سورة سبأ

سورة سبأ مكّيّة. وقيل : إلّا وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أربع أو خمس وخمسون آية. 

بسم الله الرحمن الرحيم‏ 

في كتاب ثواب الأعمال ، بإسناده إلى ابن اذينة، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: من قرأ  الحمدين جميعا، حمد سبأ وحمد فاطر  في ليلة، لم يزل في ليله  في حفظ اللَّه وكلاءته. فإن قرأهما في نهاره، لم يصبه في نهاره مكروه، وأعطي من خير الدّنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه.

و في مجمع البيان : أبي بن كعب، عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- قال: من قرأ سورة سبأ، لم يبق نبيّ ولا رسول إلّا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: خلقا ونعمة. فله الحمد في الدّنيا، لكمال قدرته وعلى تمام نعمته.

وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ: لأنّ ما في الآخرة- أيضا- كذلك. وليس هذا من عطف المقيّد على المطلق، فإنّ الوصف يدلّ على أنّه المنعم بالنّعم الدّنيويّة، فقيّد الحمد بها.

و تقديم الصّلة للاختصاص، فإنّ النّعم الدّنيويّة قد تكون بواسطة من يستحقّ الحمد لأجلها،و لا كذلك نعم الآخرة.

وَ هُوَ الْحَكِيمُ: الّذي أحكم أمور الدّارين.

الْخَبِيرُ : ببواطن الأشياء.

يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ: كالغيث، ينفذ في موضع [و يخرج من موضع‏]  آخر.

و كالكنوز والدّفائن والأموات.

وَ ما يَخْرُجُ مِنْها: كالحيوان والنّبات والفلزّات وماء العيون.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم- رحمه اللَّه -: وقوله- عزّ وجلّ-: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ قال: ما يدخل فيها. وَما يَخْرُجُ مِنْها قال: من النّبات.

وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، كالملائكة والكتب والمقادير والأرزاق والأنداء والصّواعق.

وَ ما يَعْرُجُ فِيها، كالملائكة وأعمال العباد والأبخرة والأدخنة.

وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ : للمفرّطين في شكر نعمة مع كثرتها. أو في الآخرة مع ما له من سوابق هذه النّعم الفائتة للحصر.

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: منكروا البعث.

لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ: إنكار لمجيئها. أو استبطاء، استهزاء  بالوعد به.

قُلْ بَلى وَرَبِّي: ردّ لكلامهم، وإثبات لما نفوه.

لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ: تكرير لإيجابه، مؤكّدا بالقسم، مقرّرا لوصف المقسم به بصفات تقرّر إمكانه وتنفي استبعاده- على ما مرّ غير مرّة.

و قرأ حمزة والكسائيّ: «علّام الغيب» للمبالغة. ونافع وابن عامر ورويس: «عالم الغيب» بالرّفع. على أنّه خبر [مبتدأ]  محذوف. أو مبتدأ، خبره لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ .

و قرأ الكسائيّ: «لا يعزب» بالكسر  ..

وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ : جملة مؤكّدة لنفي‏العزوب، رفعهما ، بالابتداء. ويؤيّده القراءة، بالفتح، على نفي الجنس .

و لا يجوز عطف المرفوع على «مثقال» والمفتوح على «ذرّة» بأنّه فتح في موضع الجرّ، لامتناع الصّرف. لأنّ الاستثناء يمنعه، اللّهمّ، إلّا إذا جعل الضّمير في «عنه» للغيب، وجعل المثبت في اللّوح خارجا عنه لظهوره على المطالعين . فيكون المعنى: لا ينفصل عن الغيب شي‏ء إلّا مسطورا في اللّوح.

و في أصول الكافي : عنه، عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينه، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قوله :

ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ فقال: هو واحد، واحديّ الذّات، بائن من خلقه وبذلك وصف نفسه. وهو بكلّ شي‏ء محيط، بالإشراف والإحاطة والقدرة لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ بالإحاطة والعلم بالذّات. لأنّ الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة. فإذا كان بالذّات، لزمها الحواية.

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ: علّة لقوله: لَتَأْتِيَنَّكُمْ، وبيان لما يقتضي إتيانها.

أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ : لا تعب فيه، ولا من عليه.

وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا: بالإبطال، وتزهيد النّاس فيها.

مُعاجِزِينَ: مقدرين إعجاز ربّهم، وظانّين أنّهم يفوتونه.

و قيل : مُعاجِزِينَ مسابقين كي يفوتونا.

و قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «معجزين»، أي: مثبّطين عن الإيمان من أراده .

أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ: من سيّ‏ء العذاب.

أَلِيمٌ  : مؤلم. ورفعه ابن كثير ويعقوب وحفص .وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: يعلم أولوا العلم من الصّحابة، ومن شايعهم من الأمّة. أو من مسلمي أهل الكتاب. أو كلّ من أوتي العلم بالدّين.

الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ: القرآن.

هُوَ الْحَقَّ: ومن رفع «الحقّ» جعل «هو» ضميرا مبتدأ، و«الحقّ» خبره.

و الجملة ثاني مفعولي «يرى». وهو مرفوع مستأنف للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة السّاعين في الآيات.

و قيل : منصوب معطوف على «ليجري»، أي: ليعلم أولو العلم عند مجي‏ء السّاعة أنّه الحقّ عيانا، كما علموه الآن برهانا.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: أوّل ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب. فكتب ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة.

و قوله- عزّ وجلّ-: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ فقال: هو أمير المؤمنين- عليه السّلام-.

وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ : الّذي هو التّوحيد، والتّدرّع بلباس التّقوى.

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: قال بعضهم لبعض: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ:، يعنون:

محمّدا- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-.

يُنَبِّئُكُمْ: يحدّثكم بأعجب الأعاجيب.

إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ : إنكم تنشؤون خلقا جديدا، بعد أن تمزّق أجسادكم كلّ تمزيق وتفريق، بحيث تصير ترابا.

و تقديم الظّرف، للدّلالة على البعد والمبالغة فيه. وعامله محذوف دلّ عليه ما بعده، فإنّ ما قبله لم يقارنه وما بعده مضاف إليه. أو محجوب بينه وبينه «بأن».

و «ممزّق» يحتمل أن يكون مكانا، بمعنى: إذا مزّقتم وذهبت بكم السّبول كلّ مذهب وطرحتكم كلّ مطرح.

و «جديد» بمعنى فاعل. من جدّ، فهو جديد، كحدّ، فهو جديد.

و قيل : بمعنى: مفعول. من جدّ النّسّاج [الثّوب:]  إذا قطعه.

أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ: جنون يوهمه ذلك ويلقى على لسانه.

و استدلّ بجعلهم إيّاه قسيم الافتراء غير معتقدين صدقه، على أنّ بين الصّدق والكذب واسطة، وهي كلّ خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه وضعفه بيّن. لأنّ الافتراء أخصّ من الكذب.

بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ : ردّ من اللَّه عليهم ترديدهم، وإثبات لهم  ما هو أفظع من القسمين، وهو الضّلال البعيد عن الصّواب بحيث لا يرجى الخلاص منه وما هو مؤدّاه من العذاب. وجعله رسيلا له في الوقوع ومقدّما عليه في اللّفظ، للمبالغة في استحقاقهم له.

و البعد في الأصل صفة الضّالّ، ووصف الضّلال به على الإسناد المجازيّ.

أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ: تذكير بما يعاينونه، ممّا يدلّ على كمال قدرة اللَّه- تعالى- وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتهم الإحياء، حتّى جعلوه افتراء وهزءا وتهديدا عليها.

و المعنى: أعموا، فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السّماء والأرض، ولم يتفكّروا أهم أشدّ خلقا أم هي. وإنّا إن نشأ، نخسف بهم أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البيّنات.

و قرأ حمزة والكسائي: «يشأ ويخسف ويسقط، بالياء. لقولهم: أفترى على الله.

و حفص: «كسفا» بالتّحريك .

إِنَّ فِي ذلِكَ: النّظر والتّفكّر فيهما وما يدلّان عليه.

لَآيَةً: لدلالة.

لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ : راجع إلى ربّه. فإنّه يكون كثير التّأمّل في أمره.

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا، أي: على سائر الأنبياء، وهو ما ذكر بعد. أو على سائر النّاس، فيندرج فيه النّبوّة والكتاب والملك والصّوت الحسن.يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ: رجّعي معه التّسبيح. وذلك إمّا بخلق صوت مثل صوته، أو بحملها إيّاه على التّسبيح إذا تأمّل فيها. أو سيري معه حيث سار.

و قرئ: «أوبي» [من الأوب‏]، أي: ارجعي في التّسبيح كلّما رجع فيه. وهو بدل من «فضلا»، أو من «آتينا» بإضمار «قولنا» [أو «قلنا] .

وَ الطَّيْرَ: عطف على محلّ «الجبال». ويؤيّده القراءة بالرّفع، عطفا على لفظها، تشبيها للحركة البنائية العارضة بالحركة الإعرابيّة. أو على «فضلا». أو مفعول [معه‏]  «لأوّبي»، وعلي هذا يجوز أن يكون الرّفع بالعطف على ضميره. وكان الأصل: ولقد آتينا داود منّا فضلا تأويب الجبال والطّير. فبدّل بهذا النّظم لما فيه من الفخامة والدّلالة على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه، حيث جعل الجبال والطّير كالعقلاء المنقادين لأمره في نفاذ مشيئته فيها .

وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ : جعلناه في يده كالشّمع، يصرّفه كيف يشاء من غير إحماء وطرق بالمطرقة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قال- جلّ ذكره-: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ، أي: سبّحي للَّه وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ

قال: كان داود- عليه السّلام- إذا مرّ في البراري يقرأ الزّبور تسبّح الجبال والطّير والوحوش معه. وألان اللَّه- عزّ وجلّ- له الحديد مثل الشّمع، حتّى كان يتّخذ منه ما أحبّ.

و قال الصّادق- عليه السّلام-: اطلبوا الحوائج يوم الثّلاثاء، فإنّه اليوم الّذي ألان اللَّه فيه الحديد لداود- عليه السّلام-.

و فيه : قال: أعطي داود وسليمان- عليهما السلام- ما لم يعط أحد من أنبياء اللَّه من الآيات، علّمهما منطق الطّير، وألان لهما الحديد والصّفر من غير نار، وجعلت الجبال يسبّحن مع داود- عليه السّلام-.

و في كتاب المناقب ، لابن شهر آشوب. كتاب الإرشاد للزّهريّ: قال سعيد بن‏

 المسيّب: كان النّاس لا يخرجون إلى مكّة حتّى يخرج عليّ بن الحسين- عليه السّلام-.

فخرج وخرجت معه. فنزل في بعض المنازل، فصلّى ركعتين. فسبّح  في سجوده، فلم يبق شجر ولا مدر إلّا سبّحوا معه. ففزعت منه.

فرفع رأسه فقال: يا سعيد، أفزعت؟

قلت: نعم، يا ابن رسول اللَّه.

فقال: هذا التّسبيح الأعظم.

و في رواية سعيد بن المسيّب  قال: كان القرّاء لا يحجّون حتّى يحجّ زين العابدين- عليه السّلام-. وكان يتّخذ لهم السّويق الحلو والحامض، ويمنع  نفسه. فسبق يوما إلى الرّحل، فألفيته  وهو ساجد. فو الّذي نفس سعيد بيده، لقد رأيت الشّجر والمدر والرّحل والرّاحلة يردّون عليه مثل كلامه.

و في أصول الكافي ، بإسناده إلى سالم بن أبي حفصة العجليّ: عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: كان في رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- ثلاثة لم تكن في أحد غيره: لم يكن له في‏ء، وكان لا يمرّ في طريق فيمر فيه بعد يومين أو ثلاثة إلّا عرف قد مرّ فيه لطيب عرفه، وكان يمرّ بحجر ولا شجر إلّا سجد له.

و في كتاب الخصال : عن عليّ بن جعفر قال: جاء رجل إلى أخي موسى بن جعفر- عليه السّلام- فقال له: جعلت فداك، أريد الخروج [إلى السّفر]  فادع لي.

قال- عليه السّلام-: ومتى تخرج؟ إلى أن قال- عليه السّلام-: ألا أدلّك على يوم سهل  ألان اللَّه فيه الحديد لداود- عليه السّلام؟

قال الرّجل: بلى، جعلت فداك.

قال: اخرج يوم الثّلاثاء.

و في روضة الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه وعليّ بن محمّد جميعا، عن القاسم بن‏

 محمّد، عن سليمان بن المنقريّ، عن حفص [بن غياث‏]  قال: قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: ومن تعذّرت عليه الحوائج، فليلتمس طلبها يوم الثّلاثاء. فإنّه اليوم الّذي ألان اللَّه فيه الحديد لداود- عليه السّلام-.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى هشام بن سالم: عن الصّادق جعفر بن محمّد- عليهما السلام- أنّه قال في حديث يذكر فيه قصّة داود- عليه السّلام-: أنّه خرج يقرأ الزّبور [و كان إذا قرأ الزّبور،]  لا يبقى جبل ولا حجر ولا طائر إلّا أجابه .

 

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللَّه-: روي، عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ- عليهما السلام- قال: إنّ يهوديّا من يهود الشّام وأحبارهم قال لأمير المؤمنين- عليه السّلام-: فإنّ هذا داود بكى على خطيئته حتّى سارت الجبال معه لخوفه.

 

قال له عليّ- عليه السّلام-: لقد كان كذلك. ومحمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- أعطي ما هو أفضل من هذا، أنّه كان إذا قام إلى الصّلاة، سمع لصدره وجوفه أزيز كأزيز المرجل  على الأثافي من شدة البكاء، وقد أمنه اللَّه- عزّ وجلّ- من عقابه. فأراد أن يتخشّع لربّه ببكائه، فيكون إماما لمن اقتدى به.

و لقد قام- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- عشر سنين على أطراف أصابعه، حتّى تورّمت قدماه واصفرّ وجهه، يقوم اللّيل أجمع حتّى عوتب في ذلك. فقال اللَّه- عزّ وجلّ -:

طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. بل لتسعد به. ولقد كان يبكي حتّى يغشى عليه، فقيل له: يا رسول اللَّه، أليس اللَّه- عزّ وجلّ- قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخرّ؟

قال: بلى، أفلا أكون عبدا شكورا.

و لئن سارت الجبال وسبّحت معه، لقد عمل لمحمد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- ما هو أفضل من هذا، إذ كنّا معه على جبل حراء إذ تحرّك الجبل، فقال له: قرّ، فإنّه ليس‏عليك إلّا نبيّ أو صدّيق شهيد. فقرّ الجبل مجيبا  لأمره ومنتهيا إلى طاعته.

و لقد مررنا معه بجبل، وإذا الدّموع تجري من بعضه.

فقال له [النّبيّ:] ما يبكيك، يا جبل؟

فقال: يا رسول اللَّه، كان المسيح مرّ بي وهو يخوّف النّاس بنار  وقودها النّاس والحجارة، وأنا أخاف أن أكون من تلك الحجارة.

قال له: لا تخف، تلك الحجارة الكبريت. فقرّ الجبل وسكن وهدأ وأجاب لقوله.

قال له اليهودي: فهذا داود- عليه السّلام- قد ليّن اللَّه- عزّ وجلّ- له الحديد فعمل  منه الدّروع.

قال له عليّ- عليه السّلام-: لقد كان كذلك. ومحمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- [قد]  أعطي ما هو أفضل من هذا، [أنّه‏]  ليّن اللَّه- عزّ وجلّ- له الصّمّ الصّخور الصّلاب وجعلها غارا. ولقد غارت الصّخرة تحت يده ببيت المقدس ليّنة حتّى صارت كهيئة العجين، قد رأينا ذلك والتمسناه تحت رايته.

و في الكافي : أحمد بن أبي عبد اللَّه، عن شريف بن سابق، عن المفضّل بن أبي قرّة، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- أنّ أمير المؤمنين- صلوات اللَّه عليه- قال: أوحى اللَّه- عزّ وجلّ- [إلى داود- عليه السّلام-: إنّك نعم العبد لولا أنّك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئا.

قال: فبكى داود أربعين صباحا. فأوحى اللَّه- عزّ وجلّ-]  إلى الحديد: أن لن لعبد داود- عليه السّلام-. فألان اللَّه- عزّ وجلّ- له الحديد. فكان يعمل في كلّ يوم درعا، فيبيعها بألف درهم. فعمل ثلاثمائة وستّين درعا، فباعها بثلاثمائة وستّين ألفا واستغنى عن بيت المال.

أَنِ اعْمَلْ: أمرناه.

 «أن» مفسّرة، أو مصدريّة.

سابِغاتٍ: دروعا واسعات.و قرئ: «صابغات». وهو أوّل من اتّخذها .

وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ: وقدرّ في نسجها بحيث يتناسب حلقها. أو قدّر مساميرها، فلا تجعلها دقاقا فتقلق ولا غلاظا فتخرق.

و في قرب الإسناد  للحميريّ: احمد بن محمّد بن أبي نصر قال: سألنا الرّضا- عليه السّلام- هل أحد من أصحابكم يعالج السّلاح؟

فقلت: رجل من أصحابنا زرّاد.

فقال: إنّما هو سرّاد. أما تقرأ كتاب اللَّه- عزّ وجلّ- في قول اللَّه لداود- عليه السّلام-: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ الحلقة بعد الحلقة.

وَ اعْمَلُوا صالِحاً: الضّمير فيه لداود وأهله.

إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ : فأجازيكم عليه.

وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ، أي: وسخّرنا له الرّيح.

و قرأ  أبو بكر: «الرّيح» بالرّفع، أي: ولسليمان الرّيح مسخّرة.

و قرئ الرّياح .

غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ: جريانها بالغداة مسيرة شهر وبالعشيّ كذلك.

و قرئ: غدوتها وروحتها  وفي تفسير عليّ بن إبراهيم : وقوله- عزّ وجلّ-: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ قال: الدّروع وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ قال: المسامير الّتي في الحلقة. وقوله- عزّ وجلّ-: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ قال: كانت الرّيح تحمل كرسيّ سليمان، فتسير به في الغداة مسيرة شهر وفي العشيّ مسيرة شهر.

و في كتاب المناقب ، لابن شهر آشوب: الأصبغ بن نباتة قال: سألت الحسين- عليه السّلام- فقلت: يا سيّدي، أسألك عن شي‏ء أنا به موقن وأنّه من سرّ اللَّه وأنت المسرور إليه ذلك السّرّ.فقال: يا أصبغ، أ تريد أن ترى مخاطبة رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- لأبي دون  يوم مسجد قبا؟

قلت: هو  الّذي أردت.

قال: قم.

فإذا أنا وهو بالكوفة. فنظرت، فإذا المسجد من قبل أن يرتدّ إليّ بصري.

فتبسّم- عليه السّلام- في وجهي.

فقال: يا أصبغ، إنّ سليمان بن داود أعطي الرّيح غدوّها شهر ورواحها شهر، وأنا قد أعطيت أكثر ممّا أعطي سليمان.

فقلت: صدقت، واللَّه، يا ابن رسول اللَّه.

فقال: نحن الّذين عندنا علم الكتاب وبيان ما فيه وليس عند أحد  من خلقه ما عندنا، لانّا أهل سرّ اللَّه. ثمّ تبسّم  في وجهي، ثمّ قال: نحن آل اللَّه وورثة رسول اللَّه - صلّى اللَّه عليه وآله وسلم.

فقلت: احمد للَّه على ذلك.

ثمّ قال لي: أدخل.

فدخلت، فإذا [أنا]  برسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- محتب  في المحراب بردائه. فنظرت، فإذا أنا بأمير المؤمنين- عليه السّلام- قابض على تلابيب الأعسر  فرأيت‏رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- يعضّ الأنامل وهو يقول: بئس الخلف خلّفتني أنت وأصحابك، عليكم لعنة اللَّه ولعنتي. (الخبر انتهى.)

و في عيون الأخبار ، عن الرّضا، عن أبيه موسى بن جعفر [، عن أبيه جعفر]  بن محمّد- عليهما السلام- حديث طويل، وقد سبق عند قوله- تعالى-: قالَتْ نَمْلَةٌ (الآية) وفيه: ثمّ قالت النّملة: هل تدري لم سخّرت لك الرّيح من بين سائر المملكة؟

قال سليمان- عليه السّلام-: ما لي بهذا علم.

قالت النّملة: يعني- عزّ وجلّ- بذلك: لو سخّرت لك جميع المملكة، كما سخّرت لك هذه الرّيح، لكان زوالها من بين يديك كزوال الرّيح. فحينئذ تبسّم ضاحكا من قولها.

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللَّه- روي عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ- عليهم السّلام- أنّ يهوديّا من يهود الشّام وأحبارهم قال لأمير المؤمنين- عليه السّلام-: فإنّ هذا سليمان قد سخّرت له الرّياح ، فسارت في بلاده غدوّها شهر ورواحها شهر.

فقال له عليّ- عليه السّلام-: لقد كان كذلك. ومحمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- أعطي ما هو [أفضل من هذا، أنّه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، وعرج به في ملكوت السّماوات مسيرة خمسين ألف عام‏]  في أقل من ثلث ليلة، حتّى انتهى إلى ساق العرش.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في كتاب سعد السّعود ، لابن طاوس- رحمه اللَّه- عن تفسير أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد القزوينيّ، بإسناده إلى أنس بن مالك قال: أهدي لرسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- بساط من قرية يقال لها: بهتدف . فقعد عليه عليّ وأبو بكر وعمر وعثمان والزّبير وعبد الرّحمن بن عوف وسعد.

فقال النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- لعليّ : يا عليّ، قل: يا ريح، احملينا.فقال عليّ: يا ريح، احملينا. فحملتهم . حتّى أتوا أصحاب الكهف. فسلّم أبو بكر وعمر فلم يردّوا عليهم السّلام. ثمّ قام عليّ- عليه السّلام- فسلّم، فردّوا عليه السّلام.

فقال أبو بكر: يا عليّ، ما بالهم ردّوا عليك ولم يردّوا علينا؟

فقال لهم عليّ: قالوا: إنّا نردّ بعد الموت إلّا على نبيّ أو وصيّ نبيّ.

ثمّ قال عليّ- عليه السّلام-: يا ريح، احملينا . فحملتنا.

ثمّ قال يا ريح، ضعينا. فوضعتنا. فوكز  برجله الأرش فتوضّأ وتوضّأنا .

ثمّ قال: يا ريح، احملينا. فحملتنا. فوافينا المدينة، النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- في صلاة الغداة وهو يقرأ : أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً.

فلمّا قضى النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- الصّلاة قال: يا عليّ، أ تخبروني  عن مسيركم، أم تحبّون أن أخبركم؟ قالوا: بل تخبرنا، يا رسول اللَّه.

قال أنس بن مالك: فقصّ القصّة ، كأنّه معنا

وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ: النّحاس المذاب. أساله له من معدنه، فنبع منه نبوع الماء من الينبوع. فلذلك سمّاه: عينا. وكان ذلك باليمن.

وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ: عطف على «الرّيح». «و من الجنّ» حال متقدّمة، أو جملة من مبتدأ وخبر.

بِإِذْنِ رَبِّهِ: بأمره.

وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ: ومن يعدل منهم.

عَنْ أَمْرِنا: عمّا أمرناه من طاعة سليمان.

و قرئ: «يزغ» من أزاغه .نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ : عذاب الآخرة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقوله- عزّ وجلّ-: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ قال : الصّفر.

يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ: قصورا حصينة ومساكن شريفة. سمّيت به، لأنّها يذبّ عنها ويحارب عليها.

وَ تَماثِيلَ: وطيورا  وتماثيل للملائكة والأنبياء على ما اعتادوا وأحبارهم قال لأمير المؤمنين- عليه السّلام-: فإنّ هذا سليمان سخّرت الشّياطين يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل.

قال له عليّ- عليه السّلام-: لقد كان كذلك. ولقد أعطي محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- ما هو أفضل من هذا، أنّ الشّياطين سخّرت لسليمان وهي مقيمة على كفرها، وقد سخّرت لنبوّة محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- الشّياطين بالإيمان. فأقبل إليه الجنّ  التّسعة من أشرافهم، من جنّ نصيبين ، واليمن  من بني عمرو بن عامر من الأحجّة، منهم سقناه، ومصماه ، والهملكان، والمرزبان، والمازمان، ونفات ، وهاضب، وهاصب ، وعمرو. وهم الّذين يقول اللَّه- تبارك اسمه- فيهم : وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ وهم التّسعة يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ  فأقبل إليه الجنّ والنّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- ببطن النّخلة، فاعتذروا بأنّهم ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً .

و لقد أقبل إليه أحد وسبعون ألفا منهم، فبايعوه على الصّوم والصّلاة والزّكاة والحجّ والجهاد ونصح المسلمين ، واعتذروا بأنّهم قالوا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً  وهذا أفضل ممّا أعطي سليمان. سبحان من سخّرها لنبوّة محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- بعد أن كانت تتمرّد

و تزعم أنّ للَّه ولدا. فلقد شمل مبعثه من الجنّ والإنس من العبادات، ليراها النّاس فيعبدوا نحو عبادتهم. وحرمة التّصاوير شرع مجدّد.

و روي: أنّهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيّه ونسرين فوقه. فإذا أراد أن يصعد، بسط الأسدان له ذراعيهما. وإذا قعد [على الكرسيّ‏]  أظلّه النّسران بأجنحتهما .

وَ جِفانٍ: وصحاف.

كَالْجَوابِ: كالحياض الكبار. جمع جابية. من الجباية. وهي من الصّفات الغالبة، كالدّابّة.

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللَّه- روي عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ- عليهم السّلام- أنّ يهوديّا من يهود الشّام وما لا يحصى‏

و فيه ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه قال السّائل: كيف صعدت الشّياطين إلى السّماء، وهم أمثال النّاس في الخلقة والكثافة، وقد كانوا يبنون لسليمان بن داود- عليهما السلام- من أبناء ما يعجز عنه ولد آدم؟

قال غلظوا  لسليمان لمّا سخّروا ، وهم خلق رقيق، غذاؤهم التّنسّم . والدّليل على ذلك  صعودهم إلى السّماء لاستراق السّمع، ولا يقدر الجسم الكثيف على الارتقاء إليها إلّا بسلّم أو سبب.

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن داود بن الحسين، عن الفضل بن أبي العبّاس  قال: قلت لأبي جعفر- عليه السّلام- [: قول اللَّه- عزّ وجلّ-:]  يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ قال: ما هي تماثيل الرّجال والنّساء، ولكنّها تماثيل الشّجر وشبهه.

عليّ بن إبراهيم، عن صالح بن السّنديّ ، عن جعفر بن بشير، عمّن ذكره، عن أبي‏

 عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: كانت لعليّ بن الحسين- عليهما السلام- وسائد وأنماط فيها تماثيل يجلس عليها.

محمّد بن يحيى، عن أحمد وعبد اللَّه  ابني محمّد بن [عيسى، عن‏]  عليّ بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن أبي العبّاس ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ-: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ فقال : واللَّه ما هي تماثيل [الرّجال والنّساء، ولكنها الشّجر وشبهه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم ، وقوله- عزّ وجلّ-: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ. قال:]  في الشّجر. وقوله- عزّ وجلّ-: وَجِفانٍ كَالْجَوابِ، أي: جفنة  كالحفرة.

وَ قُدُورٍ راسِياتٍ: ثابتات على الأثافي، لا تنزل عنها لعظمها.

اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً: حكاية لما قيل لهم.

و «شكرا» نصب على العلّة، أي: اعملوا له واعبدوه شكرا. والمصدر، لأنّ العمل له شكر. أو الوصف له. أو الحال. أو المفعول به.

وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ : المتوفّر على أداء الشّكر بقلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته، ومع ذلك [لا يوفي حقّه. لأنّ توفيقه للشّكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهاية. ولذلك‏]  قيل: الشّكور من يرى عجزه عن الشّكر.

و في تفسير علي بن إبراهيم : وقوله- عزّ وجلّ-: وَقُدُورٍ راسِياتٍ، أي: ثابتات.

ثمت قال- جلّ ذكره-: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [قال: اعملوا ما تشكرون عليه. ثمّ قال- سبحانه-:]  وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.و في أصول الكافي  [: أبو عبد اللَّه الأشعريّ، عن‏]  بعض أصحابنا رفعه، عن هشام بن الحكم قال: قال [لي‏]  أبو الحسن موسى بن جعفر- عليه السّلام-: يا هشام، ثمّ مدح القلّة، فقال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.

و في روضة الكافي : سهل، عن عبيد اللَّه، عن أحمد بن عمر قال: دخلت على أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- أنا وحسين [بن ثوير]  بن أبي فاختة. فقلت له: جعلت فداك، إنّا كنّا في سعة من الرّزق وغضارة من العيش، فتغيّرت الحال بعض التّغيير. فادع اللَّه- عزّ وجلّ- أن يردّ ذلك إلينا.

فقال: أيّ شي‏ء، تريدون تكونون، ملوكا؟ أ يسرّك أن تكون مثل طاهر وهرثمة ، وإنّك على خلاف [ما أنت عليه؟

قلت: لا، واللَّه، ما يسرّني أنّ لي الدّنيا بما فيها ذهبا وفضّة وإنّي على خلاف‏]  ما أنا عليه.

قال: فقال: فمن أيسر منكم، فليشكر اللَّه. إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وقال- سبحانه وتعالى-: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في نهج البلاغة : أوصيكم عباد اللَّه بتقوى اللَّه فإنّها حقّ اللَّه عليكم، والموجبة على اللَّه حقّكم، وأن تستعينوا عليها باللَّه، وتستعينوا بها على اللَّه. فإنّ التّقوى في اليوم الحرز والجنّة، وفي غد الطّريق إلى الجنّة. مسلكها واضح، وسالكها رابح، ومستودعها حافظ. لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين منكم والغابرين، لحاجتهم إليها غدا، إذا أعاد اللَّه ما أبدى، وأخذ ما أعطى، وسأل عمّا أسدى. فما أقلّ من قبلها، وحملها حقّ حملها! أولئك الأقلّون عددا، وهم أهل صفة اللَّه- سبحانه- إذ يقول: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.و في مصباح الشّريعة : قال الصّادق- عليه السّلام-: ولو كان عند اللَّه عبادة يتعبّد بها عباده المخلصون أفضل من الشّكر على كلّ حال، لأطلق لفظة فيهم من جميع الخلق بها.

فلمّا لم يكن أفضل منها، خصّها من بين العبادات وخصّ أربابها. فقال- تعالى-: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.

فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ، أي: على سليمان.

ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ: ما دلّ الجنّ.

و قيل: آله .

إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ، أي: الأرضة. أضيف إلى فعلها.

و قرئ، بفتح الرّاء. وهو تأثّر الخشبة من فعلها. يقال: أرضت الخشبة أرضا، فأرضت أرضا، مثل: أكلت القوادح الأسنان أكلا، فأكلت أكلا .

تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ: عصاه. من نسأت البعير: إذا طردته. لأنّه يطرد بها.

و قرئ، بفتح الميم وتخفيف الهمزة، قلبا وحذفا على غير قياس. إذ القياس إخراجها بين بين .

و «منسأته» على مفعالة، كميضاءة في ميضأة. ومن سأته، أي: طرف عصاه.

مشتقّا من سأة القوس. وفيه لغتان، كما في قحة وقحة.

و قرأ نافع وأبو عمرو: «منسأته» بألف ساكنة، بدلا من الهمزة. وابن ذكوان، بهمزة ساكنة. وحمزة، إذا وقف جعلها بين بين .

فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ: علمت الجنّ بعد التباس الأمر عليهم.

أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ : أنّهم لو كانوا يعلمون الغيب، كما يزعمون، يعلمون موته حيثما وقع، فلم يلبثوا بعده حولا في تسخيرة إلى أن خرّ أو ظهرت الجنّ.

و «أن» بما في حيّزه بدل منه، أي ظهر أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في‏العذاب.

و ذلك أنّ داود أسّس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى- عليه السّلام-. فمات قبل تمامه. فوصّى به إلى سليمان، فاستعمل الجنّ فيه فلم يتمّ بعد إذ دنا أجله وأعلم به.

فأراد أن يعمي عليهم موته ليتمّوه، فدعاهم فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب. فقام يصلّي متّكئا على عصاه. فقبض روحه وهو متّكئ عليها. فبقي كذلك حتّى أكلتها الأرضة فخرّ. ثمّ فتحوا عنه. وأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت يوما وليلة مقدارا، فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة. وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة.

و ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة. وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه .

و في عيون الأخبار ، في باب ما جاء عن الرّضا- عليه السّلام- من الأخبار النّادرة في فنون شتّى، بإسناده إلى الحسين بن خالد: عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرّضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ- عليهم السّلام-. قال: إنّ سليمان بن داود- عليه السّلام- قال ذات يوم لأصحابه: إنّ اللَّه- تعالى- وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي، سخّر لي الرّيح والإنس والجنّ والطّير والوحوش، وعلّمني منطق الطّير، وأتاني من كلّ شي‏ء، ومع جميع ما أوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلى اللّيل.

و قد أحببت أن أدخل قصري في غد فأصعد أعلاه وأنظر إلى ممالكي، فلا تأذنوا لأحد عليّ [بالدّخول لئلّا يرد عليّ‏]  ما ينغص عليّ يومي. فقالوا: نعم.

فلمّا كان من الغد، أخذ عصاه بيده وصعد إلى أعلى موضع من قصره. ووقف متّكئا على عصاه ينظر إلى ممالكه، سرورا بما أوتي، فرحا بما أعطي، إذ نظر إلى شابّ حسن الوجه واللّباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره.

فلمّا بصر به سليمان- عليه السّلام- قال له: من أدخلك إلى هذا القصر وقد أردت أن أخلوا فيه اليوم، فبإذن من دخلت؟

قال الشّابّ: أدخلني هذا القصر ربّه، وبإذنه دخلت.

فقال: ربّه أحقّ به منّي. فمن أنت؟

قال: أنا ملك الموت.قال: وفيما جئت؟

قال: جئت  لأقبض روحك.

قال: امض لما أمرت به، فهذا  يوم سروري، وأبي اللَّه- عزّ وجلّ- أن يكون لي سرور دون لقائه .

فقبض ملك الموت روحه، وهو متّكئ على عصاه. فبقي سليمان متّكئا على عصاه وهو ميّت ما شاء اللَّه، والنّاس ينظرون إليه وهم يقدّرون أنّه حيّ. فافتتنوا فيه واختلفوا.

فمنهم من قال: إنّ سليمان قد بقي متّكئا على عصاه هذه الأيّام الكثيرة [و لم يتعب ولم ينم ولم يأكل ولم يشرب‏]  إنّه لرّبنا الّذي يجب علينا أن نعبده.

و قال قوم: إنّ سليمان ساحر، وإنّه يرينا أنّه واقف متّكئ على عصاه يسحر أعيننا، وليس كذلك.

فقال المؤمنون: إنّ سليمان هو عبد اللَّه ونبّيه، يدبّر اللَّه أمره بما يشاء .

فلمّا اختلفوا بعث اللَّه- عزّ وجلّ- دابّة الأرض  فدبّت في عصاه. فلمّا أكلت جوفها انكسرت العصا، وخرّ سليمان من قصره على وجهه. فشكرت الجنّ الأرضة على صنيعها  فلأجل ذلك لا توجد الأرضة في مكان، إلّا وعندها ماء وطين. وذلك قول اللَّه- عزّ وجلّ-:

فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ  مِنْسَأَتَهُ، [يعني عصاه.]

 

فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أن الانس لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ.

قال الصّادق- عليه السّلام-: واللَّه  ما نزلت هذه الآية هكذا. وإنّما نزلت فلما خر تبينت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.

و في كتاب علل الشّرائع ، مثل ما نقلنا عن عيون الأخبار، إلّا أنّ آخرها: وإنّمانزلت «فلمّا تبينت الجن أن الإنس  لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.

حدّثنا أبي- رضي اللَّه عنه - قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن ابن أبي عمير، عن أبان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: أمر سليمان بن داود الجنّ، فصنعوا له قبة من قوارير. فبينا هو متّكئ على عصاه في القبّة ينظر إلى الجنّ كيف [يعملون وهم‏]  ينظرون إليه، إذ حانت منه التفاتة، فإذا رجل معه في القبّة.

قال له: من أنت؟

قال: أنا الّذي لا أقبل الرّضا ولا أهاب الملوك. أنا ملك الموت.

فقبضه وهو قائم متّكئ على عصاه في القبّة، والجنّ ينظرون إليه.

قال: فمكثوا سنة يدأبون له حتّى بعث اللَّه- عزّ وجلّ- الأرضة فأكلت منسأته، وهي العصا فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ.

قال أبو جعفر- عليه السّلام-: إنّ الجنّ يشكرون الأرضة ما صنعت بعصا سليمان، فما تكاد تراها في مكان إلّا وعندها ماء وطين.

و بإسناده إلى الحسن بن عليّ  [، عن عليّ‏]  بن عقبة، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: لقد شكرت الشّياطين الأرضة حين أكلت عصا سليمان حتّى سقط، وقالوا: عليك الخراب وعلينا الماء والطّين. فلا تكاد تراها في موضع إلّا رأيت ماء وطينا.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى جعفر بن محمّد ، عن أبيه، عن جدّه، عن رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- قال: عاش سليمان بن داود- عليه السّلام- سبعمائة سنة واثني عشرة سنة.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ سليمان بن داود- عليه السّلام- أمر الجنّ»

، فبنوا له بيتا من قوارير.

قال: فبينما هو متّكئ على عصاه ينظر إلى الشّياطين كيف يعملون وينظرون إليه، إذ حانت منه التفاتة، فإذا هو برجل معه في القبّة ففزع منه.

فقال: من أنت؟

فقال: أنا الّذي لا أقبل الرّشا ولا أهاب الملوك. أنا ملك الموت.

فقبضه وهو متّكئ على عصاه. فمكثوا سنة يبنون وينظرون إليه ويدأبون  له ويعملون حتّى بعث اللَّه- تعالى- الأرضة فأكلت منسأته، وهي العصا فلما خرت تبينت الإنس  أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا سنة في العذاب المهين. فالجنّ تشكر الأرضة بما عملت بعصا سليمان.

قال: فلا تكاد تراها في مكان إلّا وعندها  ماء وطين.

و في روضة الكافي : ابن محبوب، عن جميل بن صالح، عن الوليد بن صبيع، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: إن اللَّه- عزّ وجلّ- أوحى إلى سليمان بن داود- عليه السّلام-: أنّ آية موتك أنّ شجرة تخرج من بيت المقدس، يقال لها: الخرنوبة.

قال: فنظر سليمان يوما، فإذا الشّجرة الخرنوبة قد طلعت من بيت المقدس.

فقال لها: ما اسمك؟

قالت: الخرنوبة.

قال: فولّى سليمان مدبرا إلى محرابه، فقام فيه متّكئا على عصاه، فقبض روحه من ساعته.

قال: فجعلت الجنّ والإنس يخدمونه ويسعون في أمره، كما كانوا. وهم يظنّون أنّه حيّ لم يمت يغدون ويروحون، وهو قائم ثابت. حتّى دبّت الأرض من عصاه، فأكلت منسأته، فانكسرت وخرّ سليمان إلى الأرض. أفلا تسمع لقوله- عزّ وجلّ-:فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ.

و في مجمع البيان : وفي الشّواذّ «تبيّنت الإنس» وهي قراءة عليّ بن الحسين وأبي عبد اللَّه- عليهما السلام-.

و فيه ، حديث آخر، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: كان آصف بن برخيا يدبّر أمره حتّى دبّت الأرضة.

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ: لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

و منع  الصّرف عنه ابن كثير وابن عمرو. لأنّه صار اسم القبيلة.

و عن ابن كثير، قلب همزته ألفا. ولعلّه أخرجه بين بين، فلم يؤده الرّاوي كما وجب .

فِي مَسْكَنِهِمْ: في مواضع سكناهم، وهي باليمن. يقال لها: مأرب. بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث.

و قرأ حمزة وحفص، بالإفراد والفتح. والكسائيّ، بالكسر، حملا على ما شذّ من القياس، كالمسجد والمطلع .

آيَةٌ: علامة دالّة على وجود الصّانع المختار.

جَنَّتانِ: بدل من «آية»، أو خبر محذوف، تقديره: الآية جنّتان.

و قرئ، بالنّصب، على المدح. والمراد: جماعتان من البساتين .

عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ: جماعة عن يمين بلدهم، وجماعة عن شماله. كلّ واحدة منهما في تقاربها وتضامّها، كأنّها جنّة واحدة. أو بستانا كلّ رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم- رحمه اللَّه -: وقوله: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ قال: فإنّ بحرا كان من اليمن. وكان سليمان- عليه السّلام- أمر جنوده أن يجروا لهم‏خليجا من البحر العذب إلى بلاد الهند، فغلوا ذلك. وعقدوا له عقدة  من الصّخر والكلس حتّى يفيض على بلادهم. وجعلوا للخليج مجاريا. فكانوا إذا أرادوا أن يرسلوا منه الماء، أرسلوه بقدر ما يحتاجون إليه. وكانت لهم جنّتان عن يمين وشمال عن مسيرة عشرة أيّام، فيها يمرّ [المارّ.]  لا يقع عليه الشّمس من التفافها.

فلمّا عملوا بالمعاصي وعتوا عن أمر ربّهم ونهاهم الصّالحون فلم ينتهوا، بعث اللَّه- عزّ وجلّ- على ذلك السّد الجرذ، وهي الفأرة الكبيرة. فكانت تقلع الصّخرة الّتي لا يستقلّها الرّجل وترمي بها. فلمّا رأى ذلك قوم منهم، هربوا وتركوا البلاد. فما زال الجرذ يقلع الحجر حتّى خرّبوا ذلك السّد، فلم يشعروا حتّى غشيهم السّيل وخرّب بلادهم وقلع أشجارهم.

و في مجمع البيان : وفي الحديث، عن فروة بن مسيك أنّه قال: سألت رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- عن سبأ، أرجل هو أم امرأة؟

فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة، تيامن منهم ستّة وتشأم منهم أربعة. فأمّا الّذين تيامنوا، فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون وأنمار وحمير.

فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الّذين منهم خثعم وبجيلة. وأمّا الّذين تشأموا، فعاملة وجذام والخم وغسّان.

كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ: حكاية لما قال لهم نبيّهم ذلك.

بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ : استئناف للدّلالة على موجب الشّكر، أي: هذه البلدة الّتي فيها رزقكم بلدة طيّبة، وربّكم الّذي رزقكم وطلب شكركم ربّ غفور فرطات من يشكره.

و قرئ الكلّ: بالنّصب، على المدح.

و قيل : كانت أخصب البلاد وأطيبها. لم يكن فيها عاهة ولا هامّة.

فَأَعْرَضُوا: عن الشّكر.

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ.

قيل : سيل الأمر العرم، أي: الصّعب. من عرم الرّجل، فهو عارم. وعرم: إذا شرس خلقه وصعب. أو المطر الشّديد. أو الجرذ، أضاف إليه السّبيل. لأنّه نقب عليهم سكرا  ضربته لهم بلقيس، فحقنت به ماء الشّجر، وتركت فيه ثقبا  على مقدار ما يحتاجون إليه. أو المسناة الّتي عقدت  سكرا . على أنّه جمع، عرمة، وهي الحجارة المركومة.

و قيل : اسم واد جاء السّيل من قبله. وكان ذلك بين عيسى ومحمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-.

وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ: بشع. فإنّ الخمط كلّ نبت أخذ طعما من مرارة.

و قيل : الأراك. أو كلّ شجر لا شوك له. والتقدير: أكل أكل خمط. فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، في كونه بدلا أو عطف بيان.

وَ أَثْلٍ وَشَيْ‏ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ : معطوفان على «أكل» لا على «خمط». فإنّ الأثل، هو الطّرفاء ولا ثمر له.

و قرئا، بالنّصب، عطفا على «جنّتين». ووصف السّدر القلّة، فإنّ جناه، وهو النّبق ممّا يطيب أكله، ولذلك يغرس في البساتين. وتسمية البدل: «جنّتين»، للمشاكلة والتّهكّم .

ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا: بكفران النّعمة، أو بكفرهم للرّسل. إذ نقل: أنّه بعث إليهم ثلاثة عشر نبيّا، فكذّبوهم. وتقديم المفعول، للتّعظيم، لا للتّخصيص .

وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ : وهل يجازى بمثل ما فعلنا بهم إلّا البليغ في الكفران، أو الكفر؟

و قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص: «نجازي» بالنّون. و«الكفور» بالنّصب .وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها: بالتّوسعة على أهلها. وهي قرى الشّام.

قُرىً ظاهِرَةً: متواصلة. يظهر بعضها، لبعض، أو راكبة سنن الطّريق ظاهرة لأبناء السّبيل.

وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ: بحيث يقيل الغادي في قرية ويبيت الرّائح في قرية، إلى أن يبلغ الشّام، سِيرُوا فِيها: على إرادة القول بلسان الحال، أو المقال.

لَيالِيَ وَأَيَّاماً: متى شئتم من ليل ونهار.

آمِنِينَ : لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات. أو سيروا آمنين، وإن طالت مدّة سفركم فيها ليالي أعماركم وأيّامها، لا تلقون فيها إلّا الأمن.

و في كتاب علل الشرائع ، بإسناده إلى أبى زاهر شيب بن أنس  [، عن بعض أصحابه‏] ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: قال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام- لأبي حنيفة: يا أبا حنيفة، تعرف كتاب اللَّه حقّ معرفته، وتعرف النّاسخ والمنسوخ؟

قال: نعم.

قال: يا أبا حنيفة، لقد ادّعيت علما، ويلك ما جعل اللَّه ذلك إلّا عند أهل الكتاب الّذين أنزل عليهم، ويلك ولا هو إلّا عند الخاصّ من ذرّيّة نبيّنا- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- وما ورثك اللَّه من كتابه حرفا. فإن كنت كما تقول، ولست كما تقول، فأخبرني عن قول اللَّه- عزّ وجلّ-: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ أين ذلك من الأرض؟

قال: أحسبه ما بين مكّة والمدينة.

فالتفت أبو عبد اللَّه- عليه السّلام- إلى أصحابه، فقال: تعلمون أنّ النّاس يقطع عليهم ما بين المدينة ومكّة، فتؤخذ أموالهم ولا يؤمنون على أنفسهم ويقتلون؟

قالوا: نعم. [قال:]  فسكت أبو حنيفة.

فقال: يا أبا حنيفة، أخبرني عن قول اللَّه- عزّ وجلّ -: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً أين ذلك من الأرض؟

قال: الكعبة.

قال: أ فتعلم أنّ الحجّاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على ابن الزّبير في الكعبة فقتله، كان آمنا فيها؟

قال: فسكت.

فقال أبو بكر الحضرميّ، جعلت فداك، الجواب في المسألتين الأوّلتين.

قال: يا أبا بكر سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ فقال: مع قائمنا أهل البيت. وأمّا قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً فمن بايعه ودخل معه ومسح على يده ودخل في عدّه  أصحابه، كان آمنا.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في شرح الآيات الباهرة»: روى محمّد بن العبّاس- رحمه اللَّه- عن الحسين بن علىّ بن زكريّاء البصريّ، عن الهيثم بن عبد اللَّه الرّمّانيّ قال: حدّثني عليّ بن موسى قال:

 

حدّثني أبي موسى، عن أبيه جعفر- عليه السّلام- قال: دخل على أبي بعض من يفسّر القرآن.

فقال له: أنت فلان؟ وسمّاه باسمه.

قال: نعم.

قال: أنت الّذي تفسّر القرآن؟

قال: نعم.

قال: فكيف تفسّر هذه الآية وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ، سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ.

قال: هذه بين مكّة ومنى.

فقال له أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: أ يكون في هذا الموضع خوف وقطيع؟قال: نعم.

قال: فموضع [يقول اللَّه:]  يكون أمن، فيه خوف وقطيع؟

قال: فما هو ؟

قال: ذراك  نحن أهل البيت. وقد سمّاكم اللَّه: ناسا. وسمّانا: قرئ  [قال: جعلت فداك، وجدت هذا في كتاب اللَّه أنّ القرى رجال؟

فقال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: سماكم اللَّه ناسا. وسمّى هذه: قرى‏]  قال أبو عبد اللَّه: أليس اللَّه- تعالى- يقول : وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها فللجدران والحيطان السّؤال أم للنّاس؟ وقال- تعالى -: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً فمن المعذّب الرّجال أم الجدران والحيطان؟

و يؤيّده ما رواه- أيضا-: عن أحمد بن هوذة الباهليّ ، عن إبراهيم بن إسحاق النّهاونديّ، عن عبد اللَّه بن حمّاد الأنصاريّ، عن عبد اللَّه بن سنان، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: دخل [الحسن‏]  البصري على محمّد بن عليّ- عليه السّلام.

فقال له: يا أخا أهل البصرة، بلغني أنّك فسّرت  آية من كتاب اللَّه على غير ما أنزلت. فإن كنت فعلت، فقد هلكت واستهلكت.

قال: وما هي، جعلت فداك؟

قال: قول اللَّه- عزّ وجلّ-: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ. ويحك، كيف يجعل اللَّه لقوم أمانا ومتاعهم يسرق. بمكّة والمدينة وما بينهما؟ وربّما أخذ عبد أو قتل وفاتت نفسه. ثمّ مكث مليّا ثمّ أومأ بيده إلى صدره وقال: نحن القرى الّتي بارك اللَّه فيها.

قال: جعلت فداك، أوجدت هذا في كتاب اللَّه، أنّ القرى رجال؟قال: نعم، قول اللَّه- عزّ وجلّ -: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ، فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً فمن العاتي على اللَّه- عزّ وجلّ- الحيطان، أم البيوت، أم الرّجال؟

فقال: الرّجال.

ثمّ قال: قلت: جعلت فداك، زدني.

قال: قوله- عزّ وجلّ- في سورة يوسف : سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها لمن أمروه أن يسأل، القرية والعير أم الرّجال؟

فقال: جعلت فداك، فأخبرني عن القرى الظّاهرة.

قال: هم شيعتنا، يعني العلماء منهم.

و قوله: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ‏

روى أبو حمزة الثّماليّ ، عن عليّ بن الحسين- عليهما السّلام- أنّه قال: آمنين من الزّيغ، أي: فيها يقتبسونه منهم من العلم في [الدّنيا و]  الّذين.

و في كتاب الاحتجاج  للطّبرسيّ- رحمه اللَّه-: عن أبي حمزة الثّماليّ قال: دخل قاض من قضاة أهل الكوفة على علىّ بن الحسين- عليهما السّلام-.

فقال له: جعلني اللَّه فداك، أخبرني عن قول اللَّه- عزّ وجلّ-: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ.

فقال له: يقول النّاس فيها قبلكم بالعراق ؟

قال: يقولون: إنّها مكّة.

قال: وهل رأيت السّرق في موضع أكثر منه. بمكّة؟

قال: فما هو؟

قال: إنّما عنى الرّجال.

قال: وأين ذلك في كتاب اللَّه؟ [فقال:]  أو ما تسمع إلى قوله - عزّ وجلّ-:وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ وقال : وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ وقال:

وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها أ فيسأل  القرية [أو الرجال أو]  العير؟

قال: وتلا- عليه السّلام - آيات في هذا المعنى.

قال: جعلت فداك، فمن هم؟

قال: نحن هم.

قال: أو لم تسمع قوله: سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ. قال: آمنين من الزّيغ.

و عن أبي حمزة الثمالي  قال: أتى الحسن البصريّ  أبا جعفر- عليه السّلام-.

 

فقال [: جئت‏]  لأسالك عن أشياء من كتاب اللَّه.

فقال له أبو جعفر: أ لست فقيه أهل البصرة؟

قال: قد يقال ذلك.

فقال له أبو جعفر- عليه السّلام-: هل بالبصرة أحد تأخذ عنه؟

قال: لا.

قال: فجميع أهل البصرة يأخذون عنك؟

قال: نعم.

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: سبحان اللَّه، لقد تقلّدت  عظيما من الأمر . بلغني عنك أمر، فما أدري أ كذاك أنت أم يكذب عليك؟

قال ما هو؟

قال: زعموا أنّك تقول: إنّ اللَّه خلق العباد ففوّض إليهم أمورهم.

قال: فسكت [الحسن.]  فقال: أ رأيت من قال له اللَّه في كتابه: إنّك آمن. هل عليه خوف بعد هذا القول منه؟فقال الحسن: لا.

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: إنّي أعرض إليك آية وأنهي إليك خطبا، ولا أحسبك إلّا وقد فسّرته على غير وجهه. فإن كنت فعلت ذلك، فقد هلكت وأهلكت.

فقال له: وما هو؟

قال: أ رأيت حيث يقول: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ. يا حسن، بلغني أنّك أفتيت النّاس، فقلت:

هي مكّة. فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: هل يقطع على من حجّ مكّة، وهل يخاف أهل مكّة، وهل تذهب أموالهم؟

 [قال: بلى.

قال: ] فمتى يكونون آمنين؟ بل فينا ضرب اللَّه الأمثال في القرآن. فنحن القرى الّتي بارك اللَّه فيها. وذلك قول اللَّه- عزّ وجلّ-. فمن أقرّ بفضلنا حيث [أمرهم أن يأتونا، فقال: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ‏]  الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً والقرى  الظّاهرة، الرّسل والنّقلة عنّا إلى شيعتنا، وفقهاء شيعتنا إلى شيعتنا. وقوله- تعالى-: قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ فالسير مثل العلم سِيرُوا فِيها  لَيالِيَ وَأَيَّاماً مثل لما يسير من العلم في اللّيالي والأيّام عنّا إليهم في الحلال والحرام والفرائض والأحكام. آمِنِينَ فيها إذا أخذوا [عن معدنها الّذي أمروا أن يأخذوا]  منه، آمنين من الشّكّ والضّلال والنّقلة من الحرام إلى الحلال. لأنّهم أخذوا العلم ممّن وجب لهم بأخذهم  إيّاه عنهم بالمعرفة ، لأنّهم أهل ميراث العلم من آدم إلى حيث انتهوا، ذرّيّة مصطفاة  بعضها من بعض. فلم ينته الا اصطفاء إليكم، بل إلينا انتهى. ونحن تلك الذّرّيّة المصطفاة، لا أنت ولا أشباهك.

يا حسن، فلو قلت لك حين ادّعيت ما ليس لك وليس إليك: يا جاهل أهل البصرة. لم أقل فيك، إلّا ما علمته منك وظهر لي عنك. وإيّاك أن تقول بالتّفويض، فإنّ‏اللَّه- عزّ وجلّ- لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهنا منه وضعفا، ولا أجبرهم على معاصيهم ظلما .

و الحديث) طويل أخذت منه موضع الحاجة (انتهى.)

و في روضة الكافي  عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبيه، عن محمّد بن سنان، عن زيد الشّحّام قال: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر- عليه السّلام- فقال: يا قتادة، أنت فيه أهل البصرة؟

فقال: هكذا يزعمون.

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: بلغني أنّك تفسّر القرآن.

قال له قتادة: نعم.

قال أبو جعفر- عليه السّلام-: بعلم تفسّره  أم بجهل؟

قال: لا، بعلم.

فقال له أبو جعفر- عليه السّلام-: فإن كنت تفسّره بعلم، فأنت أنت ، وإلّا أنا أسألك.

قال قتادة: سل.

قال: أخبرني عن قول اللَّه- عزّ وجلّ -: وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ.

فقال قتادة: ذلك من خرج من بيته بزاد [حلال‏]  وراحلة وكراء حلال  يريد هذا البيت، كان آمنا حتّى يرجع إلى أهله.

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: نشدتك باللَّه، يا قتادة، هل تعلم أنّه قد يخرج‏الرّجل  من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال  يريد هذا البيت، فيقطع عليه الطّريق، فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه ؟

قال قتادة: اللّهمّ، نعم.

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: ويحك، يا قتادة، إنّ كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك، فقد هلكت وأهلكت. [و إن كنت أخذته من الرّجال، فقد هلكت وأهلكت.]  ويحك، يا قتادة، ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال  يروم هذا البيت عارفا بحقّنا يهوانا قلبه، كما قال اللَّه- عزّ وجلّ- : فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ولم يعن البيت فيقول: «إليه» فنحن، واللَّه، دعوة إبراهيم- عليه السّلام- الّتي  من هوانا قلبه قبلت حجّته، وإلّا فلا، يا قتادة. [فإذا كان كذلك، كان آمنا من عذاب جهنّم يوم القيامة.

قال قتادة:]  لا جرم، واللَّه، لا فسّرتها إلّا هكذا.

فقال أبو جعفر- عليه السّلام-: ويحك، يا قتادة، إنّما يعرف القرآن من خوطب به.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى محمّد بن صالح الهمدانيّ قال: كتبت إلى صاحب الزّمان- عليه السّلام-: [إنّ أهل بيتي‏]  يؤذونني ويقرّعونني بالحديث الّذي روي عن آبائك- عليهم السّلام-. إنّهم قالوا: خدّامنا وقوّامنا شرار خلق اللَّه.

فكتب- عليه السّلام-: ويحكم، أما تقرءون  ما قال اللَّه- عزّ وجلّ-: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً نحن، واللَّه، القرى الّتي بارك اللَّه فيها. وأنتم أقرى الظّاهرة.

قال عبد اللَّه بن جعفر: وحدّثنا بهذا الحديث عليّ بن محمّد الكلينيّ، عن حمّد بن صالح، عن صاحب الزّمان- صلوات اللَّه عليه.فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا: أشروا النّعمة، كبني إسرائيل. فسألوا اللَّه أن يجعل بينهم وبين الشّأم مفاوز، ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرّواحل وتزوّد الأزواد.

فأجابهم اللَّه  بتخريب القرى المتوسّطة.

و قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بعد ويعقوب: «باعد» بلفظ الخبر، على أنّه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطا في التّرفيه وعدم الاعتداد بما أنعم اللَّه عليهم فيه. ومثله قراءة من قرأ: «ربّنا بعدّ» و«بعد» على النّداء، وإسناد الفعل إلى «بين» .

وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ: حيث بطروا النّعمة، أو لم يعتدّوا بها.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب. عن جميل بن صالح، عن سدير قال: سأل رجل أبا عبد اللَّه- عليه السّلام- عن قول اللَّه- عزّ وجلّ-: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ (الآية.)

فقال: هؤلاء، قوم، كانت لهم قرى متّصلة ينظر بعضهم إلى بعض، وأنهار جارية وأموال ظاهرة. فكفروا بأنعم اللَّه- عزّ وجلّ- وغيّروا ما بأنفسهم من عافية  اللَّه، فغيّر اللَّه ما بهم من نعمة. وإِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ. فأرسل اللَّه عليهم سيل العرم، فغرّق قراهم وخرّب ديارهم وأذهب أموالهم، وأبدلهم مكان جنّاتهم جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْ‏ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ثمّ قال: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا، وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ.

و في روضة الكافي : محمّد بن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب ، عن جميل بن صالح، عن سدير قال: سأل رجل أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللَّه- عزّ وجلّ-: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ.

فقال: هؤلاء قوم، كانت لهم قرى متّصلة ينظر بعضهم إلى بعض وأنهار جارية وأموال ظاهرة. فكفروا بأنعم اللَّه وغيّروا ما بأنفسهم، فأرسل اللَّه- عزّ وجلّ- عليهم سيل‏

العرم. فغرّق قراهم وأخرب ديارهم [و أذهب بأموالهم.]  وأبدلهم مكان جنّاتهم جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْ‏ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ. ثمّ قال اللَّه- عزّ وجلّ-: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا، وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ.

و بإسناده إلى أبي عبد اللَّه- عليه السّلام - خطبة لأمير المؤمنين- عليه السّلام- وفيها يقول- عليه السّلام-: ووا أسفا من فعلا شيعتي من بعد قرب مودّتها اليوم كيف يستذلّ بعدي بعضهم  بعضا، [و كيف يقتل بعضهم  بعضا]  المتشتّتة غدا عن الأصل، النّازلة بالفرع، المؤمّلة الفتح من غير جهته، كلّ حزب منهم آخذ  بغصن أينما مال الغصن مال معه.

مع أنّ اللَّه- وله الحمد- سيجمع هؤلاء لشرّ يوم لبني أميّة، كما يجمع قرع الخريف يؤلّف اللَّه بينهم، ثمّ يجعلهم ركاما، كركام السّحاب ثمّ يفتح لهم أبوابا يسيلون من مستشارهم، كسيل الجنّتين سيل  العرم. حيث بعث عليه فأرة فلم يثبت عليه أكمة ولم يردّ سننه من طود.

يذعذعهم اللَّه في بطون أودية، ثمّ يسلكهم ينابيع في الأرض، يأخذ بهم من قوم حقوق قوم ويمكّن من قوم لديار  قوم، تشديدا لبني أميّة.

فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ: يتحدّث النّاس بهم تعجّبا. وضرب مثل، فيقولون: تفرّقوا أيدي سبأ.

وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ: فرّقناهم غاية التّفريق، حتّى لحق غسّان  منهم بالشّام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان.

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى أبي سعيد الخدريّ، عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام-: يا بلال، اصعد أبا قبيس فناد عليه: إنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- حرّم الجرّيّ والضّبّ والحمر الأهليّة، ألا فاتّقوا اللَّه ولا تأكلوا من السّمك إلّا ما كان له قشر ومع القشر فلوس. إنّ اللَّه- تبارك وتعالى- مسخ‏سبعمائة أمّة عصوا الأوصياء بعد الرّسل، فأخذ أربعمائة أمّة منهم برّا، وثلاثمائة منهم بحرا.

ثمّ تلا هذه الآية: فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ: عن المعاصي.

شَكُورٍ : على النّعم.

في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللَّه-: حدّثنا محمّد بن أحمد بن ثابت، عن القاسم بن إسماعيل، عن محمّد بن سنان، عن سماعة بن مهران، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ-: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.

قال: صَبَّارٍ على مودّتنا وعلى ما نزل به من شدّة أو رخاء، صبور على الأذى فينا.

شَكُورٍ للَّه على ولايتنا أهل البيت.

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ، أي: صدّق في ظنّه، أو صدّق يظنّ ظنّه، مثل:

فعلته جهدك.

و يجوز أن يعدّى الفعل إليه بنفسه، كما في صدق وعده. لأنّه نوع من القول. وشدّده الكوفيّون، بمعنى: حقّق ظنّه، أو وجده صادقا.

و قرئ، بنصب «إبليس» ورفع «الظّنّ» مع التّشديد ، بمعنى: وجده ظنّه صادقا.

و التخفيف، بمعنى: قال له ظنّه الصّدق حين خيله إغواءهم. وبرفعهما والتّخفيف، على الإبدال. وذلك إمّا ظنّه بسبإ حين رأى انهماكهم في الشّهوات، أو ببني آدم حين رأى ما ركّب فيهم من الشّهوات والغضب، أو سمع من الملائكة أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فقال:

لأضلّنّهم ولَأُغْوِيَنَّهُمْ.

فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ : إلّا فريقا هم المؤمنون لم يتّبعوه.

و تقليلهم بالإضافة إلى الكفّار، أو إِلَّا فَرِيقاً من فرق المؤمنين لم يتّبعوه في العصيان وهم المخلصون.

و في روضة الكافي : محمّد بن يحيى، عن أحمد بن سليمان، عن عبد اللَّه بن محمّد

 اليمانيّ، عن [عبد اللَّه بن‏]  مسمع بن الحجّاج، عن صباح الحذّاء، عن صباح المزنيّ، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: لمّا أخذ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم- بيد علي- عليه السّلام- يوم الغدير، صرخ إبليس في جنوده صرخة فلم يبق منهم في برّ ولا بحر إلّا أتاه.

فقالوا: يا سيّدهم ومولاهم ، ما ذا دهاك، فما سمعنا لك صرخة أوحش من صرختك هذه؟

فقال لهم: فعل هذا النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- فعلا إن ثم لم يعص اللَّه أبدا.

فقالوا: يا سيّدهم، أنت كنت لآدم.

فلمّا قال المنافقون: إنّه ينطق عن الهوى. وقال أحدهما لصاحبه: أما ترى عينيه تدوران في رأسه كأنّه مجنون، يعنون: رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- صرخ إبليس صرخة بطرب فجمع أولياء ، فقال: أما علمتم أنّي كنت لآدم من قبل؟

قالوا: نعم.

قال: آدم نقض العهد ولم يكفر بالرّبّ، وهؤلاء نقضوا العهد وكفروا بالرسول- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-.

 [و فلمّا قبض رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-]  وأقام النّاس غير عليّ، لبس إبليس تاج الملك ونصب منبرا وقعد في الوثبة  وجمع خليله  ورجله ثمّ قال لهم: اطربوالا يطاع اللَّه حتّى يقوم الإمام.

و تلا أبو جعفر- عليه السّلام-: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

قال أبو جعفر- عليه السّلام-: كان تأويل هذه الآية لمّا قبض رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-. والظّنّ من إبليس حين قالوا الرسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلم-: إنّه ينطق عن الهوى. فظنّ بهم إبليس ظنّا فصدّقوا ظنّه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن ابن سنان، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: لمّا أمر اللَّه نبيّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- أن ينصب أمير المؤمنين- عليه السّلام- للنّاس في قوله : يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في عليّ بغدير خمّ، فقال: من كنت مولاه، فعليّ مولاه.

فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر ، وحثّوا التّراب على رؤوسهم.

فقال لهم إبليس: ما لكم؟

قالوا: إنّ هذا الرّجل قد عقد اليوم عقدة لا يحلّها شي‏ء إلى يوم القيامة.

فقال لهم إبليس: كلّا، إنّ الّذين حوله قد وعدوني فيه عدة  لن يخلفوني. فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ- على رسول اللَّه: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ (الآية).

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللَّه-: حدّثنا الحسين بن أحمد المالكيّ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد، عن أبي فضّال ، عن عبد الصّمد بن بشير، عن عطيّة العوفيّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- لمّا أخذ بيد عليّ- عليه السّلام- بغدير خمّ فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، كان إبليس حاضرا بعفاريته.

فقالت له- حيث قال: من كنت مولاه، فعليّ مولاه-: واللَّه، ما هكذا قلت لنا، لقد أخبرتنا إنّ هذا إذا مضى افترق  أصحابه، وهذا أمر مستقرّ كلّما أراد أن يذهب واحدبدر آخر.

فقال: افترقوا، فإن أصحابه قد وعدوني أن لا يقرّوا له بشي‏ء ممّا قال. وهو قوله- عزّ وجلّ-: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ: تسلّط واستيلاء بوسوسة واستغواء إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ: إلّا يتعلّق علمنا بذلك تعلّقا يترتّب عليه الجزاء، أو ليتميّز المؤمن من الشّاكّ. والمراد من حصول العلم، حصول متعلّقه مبالغة.

وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ » محافظ. والزّنتان متآخيتان.

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، اي: زعمتموهم آلهة.

و هما مفعولا «زعم». حذف الأوّل لطول الموصول بصلته، والثّاني لقيام صفته مقامه. ولا يجوز أن يكون «هو» مفعوله الثّاني، لأنّه لا يلتئم مع الضّمير كلاما. ولا «لا يملكون» لأنّهم لا يزعمونه مِنْ دُونِ اللَّهِ.

و المعنى: ادعوهم فيما يهمّكم من جلب نفع أو دفع ضرّ لعلّهم يستجيبون لكم إن صحّ دعواكم.

ثمّ أجاب عنهم إشعارا بتعيّن الجواب وأنّه لا يقبل المكابرة، فقال: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ: من خير أو شرّ.

فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ: في أمرنا . وذكرهما، للعموم العرفيّ. أو لأنّ آلهتهم بعضها سماويّة، كالملائكة والكواكب، وبعضها أرضيّة، كالأصنام. أو لأنّ الأسباب القريبة للخير والشّرّ سماويّة وأرضيّة. والجملة استئناف لبيان حالهم.

وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ: من شركة، لا خلقا ولا ملكا.

وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ  يعينه على تدبير أمرهما.

وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ: ولا تنفعهم شفاعة أيضا، كما يزعمون. إذ لا تنفع الشّفاعة عند اللَّه.إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ: أن يشفع، أو أذن أن يشفع له لعلوّ شأنه. ولم يثبت ذلك.

و اللّام على الأوّل، كاللّام في قولك: الكرم لزيد. والثّاني، كاللّام في: جئتك لزيد.

و قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي، بضمّ الهمزة .

حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ: غاية لمفهوم الكلام من أنّ ثمّة توقّفا وانتظارا للإذن، أي يتربّصون فزعين، حتّى إذا كشف الفزع عن قلوب، الشّافعين والمشفوع لهم بالإذن.

و قيل : الضّمير للملائكة، وقد تقدّم ذكرهم ضمنا.

و قرأ ابن عامر ويعقوب: «فزّع» على البناء للفاعل. وقرئ: «فرغ»، أي: نفي الوجل من فرغ الزّاد إذا فني  قالُوا: بعضهم لبعض.

ما ذا قالَ رَبُّكُمْ: في الشّفاعة.

قالُوا الْحَقَّ: قالوا: قال القول الحقّ. وهو الإذن بالشّفاعة لمن ارتضى، وهم المؤمنون.

و قرئ، بالرّفع، أي: مقوله الحقّ .

وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ : ذو العلوّ والكبرياء. ليس لملك ولا نبيّ أن يتكلّم ذلك اليوم  إلّا بإذنه.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : في قوله- عزّ وجلّ-: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ قال: لا يشفع أحد من أنبياء اللَّه ورسله يوم القيامة [حتّى يأذن اللَّه له. إلّا رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وآله وسلم- فإنّ اللّه- تعالى- قد أذن له في الشّفاعة من قبل يوم القيامة]»

 فالشّفاعة له وللأئمّة- عليهم السّلام- ثمّ بعد ذلك للأنبياء- عليهم السّلام-.

قال : حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن أبي العبّاس المكبّر دخل مولى لا امرأة عليّ بن الحسين- عليه السّلام- يقال له: أبو أيمن.فقال له: يا أبا جعفر، تغرّون النّاس وتقولون: شفاعة محمّد شفاعة محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- فغضب أبو جعفر- عليه السّلام- حتّى تربّد  وجهه. ثمّ قال له: ويحك يا أبا أيمن، أغرّك أن عفّ بطنك وفرجك. أما لو قد رأيت أفزاع يوم القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-. ويلك، وهل يشفع إلّا لمن وجبت له النّار .

ثمّ قال: ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- يوم القيامة.

ثمّ قال أبو جعفر- عليه السّلام-: إنّ لرسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- الشّفاعة [في أمّته، ولنا الشّفاعة في شيعتنا، ولشيعتنا الشفاعة  في أهاليهم.

ثمّ قال: وإنّ المؤمن ليشفع في مثل ربيعة وحضر. وإنّ المؤمن ليشفع حتّى لخادمه، ويقول: يا ربّ، حقّ خدمتي، كان يقيني: الحرّ والبرد.

و في  رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر] - عليه السّلام- في قوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ، قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وذلك أنّ أهل السّماوات لم يسمعوا وحيا فيما بين أن بعث عيسى بن مريم إلى أن بعث اللَّه محمّدا- صلّى اللَّه عليه وآله.

فلمّا بعث اللَّه جبرائيل- عليه السّلام- إلى محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم - أهل السّماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصّفا، فصعق أهل السّماوات. فلمّا فرغ من الوحي انحدر جبرائيل- عليه السّلام- [كلّما مرّ  بأهل سماء فزّع عن قلوبهم، يقول: كشف عن قلوبهم. فقال بعضهم للبعض: ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ‏]  وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.

و في شرح الآيات الباهرة : قال عليّ بن إبراهيم- رحمه اللَّه-: روي عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- أنّه قال: لا تقبل الشّفاعة يوم القيامة لأحد من الأنبياء والرّسل حتّى يأذن له في الشّفاعة، إلّا رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- فإنّ اللَّه قد أذن له في‏الشّفاعة من قبل يوم القيامة . فالشّفاعة له ولأمير المؤمنين وللأئمّة من ولده- عليهم السّلام-. ثمّ بعد ذلك للأنبياء- عليهم السّلام-.

و روى- أيضا - عن أبيه، عن عليّ بن مهران، عن زرعة، عن سماعة قال: سألت أبا عبد اللَّه- عليه السلام- عن شفاعة النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله- يوم القيامة.

قال: يحشر النّاس يوم القيامة في صعيد واحد، فيلجمهم  العرق. فيقولون: انطلقوا بنا إلى- عليه السّلام- ليشفع  لنا. فيأتون آدم فيقولون له: اشفع لنا عند ربّك.

فيقول: إنّ لي ذنبا وخطيئة [فأستحي  من ربّي، فعليكم بنوح.

فيأتون نوحا، فيردّهم إلى من يليه، ويردّهم كلّ نبي إلى من يليه من الأنبياء،]  حتّى ينتهوا إلى عيسى.

فيقول: عليكم بمحمّد.

فيأتون محمّدا، فيعرضون أنفسهم عليه ويسألونه أن يشفع لهم.

فيقول لهم: انطلقوا بنا.

فينطلقون حتّى يأتي باب الجنّة، فيستقبل وجه الرّحمن  سبحانه ويخرّ ساجدا، فيمكث ما شاء اللَّه.

فيقول [اللَّه‏]  له: ارفع رأسك، يا محمّد، واشفع تشفّع وسل تعط. فيشفع فيهم.

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: يريد به تقرير قوله: لا يَمْلِكُونَ.

قُلِ اللَّهُ: إذ لا جواب له سواه. وفيه إشعار بأنّهم إن سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإلزام، فهم مقرّون به بقلوبهم.

وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، أي: وإنّ أحد الفريقين من الموحدّين المتوحّد بالرّزق والقدرة الذاتيّة بالعبادة والمشركين به الجماد النّازل في أدنى المراتب الإمكانيّة، لعلى أحد الأمرين من الهدى والضّلال المبين. وهو بعد ما تقدّم من‏التقرير البليغ الدّالّ على من هو على الهدى ومن هو في ضلال أبلغ من التّصريح، لأنّه في صورة الإنصاف المسكت للخصم المشاغب.

و اختلاف الحرفين، لأنّ الهادي، كمن صعد ضارا ينظر الأشياء ويتطلّع عليها، أو ركب جوادا يركضه حيث يشاء. والضّالّ، كأنّه منغمس في ظلام  من قبل أنّه لا يرى شيئا، أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصّى  منها.

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللَّه- عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- كلام طويل. وفيه: وأمّا قولكم «أنّي شككت في نفسي حيث قلت للحكمين: انظرا، فإن كان معاوية أحقّ بها منّي فأثبتاه .» فإنّ ذلك لم يكن شكّا منيّ، ولكنّي أنصفت بالقول.

قال اللَّه: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. ولم يكن ذلك شكّا، وقد علم اللَّه أنّ نبيّه على الحقّ.

قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ : هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ في الإخباث، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين.

قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا: يوم القيامة.

ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ: يحكم ويفصل. بأن يدخل  المحقّين الجنّة والمبطلين النّار.

وَ هُوَ الْفَتَّاحُ: الحاكم الفيصل في القضايا المنغلقة.

الْعَلِيمُ : بما ينبغي أن يقضي به.

قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ: لأرى بأيّ صفة ألحقتموهم باللَّه في استحقاق العبادة. وهو استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجّة عليهم، زيادة في تبكيتهم.

كَلَّا: ردع لهم عن المشاركة، بعد إبطال المقايسة. بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ : الموصوف بالغلبة وكمال القدرة. والضّمير «للَّه» أو للشّأن.

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ: إلّا إرسالة  عامّة لهم. من الكفّ، فإنّها إذا عمّتهم فقد كفّتهم أن يخرج منها أحد. أو إلّا جامعا لهم في الإبلاغ. فهي حال من الكافّ.

و التّاء للمبالغة. ولا يجوز جعلها حالا من «النّاس» على المختار.و في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا عليّ بن جعفر قال: حدّثني محمّد بن عبد اللَّه الطّائيّ قال: حدّثنا محمّد بن أبي عمير قال: حدّثنا حفص الكنانيّ قال: سمعت أبا عبد اللَّه بن بكير الأرجانيّ  قال: قال لي الصّادق جعفر بن محمّد- صلوات اللَّه عليهما-: أخبرني عن الرّسول- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- كان عامّا للنّاس بشيرا، أليس قد قال اللَّه- عزّ وجلّ : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ لأهل الشّرق والغرب وأهل السّماء والأرض من الجنّ والإنس، هل بلّغ رسالته إليهم كلّهم؟

 [قلت: لا أدري.

قال: يا ابن بكير، إنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- لم يخرج من المدينة، فكيف أبلغ أهل الشّرق والغرب؟]  قلت: لا أدري.

قال: إنّ اللَّه- تعالى- أمر جبرائيل فاقتلع الأرض بريشة من جناحه ونصبها لرسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- فكانت بين يديه مثل راحته في كفّه، ينظر أهل الشّرق والغرب، ويخاطب كلّ قوم بألسنتهم ويدعوهم إلى اللَّه- عزّ وجلّ- وإلى نبوّته بنفسه، فما بقيت قرية ولا مدينة إلّا ودعاهم النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- بنفسه.

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر، وعدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن إبراهيم بن محمّد الثّقفيّ، عن محمّد بن مروان جميعا، عن أبان بن عثمان، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: إنّ اللَّه- تبارك وتعالى- أعطى محمّدا- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى- إلى أن قال-: وأرسله كافّة إلى الأبيض والأسود والجنّ والإنس.

و في كتاب الخصال : عن أبي أمامة قال: قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله‏

 

و سلّم-: فضّلت بأربع خصال : جعلت لي  الأرض مسجدا- إلى قوله: وأرسلت إلى النّاس كافّة.

و في مجمع البيان : عن ابن عبّاس، عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: أعطيت خمسا ولا أقول فخرا، بعثت إلى الأحمر والأصفر . (الحديث.)

و في روضة الواعظين ، للمفيد- رحمه اللَّه-: قال عليّ بن الحسين- عليه السّلام-: سئل أبو طالب : سلّه ، أرسله اللَّه إلينا خاصّة أم إلى النّاس كافّة؟

فقال أبو طالب: يا ابن أخ، إلى النّاس كافّة أرسلت أم إلى قومك خاصّة؟

قال: لا، بل إلى النّاس أرسلت كافّة، الأبيض والأسود  والعزليّ والعجميّ.

و الّذي نفسي بيده، لأدعونّ إلى هذا الأمر الأبيض والأسود ومن على رؤوس الجبال ومن في لجج البحار، ولأدعونّ ألسنة فارس والرّوم.

و في كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة ، بإسناده إلى أبي حمزة الثّماليّ: عن أبي جعفر  الباقر- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه: وإنّ الأنبياء بعثوا خاصّة وعامّة: فأمّا نوح، فإنّه أرسل إلى من في الأرض بنبوّة عامّة ورسالة عامّة. أو أمّا هود، فإنّه أرسل [إلى عاد]  بنبوّة خاصّة. وأمّا صالح، فإنّه أرسل إلى ثمود، وهي قرية واحدة لا تكمل أربعين بيتا على ساحل البحر صغيرة. وأمّا شعيب، فإنّه أرسل إلى مدين، وهي لا تكمل أربعين بيتا. وأمّا إبراهيم نبوّته بكوثا، وهي قرية من قرى السّواد فيها بدأ أوّل أمره ثمّ هاجر منها وليست بهجرة. فقال في ذلك  قوله- عزّ وجلّ-: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي ... سَيَهْدِينِ . وكانت هجرةإبراهيم بغير قتال. وأمّا إسحاق، فكانت نبوّته بعد إبراهيم.

و أمّا يعقوب، فكانت نبوّته بأرض كنعان، ثمّ هبط إلى أرض مصر فتوفّي فيها، ثمّ حمل بعد ذلك جسده حتّى دفن بأرض كنعان. والرّؤيا الّتي رأى يوسف الأحد عشر كوكبا والشّمس والقمر له ساجدين، فكانت نبوّته في أرض مصر بدؤها، ثمّ أنّ اللَّه- تبارك وتعالى- أرسل الأسباط اثني عشر بعد يوسف. ثمّ موسى وهارون إلى فرعون وملائه إلى أرض  مصر وحدها. ثمّ أنّ اللَّه- تبارك وتعالى- أرسل يوشع بن نون إلى بني إسرائيل من بعد موسى، فنبّوته بدؤها في البرّيّة الّتي تاه فيها بنو إسرائيل. ثمّ كانت أنبياء كثيرون، منهم من قصّه اللَّه- عزّ وجلّ- على محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- ومنهم من لم يقصصه على محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-. ثمّ إنّ اللَّه- عزّ وجلّ- أرسل عيسى إلى بني إسرائيل خاصّة، وكانت نبوّته ببيت المقدس وكان من بعده الحواريّون اثنا عشر. يزل الإيمان يستتر  في بقية أهله منذ رفع اللَّه عيسى- عليه السّلام-. ثمّ أرسل اللَّه محمّدا- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- إلى الجنّ والإنس عامّة، وكان خاتم الأنبياء.

و بإسناده إلى محمّد بن الفضيل ، عن أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ [الباقر-]  عليه السّلام- حديث طويل. وفيه يقول- عليه السّلام-: فمكث نوح- عليه السّلام- [في قومه‏]  ألف سنة إلّا خمسين عاما، لم يشاركه في نبوّته أحد.

و في روضة الكافي  عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمّد بن الفضل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر- عليه السّلام- مثل ما نقلنا من كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة أخيرا سواء.

 

بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ : فيحملهم جهلهم على مخالفتك.

وَ يَقُولُونَ: من فرط جهلهم.

مَتى هذَا الْوَعْدُ: يعني: المبشّر به والمنذر عنه. أو الموعود بقوله :يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ : يخاطبون به رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- والمؤمنين.

قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ: وعد يوم، أو زمان وعد. فإضافته إلى «يوم» للتّبيين.

و يؤيّده أنّه قرئ: «يوم» على البدل. وقرئ: «يوما» بإضمار أعني .

لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ : إذا جاءكم. وهو جواب تهديد، جاء مطابقا لما قصدوه بسؤالهم من التّعنّت والإنكار.

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: ولا بما تقدّمه من الكتب الدّالّة على النّعت.

قيل : إنّ كفّار مكّة سألوا أهل الكتاب عن رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-. فأخبروهم أنّهم يجدون نعته في كتبهم. فغضبوا وقالوا ذلك.

و قيل : الّذي بين يديه يوم القيامة.

وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، أي: في موضع المحاسبة.

يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ: يتحاورون ويراجعون القول.

يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا: يقول الابتاع.

لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: للرّؤساء.

لَوْ لا أَنْتُمْ: إضلالكم وصدّكم إيّانا عن الإيمان.

لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ : باتّباع الرّسول.

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ : أنكروا أنّهم كانوا صادّين لهم عن الإيمان، وأثبتوا أنّهم هم الّذين صدوا أنفسهم حيث أعرضوا عن الهدى وآثروا التّقليد عليه. ولذلك بنوا الإنكار على الاسم.

وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ: إضراب عن إضرابهم، أي: لم يكن إجرامنا الصّادّ، بل مكركم لنا دائما ليلا ونهارا حتّى أغرتم علينارأينا.

إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً:

و إضافة المكر إلى الظّرف على الاتّساع.

و قرئ: «مكر اللّيل» بالنّصب على المصدر. ومكر اللّيل، بالتّنوين ونصب الظّرف. ومكر اللّيل، من الكرور .

وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ: وأضمر الفريقان النّدامة على الضّلال والإضلال، وأخفاها كلّ، عن صاحبه مخافة التّعيير. أو أظهروها. فإنّه من الأضداد. إذا الهمزة تصلح للإثبات والسّلب، كما في: أشكيته.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ قال: يسرّون النّدامة في النّار إذا رأوا وليّ اللَّه.

فقيل: يا رسول اللَّه، وما يغنيهم إسرارهم النّدامة وهم في العذاب؟

قال: يكرهون شماتة الأعداء.

وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا: [، أي: في أعناقهم.]  فجاء بالظّاهر، تنويها بذمّهم، وإشعارا بموجب أغلالهم.

هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ، أي: لا يفعل بهم ما يفعل إلّا جزاء على أعمالهم.

و تعدية «يجزي» إمّا لتضمين معنى: يقضي. أو بنزع الخافض.

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها: تسلية لرسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- ممّا مني به من قومه.

و تخصيص المتنعّمين بالتّكذيب، لأنّ الدّاعي إليه التّكبّر والمفاخرة بزخارف الدّنيا والانهماك في الشّهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها. ولذلك ضمّوا التّهكّم والتّفاخر إلى التّكذيب فقالوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ : مقابلة الجمع بالجمع.

وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً: فنحن أولى بما تدعونه إن أمكن.

وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ : إمّا لأنّ العذاب لا يكون. أو لأنّه أكرمنا بذلك، فلايهيننا بالعذاب.

و في نهج البلاغة : وأمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا:

نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. فإن كان لا بدّ من العصبيّة، فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، الّتي تفاضلت فيها المجداء والنّجداء  من بيوتات العرب ويعاسيب  القبائل بالأخلاق الرّغيبة  والأحلام  العظيمة والأخطار الجليلة والآثار المحمودة.

قُلْ: ردّ لحسبانهم.

إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ: ولذلك يختلف فيه الأشخاص المتماثلة في الخصائص والصّفات. ولو كان ذلك لكرامة وهوان يوجبانه، لم يكن بمشيئته. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ : فيظنّون أنّ كثرة الأموال والأولاد، للشّرف والكرامة. وكثيرا ما يكون للاستدراج كما قال: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى: قربة.

و «الّتي» إمّا لأنّ المراد: وما جماعة أموالكم والأولاد. أو لأنّها صفة محذوف، كالتّقوى والخصلة.

و قرئ: «بالّذي»، أي: بالشّي‏ء الّذي يقرّبكم .

إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً: استثناء من مفعول «تقرّبكم»، أي: الأموال والأولاد لا تقرّب أحدا، إلّا المؤمن الصّالح الّذي ينفق ماله في سبيل اللَّه ويعلّم ولده الخير ويربّيه على الصّلاح. أو من «أموالكم وأولادكم» على حذف المضاف، أي: أموال وأولاد من آمن وعمل صالحا.

فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ، أي: يتجاوز  الضّعف إلى عشر فما فوقه. والأصل إضافة المصدر إلى المفعول.و قرئ، بالإعمال على الأصل. وعن يعقوب، دفعهما على إبدال الضّعف . ونصب الجزاء على التّمييز أو المصدر، لفعله الّذي دلّ عليه «لهم».

بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ : من المكاره.

و قرئ، بفتح الرّاء وسكونها .

و قرأ حمزة: «في الغرفة» على إرادة الجنس .

و في كتاب علل الشّرائع ، بإسناده إلى أبي بصير قال: ذكرنا عند أبي جعفر- عليه السّلام- من الأغنياء من الشّيعة، فكأنّه كره ما سمع منّا فيهم.

قال: يا أبا محمّد، إذا كان المؤمن غنيّا رحيما وصولا له معروف إلى أصحابه، أعطاه اللَّه أجر ما ينفق في البرّ أجره مرّتين ضعفين. لأنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول في كتابه: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وذكر رجل عند أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- الأغنياء ووقع فيهم.

فقال أبو عبد اللَّه- عليه السّلام- اسكت، فإنّ الغنيّ إذا كان وصولا لرحمه  بارّا بإخوانه، أضعف اللَّه له الأجر ضعفين. لأنّ اللَّه يقول: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ.

و في أمالي شيخ الطّائفة- قدّس سرّه -، بإسناده إلى أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل. يقول فيه- عليه السّلام-: حتّى إذا كان يوم القيامة حسب لهم [حسناتهم‏]  ثمّ أعطاهم بكلّ واحدة عشر  أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال اللَّه- عزّ وجلّ -: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً. وقال:فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ.

وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا: بالرّدّ والطّعن فيها.

مُعاجِزِينَ: سابقين لأنبيائنا. أو ظانّين أنّهم يفوتوننا.

أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ  قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ: يوسّع عليه تارة ويضيّق عليه أخرى. فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين، وما سبق في شخصين. فلا تكرير.

وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ: عوضا. إمّا عاجلا أو آجلا.

وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ : فإنّ غيره وسط في إيصال رزقه، لا حقيقة لرازقيّته.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقوله- عزّ وجلّ-: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.

قال:

فإنّه حدّثني أبي، عن حمّاد، عن حريز، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: إنّ الرّبّ- تبارك وتعالى- ينزل أمره في كلّ ليلة جمعة إلى السّماء الدّنيا من أوّل اللّيل، وفي كلّ ليلة في الثّلث الأخير، وأمامه ملك ينادي: هل من تائب يتاب عليه، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل فيعطى سؤله ؟ اللّهمّ، أعط كلّ منفق خلفا، وكلّ ممسك تلفا. إلى أن يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد أمر الرّبّ- تبارك وتعالى- إلى عرشه، فيقسّم الأرزاق بين العباد.

ثمّ قال للفضيل بن يسار: يا فضيل، نصيبك من ذلك، وهو قول اللَّه: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ إلى قوله: أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ .

و في أصول الكافي : عليّ بن إبراهيم [، عن أبيه،]  عن عثمان بن عيسى، عمّن حدّثه، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: قلت: آيتين في كتاب اللَّه أطلبهما ولا أجدهما.

قال: وما هما؟قلت: قول اللَّه- عزّ وجلّ -: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إلى أن قال: ثمّ قال: وما الآية الاخرى؟

قلت: قول اللَّه- عزّ وجلّ-: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.

و إنّي أنفق ولا أرى خلفا.

قال: أفترى اللَّه- عزّ وجلّ- أخلف وعده؟

قلت: لا.

قال: فممّ ذلك؟

قلت: لا أدري.

قال: لو أنّ أحدكم أكتسب المال من حلّة [و أنفقه في حلّه،]  لم ينفق درهما إلّا أخلف عليه.

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى  [، عن عثمان بن عيسى،]  عن يحيى، عن أبي عبد الّله- عليه السّلام- قال: قال أمير المؤمنين- عليه السّلام-: من بسط يده بالمعروف إذا وجده، يخلف اللَّه له ما أنفق في دنياه ويضاعف له في آخرته.

و الحديثان طويلان أخذت منهما موضع الحاجة.

و في من لا يحضره الفقيه ، بإسناده إلى أبان [بن عثمان‏]  الأحمر، عن الصّادق جعفر بن محمّد- عليهما السلام- أنّه جاء إليه رجل فقال له: بأبي أنت وأمّي [يا بن رسول اللَّه،]  عظني  موعظة.

فقال- عليه السّلام-: فإن كان الحساب حقّا، فالجمع لما ذا. وإن كان الخلف من اللَّه- عزّ وجلّ- حقّا، فالبخل لما ذا؟ (الحديث).

و في الكافي : عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن النّوفليّ، عن السكونيّ، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: من صدّق‏بالخلف، جاد بالعطيّة.

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى ، عن عليّ بن الحكم، عن موسى بن راشد، عن سماعة، عن أبي الحسن- عليه السّلام- قال: قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-: من أيقن بالخلف، سخت نفسه بالنّفقة.

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن عثمان بن عيسى، عن بعض من حدّثه، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: قال رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم - في كلام له: ومن بسط يده بالمعروف إذا وجده، يخلف اللَّه له ما أنفق في دنياه ويضاعف له في آخرته.

عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى، عن عمر بن أذينة رفعه إلى أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- أو أبي جعفر- عليه السّلام- قال: ينزل اللَّه المعونة من السّماء إلى العبد بقدر المؤنة، فمن أيقن بالخلف سخت نفسه بالنّفقة.

أحمد بن محمّد، عن أبيه ، عن الحسين بن أيمن، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: قال: يا حسين، أنفق وأيقن بالخلف من اللَّه. فإنّه لم يبخل عبد ولا أمة بنفقة فيما يرضى اللَّه- عزّ وجلّ- إلا أنفق أضعافها فيما يسخط اللَّه.

محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين ، عن صفوان بن يحيى، عن أبي الحسن الرّضا- عليه السّلام- قال: دخل عليه مولى له.

فقال له: هل أنفقت اليوم شيئا؟

فقال: لا، واللَّه.

فقال أو الحسن [الرّضا] - عليه السّلام-: فمن أين يخلف اللَّه علينا؟

عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن عيسى  وأحمد بن محمّد بن خالد جميعا، عن الحسن بن محبوب، عن إبراهيم بن مهزم، عن رجل، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: إنّ الشّمس لتطلع ومعها أربعة أملاك، ملك ينادي: يا صاحب الخير، أتمّ وأبشر.و ملك ينادي: يا صاحب الشّرّ، أنزع  وأقصر. وملك ينادي: أعط منفقا خلفا وآت ممسكا تلفا. وملك ينضحها  بالماء. ولو لا ذلك، اشتعلت  الأرض.

محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن سنان، عن معاية بن وهب، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: من يضمن أربعة بأربعة أبيات في الجنّة: أنفق ولا تخلف فقرا، وأنصف النّاس من نفسك، وأفش السّلام في العالم، واترك المراء وإن كنت محقّا.

و في مجمع البيان : عن جابر، عن النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- قال: كلّ معروف صدقة، وما وقى الرّجل به عرضه فهو صدقة، وما أنفق المؤمن من نفقة فعلى اللَّه خلفها ضامنا إلّا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية.

و عن أبي أمامة  قال: إنّكم تأوّلون هذه الآية في غير تأويلها وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وقد سمعت رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- وإلّا فصمّتا يقول: إيّاكم والسّرف في المال والنّفقة، وعليكم بالاقتصاد.

فما افتقر قوم قطّ اقتصدوا.

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً: المستكبرين والمستضعفين.

ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ : تعريضا للمشركين، وتبكيتا لهم، وإقناطا عمّا يتوقّعون من شفاعتهم.

و تخصيص الملائكة، لأنّهم أشرف شركائهم والصّالحون للخطاب، ولأنّ عبادتهم مبدأ الشّرك وأصله.

و قرأ حفص، بالياء، فيهما .

قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ: أنت الّذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم، كأنّهم بيّنوا بذلك براءتهم عن الرّضا بعبادتهم، ثمّ أضربوا عن ذلك ونفوا أنّهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، أي: الشّياطين، حيث أطاعوهم في عبادة غير اللَّه.

و قيل : كانوا يتمثّلون لهم ويخيّلون إليهم أنّهم الملائكة، فيعبدونهم.

أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ :

الضّمير الأوّل للإنس، أو للمشركين. و«الأكثر» بمعنى: الكلّ. والثّاني للجنّ.

فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا: إذ الأمر فيه كلّه له. لأنّ الدّار دار جزاء، وهو المجازي وحده.

وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ : عطف على «يملك» مبيّن للمقصود من تمهيده.

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا، يعنون: محمّدا- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-.

إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ: فيستتبعكم بما يستبدعه.

وَ قالُوا ما هذا، يعنون: القرآن.

إِلَّا إِفْكٌ: لعدم مطابقة ما فيه الواقع.

مُفْتَرىً: بإضافته إلى اللَّه- سبحانه-.

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ: لأمر النّبوة، أو للإسلام، أو للقرآن.

و الأوّل باعتبار معناه، وهذا باعتبار لفظه وإعجازه.

إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ : ظاهر سحريّته.

و في تكرير الفعل والتّصريح بذكر الكفرة وما في «اللّامين» من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه وما في «لمّا» من المبادهة إلى البتّ تمهيدا للقول، إنكار عظيم له وتعجيب بليغ منه.

وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها: وفيها دليل على صحّة الإشراك.

وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ : يدعوهم إليه وينذرهم على تركه. وقد بان من قبل أن لا وجه له، فمن أين وقع لهم هذه الشّبهة. وهذا في غاية التّجهيل  لهم والتّسفيه لرأيهم.

ثمّ هدّدهم فقال: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: كما كذّبوا.

وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ: وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوّة وطول‏العمر وكثرة المال. أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البيّنات والهدى.

فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ : فحين كذّبوا رسلي، جاءهم إنكاري بالتّدمير فكيف كان نكيري لهم. فليحذر هؤلاء من مثله. ولا تكرير في «كذّب»، لأنّ الأوّل للتّكثير والثّاني للتكذيب. أو الأوّل مطلق والثّاني مقيّد، ولذلك عطف عليه بالفاء.

في تفسير عليّ بن إبراهيم : حدّثنا عليّ بن الحسين قال: حدّثنا أحمد بن عبد اللَّه ، عن عليّ بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن حسّان، عن هشام بن عمّار يرفعه في قوله: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ.

قال: كذّب الّذين من قبلهم رسلهم، وما بلغ ما آتينا رسلهم معشار ما آتينا محمّدا وآل محمّد- عليه السّلام-.

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ: رشدكم وأنصح لكم. بخصلة واحدة. وهي ما دلّ عليه: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ.

قيل : وهو القيام من مجلس رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-. أو الانتصاب في الأمر خالصا لوجه اللَّه، معرضا عن المراء والتّقليد.

و محلّه الجرّ، على البدل أو البيان. والرّفع والنّصب، بإضمار «هو» أو «أعني».

مَثْنى وَفُرادى: متفرّقين اثنين، وواحدا واحدا. فإنّ الإزدحام يشوّش الخاطر ويخط القول.

و في تفسير علىّ بن إبراهيم : حدّثنا جعفر بن أحمد قال: حدّثنا عبد الكريم بن عبد الرّحيم، عن محمّد بن عليّ، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة الثّماليّ قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قوله- تعالى-: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ [بِواحِدَةٍ قال: إنّما أعظكم‏]  بولاية عليّ- عليه السّلام-. هي الواحدة الّتي قال اللَّه- تبارك وتعالى -.و في أصول الكافي : الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن الوشّاء، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قوله- تعالى-: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ [بِواحِدَةٍ.

فقال: إنّما أعظكم‏]  بولاية عليّ- عليه السّلام-. هي الواحدة الّتي قال اللَّه- تبارك وتعالى-: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ.

و في كتاب الاحتجاج ، للطّبرسيّ- رحمه اللَّه- عن أمير المؤمنين- عليه السّلام- حديث طويل. وفيه: وأمّا قوله: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ فإنّ اللَّه- جلّ ذكره- نزّل عزائم  الشّرائع وآيات الفرائض في أوقات مختلفة، فكان أوّل ما قيّدهم به الإقرار بالوحدانيّة والرّبوبيّة والشّهادة بأن لا إله إلّا اللَّه. فلمّا أقرّوا بذلك تلاه بالإقرار لنبيّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- بالنّبوّة والشّهادة له بالرّسالة. فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصّلاة، ثمّ الصّوم، ثمّ الحجّ، ثمّ الجهاد، ثمّ الزّكاة، ثمّ الصّدقات وما يجري مجراها من مال الفي‏ء.

فقال المنافقون: هل بقي لربّك علينا- بعد الّذي فرض علينا- شي‏ء آخر يفترضه فتذكره، لتسكن أنفسنا إلى أنّه لم يبق غيره؟

فأنزل اللَّه في ذلك: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ، يعني: الولاية. [فأنزل اللَّه  إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.]

 

و في كتاب المناقب  لابن شهر آشوب، عن الباقر والصّادق- عليهما السلام- في قوله- تعالى-: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ قال: الولاية: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى قال: الأئمّة من  ذرّيّتهما.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللَّه-: حدّثنا أحمد بن محمّد النّوفليّ، عن يعقوب بن يزيد، عن أبي عبد اللَّه- عليه السّلام- قال: سألته عن قول‏اللَّه- عزّ وجلّ-: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى قال: بالولاية.

قلت: وكيف ذاك؟

قال: إنّه لمّا نصّب النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- أمير المؤمنين- عليه السّلام- للنّاس فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اغتابه رجل وقال: إنّ محمّدا ليدعو كلّ يوم إلى أمر جديد، وقد بدأ بأهل بيته يملّكهم رقابنا. فأنزل اللَّه- عزّ وجلّ- على نبيّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- بذلك قرآنا، فقال له: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ فقد أدّيت إليكم ما افترض ربّكم عليكم.

قلت: فما معنى قوله- عزّ وجلّ-: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى؟

فقال: أمّا مثنى، يعني: طاعة رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- وطاعة أمير المؤمنين- عليه السّلام-. وأمّا فرادى، فيعني: طاعة الإمام من ذرّيّتهما من بعدهما. ولا، واللَّه يا يعقوب، ما عنى غير ذلك.

و روى الشّيخ محمد بن يعقوب- رحمه اللَّه - عن الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن الوشّاء، عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة الثّماليّ قال: سألت أبا جعفر- عليه السّلام- عن قول اللَّه- عزّ وجلّ: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ.

فقال: إنّما أعظكم [بولاية  عليّ- عليه السّلام-. هي الواحدة الّتي قال اللَّه- عزّ وجلّ-: إِنَّما أَعِظُكُمْ‏]  بِواحِدَةٍ.

ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا: في أمر محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- وما جاء به، لتعلموا حقيقته.

ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ: فتعلموا ما به جنون يحمله على ذلك.

و قيل : «ما» استفهاميّة. والمعنى: ثمّ تتفكّروا أيّ شي‏ء به من آثار الجنون.

إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ : قدامه. وهو عذاب يوم القيامة.قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ:

قيل : أيّ شي‏ء سألتكم من أجر على الرّسالة فَهُوَ لَكُمْ.

و المراد نفي السّؤال. فإنّه جعل الشّي‏ء مستلزما لأحد الأمرين، إمّا الجنون، وإمّا توقّع نفع دنيويّ عليه. لأنّه إمّا أن يكون لغرض، أو غيره. وأيّا ما كان، يلزم أحدهما. ثمّ نفى كلّا منهما.

و قيل : «ما» موصولة. مراد بها: ما سألهم، بقوله : ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا. وقوله : لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى.

و اتّخاذ السّبيل ينفعهم. وقرباه قرباهم.

و في روضة الكافي : علىّ بن محمّد، عن عليّ بن العبّاس، عن علىّ بن حمّاد، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قول اللَّه- عزّ وجلّ-»

-: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً.

قال: من تولّى الأوصياء من آل محمّد واتّبع آثارهم، فذاك يزيده ولاية من مضى من النّبيّين والمؤمنين الأوّلين حتّى تصل ولايتهم إلى آدم- عليه السّلام-. وهو قول اللَّه- عزّ وجلّ -: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها تدخله  الجنّة. وهو قول اللَّه- عزّ وجلّ-:

قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ يقول: أجر المودّة الّتي أسألكم غيره، فهو لكم تهتدون به وتنجون من عذاب يوم القيامة.

و الحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

و في مجمع البيان : قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إلى قوله: وقال الماورديّ:

معناه: أنّ أجر ما دعوتكم إليه من إجابتي وذخره هو لكم دوني. وهو المرويّ عن أبي جعفر- عليه السّلام-.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر- عليه السّلام-

 في قوله: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ وذلك أنّ رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- سأل قومه أن يودّوا أقاربه ولا يؤذهم. وأمّا قوله: فَهُوَ لَكُمْ يقول: ثوابه لكم‏

إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ : مطّلع، يعلم صدقي وخلوص نيّتي.

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ: يلقيه وينزله على من يجتبيه من عباده. أو يرمي به الباطل، فيدمغه. أو يرمي به إلى أقطار الآفاق، فيكون وعدا بإظهار الإسلام وإفشائه.

عَلَّامُ الْغُيُوبِ : صفة محمولة على «إنّ واسمها». أو بدل المستكنّ في «يقذف». أو خبر ثان. أو خبر محذوف.

و قرئ، بالنّصب، صفة «لربّي». أو مقدّر «بأعني ».

و «الغيوب» بالكسر، كالبيوت. وبالضّمّ، كالعشور. وبالفتح، كالصّيود. على أنه مبالغة غائب.

قُلْ جاءَ الْحَقُّ، أي: الإسلام.

وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ :

قيل : وزهق الباطل، أي: الشّرك، بحيث لم يبق له أثر. مأخوذ من هلاك الحيّ، فإنّه إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة.

و قيل : «الباطل» إبليس، أو الصّنم. والمعنى: لا ينشئ خلقا ولا يعيده أو لا يبدئ خيرا لأهله ولا يعيده.

و قيل : «ما» استفهاميّة، منتصبة  بما بعدها.

و في الكافي : عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد بن عثمان قال:

 

أو لم إسماعيل.

فقال له أبو عبد اللَّه- عليه السّلام-: عليك بالمساكين، فأشبعهم. فإنّ اللَّه- عزّ وجلّ- يقول: وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ.

و في مجمع البيان : قال ابن مسعود: دخل رسول اللَّه- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-مكّة، وحول البيت ثلاثمائة وستّون صنما. فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً  جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ.

و في أمالي شيخ الطّائفة- قدّس سرّه -، بإسناده إلى عليّ بن موسى، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد [، عن أبيه،]  عن آبائه- عليهم السّلام- مثل ما نقلنا عن مجمع البيان.

 

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ: عن الحقّ.

فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي: فإنّ وبال ضلالي عليها، فإنّه بسببها، إذ هي الجاهلة بالذّات والأمّارة بالسّوء. وبهذا الاعتبار قابل الشّرطيّة بقوله: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي: فإنّ الاهتداء بهدايته وتوفيقه.

إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ : يدرك قول كلّ ضالّ ومهتد وفعله وإن أخافه.

وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا: عند الموت، أو البعث، أو يوم بدر. وجواب «لو» محذوف، مثل: لرأيته فضيعا.

فَلا فَوْتَ: فلا يفوتون اللَّه بهرب أو تحصّن.

وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ  من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من الموقف إلى النّار، أو من صحراء بدر إلى القليب.

و العطف على «فزعوا». أو «لا فوت»، ويؤيّده أنّه قرئ: «و أخذ» عطفا على محلّه، أي: فلا فوت هناك وهناك أخذوا .

وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ: بمحمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-. وقد مرّ ذكره في قوله: ما بِصاحِبِكُمْ.

و في مجمع البيان  وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ.

 

قال أبو حمزة الثّماليّ: سمعت عليّ بن الحسين و[الحسن بن‏]  الحسن بن عليّ- عليهم السّلام- يقولان: هو جيش البيداء، يؤخذون من تحت أقدامهم.

و روي عن حذيفة بن اليمان : أنّ النّبيّ- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- ذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب.قال: فبينما هم كذلك، يخرج عليهم السّفيانيّ من الوادي اليابس في فور ذلك حتّى ينزل دمشق. فيبعث جيشين: جيشا إلى المشرق، وآخر إلى المدينة حتّى ينزلوا بأرض بابل  من المدينة الملعونة، يعني: بغداد. فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف، ويفضحون أكثر من مائة امرأة، ويقتلون فيها ثلاثمائة [كبش من بني العبّاس، ثمّ ينحدرون إلى الكوفة، فيخرّبون ما حولها. ثمّ يخرجون متوجّهين إلى الشّام، فتخرج راية هدى من الكوفة]  فتلحق ذلك الجيش فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر، ويستنقذون ما في أيديهم من السّبي والغنائم. ويحلّ الجيش الثّاني بالمدينة، فينهبونها ثلاثة أيّام بلياليها. ثمّ يخرجون متوجّهين إلى مكّة، حتّى إذا كانوا بالبيداء بعث اللَّه- عزّ وجلّ- جبرائيل. فيقول: يا جبرائيل، اذهب فأبدهم. فيضربها برجله ضربة يخسف اللَّه بهم عندها. ولا يفلت منهم إلّا رجلان من جهنية، فلذلك جاء القول: وعند جهينة الخبر اليقين. فلذلك قوله: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا (إلى آخره.) أورده الثّعلبيّ في تفسيره.

و روى أصحابنا في أحاديث المهديّ عن أبي جعفر وأبي عبد اللَّه- عليهما السّلام- مثله.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم : وقال عليّ بن إبراهيم- رحمه اللَّه- في قوله: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ: فإنّه‏

حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن أبي خالد الكابليّ قال: قال أبو جعفر- عليه السّلام-: واللَّه، لكأنّي أنظر إلى القائم وقد أسند ظهره إلى الحجر ثمّ ينشد اللَّه حقّه.

ثمّ يقول: يا أيّها النّاس، من يحاجّني في اللَّه فأنا أولى باللَّه. أيّها النّاس، من يحاجّني في آدم- عليه السّلام- فأنا أولى بآدم. أيّها النّاس، من يحاجّني في نوح فأنا أولى بنوح. أيّها النّاس، من يحاجّني في إبراهيم. أيّها النّاس، من يحاجّني في موسى فأنا أولى بموسى. أيّها النّاس، من يحاجّني في عيسى فأنا أولى بعيسى. أيّها النّاس، من يحاجّني في محمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم- فأنا أولى بمحمّد. أيّها النّاس، من يحاجّني في كتاب اللَّه فأنا أولى بكتاب اللَّه.

ثمّ ينتهي إلى المقام، فيصلّي ركعتين وينشد اللَّه حقّه.ثمّ قال أبو جعفر- عليه السّلام-: هو، واللَّه، المضطرّ في كتاب اللَّه في قوله : أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ. فيكون أوّل من يبايعه جبرائيل- عليه السّلام- ثمّ الثّلاثمائة والثّلاثة عشر رجلا. فمن كان ابتلى بالمسير وافاه، ومن لم يبتل بالمسير فقد عن فراشه. وهو قول أمير المؤمنين- عليه السّلام-: هم المفقودون عن فرشهم. وذلك قول اللَّه :اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً

 قال:

خَيْراتِ الولاية. وقال في موضع آخر : وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ وهم واللَّه أصحاب القائم- عليه السّلام- يجتمعون واللَّه إليه في ساعة واحدة. فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السّفيانيّ، فيأمر اللَّه- عزّ وجلّ- الأرض فتأخذ بأقدامهم. وهو قوله- عزّ وجلّ-: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ، يعني:

بالقائم من آل محمّد- صلوات اللَّه عليهم-.

و في رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- في قوله- عزّ وجلّ-: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ قال: من الصّوت، وذلك الصّوت من السّماء. وقوله- عزّ وجلّ-:

وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قال: من تحت أقدامهم خسف بهم.

و في شرح الآيات الباهرة : قال محمّد بن العبّاس- رحمه اللَّه- حدّثنا محمّد بن الحسن بن على بن  الصّباح المدائنيّ، عن الحسن بن محمّد بن شعيب، عن موسى بن عمر بن زيد ، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي خالد الكابليّ، عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: يخرج القائم- عليه السّلام- فيسير حتّى يمرّ بمزّ ، فيبلغه أنّ عامله  قد قتل، فيرجع إليهم فيقتل المقاتلة ولا يزيد على ذلك شيئا. ثمّ ينطلق فيدعو النّاس حتّى ينتهي إلى البيداء، فيخرج جيشان للسّفيانيّ، فيأمر اللَّه- عزّ وجلّ- الأرض أن تأخذ بأقدامهم. وهو قوله- عزّ وجلّ-: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ، يعني: بقيام القائم وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، يعني‏بقيام القائم من  آل محمّد- صلوات اللَّه عليهم.

وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ: ومن أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا؟

مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ : فإنّه في حيّز التّكليف وقد بعد عنهم أوانه. تمثيل حالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم، بحال من يريد أن يتناول الشّي‏ء من غلوة تناوله من ذراع في الاستحالة.

و قرأ أبو عمرو والكوفيّون غير حفص، بالهمزة، على قلب الواو لضمّتها. أو لأنّه من نأشت الشّي‏ء: إذا طلبته: أو من نأشت: إذا تأخّرت. فيكون بمعنى التّناول من بعد .

وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ:

قيل  بمحمّد- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-. أو بالعذاب.

مِنْ قَبْلُ: ذلك، أوان التّكليف.

وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ:

قيل : ويرجمون بما لم يظهر لهم في الرّسول- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-. [من المطاعن. أو في العذاب، من البتّ على نفيه.

مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ : من أمره. وهو الشّبه الّتي تمحّلوها في أمر الرّسول- صلّى اللَّه عليه وآله وسلّم-.]  أو حال الآخرة، كما حكاه من قبل. ولعلّه تمثيل لحالهم في ذلك، بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظّنّ في لحوقه.

و قرئ: «و يقذفون» على أنّ الشّيطان يلقي إليهم ويلقّنهم ذلك .

و العطف على وَقَدْ كَفَرُوا على حكاية الحال الماضية. أو على «قالوا» فيكون تمثيلا لحالهم، بحال القاذف في تحصيل ما ضيّعوه من الإيمان في الدّنيا وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ: من نفع الإيمان والنّجاة.

و قرأ ابن عامر والكسائيّ، بإشمام الضّمّة للحاء .

كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ: من كفرة الأمم الدّارجة.

إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ : موقع في الرّيبة، أو ذي الرّيبة منقول من المشكّك، أو الشّاكّ، نعت به الشّكّ للمبالغة.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم  [و قوله- عزّ وجلّ-:]  وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ. [إلى قوله:]  وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ، يعني: أن [لا]  يعذّبوا كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ، يعني: من كان قبلهم من المكذّبين هلكوا. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ.

أخبرنا الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد ، عن محمّد بن جمهور، عن ابن محبوب، عن أبي حمزة قال: سألت  أبا جعفر- عليه السّلام- عن قوله- عزّ وجلّ-: وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال: إنّهم طلبوا الهدى من حيث لا ينال، وقد كان لهم مبذولا من حيث ينال.