أعيان النجاسات

قال تعالى :   وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ  ([1]) .

وقال [  تعالى ] :   إنَّ اللّه‏َ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ  ([2]) .

تطلق النجاسة في اللغة على سوء السريرة ، وقبح الأعمال ، وعند الفقهاء هي القذارة الماديّة التي يجب إزالتها لأجل الصلاة أو الطواف الواجب ، وهي أنواع :

______________

[1] المدّثّر : 4 .

[2] البقرة : 222 .

 

 

1 ـ  البول  :

سئل الإمام  عليه‏السلام عن الثوب أو الجسد يصيبه البول ؟ قال : « اغسله مرّتين »([1]) .

وهذا محلّ وفاق بين الفقهاء .

______________

[1] انظر الوسائل 3 : 395 ، ب1 من أبواب النجاسات .

 

 

2 ـ  الغائط  :

سئل الإمام  عليه‏السلام عن الدقيق يصيب فيه خرء الفأر هل يجوز أكله ؟ قال : «  إذا بقي منه شيء فلا بأس ، يؤخذ أعلاه »([1]) .

وهذا محلّ وفاق أيضاً على شريطة أن يكون البول والغائط من إنسان أو حيوان غير مأكول اللحم ، وله دم سائل ، وهو الدم الّذي يجتمع في العروق ، ويخرج عند قطعها بقوّة ودفق . وقد ثبت عن الإمام الصادق  عليه‏السلام أ نّه قال : « اغسل ثوبك من بول ما لا يؤكل لحمه »([2]) . و« لا تغسل ثوبك من بول شيء يؤكل لحمه »([3]) .

وقال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه : ( إنّ نجاسة البول والعذرة من الإنسان وبعض صنوف الحيوانات كالهرّة والكلب ونحوهما كادت تكون ضروريّة ـ كطهارة الماء ـ فلا ينبغي إطالة الكلام بذكر الأخبار الخاصّة المتضافرة الدالّة على نجاستهما )([4]) .

حكم رجيع ] الطيور  :

قال الإمام الصادق  عليه‏السلام : « كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله »([5]) . أي أنّ كلّ طائر وإن كان غير مأكول اللحم فبوله وخرؤه طاهران .

وربّ قائل : إنّ هذه الرواية الدالّة على طهارة فضلات كلّ طائر ، حتّى ولو كان غير مأكول اللحم كالخفّاش تتنافى مع الرواية المتقدّمة الدالّة على نجاسة فضلات غير مأكول اللحم ولو كان طائراً كالخفّاش ، ومع هذا التعارض فبأيّ الروايتين نأخذ ؟

الجواب  :

نأخذ برواية الطهارة ، دون رواية النجاسة ، ونحكم بطهارة فضلات الطائر ولو كان غير مأكول ؛ لأنّ رواية النجاسة منصرفة إلى الحيوان غير الطائر ، وعلى هذا فلا تعارض ، ومع افتراض عدم الإنصراف وتعارض الروايتين بالفعل فنقدّم رواية الطهارة ؛ لأ نّها أقوى سنداً ، ومع افتراض التساوي والتكافؤ بالسند فعلى القول بالتخيير بين المتعارضين نختار رواية الطهارة ، وعلى القول بالتساقط بينهما نرجع إلى عموم « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أ نّه قذر » .

في ] الحيوان الجلاّل والموطوء  :

قال الإمام الصادق  عليه‏السلام : « لا تأكلوا من لحوم الجلاّلات ، وإن أصابك من عرقها فاغسله »([6]) . والحيوان الجلاّل هو الّذي جلّ علفه العذرة .

وعنه [  عليه‏السلام] أيضاً : « أنّ أمير المؤمنين  عليه‏السلام سئل عن البهيمة التي تُنكح ؟ فقال : حرام لحمها وكذلك لبنها »([7]) .

الحيوان الّذي يؤكل لحمه شرعاً ، منه ما اعتاد الناس أكله ـ كالجمال والبقروالجاموس والغنم والماعز ـ ومنه ما لم يعتادوا أكله مع العلم بأ نّه حلال ـ كالخيل والحمير والبغال ـ فقد ترك الناس في القديم أكلها ؛ لأ نّها من أهمّ وسائل النقل ، وخافوا أن يؤدّي أكلها إلى إفنائها أو ندرتها ، فتحدث الأزمة .

وأيّ حيوان جاز أكله شرعاً من هذين القسمين إذا أكل العذرة واشتدّ لحمه منها حتّى صار جلاّلاً يحرم أكله ، إلى أن يترك أكلها ، ويأكل علفاً طيّباً أمداً يبرأ فيه من الجلل ويذهب هذا الاسم عنه ؛ لأنّ الأحكام تابعة للأسماء . . . وكذلك يحرم لحم الحيوان إذا وطأه إنسان ، ومتى حرم أكل الحيوان بسبب الجلل أو وط‏ء الإنسان ينجس بوله وخرؤه ، ولا يحلّ شرب لبنه .

__________________

[1] الوسائل 3 : 406 ، ب8 من أبواب النجاسات ، ح6 .

[2] الوسائل 3 : 405 ، ب8 من أبواب النجاسات ، ح2 ، 3 .

[3] الوسائل 3 : 407 ، ب9 من أبواب النجاسات ، ح4 .

[4] مصباح الفقيه 7 : 9 .

[5] الوسائل 3 : 412 ، ب10 من أبواب النجاسات ، ح1 .

[6] الوسائل 3 : 423 ، ب15 من أبواب النجاسات ، ح1 .

[7] الوسائل 24 : 170 ، ب30 من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح3 .

 

 

3 ـ  المني  :

سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن المني يصيب الثوب ؟ فقال : « إن عرفت مكانه فاغسله ، وإن خفي عليك مكانه فاغسله كلّه »([1]) .

اتّفق الفقهاء على نجاسة المني من كلّ ما له دم سائل ، سواء أكان مأكول اللحم أو غيره . أمّا ما لا دم سائل له فمنيّه طاهر كدمه .

في ] المذي والودي  :

سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن المذي يصيب الثوب ؟ قال : « لا بأس به »([2]) .

المذي ماء أبيض لزج ، يخرج عند الملاعبة ، أو التفكّر في الجماع ، وقد لا يشعر الإنسان بخروجه أمّا الودي فيخرج بعد البول ، وكلاهما طاهر .

__________

[1] الوسائل 3 : 425 ، ب16 من أبواب النجاسات ، ح6 .

[2] الوسائل 3 : 427 ، ب17 من أبواب النجاسات ، ح5 .

 

 

4 ـ  الدم  :

قال الإمام  عليه‏السلام : « إن أصاب ثوب الرجل الدم فيصلّي فيه وهو لا يعلم فلا إعادة ، وإن هو علم قبل أن يصلّي فنسي وصلّى فيه فعليه الإعادة »([1]) .

وسئل عن دم البراغيث ؟ قال [  عليه‏السلام] : « ليس به بأس » ، قال السائل : إنّه يكثر ويتفاحش ، قال : « وإن كثر »([2]) .

كلّ حيوان له نفس سائلة فدمه نجس ، سواء أكان مأكول اللحم أو غير مأكول ، قليلاً كان الدم أو كثيراً ، وبهذا وبما تقدّم يتبيّن معنى أنّ مأكول اللحم بوله وخرؤه طاهران ، أمّا دمه فنجس بالإتّفاق .

وللفقهاء هنا كلام طويل وعريض ، ويتلخّص : هل هنالك أصل شرعي يدلّ على أنّ الدم من حيث هو محكوم بالنجاسة إلاّ ما أخرجه الدليل ـ كدم ما لا نفس سائلة له ، والدم المتخلّف في الذبيحة ، بحيث نرجع إلى هذا الأصل ، ونحكم بنجاسة كلّ دم شككنا في طهارته ونجاسته ـ أو لا وجود لهذا الأصل من الأساس ؟

ذهب أكثر الفقهاء إلى نفيه ، وعدم وجوده .

وقال البعض بوجوده مستدلاًّ بقول الإمام  عليه‏السلام : « كلّ شيء يتوضّأ به ممّا يشرب منه الطير إلاّ أن ترى في منقاره دماً »([3]) حيث حكم بنجاسة الدم ، مع الجهل بحقيقته .

واُجيب بأنّ هذا ليس بياناً لحكم الدم من حيث هو ، وإنّما هو بيان لحكم ما لا قاه الدم الّذي عُلمت نجاسته مسبقاً .

في الذبيحة  :

ذهب أكثر الفقهاء ـ وقيل : كلّهم ـ إلى أنّ الدم الّذي يبقى في الذبيحة بعد خروج المقدار المتعارف ، ذهبوا إلى أنّ هذا الدم طاهر ، واستدلّوا بنفي الحرج ، ولم أطّلع على نصّ خاصّ في ذلك .

___________________

[1] الوسائل 3 : 476 ، ب40 من أبواب النجاسات ، ح7 .

[2] الوسائل 3 : 436 ، ب23 من أبواب النجاسات ، ح1 .

[3] الوسائل 3 : 528 ، ب82 من أبواب النجاسات ، ح2 .

 

 

5 ـ  الميتة  :

قال الإمام  عليه‏السلام عن البئر تقع فيها الميتة : « إن كان لها ريح نُزح منها عشرون دلواً »([1]) .

وسئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه يموت في البئر والزيت والسمن ؟ قال [  عليه‏السلام] : « كلّ ما ليس له دم فلا بأس »([2]) .

وفي رواية اُخرى : « لا يُفسد الماء إلاّ ما كانت له نفس سائلة »([3]) .

اتّفق الفقهاء على أنّ كلّ ميّت له دم سائل فهو نجس ، حيواناً كان أو إنساناً قبل الغسل ، ولجت الروح فيه ثمّ خرجت منه أو لم تلجه أصلاً كالسقط .

وكلّ ما لا دم سائل له ـ كالحيّة والجراد والذباب ـ فميتته طاهرة . وكذلك ما لا يخالطه الدم من أجزاء الميتة النجسة ـ كالشعر والقرن والظفر والريش والصوف والعظم ـ فإنّه طاهر إلاّ ما كان من نجس العين ـ كالكلب والخنزير ـ فقد ثبت عن الإمام الصادق  عليه‏السلام أ نّه قال : « لا بأس بالصلاة فيما كان من صوف الميتة ، أنّ الصوف ليس فيه روح »([4]) فإنّ قوله [  عليه‏السلام] : « ليس فيه روح » تعليل وتبرير لطهارة كلّ ما لا تحلّه الحياة من أجزاء الميتة .

أمّا العضو المقطوع من جسم حي فللفقهاء فيه قولان : أحدهما الطهارة ؛ للأصل ، والآخر النجاسة ؛ للاحتياط . وبديهة أنّ الاحتياط ليس بدليل شرعي . ولذا قال صاحب المدارك : ( إنّ غاية ما يستفاد من الأخبار نجاسة جسد الميّت ، وهو لا يصدق على الأجزاء قطعاً )([5]) .

في ] الأنفحة وفأرة المسك  :

سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن الأنفحة تخرج من الجدي الميّت ؟ قال : « لا بأس » . وعن اللبن يكون في ضرع الشاة وقد ماتت ؟ قال : « لا بأس »([6]) .

وسئل ولده الكاظم  عليه‏السلام عن فأرة المسك تكون مع المصلّي وهي في جيبه أو ثيابه ؟ قال : « لا بأس بذلك »([7]) .

والأنفحة معدة الجدي حال ارتضاعه ، وتصير كرشاً بعد أن يأكل العلف والنبات ، وتصلح لعمل الجبن ، وتسمّى مجبنة عند عوام العراق ، ومسوة في جبل عامل . أمّا فأرة المسك فجلدة في الظبي ، فيها دم طيّب الرائحة . ولهاتين الروايتين وغيرهما قال الفقهاء بطهارة هذه الفأرة وطهارة الأنفحة وإن استخرجتا من ميّت ، وبطهارة اللبن الموجود في ضرع حيوان ميّت ، رغم ملاصقته لأجزاء الميتة النجسة ، على شريطة أن يكون الحيوان مأكول اللحم .

في ] يد المسلم  :

سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن الخفّ يباع في السوق ؟ قال : « اشتر وصلّ فيه حتّى تعلم أ نّه ميتة بعينه »([8]) .

وأيضاً سئل عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكي هي ، أيصلّي فيها ؟ قال [  عليه‏السلام] : « نعم ، ليس عليكم المسألة ، إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إنّ الدين أوسع من ذلك »([9]) .

ولذا أفتى الفقهاء بطهارة اللحوم والجلود التي عليها يد مسلم أو اُخذت من سوق ٍ الكلّ أو الجلّ فيه من المسلمين ، وكذلك حكموا بطهارة ما وجد من اللحوم والجلود مطروحاً في أرض الإسلام وطرقهم ، على شريطة أن يكون عليها أثر الاستعمال .

وقال السيّد الحكيم في الجزء الأوّل من المستمسك ( مسألة نجاسة الميتة ) قال : لك أن تأخذ الجلود من يد المسلم ، حتّى ولو علمت أ نّه أخذها من غير المسلم ، وهذه عبارته بالحرف : ( ولو كانت يد المسلم مسبوقة بيد الكافر ـ كما في الجلود المجلوبة في هذه الأزمنة من بلاد الكفّار ـ فالظاهر كونها ـ أي يد المسلم ـ أمارة أيضاً ـ أي على التذكية ـ قال كاشف الغطاء : وما يؤتى به من بلاد الكفّار كالبرتغال لا بأس به إذا اُخذ من أيدي المسلمين . وقال صاحب الجواهر : يستفاد من النصوص طهارة ما يؤخذ من يد المسلم ، وإن علم سبقها بيد الكافر ) . ثمّ قال السيّد الحكيم : ( وما ذكره صاحب الجواهر من الاستفادة في محلّه )([10]) .

في ] القيح والقيء  :

سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن الدمل يكون بالرجل فينفجر وهو في الصلاة ؟ قال : « يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ، ولا يقطع الصلاة »([11]) .

وسئل عن الرجل يتقيّأ في ثوبه أيجوز أن يصلّي فيه ولا يغسله ؟ قال  عليه‏السلام : « لا بأس به »([12]) .

وبهذا أفتى الفقهاء كافّة .

_____________________

[1] الوسائل 1 : 195 ، ب22 من أبواب الماء المطلق ، ح1 .

[2] الوسائل 1 : 241 ، ب10 من أبواب الأسآر ، ح1 .

[3] الوسائل 1 : 241 ، ب10 من أبواب الأسآر ، ح2 .

[4] الوسائل 3 : 513 ، ب68 من أبواب النجاسات ، ح1 .

[5] المدارك 2 : 272 .

[6] الوسائل 24 : 182 ، ب33 من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح10 .

[7] الوسائل 4 : 433 ، ب41 من أبواب لباس المصلّي ، ح1 .

[8] الوسائل 3 : 490 ، ب50 من أبواب النجاسات ، ح2 .

[9] الوسائل 3 : 491 ، ب50 من أبواب النجاسات ، ح3 .

[10] المستمسك 1 : 330 .

[11] الوسائل 3 : 435 ، ب22 من أبواب النجاسات ، ح8 .

[12] الوسائل 3 : 488 ، ب48 من أبواب النجاسات ، ح1 .

 

 

6 و 7 ـ  الكلب والخنزير  :

سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن الكلب ؟ قال : « رجس نجس لا يتوضّأ بفضله ، واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء »([1]) .

وسئل ولده الإمام الكاظم  عليه‏السلام عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به ؟ قال : « يغسل سبع مرّات »([2]) .

وبهذا أفتى الفقهاء ، ولم يستثنوا من الحكم بالنجاسة ما لا تحلّه الحياة من أجزاء الكلب والخنزير ، كالشعر والعظم وما إليهما .

أجل ، تختصّ النجاسة بالكلب والخنزير البرّيين دون البحريّين ؛ لإنصراف الأدلّة عنهما .

_______________

[1] الوسائل 3 : 415 ، ب12 من أبواب النجاسات ، ح2 .

[2] الوسائل 1 : 225 ، ب1 من أبواب الأسآر ، ح2 .

 

 

8 ـ  الخمر  :

روي عن الإمام الصادق  عليه‏السلام أ نّه قال : « إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله إن عرفت موضعه ، وإن لم تعرف موضعه فاغسله كلّه ، وإن صلّيت فيه فأعد صلاتك »([1]) .

المسكر منه مائع بحسب الأصل كالخمر والنبيذ ، ومنه جامد كالأفيون والحشيش ، وذهب جمهور الفقهاء إلى نجاسة الخمر ، وجميعهم إلى طهارة المسكر الجامد كالأفيون ، واختلفوا في نجاسة المسكر المائع ـ غير الخمر ـ كالنبيذ . فمن قائل بأ نّه نجس ؛ لأنّ اللّه‏ لم يحرّم الخمر لإسمها ، ولكن حرّمها لعاقبتها ، كما جاء في بعض أقوال الإمام([2]) ، وما كانت عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر . ومن قائل بأ نّه طاهر مع قوله بنجاسة الخمر لاختلاف الاسم ، والأحكام تتبع الأسماء ، لا الأسباب المستنبطة والعواقب . ومن القائلين بالطهارة نظريّاً السيّد الخوئي في التنقيح([3]) ، حيث لا دليل على النجاسة ، والقاعدة تقتضي الطهارة ، ومع ذلك حكم عمليّاً بالنجاسة من باب الاحتياط لمكان المشهور . ويلاحظ بأنّ الاحتياط والشهرة ليسا من الأدلّة الشرعيّة ، حتّى عند السيّد . ورحم اللّه‏ الشهيد الثاني ، حيث قال : ( العمل بخلاف ما عليه المشهور مشكل ، والأخذ بقولهم من دون دليل أشكل )([4]) .

في ] العنب إذا غلا  :

إتّفق الفقهاء على أنّ العنب إذا غلا يحرم شرب عصيره المغلي ، حتّى ولو لم يشتدّ ، وأ نّه يصير حلالاً بذهاب ثلثيه .

وقال صاحب المدارك : ( الحكم بنجاسة العصير المغلي من العنب مشهور عند المتأخّرين ، ولا نعلم مأخذه ـ أي لا دليل على النجاسة ـ وقد اعترف الشهيد([5]) في الذكرى والبيان بأ نّه لم يقف على دليل يدلّ على نجاسته ، وبأنّ القائل بالنجاسة قليل من الفقهاء . ومال الشهيد الثاني إلى الطهارة ، وقوّاها شيخنا المعاصر ، وهو المعتمد تمسّكاً بمقتضى الأصل السالم عن المعارض )([6]) .

ونحن لا نشكّ في أنّ القائل بالنجاسة ألحق هذا العصير بالخمر ، وبديهة أنّ الإلحاق قياس ، فتعيّنت الطهارة ؛ لأ نّها الأصل في جميع الأشياء ، حتّى يثبت العكس .

________________

[1] الوسائل 3 : 469 ، ب38 من أبواب النجاسات ، ح3 .

[2] الوسائل 25 : 342 ، ب9 من أبواب الأشربة المحرّمة ، ح1 ، 2 .

[3] التنقيح في شرح العروة الوثقى  الطهارة  3 : 88 ـ 94 .

[4] لم نعثر عليه بل وجدناه في المدارك 4 : 95 وغيره .

[5] في الطبعات السابقه « الشهيد الثاني » وهو خطأ .

[6] المدارك 2 : 292 ـ 293 .

 

 

9 ـ  الفقاع  :

سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن الفقاع ؟ فقال : « لا تشربه فإنّه خمر مجهول ، وإن أصاب ثوبك فاغسله »([1]) .

الفقاع شراب يتّخذ من الشعير ، قال صاحب المدارك : ( الحكم بنجاسته مشهور بين الأصحاب ـ أي الفقهاء ـ وبه رواية ضعيفة السند جدّاً )([2]) .

_______________

[1] الوسائل 3 : 469 ، ب38 من أبواب النجاسات ، ح5 .

[2] المدارك 2 : 293 .

 

 

10 ـ  عرق الجنب من الحرام  :

قال صاحب المدارك : ( اختلف الأصحاب في عرق الجنب من الحرام ، فذهب جماعة إلى نجاسته([1]) ، وعامّة المتأخّرين قالوا بالطهارة ، وهو المعتمد للأصل )([2]) .

وقال السيّد الحكيم في المستمسك : ( المنسوب إلى أكثر المتأخّرين بل المشهور بينهم الطهارة ، بل عن الحلّي دعوى الإجماع عليها ، وأنّ من قال بالنجاسة في كتاب رجع عنها في كتاب آخر )([3]) .

وبديهة أنّ كلّ ما شكّ في نجاسته فهو طاهر ، حتّى يحصل اليقين بالنجاسة ، ولم يحصل لنا هذا اليقين ، ولا ما أشبه .

_____________

[1] في المصدر : « فذهب الشيخان وأتباعهما وابن بابويه إلى نجاسته . . . » .

[2] المدارك 2 : 299 .

[3] المستمسك 1 : 435 .

 

 

11 ـ  أهل الكتاب  :

سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن مؤاكلة اليهود والنصارى ؟ قال : « لا بأس إذا كان من طعامك »([1]) .

وعن زكريا بن إبراهيم أ نّه قال : كنت نصرانيّاً فأسلمت فقلت للإمام الصادق  عليه‏السلام : إنّ أهل بيتي على دين النصرانيّة فأكون معهم في بيت واحد وآكل من آنيتهم ، فقال لي : « أيأكلون لحم الخنزير ؟ » قلت : لا ، قال : « لا بأس »([2]) .

وقيل للإمام الرضا  عليه‏السلام حفيد الإمام الصادق  عليه‏السلام : الجارية النصرانيّة تخدمك وأنت تعلم أ نّها نصرانيّة لا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة ، قال : « لا بأس تغسل يدها »([3]) . وهناك روايات اُخرى .

أجمع الفقهاء على نجاسة من أنكر الخالق جلّ وعلا ، وليس من شكّ أنّ الكلب والخنزير أشرف وأكرم من هذا ، وأنّ البول والعذرة أنقى منه وأطهر .

أمّا أهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى ومن اُلحق بهم كالمجوس ـ فللفقهاء قولان معروفان : أحدهما النجاسة وعليها الأكثر . والثاني الطهارة ، وإليها ذهب بعض من تقدّم ، وجماعة ممّن تأخّر ، منهم صاحب المدارك([4]) والسبزواري([5]) ، وآخرون متستّرون .

وأحدث القول بنجاسة أهل الكتاب مشكلة إجتماعيّة للشيعة ، حيث أوجد هوّة سحيقة عميقة بينهم وبين غيرهم ، وأوقعهم في ضيق وشدّة ، بخاصّة إذا سافروا إلى بلد مسيحي ـ كالغرب ـ أو كان فيه مسيحيّون ـ كلبنان ـ وبوجه أخصّ في هذا العصر الّذي أصبحت فيه الكرة الأرضيّة كالبيت الواحد ، تسكنه الاُسرة البشريّة جمعاء .

وليس من شكّ أنّ القول بالطهارة يتّفق مع مقاصد الشريعة الإسلاميّة السهلة السمحة ، وأنّ القائل بها لا يحتاج إلى دليل ؛ لأ نّها وفق الأصل الشرعي والعقلي والعرفي والطبيعي ، أمّا القائل بالنجاسة فعليه الإثبات .

وقد استدلّ باُمور :

الأوّل  : الإجماع  :

وجوابنا عنه أ نّه لا إجماع في مورد الخلاف ، ولو سلّمنا وجوده مماشاة ومن باب المسايرة فإنّ الإجماع إنّما يكون حجّة إذا كشف يقيناً عن رأي المعصوم  عليه‏السلام ، ونحن نعلم أو نحتمل أنّ المجمعين قد استندوا إلى بعض الأخبار ، أو إلى الاحتياط .

وبديهة أنّ العلم بالكشف عن رأي المعصوم لا يجتمع مع الاحتمال بأنّ المجمعين استندوا إلى الأخبار والاحتياط ، ومتى انتفى العلم بهذا الكشف عن الإجماع يكون وجوده وعدمه سواء .

الدليل الثاني ـ الّذي استدلّ به المجمعون على النجاسة ـ : الأخبار ، وهي صحيحة السند واضحة الدلالة .

وجوابنا عنها أ نّه يوجد إلى جانبها أخبار مضادّة أوضح دلالة وأكثر عدداً ، ولا تقلّ عنها سنداً ، فالأخذ بأخبار النجاسة دون أخبار الطهارة تقديم للضعيف على الأقوى ، وللأدنى على الأعلى .

ولو سلّمنا بالتساوي والتكافؤ بين أخبار الطهارة وأخبار النجاسة رجعنا إلى أصل الطهارة ، بناءً على القول بسقوط المتعارضين معاً ، واخترنا أخبار الطهارة ، بناءً على القول بالتخيير بينهما .

أمّا قول من قال : لا بدّ من الاحتياط ؛ لذهاب المشهور إلى النجاسة ، فجوابنا هو الجواب المكرور من أنّ الاحتياط حسن ، والشهرة قد تدعم وتؤيّد ، ولكنّهما ليسا من الأدلّة الأربعة .

وعليه فلا دليل على النجاسة من نصّ ولا إجماع ولا عقل .

وما زلت أذكر أنّ الاُستاذ قال في الدرس ما نصّه بالحرف : ( إنّ أهل الكتاب طاهرون علميّاً ـ أي نظريّاً ـ نجسون عمليّاً ) . وإنّي أجبته بالحرف أيضاً : ( هذا اعتراف صريح بأنّ الحكم بالنجاسة عمل بلا علم ) . فضحك الاُستاذ ورفاق الصف ، وانتهى كلّ شيء .

وقد عاصرت ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا والتقليد ، الأوّل كان في النجف الأشرف وهو الشيخ « محمد رضا آل ياسين » والثاني في قم وهو « السيّد صدر الدين الصدر » والثالث في لبنان وهو « السيّد محسن الأمين » وقد أفتوا جميعاً بالطهارة ، وأسرّوا بذلك إلى من يثقون به ، ولم يعلنوا خوفاً من المهوّشين ، على أنّ « ياسين » كان أجرأ الجميع . وأنا على يقين بأنّ كثيراً من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة ، ولكنّهم يخشون أهل الجهل ، واللّه‏ أحقّ أن يخشوه .

أجل ، من قال بالطهارة ذهب إلى النجاسة العرضيّة ، أي أنّ أهل الكتاب يطهّرون إذا تطهّروا بالماء ، تماماً كالمسلم إذا تنجّس بعض أعضائه ، واستند القائلبالنجاسة العرضيّة إلى الرواية المتقدّمة عن الإمام الرضا  عليه‏السلام : « انّ النصرانيّة تغسل يدها » وإلى صحيحة إسماعيل بن جابر التي جاء فيها : « انّ في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير »([6]) . وهذا تعليل صريح بأنّ السبب للاجتناب عن أهل الكتاب إنّما هو لمباشرتهم لما نعدّه نحن نجساً ، كالكلب والخنزير والخمر ، وما إلى ذاك .

وبالإجمال ، أنّ دين اللّه‏ أوسع من ذلك ، وأنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم ، فضيّق اللّه‏ عليهم ـ كما قال الإمام ـ وأنّ الإسلام كما هو دين الخير والعدل ، فإنّه دين اليسر والعقل . أمّا وجود بعض الأخبار في النجاسة فإنّ الأحاديث التي ترك علماء السنّة والشيعة العمل بها لا يبلغها الإحصاء ، وقد أجمع السنّة على طهارة أهل الكتاب ، مع العلم بأ نّهم رووا عن أبي ثعلبة الخشني أ نّه قال : قلت : يا رسول اللّه‏ إنّا

بأرض قوم أهل الكتاب أفنأكل من آنيتهم ؟ قال : « لا تأكلوا فيها إلاّ أن لا تجدوا غيرها ، فاغسلوها وكلوا فيها »([7]) .

فظاهر الحديث النجاسة حيث أمر بعدم الأكل في آنيتهم إلاّ لضرورة ، وحتّى مع وجود الضرورة أمرهم بغسلها ، ومع ذلك حملوها على محمل آخر .

وقد يقال : إنّ نجاسة أهل الكتاب شيء ، ونجاسة آنيتهم شيء آخر .

قلت : أجل ، ولكن ربّما يقال : إنّ نجاسة الآنية أشد ، ولذا من قال بنجاسة أهل الكتاب من فقهاء الشيعة أفتى بطهارة آنيتهم .

__________________________

[1] الوسائل 3 : 497 ، ب54 من أبواب النجاسات ، ح1 .

[2] الوسائل 3 : 517 ، ب72 من أبواب النجاسات ، ح1 .

[3] الوسائل 3 : 498 ، ب54 من أبواب النجاسات ، ح2 .

[4] المدارك 2 : 298 .

[5] الذخيرة : 151 .

[6] الوسائل 24 : 211 ، ب54 من أبواب الأطعمة المحرّمة ، ح4 .

[7] سنن ابن ماجة 2 : 1069 ، ح3207 .