الإسراء والمعراج

 .: الإسراء والمعراج :.

 

من المعروف والمشهور بين علماء الإسلام أنَّ رسول الله (ص) عندما كان في مكّة! أسرى به الله تبارك وتعالى بقدرته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن هناك صعد به إلى السماء "المعراج" ليرى آثار العظمة الرّبانية وآيات الله الكبرى في فضاء السماوات، ثمّ عاد (ص) في نفس الليلة إلى مكّة المكرمة.

 

والمعروف المشهور أيضاً أنّ سفر الرسول (ص) في الإسراء والمعراج قد تمَّ بجسم رسول الله (ص) وروحه معاً.

 

ولكن العجيب ما يحاوله البعض من توجيه معراج الرسول (ص) بالمعراج الروحي والذي هو حالة شبيهة بالنوم أو "المكاشفة الروحيّة" ولكن هذا التوجيه –كما أشرنا- لا ينسجم إطلاقاً مع ظواهر الآيات، بل هو مخالف لها، إذ يدل الظاهر على أنَّ القضيّة تمت بشكلٍ جسمي حسي.

 

المعراج في القرآن والحديث:

في كتاب الله سورتان تتحدثان عن المعراج:

السورة الأولى هي سورة "الإسراء"، وقد أشارت إلى القسم الأوّل من سفر الرسول (ص) (أي أشارت لإسراءه (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) وقد أُستتبع الإسراء بالمعراج.

 

السورة الثّانية التي أشارت للمعراج هي سورة "النجم" التي تحدثت عنهُ في ستِ آيات هي: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى {13} عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى {14} عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى {15} إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى {16} مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى {17} لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى {18}﴾. (النجم/13-18)

 

قوله تعالى: ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ هو إثبات آخر لصحة هذا القول.

 

في الكتب الإسلامية المعروفة هُناك عدد كبير جدّاً من الأحاديث والرّوايات التي جاءت حول قضية المعراج، حتى أنَّ الكثير من علماء الإسلام يذهب إلى "تواتر" حديث المعراج أو اشتهاره.

 

تاريخ وقوع المعراج:

هناك أيضاً اختلافات بين المؤرّخين المسلمين حول تاريخ وقوع المعراج، إذ يقول البعض: أنّه حصل في السنة العاشرة للبعثة في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب، والبعض يقول: إنَّه عرج به (ص) في (17) رمضان من السنة الثّانية عشرة للبعثة المباركة. وبعض ثالث قال: إنَّ المعراج وقع في أوائل البعثة.

 

ولكن في كل الأحوال، فإنَّ الاختلاف في تأريخ وقوع المعراج لا ينفي أصل الحادثة.

 

من المفيد أيضاً أن نذكر أنَّ عقيدة المعراج لا تقتصر على المسلمين، بل هناك ما يشابهها في الأديان الأخرى، بل إنّا نرى في المسيحية أكثر ممّا قيل في معراج النّبي (ص)، إذ يقول أولئك كما في الباب السادس من إنجيل "مرقس" والباب (24) من إنجيل "لوقا" والباب (21) من إنجيل (يوحنّا) أنّ عيسى بعد أن صُلب وقتل ودفن نهض من مدفنه وعاش بين الناس أربعين يوماً قبل أن يعرج إلى السماء ليبقى هناك في عروجٍ دائم! ونستفيد من مؤدّى بعض الرّوايات أنّ بعض الأنبياء السابقين عُرِجَ بهم إلى السماء أيضاً.

 

إنّ النّبي واصل معراجه إلى السماء خلال مراحل عديدة.

 

1- المرحلة الأولى: وهي ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى وقد أُشير إليها في الآية من سورة الإسراء: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى...﴾ الإسراء/1.

 

وتقول بعض الروايات أنّ النّبي (ص) نزل في المدينة أثناء إسرائه مع جبرئيل فصلّى بها.

كما صلّى أيضاً في المسجد الأقصى مع أرواح الأنبياء العظام كإبراهيم وموسى وعيسى (ع)، وكان النبي (ص) إمامهم في الصلاة، ثمّ بدأ المعراج إلى السماوات السبع فجابهنّ سماءً بعد سماء وواجه في كلّ سماء مشاهد جديدة، فالتقى الملائكة والنبيين في بعضها، والجنّة وأهلها في بعضها، والنار وأهلها في بعضها، وحمل من كلّ في خاطره وروحه ذكريات قيّمة، وشاهد في عجائب كلّ واحدة منها رمز من رموز عالم الوجود وسرّ من أسراره، وبعد عودته ذكرها لأمته صراحةً أحياناً وبالكناية أو المجاز أحياناً، وكان يستلهم منها لتربية أمّته وتعليمه بكثرة.

 

 

وهذا الأمر يدلّ على أنّ واحداً من أهداف هذا السفر السماوي الإستفادة من النتائج العرفانيّة والتربوية لهذه المشاهدات، والتعبير القرآني الغزير ﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ النجم/18 يمكن أن يكون إشارة إجمالية لجميع الأمور.

 

وكما ذكرنا آنفاً فإنّ الجنّة والنار اللتين رآهما النّبي (ص) في معراجه والأشخاص الذين كانوا منعّمين أو معذّبين فيهما لم تكونا جنّة القيامة ونارها، بل هما جنّة البرزخ وناره، لأنّه طبقاً لآيات القرآن فإنّ الجنّة والنار تكونان بعد يوم القيامة والفراغ من الحساب معدّتين للمتّقين والمسيئين.

 

وأخيراً وصل النّبي إلى السماء السابعة ورأى حجُباً من النور هناك حيث "سدرة المنتهى" و"جنّة المأوى" وبلغ النّبي هناك وفي العالم النوراني أوج الشهود الباطني والقرب إلى الله قاب قوسين أو أدنى... وخاطبه الله هناك وأوحي إليه تعاليم مهمّة وأحاديث كثيرة نراها اليوم في الرّوايات الإسلامية تحت عنوان الأحاديث القدسيّة، وسنعرض قسماً منها بإذن الله في الفصل المقبل.

 

الطريف هنا هو أنّ الرّوايات الكثيرة تصرّح بأنّ النّبي (ص) رأى أخاه وابن عمّه علياً في مراحل مختلفة من معراجه بصورة مفاجئة، وما نجده من التعابير في هذه الرّوايات كاشف عن مدى مقام علي وفضله بعد النّبي (ص).

 

وعلى الرغم من كثرة الرّوايات في شأن المعراج فهناك تعابير مغلقة ذات أسرار ليس من الهيّن كشف محتواها وهي كما يصطلح عليها من الرّوايات المتشابهة... أي الرّوايات التي ينبغي إحالة تفسيرها على أهل بيت العصمة!

 

وقد ذكرت كتب أهل السنّة روايات المعراج بشكل موسّع بحيث نقل ثلاثون راوية من رواتهم حديث المعراج.

 

وهنا ينقدح السؤال التالي وهو: كيف تمّ كلّ هذا السفر الطويل وهذه المشاهدات العجيبة والمتنوّعة والأحداث الطويلة في ليلة واحدة، بل في جزء منها؟!

 

ولكن يتّضح الجواب على السؤال بملاحظة أنّ سفر المعراج لم يكن سفراً بسيطاً كالمعتاد حتّى يقاس بالمعايير المعتادة! فلا السفر كان طبيعياً ولا وسيلته وركوبه ولا مشاهده ولا أحاديثه ولا المعايير الواردة فيها كمعاييرنا المحدودة والصغيرة على كرتنا الأرضيّة فكلّ شيء كان في المعراج خارقاً للعادة! وكان وفق مقاييس خارجة عن زماننا ومكاننا.

 

فبناءً على هذا لا مجال للعجب أن تقع كلّ هذه الأمور بمقياس ليلة أو أقل من ليلة من مقاييس –الكرة الأرضيّة- الزمانية.

 

هل كان المعراج جسدياً أم روحياً؟

إنّ ظاهر الآيات القرآنية الواردة في أوائل سورة الإسراء، وكذلك سورة النجم تدلل على وقوع المعراج في اليقظة، ويؤكّد هذا الأمر كبار علماء الإسلام من الشيعة والسنّة.

 

وتشهد التواريخ الإسلامية أيضاً على صدق هذا الموضوع، ونقرأ في التأريخ أن المشركين أنكروا بشدّة قضية المعراج عندما تحدث بها الرّسول (ص)، وأخذوها عليه ذريعة للإستهزاء به، ممّا يدل بوضوح على أن الرّسول لم يدّع الرؤية أو المكاشفة الروحية أبداً، وإلاّ لما استتبع القضية كل هذا الضجيج.

 

أمّا ما ورد عن الحسن البصري أنّه (كان في المنام رؤيا رآها) أو عن عائشة أنّه: (والله ما فُقِدَ جسد رسول الله ولكن عرج بروحه)، فيبدو أنّ لذلك منظور سياسي، لإخماد الضجّة التي أثيرت حول قضية المعراج.

 

هدف المعراج:

إنّ هدف المعراج لم يكن تجوالاً للرّسول (ص) في السماوات للقاء الله كما يعتقد السذج، وكما نقل بعض العلماء الغربيين –ومع الأسف- لجهلهم أو لمحاولتهم تحريف الإسلام أمام الآخرين، ومنهم (غيور غيف) الذي يقول في كتاب (محمد رسول ينبغي معرفته من جديد، ص120)، (بلغ محمد في سفر معراجه إلى مكان كان يسمع فيه صوت قلم الله، ويفهم أنّ الله منهمك في تدوين حساب البشر! ومع أنّه كان يسمع صوت قلم الله إلاّ أنّه لم يكن يراه! لأنّ أحداً لا يستطيع رؤية الله وإن كان رسولاً).

 

وهذا يُظهر أن القلم كان من النوع الخشبي! الذي يهتز ويولد أصواتاً عند حركته على الورق!! وأمثال هذه الخرافات والأوهام.

 

كلا. فالهدف كان مشاهدة الرّسول (ص) لأسرار العظمة الإلهية في أرجاء عالم الوجود، لا سيما العالم العلوي الذي يشكل مجموعة من براهين عظمته، وتتغذى بها روحه الكريمة وتحصل على نظرة وإدارك جديد لهداية البشرية وقيادتها.

 

ويتّضح هذا الهدف بشكل صريح في الآية الأولى من سورة الإسراء، والآية (18) من سورة النجم.

 

وهناك رواية أيضاً منقولة عن الإمام الصادق (ع) في جوابه على سبب المعراج. أنّه قال (ع): "إن الله لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، ولكنّه عزَّ وجلّ أراد أن يشرف به ملائكته وسكان سماواته، ويكرمهم بمشاهدته، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه".

 

المعراج والعلوم العصريّة:

كان بعض الفلاسفة القدماء يعتقد بنظرية "الأفلاك البطليموسية التسعة" والتي تكون على شكل طبقات البصل في إحاطتها بالأرض، لذلك فقد أُنكر المعراج بمزاعم علمية تقوم على أساس الإيمان بنظرية الهيئة البطليموسية والتي بموجبها يُلَزم خرق هذه الأفلاك ومن ثمّ التئامها ليكون المعراج ممكناً.

 

ولكن مع انهيار قواعد نظرية الهيئة البطليموسية أصبحت شبهة خرق والتئام الأفلاك في خبر كان، وضمتها يد النسيان، ولكن التطوّر المعاصر في علم الأفلاك أدّى إلى إثارة مجموعة من الشبهات العلمية التي تقف دون إمكانية المعراج عملياً، وهذه الشبهات يمكن تلخيصها كما يلي:

 

أوّلاً: إنّ أوّل تواجه الذي يريد أن يجتاز المحيط الفضائي للأرض إلى عمق الفضاء هو وجوب الإنفلات من قوة الجاذبية الأرضية، ويحتاج الإنسان للتخلّص من الجاذبية إلى وسائل استثنائية تكون معّل سرعتها على الأقل (40) ألف كيلومتر في الساعة.

 

ثانياً: المانع الآخر يتمثل في خلو الفضاء الخارجي من الهواء، الذي هو القوام في حياة الإنسان.

 

ثالثاً: المانع الثالث يتمثل بالحرارة الشديدة الحارقة (للشمس) والبرودة القاتلة، وذلك بحسب موقع الإنسان في الفضاء من الشمس.

 

رابعاً: هناك خطر الإشعاعات الفضائية القاتلة كالأشعة الكونية والأشعة ما وراء البنفسجية وأشعة إِكس، إذ من المعروف أنّ الجسم يحتاج إلى كميات ضئيلة من هذه الإشعاعات، وهي بهذا الحجم لا تشكّل ضرراً على جسم الإنسان ووجود طبقة الغلاف الجوي يمنع من تسربها بكثرة إلى الأرض، ولكن خارج محيط الغلاف الجوّي تكثُر هذه الإشعاعات إلى درجة تكون قاتلة.

 

خامساً: هناك مُشكلة فقدان الوزن التي يتعرض لها الإنسان في الفضاء الخارجي، فمن الممكن للإنسان أن يتعوَّد تدريجياً على الحياة في أجواء انعدام الوزن، إلاّ أنَّ انتقاله مرّة واحدة إلى الفضاء الخارجي –كما في المعراج- هو أمرٌ صعب للغاية، بل غير ممكن.

 

سادساً: المشكلة الأخيرة هي مشكلة الزمان، حيث تؤكد علوم اليوم على أنَّه ليست هناك وسيلة تسير أسرع من سرعة الضوء، والذي يريد أن يجول في سماوات الفضاء الخارجي يحتاج إلى سرعة تكون أسرع من سرعة الضوء!

 

في مواجهة هذه الأسئلة:

أولاً: في عصرنا الحاضر، وبعد أن أصبحت الرحلات الفضائية بالإستفادة من معطيات العلوم أمراً عادياً، فإنَّ خمساً من المشاكل الست الآنفة تنتفي، وتبقى –فقط- مشكلة الزمن. وهذه المشكلة تثار فقط عند الحديث عن المناطق الفضائية البعيدة جداً.

 

ثانياً: إنَّ المعراج لم يكن حدثاً عادياً، بل أمرٌ إعجازي خارق للعادة ثمّ بالقدرة الإلهية. وكذلك الحال في كافة معجزات الأنبياء وهذا يعني عدم استحالة المعجزة عقلاً، أمّا الأمور الأخرى فتتم بالإستناد إلى القدرات الإلهية.

 

وإذا كان الإنسان قد استطاع باستثمار لمعطيات العلوم الحديثة أن يوفَّر حلولاً للمشكلات الآنفة الذكر، مثل مشكلة الجاذبية والأشعة وانعدام الوزن وما إلى ذلك، حتى أصبح بمستطاعه السفر إلى الفضاء الخارجي.. فألا يمكن لله –خالق الكون، صاحب القدرات المطلقة- أن يوفَّر وسيلة تتجاوز المشكلات المذكورة؟!

 

إنّنا على يقين من أنًّ الله تبارك وتعالى وضع في متناول رسوله (ص) مركباً مناسباً صانهُ فيه عن كل المخاطر والأضرار في معراجه نحو السماوات، ولكن ما اسم هذا المركب هل هو "البراق" أو "رفرف"؟ وعلى أي شكلٍ وهيئة كان؟ كل هذه الأمور غامضة بالنسبة لنا، ولكنّها لا تتعارض مع يقيننا بما تمَّ، وإذا أردنا أن نتجاوز كل هذه الأمور فإنَّ مشكلة السرعة التي بقيت –لوحدها- تحتاج إلى حل، فإنَّ آخر معطيات العلم المعاصر بدأت تتجاوز هذه المشكلة بعد أو وجدت لها حلولاً مناسبة بالرغم ممّا يؤكّده "إنشتاين" في نظريته من أن سرعة الضوء هي أقصى سرعة معروفة اليوم.

 

إنّ علماء اليوم يؤكدون أن الأمواج الجاذبة لا تحتاج إلى الزمن، وهي تنتقل في آنٍ واحد من طرفٍ من العالم إلى الطرف الآخر منه وهناك احتمال مطروح بالنسبة للحركة المرتبطة بتوسّع الكون (من المعروف أنَّ الكون في حالة اتساع وأنّ النجوم والمنظومات السماوية تبتعد عن بعضها البعض بحركة سريعة) إذ يلاحظ أنَّ الأفلاك والنجوم والمنظومات الفضائية تبتعد عن بعضها البعض وعن مركز الكون إلى أطرافه، بسرعة تتجاوز سرعة الضوء!

 

إذن، بكلام مُختصر نقول: إنَّ المشكلات الآنفة ليس فيها ما يحول عقلاً دون وقوع المعراج، ودون التصديق به، والمعراج بذلك لا يعتبر من الحالات العقلية، بل بالإمكان تذليل المشكلات المثارة حوله بتوظيف الوسائل والقدرات المناسبة.

 

وبذلك فالمعراج لا يعتبر أمراً غير ممكن لا من وجهة الأدلة العقلية، ولا من وجهة معطيات وموازين العلوم المعاصرة. وهو بالإضافة إلى ذلك أمرٌ إعجازي خارق للعادة. لذلك، إذا قام الدليل النقلي السليم عليه فينبغي قبوله والإيمان به.

 

جانب من إيحاءات الله وكلماته لرسوله في ليلة المعراج:

إنّ النبي (ص) سأل الله سبحانه: يا ربّ أيّ الأعمال أفضل؟!

فقال تعالى: "ليس شيء عندي أفضل من التوكّل عليّ والرضا بما قسمت، يا محمّد! وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ ووجبت محبّتي للمتعاطفين فيّ ووجبت محبّتي للمتواصلين فيّ، ووجبت محبّتي للمتوكّلين عليّ وليس لمحبّتي علم ولا غاية ولا نهاية".

وهكذا تبدأ الأحاديث من المحبّة، المحبّة الشاملة والواسعة، وأساساً فإنّ عالم الوجود يدور حول هذا المحور!

 

وجاء في جانب آخر: "يا أحمد فاحذر أن تكون مثل الصبي إذا نظر إلى الأخضر والأصفر أحبّه وإذا أعطي شيء من الحلو والحامض اغترّ به، فقال: يا ربّ دُلّني على عمل أتقرّب به إليك قال: اجعل ليلك نهاراً ونهارك ليلاً قال: ربّ كيف ذلك؟ قال: اجعل نومك صلاة وطعامك الجوع.

 

كما جاء في مكان آخر منه: يا أحمد محبّتي محبّة الفقراء فادن الفقراء وقرّب مجلسهم منك أُدنِكَ وبعّد الأغنياء وبعّد مجلسهم منك فإنّ الفقراء أحبّائي.

 

أهل الدنيا والآخرة:

وجاء في موضع آخر أيضاً: يا أحمد أبغض الدنيا وأهلها وأحبّ الآخرة وأهلها قال يا ربّ ومن أهل الدنيا ومن أهل الآخرة؟ قال: أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه قليل الرضا لا يعتذر إلى من أساء إليه ولا يقبل معذرة من اعتذر إليه، كسلان عند الطاعة، شجاع عند المعصية، أمله بعيد وأجله قريب، لا يحاسب نفسه قليل المنفعة كثير الكلام، قليل الخوف، كثير الفرح عند الطعام وإنّ أهل الدنيا لا يشكرون عند الرجاء ولا يصبرون عند البلاء، كثير الناس عندهم قليل يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون، ويدّعون بما ليس فيهم، ويتكلّمون بما يتمنّون ويذكرون مساوئ الناس ويخفون حسناتهم...

قال: يا ربّ، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا، قال: يا أحمد إنّ عيب أهل الدنيا كثير فيهم، الجهل والحمق، لا يتواصفون لمن يتعلّمون منه، وهم عند أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء..

 

صفات أهل الجنّة:

ثمّ يتناول الحديث أهل الجنّة فيقول:

يا أحمد إنَّ أهل الخير وأهل الآخرة رقيقة وجوههم كثير حياؤهم قليل حمقهم، كثير نفعهم الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب كلامهم موزون، محاسبين لأنفسهم، متعبين لها، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم أعينهم باكية وقلوبهم ذاكرة، إذا كُتب الناس في الغافلين كتبوا من الذاكرين، في أول النعمة يحمدون وفي آخرها يشكرون دعاؤهم عند الله مرفوع، وكلامهم مسموع، تفرح الملائكة بهم، الناس (الغَفَلة) عندهم موتى والله عندهم حي قيّوم "وهمّتهم عالية فلا ينظرون إلاّ إليه" قد صارت الدنيا والآخرة عندهم راحة يموت الناس مرّة ويموت أحدهم في اليوم سبعين مرّة "ويحيا حياةً جديدة" من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم.

 

وإن قاموا بين يدي كأنّهم البنيان المرصوص لا أرى في قلبهم شغلاً لمخلوق.. فوعزّتي وجلالي لأحيينّهم حياةً طيبةً إذا فارقت أرواحهم أبدانهم ولا أُسلّط عليهم ملك الموت ولا يلي قبض روحهم غيري ولأفتحنّ لروحهم أبواب السماء كلّها ولأرفعنّ الحجب كلّها دوني، ولآمرنَّ الجنان فلتزيننّ.

 

يا أحمد إنّ العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال فإذا طيّبت مطعمك ومشربك فأنت في حفظي وكنفي.

 

حياة هنيئة وباقية:

وجاء في مكان آخر منه: يا أحمد هل تدري أيّ عيش أهنأ وأيّ أبقى؟ قال اللهم لا، قال: أمّا العيش الهنئ فهو الذي لا يغترّ صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي ولا يجهل حقّي، يطلب رضاي في ليله ونهاره.

 

وأمّا الحياة الباقية فهي التي يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدنيا وتصغر في عينه وتعظم الآخرة عنده ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي ويعظّم حقّ عظمتي ويذكر علمي به ويراقبني بالليل والنهار عند كلّ سيّئة أو معصية وينقّي قلبه عن كلّ ما أكره ويبغض الشيطان ووساوسه ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً.. فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّاً حتّى أجعل قلبه لي وفرغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت على أهل محبّتي من خلقي.. وافتح عين قلبه وسمعه حتّى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي "وحقائق الغيب".

 

وأخيراً فإنّ الحديث القدسي الكريم يختتم بهذه العبارات المؤثرة!.. يا أحمد لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض ويصوم صيام أهل السماء والأرض ويطوي من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاري ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدنيا ذرّة أو سعتها أو رئاستها أو حليّها أو زينتها لا يجاورني في داري ولأنزعنّ من قلبه محبّتي وعليك سلامي ورحمتي والحمد لله ربّ العالمين".

 

هذه الأحاديث القدسيّة "من ربّ العرش" التي تحمل روح الإنسان إلى أوج السماوات معها وتعرج به إلى حالة الشهود هي قسم من الحديث القدسي المشار إليه آنفاً.

 

ونضيف إلى ذلك أننا على يقين أنّه كان بين النّبي ومحبوبه في تلك الليلة الكريمة أسرار وإشارات وكلمات أخرى لا تستطيع الآذان الإصغاء إليها ولا الأفكار الساذجة استيعابها... ولذلك بقيت في نفس النّبي طيّ الكتمان فلم يَبُحْ بها لأحد إلاّ لخلصائه المختصّين به.