القبلـة

قال تعالى :   فَوَلِّ وَجهَكَ شَطرَ المَسجِدِ الحَرَامِ وَحَيثُ مَا كُنتُم فَوَلُّوا وُجُوهَكُم شَطرَهُ  ([1]) .

وقال تعالى :   وَمِن حَيثُ خَرَجتَ فَوَلِّ وَجهَكَ شَطرَ المَسجِدِ الحَرَامِ  ([2]) .

وقال الإمام الصادق  عليه‏السلام : « إنّ للّه‏ عزّ وجلّ حرمات ثلاثاً ليس مثلهنّ شيء :

كتابه وهو حكمة ونور ، وبيته الّذي جعله قبلة للناس لا يقبل من أحد توجّهاً إلى غيره ، وعترة نبيّكم  صلى‏الله‏عليه‏و‏آله‏وسلم »([3]) .

وقال الإمام أبو جعفر  عليه‏السلام : « لا صلاة إلاّ إلى القبلة » ، فقيل له : أين حدّ القبلة ؟ قال : « ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه »([4]) .

الفقهاء  :

قال صاحب المدارك : ( المراد بالكعبة محلّ البناء من تخوم الأرض إلى عنان السماء ، فلو زالت البنية ـ والعياذ باللّه‏ ـ صلّى إلى جهتها ، كما يصلّي من هو أعلى موقفاً ، كجبل أبي قبيس أو أخفض كالمصلّي في سرداب تحت الكعبة ، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين العلماء ، ويدلّ عليه ظاهر الآية الشريفة ، وما جاء عن الإمام الصادق  عليه‏السلام من أنّ رجلاً قال له : صلّيت العصر فوق أبي قبيس فهل تجزي والكعبة تحتي ؟ قال : « نعم ، أ نّها قبلة من موضعها إلى السماء » )([5]) .

وأجمعوا كلمة واحدة على أنّ الكعبة بالمعنى المذكور هي قبلة القريب الّذي يتمكّن من استقبالها ويستطيع مشاهدة جدرانها ، فإنّه ـ والحال هذه ـ يستقبل أيّ جدار شاء . وكذلك من صلّى وسط الكعبة وداخل البيت([6]) ، أمّا البعيد فيصلّي إلى جهة الكعبة.

قال صاحب المدارك : ( إنّ فرض البعيد عن الكعبة أن يستقبل الجهة التي هي فيها ؛ لقوله تعالى :   فَوَلُّوا وُجُوهَكَم شَطرَهُ   والشطر لغةً الجهة والجانب والناحية ، ولقول الإمام  عليه‏السلام : « ما بين المشرق والمغرب قبلة كلّه » )([7]) ثمّ قال : ( إعلم أنّ للفقهاء اختلافاً كثيراً في تعريف الجهة ، ولا يكاد يسلم تعريف منها من الخلل )([8]) . وليس لهم دليل نقلي يصلح للاعتماد ، ولا عقلي يعوّل عليه ، والمستفاد من الأدلّة الشرعيّة هو الاكتفاء بالتوجّه إلى ما يصدق عليه عرفاً أ نّه الجهة والناحية ، والأخبار خالية عن التحديد مع شدّة الحاجة إلى معرفة هذه العلامات ، أمّا الإحالة على علم الهيئة فمستبعد جدّاً ؛ لأ نّه علم دقيق كثير المقدّمات ، والتكليف به لعامّة الناس بعيد عن قوانين الشرع .

وبالجملة : فالتكليف بذلك ممّا علم انتفاؤه ضرورة .

__________________

[1] البقرة : 144 .

[2] البقرة : 149 .

[3] الوسائل 4 : 300 ، ب2 من أبواب القبلة ، ح10 .

[4] الوسائل 4 : 300 ، ب2 من أبواب القبلة ، ح9 .

[5] المدارك 3 : 121 ـ 122 .

[6] يجوز للإنسان أن يصلّي نافلة في جوف الكعبة بالإتّفاق ، وكذلك اتفقوا على أنّ له أن يصلّي فريضة في حال الاضطرار ، واختلفوا في جواز الصلاة فريضة للمختار ، فذهب أكثر الفقهاء إلى الجواز على كراهة ، وقال البعض : بل تحرم ولا تجوز [ منه  قدس‏سره ] .

[7] المدارك 3 : 119 .

[8] المدارك 3 : 121 .

 

 

طريق المعرفة إلى القبلة  :

قال الإمام أبو جعفر  عليه‏السلام : « يجزي التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة »([1]) أي إذا جهل القبلة اجتهد وتحرّى لمعرفتها ، وأخذ ممّا أدّى إليه اجتهاده مهما كان.

وقال الإمام الصادق  عليه‏السلام في قوله تعالى :   فَوَلِّ وَجهَكَ شَطرَ المَسجِدِ الحَرَامِ   :

« إنّ معناه نحوه إن كان مرئيّاً ، وبالدلائل والأعلام إن كان محجوباً ، فلو علمت القبلة لوجب استقبالها والتولّي والتوجّه إليها ، وإذا لم يكن الدليل عليها موجوداً حتّى تستوي الجهات كلّها فله حينئذٍ أن يصلّي باجتهاده ، حيث أحبّ واختار حتّى يكون على الدلائل المنصوبة والعلامات المثبوتة ، فإن مال عن هذا التوجّه مع ما ذكرناه حتّى يجعل الشرق غرباً والغرب شرقاً زال معنى اجتهاده وفسد حال اعتقاده »([2]) .

الفقهاء  :

قرّروا في علم الأُصول ما هو معلوم ببديهة العقل من أنّ المكلّف إذا علم بأنّ شيئاً ما مطلوب منه وملزم به فعليه أن يفحص ويبحث عنه حتّى يحصل له العلم به بالذات ويؤدّيه كاملاً على وجهه ، ومن ترك الفحص والبحث كان كمن ترك الواجب المعلوم ، وإن عجز عن تحصيل العلم أخذ بظنّه([3]) حيث لا طريق إلى العلم ، وإن عجز عن تحصيل الظنّ قلّد سواه ، وإن لم يجد من هو أهل للتقليد عمل بالاحتياط مع الإمكان ، وإن عجز عن الاحتياط وإتيان جميع الأطراف اختار الطرف الّذي يتمكّن منه ، على شريطة أن لا يكون أضعف احتمالاً من الطرف الآخر الّذي تركه مع قدرته عليه .

وعلى هذا يجب على من أراد أن يصلّي فريضة أو نافلة([4]) أو يعمل عملاً يشترط فيه الاستقبال ـ كالذبح والصلاة على الميّت ودفنه ـ يجب عليه أوّلاً وقبل كلّ شيء أن يحصل العلم بها بأيّ طريق كان بالمعاينة أو الشياع أو بأ يّة قرينة من القرائن ، بل لو حصل له العلم من رفيف الغراب وجب اتّباعه ؛ لأنّ العلم حجّة بنفسه بصرف النظر عن أسبابه وبواعثه .

وإذا لم يحصل العلم بالقبلة عوّل على قبلة بلد المسلمين في مساجدهم ومقابرهم ، فقد استمرّت السيرة منذ القديم قولاً وعملاً على ذلك ، وعليه تكون أمارة شرعيّة يجب اتّباعها والعمل بها ، ولا يجوز  أن يجتهد ويأخذ بالظنّ المخالف لها ؛ لأ نّه ـ والحال هذه ـ اجتهاد في قبال النصّ ، على شريطة أن لا يعلم بالخطأ والمخالفة للواقع  ؛ إذ لا عبرة بأمارةٍ علم بمخالفتها للواقع ، كما قال الشيخ الهمداني في مصباح الفقيه([5]) . أجل ، إذا كان لديه طريق للعلم والقطع بالقبلة جاز له حينئذٍ أن يدع قبلة البلد ، ويسلك الطريق الّذي يؤدّي به إلى العلم والقطع .

وإذا تعذّر عليه العلم ولم يكن في بلد المسلمين اجتهد وتحرّى ما استطاع بحثاً عن القبلة ، وعمل بالظنّ الحاصل من العلامات التي يراها ؛ لقول الإمام [  عليه‏السلام] :

« يجزي التحرّي أبداً إذا لم يعلم أين وجه القبلة » مقدّماً العلامات المنصوصة في الشرع على غيرها كالجدي ، والظنّ القوي على الظنّ الضعيف . أمّا قول صاحب البيت فليس بشيء ما لم يحصل منه الاطمئنان وركون النفس ؛ لأ نّه مع عدم العلم يجب التحرّي حتّى في هذا الحال .

وتسأل : أليس هو صاحب يد وقوله حجّة بالنصّ والسيرة ؟

الجواب  :

إنّه صاحب يد على بيته ، وما فيه من أدوات وأمتعة يتصرّف فيها ، وليس بصاحب يد على القبلة ، فإنّها فوق الأيدي والتصرّفات .

وإذا عجز عن العلم والظنّ بشتّى طرقه وجب عليه تكرار كلّ صلاة إلى أربع جهات أو ثلاث أو اثنتين إذا انحصرت القبلة فيها أو فيهما امتثالاً للأمر وتحصيلاً للواقع ، وإذا لم يتّسع الوقت لتكرّرها أربع مرّات أو عجز عن الأربع كفاه ما يقدر

عليه ويتّسع له الوقت ولو مرّة واحدة .

قال صاحب الجواهر : ( هذا هو المشهور نقلاً وتحصيلاً بين القدماء والمتأخّرين شهرة عظيمة ، بل في جملة من الكتب الإجماع عليه ) ثمّ استشهد ببعض الروايات عن أهل البيت عليهم‏السلام([6]) .

_______________

[1] الوسائل 4 : 307 ، ب6 من أبواب القبلة ، ح1 .

[2] الوسائل 4 : 308 ، ب6 من أبواب القبلة ، ح4 .

[3] الظنّ الّذي دلّ الدليل الشرعي على اعتباره يكون بمنزلة العلم ، ولذا أسماه الفقهاء بالدليل العلمي ؛ لأ نّه ينتهي إلى العلم ، أي أنّ العلم قد أمر بالعمل بهذا الظنّ الخاصّ [  منه  قدس‏سره ] .

[4] أجمع أهل الإسلام على أنّ القبلة شرط في صلاة الفريضة ، ولذا سمّوا أهل القبلة ، واختلفوا في صلاة النافلة ، وذهب الأكثر إلى أ نّها شرط أيضاً حال الاختيار ، وقال آخرون وهم قليلون : إنّ القبلة ليست شرطاً في النافلة إطلاقاً [  منه  قدس‏سره ] .

[5] مصباح الفقيه  الصلاة  : 95 ( حجريّة) .

[6] الجواهر 7 : 409 ـ 410 .

 

 

مسائل  :

1 ـ  من وجب عليه الاجتهاد والتحرّي عن القبلة فتركه عمداً وبعد الصلاة تبيّن له الخطأ فإن كان الانحراف عنها يسيراً صحّت صلاته للرواية الآتية ، وإلاّ بطلت ؛ لأ نّه تماماً كمن ترك الاستقبال عامداً متعمّداً .

وإن ترك القبلة عن خطأ أو غفلة ثمّ تبيّن له الخطأ نظر ، فإن كان ما زال في الصلاة ولم ينته منها بعدُ صحّ ما تقدّم منها واعتدل لما تبقّى ، وإن كان قد فرغ منها صحّت بتمامها . هذا إذا كان الانحراف يسيراً ؛ لقول الإمام الصادق  عليه‏السلام في رجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعد ما فرغ فيرى أ نّه انحرف يميناً أو شمالاً قال : « قد مضت صلاته ، وما بين المشرق والمغرب قبلة »([1]) .

وقوله أيضاً في رجل صلّى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة وقبل أن يفرغ منها قال : « إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم ، وإن كان متوجّهاً إلى دبر القبلة فليقطع الصلاة »([2]) .

وإذا تبيّن له بعد الصلاة أنّ الانحراف كان كثيراً لا يسيراً وأ نّه صلّى إلى المشرق أو المغرب أو مستدبراً وكان الوقت ما زال باقياً بحيث تمكنه إعادة الصلاة ولو بإدراك ركعة منه وجبت الإعادة ، وإذا تبيّن الخطأ بعد ذهاب الوقت صحّت الصلاة ، ولا قضاء ؛ لقول الإمام الصادق  عليه‏السلام : « إذا صلّيت وأنت على غير القبلة واستبان لك أ نّك صلّيت وأنت على غير القبلة وأنت في الوقت فأعد ، وإن فاتك الوقت فلا تعد »([3]) .

وهو شامل بإطلاقه للناسي والجاهل والمخطئ وللمستدبر وغيره ، فالتفصيل ـ  إذن ـ لا يبتني على أساس ، ولا يخرج عن هذا الإطلاق إلاّ من ترك الاجتهاد والتحرّي مع الإمكان والقدرة عليه ؛ لأ نّه عامد والحال هذه .

2 ـ  يجب الاستقبال للصلاة اليوميّة ، وركعات الاحتياط والأجزاء المنسيّة وسجدتي السهو ، ولكلّ صلاة واجبة بما في ذلك الصلاة على الميّت ، وعند احتضاره ودفنه ، وتجب أيضاً عند الذبح والنحر.

وقال صاحب المدارك : ( إنّ الاستقبال يسقط شرعاً مع العجز عنه ، والصلاة وغيرها في ذلك سواء ، والدليل إجماع العلماء ، والروايات المستفيضة عن أهل البيت  عليهم‏السلام )([4]) .

وقال بما يتلخّص : ( إنّ صلاة النافلة لا تجوز إلى غير القبلة في حال الاستقرار ؛ لأ نّها عبادة . والعبادة توقيفيّة([5]) ، ولم ينقل فعل النافلة إلى غير القبلة مع الاستقرار ، فيكون فعلها كذلك تشريعاً محرّماً )([6]) . أجل أنّ الاستقرار ليس شرطاً فيها ، حيث سئل الإمام الصادق  عليه‏السلام عن صلاة النافلة على البعير والدابة ؟ فقال : « نعم حيث كان متوجّهاً »([7]) . ولكن عدم شرط الاستقبال شيء ، وشرط القبلة حال الاستقرار شيء

آخر ، والفرق بينهما كالفرق بين قولك : اتجه إلى الجنوب وأنت قاعد ، وقولك : اتجه حيث شئت وأنت واقف .

3 ـ  إذا اجتهد وتحرّى وحصل الظنّ وصلّى جاز له أن يبني على ظنّه لصلاة اُخرى ، ولا يجب التحرّي ثانية ، إلاّ إذا احتمل تغيير اجتهاده إذا تحرّى حيث يجب البحث والفحص في مثل هذه الحال.

4 ـ  إذا شهد عدلان بالقبلة فهل يعوّل على شهادتهما أو عليه أن يجتهد ويتحرّى ويأخذ باجتهاده ؟

الجواب  :

إذا حصل له الظنّ من شهادتهما أخذ بظنّه ، وإلاّ فلا أثر لهما إطلاقاً.

وتسأل : أنّ شهادة العدلين بيّنة شرعيّة يجب العمل بها والاعتماد عليها ، سواء حصل منها الظنّ أم لم يحصل ؟

الجواب  :

إنّ شهادة العدلين إنّما تكون بيّنة شرعيّة إذا اُخبرت عن حسّ وعيان كشهادتها بأنّ هذا ملك لزيد ، أمّا إذا شهدت عن حدس واجتهاد كتشخيص القبلة أو الوقت فينتفي عنها وصف البيّنة الشرعيّة ، وتسقط عن الاعتبار .

وبهذا تتبيّن الحال لو عارض اجتهاده اجتهاد العارف ، حيث يقدّم الظنّ الأقوى ؛ لأ نّه هو المدرك وعليه المعوّل .

5 ـ  إذا تعارض اجتهاد اثنين في القبلة لم يأتمّ أحدهما بالآخر ، ولكن يحلّ له أن يأكل من ذبيحته التي ذبحها إلى غير قبلة الآكل ؛ لأنّ من ترك الاستقبال جهلاً أو نسياناً تحلّ ذبيحته ، وكذلك يجتزئ بصلاته على الميّت ؛ لأنّ العبرة بصحّة الصلاة عند مصلّيها لا مطلقاً .

________________________

[1] الوسائل 4 : 314 ، ب10 من أبواب القبلة ، ح1 .

[2] الوسائل 4 : 315 ، ب10 من أبواب القبلة ، ح4 .

[3] الوسائل 4 : 317 ، ب11 من أبواب القبلة ، ح5 .

[4] المدارك 3 : 149 .

[5] في الطبعات السابقة « توفيقية » وما أثبتناه من المصدر .

[6] المدارك 3 : 147 .

[7] الوسائل 4 : 330 ، ب15 من أبواب القبلة ، ح6 .