتون» أو «المعوّقين» أو على الذّمّ.

فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ: في أحد افهم.

كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ: كنظر المغشيّ عليه، أو كدوران عينيه، أو مشبّهين به، أو مشبّهة بعينه.

مِنَ الْمَوْتِ: من معالجة سكرات الموت، خوفا ولواذا بك.

فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ: وحيزت الغنائم.

سَلَقُوكُمْ: ضربوكم.

بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ: ذرية. يطلبون الغنيمة.

و السّلق: البسط بقهر، باليد أو باللّسان.

أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ: نصب على الحال، أو الذّمّ. ويؤيّده قراءة الرّفع. وليس بتكرير، لأنّ كلّا منهما مقيّد من وجه .

أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا: إخلاصا.

فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ: فأظهر بطلانها، إذ لم يثبت لهم أعمال فتبطل. أو أبطل تصنّعهم ونفاقهم.

وَ كانَ ذلِكَ: الإحباط.

عَلَى اللَّهِ يَسِيراً : هيّنا. لتعلّق الإرادة به، وعدم ما يمنعه عنه.