سورة الصّافّات

سورة الصّافّات مكّيّة. 

و آياتها مائة وإحدى أو اثنتان وثمانون آية. 

بسم الله الرحمن الرحيم‏

في كتاب ثواب- الاعمال ، بإسناده إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: من قرأ سورة الصّافّات، في كلّ يوم جمعة، لم يزل محفوظا من كلّ آفة، مدفوعا عنه كلّ بليّة في الحياة الدّنيا، مرزوقا [في الدنيا]  في أوسع ما يكون من الرّزق. ولم يصبه اللّه في ما له ولا ولده ولا بدنه، بسوء من شيطان رجيم، ولا من جبّار عنيد. وإن مات في يومه، أو ليلته، بعثه اللّه شهيدا، وأماته شهيدا. وأدخله الجنّة مع الشّهداء في درجة من الجنّة.

و في مجمع البيان : أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: ومن قرأ سورة الصّافات، أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ جنّيّ وشيطان.

و تباعدت عنه مردة الشياطين. وبرئ من الشّرك. وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بالمرسلين.

و في الكافي : محمّد بن يحيى، عن موسى بن الحسن، عن سليمان الجعفريّ قال:

 

رأيت أبا الحسن- عليه السّلام- يقول لابنه القاسم: قم، فاقرأ عند رأس أخيك‏وَ الصَّافَّاتِ حتّى تستتمّها.

فقرأ. فلمّا بلغ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا  قضي الفتى. فلمّا سجّي ، وخرجوا، أقبل عليه يعقوب بن جعفر، فقال له: كنّا نعهد الميّت إذا نزل به الموت، يقرأ عنده يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، فصرت تأمرنا بالصّافّات؟! فقال: يا بنيّ، لم تقرأ عند  مكروب من موت قطّ، إلّا عجّل اللّه راحته.

وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا  فَالزَّاجِراتِ زَجْراً  فَالتَّالِياتِ ذِكْراً :

قيل : أقسم بالملائكة الصّافّين.

و في مجمع البيان : اختلف في معني الصَّافَّاتِ على وجوه:

أحدها: أنّها الملائكة تصفّ أنفسها صفوفا في السّماء، كصفوف المؤمنين للصّلاة.

عن ابن عبّاس، ومسروق، والحسن، وقتادة، والسّديّ.

و ثانيها: أنّها الملائكة تصفّ أجنحتها في الهواء، إذا أرادت النّزول إلى الأرض، واقفة تنتظر ما يأمرها اللّه- تعالى. عن الجبّائي.

و ثالثها: أنّها جماعة المؤمنين يقومون مصطفّين في الصّلاة والجهاد. عن أبي مسلم.

فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. اختلف فيها- أيضا- على وجوه:

أحدها: أنّها الملائكة تزجر الخلائق عن المعاصي. عن السّديّ ومجاهد. وعلى هذا، فإنّه يوصل اللّه مفهومه إلى قلوب العباد، كما يوصل مفهوم إغواء الشّياطين إلى قلوبهم ليصحّ التّكليف.

و ثانيها: أنّها الملائكة الموكّلة بالسّحاب، تزجرها وتسوقها. عن الجبّائي.

و ثالثها: أنّها زواجر القرآن وآياته الناهية عن القبائح. عن قتادة.

و رابعها: أنّهم المؤمنون يرفعون أصواتهم عند قراءة القرآن. لأنّ الزّجرة الصّيحة. عن أبي مسلم.

فَالتَّالِياتِ ذِكْراً اختلف فيها- أيضا- على أقوال:

أحدها: أنّها الملائكة تقرأ كتاب اللّه والذّكر الّذي ينزل على الموحى إليه. عن‏مجاهد والسّديّ.

و ثانيها: أنّها الملائكة تتلو كتاب اللّه الّذي كتبه لملائكته وفيه ذكر الحوادث، فتزداد يقينا بوجود المخبر على وفق الخبر.

و ثالثها: جماعة قرّاء القرآن من المؤمنين، يتلونه في الصّلاة. عن أبي مسلم.

و إنّما لم يقل: فالتّاليات  تلواكما قال: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً، لأنّ التّالي قد يكون بمعنى التّابع. ومنه قوله : وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها. فلمّا كان اللّفظ مشتركا، بيّنه بما يزيل الإبهام .

فالعطف لاختلاف الذّوات أو الصّفات. والفاء لترتيب الوجود كقوله:

         يا لهف زيّابة للحارث الصابح             فالغانم فالآيب‏

 فإنّ الصّفّ كمال، والزّجر تكميل بالمنع عن الشّرّ، أو الإساقة  إلى قبول الخير، والتّلاوة إفاضته. أو الرّتبة

كقوله - صلّى اللّه عليه وآله-: رحم اللّه المحلّقين، فالمقصّرين‏

غير أنّه لفضل المتقدّم على المتأخّر، وهذا للعكس.

و أدغم  أبو عمرو وحمزة التّاءات فيما يليها، لتقاربها فإنّها من طرف اللّسان وأصول الثّنايا.

إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ :

جواب للقسم. والفائدة فيه تعظيم المقسم به، وتأكيد المقسم عليه، على ما هو المألوف في كلامهم. وأمّا تحقيقه، فبقوله: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ . فإنّ وجودها وانتظامها على الوجه الأكمل، مع إمكان غيره، دليل وجود الصّانع الحكيم ووحدته، على ما مرّ غير مرّة.

و «ربّ» بدل من «واحد» أو خبر ثان، أو خبر محذوف.

و ما قيل : إنّ ما بينهما يتناول أفعال العباد. فيدلّ على أنّها من خلقه ففيه: أنّ كونه ربّ أفعال العباد، لا يستلزم كونه خالقا لها. فإنّ كونه خالقا لمصادرها، يكفي في‏كونه ربّا لها.

و الْمَشارِقِ مشارق الكواكب، أو مشارق الشّمس في السّنة. وهي ثلاثمائة وستّون مشرقا، تشرق كلّ يوم في واحد، وبحسبها تختلف المغارب ولذلك اكتفى بذكرها.

مع أنّ الشّروق أدلّ على القدرة، وأبلغ في النّعمة.

إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا: القربى منكم بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ : بزينة  هي الكواكب. والإضافة للبيان. ويعضده قراءة  يعقوب وحمزة  وحفص بتنوين «زينة». وجرّ «الكواكب» على إبدالها منه.

أو: بزينة هي لها كأضوائها وأوضاعها. أو: بأن زيّنّا الكواكب فيها، على إضافة المصدر إلى المفعول. فإنّها كما جاءت اسماء- كاللّيقة- جاعت مصدرا، كالنّسبة.

و يؤيّده قراءة  أبي بكر بالتّنوين والنّصب على الأصل.

أو: بأن زيّنتها الكواكب، على إضافته إلى الفاعل.

و ركوز الثّوابت في الكرة الثّامنة، وما عدا القمر من السّيّارات في السّتّ المتوسّطة بينها وبين السّماء الدّنيا- إن تحقّق- لم يقدح في ذلك فإنّ أهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا قال: الملائكة والأنبياء- عليهم السّلام- ومن صفّ للّه- عزّ وجلّ- وعبده. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً الّذين يزجرون النّاس. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً [الّذين‏]  يقرءون الكتاب من النّاس. فهو قسم وجوابه: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ. الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ.

قال : وحدّثني أبي ويعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: إنّ لهذه النّجوم الّتي في السّماء مدائن [مثل المدائن‏]  الّتي في الأرض، مربوطة كلّ مدينة بعموم من نور. طول‏ذلك العمود في السّماء مسيرة مائتين وخمسين سنة.

وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ : خارج من الطاعة، برمي الشّهب.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقوله- عزّ وجلّ-: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ قال: المارد: الخبيث.

و حِفْظاً منصوب بإضمار فعله، أو العطف على بِزِينَةٍ باعتبار المعنى. كأنّه قال:

إنّا خلقنا الكواكب زينة  للسّماء وحفظا.

لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى:

كلام مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ السّماء عنهم. ولا يجوز جعله صفة ل كُلِّ شَيْطانٍ فإنّه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون، ولا علّة للحفظ، على حذف اللّام كما في: جئتك أن تكرمني. ثمّ حذف أن وإهدارها كقوله:

         ألا أيّهذا الزّاجريّ أحضر الوغى‏

 

 فإنّ اجتماع ذلك منكر.

و الضّمير ل «كلّ» باعتبار المعنى. وتعدية السّماع ب «إلى» لتضمّنه معنى الإصغاء، مبالغة لنفيه، وتهويلا لما يمنعهم عنه. ويدلّ عليه قراءة  حمزة والكسائيّ وحفص بالتّشديد من التّسمّع، وهو: طلب السّماع. والْمَلَإِ الْأَعْلى: الملائكة وأشرافهم.

وَ يُقْذَفُونَ: ويرمون مِنْ كُلِّ جانِبٍ  من جوانب السّماء، إذا قصدوا صعوده، دُحُوراً: علّة أي: للدّحور، وهو الطّرد. أو مصدر. لأنّه والقذف متقاربان.

أو حال بمعنى: مدحورين. أو: منزوع عنه الباء جمع دحر، وهو: ما يطرد به. ويقوّيه القراءة  بالفتح وهو يحتمل أيضا أن يكون مصدرا كالقبول أو صفة له أي قذفا دحورا.

وَ لَهُمْ عَذابٌ أي: عذاب آخر واصِبٌ : دائم، أو شديد وهو عذاب الآخرة.

و في تفسير عليّ بن ابراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: عَذابٌ واصِبٌ أي: دائم موجع، قد وصل إلى قلوبهم.إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ:

استثناء من واو «يسمعون». و«من» بدل منه.

فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ:

و الخطف: الاختلاس. والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة. ولذلك عرّف الخطفة.

و قرئ : «خطّف» بالتّشديد مفتوح الخاء ومكسورها. وأصلهما: اختطف.

و أتبع بمعنى: تبع. والشّهاب: ما يرى كأنّ كوكبا انقضّ. قال البيضاويّ : وما قيل: إنّه بخار يصعد إلى الأثير، فيشتعل، فتخمين- إن صحّ- لم يناف ذلك. إذ ليس فيه ما يدلّ على أنّه ينقضّ  من الفلك، ولا في قوله : وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ. فإنّ كلّ نيّر يحصل في الجوّ العالي، فهو مصباح لأهل الأرض، وزينة للسّماء من حيث إنّه يرى كأنّه على سطحه. ولا يبعد أن يصير الحادث كما ذكر في بعض الأوقات رجما  للشّيطان ، أن يتصعّد إلى قرب الفلك للتّسمّع.

و ما روي أنّ ذلك حدث بميلاد النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- إن صحّ، فلعلّ المراد كثرة وقوعه، أو مصيره دحورا.

و اختلف في أنّ المرجوم يتأذّى به فيرجع، أو يحترق به، لكن قد يصيب  الصّاعد مرّة، وقد لا يصيب  كالموج لراكب السّفينة. ولذلك لا يرتدعون عنه رأسا. ولا يقال:

إنّ الشّيطان من النّار، فلا يحترق لأنّه ليس من النّار الصّرف، كما أنّ الإنسان ليس من التّراب الخالص. مع أنّ النّار القويّة، إذا استولت على الضّعيفة، استهلكتها.

ثاقِبٌ : مضي‏ء كأنّه يثقب الجوّ بضوئه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- حديث طويل.

 

قال: فصعد جبرئيل، وصعدت معه إلى سماء الدّنيا، وعليها ملك يقال له: إسماعيل، وهو صاحب الخطفة الّتي قال اللّه- عزّ وجلّ-: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ‏

 . وتحته سبعون ألف ملك، تحت كلّ ملك سبعون ألف ملك. فقال: يا جبرئيل من هذا معك؟ قال: محمّد- صلّى اللّه عليه وآله. قال: أو قد بعث؟ قال: نعم. ففتح الباب. فسلّمت عليه، وسلّم عليّ. واستغفرت له، واستغفر لي. وقال: مرحبا بالأخ الصّالح»، والنّبيّ الصّالح.

فَاسْتَفْتِهِمْ: فاستخبرهم.

و الضّمير لمشركي مكة، أو لبني آدم.

أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني: ما ذكر من الملائكة والسّماء والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشّهب الثّواقب.

و «من» لتغليب العقلاء. ويدلّ عليه إطلاقه، ومجيئه بعد ذلك، وقراءة  من قرأ:

 «أم من عددنا»، وقوله: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ  فإنّه الفارق بينهم وبينها، لا بينهم وبين من قبلهم، كعاد وثمود. ولأنّ المراد إثبات المعاد، وردّ استحالته، والأمر فيه بالإضافة إليهم وإلى من قبلهم سواء.

و تقريره: أنّ استحالة ذلك إمّا لعدم قابليّة المادّة، ومادّتهم الاصليّة هي الطّين اللّازب الحاصل من ضمّ الجزء المائيّ إلى الجزء الأرضيّ. وهما باقيان قابلان للانضمام بعد. وقد علموا أنّ الإنسان الأوّل إنّما تولّد منه، إمّا لاعترافهم بحدوث العالم، أو بقصّة آدم وشاهدوا تولّد كثير من الحيوانات بلا توسّط مواقعة. فلزمهم ان يجوّزوا إعادتهم كذلك.

و إمّا لعدم قدرة الفاعل ومن قدر على خلق هذه الأشياء، قدر على ما لا يعتدّ به بالإضافة إليها سيّما ومن ذلك بدأهم أوّلا، وقدرته ذاتيّة لا تتغيّر.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسن، عن النّضر بن شعيب، عن عبد الغفّار الجازيّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ اللّه خلق المؤمن من طينة الجنّة، وخلق الكافر من طينة النّار.

قال: وسمعته يقول: الطّينات ثلاث: طينة الأنبياء، والمؤمن من تلك الطّينة إلّا أنّ الأنبياء هم من صفوتها. هم الأصل، ولهم فضلهم. والمؤمنون الفرع من طين لازب.

كذلك لا يفرّق اللّه- عزّ وجلّ- بينهم وبين شيعتهم.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

بَلْ عَجِبْتَ من قدرة اللّه وإنكارهم للبعث، وَيَسْخَرُونَ  من تعجّبك وتقريرك للبعث.

و قرأ  حمزة والكسائيّ بضمّ التّاء. أي: بلغ كمال قدرتي وكثرة خلائقي أن تعجّبت منها، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها. أو: عجبت من أن ينكر البعث ممّن هذه أفعاله، وهم يسخرون ممّن يجوّزوه. والعجب من اللّه إمّا على الفرض والتّخيل، أو على معنى الاستعظام اللّازم له، فإنّه روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشّي‏ء.

و قيل : إنّه مقدّر بالقول. أي: قل يا محمّد، بل عجبت.

وَ إِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ : وإذا وعظوا بشي‏ء، لا يتّعظون به. أو: إذا ذكر لهم ما يدلّ على صحّة الحشر، لا ينتفعون به، لبلادتهم وقلّة ذكرهم.

وَ إِذا رَأَوْا آيَةً: معجزة تدلّ على صدق القائل يَسْتَسْخِرُونَ : يبالغون في السّخرية، ويقولون: إنّه سحر. أو: يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها.

وَ قالُوا إِنْ هذا- يعنون ما يرونه- إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ : ظاهر سحريّته.

أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ :

أصله: أ نبعث إذا متنا. فبدّلوا الفعليّة بالاسميّة، وقدّموا الظّرف، وكرّروا الهمزة، مبالغة في الإنكار، وإشعارا بأنّ البعث مستنكر في نفسه، وفي هذه الحال أشدّ استنكارا.

فهو أبلغ من قراءة  ابن عامر بطرح الهمزة الأولى، وقراءة  نافع والكسائيّ ويعقوب بطرح الثّانية.

أَ وَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ :

عطف على محلّ «إنّ» واسمها، أو على الضمير في «مبعوثون»، فإنّه مفصول منه بهمزة الاستفهام، لزيادة الاستبعاد، لبعد زمانهم.

و سكّن  نافع وابن عامر الواو على معنى التّرديد.

قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ : صاغرون.

و إنّما اكتفى به في الجواب، لسبق ما يدلّ على جوازه، وقيام المعجزة على صدق المخبر عن وقوعه.و قرئ : «قال» أي: اللّه، أو الرّسول- صلّى اللّه عليه وآله- و«نعم» بالكسر.

و هو لغة فيه.

فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ:

جواب شرط مقدّر. أي: إذا كان ذلك، فإنّما البعثة زجرة- أي: صيحة- واحدة هي النّفخة الثّانية . من: زجر الرّاعي غنمه: إذا صاح عليها. وأمرها في الإعادة، كأمر «كن» في الإبداء. ولذلك رتّب عليها فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ : فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون، أو ينتظرون ما يفعل بهم.

وَ قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ : اليوم الّذي نجازى بأعمالنا.

و يا وَيْلَنا كلمة يقولها القائل عند الوقوع في الهلكة. ومثله: «يا حسرتنا». ينادون مثل هذه الأشياء على وجه التّنبيه على عظم الحال.

قيل : وقدتّم به كلامهم، وقوله: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ  جواب الملائكة.

و قيل : هو أيضا من كلام بعضهم لبعض.

و الفصل: القضاء، أو الفرق بين المحسن والمسي‏ء.

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا بارتكاب المعاصي، أي: اجمعوهم من كلّ جهة.

و قيل : أمر اللّه للملائكة، أو أمر بعضهم لبعض، بحشر الظّلمة من مقامهم إلى الموقف. وقيل: منه إلى الجحيم.

وَ أَزْواجَهُمْ: وأشباههم، عابد الصّنم مع عبدة الصّنم، وعابد الكواكب مع عبدته. كقوله: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً. أو: نساءهم اللّاتي على دينهم. أو: قرناءهم من الشّياطين.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله- عزّ وجلّ-: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ قال: الّذين ظلموا آل محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- حقّهم. وَأَزْواجَهُمْ قال أشباههم.

وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ  مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام وغيرها، زيادة في‏تحسّرهم وتخجيلهم.

قيل : وفيه دليل على أنّ الّذين ظلموا هم المشركون.

أقول: الّذين ظلموا آل محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- حقّهم مشركون لأنّهم قد أشركوا أنفسهم في جعل حقّهم لهم، أو لغيرهم. لأنّ الجاعل لذلك هو اللّه- سبحانه. فإذا جعلوا ذلك الحقّ لغيرهم، فقد أشركوا باللّه.

فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ : فعرّفوهم طريقها ليسلكوها.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام-: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ يقول: ادعوهم إلى طريق الجحيم.

وَ قِفُوهُمْ: احبسوهم في الموقف إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ :

قيل : عن عقائدهم وأعمالهم. والواو لا توجب التّرتيب.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم - رحمه اللّه- في قوله- عزّ وجلّ-: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ قال: عن ولاية أمير المؤمنين- عليه السّلام.

و في أمالي شيخ الطّائفة - قدّس سرّه- بإسناده إلى أنس بن مالك، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال: إذا كان يوم القيامة، ونصب الصّراط على جهنّم، لم يجز عليه إلّا من معه جواز فيه ولاية عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام. وذلك قوله- تعالى-: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ يعني: عن ولاية عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام.

و في اعتقادات الإماميّة  للصّدوق- رحمه اللّه-: قال زرارة للصّادق- عليه السّلام-: ما تقول في القضاء والقدر؟ قال- عليه السّلام-: أقول: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- إذا جمع العباد يوم القيامة، سألهم عمّا عهد إليهم، ولم يسألهم عمّا قضى عليهم.

و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من الأخبار

 المتفرّقة، حديث طويل. وفي آخره: ثمّ قال- عليه السّلام-: وقد ذكر عليّ- عليه السّلام- حاكيا عن النّبي- صلّى اللّه عليه وآله-: وعزّة ربّي، إنّ جميع أمّتي موقوفون يوم القيامة، ومسؤولون عن ولايته. وذلك قوله- تعالى-: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ. قال: عن ولاية عليّ- عليه السّلام.

و في هذا الباب  أيضا، وبإسناده عن عليّ- عليه السّلام- قال: قال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: أوّل ما يسأل عنه العبد حبّنا أهل البيت.

و في كتاب الخصال ، عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: لا تزول قدما  عبد يوم القيامة، حتّى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، و[عن‏]  شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبته ، وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت- عليهم السّلام.

و في كتاب علل الشّرائع ، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال في تفسير قوله- عزّ وجلّ-: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ: إنّه لا يجاوز قدم عبد حتّى يسأل عن أربع: عن شبابه فيما أبلاه، وعمره فيما أفناه، وعن ماله من أين جمعه، وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت- عليهم السّلام.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يحيى بن عقبة الأزدىّ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: كان فيما وعظ به لقمان ابنه: واعلم أنّك ستسأل غدا إذا وقفت بين يدي اللّه- عزّ وجلّ- عن أربع: شبابك فيما أبليته، وعمرك فيما أفنيته، ومالك ممّا اكتسبته، وفيما أنفقته. فتأهّب لذلك. وأعدّ له جوابا.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

أبو عليّ الأشعريّ ، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن ابن  أبي نجران، عن أبي جميلة، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: يامعاشر قرّاء القرآن! اتّقوا اللّه- عزّ وجلّ- فيما حمّلكم من كتابه! فإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون. فإنّي مسؤول عن تبليغ الرّسالة. وأمّا أنتم، فتسألون عمّا حمّلتم من كتاب اللّه وسنّتي.

و في نهج البلاغة : اتّقوا اللّه في عباده وبلاده! فإنّكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم.

و في مجمع البيان : إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ. روى أنس بن مالك مرفوعا: إنّهم مسؤولون عمّا دعوا إليه من البدع.

و قيل : عن ولاية عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام. عن أبي سعيد الخدريّ.

و في تهذيب الأحكام ، في الدّعاء بعد صلاة الغدير المسند إلى الصّادق- عليه السّلام-: اللّهمّ فكما كان من شأنك- يا صادق الوعد، يا من لا يخلف الميعاد، يا من هو كلّ يوم في شأن- أن أنعمت علينا بموالاة أوليائك المسئول عنها عبادك فإنّك قلت- وقولك الحقّ-: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ  وقلت: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ.

و في شرح الآيات الباهرة : روى أبو عبد اللّه بن العبّاس - رحمه اللّه- عن صالح بن أحمد، عن أبي مقاتل، عن حسين بن حسن، عن حسين بن نصر بن مزاحم، عن القاسم بن [عبد]  الغفّار، عن أبي الأحوص ، عن مغيرة، عن الشّعبيّ، عن أبي عبّاس، في قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ قال: عن ولاية  عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام.

و روي  مثله من طريق العامّة، عن أبي نعيم، عن ابن عبّاس. ومثله، عن أبي سعيد الخدريّ. ومثله، عن سعيد بن جبير. وكلّهم عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله.

 و يؤيّده ما

رواه  عبد اللّه بن العبّاس، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: لا يزول  قدم العبد يوم القيامة، حتّى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ما ذا عمل به، وعن حبّنا أهل البيت- عليهم السّلام.

و يعضده ما روا  محمّد بن مؤمن، عن الشّيرازيّ- رحمه اللّه- في كتابه حديثا يرفعه بإسناده إلى ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إذا كان يوم القيامة، أمر اللّه مالكا أن يسعّر النّيران السّبع، ويأمر رضوان أن يزخرف الجنان الثّمان، ويقول: يا ميكائيل، مدّ  الصراط على متن جهنّم. ويقول: يا جبرئيل، انصب ميزان العدل تحت العرش. ويقول: يا محمّد، قرّب أمّتك للحساب. ثمّ يأمر اللّه- عزّ وجلّ- أن يقعد على الصّراط سبع قناطر طول كلّ قنطرة سبعة عشر ألف فرسخ، وعلى كلّ قنطرة سبعون ألف ملك، يسألون هذه الأمّة نساءهم ورجالهم. على القنطرة الأولى، عن ولاية أمير المؤمنين، وحبّ أهل البيت. فمن أتى به، جاز على القنطرة الأولى كالبرق الخاطف.

و من لا يحبّ أهل البيت، سقط على أمّ رأسه في قعر جهنّم، ولو كان معه من أعمال البرّ عمل سبعين صدّيقا.

و ذكر الشّيخ أبو جعفر الطّوسيّ - رحمه اللّه- في مصباح الأنوار حديثا يرفعه بإسناده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إذا كان يوم القيامة، جمع اللّه الأوّلين والآخرين في صعيد واحد، ونصب الصّراط على شفير جهنّم، فلم يجز عليه إلّا من كانت معه براءة من عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام.

و ذكر أيضا في الكتاب المذكور  حديثا يرفعه بإسناده عن عبد اللّه بن عبّاس- رحمه اللّه- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: إذا كان يوم القيامة، أقف أنا وعليّ على الصّراط بيد كلّ واحد منّا سيف. فلا يمرّ أحد من خلق اللّه، إلّا سألناه عن ولاية عليّ- عليه السّلام. فمن [كان‏]  معه شي‏ء منها، نجا وفاز وإلّا ضربت  عنقه، وألقيناه في النّار. ثمّ تلا: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ.ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ  لا ينصر بعضكم بعضا بالتّخليص.

و هو توبيخ وتعريض وتقريع.

بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ : منقادون، لعجزهم وانسداد الحليل عليهم.

و أصل الاستسلام: طلب السّلامة. أو: متسالمون، كأنّه يسلّم بعضهم بعضا ويخذله.

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [يعني الرؤساء والأتباع أو الكفرة والقرناء]  يَتَساءَلُونَ : يسأل بعضهم بعضها للتّوبيخ. ولذلك فسّر بيتخاصمون.

قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ : عن أقوى الوجوه وأيمنها. أو: عن الدّين، أو الخير كأنّكم تنفعوننا نفع السّانح . فتبعناكم، فهلكنا. مستعار من يمين الإنسان الّذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما. ولذلك سمّوها يمينا، وتيمّن بالسّانح. أو: عن القوّة والقهر، فتقسروننا على الضّلال. أو: عن الحلف فإنّهم كانوا يحلفون لهم إنّهم على الحقّ.

قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ :

أجابهم الرّؤساء أوّلا بمنع إضلالهم، بأنّهم كانوا ضالّين في أنفسهم وثانيا بأنّهم ما أجبروهم على الكفر إذ لم يكن لهم عليهم تسلّط، وإنّما جنحوا إليه، لأنّهم كانوا قوما مختارين الطّغيان.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ. يعني: فلانا، وفلانا .

فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ ، فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ :

ثمّ بيّنوا أنّ وقوع الفريقين في العذاب، كان أمرا مقتضيّا لا محيص لهم عنه. وأنّ غاية ما فعلوا بهم أنّهم دعوهم إلى الغيّ، لأنّهم كانوا على الغيّ، فأحبّوا أن يكونوا مثلهم.

و فيه إيماء بأنّ غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كلّ غواية لإغواء غاو، فمن‏أغواهم.

فَإِنَّهُمْ: فإنّ الأتباع والمتبوعين يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ  كما كانوا مشتركين في الغواية.

إِنَّا كَذلِكَ مثل ذلك الفعل نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ : بالمشركين لقوله:

إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ  أي: عن كلمة الحقّ والتّوحية، أو على من يدعوهم إليه.

وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ :

يعنون محمّدا- صلّى اللّه عليه وآله.

بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ :

ردّ عليهم بأنّ ما جاء به من التّوحيد حقّ، قام به البرهان، وتطابق عليه المرسلون.

إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ  بالإشراك وتكذيب الرّسل.

و قرئ  بنصب العذاب، على تقدير النّون كقوله:

         ولا ذاكر اللّه إلّا قليلا

 

 وهو ضعيف في غير المحلّى باللّام وعلى الأصل.

وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ : إلّا مثل ما عملتم.

إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ :

استثناء منقطع إلّا أن يكون الضّمير في «تجزون» لجميع المكلّفين، فيكون استثناؤهم عنه باعتبار المماثلة فإنّ ثوابهم مضاعف، والمنقطع أيضا بهذا الاعتبار.

أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ  خصائصه من الدّوام، أو تمحّض اللّذّة.

و لذلك فسّره بقوله: فَواكِهُ فإنّ الفاكهة ما يقصد. للتّلذّذ دون التّغذّي، والقوت بالعكس. وأهل الجنّة لمّا أعيدوا على خلقة محكمة محفوظة عن التّحلّل، كانت أرزاقهم فواكه خالصة.

وَ هُمْ مُكْرَمُونَ  في نيله. يصل إليهم من غير تعب وسؤال، كما عليه رزق الدّنيا.و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن محمّد بن إسحاق المدنيّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سئل رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- ونقل عنه حديثا طويلا، يقول فيه- حاكيا حال أهل الجنّة-: وأمّا قوله:

أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ قال: يعلمه الخدّام، فيأتون به أولياء اللّه، قبل أن يسألوهم إيّاه.

و أمّا قوله- عزّ وجلّ-: فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ قال: فإنّهم لا يشتهون شيئا في الجنّة إلّا أكرموا به.

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ : في جنّات ليس فيها إلّا النّعيم.

و هو ظرف أو حال من المستكنّ في مُكْرَمُونَ. أو خبر ثان ل «أولئك».

و كذلك عَلى سُرُرٍ يحتمل الحال والخبر فيكون مُتَقابِلِينَ  حالا من المستكنّ فيه، أو في مُكْرَمُونَ وأن يتعلّق ب مُتَقابِلِينَ، فيكون حالا من ضمير مُكْرَمُونَ.

و هي جمع سرير. أي: متقابلين على سرر يتمتّع بعضهم بالنّظر إلى وجوه بعض، ولا يرى بعضهم فقاء بعض.

يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ: إناء فيه خمر. أو: خمر كقوله:

         وكأس شربت             على لذّة

 مِنْ مَعِينٍ : من شراب معين، أو نهر معين أي: ظاهر للعيون، أو خارج من العيون.

و هو صفة للماء. من: عان الماء: إذا نبع. وصف به خمر الجنّة، لأنّها تجري كالماء أو للإشعار بأنّ ما يكون لهم بمنزلة الشّراب جامع لما يطلب من أنواع الأشربة بكمال اللّذّة.

و كذلك قوله: بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ . [و هما أيضا صفتان ل «كأس».

و وصفها ب «لذّة» إمّا للمبالغة، أو لأنّها تأنيث لذّ، بمعنى: لذيذ كطبّ. ووزنه فعل.

قال:

         ولذّ كطعم الصّرخديّ تركته‏]              بأرض العدى من خشية الحدثان‏

 لا فِيها غَوْلٌ: غائلة، كما في خمر الدّنيا كالخمار. من: غاله يغوله: إذا أفسده.

و منه: الغول.وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ : يسكرون. من: نزف الشّارب، فهو نزيف ومنزوف: إذا ذهب عقله.

أفرده بالنّفي، وعطفه على ما يعمّه لأنّه من عظم فساده، كأنّه جنس برأسه.

و قرأ  حمزة والكسائي بكسر الزّاى من: أنزف الشارب: إذا نفد عقله أو شرابه.

و أصله للنّفاد. يقال: نزف المطعون: إذا خرج دمه كلّه، و: نزحت الرّكيّة حتّى نزفتها.

و في مجمع البيان : قال ابن عبّاس- رحمه اللّه-: [معناه:]  ولا يبولون . قال:

و في الخمر أربع خصال: السّكر، والصّداع، والقي‏ء، والبول. فنزّه اللّه- سبحانه- خمر الجنّة عن هذه الخصال.

وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ: قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ، فلا يردن غيرهنّ ، لحبّهنّ إيّاهم.

و قيل : معناه: ولا يفتحن أعينهن غنجا ودلالا.

عِينٌ : واسعات العيون جمع عيناء.

و قيل  هي الشّديدة، بياض العين الشّديدة سوادها.

كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ :

شبّههنّ ببيض النّعام المصون عن  الغبار ونحوه، في الصّفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة فإنّه أحسن ألوان الأبدان.

و قيل : شبّههنّ ببطن البيض قبل أن تقشر، وقبل أن تمسّه الأيدي.

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ :

معطوف على يُطافُ عَلَيْهِمْ. اي: يشربون فيتحادثون على الشّراب. قال:

         وما بقيت من اللّذّات إلّا             أحاديث الكرام على المدام‏

 والتّعبير عنه بالماضي، للتّأكيد فيه. فإنّه ألذّ تلك اللّذّات إلى العقل. وتساؤلهم عن‏المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدّنيا.

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ في مكالمتهم: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ : صاحب يختصّ بي في الدّنيا، إمّا من الإنس- على قول ابن عبّاس- أو من الشّياطين- على قول مجاهد.

يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ : يوبخّني على التّصديق بالبعث.

و قرئ  بتشديد الصّاد من التّصدّق.

أَ إِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ : لمجزيون. من الدّين بمعنى:

الجزاء.

و في جوامع الجامع : «إنّا لمدينون» أي: لمجزيون. من الدّين الّذي هو الجزاء. أو:

لمسوسون مربوبون. من دانه: إذا ساسة.

و في الحديث : الكيس  من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت.

قالَ ذلك القائل لإخوانه في الجنّة:

هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ  إلى أهل النّار، لأريكم ذلك القرين.

و قيل : القائل هو اللّه- تعالى أو بعض الملائكة. يقول لهم: هل تحبّون أن تطّلعوا على أهل النّار، لأريكم ذلك القرين؟

و قيل : لتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم .

و عن أبي عمرو : «مطلعون فأطلع» بالتّخفيف وكسر النّون وضمّ الألف، على أنّه جعل اطلاعهم سبب اطلاعه من حيث إنّ أدب المجالسة يمنع الاستبداد به. أو خاطب الملائكة على وضع المتّصل موضع المنفصل كقوله:

         هم الآمرون الخير             والفاعلونه

 أو شبّه اسم الفاعل بالمضارع.

فَاطَّلَعَ عليهم فَرَآهُ أي: قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ : وسطه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- [في قوله:]  فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [يقول: في وسط الجحيم‏] .

قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ : لتهلكني بالإغواء.

و قرئ : «لتغوين».

و «إن» هي المخفّفة. واللّام هي الفارقة.

وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي بالهداية والعصمة، لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ  معك فيها.

أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ .

عطف على محذوف. أي: أ نحن مخلّدون منعّمون، فما نحن بميّتين أي: بمن شأنه الموت.

و قرئ : «بمائتين».

إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى الّتي كانت في الدّنيا وهي متناولة لما في القبر بعد الإحياء للسّؤال.

و نصبها على المصدر من اسم الفاعل. وقيل : على الاستثناء المنقطع.

وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ  كالكفّار.

و ذلك تمام كلامه لقرينه، تقريعا له. أو معاودة إلى مكالمة جلسائه، تحدّثا بنعمة اللّه، وتبجّحا بها، وتعجّبا منها، وتعريضا للقرين بالتّوبيخ.

إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ :

يحتمل أن يكون من كلامهم، وأن يكون كلام اللّه، لتقرير قوله، والإشارة إلى ما هم عليه من النّعمة والخلود والأمن من العذاب.

لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ  أي لنيل مثل هذا، يجب أن يعمل العاملون، لا للحظوظ الدّنيويّة المشوبة  بالآلام، السّريعة الانصرام.و هو أيضا يحتمل الأمرين.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال عليّ بن إبراهيم- رحمه اللّه-: ثمّ يقولون في الجنّة: أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

قال: فحدّثني أبي، عن عليّ بن مهزيار والحسن بن محبوب، عن النّضر بن سويد، عن درست، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- صلوات اللّه عليه- قال: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، جي‏ء بالموت، فيذبح كالكبش، بين الجنّة والنّار. ثمّ يقال:

خلود، فلا  موت أبدا! فيقول أهل الجنّة: أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ.

أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ : شجرة ثمرتها نزل أهل النّار.

و انتصاب «نزلا» على التّمييز، أو الحال. وفي ذكره دلالة على أنّ ما ذكر من النّعيم لأهل الجنّة، بمنزلة ما يقام للنّازل، ولهم ما وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام. وكذلك الزّقّوم لأهل النّار. وهو اسم شجرة صغيرة الورق منتنة الرّائحة مرّة، تكون بتهامة. سمّيت بها الشّجرة الموصوفة.

إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ : محنة وعذابا لهم في الآخرة، وابتلاء في الدّنيا. فإنّهم لمّا سمعوا أنّها في النّار، قالوا: كيف ذلك والنّار تحرق الشّجر؟! ولم يعلموا أنّ من قدر على خلق ما يعيش في النّار ويتلذّذ بها، فهو أقدر على خلق الشّجر في النّار وحفظه من الإحراق.

و في مجمع البيان : روي أنّ قريشا لمّا سمعت هذه الآية، قالت ما نعرف هذه الشّجرة! قال ابن الزّبعريّ: الزّقّوم بكلام البربر التّمر والزّبد- وفي رواية: بلغة اليمن.

فقال أبو جهل لجاريته: يا جارية زقّمينا . فأتته الجارية بتمر وزبد. فقال لأصحابه:

تزقّموا بهذا الّذي يخوّفكم به محمّد، فيزعم أنّ النّار تنبت الشّجر، والنّار تحرق الشّجر! فأنزل اللّه- تعالى-: إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ.

و قد روي  أنّ اللّه يجوّعهم حتّى ينسوا عذاب النّار من شدّة الجوع. فيصرخون إلى‏مالك، فيحملهم إلى تلك الشّجرة وفيهم أبو جهل. فيأكلون منها. فتغلي بطونهم كغلي الحميم. فيستسقون. فيسقون شربة من الماء الحارّ الّذي بلغ نهايته في الحرارة. فإذا قرّبوها من وجوههم، شوت وجوههم. فذلك قوله: يَشْوِي الْوُجُوهَ. فإذا وصل  إلى بطونهم، صهر ما في بطونهم كما قال - سبحانه-: يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ. وذلك طعامهم وشرابهم.

و فيه ، عند قوله - تعالى-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ: و

روي- أيضا- عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه قال: هو الطّعن في الحقّ، والاستهزاء به، وما كان أبو جهل وأصحابه يجيئون به إذ قال: يا معشر قريش، ألا أطعمكم من الزّقّوم الّذي يخوّفكم به صاحبكم؟! ثمّ أرسل إلى زبد وتمر، فقال: هذا هو الزّقّوم الّذي يخوّفكم به!

 

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد وسهل بن زياد وعليّ بن إبراهيم، عن أبيه، جميعا عن ابن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن ضريس الكناسيّ قال:

 

قال أبو جعفر- عليه السّلام-: إنّ للّه نارا في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفّار. ويأكلون من زقّومها. ويشربون من حميمها ليلهم. فإذا طلع الفجر هاجت إلى واد باليمن يقال له: برهوت، أشدّ حرّا من نيران الدّنيا. كان فيها يتلاقون ويتعارفون. فإذا كان المساء، عادوا إلى النّار. فهم كذلك إلى يوم القيامة.

إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ : منبتها في قعر جهنّم، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.

طَلْعُها: حملها. مستعار من طلع التّمر، لمشاركته إيّاه في الشّكل، أو الطّلوع من الشّجر.

كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ  في تناهي القبح والهول.

و هو تشبيه بالمتخيّل كتشبيه الفائق الحسن بالملك.و قيل : الشّياطين  حيّات هائلة قبيحة المنظر، لها أعراف . ولعلّها سمّيت بها لذلك.

فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها: من الشّجرة، أو من طلعها.

فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ، لغلبة الجوع، أو الجبر على أكلها.

ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي: بعد ما شبعوا منها، وغلبهم العطش.

و يجوز أن يكون «ثمّ». لما في شرابهم من مزيد الكراهة والبشاعة.

لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ : لشرابا من غسّاق أو صديد مشوبا بماء حميم، يقطّع أمعاءهم.

و قرئ  بالضّمّ. وهو اسم ما يشاب به. والأوّل مصدر سمّي به.

ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ: مصيرهم لَإِلَى الْجَحِيمِ : إلى دركاتها، أو إلى نفسها. فإنّ الزّقّوم والحميم نزل يقدم  إليهم قبل دخولها.

و قيل : الحميم خارج عنها- لقوله - تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ- يوردون إليه كما تورد الإبل إلى الماء ثمّ يردّون إلى الجحيم. ويؤيّده أنّه قرئ: «ثمّ إنّ منقلبهم».

إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ ، فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ :

تعليل لاستحقاقهم تلك الشّدائد بتقليد الآباء في الضّلال.

و الإهراع: الإسراع الشّديد: كأنّهم يزعجون على الإسراع على أثرهم. وفيه إشعار بأنّهم بادروا إلى ذلك من غير توقّف على نظر وبحث.

وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ: قبل قومك أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ .

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ :

أنبياء أنذروهم من العواقب.فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ  من الشّدّة والفظاعة.

إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ : إلّا الّذين تنبّهوا بإنذارهم، فأخلصوا دينهم للّه.

و قرئ  بالفتح. أي: الّذين أخلصهم اللّه لدينه. .

و الخطاب مع الرّسول، والمقصود خطاب قومه فإنّهم أيضا سمعوا أخبارهم ورأوا آثارهم.

وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ:

شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها. أي: ولقد دعانا، حين أيس من قومه.

فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ  أي: فأجبناه أحسن الإجابة فو اللّه لنعم المجيبون نحن. فحذف منها ما حذف، لقيام ما يدلّ عليه.

وَ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ  أي: من الغرق، أو أذى قومه.

وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ :

قيل : إذ هلك من عداهم، وبقوا متناسلين إلى يوم القيامة. إذ روي أنّه مات كلّ من كان معه في السّفينة غير بنيه وأزواجهم.

و في تفسير علي بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ: يقول: بالحقّ والنّبوّة والكتاب والإيمان في عقبه. وليس كلّ من في الأرض من بني آدم من ولد نوح- عليه السّلام. قال اللّه - عزّ وجلّ- في كتابه: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ  وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وقال أيضا . ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ.

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ  من الأمم.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى عبد الحميد بن أبي الدّيلم، عن أبي عبد اللّه الصّادق- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه يقول- عليه السّلام-:

 و بشّرهم نوح بهود. وأمرهم باتّباعه، وأن يقيموا  الوصيّة كلّ عام، فينظروا فيها، فيكون عيدا لهم كما أمرهم آدم- عليه السّلام. فظهرت الجبريّة في  ولد حام ويافث.

فاستخفى ولد سام بما عندهم من العلم. وجرت على سام بعد نوح الدّولة لحام ويافث.

و هو قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. يقول: تركت على نوح دولة الجبّارين. ويعزّي اللّه محمّدا بذلك.

قال: وولد لحام  الهند والسّند والحبش. وولد لسام العرب والعجم. وجرت عليهم الدّولة. وكانوا يتوارثون الوصيّة عالم بعد عالم حتّى بعث اللّه- عزّ وجلّ- هودا- عليه السّلام.

سَلامٌ عَلى نُوحٍ:

هذا الكلام جي‏ء به على الحكاية. والمعنى: يسلّمون عليه تسليما.

و قيل : هو سلام من اللّه- تعالى- عليه. ومفعول «تركنا» محذوف مثل الثّناء.

فِي الْعالَمِينَ :

متعلّق بالجارّ والمجرور. ومعناه: الدّعاء بثبوت هذه التّحيّة في الملائكة والثّقلين جميعا.

إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ :

تعليل لما فعل بنوح، من التّكرّم بأنّه مجازاة له على إحسانه.

إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ .

تعليل لإحسانه بالإيمان، إظهارا لجلالة قدره وأصالة أمره.

و في كتاب الخصال ، فيما علّم أمير المؤمنين- عليه السّلام- أصحابه من الأربعمائة باب، ممّا يصلح للمسلم في دينه ودنياه: ومن خاف منكم العقرب، فليقرأ هذه الآيات:

سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ  يعني: كفّار قومه.

وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ : ممّن شايعه في الإيمان وأصول الشّريعة، ولايبعد اتّفاق شرعهما في الفروع أو غالبا.

قيل : وكان بينهما ألفان وستّمائة وأربعون سنة. وكان بينهما نبيّان: هود، وصالح.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا أبو العبّاس قال: حدّثنا محمّد بن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن النّضر بن سويد، عن سماعة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام- أنّه قال: ليهنّئكم الاسم.

قلت: وما هو جعلت فداك؟

قال: [الشيعة.

قيل: إنّ النّاس يعيّروننا بذلك.

قال: أما تسمع قول اللّه:]  وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ، وقوله- عزّ وجلّ-:

فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ؟! فليهنّئكم الاسم.

و في مجمع البيان : روي أبو بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: ليهنّئكم الاسم.

قلت: وما هو؟

قال: الشّيعة.

قلت: إنّ النّاس يعيّروننا بذلك.

قال: أما تسمع قوله- سبحانه-: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ، وقوله: فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ.

و في شرح الآيات الباهرة : ومعنى إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ أي: إنّ إبراهيم من شيعة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- كما قال - سبحانه-: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي ذرّيّة من هو أب لهم. فجعلهم ذرّيّة، وقد سبقوا إلى الدّنيا.

و روي عن مولانا الصّادق- عليه السّلام- أنّه قال: قوله- عزّ وجلّ-: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ أي: إنّ إبراهيم- عليه السّلام- من شيعة [النّبيّ. فهو من شيعة]

 عليّ- صلوات اللّه وسلامه عليه.

 [و الخبران متوافقان. لأنّ كلّ من كان من شيعة النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- فهو من شيعة عليّ- عليه السّلام.]  وكلّ من كان من شيعة عليّ، فهو من شيعة النّبيّ- صلّى اللّه عليهما [و على ذرّيّتهما الطّاهرين.

و يؤيّد هذا التّأويل ما رواه

الشّيخ محمّد بن الحسين - رحمه اللّه- عن محمّد بن وهبان، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن رحيم، عن العبّاس بن محمّد قال: حدّثني أبي، عن أبي الحسين  بن عليّ بن (أبي)  حمزة قال: حدّثني أبي، عن أبي بصير يحيى بن أبي  القاسم قال: سأل جابر بن يزيد الجعفيّ جعفر بن محمّد الصّادق- عليه السّلام- عن تفسير هذه الآية: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ. فقال- عليه السّلام-:

إنّ اللّه- سبحانه- لمّا خلق [إبراهيم- عليه السّلام-]  كشف له عن بصره.

فنظر، فرأى نورا إلى جنب العرش، فقال: إلهي، ما هذا النّور؟ فقيل له: هذا نور محمّد صفوتي من خلقي. ورأى نورا إلى جنبه، فقال: إلهي، وما هذا النّور؟ فقيل له: هذا نور عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- ناصر ديني. ورأي إلى جنبهم  ثلاثة أنوار، فقال: إلهي وما هذه الأنوار. فقيل  له: هذا نور فاطمة- فطمت محبّيها من النّار- ونور ولديها الحسن والحسين . ورأى  تسعة أنوار قد حفّوا بهم [فقال: إلهي، وما هذا الأنوار التّسعة؟]  قيل: يا إبراهيم، هؤلاء الأئمّة من ولد عليّ وفاطمة.

فقال إبراهيم: إلهي ، بحقّ هؤلاء الخمسة إلّا عرّفتني من التّسعة! قيل: يا إبراهيم، أوّلهم عليّ بن الحسين، وابنه محمّد، وابنه جعفر، وابنه موسى، وابنه عليّ، وابنه محمّد، وابنه عليّ، وابنه الحسن، والحجّة القائم ابنه.فقال إبراهيم: إلهي وسيّدي، أرى أنوارا قد أحدقوا بهم لا يحصي عددهم إلّا أنت! قيل: يا إبراهيم، هؤلاء شيعتهم شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام.

فقال إبراهيم: وبم  تعرف شيعته؟ قال: بصلاة إحدى وخمسين، والجهر ببسم اللّه الرّحمن الرّحيم، والقنوت قبل الرّكوع، والتّختّم في اليمين. فعند ذلك قال إبراهيم: اللّهمّ اجعلني من شيعة أمير المؤمنين.

قال : فأخبر اللّه- تعالى- في كتابه، فقال: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ.

ثمّ قال: وممّا يدلّ على أنّ إبراهيم وجميع الأنبياء والرّسل من شيعة أهل البيت- عليهم السّلام- ما

روي عن الصّادق- عليه السّلام- أنّه قال: ليس إلّا اللّه ورسوله ونحن وشيعتنا. والباقي في النّار.

فتعيّن أنّ جميع أهل الإيمان من الأنبياء والرّسل وأتباعهم من شيعتهم.

و لقول النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: لو اجتمع الخلق على حبّ عليّ، لم يخلق اللّه  النّار.

إِذْ جاءَ رَبَّهُ:

متعلّق بما في الشّيعة من معنى المشايعة، أو بمحذوف هو: اذكر.

بِقَلْبٍ سَلِيمٍ  من آفات القلوب. أو: من العلائق، خالص للّه، أو مخلص له.

و قيل : حزين. من السّليم، بمعنى: اللّديغ. ومعنى المجي‏ء به ربّه ، إخلاصه له كأنّه جاء به متحفا إيّاه.

إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ :

بدل من الأولى، أو ظرف ل «جاء»، [أو «سليم»] .

أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ  أي: أ تريدون آلهة دون اللّه إفكا. فقدّم المفعول للعناية، ثمّ المفعول له. لأنّ الأهمّ أن يقرّر أنّهم على الباطل، ومبنى أمرهم على الإفك.

و يجوز أن يكون «إفكا» مفعولا به، و«آلهة» بدل منه على أنّها إفك في نفسها،للمبالغة. أو المراد بها عبادتها، بحذف المضاف. أو حالا بمعنى: آفكين.

فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ : بمن هو حقيق بالعبادة، لكونه ربَّا للعالمين حتّى تركتم عبادته، أو أشركتم به غيره، أو أمنتم من عذابه.

و المعنى إنكار ما يوجب ظنّا- فضلا عن قطع- يصدّ عن عبادته، أو يجوّز الإشراك به، أو يقتضي الأمن من عقابه، على طريقه الإلزام. وهو كالحجّة على ما قبله.

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ :

قيل : فرأى مواقعها واتّصالاتها. أو في علمها، أو كتابها. ولا منع منه، مع أنّ قصده إيهامهم.

و ذلك حين سألوه أن يعيّد معهم فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ . أراهم بأنّه استدلّ بها- لأنّهم كانوا منجّمين- على أنّه مشارف للسّقم، لئلّا يخرجوه إلى معيدهم. فإنّه كان أغلب أسقامهم الطّاعون، وكانوا يخافون العدوى. أو أراد: إنّي سقيم القلب، لكفركم.

أو: خارج المزاج عن الاعتدال، خروجا قلّ من يخلو منه. أو: بصدد الموت.

و في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده [عن أبي‏]  صالح بن سعيد، عن رجل من أصحابنا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قلت. له: قوله- تعالى-: إِنِّي سَقِيمٌ.

فقال: ما كان إبراهيم سقيما، وما كذب. إنّما عنى سقيما في دينه مرتادا.

و قد روي  أنّه عنى بقوله: إِنِّي سَقِيمٌ أي: سأسقم. وكلّ ميّت سقيم. وقد قال اللّه - تعالى- لنبيّه: إِنَّكَ مَيِّتٌ أي: ستموت.

و في أصول الكافي : عليّ بن محمّد، رفعه عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ، قال: حسب فرأى ما يحلّ بالحسين- عليه السّلام- فقال: إِنِّي سَقِيمٌ لما يحلّ بالحسين - عليه السّلام.

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: التّقيّة من دين اللّه.

قلت: من دين اللّه؟! قال: إي واللّه! من دين اللّه. ولقد قال يوسف: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ .

و اللّه ما كانوا سرقوا شيئا. ولقد قال إبراهيم: إِنِّي سَقِيمٌ. واللّه ما كان سقيما.

و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن حجر، عن أبي عبد اللّه قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: عاب آلهتهم، فنظر نظرة في النّجوم، وقال: إنّي سقيم. قال أبو جعفر- عليه السّلام-: واللّه ما كان سقيما، وما كذب.

الحسين بن محمّد الأشعريّ ، عن معلّي بن محمّد، عن الوشّاء، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير قال: قيل لأبي جعفر- عليه السّلام- وأنا عنده: إنّ سالم بن أبي حفصة وأصحابه يروون عنك أنّك تكلّم على سبعين وجها لك منها المخرج! فقال: ما يريد سالم منّي؟! أ يريد أن أجي‏ء بالملائكة؟! واللّه، ما جاءت بهذا النّبيّون. ولقد قال إبراهيم- عليه السّلام-: إِنِّي سَقِيمٌ. وما كان سقيما، وما كذب.

و في تفسير العيّاشيّ : عن محمّد بن عرامة الصّيرفيّ، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- خلق روح القدس. فلم يخلق خلقا أقرب إليه منها، وليست بأكرم خلقه عليه. فإذا أراد أمرا. ألقاه إليها. فألقته  إلى النّجوم، فجرت به.

و في من لا يحضره الفقيه : وروي عن عبد الملك بن أعين قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّي قد ابتليت بهذا العلم. فأريد الحاجة. فإذا نظرت إلى الطّالع، ورأيت الطّالع الشّرّ، جلست، ولم أذهب فيها. وإذا رأيت الطّالع الخير، ذهبت في الحاجة.

فقال لي: تقضي. قلت: نعم. قال: أحرق كتبك.و في كتاب جعفر بن محمّد  الدّوريستيّ ، بإسناده إلى ابن مسعود، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: إذا ذكر القدر، فأمسكوا. وإذا ذكر أصحابي، فأمسكوا. وإذا ذكر النّجوم، فأمسكوا.

و في كتاب الإحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللّه- عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه قال له السّائل: فما تقول في علم النّجوم؟

قال: هو علم قلّت منافعه، وكثرت مضارّة . لأنّه لا يدفع به المقدور، ولا يتّقى به المحذور. إن خبر  المنجّم بالبلاء لم ينجه التّحرّز من القضاء. إن أخبر  هو بخير، لم يستطع تعجيله. وإن حدث به سوء، لم يمكنه صرفه. والمنجّم يضادّ اللّه في علمه بزعمه أنّه  يردّ قضاء اللّه عن خلقه.

عن سعيد بن جبير  قال: استقبل أمير المؤمنين- عليه السّلام- دهقان من دهاقين الفرس فقال له بعد التّهنئة: يا أمير المؤمنين- عليه السّلام- [تناحست النّجوم الطّالعات.

و تناحست السّعود بالنّحوس. وإذا كان مثل هذا اليوم، وجب على الحكيم الاختفاء.

و يومك هذا يوم صعب قد انقلب فيه‏]  كوكبان، وانقدح من برجك النّيران، وليس الحرب لك بمكان.

قال أمير المؤمنين ويحك - عليه السّلام- يا دهقان المنبّئ بالآثار، والمحذّر من الأقدار! ما قصّة صاحب [الميزان وقصّة صاحب‏]  السّرطان؟ وكم المطالع  من الأسد والسّاعات من المحرّكات؟ وكم بين السّراري والذّراري ؟

قال: سأنظر. وأومأ بيده إلى كمّه، وأخرج منه أسطرلابا ينظر فيه.

فتبسّم- صلوات اللّه عليه- وقال: أ تدري ما حدث البارحة؟ وقع بيت بالصّين.

و انفرج برج ماجين. وسقط سور سرانديب. وانهزم بطريق الرّوم بأرمينة . وفقد ديّان‏اليهود بإبله. وهاج النّمل بوادي النّمل. وهلك ملك إفريقية. أ كنت عالما بهذا؟

قال: لا، يا أمير المؤمنين.

فقال: البارحة سعد سبعون ألف عالم. وولد في كلّ عالم سبعون ألف عالم. واللّيلة يموت مثلهم. وهذا منهم. وأوما بيده إلى سعد بن مسعدة الحارثيّ- لعنه اللّه- وكان جاسوسا للخوارج في عسكر أمير المؤمنين- عليه السّلام. فظنّ الملعون أنّه يقول: خذوها ، فأخذ بنفسه، فمات.

فخرّ الدّهقان ساجدا. فقال أمير المؤمنين: أ لم أروك من عين التوفيق؟

قال: بلى، يا أمير المؤمنين.

فقال: أنا وأصحابي» لا شرقيّون، ولا غربيّون. نحن ناشئة القطب وأعلام الفلك.

أمّا قولك: انقدح من برجك النّيران فكان الواجب [عليك‏]  أن تحكم لي به، لا عليّ.

أمّا نوره وضياؤه، فعندي. وأمّا حريقه ولهبه، فذاهب  عنّي. وهذه مسألة عميقة احسبها إن كنت حاسبا.

و روي  أنّه- عليه السّلام- لمّا أراد المسير إلى الخوارج، قال له بعض أصحابه: إن سرت في هذا الوقت، خشيت أن لا تظفر بمرادك، من طريق علم النّجوم.

فقال- عليه السّلام-: أ تزعم انّك تهدي إلى السّاعة الّتي من سار فيها، صرف عنه السّوء؟! وتخوّف السّاعة الّتي من سار فيها، حاق به الضّرّ؟! فمن صدّقك بهذا، فقد كذّب القرآن، واستغنى عن الاستعانة باللّه في نيل المحبوب ودفع المكروه. وينبغي في قولك للعامل بأمرك، أن يولّيك الحمد دون ربّه. لأنّك بزعمك أنت هديته إلى السّاعة الّتي نال فيها النّفع، وأمن الضّرّ.

أيّها النّاس! إيّاكم وتعلّم النّجوم إلّا ما يهتدى به في برّ أو بحر. فإنّها  تدعو إلى الكهانة. والمنجّم كالكاهن. والكاهن كالسّاحر. والسّاحر كالكافر. والكافر في النّار. سيروا على اسم اللّه وعونه. [و مضى فظفر بمراده- صلوات اللّه عليه.]

 و في نهج البلاغة ، قال: أيّها النّاس! إيّاكم وتعلّم النّجوم إلّا ما يهتدى به في برّ او بحر. فإنّها تدعو إلى الكهانة. والمنجّم كالكاهن. والكاهن كالسّاحر. والسّاحر كالكافر. والكافر في النّار. [سيروا على اسم اللّه‏] .

و في الكافي : عليّ بن محمّد بن عبد اللّه، عن أحمد بن محمّد، عن غير واحد، عن عليّ بن أسباط- إلى قوله: وبهذا الإسناد، عن عليّ بن أسباط، عمّن رواه، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: كان بيني وبين رجل قسمة أرض. وكان الرّجل صاحب نجوم. فكان يتوخّى ساعة السّعود، فيخرج فيها، وأخرج أنا في ساعة النّحوس. فاقتسمنا فخرج إليّ خير القسمين.

فضرب الرّجل يده اليمنى على اليسرى. ثمّ قال: ما رأيت كاليوم قطّ.

قلت: ويل الآخر ، وما ذاك؟

قال: إنّي صاحب نجوم. أخرجتك في ساعة النّحوس، وخرجت أنا في ساعة السّعود. ثمّ قسمنا، فخرج لك خير القسمين! فقلت: ألا أحدّثك بحديث حدّثني به أبي؟ قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله-: من سرّه أن يدفع [اللّه‏]  عنه نحس يومه ، فليفتتح يومه بصدقة يذهب اللّه بها عنه نحس يومه. ومن أحبّ أن يذهب اللّه عنه نحس ليلته، فليفتتح ليلته بصدقة تدفع عنه نحس ليلته. فقلت: وإنّي افتتحت خروجي بصدقة. فهذا خير لك من علم النّجوم.

و في روضة الكافي : أحمد بن محمّد وعليّ بن محمّد، جميعا عن عليّ بن الحسن التّيميّ ، عن محمّد [بن‏]  الخطّاب الواسطيّ، عن يونس بن عبد الرّحمن، عن أحمد بن عمر  الحلبيّ، عن حمّاد الأزديّ، عن هشام الخفّاف قال:

 

قال لي أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: كيف بصرك بالنّجوم؟

قال: قلت: ما خلّفت بالعراق أبصر بالنّجوم منّي.فقال: كيف دوران الفلك عندكم؟

قال: فأخذت قلنسوتي عن رأسي، فأردتها.

قال: فقال: فإن كان الأمر على ما تقول، فما بال بنات النّعش والجدي والفرقدين، لا يرون يدورون يوما من الدّهر في القبلة؟

قال: قلت: واللّه هذا شي‏ء لا أعرفه. ولا سمعت أحدا من أهل الحساب يذكره.

فقال لي: كم السّكينة من الزّهرة جزءا في ضوئها؟

قال: قلت: هذا واللّه نجم ما سمعت به. ولا سمعت أحدا من النّاس يذكره.

فقال: سبحان اللّه! فأسقطتم نجما بأسره؟! فعلى ما تحسبون؟! ثمّ قال: فكم الزّهرة من القمر جزءا في ضوئه؟

قال: فقلت: هذا شي‏ء لا يعلمه إلّا اللّه- عزّ وجلّ.

قال: فكم القمر جزءا من الشّمس في ضوئها؟

قال: قلت: ما أعرف هذا.

قال: صدقت. ثمّ قال: ما بال العسكرين يلتقيان في هذا حاسب، [و في هذا حاسب‏]  فيحسب هذا لصاحبه بالظّفر، ويحسب هذا لصاحبه بالظّفر. ثمّ يلتقيان، فيهزم أحدهما الآخر. فأين كانت النّحوس ؟

قال: قلت: لا واللّه ما أعلم ذلك.

قال: فقال: صدقت. إنّ أصل الحساب حقّ ولكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلّهم.

عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن ابن فضّال، عن الحسن بن أسباط، عن عبد الرّحمن  بن سيابة قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: جعلت فداك إنّ النّاس يقولون: إنّ النّجوم لا يحلّ النّظر فيها وهي تعجبني. فإن كانت تضرّ بديني، فلا حاجة لي في شي‏ء يضرّ بديني.

و إن كانت لا تضرّ بديني، فو اللّه إنّي لأشتهيها، وقد  أشتهي النّظر فيها.فقال: ليس كما يقولون. لا تضرّ بدينك. ثمّ قال: إنّكم تنظرون في شي‏ء منها كثيرة لا يدرك، وقليله لا ينتفع به. تحسبون على طالع القمر.

ثمّ قال: أ تدري كم بين المشتري والزّهرة من دقيقة؟ قلت: لا واللّه.

قال: أ فتدري كم بين الزّهرة وبين القمر من دقيقة؟ قلت: لا.

قال: أ فتدري كم بين الشّمس وبين السّنبلة من دقيقة؟ قلت لا واللّه. ما سمعته من أحد من المنجّمين [قطّ] .

قال: أ فتدري كم بين السّنبلة  وبين اللّوح المحفوظ من دقيقة. قلت: لا واللّه.

ما سمعته من منجّم قطّ.

قال: ما بين كلّ واحد منها إلى صاحبه ستّون أو سبعون  دقيقة- شكّ عبد الرّحمن. ثمّ قال: يا عبد الرّحمن، هذا حساب إذا حسبه الرّجل، ووقع عليه، عرف عدد  القصبة الّتي وسط الأجمة، وعدد ما عن يمينها، وعدد ما عن يسارها، وعدد ما خلفها وعدد ما أمامها حتّى لا يخفى عليه من قصب الأجمة واحدة.

محمّد بن يحيى ، عن سلمة بن الخطّاب وعدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعا عن عليّ بن حسّان، عن عليّ بن عطيّة الزّيّات، عن معلّى بن خنيس قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن النّجوم، أ هي حقّ.

فقال: نعم. إنّ اللّه- عزّ وجلّ- بعث المشتري إلى الأرض في صورة رجل. فأخذ رجلا من العجم، فعلّمه النّجوم حتّى ظنّ أنّه قد بلغ. ثمّ قال له: انظر أين المشتري.

فقال: ما أراه في الفلك، وما أدري أين هو.

قال: فنحّاه. وأخذ بيد رجل من الهند، فعلّمه. حتّى ظنّ أنّه قد بلغ، وقال: انظر المشتري أين هو. فقال: إنّ حسابي ليدلّ على أنّك أنت المشتري.

فقال: فشهق شهقة، فمات، وورث علمه أهله. فالعلم هناك.

عليّ بن إبراهيم ، [عن أبيه،]  عن ابن أبي عمير، عن جميل بن صالح، عمّن‏

 أخبره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سئل عن النّجوم. فقال: ما يعلمها إلّا أهل بيت من العرب، وأهل بيت من الهند.

و في كتاب الإهليلجة  المنقول عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- في الرّدّ على من كان منكرا للصّانع - جلّ جلاله- زعما منه أنّ الأشياء كلّها تدرك بالحواسّ الخمس ولو كان موجودا، لأدرك بها.

قال- عليه السّلام-: قلت: أخبرني، هل يعلم أهل بلادك علم النّجوم؟

قال: إنّك لغافل عن علم أهل بلادي بالنّجوم. فليس أحد أعلم بذلك منهم.

قال: قلت: أخبرني، كيف وقع علمهم بالنّجوم وهي ممّا لا يدرك بالحواسّ ولا بالفكر؟

قال: حساب وضعه الحكماء، وتوارثته النّاس. فإذا سألت العالم منهم عن شي‏ء، قاس الشّمس، ونظر في حالها وحال القمر، وما الطّالع من النّحوس في البروج، وما الباطن من السّعود منها. ثمّ فيحسب، فلا يخطئ بالمولود فيخبر بكلّ علامة فيه بغير معاينة، [و ما هو مصيبة إلى يوم يموت‏] .

قلت: وكيف دخل الحساب في مواليد النّاس؟

قال: لأنّ جميع النّاس إنّما يولدون بهذا النّجوم. [و لو لا ذلك لم يستقم هذا الحساب.]  فمن ثمّ لا يخطئ الحساب، إذا علمت السّاعة واليوم والشّهر والسّنة الّتي يولد فيها المولود.

قلت: [لقد توصّفت‏]» علما [عجيبا ليس في علم الدّنيا أدقّ، ولا أعظم، إن كان حقّا كما ذكرت، يعرف به المولود الصّبيّ، وما فيه من العلامات، ومنتهى أجله، وما يصيبه في حياته. أو ليس هذا حسابا تولد به جميع أهل الدنيا من كان من النّاس؟

قال: لا أشكّ فيه.

قلت:]  فتعال ننظر بعقولنا. هل يستقيم أن يكون يعلم الناس هذا من بعض الناس‏إذا كان الناس يولدون بهذه النجوم؟ وإن قلت: إن الحكماء من الناس هم الذين وضعوا هذا الحساب وعلم مجارى هذا النجوم وعرفت نحوسها من سعودها ودنوّها من بعدها وبطيئها من سريعها ومواقعها من السماء، ومواضعها من تحت الأرض. فإنّ منها ستّة طالعة في السّماء، وستّة باطنة تحت الأرض. وكذلك النّجوم السّبعة [تجرى على حساب تلك النجوم‏] . وما يقبل القلب، ولا يدلّ العقل أنّ مخلوقا من الأرض قدر على الشّمس حتّى يعلم في أيّ البروج هي، وأيّ بروج [القمر، وأيّ بروج‏]  هذه النّحوس والسّعود، ومتى الطّالع، ومتى الباطن وهي معلّقة في السّماء، وهي تحت الأرض، ولا يراها إذا توارت بضوء الشّمس، إلّا [أن يزعم‏]  أنّ هذا الحكيم رقى  إلى السّماء حتّى علم هذا.

ثمّ قلت: وهبه رقى إلى السّماء، هل له بدّ من أن يخرج مع كلّ برج من البروج ونجم من هذه النّجوم، من حيث يغرب إلى حيث يطلع، ثمّ يعود إلى الآخر. يفعل ذلك بكلّها؟ ومنها ما يقطع السّماء في ثلاثين سنة، ومنها ما يقطعها في أقلّ من ذلك. وهل كان له بدّ أن يجول في أقطارها، حتّى يعرف مطالع السّعود والنّحوس منها، وتيّقنه؟ وهبه قدر على ذلك، حتّى فرغ منه كيف كان يستقيم له ما في السّماء، حتّى يحكم حساب ما في الأرض وتيّقنه ويعرفه ويعاينه، [كما قد عاينه‏]  في السّماء؟ فقد علمت أنّ مجاريها تحت الأرض على حساب  مجاريها في السّماء، وأنّه لا يعرف حاسبها ودقائقها إلّا بمعرفة ما غاب منها لأنّه ينبغي أن يعرف أيّ ساعة من اللّيل يطلع طالعها، [و أيّ ساعة]  من اللّيل يغيب غائبها. وأنّه لا يصلح للمتعلّم أن يكون واحدا حتّى يصحّ الحساب. وكيف يمكنه ذلك وهي تحت الأرض، وهو على ظهرها، لا يرى ما تحتها؟ إلّا أن يزعم أنّ ذلك الحكيم دخل في ظلمات الأرضين والبحر، فسار مع النّجوم والشّمس والقمر في مجاريها، على حساب ما سار في السّماء حتّى عاين ما تحت الأرض منها، كما عاين منها ما في السّماء.

قال: وهل قلت لك: إنّ أحدا رقى إلى السّماء، وقدر على ذلك، وحتّى أقول إنّه‏دخل إلى الأرض والظّلمات، وحتّى نظر النّجوم ومجاريها؟

قلت: فكيف وقع هذا العلم الّذي زعمت أنّ الحكماء من النّاس وضعوه وأنّ النّاس كلّهم مولودون به؟ وكيف عرفوا ذلك الحساب، وهو أقدم منهم؟

قال: ما أجده يستقيم أن أقول: إنّ أحدا من النّاس يعلم علم هذه النّجوم المعلّقة في السّماء بتعليم أحد من النّاس.

قلت: لا بدّ لك أن تقول: إنّما علّمه حكيم عليم بأمر السّماء والأرض ومدبّرها.

قال: إنّ قلت هذا، فقد أقررت بإلهك الّذي تزعم غير أنّي أعلم أنّه لا بدّ لهذا الحساب من معلّم. وإن قلت: إنّ أحدا من أهل الأرض علم ذلك من غير معلّم من أهل الأرض، لقد أبطلت لأنّ علم الأرض لا يكون عندنا إلّا بالحواس، ولا يقع علم الحواسّ في علم النّجوم، وهي معلّقة تغيب مرّة، وتطلع أخرى، وتجري تحت الأرض، كما تجري في السّماء. وما زادت الحواسّ على أكثر من النّظر إلى طالعها إذا طلع، وإلى غائبها إذا غاب. فأمّا حسابها ودقائقها وسعودها ونحوسها وسريعها وبطيئها، فلا تقدر عليه الحواسّ.

قلت: فأخبرني، لو كنت متعلّما مستوصفا لهذا الحساب من أهل الأرض أحبّ إليك أن تستوصفه وتتعلّمه، أم من أهل السّماء؟

قال: من أهل السّماء، إذا كانت النّجوم معلّقة فيها، حيث لا يعلمها أهل الأرض.

قلت: فافهم. ألطف النّظر. ولا يغلبنّك الهوى. أ ليس تعلم أنّه إذا كان أهل الدّنيا يولدون بهذه النّجوم، أنّ النّجوم قبل النّاس؟ فإذا أقررت بذلك، انكسرت عليك أن تعلم علمها من عالم منهم إذا كان العالم وهم إنّما ولدوا بها بعدها، وأنّها قبلهم خلقت.

قال: بلى.

قلت: وكذلك الأرض كانت قبلهم أيضا؟

قال: نعم.

قلت: لأنّه لو لم يكن الأرض خلقت، لما استقام أن يكون النّاس ولا غيرهم من الخلق عليها إلّا أن يكون لها أجنحة، إذ لم يكن لها مستقرّ تأوي إليه ولا منسعة  ترجع إليها. وكذلك الفلك قبل النّجوم، والشّمس والقمر. لأنّه لو لا الفلك، لم تدر البروج، ولم‏تستقلّ مرّة، وتهبط أخرى.

قال: نعم. هو كما قلت: فقد أقررت بأنّ خالق النّجوم الّتي يتولّد النّاس بها، هو خالق السّماء والأرض. لأنّه لو لم يكن سماء ولا أرض، لم يكن دوران الفلك. أ فليس ينبغي لك أن يدلّك عقلك على أنّ الّذي خلق السّماء، هو الّذي خلق الأرض والفلك والدّوران والشّمس والقمر والنّجوم؟! قال: أشهد أنّ الخالق واحد ولكن لست أدري كيف سقطوا على هذا الحساب، حتّى عرفوه، وعلى هذا الدّور والصّواب، ولو أعرف من الحساب ما عرفت، لأخبرت بالجهل، وكان أهون عليّ غير أنّي أريد أن تزيدني شرحا.

قلت: أنبّئك من قبل إهليلجتك هذه الّتي في يدك، وما تدّعي من الطّبّ الّذي هو صناعتك وصناعة آبائك- إلى قوله عليه السّلام.

قال: فأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأنّه خالق السّمائم القاتلة، والهوامّ العادية، وجميع النّبت والأشجار، وغارسها ومنبتها، وبارئ الأجساد، وسائق الرّياح، ومسخّر السّحاب ، وأنّه خالق الأدواء الّتي يهيج بالإنسان كالسّمائم القاتلة الّتي تجري في أعضائه وعظامه مستقرّ الأدواء، وما يصلحها من الدّواء، العارف بتسكين الرّوح ومجرى الدّم وأقسامه في العروق، واتّصاله بالعصب والأعضاء والعقب والجسد، وأنّه عارف بما يصلحه من الحرّ والبرد، عالم بكلّ عضو وما فيه، وأنّه هو الّذي وضع هذه النّجوم وحسابها، والعالم بها، والدّالّ على نحوسها وسعودها، وما يكون من المواليد، وأنّ التّدبير واحد، لم يختلف، متّصل فيما بين السّماء والأرض وما فيهما.

و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن أبان بن عثمان، عن حجر، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: خالف إبراهيم قومه، وعاب آلهتهم حتّى أدخل على نمرود. فخاصمه . فقال إبراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .

و قال أبو جعفر- عليه السّلام -: عاب آلهتهم. فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ‏

 

. قال أبو جعفر- عليه السّلام-: واللّه، ما كان سقيما، وما كذب.

فلمّا تولوا عَنْهُ مُدْبِرِينَ  إلى عيد لهم، دخل إبراهيم- عليه السّلام- إلى آلهتهم بقدوم  فكسرها إلّا كبيرا لهم، ووضع القدوم في عنقه. فرجعوا إلى آلهتهم، فنظروا إلى ما صنع بها. فقالوا: لا واللّه! ما اجترأ عليها، ولا كسرها، إلّا الفتى الّذي كان يعيبها ويبرأ منها. فلم يجدوا له قتلة أعظم من النّار.

فجمع له الحطب، واستجادوه حتّى إذا كان اليوم الّذي يحرق فيه، برز له نمرود وجنوده، وقد بني له بناء لينظر إليه كيف تأخذه النّار. ووضع إبراهيم- عليه السّلام- في منجنيق. وقالت الأرض: يا ربّ، ليس على ظهري أحد يعبدك غير إبراهيم، يحرق بالنّار! قال الرّبّ: إن دعاني كفيته.

فذكر  أبان، عن محمّد بن مروان، عمّن رواه، عن أبي جعفر- عليه السّلام- أنّ دعاء إبراهيم- عليه السّلام- يومئذ كان: يا أحد يا أحد، يا صمد  يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. ثمّ قال: توكّلت على اللّه. فقال الرّبّ- تبارك وتعالى-: كفيت. فقال النّار: كُونِي بَرْداً فاضطربت أسنان إبراهيم- عليه السّلام- من البرد حتّى قال اللّه- عزّ وجلّ-: وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ . والخطّ جبرئيل، فإذا هو جالس مع إبراهيم- عليه السّلام- يحدّثه في النّار. قال نمرود: من اتّخذ إلها، فليتّخذ مثل إله إبراهيم.

قال: فقال عظيم من عظمائهم: إنّي عزمت على النّار أن لا تحرقه. [قال:]  فأخذ عنق من النّار نحوه، حتّى أحرقه.

قال: فامن له لوط. فخرج مهاجرا إلى الشّام هو وسارة ولوط.

عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي أيّوب الخزّاز، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ آزر  أبا إبراهيم كان منّجما لنمرود.فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ : هاربين مخافة العدوى.

فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ: فذهب إليها في خفية. من: روغة الثّعلب. وأصله: الميل بحيلة.

فَقالَ: أي: للأصنام استهزاء:

أَ لا تَأْكُلُونَ :

يعني: الطّعام الّذي كان عندهم.

ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ  بجوابي؟! فَراغَ عَلَيْهِمْ: فمال عليهم مستخفيا.

و التّعدية ب «على»، للاستعلاء، وأنّ الميل لمكروه.

ضَرْباً بِالْيَمِينِ :

مصدر ل «راغ»، لأنّه في معنى: ضربهم. أو لمضمر تقديره: فراغ عليهم يضربهم.

و تقييده ب «اليمين» للدّلالة على قوّته. فإنّ قوّة الآلة تستدعي قوّة الفعل.

و قيل : «باليمين»: بسبب الحلف. وهو قوله: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ .

فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ: إلى إبراهيم- عليه السّلام- بعد ما رجعوا، فرأوا أصنامهم مكسّرة، وبحثوا عن كاسرها، فظنّوا أنّه هو كما شرحه في قوله : مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا (الآية).

يَزِفُّونَ : يسرعون. من: زفيف النّعام.

و قرأ  حمزة على بناء المفعول- من: أزفّه- أي: يحملون على الزّفيف.

و قرئ : «يزفّون» أي: يزفّ بعضهم بعضها. و«يزفون» من: وزف يزف: إذا أسرع. و«يزفون» من: زفاه: [إذا حداه‏]  كأنّ بعضهم يزفوا بعضا، لتسارعهم إليه.

قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ : ما تنحتونه من الأصنام.

و في روضة الكافي  وذكر حديثا طويلا يذكر فيه ولادة إبراهيم- عليه السّلام-

 و فيه يقول- عليه السّلام-: فبينما إخوته يعملون يوما  من الأيّام الأصنام، [إذا أخذ إبراهيم- عليه السّلام- القدوم، وأخذ خشبة، فنجر منها صنما لم يروا قطّ مثله. فقال آزر  لأمّه‏]»

 إنّي لأرجوا أن نصيب  خيرا ببركة ابنك هذا. قال : فبينما هم كذلك، إذ  أخذ إبراهيم- عليه السّلام- القدوم، فكسّر الصّنم الّذي عمله. ففزع أبوه من ذلك فزعا شديدا، فقال له: أي شي‏ء عملت؟! فقال له إبراهيم: وما تصنعون به. فقال آزر :

نعبده. فقال إبراهيم: أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟ فقال آزر  [لأمّه‏] : هذا الّذي يكون ذهاب ملكنا على يديه.

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ ، أي: وما تعملونه. فإنّ جوهرها بخلقه، وشكلها - وإن كان بفعلهم، ولذلك جعل من أعمالهم- فبإقداره إيّاهم عليه، وخلقه ما يتوقّف عليه فعلهم من الدّواعي والعدد.

و معناه: وخلق أصل الحجارة الّتي تعملون منها الأصنام. وهذا يجري مجرى قوله :

تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ، وقوله : تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، بأنّه أراد المنحوت من الجسم هنا، دون العرض الّذي هو النّحت. كما أراد هناك المأفول  منه والمصنوع فيه من الحبال والعصيّ، دون العرض الّذي هو فعلهم. وإنّما كانوا يعبدون الأصنام الّتي هي الأجسام.

و قوله: ما تَنْحِتُونَ هو ما تَعْمَلُونَ [في المعنى‏]، على أنّ مبنى الآية على التقريع للكفّار، والإزراء عليهم بقبيح فعلهم. ولو كان المعنى: واللّه خلقكم وخلق عملكم- ومن جملة، عبادتهم- لكان الآية لأن يكون عذرا لهم، أقرب من أن يكون لوما وتهجينا. ولكان لهم أن يقولوا: ولم توبّخنا على عبادتها، واللّه- تعالى- هو الفاعل لذلك؟! فتكون الحجّة لهم، لا عليهم. ولأنّه قد أضاف العمل إليهم بقوله: «تعلمون».

فكيف يكون مضافا إلى اللّه- تعالى، وهذا تناقض؟! قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً:

في مجمع البيان : قال ابن عبّاس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السّماء ثلاثون ذراعا، وعرضه عشرون ذراعا، وملؤوه نارا، وطرحوه فيها.

فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ : النّار الشّديد. من الجمحة، وهي: شدّة التّأجّج.

و اللّام بدل الإضافة. أي: جحيم ذلك البنيان.

فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً:

فإنّه لمّا قهرهم بالحجّة، قصدوا تعذيبه بذلك، لئلّا يظهر للعامّة عجزهم.

فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ : الأذلّين، بإبطال كيدهم، وجعله برهانا نيّرا على علوّ شأنه، حيث جعل النّار عليه بردا وسلاما.

وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي: إلى حيث أمرني ربّي، وهو الشّام. أو: حيث أتجرّد فيه لعبادته.

سَيَهْدِينِ  إلى ما فيه صلاح ديني. أو: إلى مقصدي.

قيل : وإنّما بتّ القول لسبق وعده، أو لفرط توكّله، أو البناء على عادته معه. ولم يكن كذلك حال موسى حين قال: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ ، فلذلك ذكر بصيغة التّوقّع.

و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، وعدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعا عن الحسن بن محبوب، عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخيّ قال: سمعت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- يقول: إنّ إبراهيم كان مولده بكوثى ربا . وكان أبوه من أهلها. وكانت أمّه وأمّ لوط

 - عليهما السّلام- سارة وورقة- وفي نسخة: رقيّة- أختين، وهما ابنتان للاحج. وكان اللّاحج نبيّا منذرا، ولم يكن رسولا.

و كان إبراهيم في شبيبته  على الفطرة الّتي فطر اللّه- عزّ وجلّ- الخلق عليها، حتّى هداه اللّه- تبارك وتعالى- إلى دينه، واجتباه.

و إنّه تزوّج سارة ابنة لاحج ، وهي ابنة خالته. وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة  وأرض واسعة وحال حسنة. وكانت قد ملّكت إبراهيم جميع ما كانت تملكه.

فقام فيه، وأصلحه، وكثرت الماشية والزّرع، حتّى لم يكن بأرض كوثى ربا رجل أحسن حالا منه.

و إنّ إبراهيم- عليه السّلام- لمّا كسّر أصنام نمرود، أمر به نمرود. فأوثق، وعمل له حيرا ، وجمع له فيه الحطب، وألهب فيه النّار. ثمّ قذف إبراهيم- عليه السّلام- في النّار، لتحرقه. ثمّ اعتزلوها حتّى خمدت النّار. ثمّ أشرفوا على الحير، فإذا هم بإبراهيم سليما مطلقا من وثاقه.

فأخبر نمرود خبره. فأمرهم أن ينفوا إبراهيم- عليه السّلام- من بلاده، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله. فحاجّهم إبراهيم- عليه السّلام- عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالي، فإنّ حقّي عليكم أن تردّوا عليّ ما ذهب من عمري في بلادكم.

و اختصموا إلى قاضي نمرود. فقضى على إبراهيم أن يسلّم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم. وقضى على أصحاب نمرود أن يردّوا على إبراهيم ما ذهب من عمره في بلادهم.

فأخبر بذلك نمرود. فأمرهم أن يخلّوا سبيله وسبيل ماشيته وماله، وأن يخرجوه.

و قال: إنّه إن بقي في بلادكم، أفسد دينكم، وأضرّ بآلهتكم. فأخرجوا إبراهيم ولوطا معه- عليهما السّلام. فتحمّل  من بلادهم إلى الشّام.فخرج إبراهيم ومعه لوط لا يفارقه وسارة، وقال: لهم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ، يعني بيت المقدّس. فتحمّل إبراهيم بماشيته وماله، وعمل تابوتا، وجعل فيه سارة، وشدّ عليها الأغلاق غيرة منه عليها.

و مضى حتّى خرج من سلطان نمرود، وصار  إلى سلطان رجل من القبط يقال له:

عرارة . فمرّ بعاشر  له. فاعترضه العاشر ليعشر ما معه. فلمّا انتهى إلى العاشر ومعه التّابوت، قال العاشر لإبراهيم: افتح هذا التّابوت حتّى نعشر  ما فيه. فقال له إبراهيم: قل ما شئت فيه من ذهب أو فضّة، حتّى نعطي عشره، ولا نفتحه. فأبى العاشر إلّا فتحه.

قال: وغضب إبراهيم- عليه السّلام- على فتحه. فلمّا بدت له سارة، وكانت موصوفة بالحسن والجمال، قال له العاشر: ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيم- عليه السّلام-: هي حرمتي وابنة خالتي. فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خبيّتها في هذا التّابوت؟ فقال إبراهيم: الغيرة عليها أن يراها أحد. فقال له العاشر: لست أدعك تبرح حتّى أعلم الملك حالها وحالك.

قال: فبعث رسولا إلى الملك، فأعلمه. فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتّابوت.

فأتوا ليذهبوا به، فقال له إبراهيم: إنّي لست أفارق التّابوت حتّى تفارق  روحي جسدي.

فأخبروا الملك بذلك. فأرسل الملك أن احملوه والتّابوت معه. فحملوا إبراهيم والتابوت وجميع ما كان معه حتّى أدخل على الملك فقال له الملك: افتح التّابوت. فقال له إبراهيم:

أيّها الملك، إنّ فيه حرمتي وبنت خالتي، وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي.

قال: فغضب  الملك إبراهيم على فتحه. فلمّا رأى سارة، لم يملك حلمه سفهه أن مدّ يده إليها. فأعرض إبراهيم بوجهه عنها وعن الملك ، غيرة منه، وقال: اللّهم احبس يده عن حرمتي وابنة خالتي. فلم تصل يده إليها، ولم ترجع إليه. فقال له الملك: إنّ إلهك هو الّذي فعل بي هذا؟ فقال له: نعم. إنّ إلهي غيور يكره الحرام. وهو الّذي حال بينك وبين ما أردت من الحرام. فقال له الملك: فادع إلهك يردّ عليّ يدي. فإن أجابك، فلم‏أعرّض لها. فقال إبراهيم: إلهي، ردّ عليه يده، ليكفّ عن حرمتي.

 [قال:]  فردّ اللّه- عزّ وجلّ- عليه يده. فأقبل الملك نحوها ببصره»

. ثمّ عاد  بيده [نحوها] . فأعرض إبراهيم عنه بوجهه غيرة منه، وقال: اللّهم احبس يده عنها.

قال: فيبست يده، ولم تصل إليها. فقال الملك لإبراهيم: إنّ إلهك لغيور. وإنّك لغيور. فادع إلهك يردّ عليّ يدي. فإنّه إن فعل، لم أعد. فقال له إبراهيم: أسأله ذلك على أنّك إن عدت، لم تسألني أن أسأله. فقال له الملك: نعم. فقال إبراهيم: اللّهم إن كان صادقا، فردّ عليه يده. فرجعت إليه يده.

فلمّا رأى ذلك الملك من الغيرة ما رأى، ورأى الآية في يده، عظّم إبراهيم- عليه السّلام- وهابه، وأكرمه، واتّقاه. وقال له: قد أمنت من أن أعرّض لها، أو لشي‏ء ممّا معك، فانطلق حيث شئت، ولكن لي إليك حاجة. فقال له إبراهيم: ما هي؟

فقال له: أحبّ أن تأذن لي أن أخدمها قبطيّة عندي جميلة عاقلة، تكون لها خادما.

قال: فأذن له إبراهيم. فدعا بها، فوهبها لسارة. وهي هاجر أمّ إسماعيل- عليه السّلام. فسار إبراهيم بجميع ما معه، وخرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم- عليه السّلام- إعظاما لإبراهيم- عليه السّلام- وهيبة له. فأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إلى إبراهيم أن قف، ولا تمش قدّام الجبّار المتسلّط، ويمشي هو خلفك، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه، وعظّمه وهبه، فإنّه مسلّط. ولا بدّ من إمرة في الأرض برّة أو فاجرة.

فوقف إبراهيم- عليه السّلام- وقال للملك: امض، فإلهي  أوحى إليّ السّاعة أن أعظّمك، وأهابك، وأن أقدّمك أمامي، وأمشي خلفك، إجلالا لك. فقال له الملك:

أوحى إليك بهذا؟ فقال له إبراهيم: نعم. فقال له الملك: أشهد أنّ إلهك لرفيق حليم كريم.

و أنّك ترغّبني في دينك. وودّعه الملك.

فسار إبراهيم، حتّى نزل بأعلى الشّامات، وخلّف لوطا- عليه السّلام في أدنى الشّامات.

ثمّ أنّ إبراهيم لما أبطئ عليه الولد، قال لسارة: لو شئت ليعتني  هاجر. لعلّ اللّه أن‏يرزقنا منها ولدا، فيكون لنا خلفا. فابتاع إبراهيم هاجر من سارة، [فوقع عليها] . فولدت إسماعيل.

و في كتاب التّوحيد ، عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل يقول فيه- عليه السّلام- وقد سأله رجل عمّا اشتبه عليه من الآيات: وقد أعلمتك أنّ ربّ شي‏ء من كتاب اللّه تأويله غير تنزيله، ولا يشبه كلام البشر. وسأنبّئك بطرف منه، فتكتفي إن شاء اللّه. من ذلك قول إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ. فذهابه إلى ربّه توجّهه إليه عبادة واجتهادا وقربة إلى اللّه- عزّ وجلّ. ألا ترى أنّ تأويله غير تنزيله؟!

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ : بعض الصّالحين، يعينني على الدّعوة والطّاعة، ويؤنسني في الغربة، يعني: الولد. لأنّ لفظ الهبة غالب فيه. ولقوله:

فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ :

بشّره بالولد، وبأنّه ذكر يبلغ أوان الحلم. فإنّ الصّبيّ لا يوصف بالحلم. أو يكون حليما. وأيّ حلم مثل حلمه، حين عرض عليه أبوه الذّبح- وهو مراهق- فقال:

سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

و قيل : ما نعمت اللّه نبيّا بالحلم لعزّة وجوده، غير إبراهيم وابنه- عليهما السّلام.

و حالهما المذكورة بعد تشهد عليه.

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، أي: فلمّا وجد وبلغ أن يسعى معه في الأعمال.

و «معه» متعلّق بمحذوف دلّ عليه السّعي  لا به- لأنّ صلة المصدر لا تتقدّمه- ولا ب «بلغ»، فإنّ بلوغهما لم يكن معا. كأنّه لمّا قال: «فلمّا بلغ السّعي» فقيل: مع من؟

فقيل: معه. وتخصيصه، لأنّ الأب أكمل في الرّفق به، والاستصلاح له، فلا يستسعيه قبل أوانه. أو لأنّه استوهبه لذلك.

قيل : وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة.

و في مجمع البيان : وروى العيّاشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجليّ قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: كم كان بين بشارة إبراهيم بإسماعيل وبين‏بشارته بإسحاق؟

قال: كان بين البشارتين خمس سنين. قال اللّه- سبحانه-: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، يعني: إسماعيل. وهي أوّل بشارة بشّر اللّه بها إبراهيم- عليه السّلام في الولد.

 (الحديث، وستقف عليه بتمامه- إن شاء اللّه تعالى.)

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى محمّد بن  القاسم وغيره، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: إنّ سارة قالت لإبراهيم: يا إبراهيم، قد كبرت، فلو دعوت اللّه أن يرزقك ولدا تقرّ أعيننا به. فإنّ اللّه قد اتّخذك خليلا، وهو مجيب لدعوتك- إن شاء.

قال: فسأل إبراهيم ربّه أن يرزقه غلاما عليما. فأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إليه: إنّي واهب لك غلاما عليما. ثمّ أبلوك بالطّاعة لي.

قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: فمكث إبراهيم بعد البشارة ثلاث سنين. ثمّ جاءته البشرى من اللّه- عزّ وجلّ.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ:

قيل : يحتمل أنّه رأى ذلك، وأنّه رأى ما هو تعبيره.

و قيل : إنّه رأى ليلة التّروية أنّ قائلا يقول له: إنّ اللّه يأمرك بذبح ابنك. فلمّا أصبح، روّى  أنّه من اللّه- تعالى- أو من الشّيطان. فلمّا أمسى، رأى مثل ذلك.

فعرف أنّه من اللّه. ثمّ رأى مثل ذلك في اللّيلة الثّالثة. فهمّ بنحره، وقال له ذلك. ولهذا سمّيت الأيّام الثّلاثة بالتّروية، وعرفة، والنّحر.

فَانْظُرْ ما ذا تَرى، من الرّأي.

و إنّما شاوره فيه، وهو حتم له، ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء اللّه، فيثبّت قدمه، إن جزع، ويأمن عليه، إن سلّم. وليوطّن نفسه عليه، فيهون ويكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله.

و قرأ  حمزة والكسائيّ: «ما ذا تري» بضمّ التّاء وكسر الرّاء خالصة، والباقون‏بفتحهما، وأبو عمرو يميل فتحة الرّاء، وورش بين بين، والباقون بإخلاص فتحها.

قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ، أي: ما تؤمر به. فحذف دفعة. أو على التّرتيب، كما عرفت. أو: أمرك، على إرادة المأمور به، والإضافة إلى المأمور. أو لعلّه فهم من كلامه أنّه رأى أنّه يذبحه مأمورا به. أو علم أنّ رؤيا الأنبياء حقّ، وأنّ مثل ذلك لا يقدمون عليه إلّا بأمر.

و لعلّ الأمر به في المنام دون اليقظة، لتكون مبادرتهما إلى الامتثال أدلّ على كمال الانقياد والإخلاص.

و إنّما ذكر بلفظ المضارع، لتكرّر الرّؤيا.

سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ  على الذّبح. أو: على قضاء اللّه.

و في عيون الأخبار : حدّثنا أحمد بن الحسن  القطّان قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد الكوفيّ قال: حدّثنا عليّ بن الحسن  بن عليّ بن فضّال، عن أبيه قال: سألت أبا الحسن عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام- عن معنى قول النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: أنا ابن الذّبيحين.

قال: يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل، وعبد اللّه بن عبد المطّلب. أمّا إسماعيل، فهو الغلام الحليم الّذي بشّر اللّه- تعالى- به إبراهيم. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ وهو لما عمل مثل عمله، قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. ولم يقل: يا أبت افعل ما رأيت. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

 (الحديث، وستقف على تمامه- إن شاء اللّه.)

فَلَمَّا أَسْلَما: استسلما لأمر اللّه. أو: سلّما الذّبيح نفسه، وإبراهيم ابنه.

و قد قرئ  بهما. وأصله: سلم هذا لفلان. إذا خلص  له. بأنّه سلم من أن ينازع فيه.

وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ : صرعه على شقّه، فوقع جبينه  على الأرض. وهو:

أحد جانبي الجبهة.

و قيل : كبّه على وجهه بإشارته، لئلّا يرى فيه تغيّرا يرقّ له فلا يذبحه. وكان ذلك عند الصّخرة بمنى، أو في الموضع المشرف على مسجده، أو المنحر الّذي ينحر فيه اليوم.

و في عيون الأخبار ، في باب ذكر ما كتب به الرّضا- عليه السّلام- إلى محمّد بن سنان في جواب مسائله في العلل: والعلّة الّتي من أجلها سمّيت منى منى، أنّ جبرئيل- عليه السّلام- قال هناك لإبراهيم: تمنّ على ربّك ما شئت. فتمنّى إبراهيم- عليه السّلام- في نفسه أن يجعل اللّه مكان ابنه إسماعيل كبشا يأمره بذبحه، فداء له.

فأعطي مناه.

وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ  قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا بالعزم والإتيان بالمقدّمات.

و قد نقل : أنّه أمرّ السّكين بقوّته على حلقه مرارا، فلم تقطع.

و جواب «لمّا» محذوف، تقديره: كن [ما كان‏]  ممّا ينطق به الحال، ولا يحيط به المقال، من استبشارهما وشكرهما للّه، على أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله، والتّوفيق لما لم يوفّق غيرهما لمثله، وإظهار فضلهما به على العالمين، مع إحراز الثّواب العظيم، إلى غير ذلك.

إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ :

تعليل لإفراج تلك الشّدّة عنهما بإحسانهما. واحتجّ به من جوّز النّسخ قبل وقوعه. فإنّه- عليه السّلام- كان مأمورا بالذّبح لقوله: افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ولم يحصل.

إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ : الابتلاء البيّن الّذي يتميّز فيه المخلص من غيره. أو: المحنة البيّنة الصّعوبة، فإنّه لا أصعب منها.

وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ: بما يذبح بدله، فيتمّ به الفعل.

عَظِيمٍ : عظيم الجثّة سمين. أو: عظيم القدر، لأنّه يفدي به- سبحانه- نبيّا ابن نبيّ، وأيّ نبيّ من نسله سيّد المرسلين! قيل : كان كبشا من الجنّة.و قيل : وعلا اهبط عليه من تبير.

و نقل : أنّه هرب منه عند الجمرة. فرماه بسبع حصيات، حتّى أخذه. فصارت سنّة.

و الفادي على الحقيقة إبراهيم. وإنّما قال: وَفَدَيْناهُ، لأنّه المعطي له والأمر به، على التّجوّز في الفداء أو الإسناد.

و في كتاب التّوحيد : وقد روي من طريق أبي الحسين الأسديّ- رحمه اللّه- في ذلك شي‏ء غريب وهو، أنّه روى أنّ الصّادق- عليه السّلام- قال: ما بدا للّه بداء كما بدا له في إسماعيل ، إذ  أمر أباه بذبحه، ثمّ فداه بذبح عظيم.

و بإسناده  إلى الفتح بن يزيد الجرجانيّ، عن أبي الحسن- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه يقول- عليه السّلام-: إنّ للّه إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم، وإرادة عزم.

ينهى، وهو يشاء. ويأمر، وهو لا يشاء. أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشّجرة، وهو يشاء ذلك؟! ولو لم يشأ، [لم يأكلا، ولو أكلا، لغلبت مشيئتهما مشيئة اللّه.

و أمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل، وشاء أن لا يذبحه. ولو لم يشأ]» أن لا يذبحه، لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة اللّه- عزّ وجلّ. قلت: فرّجت عنّي. فرّج اللّه عنك.

و في أمالي شيخ الطّائفة - قدّس سرّه- بإسناده إلى سليمان بن يزيد قال: حدّثنا عليّ بن موسى قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن آبائه- عليهم السّلام- قال: الذّبيح إسماعيل.

و في مهج الدّعوات ، في دعاء مرويّ عن أمير المؤمنين، عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: يا من فدى إسماعيل من الذّبح.

و في كتاب مصباح الزّائر  لابن طاوس- رحمه اللّه- في دعاء الحسين بن عليّ- عليه السّلام- يوم عرفة: يا ممسك يد إبراهيم عن ذبح ابنه، بعد كبر سنّه وفناء عمره.و في مجمع البيان : وروى العيّاشيّ بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لأبي عبد اللّه- عليه السّلام-: كم كان بين بشارة إبراهيم بإسماعيل، وبين بشارته بإسحاق؟

قال: كان بين البشارتين خمس سنين. قال اللّه- سبحانه-: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ، يعني: إسماعيل. وهي أوّل بشارة [بشّر اللّه‏]  بها إبراهيم في الولد. ولمّا ولد لإبراهيم إسحاق من سارة، وبلغ إسحاق ثلاث سنين، أقبل إسماعيل إلى إسحاق- وهو في حجر إبراهيم- فنحّاه، وجلس في مجلسه. فبصرت به سارة، فقالت: يا إبراهيم! ينحّي ابن هاجر ابني من حجرك، ويجلس هو مكانه؟! لا واللّه، لا تجاورني هاجر وابنها  أبدا، فنحّهما عنّي! وكان إبراهيم مكرما لسارة ، يعزّها ويعرف حقّها. وذلك لأنّها من ولد الأنبياء وبنت خالته. فشقّ ذلك على إبراهيم، واغتمّ لفراق إسماعيل. فلمّا كان في اللّيل، أتى إبراهيم آت من ربّه فأراه الرّؤيا في ذبح ابنه إسماعيل بموسم مكّة. فأصبح إبراهيم حزينا للرّؤيا الّتي رآها.

فلمّا حضر موسم ذلك العام، حمل إبراهيم هاجر وإسماعيل في ذي الحجّة من أرض الشّام. فانطلق بهما إلى مكّة، ليذبحه في الموسم. فبدأ بقواعد البيت الحرام. فلمّا رفع قواعده، خرج إلى منى حاجّا، وقضى نسكه بمنى. ورجع إلى مكّة، فطاف بالبيت أسبوعا. ثمّ انطلقا [إلى السّعي‏] . فلمّا صارا في المسعى، قال إبراهيم لإسماعيل: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ في موسم عامي هذا، «فما ذا ترى»؟ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ.

فلمّا فرغا من سعيهما، انطلق به إبراهيم إلى منى، وذلك يوم النّحر. فلمّا انتهى به إلى الجمرة الوسطى، وأضجعه لجنبه  الأيسر، وأخذ الشفرة ليذبحه، نودي أن يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا (إلى آخره) وفدى إسماعيل بكبش عظيم، فذبحه، وتصدّق بلحمه على المساكين.و عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- أنّه سئل عن صاحب الذّبح، فقال: هو إسماعيل.

و روي  عن زياد بن سوقة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سألته عن صاحب الذّبح. فقال: إسماعيل- عليه السّلام.

و في الكافي : عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن بعض أصحابه- أظنّه محمّد بن إسماعيل- قال: قال أبو الحسن الرّضا- عليه السّلام-: لو خلق اللّه- عزّ وجلّ- مضغة أطيب من الضّأن، لفدى بها إسماعيل- عليه السّلام.

محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن خالد، عن سعد بن سعد قال: قال أبو الحسن- عليه السّلام-: لو علم اللّه- عزّ وجلّ- شيئا أكرم من الضّأن، لفدى به إسماعيل- عليه السّلام.

و الحديثان طويلان. أخذت منهما موضع الحاجة.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن المختار بن محمّد الهمدانيّ، ومحمّد بن الحسن، عن عبد اللّه بن الحسن العلويّ، جميعا عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسن- عليه السّلام- قال: إنّ للّه إرادتين ومشيئتين: إرادة حتم، وإرادة عزم. ينهى، وهو يشاء. ويأمر، وهو لا يشاء. أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشّجرة، وشاء ذلك؟! ولو لم يشأ أن يأكلا، لما غلبت شهوتهما  مشيئة اللّه. وأمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل ، ولم يشأ أن يذبحه. ولو شاء، لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة اللّه.

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن جعفر بن إبراهيم [الحضرمي‏] ، عن سعد بن سعد قال: قال أبو الحسن- عليه السّلام-: لو علم اللّه- عزّ وجلّ- خيرا من الضّأن، لفدى به إسحاق.

و الحديث طويل، أخذت منه موضع الحاجة.

و

في مجمع البيان : وقيل: إنّ إبراهيم رأى في المنام أن يذبح ابنه إسحاق، وقد كان حجّ بوالدته سارة وأهله. فلمّا انتهى إلى منى، رمى الجمرة هو وأهله. وأمر سارة، فزارت‏بالبيت. واحتبس الغلام، فانطلق به إلى موضع الجمرة الوسطى. فاستشاره في نفسه.

فأمره الغلام أن يمضي لما أمره اللّه، وسلّما  لأمر اللّه.

فأقبل شيخ فقال: يا إبراهيم، ما تريد من هذا الغلام؟ قال: أريد أن أذبحه. فقال:

سبحان اللّه! تريد أن تذبح غلاما لم يعص اللّه طرفة عين قطّ. قال إبراهيم: إنّ اللّه أمرني بذلك. قال: ربّك ينهاك عن ذلك، وإنّما أمرك بهذا الشّيطان! فقال إبراهيم: لا واللّه! فلمّا عزم على الذّبح، قال الغلام: يا أبت، خمّر وجهي ، وشدّ وثاقي. فقال: يا بنيّ، الوثاق مع الذّبح؟! واللّه لا أجمعهما عليك اليوم. ورفع رأسه إلى السّماء، ثمّ أنحى  عليه بالمدية. وقلّب جبرئيل المدية على قفاها، واجترّ الكبش  من قبل ثبير . واجترّ الغلام من تحته، ووضع الكبش مكان الغلام. ونودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا بإسحاق إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ.

قال: ولحق إبليس بأمّ الغلام حين زارت البيت، فقال لها: ما شيخ رأيته بمنى؟

قال: ذاك بعلي. قال: فوصيف  رأيته؟ قالت: ذاك ابني. قال: فإنّي رأيته قد أضجعه، وأخذ المدية [ليذبحه‏] . قالت: كذبت! إبراهيم أرحم النّاس، فكيف يذبح ابنه؟! قال:

فو ربّ السّماء والأرض، وربّ هذه الكعبة، قد رأيته كذلك. قال: ولم؟ قال: زعم أنّ ربّه أمره بذلك. قالت: حقّ له أن يطيع ربّه. فوقع في نفسها أنّه قد أمر في ابنها بأمر.

فلمّا قضت نسكها، أسرعت في الوادي، راجعة إلى منى، واضعة يديها على رأسها، وهي تقول: يا ربّ! لا تؤاخذني بما عملت بأمّ إسماعيل! فلمّا جاءت سارة وأخبرت الخبر، قامت تنظر إلى ابنها. فرأت إلى أثر السكين خدشا في حلقه. ففزعت واشتكت.

و كان بدء مرضها الّذي هلكت به.

رواه العيّاشيّ وعليّ بن إبراهيم  بالإسناد في كتابيهما.

 

و فيه اختلف العلماء في الذّبيح على قولين:أحدهما: أنّه إسحاق. وروي ذلك عن عليّ- عليه السّلام.

و القول الآخر: إنّه إسماعيل.

و كلا القولين قد رواه أصحابنا عن أئمّتنا- عليهم السّلام‏

- إلّا أنّ الأظهر في الرّوايات أنّه إسماعيل. وقد صحّ‏

عن النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- أنّه قال: «أنا ابن الذّبيحين».

و لا خلاف أنّه من ولد إسماعيل، والذّبيح الآخر هو عبد اللّه أبوه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم - رحمه اللّه-: وقد اختلفوا في إسحاق وإسماعيل .

و قد روت العامّة خبرين مختلفين في إسماعيل وإسحاق.

و في من لا يحضره الفقيه : وسئل الصّادق- عليه السّلام- عن الذّبيح من كان.

فقال: إسماعيل. لأنّ اللّه- تعالى- عن الذّبيح من كان. فقال: إسماعيل. لأنّ اللّه- تعالى- ذكر قصّته في كتابه، ثمّ قال : وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ.

و قد اختلف  الرّوايات في الذّبيح: فمنها ما ورد بأنّه إسماعيل. ومنها ما ورد بأنّه إسحاق. ولا سبيل إلى ردّ الأخبار متّى صحّ طرقها. وكان الذّبيح إسماعيل، لكنّ إسحاق لمّا ولد بعد ذلك، تمنّى أن يكون هو الّذي أمر أبوه بذبحه، وكان يصبر لأمر اللّه ويسلّم له كصبر أخيه وتسليمه، فينال بذلك درجته في الثّواب. فعلم اللّه ذلك من قلبه، فسمّاه بين ملائكته ذبيحا، لتمنّيه لذلك. وقد ذكرت إسناد ذلك في كتاب النّبوّة، متّصلا بالصّادق- عليه السّلام.

و سئل الصّادق»- عليه السّلام-: أين أراد إبراهيم أن يذبح ابنه؟ فقال: على الجمرة- ولمّا أراد إبراهيم أن يذبح ابنه، قلّب جبرئيل المدية، واجترّ الكبش من قبل ثبير. واجترّ الغلام من تحته، ووضع الكبش مكان الغلام. ونودي من ميسرة مسجد الخيف أن يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، و محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد،

 و الحسين بن محمّد عن عبد ربّه  بن  عامر، جميعا عن أحمد بن محمّد  [بن أبي نصر] ، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير أنّه سمع أبا جعفر وأبا عبد اللّه- عليهما السّلام- يذكران:

انّه لمّا كان يوم التروّية، قال جبرئيل لإبراهيم: تروّ  من الماء. فسمّيت التّروية. ثمّ أتى منى، فأباته بها. ثمّ غدا به إلى عرفات، فضرب خباءه بنمرة  [دون عرفة] ، فبنى مسجدا بأحجار بيض. وكان يعرف أثر مسجد إبراهيم، حتّى أدخل في هذا المسجد الّذي بنمرة حيث يصلّي الإمام يوم عرفة. فصلّى [بها]  الظّهر والعصر.

ثمّ عمد به إلى عرفات، فقال: هذه عرفات، فاعرف بها مناسكك، واعترف بذنبك. [فسمّي عرفات‏] . ثمّ أفاض إلى المزدلفة. [فسمّيت المزدلفة]  لأنّه ازدلف إليها.

ثمّ قام على المشعر الحرام، فأمره اللّه أن يذبح ابنه. وقد رأى فيه شمائله وخلائقه، وأنس ما كان إليه. فلمّا أصبح، أفاض من المشعر إلى منى، فقال لأمّه: زوري البيت أنت. واحتبس الغلام، فقال: يا بنيّ هات الحمار والسّكين، حتّى أقرّب القربان.

فقال أبان: فقلت لأبي بصير: ما أراد بالحمار والسّكين؟

قال: أراد أن يذبحه، ثمّ يحمله فيجهّزه ويدفنه.

قال: فجاء الغلام بالحمار والسّكين، فقال: يا أبت أين القربان؟ قال: ربّك يعلم أين هو. يا بنيّ، أنت- واللّه- هو. [إنّ اللّه‏]  قد أمرني بذبحك فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ.

 

قال: فلمّا عزم على الذّبح، قال: يا أبت خمّر وجهي، وشدّ وثاقي، قال: يا بنيّ.

الوثاق مع الذّبيح!؟ واللّه لا أجمعهما عليك اليوم! قال أبو جعفر- عليه السّلام-: فطرح له قرطان  [أي برذعة]  الحمار. ثمّ أضجعه‏عليه، وأخذ المدية، فوضعها على حلقه.

قال: فأقبل شيخ فقال: ما تريد من هذا الغلام؟ قال: أريد أن أذبحه. فقال:

سبحان اللّه! غلام لم يعص اللّه طرفة عين، تذبحه!؟ فقال: نعم. إنّ اللّه قد أمرني بذبحه.

فقال: بل ربّك ينهاك عن ذبحه وإنّما أمرك بهذا الشّيطان في منامك! قال: ويلك! الكلام الّذي سمعته هو الّذي بلغ بى ما ترى. لا واللّه، لا أكلّمك. ثمّ عزم على الذّبح.

فقال الشّيخ: يا إبراهيم! إنّك إمام يقتدى بك وإن ذبحت ولدك، ذبح النّاس أولادهم، فهملا! فأبى أن يكلمه.

قال أبو بصير: سمعت أبا جعفر- عليه السّلام- يقول: فأضجعه عند الجمرة الوسطى. ثمّ أخذ المدية، فوضعها على حلقه. ثمّ رفع رأسه إلى السّماء، ثمّ انحنى  عليه.

فقلّبها جبرئيل عن حلقه. فنظر إبراهيم، فإذا هي مقلوبة. فقلّبها إبراهيم على حدّها، وقلّبها جبرئيل على قفاها. ففعل ذلك مرارا. ثمّ نودي من ميسرة مسجد الخيف: يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا. واجترّ الغلام من تحته. وتناول جبرئيل الكبش من قلّة ثبير، فوضعه تحته.

و خرج الشّيخ الخبيث، حتّى لحق بالعجوز حين نظرت إلى البيت، والبيت في وسط الوادي. فقال: ما شيخ رأيته بمنى؟ فنعت نعت إبراهيم. قالت: ذاك بعلي. قال: فما وصيف رأيته معه؟ ونعت نعته. قالت: ذاك ابني. قال: فإنّي رأيته أضجعه، وأخذ المدية ليذبحه. قالت: كلّا! ما رأيت إبراهيم إلّا أرحم النّاس. وكيف رأيته يذبح ابنه؟! قال:

و ربّ السّماء والأرض، وربّ هذه البنية، لقدر رأيته أضجعه، وأخذ المدية ليذبحه. قالت:

لم؟ قال: زعم أنّ ربّه أمره بذبحه! قالت: فحقّ عليه  أن يطيع ربّه.

 [قال:]  فلمّا قضت  مناسكها، فرقت  أن يكون قد نزل في ابنها شي‏ء. فكأنّي أنظر إليها مسرعة  في الوادي، واضعة يديها على رأسها، وهي تقول: ربّ! لا تؤاخذني بما عملت بأمّ إسماعيل.قال: فلمّا جاءت سارة، فأخبرت الخبر، قامت إلى ابنها تنظر. فإذا أثّر السّكّين خدشا  في حلقه. ففزعت واشتكت. وكانت بدء مرضها الّذي هلكت فيه.

و ذكر أبان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: أراد أن يذبحه في الموضع الّذي حملت أمّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- عند الجمرة الوسطى. فلم يزل مضربهم يتوارثون به، كابر عن كابر، حتّى كان آخر من ارتحل منه عليّ بن الحسين- عليه السّلام- في شي‏ء كان بين بني هاشم وبين بني أميّة. فارتحل فضرب بالعرين.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن فضّالة بن أيّوب، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام-: إنّ إبراهيم- عليه السّلام- أتاه جبرئيل عند زوال الشّمس من يوم التّروية، فقال:

يا إبراهيم، ارتو من الماء لك ولأهلك. ولم يكن بين مكّة وعرفات ماء. فسمّيت التّروية لذلك. فذهب به، حتّى انتهى به إلى منى، فصلّى بها  الظّهر والعصر والعشاءين والفجر. حتّى إذا بزغت الشّمس، خرج إلى عرفات، فنزل بنمرة، وهي بطن عرفة.

فلمّا زالت الشّمس، خرج وقد اغتسل. فصلّى الظّهر والعصر بأذان واحد وإقامتين. وصلّى في موضع المسجد الّذي بعرفات. وقد كانت ثمّ  أحجار بيض.

فأدخلت في المسجد الّذي بني. ثمّ مضى به إلى الموقف، فقال: يا إبراهيم، اعترف بذنبك، واعرف مناسكك. فلذلك سمّيت عرفة. وأقام به حتّى غربت الشّمس. ثمّ أفاض به، فقال: يا إبراهيم، ازدلف إلى المشعر الحرام. فسمّيت المزدلفة. وأتى به المشعر الحرام، فصلّى به المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين.

ثمّ بات بها، حتّى إذا صلّى بها صلاة الصّبح، أراه الموقف. ثمّ أفاض إلى منى.

فأمره، فرمى جمرة العقبة، وعندها ظهر له إبليس. ثمّ أمره اللّه بالذّبح. فإنّ إبراهيم- عليه السّلام- حين أفاض من عرفات، بات على المشعر الحرام، وهو قزح . فرأى في النّوم أن يذبح ابنه. وقد كان حجّ بوالدته  [و أهله‏] .فلمّا انتهى إلى منى، رمى جمرة العقبة  هو  وأهله، ومرّت سارة  إلى البيت.

و احتبس الغلام، فانطلق به إلى موضع الجمرة الوسطى. فاستشار ابنه، وقال كما حكى اللّه: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى. فقال الغلام كما حكى اللّه- عزّ وجلّ عنه-: امض لما أمرك اللّه به. يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. وسلّما لأمر اللّه- عزّ وجلّ.

و أقبل شيخ فقال: يا إبراهيم، ما تريد من هذا الغلام؟! قال: أريد أن أذبحه. فقال:

سبحان اللّه! تذبح غلاما لم يعص اللّه طرفة عين. فقال إبراهيم: إنّ اللّه أمرني بذلك.

فقال: ربّك ينهاك عن ذلك. وإنّما أمرك بهذا الشّيطان! فقال له إبراهيم: ويلك! إن الّذي بلغني هذا المبلغ، هو الّذي أمرني به، والكلام الّذي وقع في أذني . فقال: لا واللّه! ما أمرك بهذا إلّا الشّيطان! فقال إبراهيم: لا واللّه! ولا أكلّمك! ثمّ عزم على الذّبح.

فقال: يا إبراهيم إنّك إمام يقتدى بك. وإنّك إن ذبحته، ذبح النّاس أولادهم. فلم يكلّمه.

و أقبل على الغلام، فاستشاره في الذّبح. فلمّا أسلما جميعا لأمر اللّه، قال الغلام: يا أبتاه خمّر وجهي، وشدّ وثاقي. فقال إبراهيم: يا بنيّ! الوثاق مع الذّبح؟! لا واللّه لا أجمعهما عليك اليوم! فرمى له بقرطان الحمار، ثمّ أضجعه عليه. وأخذ المدية، فوضعها على حلقه، ورفع رأسه إلى السّماء. ثمّ اجترّ  عليه المدية. فقلّب جبرئيل- عليه السّلام- المدية على قفاها. واجترّ الكبش من قبل ثبير، وأثار الغلام من تحته، ووضع الكبش مكان الغلام. ونودي من ميسرة  مسجد الخيف أن يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ.

قال: ولحق إبليس بامّ الغلام، حين نظرت إلى الكعبة في وسط الوادي بحذاءالبيت. فقال لها: ما شيخ رأيته؟ قالت: إنّ ذلك بعلي. قال: فوصيف رأيته معه قالت:

ذاك ابني. قال: فإنّي رأيته، وقد أضجعه، وأخذ المدية ليذبحه. فقالت: كذبت! إنّ إبراهيم أرحم النّاس. كيف يذبح ابنه؟! قال: فو ربّ السّماء والأرض، وربّ هذا البيت، لقد رأيته أضجعه، وأخذ المدية. فقالت: ولم؟ قال: زعم أنّ ربّه أمره بذلك! قالت: فحقّ عليه  أن يطيع ربّه. فوقع في نفسها أنّه قد أمر في ابنها بأمر.

فلمّا قضت مناسكها، أسرعت في الوادي، راجعة إلى منى، واضعة يدها على رأسها، تقول: يا ربّ! لا تؤاخذني بما عملت بأمّ إسماعيل.

قلت: فأين أراد أن يذبحه.

قال: عند الجمرة الوسطى.

و في مجمع البيان : وروي أنّه قال: اذبحني وأنا ساجد لا ترى إلى وجهي. فعسى أن ترحمني فلا تذبحني.

و روي عن عليّ - عليه السّلام- وجعفر بن محمّد- عليه السّلام-: «فلما سلّما» بغير ألف ولام مشدّدة.

و في كتاب الاحتجاج للطّبرسيّ - رحمه اللّه-: روى عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ قال: إنّ يهوديّا من يهود الشّام وأحبارهم قال لأمير المؤمنين- عليه السّلام-: فإنّ هذا إبراهيم قد أضجع ولده، وتلّه للجبين.

فقال له عليّ- عليه السّلام-: لقد كان كذلك. ولقد أعطي إبراهيم بعد الإضجاع  الفداء. ومحمّد- صلّى اللّه عليه وآله- أصيب بأفجع منه فجيعة. أنّه وقف- عليه السّلام- على حمزة عمّه أسد اللّه وأسد رسوله وناصر دينه، وقد فرّق بين روحه وجسده. فلم يبن عليه حرقة، ولم يفض عليه عبرة. ولم ينظر إلى موضعه من قلبه وقلوب أهل بيته، ليرضي اللّه- عزّ وجلّ- بصبره، ويستسلم لأمره في جميع الفعال. وقال- عليه السّلام-: لو لا أن تحزن صفيّة، لتركته حتّى يحشر من بطون السّباع وحواصل الطّيور . ولو لا أن يكون سنّة بعدي، لفعلت ذلك.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، متّصلا بآخر ما نقلنا عنه قريبا- أعني قوله- صلّى اللّه عليه عند الجمرة الوسطى- قال: ونزل الكبش على الجبل الّذي عن يمين مسجد منى.

نزل من السّماء، وكان يأكل في سواد، ويمشي في سواد أقرن. قلت: ما كان لونه؟ قال:

كان أملح أغبر.

و في مجمع البيان : عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: سألته عن كبش إبراهيم، ما كان لونه. قال: أملح أقرن. ونزل منه السّماء على الجبل الأيمن من  مسجد منى بجبال الجمرة الوسطى. وكان يمشي في سواد، ويأكل في سواد، وينظر في سواد، ويبعر في سواد، ويبول في سواد.

و في عيون الأخبار : حدّثنا عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس النّيسابوريّ العطّار بنيسابور، في شعبان سنة اثنين وخمسين وثلاثمائة، قال: حدّثنا محمّد بن عليّ بن  قتيبة النّيسابوري، عن الفضل بن شاذان قال: سمعت الرّضا- عليه السّلام- يقول: لمّا أمر اللّه- تعالى- إبراهيم أن يذبح  مكان ابنه إسماعيل الكبش الّذي أنزله عليه، تمنّى إبراهيم- عليه السّلام- أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده، وأنّه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الّذي يذبح أعزّ ولده بيده، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثّواب على المصائب.

فأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إليه: يا إبراهيم، من أحبّ خلقي إليك؟ قال: يا ربّ ما خلقت خلقا هو أحبّ إليّ من حبيبك محمّد- صلّى اللّه عليه وآله؟

فأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إليه: يا إبراهيم، أ فهو أحبّ إليك أو نفسك ؟ [قال: بل هو أحبّ إليّ من نفسي.

قال: فولده أحبّ إليك أو ولدك؟]  قال: بل ولده.

قال: فذبح ولده ظلما على أيدي  أعدائه أوجع لقلبك، أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال: يا ربّ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.قال: يا إبراهيم، إنّ طائفة تزعم أنّها من أمّة محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- ستقتل الحسين- عليه السّلام- ابنه من بعده، ظلما وعدوانا، كما يذبح الكبش. ويستوجبون بذلك سخطي.

فجزع إبراهيم لذلك، وتوجع قلبه، وأقبل يبكي. فأوحى اللّه تعالى إليه: يا إبراهيم، قد قبلت  جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك، بجزعك على الحسين- عليه السّلام- وقتله. وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثّواب على المصائب. وذلك قول اللّه- عزّ وجلّ-: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. [و لا حول ولا قوّة إلّا باللّه العلي العظيم‏] .

حدّثنا  أحمد بن الحسن  القطّان قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد الكوفيّ قال:

 

حدّثنا عليّ بن الحسن  بن عليّ بن فضّال، عن أبيه قال: سألت أبا الحسن عليّ بن موسى الرّضا- عليه السّلام- عن معنى قول النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: أنا ابن الذّبيحين.

قال: يعني إسماعيل بن إبراهيم الخليل- عليه السّلام- وعبد اللّه بن عبد المطلّب.

أما إسماعيل، فهو الغلام الحليم الّذي بشّر اللّه- تعالى- به إبراهيم. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ وهو لمّا عمل مثل عمله، قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى؟؟ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ  ولم يقل: يا أبت افعل ما رأيت، ستجدني إن شاء اللّه من الصّابرين.

فلمّا عزم على ذبحه، فداه اللّه- تعالى- بذبح عظيم، بكبش أملح يأكل كفي سواد، ويشرب في سواد، وينظر في سواد، ويمشي في سواد، ويبول  [في سواد] ، ويبعر في سواد. وكان يرتع قبل ذلك في رياض الجنّة أربعين عاما. وما خرج من رحم أنثى. وإنّما قال اللّه- تعالى- له: كن، فكان، ليفتدي  به إسماعيل. فكلّ ما يذبح في منى، فهو فدية لإسماعيل إلى يوم القيامة. فهذا أحد الذّبيحين- إلى قوله- عليه السّلام-:

و العلّة الّتي من أجلها دفع اللّه الذّبح عن إسماعيل، هي العلّة الّتي من أجلها دفع‏اللّه الذّبح عن عبد اللّه. وهي كون النّبيّ والأئمّة- عليهم السّلام- في صلبيهما . فببركة النّبيّ والأئمّة- صلوات اللّه عليهم- دفع اللّه الذّبح عنهما، فلم تجر السّنّة في النّاس بقتل أولادهم. ولو لا ذلك، لوجب على النّاس كلّ أضحى التّقرب إلى اللّه- تعالى- ذكره- بقتل أولادهم. وكلّما يتقرّب به النّاس إلى اللّه- عزّ وجلّ- من أضحيّة، فهو فداء لإسماعيل إلى يوم القيامة.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

و في كتاب الخصال ، عن الحسن بن عليّ قال، كان عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- بالكوفة في الجامع، إذ قام إليه رجل من أهل الشّام، فسأله عن مسائل.

فكان فيما سأله: أخبرني عن ستّة لم يركضوا في رحم. فقال: آدم، وحوّاء، وكبش إسماعيل  (الحديث).

و في الكافي : عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن بعض أصحابه- أظنّه محمّد بن إسماعيل- قال: قال أبو الحسن الرّضا- عليه السّلام-: لو خلق  اللّه- عزّ وجلّ- مضغة  هي أطيب  من الضّأن، لفدى بها إسماعيل.

 [محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد، عن محمّد بن خالد، عن سعد بن سعد، قال:

 

قال أبو الحسن- عليه السّلام-: لو علم اللّه شيئا أكرم من الضّأن، لفدى به إسماعيل.]

 

عدّة من أصحابنا ، عن جعفر بن إبراهيم [الحضرمي‏] ، عن سعد بن سعد قال: قال أبو الحسن- عليه السّلام-: لو علم اللّه- عزّ وجلّ- خيرا من الضّأن، لفدى به إسحاق.

و هذه الأحاديث الثلاث  طوال. أخذت منها موضع الحاجة.

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ  سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ  سبق بيانه في قصّة نوح- عليه السّلام.

كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ  إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ :لعلّه طرح عنه «إنّا» اكتفاء بذكره مرّة في هذه القصّة.

وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ :

قيل : مقضيّا نبوّته، مقدّرا كونه من الصّالحين. وبهذا الاعتبار وقعا حالين، ولا حاجة إلى وجود المبشّر به وقت البشارة. فإنّ وجود ذي الحال غير شرط، بل الشّرط مقارنة تعلّق الفعل به، لاعتبار المعنى بالحال. فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملا فيهما، مثل: وبشّرناه بوجود إسحاق، أي: بأن يوجد إسحاق نبيّا من الصّالحين. ومع ذلك لا يصير نظير قوله : فَادْخُلُوها خالِدِينَ. فإنّ الدّاخلين مقدّرون خلودهم وقت الدّخول، وإسحاق لم يكن مقدّرا نبوّة نفسه وصلاحهما حينما يوجد.

و من فسّر الغلام  بإسحاق، جعل المقصود من البشارة نبوّته.

و في ذكر الصّلاح بعد النّبوّة، تعظيم لشأنه، وإيماء بأنّه الغاية لتضمّنها معنى الكمال والتّكميل بالفعل على الإطلاق.

وَ بارَكْنا عَلَيْهِ: على إبراهيم في أولاده، وَعَلى إِسْحاقَ بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم، كأيّوب، وشعيب. أو: أفضنا عليهما بركات الدّين والدّنيا.

و قرئ : «و بركنا».

وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ في عمله. أو: على نفسه بالإيمان والطّاعة، وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر والمعاصي مُبِينٌ : ظاهر ظلمه.

و في ذلك تنبيه على أنّ النّسب لا أثر له في الهدى والضّلال، وأنّ الظّلم في أعقابهما، لا يعود عليهما بنقيصة وعيب.

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ : أنعمنا عليهما بالنّبوّة وغيرها من المنافع الدّينيّة والدّنيويّة.

وَ نَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ : من تعذيب فرعون، أو الغرق.

وَ نَصَرْناهُمْ:الضّمير لهما مع القوم.

فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ  على فرعون وقومه.

وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ : البليغ في بيانه. وهو التّوراة.

وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ : الموصل  إلى الحقّ والصّواب.

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما الثّناء الجميل. فِي الْآخِرِينَ ، بأن قلنا: سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ .

إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ  إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ  سبق مثل ذلك.

وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ :

قيل : هو إلياس بن ياسين، سبط هارون أخي موسى، بعث بعده.

و قيل : إدريس [لأنّه قرئ: «إدريس»] ، و«إدراس» مكانه وفي حرف أبيّ:

 «و إنّ إبليس ». وقرأ ابن ذكوان مع خلاف عنه، بحذف همزة «إلياس».

إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ  عذاب اللّه؟! أَ تَدْعُونَ بَعْلًا: أ تعبدونه؟! أو: أ تطلبون الخير منه؟! وهو اسم صنم كان لأهل بكّ بالشّام. وهو البلد الّذي يقال له الآن: بعلبك.

و قيل : البعل: الرّبّ، بلغة اليمن. والمعنى: أ تدعون بعض البعول.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : أَ تَدْعُونَ بَعْلًا قال: كان لهم صنم يسمّونه بعلا.

وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ : وتتركون عبادته؟! وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار المعنيّ بالهمزة. ثمّ صرّح به بقوله:

اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ .

و قرأ  حمزة والكسائيّ ويعقوب وحفص بالنّصب، على البدل من «أحسن الخالقين».فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، أي: في العذاب. وإنّما أطلقه، اكتفاء بالقرينة. أو لأنّ الإحضار المطلق مخصوص بالشّرّ عرفا.

إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ  مستثنى من الواو، لا من المحضرين، لفساد المعنى.

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ .

سَلامٌ عَلى إِلْ‏ياسِينَ : لغة في «إلياس»، كسيناء وسينين.

و قيل : جمع له، مراد به هو وأتباعه، كالمهلّبين. لكن فيه أنّ العلم إذا جمع، يجب تعريفه باللّام أو للمنسوب إليه، بحذف ياء النّسب، كالأعجمين، وهو قليل ملبس.

و قرأ  نافع وابن عامر ويعقوب على إضافة «آل» إلى «ياسين»، لأنّهما في المصحف مفصولان.

قيل : فيكون «ياسين» أبا إلياس.

و قيل : محمّد- صلّى اللّه عليه وآله- أو القرآن، أو غيره من كتب اللّه.

إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ  إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ .

و في عيون الأخبار ، في باب ذكر مجلس الرّضا- عليه السّلام- مع المأمون، في الفرق بين العترة والأمّة حديث طويل.

 

و في أثنائه قال المأمون: [فهل عندك‏]  في الآل شي‏ء أوضح من هذا في القرآن؟

قال أبو الحسن- عليه السّلام-: نعم أخبروني عن قول- عليه السّلام-- تعالى-: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فمن عنى بقوله: يس؟

قال العلماء: محمّد. لم يشكّ فيه أحد.

قال أبو الحسن- عليه السّلام-: فإنّ اللّه- عزّ وجلّ- أعطى محمّدا  وآل محمّد من ذلك فضلا لا يبلغ أحد كنه وصفه، إلّا من عقله. وذلك أنّ اللّه- عزّ وجلّ- لم يسلّم على أحد إلّا على الأنبياء- صلوات اللّه عليهم. فقال- تبارك وتعالى-:سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ. وقال: سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. وقال: سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ. ولم يقل: سلام على آل نوح. [و لم يقل: سلام على آل إبراهيم.]  ولم يقل : سلام على آل موسى وهارون. وقال: سلام على آل ياسين، يعني: آل محمّد.

فقال المأمون: قد علمت أنّ في معدن النّبوّة شرح هذا وبيانه.

و في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده إلى قادح، عن الصّادق- عليه السّلام- جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ- عليهم السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-:

سلام على آل ياسين قال: ياسين محمّد. ونحن آل يس.

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللّه- عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه: ولهذه الآية ظاهر وباطن. فالظّاهر قوله : صَلُّوا عَلَيْهِ. والباطن قوله: وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً، أي : سلّموا لمن وصّاه، واستخلفه، وفضّله عليكم ، وما عهد به إليه تسليما.

و هذا ممّا أخبرتك أنّه لا يعلم تأويله إلّا من لطف حسّه، وصفا ذهنه، وصحّ تمييزه.

و كذلك قوله: سلام على آل ياسين. لأنّ اللّه سمّي  النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- بهذا الاسم ، حيث قال: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، لعلمه بأنّهم يسقطون [قول اللّه:]  سلام على  آل محمّد، كما أسقطوا غيره.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه- : حدّثنا محمّد بن القاسم، عن  حسين  بن حكم، عن حسين بن نصر بن مزاحم، عن أبيه، عن أبان بن أبي  عيّاش، عن سليم  بن قيس، عن عليّ- عليه السّلام- قال: إنّ رسول اللّه- صلّى اللّه‏عليه وآله- اسمه «ياسين». ونحن الّذين قال اللّه- تعالى-: سلام على آل ياسين.

و قال أيضا: حدّثنا محمّد بن سهل العطّار، عن الخضر بن أبي فاطمة البلخيّ، عن وهب  بن نافع، عن كارخ  [بن جعفر] ، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ- عليهم السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: سلام على آل ياسين قال: ياسين محمّد- صلّى اللّه عليه وآله. ونحن آل ياسين .

و قال أيضا. حدّثنا محمّد بن سهل، عن إبراهيم بن معن ، عن إبراهيم بن آدم ، عن الأعمش، عن يحيى بن وثّاب، عن أبي عبد الرّحمن الأسلميّ، عن عمر بن الخطّاب، أنّه كان يقرأ: سلام على آل ياسين قال: على آل محمّد.

و قال أيضا: حدّثنا محمّد بن الحسين الخثعميّ، عن عبّاد بن يعقوب، عن موسى بن عثمان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس، في قوله- عزّ وجلّ-: سلام على آل ياسين قال: نحن هم، آل محمّد.

و قال أيضا: حدّثنا عليّ بن عبد اللّه بن أسيد ، عن إبراهيم بن محمّد الثّقفيّ، عن زريق بن مرزوق البجليّ، عن داود بن عليّة ، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، في قوله- عزّ وجلّ-: سلام على آل ياسين قال: أي: على آل محمّد. وإنّما ذكر اللّه- عزّ وجلّ- أهل الخير وأبناء الأنبياء وذراريهم وإخوانهم.

وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ  إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ  إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ  ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ‏

 :

سبق بيانه.

وَ إِنَّكُمْ‏

 يا أهل مكّة، لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ‏

: على منازلهم في متاجركم إلى الشّام- فإنّ سدوم في طريقه- مُصْبِحِينَ‏

 : داخلين في الصّباح، وَبِاللَّيْلِ‏

، أي: ومساء. أو: نهارا وليلا. ولعلّها وقعت قرب  منزل يمرّ بها المرتحل عنه‏صباحا والقاصد لها مساء.

أَ فَلا تَعْقِلُونَ‏

 : أ فليس فيكم عقل تعتبرون به؟!

و في روضة الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن خالد والحسين بن سعيد، جميعا  عن النّضر بن سويد، عن يحيى الحلبيّ، عن عبد اللّه بن مسكان، عن زيد بن الوليد الخثعميّ ، عن أبي الرّبيع الشّاميّ قال: سألت أبا عبد اللّه- عليه السّلام- إلى قوله:

فقلت: فقوله-: عزّ وجلّ-: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ.

قال: تمرّون عليهم في القرآن، إذا قرأتم القرآن تقرءون فيه ما قصّ اللّه عليكم من خبرهم.

وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ‏

 :

و قرئ  بكسر النّون.

إِذْ أَبَقَ‏

: هرب. وأصله: الهرب من السّيّد.

قيل : لمّا كان هربه من قومه بغير إذن ربّه، حسن إطلاقه عليه.

إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏

 : المملوء.

فَساهَمَ‏

: فقارع أهله.

فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ‏

 : فصار من المغلوبين بالقرعة. وأصله: المزلق عن مقام الظّفر.

نقل : أنّه لمّا وعد قومه بالعذاب، خرج من بينهم قبل أن يأمره اللّه به. فركب السّفينة، فوقفت. فقالوا: هاهنا عبد آبق. فاقترعوا، فخرجت القرعة عليه. فقال: أنا الآبق! ورمى بنفسه في الماء.

و في كتاب المناقب  لابن شهر آشوب: وفي حديث أبي حمزة الثّماليّ أنّه دخل عبد اللّه بن عمر على زين العابدين- عليه السّلام- وقال له: يا ابن الحسين، أنت الّذي‏تقول: إنّ يونس بن متّى، إنّما لقي من الحوت ما لقي، لأنّه عرضت عليه ولاية جدّي، فتوقّف عندها؟! قال: بلى، ثكلتك  أمّك! قال: فأرني آية ذلك، إن كنت من الصّادقين.

فأمر بشدّ عينيه بعصابة، وعينيّ بعصابة. ثمّ أمر بعد ساعة بفتح أعيننا. فإذا نحن على شاطئ البحر تضرب أمواجه.

فقال ابن عمر: يا سيّدي! دمي في رقبتك، اللّه [اللّه‏]  في نفسي! قال: هنيئة  وأريه إن كنت من الصّادقين. ثمّ قال: يا أيّتها الحوت! قال: فأطلع الحوت رأسه من البحر مثل الجبل العظيم، وهو يقول: لبّيك! لبّيك يا وليّ اللّه! فقال: من أنت؟ قال: [أنا]  حوت يونس يا سيّدي. قال: أنبئنا  بالخبر.

قال: سيّدي، إنّ اللّه- تعالى- لم يبعث نبيّا من آدم، إلى أن صار جدّك محمّد، إلّا وقد عرض عليه ولا يتكلم أهل البيت- عليهم السّلام. فمن قبلها من الأنبياء، سلم وتخلّص. ومن توقّف عنها، وتتعتع في حملها، لقي ما لقي آدم من المعصية  وما لقي نوح من الغرق، وما لقي إبراهيم من النّار، وما لقي يوسف من الجبّ، وما لقى أيّوب من البلاء، وما لقي داود من الخطيئة. إلى أن بعث اللّه يونس. فأوحى اللّه إليه أن يا يونس، تولّ  أمير المؤمنين عليّا والأئمّة الرّاشدين من صلبه في كلام له.

قال: فكيف أتولّى من لم أره، ولم أعرفه؟! وذهب مغتاظا.

فأوحى اللّه اللّه- تعالى- إليّ أن التقمي يونس، ولا توهني له عظما. فمكث في بطني أربعين صباحا يطوف معي البحار، في ظلمات ثلاث ، ينادي أنّه لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . قد قبلت ولاية عليّ بن أبي طالب والأئمّة الرّاشدين من ولده- عليهم السّلام. [فلمّا أن آمن بولايتكم، أمرني ربّي. فقذفته على ساحل البحر.]

 

فقال- عليه السّلام-: ارجع أيّها الحوت إلى وكرك. [فرجع الحوت،]  واستوى الماء.

و في بصائر الدّرجات : العبّاس بن معروف، عن سعدان  بن مسلم، عن صباح المزنيّ، عن الحارث بن حصيرة ، عن حبّة العرنيّ قال:

 

قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: إنّ اللّه عرض ولايتي على أهل السّموات، وعلى أهل الأرض. أقرّ بها من أقرّ. وأنكرها من أنكر . أنكرها يونس، فحبسه اللّه في بطن الحوت، [حتّى أقرّ بها] .

و في روضة الكافي ، في رسالة أبي جعفر- عليه السّلام- إلى سعد الخير يقول- عليه السّلام-: إنّ النّبيّ  من الأنبياء كان يستكمل الطّاعة. ثمّ يعصي اللّه- تبارك وتعالى- في الباب الواحد، فيخرج به من الجنّة، وينبذ به في بطن الحوت. ثمّ لا ينجيه إلّا الاعتراف والتّوبة.

و في تهذيب الأحكام : أبو عليّ الأشعريّ، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن صفوان بن يحيى، عن عبد اللّه بن مسكان، عن إسحاق المراديّ قال: سئل وأنا عنده- يعني: أبا عبد اللّه- عليه السّلام- عن مولود [ولد]  ليس بذكر ولا أنثى، ليس له إلّا دبر، كيف يورث.

قال: يجلس الإمام، ويجلس معه أناس. ويدعو اللّه، ويجيل السّهام على أيّ ميراث يورثه، ميراث الذّكر، أم ميراث الأنثى. فأيّ ذلك خرج، ورثه  عليه.

ثمّ قال: وأيّ قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها بالسّهام؟! إنّ اللّه- تعالى- يقول:

فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ.

عليّ بن الحسين ، عن أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن عبد اللّه بن مسكان‏

 قال: سئل أبو عبد اللّه- عليه السّلام- وأنا عنده- وذكر كحديث إسحاق السّابق سواء.

و في الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن فضّال والحجّال ، عن ثعلبة، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: سئل عن مولود ليس بذكر ولا أنثى، ليس له إلّا دبر، كيف يورث.

قال: يجلس الإمام ويجلس عنده ناس [من المسلمين‏] . فيدعو اللّه ، وتجال السّهام عليه، على أيّ ميراث يورثه أ ميراث الذّكر، أم الأنثى. فأيّ ذلك خرج عليه، ورثه.

ثمّ قال: وأيّ قضيّة أعدل من قضيّة تجال عليها السّهام؟! يقول اللّه- تعالى-:

فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ.

قال: وما من أمر يختلف فيه اثنان، إلّا وله أصل في كتاب اللّه، ولكن لا تبلغه عقول الرّجال.

في من لا يحضره الفقيه : وقال الصّادق- عليه السّلام-: ما تقارع قوم، ففوّضوا أمرهم إلى اللّه- عزّ وجلّ- إلّا خرج سهم المحقّ.

و قال: أيّ قضيّة أعدل من القرعة، إذا فوّض الأمر إلى اللّه؟! أليس اللّه- عزّ وجلّ- يقول: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ.

و في كتاب الخصال ، في سؤال بعض اليهود عليّا- عليه السّلام- عن الواحد إلى المائة. قال له اليهوديّ: فما نفس [في نفس‏]  ليس بينهما رحم ولا قرابة؟

قال: ذاك يونس في بطن الحوت.

قال له: فما قبر طاف بصاحبه؟

قال: يونس، حين طاف به الحوت في سبعة أبحر .

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ: فابتلعه. من اللّقمة.

و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من خبر

 الشّامّي وما سأل عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- في جامع الكوفة، حديث طويل.

و فيه: وسأله عن سجن سار بصاحبه. فقال: الحوت، سار بيونس بن متى- عليه السّلام.

و عن أبي جعفر- عليه السّلام-  قال: أوّل من سوهم عليه مريم ابنة عمران- إلى قوله- عليه السّلام-:

ثمّ استهموا في يونس، لمّا ركب مع القوم، فوقفت السّفينة في اللّجّة. واسنهموا، فوقع السّهم على يونس ثلاث مرّات.

قال: فمضى يونس إلى صدر السّفينة، فإذا الحوت فاتح فاه. فرمى بنفسه.

و في تفسير العيّاشيّ ، عن الثّماليّ ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ يونس- عليه السّلام- لمّا آذاه قومه- وذكر حديثا طويلا، وفيه: وخرج كما قال اللّه- تعالى- مُغاضِباً ، حتّى ركب سفينة فيها رجلان. فاضطربت السّفينة. فقال الملّاح: يا قوم، إنّ في سفينتي مطلوب. فقال يونس، أنا هو! وقام ليلقي نفسه. فأبصر السّمكة، وقد فتحت فاها. فهابها وتعلّق به الرّجلان وقالا له: أنت وحدك ، ونحن رجلان! فساهمهم. فوقعت السّهام عليه. فجرت السّنة بأن السّهام إذا كانت ثلاث مرّات أنّها لا تخطئ. فألقى نفسه، فالتقمه الحوت. فطاف به البحار السّبعة، حتّى صار  إلى البحر المسجور، وبه يعذّب قارون.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن جميل قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام-: ما ردّ اللّه العذاب إلّا عن قوم يونس- إلى أن قال- عليه السّلام-:

فغضب يونس، ومرّ على وجهه مغاضبا للّه - كما حكى اللّه- حتّى انتهى إلى ساحل البحر. فإذا سفينة قد شحنت، وأرادوا أن يدفعوها. فسألهم يونس أن يحملوه.

فحملوه. فلمّا توسّطوا البحر، بعث اللّه حوتا عظيما، فحبس عليهم السّفينة [من قدّامها] .فنظر إليه يونس، ففزع منه. فصار إلى مؤخّر السّفينة. فدار إليه الحوت، وفتح فاه. فخرج أهل السّفينة، فقالوا: فينا عاص. فتساهموا. فخرج سهم يونس. وهو قول اللّه- عزّ وجلّ-: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. فأخرجوه، فألقوه في البحر. فالتقمه، ومرّ به في الماء.

 

و قد سأل بعض اليهود أمير المؤمنين- عليه السّلام- عن سجن طاف أقطار الأرض بصاحبه. قال: [يا يهوديّ، أمّا السّجن الّذي طاف أقطار الأرض بصاحبه،]  فدخل في بحر القلزم. ثمّ خرج إلى بحر مصر. ثمّ دخل بحر طبرستان. ثمّ خرج في دجلة الغوراء.

قال: ثمّ مرّت به تحت الأرض، حتّى لحقت بقارون. وكان قارون هلك أيّام موسى، ووكّل اللّه به ملكا يدخله في الأرض كلّ يوم قامة رجل. وكان يونس في بطن الحوت يسبّح اللّه، ويستغفره.

و في آخر الحديث قال: ومكث يونس في بطن الحوت تسع ساعات.

وَ هُوَ مُلِيمٌ :

قيل : داخل في الملامة. أو: آت بما يلام عليه. أو: مليم نفسه.

و قرئ  بالفتح، مبنيّا من ليم، كمشيب في مشوب.

و في مجمع البيان : أي : مستحقّ للّوم، لوم العتاب، لا لوم العقاب، على خروجه من بين قومه، من غير أمر ربّه. وعندنا أنّ ذلك إنّما وقع منه تركا للأولى . وقد يلام الإنسان على ترك المندوب. ومن جوّز الصّغيرة على الأنبياء، قال: قد وقع ذلك صغيرة مكفّرة.

فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ : الذّاكرين اللّه كثيرا بالتّسبيح مدّة عمره، أو في بطن الحوت. وهو قوله: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.

و قيل : من المصلّين.

و قيل : من المسبّحين المنزّهين اللّه  عمّا لا يليق به.لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ  حيّا. وقيل : ميّتا.

و فيه حثّ على إكثار الذّكر، وتعظيم لشأنه. ومن أقبل عليه في السّرّاء، أخذ بيده عند الضّرّاء.

فَنَبَذْناهُ، بأن حملنا الحوت على لفظه بِالْعَراءِ: بالمكان الخالي عمّا يغطّيه من شجر أو بنت.

و اختلف في مدّة لبثه: فقيل  بعض يوم. وقيل : ثلاثة أيّام. وقيل : سبعة.

و قيل : عشرون وقيل : أربعون.

وَ هُوَ سَقِيمٌ  ممّا ناله.

قيل : صار بدنه كبدن الطّفل حين يولد.

وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ، أي: فوقه مظلّة عليه شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ : من شجر ينبسط على وجه الأرض، ولا يقوم على ساقه. يفعيل من: قطن بالمكان: إذا أقام به.

و الأكثر على أنّها كانت الدّباء. عظّته بأوراقها عن الذباب، فإنّه لا يقع عليه.

و يدلّ عليه أنّه‏

قيل لرسول اللّه - صلّى اللّه عليه وآله-: إنّك لتحبّ القرع! قال: هي شجرة أخي يونس.

و قيل : التّين.

و قيل : الموز، يتغطّى بورقه، ويستظلّ بأغصانه، ويفطر على ثماره.

و في مجمع البيان : وروى ابن مسعود قال: خرج يونس من بطن الحوت كهيئة فرخ ليس عليه ريش. فاستظلّ بالشّجرة من الشّمس.

وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ:

هم قومه الّذين هرب عنهم. وهم أهل نينوى. والمراد به ما سبق من إرساله، أو إرسال ثان إليهم، أو إلى غيرهم.

أَوْ يَزِيدُونَ  في مرأى النّاظر. أي إذا نظر إليهم قال: هم مائة ألف أو أكثر. والمراد الوصف بالكثرة.و قيل : إنّه على طريق الإبهام على المخاطبين.

و قيل : إنّ «أو» بمعنى الواو.

و قرئ  بالواو.

و في أصول الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن أبي يحيى الواسطيّ، عن هشام بن سالم ودرست بن أبي منصور قال: قال أبو عبد اللّه- عليه السّلام- الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات: فنبيّ منبّأ في نفسه، لا يعدو غيرها. ونبيّ يرى في النّوم، ويسمع الصّوت، ولا يعاينه في اليقظة، ولم يبعث إلى أحد، وعليه إمام، مثل ما كان إبراهيم على لوط. ونبيّ يرى في منامه، ويسمع الصّوت، ويعاين الملك، وقد أرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا، كيونس. قال اللّه ليونس: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ.

قال: يزيدون ثلاثين ألفا. وعليه إمام. والحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

و في مجمع البيان : قراءة جعفر بن محمّد الصّادق- عليه السّلام-: «و يزيدون» بالواو.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى محمّد بن مسلم الثّقفيّ الطّحّان قال: دخلت على أبي جعفر- عليه السّلام- وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمّد- صلّى اللّه عليهم أجمعين.

فقال مبتدئا: يا محمّد، إنّ في القائم من أهل بيت محمّد- صلوات اللّه عليهم- سنّة من خمسة من الرّسل: يونس بن متّي، ويوسف بن يعقوب، وموسى، وعيسى، ومحمّد- صلوات اللّه عليهم. فأمّا سنّة من يونس بن متّي، فرجوعه من غيبته، وهو شابّ بعد كبر السّنّ.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.

فَآمَنُوا: فصدّقوه. أو: فجدّدوا الإيمان به.

فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ : إلى أجلهم المسمّى.قيل : ولعلّه إنّما لم يختم قصّته وقصّة لوط، بما ختم به سائر القصص، تفرقة بينهما وبين أرباب الشّرائع الكبر وأولي  العزم من الرّسل. أو اكتفاء بالتّسليم الشّامل لكلّ الرّسل المذكورين في آخر السّورة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، عن عليّ- عليه السّلام- حديث طويل، يقول- عليه السّلام- في آخره: وامر اللّه  الحوت أن يلفظه . فلفظه على ساحل البحر، وقد ذهب جلده ولحمه . وأنبت اللّه عليه شجرة من يقطين- وهي الدّباء- فأظلّته من الشّمس . ثمّ أمر اللّه الشّجرة، فتنحّت عنه، ووقعت الشّمس عليه. فجزع. فأوحى اللّه إليه: يا يونس، لم لم ترحم مائة ألف أو يزيدون، وأنت تجزع من ألم  ساعة؟! فقال:

يا ربّ! عفوك! لا عفوك! فردّ اللّه عليه بدنه. ورجع إلى قومه، وآمنوا به.

و في رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: لبث يونس في بطن الحوت ثلاثة أيّام، ونادى في الظّلمات- ظلمة بطن الحوت، وظلمة اللّيل، وظلمة البحر- أن لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فاستجاب له ربّه.

فأخرجه الحوت إلى السّاحل. ثمّ قذفه، فألقاه بالسّاحل. فأنبت اللّه عليه شجرة من يقطين، وهو القرع. وكان يمصّه، ويستظلّ به وبورقه. وكان تساقط شعره ورقّ جلده.

و كان يونس يسبّح اللّه، ويذكر اللّه باللّيل والنّهار.

فلمّا أن قوي واشتدّ، بعث اللّه دودة، فأكلت أسفل القرع. فذبلت القرعة، ثمّ يبست. فشقّ ذلك على يونس، فظلّ حزينا. فأوحى اللّه إليه: مالك حزينا يا يونس؟

قال: يا ربّ، هذا الشّجرة [الّتي‏]  تنفعني سلّطت عليها دودة، فيبست. قال: يا يونس، أحزنت  لشجرة لم تزرعها، ولم تسقها، ولم تعي  بها [أن يبست‏]  حين استغنيت عنها، ولم تحزن لأهل نينوى أكثر من مائة ألف، أردت أن ينزل عليهم العذاب؟! إنّ أهل نينوى‏

قد آمنوا واتّقوا، فارجع إليهم.

فانطلق يونس إلى قومه. فلمّا دنا يونس من نينوى، استحيى أن يدخل. فقال لراع لقيه: ائت أهل نينوى، فقل لهم: إنّ هذا يونس [قد جاء] . قال له الراعي: أ تكذب؟! أما  تستحيي، ويونس قد غرق في البحر وذهب؟! قال له يونس: اللّهمّ إنّ هذه الشّاة تشهد لك أنّي يونس. فأنطقت  الشّاة له بأنّه يونس.

فلمّا أتي الرّاعي قومه، وأخبرهم ، أخذوه، وهمّوا بضربه. فقال: إنّ لي بيّنة بما أقول. قالوا: من يشهد؟ قال: هذه الشّاة تشهد. فشدت بأنّه صادق، وأنّ يونس قد ردّه اللّه إليهم. فخرجوا يطلبونه. فوجدوه. فجاءوا به وآمنوا، وحسن إيمانهم. فمتّعهم اللّه إلى حين- وهو الموت- وأجارهم من العذاب.

و في تفسير العيّاشيّ : عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي جعفر- عليه السّلام- [قال:

 

سمعته يقول: وجدنا في بعض‏]  كتب أمير المؤمنين- عليه السّلام- قال: حدّثني رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله- أنّ جبرئيل حدّثه:

انّ يونس بن متّى بعثه اللّه إلى قومه وهو ابن ثلاثين سنة. وكان رجلا تعتريه الحدّة. وكان قليل الصّبر على قومه والمداراة لهم، عاجزا عمّا حمل من ثقل حمل أوقار النّبوّة وأعلامها. وأنّه تفسّخ تحتها كما يتفسّخ  الجمل  تحت حمله. وأنّه أقام فيهم يدعوهم إلى الإيمان باللّه والتّصديق به واتّباعه، ثلاثا وثلاثين سنة. فلم يؤمن به، ولم يتّبعه من قومه إلّا رجلان، اسم أحدهما روبيل، واسم الآخر تنوخا- إلى قوله:

فقال يونس: يا ربّ، إنّما غضبت عليهم فيك، وإنّما دعوت عليهم حين عصوك فوعزّتك  أن لا أتعطّف عليهم برأفة أبدا ولا أنظر  إليهم بنصيحة شفيق بعد كفرهم وتكذيبهم إيّاي، وجحدهم نبوّتي. فأنزل عليهم عذابك، فإنّهم لا يؤمنون أبدا.

فقال اللّه: يا يونس، إنّهم مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ من خلقي. يعمرون بلادي،و يلدون عبادي، ومحبّتي أن أتأنّاهم للّذي سبق من علمي فيهم وفيك. وتقديري وتدبيري، غير علمك وتقديرك. وتقديرك. وأنت المرسل، وأنا الرّب الحكيم. وعلمي فيهم- يا يونس!- باطن في الغيب عندي، لا تعلم  ما منتهاه. وعلمك فيهم، ظاهر لا باطن له. يا يونس قد أجبتك إلى ما سألت من إنزال العذاب عليهم.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة. وهو بتمامه مذكور في سورة يونس.

و في آخره قال أبو عبيدة:

قلت لأبي جعفر- عليه السّلام-: كم غاب يونس عن قومه حتّى رجع إليهم بالنّبوّة والرّسالة، فآمنوا به وصدّقوه؟

قال: أربعة أسابيع: سبعا منها في ذهابه إلى البحر، [و سبعا في بطن الحوت، وسبعا تحت الشجرة بالعراء،]  وسبعا منها في رجوعه إلى قومه.

فقلت له: وما هذه الأسابيع؟ شهور، أو أيّام، أو ساعات؟

فقال: يا أبا عبيدة، إنّ العذاب أتاهم يوم الأربعاء في النّصف من شوّال. وصرف عنهم من يومهم ذلك. فانطلق يونس مغاضبا. فمضى يوم الخميس سبعة أيّام في مسيره إلى البحر، وسبعة أيّام في بطن الحوت، وسبعة أيّام تحت الشّجرة بالعراء، وسبعة أيّام في رجوعه إلى قومه. فكان ذهابه ورجوعه [مسير]  ثمانية وعشرين  يوما. ثمّ أتاهم، فآمنوا به وصدّقوه واتّبعوه. فلذلك قال اللّه: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ .

و عن معمّر  قال: أبو الحسن الرّضا- عليه السّلام-: إنّ يونس لمّا أمره اللّه بما أمره، فأعلم قومه، فأظلّهم العذاب، ففرّقوا بينهم وبين أولادهم، وبين البهائم وأولادهم.

ثمّ عجّوا إلى اللّه، وضجّوا. فكفّ اللّه العذاب عنهم. فذهب يونس- عليه السّلام- مغاضبا. فالتقمه الحوت. فطاف به سبعة في البحر .فقلت له: كم بقي في بطن الحوت؟

قال: ثلاثة أيّام. ثمّ لفظه الحوت، وقد ذهب جلده وشعره. فأنبت اللّه عليه شجرة من يقطين، فأظلّته. فلمّا قوي، أخذت في اليبس. فقال: يا ربّ شجرة أظلّتني، فيبست! فأوحى اللّه إليه: يا يونس، تجزع على شجرة أظلّتك، ولا تجزع إلى مائة ألف أو يزيدون من العذاب؟!

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ :

معطوف على مثله في أوّل السّورة. أمر رسوله أوّلا باستفتاء فريش عن وجه إنكارهم البعث، وساق الكلام في تقريره، جاريا لما يلائمه من القصص، موصولا بعضها ببعض. ثمّ أمر باستفتائهم  عن وجه القسمة حيث جعلوا للّه البنات، ولأنفسهم البنين، في قولهم:

الملائكة بنات اللّه. وهؤلاء زادوا على الشّرك ضلالات أخر: التّجسيم، وتجويز البنات على اللّه تعالى، فإنّ الولادة مخصوصة بالأجسام الكائنة الفاسدة، وتفضيل أنفسهم عليه، حيث جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم، واستهانتهم بالملائكة، حيث أنّثوهم. ولذلك كرّر اللّه- تعالى- إنكار  ذلك وإبطاله في كتابه مرارا، وجعله ممّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ قال: قالت قريش: إنّ الملائكة بنات اللّه. فردّ اللّه عليهم: فَاسْتَفْتِهِمْ (الآية).

أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ :

و إنّما خصّ علم المشاهدة، لأنّ أمثال ذلك لا تعلم إلّا به- فإنّ الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم، ليمكن معرفته بالعقل الصّرف- مع ما فيه من الاستهزاء والإشعار بانّهم لفرط جهلهم يبتّون به كأنّهم قد شاهدوا خلقهم.

أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ  وَلَدَ اللَّهُ، لعدم ما يقتضيه، وقيام ما ينفيه . وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ  فيما يتديّنون به.

و قرئ : «ولد اللّه»، أي: الملائكة ولده، فعل بمعنى مفعول، يستوي فيه الواحد

و الجمع والمذكّر والمؤنّث.

أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ :

استفهام للإنكار [و الاستبعاد] . والاصطفاء أخذ صفوة الشّي‏ء.

و عن نافع  كسر الهمزة، على حذف حرف الاستفهام- لدلالة «أم» بعدها عليها- أو على الإثبات بإضمار القول، أي: لكاذبون في قولهم: اصطفى، أو إبداله من وَلَدَ اللَّهُ.

ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ  بما لا يرتضيه عقل.

أَ فَلا تَذَكَّرُونَ  أنّه منزّه عن ذلك؟! أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ : حجّة واضحة نزلت عليكم من السّماء بأنّ الملائكة بنات اللّه.

فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ‏

 الّذي أنزل عليكم، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ‏

  في دعواكم.

وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً:

قيل : يعني ب «الجنّة» الملائكة. وسمّاهم جنّة، لاستتارهم عن العيون.

و قيل : قالوا: إنّ اللّه صاهر الجنّ، فخرجت الملائكة.

و قيل : قالوا: اللّه والشّيطان أخوان.

وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ: إنّ الكفرة، أو الإنس، أو الجنّة- إن فسّرت بغير الملائكة- لَمُحْضَرُونَ  في العذاب.

سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ  من الولد والنّسب.

إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ :

استثناء من المحضرين منقطع، أو متّصل، إن فسّر الضّمير بما يعمّهم- وما بينهما اعتراض- أو من «يصفون».

فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ - عود إلى خطابهم- ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ على‏اللّه بِفاتِنِينَ : مفسدين النّاس بالإغواء، إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ : إلّا من سبق في علمه أنّه من أهل النّار ويصلاها لا محالة.

و «أنتم» ضمير لهم ولآلهتهم، غلّب فيه المخاطب على الغائب. ويجوز أن يكون وَما تَعْبُدُونَ لما فيه من معنى المقارنة سادّا مسدّ الخبر. أي: إنّكم وآلهتكم قرناء لا تزالون تعبدونها ما أنتم على ما تعبدونه بفاتنين- بباعثين على طريق الفتنة- إلّا ضالّا مستوجبا لها  مثلكم.

و قرئ : «صال» بالضّمّ، على أنّه جمع محمول على معنى من ساقط واوه لالتقاء السّاكنين، أو تخفيف صائل على القلب- كشاك في شائك- أو المحذوف منه، كالمنسيّ، كما في قولهم: ما باليت به بالة. فإنّ أصلها بالية، كعافية.

وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ :

حكاية اعتراف الملائكة بالعبوديّة، للرّدّ على عبدتهم. والمعنى: وما منّا أحد إلّا له مقام معلوم في المعرفة والعبادة والانتهاء [إلى أمر اللّه‏]  في تدبير العالم.

و يحتمل أن يكون هذا وما قبله وقوله: سُبْحانَ اللَّهِ من كلامهم، ليتّصل بقوله:

وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ. كأنّه قال: وقد علمت  الملائكة أنّ المشركين معذّبون بذلك، وقالوا: سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها له عنه. ثمّ استثنوا  المخلصين تبرئة  لهم منه. ثمّ خاطبوا الكفرة بأنّ الافتتان بذلك للشّقاوة المقدّرة. ثمّ اعترفوا بالعبوديّة وتفاوت مراتبهم فيها لا يتجاوزونها. فحذف الموصوف، وأقيمت الصّفة مقامه.

وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ : في أداء الطّاعة ومنازل الخدمة.

وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ : 1 المنزّهون اللّه عمّا لا يليق به.

و لعلّ الأوّل إشارة إلى درجاتهم في الطّاعة، وهذا في المعارف. وما «إنّ» واللّام وتوسيط  الفصل من التّأكيد والاختصاص، لأنّهم المواظبون على ذلك دائما من غير فترة دون غيرهم.و قيل : هو من كلام النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- والمؤمنين. والمعنى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ في الجنّة، أو بين يدي اللّه في القيامة. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ له في الصّلاة، والمنزّهون له عن السّوء.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا محمّد بن أحمد بن مارية قال: حدّثني محمّد بن سليمان  قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن الشّيبانيّ قال: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه التّفليسي، عن الحسن بن محبوب، عن صالح بن رزين، عن شهاب بن عبد ربّه قال: سمعت الصّادق- عليه السّلام- يقول: يا شهاب، نحن شجرة النّبوّة، ومعدن الرّسالة، ومختلف الملائكة. ونحن عهد اللّه وذمّته. ونحن ودائع  اللّه وحجّته. كنّا أنوارا صفوفا حول العرش، نسبّح فيسبّح  أهل السّماء بتسبيحنا، [إلى أن هبطنا إلى الأرض. فسبّحنا، فسبّح أهل الأرض بتسبيحنا.]

 

وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ. فمن وفي بذمتنا، فقد وفي بعهد اللّه- عزّ وجلّ- وذمته. ومن خفر  ذمّتنا، فقد خفر ذمّة اللّه- عزّ وجلّ- وعهده.

و في نهج البلاغة ، قال- عليه السّلام- في وصف الملائكة: و«صافّون» لا يتزائلون. و«مسبّحون» لا يسألون.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللّه-: حدّثنا عبد العزيز بن يحيى، عن أحمد بن [محمد، عن‏]  عمر بن يونس الحنفيّ اليمانيّ ، عن داود بن سليمان، المروزيّ، عن الرّبيع بن عبد اللّه الهاشميّ، عن أشياخ من آل [عليّ بن‏]  أبي طالب- عليه السّلام- قالوا: قال عليّ- عليه السّلام- في بعض خطبه: انّا- آل محمّد- كنّا أنوارا حول العرش. فأمرنا اللّه بالتّسبيح. فسبّحنا. [فسبّحت‏الملائكة بتسبيحنا. ثمّ أهبطنا إلى الأرض. فأمرنا اللّه بالتّسبيح. فسبّحنا.]  فسبّحت أهل الأرض بتسبيحنا. [وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ‏]  وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ.

و من ذلك ما روي مرفوعا إلى محمّد بن زياد قال: سأل ابن مهران عبد اللّه بن العبّاس- رحمه اللّه- عن تفسير قوله- تعالى-: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ. فقال ابن عبّاس:

إنّا كنّا عند رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله. فأقبل عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام. فلمّا رآه النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- تبسّم في وجهه، وقال: مرحبا بمن خلقه اللّه قبل آدم بأربعين ألف عام.

فقلت: يا رسول اللّه، أ كان الأبن قبل الأب؟! قال: نعم. إنّ اللّه خلقني، وخلق عليّا، قبل أن يخلق آدم بهذه المدّة. خلق نورا، فقسّمه نصفين. فخلقني من نصفه، وخلق عليّا من النّصف الآخر، قبل الأشياء كلّها. ثمّ خلق الأشياء، فكانت مظلمة. فنورها من نوري ونور عليّ. ثمّ جعلنا عن يمين العرش. ثمّ خلق الملائكة. فسبّحنا. فسبّحت الملائكة. وهلّلنا. فهلّلت الملائكة. وكبّرنا. فكبّرت الملائكة. فكان ذلك من تعليمي وتعليم عليّ. وكان ذلك في علم اللّه  السّابق أن لا يدخل النّار محبّ لي ولعليّ- عليه السّلام- ولا يدخل الجنّة مبغض لي ولعليّ.

ألا وإنّ اللّه- عزّ وجلّ- خلق ملائكة بأيديهم أباريق اللّجن  مملوءة من ماء الحياة من الفردوس. فما أحد  من شيعة عليّ- عليه السّلام- إلّا وهو طاهر الوالدين، تقيّ نقيّ مؤمن باللّه. فإذا أراد أبو أحدهم  أن يواقع أهله، جاء ملك من الملائكة الّذين بأيديهم أباريق ماء الجنّة، فيطرح من ذلك [الماء]  في آنيته الّتي يشرب منها، فيشرب به.

فبذلك الماء ينبت  الإيمان في قلبه، كما ينبت الزّرع. فهم عليّ بيّنة من ربّهم، ومن نبيّهم، ومن وصيّه عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام- ومن ابنتي الزّهراء، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ الأئمّة من ولد الحسين.فقلت: يا رسول اللّه، ومن هم الأئمّة؟

قال: أحد عشر منّي. وأبوهم عليّ بن أبي طالب- عليه السّلام.

ثمّ قال النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله-: الحمد للّه الّذي جعل محبّة عليّ والإيمان سببين. [يعني: سببا لدخول الجنّة، وسببا للنّجاة  من النّار.]

 

وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ ، أي: مشركو قريش:

لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ : كتابا من الكتب الّتي نزلت عليهم، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ : لأخلصنا العبادة له، ولم نخالف مثلهم.

فَكَفَرُوا بِهِ، أي: لمّا جاءهم الذّكر الّذي هو أشرف الأذكار والمهيمن عليها.

فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ  عاقبة كفرهم.

وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، أي: وعدنا لهم بالنّصرة والغلبة. وهو قوله:

إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ  إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ‏

 .

و هو باعتبار الغالب والمقتضي بالذّات. وإنّما سمّاه كلمة- وهي كلمات- لانتظامها في معنى واحد.

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ: فأعرض عنهم، حَتَّى حِينٍ . وهو الموعد لنصرك عليهم.

قيل : وهو يوم بدر.

و قيل : يوم الفتح.

وَ أَبْصِرْهُمْ على ما ينالهم حينئذ.

و المراد بالأمر الدّلالة على أنّ ذلك كائن قريب، كأنّه قدّامه.

فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ  ما قضينا لك من التّأييد والنّصرة والثّواب في الآخرة.

و «سوف» للوعيد لا للتّبعيد.

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ :

نقل : أنّه لمّا نزل «فسوف يبصرون» قالوا: متى هذا؟ فنزل.فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ: فإذا نزل العذاب بفنائهم.

شبّهه بجيش هجمهم، فأناخ بفنائهم بغتة .

و قرئ : «نزل» على إسناده إلى الجارّ والمجرور.

فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ : فبئس صباح المنذرين صباحهم.

و اللّام للجنس. والصّباح مستعار من: صباح الجيش المبيّت، لوقت نزول العذاب.

و لمّا كثر فيهم الهجوم والغارة في الصّباح، سمّوا الغارة صباحا، وإن وقعت في وقت آخر.

وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ  وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ :

تأكيد إلى تأكيد، وإطلاق بعد تقييد، للإشعار بأنّه يبصر وأنّهم يبصرون مالا يحيط به الذّكر، من أصناف المسرّة وأنواع المساءة. أو الأوّل لعذاب الدّنيا، والثّاني لعذاب الآخرة.

سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ :

عمّا قاله المشركون فيه، على ما حكي في السّورة. وإضافة الرّبّ إلى «العزّة» لاختصاصها به، إذ لا عزّة إلّا له، أو لمن أعزّه. وقد أدرج فيه جملة صفاته السّلبيّة والثّبوتيّة، مع الإشعار بالتّوحيد.

و في كتاب التّوحيد ، بإسناده إلى جابر الجعفيّ قال: جاء رجل من علماء أهل الشّام إلى أبي جعفر- عليه السّلام- فقال: جئت أسألك عن مسألة لم أجد أحدا يفسّرها لي. وقد سألت ثلاثة أصناف من النّاس، فقال كلّ صنف غير ما قال الآخر.

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: وما ذلك؟

فقال: أسألك ما أوّل ما خلق اللّه- عزّ وجلّ- من خلقه؟

فإنّ بعض من سألته، قال: القدرة. وقال بعضهم: العلم. وقال بعضهم: الرّوح.

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: ما قالوا شيئا. أخبرك أنّ اللّه- علا ذكره- كان ولا شي‏ء غيره. وكان عزيزا، ولا عزّ، لأنّه كان قبل عزّه. وذلك قوله- سبحانه- سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وكان خالقا، ولا مخلوق.

و الحديث طويل. أخذت منه موضع الحاجة.و في روضة الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين، عن محمّد بن داود، عن محمّد بن عطيّة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- أنّه قال لرجل من أهل الشّام: إنّ اللّه- تبارك وتعالى- كان ولا شي‏ء غيره. وكان عزيزا، ولا أحد كان، قبل عزّه. وذلك قوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وكان الخالق قبل المخلوق.

و لو كان أوّل ما خلق من خلقه الشّي‏ء من الشّي‏ء، [إذا]  لمن يكن له انقطاع أبدا. ولم يزل اللّه إذا ومعه شي‏ء ليس هو يتقدّمه . ولكنّه كان إذ لا شي‏ء غيره.

وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ :

تعميم للرّسل بالتّسليم، بعد تخصيص بعضهم.

وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ  على ما أفاض عليهم، وعلى من اتّبعهم من النّعم وحسن العاقبة. ولذلك أخّره عن التّسليم. والمراد تعليم المؤمنين كيف يحمدونه ويسلّمون على رسله.

و في أصول الكافي ، بإسناده قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى، فليقل إذا أراد أن يقوم من مجلسه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

و في من لا يحضره الفقيه : وقال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى، فليكن آخر قوله: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. فإنّ له من كلّ مسلم حسنة.

و في مجمع البيان : وروى الأصبغ بن نباتة، عن عليّ- عليه السّلام- وروي أيضا مرفوعا إلى النّبيّ- صلّى اللّه عليه وآله- قال: من أراد أن يكتال بالميكال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه في مجلسه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.

و في قرب الإسناد  للحميريّ بإسناده إلى أبي عبد اللّه- عليه السّلام- قال: قال‏

 أمير المؤمنين- عليه السّلام-: من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى، فليقل بعد كلّ صلاة:

سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.