انحرافات فرعون

انحرافات فرعون

 

﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ (1)

 

آل فرعون! جيش بلا قبور

إنحراف الدولة

مقدمة:

كان فرعون قمة إنتاج فقه الانحراف، بمعنى أن كفار قوم نوح الذين دونوا فقه النظر القاصر الذي صنف عباد الله إلى أشراف وأراذل، والذين تعهدوا الغرس الشيطاني الذي يقوم على رفض بشرية الرسول هؤلاء توجد بصمات شذوذهم وانحرافهم على الوجه الفرعوني. ففرعون موسى رفض النبي البشر وصنف عباد الله فَقَالُوا: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ (2) وإذا كانت عاد قوم هود هم الذين دونوا فقه الغطرسة واستكبروا وقالوا من أشد منا قوة؟ فإن بصماتهم حملها الوجه الفرعوني، ففرعون وملئه استكبروا وكانوا قوما عالين (3). وإذا كانت ثمود قوم صالح قد جحدوا بآيات الله وسخروا من رسوله، فإن بصمات الجحود والسخرية ترى بوضوح على الوجه الفرعوني، ففرعون تولى بركنه ووصف نبي الله موسى عليه السلام بأنه ساحر أو مجنون (4). وعندما جاءهم موسى بآيات الله كانوا منها يضحكون (5)! وإذا كان النمرود قد قال لإبراهيم عليه السلام: أنا أحي وأميت، فإن بصمات الدولة النمرودية توجد على صفحات الدولة الفرعونية! ففرعون هو القائل: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (6) وهو القائل لقومه: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ (7) وإذا كان قوم لوط قد تآمروا على إبادة النسل بطريقتهم الخاصة، فإن لفرعون طريقته للتآمر على النسل وتبدو صورتها واضحة في خطة فرعون من أجل إبادة نسل بني إسرائيل. وإبادة نسل كل من آمن بالله الواحد ﴿قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ﴾ (8) فلقد تتبع مواليد بني إسرائيل وتتبع السحرة الذين آمنوا بموسى حتى يعم في الأرض الفساد. وإذا كانت مدين قد دونت فقه نقص الكيل والميزان فإن فرعون نقص الميزان بطريقته الخاصة. فلقد غش قومه واستخفه ولم يطرح عليهم حقيقة كاملة فدولته كانت كل شئ فيها بميزان، ولكن هذا الميزان كان في قصر فرعون والعامل عليه لا يرى إلا بعيون فرعون ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ (9) لقد كان الميزان كله عند فرعون، فرعون الذي استكبر وجنوده في الأرض بغير الحق، وظنوا أنهم إلى الله لا يرجعون!

 

لقد حمل فرعون على أكتافه جميع الانحرافات والشذوذ، بعد أن طورها لتلائم المسيرة البشرية، وشاء الله أن يتصدى له موسى وهارون عليهما السلام، وموسى أحد الخمسة أولي العزم الذين هم سادة الأنبياء، وقد خصهم الله بالذكر في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (10) وقال: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى﴾ (11) وموسى عليه السلام أكثر الأنبياء ذكرا في القرآن فقد ذكر اسمه في مائة وستة وثلاثين موضعا، وذكر البعض أن الله تعالى أشار إليه في ثلاثين موضعا آخر، وأشير إلى قصته إجمالا أو تفصيلا في أربع وثلاثين سورة من سور القرآن، وقد اختص من بين الأنبياء بكثرة المعجزات والآيات التي أيد الله بها دعوته وقد ذكر القرآن منها معجزة العصا، واليد البيضاء، والطوفان، الجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وإنزال المن والسلوى، وانبجاس العيون من الحجر بضرب العصا، وإحياء الموتى، ورفع الطور فوق القوم وغير ذلك.

 

ولقد أثنى الله تعالى على موسى عليه السلام بأجمل الثناء في قوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا / وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ (12) وقال سبحانه: ﴿وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ (13) وقال: ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ (14) وذكره في جملة من ذكرهم من الأنبياء في سورة الأنعام، فأخبر سبحانه أنهم كانوا محسنين صالحين، وأنه فضلهم على العالمين، واجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم.. فاجتمع بذلك له عليه السلام معنى الإخلاص والتقريب والوجاهة والإحسان والصلاح والتفضيل والاجتباء والهداية، أما أخوه هارون عليه السلام، فلقد أشركه الله تعالى مع موسى عليه السلام في سورة الصافات في المن وإيتاء الكتاب والهداية إلى الصراط المستقيم، وفي التسليم وأنه من المحسنين ومن عباده المؤمنين (15) وعده سبحانه من المرسلين كما في سورة ص (16) ومن النبيين كما في سورة مريم (17) وأنه ممن أنعم الله عليهم (18) وأشركه سبحانه مع من عدهم من الأنبياء في سورة الأنعام في صفاتهم الجميلة من الإحسان والصلاح والفضل والاجتباء والهداية (19).

 

1 - أضواء على الفرعونية:

في الظاهر أن الباطل هو الذي يطارد الحق، ولكن الحقيقة تخالف ذلك، والدليل يكمن في نتيجة المطاردة، من انتصر على من؟ إن الباطل مهما طالت أيامه وكثر جنده واشتد ساعده، مطارد والذي يطارده هو الله، ولا بقاء لشئ يطارده الله ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ (20) إن الباطل طارئ لا أصالة فيه، أما الحق فهو أصيل في الوجود، والحق لا يخفى بأي وجه وعلى أي تقدير وهو من أبده البديهيات، وليس في الوجود أي محبوب أو مطلوب أعز وأشرف وأغلى من الحق، لهذا فالحق هو الذي يطارد الباطل، ودائما وأبدا تكون نهاية هذه المطاردة أن الحق هو المنتصر في الدنيا ظاهرا وباطنا. لقد كان كفار قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وقومه. في خندق الباطل. فماذا كانت عاقبة المفسدين الذين ملأوا القلوب رعبا، والنفوس دهشة، وخربوا الديار، ونهبوا الأموال، وسفكوا الدماء، وأفنوا الجموع.

 

واستعبدوا العباد وأذلوا الرقاب، لقد مهلهم الله في عتوهم واعتدائهم، حتى إذا بلغوا أوج قدرتهم. واستووا على أريكة شوكتهم وغرتهم الدنيا بزينتها، واجتذبتهم الشهوات إلى خلاعتها، واشتغلوا بملاهي الحياة والعيش. واتخذوا إلههم هواهم، جاءتهم الضربة القاصمة، فلم يبق منهم إلا أسماء إن لم تنس، ولم يتبق من هيمنتهم إلا أحاديث!

 

وفرعون قصة من قصص الجبابرة، جاءت قصته بعد أن قص الله قصة شعيب مع قومه، ولقد توفر للدولة الفرعونية كل أسباب القوة، من نيل يفيض بالماء على أرض خصبة، إلى سواعد فتية ترفع الأحجار وتحفر في الصخور، لقد توفر للدولة المناخ والطبيعة والإنسان. وهذه نعم من الله يجب الشكر عليها، ولكن الفرعونية أمسكت بسمع وبصر القوم، فتلاشى القوم ولم يظهر إلا فرعون!

 

1 - الفرعونية:

بعث الله تعالى إدريس عليه السلام إلى مصر بعد الطوفان - فيما ذكره البعض - وأقام في مدينة منف. وبعد أن أقام الحجة على القوم في بداية الطريق وتوفاه الله، اتجه القوم نحو رفض بشرية الرسول، وظهرت ثقافة دونها الكهنة عامودها الفقري. أن الآلهة حكموا الأرض من قديم الزمان، الآلهة لم يكن يراهم أحد، إلا أن أرواحهم وقوتهم تحيط بالأرض، ووفقا لهذا التصور أقاموا التماثيل لهؤلاء الآلهة الذين في تخيلاتهم، وتقربوا إليها وأقاموا لها المعابد، وبعد مدة من الزمان ادعى الفراعنة أمام قومهم بأنهم أبناء لهؤلاء الآلهة، وأنهم يجلسون فوق عروشهم بأمر منهم، وكان الفرعون خفرع هو أول من ادعى بنوته للإله " رع " (21)! وعلى سنته سار جميع الفراعنة وبمقتضى هذه البنوة كان للفراعنة الحق في امتلاك حل شئ على أرض مصر، لقد رفضوا النبوة في بداية الطريق، لأن النبي بشر ولا ينبغي أن يكون كذلك! وفي نهاية الطريق أصبح الذين رفضوا النبي بالأمس، أبناء آلهة! لتكون هذه البنوة فيما بعد مقدمة للجلوس في دائرة الآلهة. إن ثقافة رفض النبي البشر، قام الشيطان بتغذيتها حتى هضمتها الشعوب، وفي النهاية جاء بمن يجلس على الرقاب، ويقول بأن دماء الآلهة تجري في عروقه. وعلى هذا فهو نصف إنسان ونصف إله! وعلى الجميع السمع له والطاعة!

 

والفرعون خفرع لم يدع بنوته للإله رع بدون مقدمات، فمن قديم وأسطورة (أوزير) الذي أطلق عليه الإغريق فيما بعد (أوزوريس) تنخر في عقول المصريين، وكانت هذه الأسطورة هي الأساس الشرعي الذي استند عليه الفرعون خفرع في بنوته للإله، وخلاصة هذه الأسطورة أن أوزير كان إلها يحكم على الأرض، ولكن غريمه إله الشر (ست) قتله واستولى على ملكه، فقامت (أوزوريس) معشوقة أوزير بإعادة الإله المقتول إلى الحياة، وعندما عاد ضاجعها فحملت منه بالإله (حور) الذي أطلق عليه الإغريق اسم (حورس) وبدأ حور يقاتل ست من أجل استرداد حقوق أبيه. وفي نهاية المطاف استردها. وتنازل له الإله (أوزير) عن الحكم فوق الأرض، وذهب ليحكم تحت الأرض في عالم الأموات فهذه المقدمة شيدت في ذهن القوم إمكانية إنجاب الولد من الإله، ولقد بدأت ثقافة (أوزير) تنخر في العقول منذ بداية العصور التاريخية التي بدأت من القرن 32 قبل الميلاد حتى جاء الفرعون (خفرع) في عصر الدولة القديمة الذي بدأ بعصر الأسرة الثالثة وامتد حتى نهاية عصر الأسرة السادسة (2778 - 2423 ق. م تقريبا) وقام بدق وتد الشذوذ وادعى بنوته للإله (رع). وهذا الادعاء الذي سهرت عليه ثقافة الدولة. كان حجر عثرة في وجه كل رسول يأتي من قبل الله تعالى، فكيف يستمع الناس لبشر رسول، وعلى رأسهم نصف إله يحكم ويملك يضرب ويقتل؟ وبعد أن سن خفرع سنته، تلقفها كل من حكم مصر من الغرباء، لمعرفتهم مدى تغلغل هذه الثقافة في أعماق الشعب. فالفراعنة ذوو الأصل الأثيوبي أو الليبي الذين حكموا مصر ادعوا أنهم أبناء آلهة (22). وحكام البطالمة ومن قبلهم الإسكندر ادعوا أنهم أبناء آلهة. حتى كليوباترا عندما أنجبت ولدها قيصر الذي سماه أهل الإسكندرية قيصرون، من عشيقها يوليوس قيصر، أعلنت على الملأ بأن الإله آمون جاءها في صورة يوليوس قيصر وضاجعها فأنجبت قيصر الصغير (23)، ومن هذا الباب ركب قيصر عرش الفراعنة، لأن القوم لا يعنيهم سوى أن تكون في عروقه يجري دماء الآلهة.

 

إن لافتة الحق الإلهي التي رفعها الجبابرة، ابن شرعي لفقه الرفض الذي بدأه الشيطان يوم رفض السجود لآدم عليه السلام، ثم رعاه بعد طرده إلى الأرض. ببث ثقافة التحقير والانتقاص لكل بشر اختاره الله لحمل رسالته إلى الناس، ففقه الرفض الذي بدأ يوما بمقولة ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾، تطور فيما بعد وقام بتصنيف الناس فمنهم الأشراف ومنهم الأراذل. والأشراف هم أصحاب الفضل. وشرط اعترافهم بالرسول أن يكون من الملائكة ويمتلك ما لا يمتلكون، ثم تطور فقه الرفض فاعترف ببشرية الرسول على أيام صالح عليه السلام بشرط أن يكونوا جميعا رسلا. فبما أنهم يماثلون الرسول في بشريته فلا مانع من أن يدعوا ما يدعيه، ثم تطور هذا الفقه في عهد الفراعنة. فرفع فرد مهدت له ثقافة، ليتحدث باسم آلهة الجوع والخوف والدجل والأهواء، ثم تطور فيما بعد ليصبح داخل كل فرد فرعون صغير! إنه عالم الأهواء، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.

 

2 - الفرعون:

في عصر فرعون موسى كان بناء الشذوذ والانحراف قد اكتمل. ففرعون علا في الأرض يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ﴾ (24) يقول المفسرون: العلو في الأرض كناية عن التجبر والاستكبار. ومحصل المعنى: أن فرعون علا في الأرض، وتفوق فيها ببسط السلطة على الناس، وإنفاذ القدرة فيهم، وجعل أهلها شيعا وفرقا مختلفة لا تجتمع كلمتهم على شئ وبذلك ضعف عامة قوتهم على المقاومة دون قوته والامتناع من نفوذ إرادته. وهو يستضعف طائفة منهم وهم بنو إسرائيل، وهم أولاد يعقوب عليه السلام وقد قطنوا بمصر منذ أحضر يوسف عليه السلام أباه وإخوته فسكنوها وتناسلوا بها (25).

 

فالذي رفع لافتة الحق الإلهي، فرق الناس حتى لا يجتمعون على كلمة.

وفي عالم الاختلاف أسرف فرعون وتجاوز الحد في الظلم والتعذيب، ولقد وصفه القرآن بأنه: ﴿كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ (26) وأنه طغى (27) وأنه أضل قومه وما هدى (28) وأنه ذو الأوتاد (29) الذي كان يتفنن في قتل ضحاياه، وفرعون هذا الذي استكبر في الأرض، كان هو المصدر الوحيد للتشريع، فلقد أعلن على قومه إعلانه الهام ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (30) ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ (31) ووفقا لهذا الإعلان ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (32) وقومه الذين اختلفوا فيما بينهم بعد أن فرقهم فرعون شيعا وفرقا مختلفة. لم يجتمعوا على شئ إلا على فرعون، لأنه ابن الإله الذي سينعمون معه في عالم الخلود تحت الأرض بعد أن تنتهي حياتهم، فهم حسب عقيدتهم ما كانوا يؤمنون بالبعث والحساب وما يترتب عليه من ثواب وعقاب بجنة أو نار. لهذا قال فيهم يوسف عليه السلام: ﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ (33) فالقوم كانت لهم تصوراتهم الخاصة. وعندما بعث الله تعالى موسى عليه السلام إليهم أثبت للقوم كفرهم بالساعة وما يترتب عليها فقال تعالى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي / إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى / فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾ (34) فأخبر سبحانه أن الساعة آتية والجزاء واقع. وأمر سبحانه موسى عليه السلام أن لا يصرفه عن الإيمان بها وذكرها الذين اتبعوا أهواءهم. فصاروا يكفرون بها ويعرضون عن عبادة ربهم.

 

وهؤلاء هم الذين أرسل إليهم موسى عليه السلام.

لقد كان القوم يؤمنون بأنهم بعد الموت سيعيشون في عالم الخلود في رحاب (أوزير) الذي يحكم تحت الأرض. وعيشتهم الراخية هذه تتوقف على مدى طاعتهم للفرعون ابن الإله. ففرعون هو باب المعيشة الهنيئة بعد الموت.

وأوزير ورع وآمون وطابورهما الطويل عندهم المستقر، لهذا كانت القبور علامة مميزة لما يرتع داخل نفوسهم. فالقبر حياة في عقيدتهم وثقافتهم.. فرعون على بابه كابن للإله، وبداخله يبدأ عالم الأموات فينال كل منهم نصيبه وفقا لما أداه من خدمة للابن القابع على رقبة الأحياء (35). لهذا كله كان لا معنى للعقيدة المصرية القديمة بدون فرعون على رأسها، فعدم وجود فرعون يعني ضياع العقيدة. لهذا حرص المصريون القدماء على وجود فرعون حتى في ظل الغزاة الأجانب عن مصر.

 

﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (36) فما كان من قومه إلا أن ينظروا بعيونه ويسمعوا بآذانه ويحبون ويكرهون بقلبه. وعنهم يقول تعالى: ﴿فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ / يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ (37) ووصف قوم فرعون في كتاب الله بأوصاف عديدة. يقول تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ (38) وقال: ﴿أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ﴾ (39) وقال: ﴿فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ (40) وسماهم: (القوم الكافرين) (41) والقوم الظالمين (42).

 

ولأن فرعون تجري في عروقه دماء الآلهة! والقوم من حوله يصنعون ويشيدون له ما يريد طمعا في الخلد الدائم تحت الأرض. فما فقه التحقير والانتقاص تحت المظلة الفرعونية. فعندما جاءهم موسى وهارون عليهما السلام بالرسالة. ما وجد فرعون أي حرج في قومه وهو يعلن لهم ﴿إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ (43) ولم يجد حرجا وهو على أريكة ملكه بين صفوة دولته بأن يتهم موسى عليه السلام ويقول ﴿سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ (44) بل الأكثر من ذلك أن يسخر هو وقومه من معجزات موسى التي أيده الله بها. يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ (45) والخلاصة أن الفرعونية خرجت من تحت عباءة فقه التحقير والانتقاص من عباد الله. وما أراد الشيطان من هذه العقيدة وغيرها من العقائد الوثنية إلا الابتعاد بالسواد الأعظم من الناس عن منابع الهدى ليحقق بذلك هدفه الأكبر ألا وهو: غواية الناس أجمعين إلا من رحم الله. وعباده المخلصين. والفرعونية لها أشكالها. فلقد بدأت بصورة في بداية العصور التاريخية (32 ق. م - 2780 ق. م) وأضافت إلى الصورة. صورة أخرى في عصر الدولة القديمة (2780 - 23 24 ق. م) وعبرت عصور الاضمحلال إلى الدولة الوسطى (216 - 1778 ق. م) بوجوه احتفظت جميعها بالأصل، حتى جاء عصر الدولة الحديثة (1575 - 945 ق. م) وظهر فرعون موسى الذي هضم التجربة كلها وامتص كل ما هو أسوء ولم يلتفت إلى رياح يوسف عليه السلام ومن بعده رياح أخناتون. ثم عبرت الفرعونية بعد عصر فرعون موسى إلى العصور الفرعونية المتأخرة (945 - 343 ق. م) بوجه جديد، استلمه الإسكندر وقذف به إلى عالم الفلاسفة ليصبح فرعون الحجر قديما بيده قلم وقرطاس في عهد الإغريق (46).

 

ولما كانت للفرعونية وجوه تعود إلى أصل واحد، وبما أن فرعون موسى هو التجسيد الحي للشذوذ الذي دونه آباؤه في عالم الانحراف، وهو المقدمة للذين جاؤوا من بعده وجلسوا على أريكة الظلم والإسراف والاستكبار، فإن الله تعالى جعله وقومه أئمة يدعون إلى النار يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ / وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ (47) قال المفسرون: الدعوة إلى النار، هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر والمعاصي، ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار: تصييرهم سابقين في الضلال يقتدي بهم اللاحقون. وقوله تعالى: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر والمعاصي، لا يزال يتبعهم ضلال الكفر والمعاصي من مقتديهم ومتبعيهم، وعليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين، فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر والمعاصي بعدهم، فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ (48) وقوله: ﴿وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ (49) وتنكير اللعنة للدلالة على تفخيمها واستمرارها (50).

 

إن الإمام لم يكن رشيدا، ولكنهم اتبعوه لأن هواه يوافق أهواءهم: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ / يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ / وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾ (51) قال المفسرون: ﴿فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾ الظاهر أن المراد بالأمر. ما هو أعم من القول والفعل، كما قال سبحانه عن فرعون في قوله: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (52) فينطبق على السنة والطريقة التي كان يتخذها ويأمر بها وكأن الآية محاذاة لقول فرعون هذا، فكذبه الله تعالى بقوله: ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ والرشيد: فعيل من الرشد خلاف الغي، أي: وما أمر فرعون بذي رشد حتى يهدي إلى الحق، بل كان ذا غي وجهالة (53).

 

لقد كان فرعون إمام ضلال: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ وكان فرعون وقومه: ﴿أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ فعلى القمة وعلى القاعدة أئمة يدعون إلى النار. إن الآمر جريمة والمنفذ جريمة. ولما كانت الفرعونية خطرا على الجنس البشري، ضرب الله تعالى رأسها ليكون في ضرب الرأس عبرة لمن خلفه سواء أكان في القمة أو في القاع. تماما كما ضرب سبحانه عادا وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، فكل قوم من هؤلاء نسج خيامه من الشذوذ وأقامها في معسكر الانحراف ليصد عن سبيل الله، فجعلهم الله عبرة، لأنه تعالى الرحمن الرحيم بعباده الذين في بطن الغيب، فاستئصال الذين ظلموا.. يكون أمام أبناء المستقبل دليل ليحذروا من الوقوع فيما وقع فيه أبناء الماضي. واستئصال الذين ظلموا في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل هو لأتباع الصراط المستقيم. في كل زمان ومكان دعوة للتمسك بالهدى لأن النجاة والفوز في رحابه.

 

2 - مولود على أرض الفراعنة:

إن الله تعالى رحيم مع كل جيل، وهو سبحانه يعلم ماذا يضمر الشيطان وأتباعه للصد عن سبيل الله. لهذا يقذف الله بالحق في كل مكان وزمان. ويقذف به في الماضي لتسري ذكراه مع كل حاضر. وعندما يأتي الزمان المقدر له، يواجه أتباع الشيطان. الذين قذفوا بأوراق الشذوذ وثقافة الانحراف على امتداد الأيام، من أجل إيجاد أجيال لهم في المستقبل تعتنق الشذوذ وتدافع عن الانحراف. ففي الوقت الذي كان أتباع الشيطان يمهدون بثقافة ابن الإله التي ركب عليها فرعون موسى.. كان يوسف عليه السلام يبشر بموسى الذي سيواجه قمة الإنتاج الفرعوني. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " لما حضرت يوسف الوفاة جمع شيعته وأهل بيته، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم أخذ يحدثهم بشدة تنالهم، يقتل فيها الرجال وتشق فيها بطون الحبالى وتذبح الأطفال، حتى يظهر الله الحق في القائم من ولد لاوي بن يعقوب، وهو رجل أسمر طويل. ثم وصفه لهم بنعته... " (54).

 

وظل بنو إسرائيل يتعاهدون هذه الوصية، وعندما طال الأمد.. استطالوا على الناس وعملوا بالمعاصي، ووافق خيارهم شرارهم فسلط الله عليهم القبط يعذبونهم (55). وفي زمان فرعون موسى تفنن في تعذيبهم وكان يستعبدهم وصنفهم في أعماله: فصنف يبنون، وصنف يحرثون ويزرعون ويغرسون، وصنف يتولون الأعمال القذرة (56) وليس معنى ذلك أن وصية يوسف بموسى قد ذهبت أدراج الرياح، فمن بين بني إسرائيل من كان يحفظها عن ظهر قلب، ويورثها لأبنائه جيلا بعد جيل. وقد أثبتنا في كتابنا تاريخ الجوع والخوف في مصر، أن انطلاقة أخناتون كان فيها أثر من تعاليم يوسف ومن قبله إبراهيم عليهما السلام. فأخناتون كان باحثا عن الحقيقة وكانت لا تربطه أي علاقة بأي وجه من وجوه الفرعونية المستكبرة المفسدة فبنو إسرائيل كانوا يحتفظون بالوصية، وكان من بين المصريين من عشقها حتى اختلطت بلحمه ودمه كأخناتون وامرأة فرعون ومؤمن آل فرعون، وعندما شاع أمر هذه الوصية في عهد فرعون موسى، تاجر بها كهان الدجل، فنصبوا أنفسهم في مقام العالمين بأخبار الغيب. وهم لا يرون أبعد من آنافهم، وعندما رأى فرعون في منامه أن نارا قد أقبلت من بيت المقدس حتى دخلت بيوت مصر فأحرقتها وأحرقت القبط ولم تمس بني إسرائيل، قال له الكهنة: إنه يولد في بني إسرائيل غلام يسلبك ملكك ويخرجك وقومك من أرضك ويبدل، وقد أظلك زمانه الذي يولد فيه. ووفقا لأطروحة الكهنة التي دثروها بخوفهم على فرعون، ووفقا لما كان يذكره بنو إسرائيل عن موسى الذي بشر به يوسف، أمر فرعون بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل! وفي حديث الثعلبي: كان فرعون يقتل الغلمان الذين كانوا في وقته من بني إسرائيل. ومن يولد منهم بعد ذلك. ويعذب الحبالى حتى يضعن ما في بطونهم.. وعندما اعترى الناس الخوف والرعب، دخل رؤساء القبط على فرعون وقالوا له: إن الموت وقع في بني إسرائيل وأنت تذبح صغارهم ويموت كبارهم. فيوشك أن يقع العمل علينا، فأمر فرعون أن يقتل أطفالهم سنة ويتركهم سنة. فولد هارون في السنة التي لا يقتل فيها. وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها (57).

 

وعندما وضعت أم موسى ولدها موسى، ونظرت إليه اغتمت كثيرا، وتيقنت بأنه لا يبقى لها، بل يقتلونه. ثم جاء الفرج يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ / فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ (58) قال المفسرون: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) أي فيما كانوا يفعلونه في أبناء بني إسرائيل.

 

تحذرا من انهدام ملكهم وذهاب سلطانهم، فقتلوا الجم الغفير من الأبناء ولا شأن لهم في ذلك، وتركوا موسى حيث التقطوه وربوه في حجورهم، وكان هو الذي بيده انقراض دولتهم وزوال ملكهم.

 

لقد فتح فرعون الصندوق وعندما وجد فيه صبيا قال: هذا من بني إسرائيل! وهم بقتله وعزم على إعدامه ولكن لما نظر إليه، ألقى الله تعالى في قلبه محبته محبة شديدة، وكذلك أحبته آسية زوج فرعون ومع ذلك فقلب فرعون أحس بالشر وأراد قتله. فقالت له زوجته: لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. وهم لا يشعرون أنه موسى، وعندما التقطه آل فرعون، حرم الله عليه المراضع، فجعله لا يقبل ثدي مرضع. فكلما أتوا له بمرضع لترضعه لم يقبل ثديها، حتى جاءت أخته ورأت الحال - وكانت أمه قد قالت لأخته حين ألقت به في النيل أن تتبع أثره - قالت لآل فرعون: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لنفعكم وهم له ناصحون؟ فاستمعوا لها بالقبول، فدلتهم على أمه فسلموه إليها. كي تقر عينها.

 

ثم إن موسى شب حتى أصبح رجلا في بيت فرعون. وكان بارعا باسلا قوي البأس، وافر القوة ذا عقل ورشد وكياسة حسن التصرف، كبير النفس، عالي الهمة، بعيد النظر، بطلا شجاعا مهيبا، غريبا في آرائه واختياره، عجيبا في مسلكه ومدخله ومخرجه، وجميلا في سياسته ومعاملة الناس، ففيه نبوغ ظاهر وعلم باهر وخلق حسن ومرؤة ولطف ودهاء، إلى ما لا يوصف ولا مثيل له، وقد جاء في الطبري: أنه من حينما شب موسى وقوي، كف المصريون عن بني إسرائيل، ومن الأمور البديهية أن يعرف فيه بنو إسرائيل الظهير والنصير لهم، وأن يلجأ إليه المضطهد والمظلوم منهم، ومع ذلك كله لم يخف عليه. من أنه دخيل في بيت فرعون. وأنه لو كشف أمره لظهر أنه من ذاك الشعب الذي يضطهده فرعون (59).

 

 

1- سورة يونس، الآية: 83

2- سورة المؤمنون، الآية: 47.

3- يقول تعالى في سورة المؤمنون: (إلى فرعون وملائه فاستكبروا وكانوا قوما عالين).

4- قال تعالى: (فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون) سورة الذاريات، الآية: 39.

5- يقول تعالى: (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون) سورة الزخرف، الآية: 47.

6- سورة النازعات، الآية: 24.

7- سورة القصص، الآية: 38.

8- سورة غافر، الآية: 25.

9- سورة الزخرف، الآية: 51.

10- سورة الأحزاب، الآية: 7.

11- سورة الشورى، الآية: 13.

12- سورة مريم، الآيتان: 51 - 52.

13- سورة الأحزاب، الآية: 69.

14- سورة النساء، الآية: 164.

15- سورة الصافات، الآيات: 114 - 122.

16- سورة طه، الآية: 47.

17- سورة مريم، الآية: 53.

18- سورة مريم، الآية: 58.

19- سورة الأنعام، الآية: 84 - 88.

20- سورة الأنبياء، الآية: 18.

21- تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف - تحت الطبع -.

22- المصدر السابق.

23- تاريخ مصر في عهد البطالمة / وإبراهيم نصحي: 26 / 2.

24- سورة القصص، الآية: 4.

25- الميزان: 8 / 16.

26- سورة الدخان، الآية: 31.

27- سورة طه، الآية: 24.

28- سورة طه، الآية: 79.

29- سورة الفجر، الآية: 10.

30- سورة النازعات، الآية: 24.

31- سورة القصص، الآية: 38.

32- سورة غافر، الآية: 29.

33- سورة يوسف، الآية: 37.

34- سورة طه، الآيات: 14 - 16.

35- تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف. تحتب الطبع.

36- سورة غافر، الآية: 29.

37- سورة هود، الآيتان: 97 - 98.

38- سورة النمل، الآية: 12، سورة الزخرف، الآية: 54، سورة القصص، الآية: 32.

39- سورة الدخان، الآية: 22.

40- سورة يونس، الآية: 75.

41- سورة يونس، الآية: 86.

42- سورة يونس، الآية: 85، سورة التحريم، الآية: 11.

43- سورة الشعراء، الآية: 27.

44- سورة الذاريات، الآية: 39.

45- سورة الزخرف، الآية: 47.

46- تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف تحت الطبع.

47- سورة القصص، الآيتان: 41 - 42.

48- سورة العنكبوت، الآية: 13.

49- سورة يس، الآية: 12.

50- الميزان: 39 / 16.

51- سورة هود، الآيات: 97 - 99.

52- سورة غافر، الآية: 29.

53- الميزان: 380 / 10.

54- كتاب الأنباء: 264.

55- كتاب الأنباء: 265.

56- كتاب الأنباء: 266.

57- كتاب الأنباء: 267.

58- سورة القصص، الآيتان: 7 - 8.

59- كتاب الأنباء: 262.

----------------------------------------------

3 - الفرار إلى مدين:

ذكر البيضاوي أن موسى مكث في آل فرعون ثلاثين سنة. وأنه خرج يوما حينما كان في بيت فرعون على حين غفلة من أهل المدينة فوجد مصريا يأخذ عبرانيا ليسخره في بعض عمله بغير رضى منه، وهو يمتنع منه، فلما رأى العبراني موسى استغاث به فجاء موسى إلى المصري ووكزه فقتله، ولم يعلم بذلك الأمر سوى الرجل العبراني الذي نصره موسى. وذكر الطبري أن المصريين لما عثروا على القتيل، قالوا لفرعون: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا من آل فرعون، فخذ لنا بحقنا! فقال لهم: أروني قاتله ومن يشهد عليه، فحينئذ أخذ آل فرعون في الفحص عن خصمهم. وبينما هم يطوفون في سكك المدينة مستمرين في التجسس والتفتيش، إذ مر موسى فوجد ذلك العبراني الذي كان سببا في قتل الفرعوني يقاتل فرعونيا آخر. فاستغاثه العبراني على الفرعوني. فخاطبه موسى قائلا له: إنك لغوي مبين، وعنى باللغوي العبراني، لأنه أحرج موقف موسى وأصبح بسببه خائفا من أن يظهر أمره وبعد القتل ظل موسى في المدينة ولم يرجع إلى بلاط فرعون، وعندما وبخ موسى العبراني، ظن العبراني أن موسى إنما يريد أن يبطش به، فقال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس! فعلم المصري عند ذلك أن موسى هو الذي قتل قتيل الأمس. فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر. فأتمروا بموسى وعزموا على قتله.

 

وأرسل فرعون في طلبه جماعة ممن أعدهم لمثل مهمته هذه، فسبقهم مؤمن آل فرعون، وأعلمه بما عزم عليه القوم وأنهم يريدونه، ونصحه بأن ينجو بنفسه، ويفارق بلاد مصر حتى لا تمتد أيديهم إليه بسوء. فحينذاك خرج منها خائفا يترقب. يقول تعالى: ﴿وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ / فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (1).

 

وروي أنه عندما خرج من مصر خائفا يترقب، خرج بغير ظهر ولا دابة ولا خادم، تخفضه أرض وترفعه أخرى حتى انتهى إلى أرض مدين، وهناك التقى مع نبي الله شعيب، وعندما قص عليه القصص، قال له لا تخف نجوت من القوم الظالمين، وفي مدين تزوج موسى بإحدى بنات شعيب كما ذكرنا من قبل، وقد ذكر البعض أن الشيخ الذي لقيه موسى في مدين لم يكن شعيب. وإنما كان أحد أتباع شعيب. وهذا ليس من الحقيقة في شئ، لأن الذي اشتهر بين الأمم وأجمع عليه علماء المسلمين. هو زواج بنت شعيب من موسى بن عمران ومصاهرته له. وإن لم يصرح القرآن الكريم بذلك. وإن الثابت عن طريق أهل بيت محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هو أن العلاقة الزوجية إنما تحققت بين موسى وابنة النبي شعيب.

 

4 - الوادي المقدس طوى:

روي أن موسى بعد أن قضى أتم الأجلين، وسار بأهله منفصلا عن أرض مدين يؤم مصر ومعه أغنامه وامرأته.. انطلق سائرا في برية الشام، عادلا عن المدن والعمران مخافة الملوك الذين كانوا في الشام، فسار غير عارف بالطريق.

 

حتى انتهى إلى جانب الطور الغربي الأيمن، في عشية شتائية شديدة البرد وقد أظلم عليه الليل وأخذت السماء ترعد وتبرق وتمطر، وبينما موسى يتأمل ما قرب وما بعد، إذ آنس من جانب الطور نارا، فحسبه نارا، فقال لأهله: امكثوا إني آنست نارا.

 

﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى / إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى﴾ (2) قال المفسرون: رأى نارا، فرأى أن يذهب إليها. فإن وجد عندها أحدا سأله الطريق وإلا أخذ قبسا من النار ليضرموا به نارا فيصطلوا بها. وفي قوله: ﴿قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا﴾ إشعار بل دلالة على أنه كان مع أهله غيره. كما أن في قوله: ﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ دلالة على أنه إنما رآها وحده وما كان يراها غيره من أهله. ويؤيد ذلك قوله أيضا أولا: ﴿إِذْ رَأَى نَارًا﴾.

 

﴿فلما فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى / إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى / وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى / إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي / إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى / فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾ (3).

 

قال المفسرون: ولما سمع موسى عليه السلام قوله تعالى: ﴿يَا مُوسَى / إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ فهم من ذلك فهم يقين أن الذي يكلمه هو ربه. وفي قوله: (نودي) حيث طوى ذكر الفاعل ولم يقل: ناديناه أو ناداه الله: من اللطف ما لا يقدر بقدر. وفيه تلويح أن ظهور هذه الآية لموسى كان على سبيل المفاجأة.

 

وقوله تعالى: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (4) هذا هو الوحي الذي أمر عليه السلام بالاستماع له في إحدى عشر آية. تشتمل على النبوة والرسالة معا، أما النبوة ففي هذه الآية والآيتين بعدها، وأما الرسالة فتأخذ من قوله: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾ وتنتهي في قوله: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ وقد نص تعالى أن موسى كان رسولا نبيا معا في قوله: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا﴾ (5). وقد ذكر في الآيات الثلاث المشتملة على النبوة الركنان معا. وهما ركن الإعتقاد وركن العمل.

 

وأصول الإعتقاد ثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد. وقد ذكر منها التوحيد والمعاد.

وطوى عن النبوة، لأن الكلام مع النبي نفسه. وأما ركن العمل. فقد لخص على ما فيه من التفصيل في كلمة واحدة هي قوله: ﴿فَاعْبُدْنِي﴾ فتمت بذلك أصول الدين وفروعه في ثلاث آيات (6) وبعد أن أوحى سبحانه إلى موسى من أمر الساعة ما أوحى، وما ذكرناه من قبل من أن قدماء المصريين كانوا لا يؤمنون بالبعث بمفهومه الحقيقي، بدأت الرسالة. قال تعالى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى / قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى / قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى / فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى / قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى / وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى / لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى / اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾.

قال المفسرون: أمر سبحانه موسى أن يلقي عصاه، فلما ألقى العصا صارت حية تتحرك بجد وجلادة، وذلك أمر غير مترقب من جماد لا حياة له، وهو قوله: ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾ وقد عبر تعالى عن سعيها في موضع آخر بقوله: ﴿رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ (7) وعبر عن الحية في موضع آخر لقوله: ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ (8) ثم أمره سبحانه أن يجمع يده تحت إبطه، أي يدخلها في جيبه تخرج بيضاء.

 

وبعد أن شاهد موسى آيات الله، وأمر بالذهاب إلى فرعون ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ / وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ﴾ (9) قال المفسرون: أشار عليه السلام إلى قتله القبطي بالوكز، وكان يخاف أن يقتلوه قصاصا، ثم قال عليه السلام: إن أخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معينا لي يبين صدقي في دعواي إذا خاصموني، إني أخاف أن يكذبون فلا أستطيع بيان صدق دعواي، وكان في لسانه عليه السلام لكنة، فخاف أن تكون هذه اللكنة عائقا في بيان حجته وبيان ذلك في موضع آخر من كتاب الله ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ / وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ﴾ (10) وبعد أن سأل موسى ربه أجاب سبحانه أدعيته جميعا: ﴿قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ (11).

 

قال المفسرون: شد عضده بأخيه. كناية عن تقويته به. وعدم الوصول إليهما كناية من عدم التسلط عليهما بالقتل ونحوه، كأن الطائفتين يتسابقان، وإحداهما متقدمة دائما والأخرى لا تدركهم بالوصول إليهم، فضلا عن أن يسبقوهم لقد عجزت عاد قوم هود الذين دونوا فقه من أشد منا قوة! عجزت عن أن تكيد لهود بقتل أو بغيره. وها هي دولة الفراعنة تواجه نفس الموقف، ففرعون ذو الأوتاد، صاحب الجنود والأحجار، الذي استكبر في الأرض مضروب عليه وعلى قوته، فلن يستطيع أن يمس موسى وهارون عليهما السلام بأي أذى، وإذا كان قد قال يوما لمن حوله: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾ فإن هذا القول يدل في المقام الأول على العجز، فمنذ متى وفرعون يستأذن في قتل إنسان؟ إنه قال ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾ لأنه مقيد بقانون ﴿فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾، وبعد أن أجاب الله سؤال موسى أمر بالذهاب إلى فرعون وأن يقولا له قولا لينا وقال تعالى: ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى / إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ (12) قال المفسرون: في سياق الآيات استهانة بأمر فرعون. وبما تزين به من زخارف الدنيا، وتظاهر به من الكبر والخيلاء ما لا يخفى. فقد قيل: ﴿فَأْتِيَاهُ﴾ ولم يقل اذهبا إليه. وإتيان الشئ أقرب مساسا به من الذهاب إليه.

 

ولم يكن إتيان فرعون وهو ملك مصر بذاك السهل الميسور. وقيل: ﴿فَقُولَا﴾ ولم يقل: فقولا له. كأنه لا يعتني به. وقيل: ﴿إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ﴾ و ﴿بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ﴾ فقرع سمعه مرتين بأن له ربا وهو الذي كان ينادي بقوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ وقيل: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ ولم يورد بالخطاب إليه.

 

ونظيره قوله: ﴿أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ من غير خطاب... وليس في ذلك خشونة في الكلام. وخروج عن لين القول الذي أمر به أولا. لأن ذلك حق القول الذي لا مناص من قرعه سمع فرعون. من غير تملق ولا احتشام وتأثر من ظاهر سلطانه الباطل وعزته الكاذبة (13).

 

1- سورة القصص، الآيتان: 20 - 21.

2- سورة طه، الآيتان: 9 - 10.

3- سورة طه، الآيات: 11 - 16.

4- سورة الشورى، الآية: 51.

5- سورة مريم، الآية: 51.

6- الميزان: 140 / 14.

7- سورة القصص، الآية: 31.

8- سورة الأعراف، الآية: 107.

9- سورة القصص، الآيتان: 33 - 34.

10- سورة الشعراء، الآيتان: 12 - 13.

11- سورة القصص، الآية: 35.

12- سورة طه، الآيتان: 47 - 48.

13- الميزان: 158 / 14.

--------------------------------------------

5 - النبي في مواجهة الانحراف:

روي أن موسى عليه السلام بعد أن كلمه الله تعالى في الوادي المقدس، توجه سائرا ومعه أهله ومواشيه إلى مصر ودخلها ليلا. ونزل في دار أهله التي فيها أمه وأخوه وبقية أهله وقد كان أخوه هارون قد استقبله وتلقاه عند شاطئ النيل وعلم بإعلام الله له، وعندما نزل في دار أهله كان لملاقاتهم له واجتماعهم به بعد تلك الغيبة الدهشة والسرور العظيم الباهر خصوصا لأمه الطاهرة. وقد أخبرهم بأمره ومجمل ما حل به، وروي أن موسى عندما ذهب إلى فرعون. أتى بابه فاستأذن عليه. فلم يأذن له. فضرب بعصاه الباب فاصطكت الأبواب منفتحة ثم دخل على فرعون فأخبره أنه رسول رب العالمين وسأله أن يرسل معه بني إسرائيل. وكان خطاب موسى لفرعون خطاب رفق ولطف ولين مع كمال الصبر في تبليغه (1).

 

لقد قام موسى عليه السلام بإبلاغ الرسالة إلى فرعون في المقام الأول، وفرعون إذا كان يحكم مصر وحده كما هو ظاهر، إلا أنه له أعوان يمهدون له كل طريق للظلم ويرفعون له كل كراسي الاستكبار، وإذا كان فرعون في مرتبة، وهم في مرتبة أخرى. إلا أن الجميع مجموعة عمل واحدة، وحزمة واحدة على طريق الشذوذ والانحراف. ومجموعة عمل الفرعون تتمثل في هامان الكاهن الأكبر وجنوده من الكهان الذين ينتشرون في معابد آمون والمعابد الأخرى الخاضعة لمذهب الدولة، وهامان كان عبدا مملوكا لفرعون ونظرا لإخلاصه إلى فرعون وشدة ملازمته له أصبح مستشاره ونديمه وشريكه في جميع أموره (2). لذا وضعه على رأس المعابد لأن المعابد كانت المصدر الوحيد للدوخة الدينية التي يعيشها الشعب، ومهمة الدوخة الدينية كانت ربط الناس بفرعون. وكانت المعابد تملك أخصب الأراضي ولها تجارتها وصناعتها وجنودها. باختصار كانت دولة داخل الدولة وعليها يعتمد فرعون (3) أما الشخصية الثانية في مجموعة العمل الفرعونية فهو قارون، وقارون هو الشخص الذي يقف وراء السلطة بالمال. وهو أيضا أهم عيون فرعون على بني إسرائيل، فقارون كان على علم بالكيمياء التي تتعلق بإنتاج الذهب وعلى علم بالتجارة وسائر المكاسب، وبما أنه من بني إسرائيل، جعله فرعون أميرا على بني إسرائيل (4) فالشخصية الكانزة هي نفسها الشخصية المتسلطة. وهذا وذاك يصب في آمال فرعون ويتجه نحو أهدافه. لهذا توجه موسى عليه السلام برسالته إلى مجموعة العمل التي تعمل من أجل التوثين والصد عن سبيل الله. فالرسالة تخاطب فرعون كممثل للجميع لأنه إذا آمن بموسى وما يدعو إليه. آمن الناس كلهم لأنهم جميعا تبع له، ولقد كان موسى عليه السلام شديد الرغبة في إيمان فرعون ليس من أجل فرعون، ولكن لأن إيمانه يعني أنه لن يبقى أحد في مصر إلا آمن بالله العلي العظيم. فالأمم من قبل كانت تجادل رسلها. أما في هذه الحالة، فلا قول إلا قول فرعون. لهذا توجهت الرسالة في مقدمتها الأولى إلى فرعون. ثم إلى باقي أفراد مجموعة العمل كي يقيم الله تعالى عليهم الحجة ليوم يأتي فيه الناس فرادى يقول تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ / إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (5) ويقول تعالى: ﴿ وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ...﴾ (6).

 

إنها مجموعة عمل واحدة جمعت بين السلطة والفتوى والمال، وتوجهت لتطحن الفطرة، وتصد عن سبيل الله رب العالمين، وعندما دخل موسى إلى فرعون وأخبره بأنه رسول رب العالمين وطالبه بأن يرسل معه بني إسرائيل، قال له فرعون: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ / وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ (7) قال المفسرون: مراده الاعتراض عليه أولا من جهة دعواه الرسالة والمعنى: أنت الذي ربيناك وأنت وليد، ولبثت فينا من عمرك سنين عديدة، نعرفك باسمك ونعتك، ولم ننس شيئا من أحوالك، فمن أين لك هذه الرسالة وأنت من نعرفك ولا نجهل أصلك؟ ثم تطرق إلى قتله عليه السلام للقبطي، فقال: ولقد فعلت فعلتك وأفسدت في الأرض بقتل النفس، فكفرت بنعمتي وأنت من عبيدي العبرانيين، فمن أين جاءتك الرسالة؟ وكيف تكون رسولا وأنت هذا الذي نعرفك ونعرف فعلتك (8) فأجاب موسى عليه السلام:﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ / فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ / وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (9).

 

قال المفسرون: الآيات الثلاث: جواب موسى عليه السلام عما اعترض به فرعون، وبالنظر إلى جوابه عليه السلام وما اعترض به فرعون. نتبين أنه عليه السلام حلل كلام فرعون إلى القدح في دعواه الرسالة من ثلاثة أوجه:

أحدهما: استغراب رسالته واستبعادها، وهو الذي يعلم حاله وقد أشار إليه بقوله: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا...﴾.

والثاني: استقباح فعلته ورميه بالإفساد والجرم بقوله: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ﴾.

والثالث: المن عليه. بأنه من عبيده ويستفاد ذلك من قوله: ﴿وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ وبدأ عليه السلام يجيب، فغير الترتيب في الجواب، فأجاب أولا عن اعتراضه الثاني. وهو القتل لأن فرعون يعلق عليه آمال وينسج من أجله كيد.

ثم أجاب عن الاعتراض الأول ثم عن الثالث. فقوله: ﴿فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ جواب عن اعتراضه بقتل القبطي. والمراد: أني فعلتها حينئذ.

 

والحال أني في ضلال من الجهل بجهة المصلحة فيه، والحق الذي يجب أن يتبع هناك، فأقدمت على الدفاع عمن استنصرني. ولم أعلم أنه يؤدي إلى قتل الرجل. ويؤدي ذلك إلى عاقبة وخيمة، تحوجني إلى خروجي من مصر وفراري إلى مدين والتغرب عن الوطن سنين.

 

ثم بين عليه السلام أن فراره من مصر كان لخوفه منهم، حيث أصبح الملأ لا شاغل لهم إلا الفتك به، كما أخبر الله في سورة القصص: ﴿ وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ...﴾ ثم أجاب عليه السلام عن اعتراض فرعون الأول، وهو استغراب رسالته واستبعادها وهم يعرفونه فقال: ﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فبين أن استغرابهم واستبعادهم رسالته استنادا إلى سابق معرفتهم بحاله، إنما يستقيم لو كانت الرسالة أمرا اكتسابيا، يمكن أن يتوقع حصوله بحصول مقدماته الاختيارية، وليس الأمر كذلك، بل هي أمر وهبي، لا تأثير للأسباب العادية فيها، وقد جعله الله من المرسلين، كما وهب له الحكم بغير اكتساب. أما اعتراض فرعون الثالث. حيث قام فيه بتقريع موسى على اعتباره من عبيده فكان جوابه: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ أي أن هذا الذي تعده نعمة، وتقرعني بكفرانها، سلطة ظلم وتغلب، إذ عبدت بني إسرائيل، والتعبيد ظلما وتغلبا، ليس من النعمة في شئ (10).

 

1 - الحجج الدامغة:

﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (11). قال المفسرون: لما كلم فرعون موسى عليه السلام في معنى رسالته قادحا فيها، فتلقى الجواب بما كان فيه إفحامه، أخذ يكلمه في خصوص مرسله فاستوضحه: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؟

 

فجاءته الإجابة: ﴿­قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾ (12) وكانت هذه صفعة للعقيدة المصرية القديمة. فالقوم كانوا يعتبرون (أوزير) إلها للموتى وأيضا للخصب، و (رع) إلها في السماء! وكل مذهب وكل فرقة قامت بتقسيم آلهتها في السماء والأرض وما بينهما. لهذا كانت إجابة موسى، كفأس إبراهيم عليه السلام التي أطاحت برقاب الأوثان في معامل الانحراف، لقد سأل فرعون عن رب العالمين، فوضع موسى ﴿السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ مكان العالمين ثم قال: ﴿إن كُنتُم مُّوقِنِينَ﴾ أي أن رب العالمين هو الذي يوقن الموقنون بربوبيته لجميع السماوات والأرض وما بينهما. إذا نظروا إليها وشاهدوا وحدة التدبير الذي فيها.

 

وأمام هذه الصفعة التي أطاحت بعقائد الفراعنة التي سهروا من أجلها قرونا طويلة نظر فرعون إلى من حوله ﴿قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾ (13)؟ قال المفسرون: أي ألا تصغون إلى ما يقوله موسى؟ والاستفهام للتعجب، يريد أن يصغوا إليه فيتعجبوا من قوله.. وعندما لفت فرعون أنظار مجموعة عمله إلى ما يقوله موسى، جاءه الجواب مرة ثانية من موسى: ﴿قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ﴾ (14) والفراعنة على امتداد تاريخهم لم يتفقوا على معبود واحد. فطبقة منهم عبدت قديما الإله (حور) في بداية الأسرات، ثم انعقدت العبادة للإله (رع) منذ أواسط الدولة القديمة، ثم انتقلت الرئاسة للإله (آمون) في الدولة الوسطى. ثم (آمون رع) في بداية الدولة الحديثة التي كان من أهم رموزها فرعون موسى (15) لهذا جاء جواب موسى عليه السلام، جوابا ناسفا للبداية والنهاية معا. لقد أجاب أنه ليس في الوجود إلا رب واحد للإنسانية وهو رب العالمين الذي أرسلني إليكم، وأمام حجج التحطيم التي يقذف بها موسى عليه

السلام بدأ فرعون يحرك أنيابه ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ (16) قال المفسرون: سمى فرعون موسى رسولا تهكما واستهزاء، وأضافه إلى من حوله، ترفعا من أن يكون رسولا إليه، وقد رماه بالجنون مستندا إلى قوله عليه السلام: ﴿رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ﴾.

 

وعندما اتهم فرعون موسى عليه السلام بالجنون، قذف موسى إليه بحجة قاصمة، أطاحت بعقيدة (أوزير) رب الموتى وبعقيدة (رع) أما عقيدة رب الموتى فكان المصريون القدماء يقيمون معظم أبواب مقابرهم في اتجاه الغرب ظنا منهم أن هذا الاتجاه منه يدخل الإله ويمنح الخلود للميت! وأما عقيدة (رع) فكانوا يعتقدون بأن (رع) هو رب الأرباب ويعني قرص الشمس، فالشمس عندما تشرق في الصباح تخرج من عند الإله (خبر) وعند الظهيرة تكتمل باسم الإله (رع) وعند النهاية تذهب باسم الإله (آتوم)! باختصار كان للشمس وشروقها وغروبها فقه طويل كل اتجاه فيه له إله، وهذا الإله له صنم على الأرض تحل الروح فيه ويتقرب إليه الناس ويدعي الفراعنة أنهم أبناؤه، فقام موسى عليه السلام بنسف هذه الإعتقادات من أصولها، فقال لفرعون وهو يحدثه عن رب العالمين: ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (17) وقوله.

 

﴿ِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ فيه تعريض لفرعون. مقابل استهزائه له عندما قال لمن حوله: ﴿أَلَا تَسْتَمِعُونَ﴾ ثم عندما رماه بالجنون، فقوله ﴿إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ إشارة إلى أنهم هم المحرومون من نعمة التعقل والتفقه. إن ﴿رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ تقرير لما جاء في الجواب الأول ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ وأنه برهان على وحدة المدبر من طريق وحدة التدبير. وفي ذلك تعريف لرب العالمين. بأنه المدبر الواحد الذي يدل عليه التدبير الواحد في جميع العالمين. وعندما أفحم موسى عليه السلام فرعون، لم يجد الطاغية إلا أسلوب السلطة والقهر ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ (18) قال المفسرون: والمعنى: لو دمت على ما تقول لأجعلنك في زمرة الذين في سجني. على ما تعلم من سوء حالهم وشدة عذابهم.

 

ونسف عقيدة القوم وردت أيضا في سورة طه. فلقد سأل فرعون عن القرون الأولى. حيث آباؤه الأولين فكان جواب موسى عليه السلام ناسفا لجملة عقائدهم ﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى / قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى / قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى / قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى / الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى / كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى / مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾ (19).

 

لقد كان فرعون يعيش في وهم أن دماء الآلهة تجري في عروقه، وبما أنه ابن للإله! فهو يباشر جميع سلطات هذا الإله! بمعنى أنه الصورة الظاهرة للإله الخفي الذي يعبده حزبه! ومن المعروف أن إله الفرعون الحاكم تكون له الهيمنة على جميع آلهة مصر، وعلى هذا فهو عندما يقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ يسري حكمه على أتباع مذهبه، وعلى أتباع بقية المذاهب لانعقاد الهيمنة لممثل الإله الذي يحكم، وتحت رداء الحاكم كان يوجد أرباب أخرى متعددة في الأقاليم، فهذا رب للفيضان وهذا رب للحكمة وآخر للخضرة والنماء، وكل هذه الأرباب يقرها فرعون لأن ما يقدم إليها من قرابين ونذور يعود عليه بالنفع قبل غيره. وعندما أخبره موسى وهارون بأنهما رسولا رب العالمين. قال: ﴿فَمَن رَّبُّكُمَا﴾ ظنا منه أنهما يعبدان ربا من أرباب القوم أو ربا من أرباب الممالك المجاورة. فإذا كانا يعبدان ربا من أرباب مصر، فلفرعون الهيمنة على جميع الأرباب فيها. والشعب يعلم بأن طريقته هي الطريقة المثلى ولن يترك لموسى أدنى فرصة لأن يذره وآلهته. وإذا كانا يعبدان ربا من أرباب الممالك المجاورة كان القتل أو السجن أو الطرد من نصيبهما، ولكن إجابة موسى عليه السلام جاءت على غير ما يتوقع فرعون ﴿­قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ لقد سأل: من ربكما؟

 

فكان من الحري أن يجاب بأن ربنا هو رب العالمين، ليشملهما وإياه وغيرهم جميعا، ولكن الإجابة جاءت بما هو أبلغ من ذاك فقيل: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ أي بأنه رب كل شئ، لا رب غيره، فإن خلقه الأشياء وإيجاده لها، يستلزم ملكه لوجودها وملك تدبير أمرها، وعندما سأله فرعون عن القرون الأولى أجاب بأنها معلومة لله محفوظة عنده في كتاب. لا يتطرق إليه خطأ ولا تغيير ولا غيبة وزوال، ثم بدأ عليه السلام في نسف أرباب النماء والفيضان والنيل وغير ذلك فقال: إن ربه هو الذي ﴿­جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى﴾ أي أن الله تعالى أقر الإنسان في الأرض يحيا فيها حياة أرضية ليتخذ منها زادا لحياته العلوية في الآخرة. وجعل للإنسان فيها سبلا، ليتنبه بذلك، أن بينه وبين غايته، وهي التقرب لله سبحانه سبيلا يجب أن يسلكها كما يسلك السبل الأرضية لمآربه الحيوية، وأنزل من السماء ماء وهو ماء الأمطار ومنه مياه عيون الأرض وأنهارها وبحارها، فأنبت منه أزواجا أي أنواعا وأصناما متقاربة من نبات يهديكم إلى مالكها ففي ذلك آيات تدل أرباب العقول إلى هدايته وربوبيته تعالى. ثم تطرق إلى قضية رئيسية أخرى. ألا وهي قضية البعث فقال إن ربه هو الذي بدأ خلق الإنسان من الأرض ثم يعيده فيها، ثم يخرجه منها للرجوع إليه.

 

2 - الاستكبار والمعجزة:

استمع فرعون، لكنه تمادى في دفعه وصده، ورأى عظيما عليه أن يلبي دعوة موسى ويتبع دينه. ويخلع عبادة الأوثان والربوبية عن نفسه. استمع الطاغوت الأكبر، لكنه لم يتدبر وقام بتحريك مخالبه وأنيابه، بعد أن هدم له موسى قوائم الظلم التي بدأت قديما من القرن الثاني والثلاثين قبل الميلاد هدم له قوائم خور وحتحور وبتاح وأوزير ورع وآمون وعجل أبيس، تلك القوائم التي انطلق بها الكهنة ووضعوها حول الرؤوس ليعيش الشعب في دوخة دينية فتركوا الحياة كلها لفرعون وتفرغوا للنهل من ثقافة القبور. أكلمه في حياة عادلة بعد الموت، ولكن هيهات هيهات. فأي عدل هذا الذي يقف فرعون على بابه، لقد استمع فرعون، فتحركت مخالبه من أجل الدفاع عن دماء الآلهة التي تجري في عروق البشر الذين يحكمون الناس، ومن أجل الدفاع عن تراث عميق ودفين دونه الآباء. ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ (20) هكذا لوح فرعون بالقضبان، ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ / حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ / قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (21) قال المفسرون: أي أنا حري بأن أقول الحق ولا أنسب إلى الله في رسالتي منه إليك شيئا من الباطل، ثم أخبره أن معه بينة من ربه وحجة قاطعة على صدق ما جاءهم به وأمره أن يطلق بني إسرائيل من أسره وقهره وأن يدعهم ليعبدوا الله ربه وربهم، فقال له فرعون: لست بمصدقك فيما قلت، ولا بمعطيك فيما طلبت، فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها إن كنت صادقا فيما ادعيت (22).

﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ / وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ﴾ (23).

 

لقد جاء إليهم بجنس ما عندهم وبجنس ما يحبون. فالقوم كانوا عباقرة في السحر. وروي أن فرعون وهامان هما من أمهر السحرة سحرا، وتغلبا على الناس بالسحر (24)، وكشفت البرديات أن مجلس التاسوع ومن بعده مجلس الثلاثين كان يزاول السحر على أوسع نطاق وكانوا يقتحمون عقول القوم بالأساطير المدعمة بالأمور السحرية لتصبح فيما بعد عقائد يدافع الناس عنها (25) فالعصا معجزة تخضع لها أعناق السحرة، أما اليد البيضاء، فإن القوم كانوا يعتبرون الشمس (رع) رب الأرباب ورب العالمين، وكان لشروقها وغروبها فقه طويل عريض، فجاءت معجزة اليد البيضاء، وقال صاحب الميزان: والأخبار التي وردت فيها أن يده عليه السلام كانت تضئ كالشمس الطالعة. والآيات الكريمة لا تقص أزيد من أنها كانت تخرج بيضاء للناظرين، إلا أن كونها آية معجزة، تدل على أنها كانت تبيض ابيضاضا لا يشك الناظرون في أنها حالة خارقة للعادة (26) لقد كانت معجزة اليد البيضاء التي تضئ كالشمس الطالعة آية لغير السحرة وللسحرة في نفس الوقت، آية تضرب عقيدة عبادة الشمس التي تفنن قدماء المصريين في التقرب إليها، فالشمس هي محور الارتكاز (رع) الإله الأكبر الذي نسب الفرعون خفرع نفسه إليه. بعد أن جسدوا لها صنما على الأرض وقالوا إن روح (رع) قد حلت به. والقوم لهم في كل حركة للشمس ربا وهذا الرب له صنم على الأرض. فالشمس تخرج في الصباح باسم الإله (خبر) وتشتد باسم الإله (رع) وتبلغ النهاية باسم الإله (آتوم) وهناك فرق وشيع أطلقوا أسماء أخرى على هذه الحركة، وكل فرعون يأتي من طائفة يدعي أنه ابن للإله الذي تلتف حوله هذه الطائفة ويحكم ويبني المعابد باسمه! وعندما جاء إليهم موسى عليه السلام فتح يده أمامهم ليروا ضوءا كثيرا فأشغلهم مثله. فماذا قال فقهاء الشمس وعباقرة السحر عندما شاهدوا الإعجاز؟ لقد ملأهم الرعب عندما شاهدوا آية العصا، وأخذتهم الدهشة عندما شاهدوا آية اليد البيضاء، لكنهم هدأوا بعد ذلك، ونسبوا ما شاهدوه إلى السحر! يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ / إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (27) كان هذا قرار مجموعة العمل، ثم قام فرعون بإسناد تهمة جديدة إلى موسى لتكون ورقة في يده لتحريك الجماهير ضد موسى ﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾ (28) قال المفسرون: اتهم موسى أولا: بالسحر، لئلا يلزمه الاعتراف بصدق ما جاء به من الآيات المعجزة وحقية دعوته.

 

وثانيا: بأنه يريد إخراج المصريين من أرض مصر! وهي تهمة سياسية، يريد بها صرف الناس عنه، وإثارة أفكارهم عليه.. بأنه عدوهم يريد أن يطردهم من بيئتهم ووطنهم بمكيدته! ولا حياة لمن لا بيئة له (29).

 

وما أن ألقى فرعون ببيان اتهام موسى بالسحر وبأنه يريد إخراج المصريين من مصر.. حتى التقط أشراف القوم البيان ورددوه كما أذيع ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ / يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ (30) وبعد أن قال الملأ الذين حول فرعون ما قاله فرعون حرفيا، قال لهم موسى:﴿أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ / قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾ (31) قال المفسرون: المراد بالحق هو الآية الحقة كالثعبان واليد البيضاء. ولقد أنكر موسى عليه السلام مقالتهم لرميهم الحق بأنه سحر، وقال فرعون وملؤه لموسى: ﴿أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾ وتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا) يريدون سنة قدمائهم وطريقتهم ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ﴾ يعنون الرئاسة والحكومة وانبساط القدرة ونفوذ الإرادة (32) إن زادهم في إناء الآباء، وحرفتهم هي الحكم. يدافعون عن الحكم بطرح أوراق التراث التي في إناء الآباء، وهم يطرحون أوراق التراث من أجل إلهاب مشاعر الجماهير ليدافعوا عن الحكم! فيحافظون بذلك على مصالحهم ويحافظون بذلك على الانحراف والشذوذ، والخاسر الوحيد في هذه القضية هم الجماهير الذين كفنوا الحاضر ليضعوه في توابيت المستقبل! والحياة من حولهم تناديهم أن رب العالمين هو خالق الكون، لكنهم لم يسمعوا نداء الحياة لأنهم لا يرون معالمها، فهم ينظرون بعيون فرعون ويفكرون بعقله.. يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ / وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ (33).

 

قال المفسرون: عندما شاهدوا المعجزات الباهرة والدلالة القاهرة على صدق موسى وهارون، وأيقنوا أنها من عند الله، عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة. وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق فقالوا: ﴿مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى﴾ أي مفتعل مصنوع (34) وأن ما جاء به موسى دين مبتدع لم ينقل عن آبائنا الأولين إنهم اتخذوه في وقت من الأوقات (35) هكذا ردوا كل شئ إلى إناء الآباء، على الرغم من مشاهدتهم للدلالة القاطعة التي تدعوهم إلى الحياة الكريمة الشريفة، وعندما قالوا: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾ كان جواب موسى مبنيا على التحدي ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ﴾ قال المفسرون: كأنه يقول: إن ربي - وهو رب العالمين له الخلق والأمر - هو أعلم منكم بمن جاء بالهدى ومن تكون له عاقبة الدار. وهو الذي أرسلني رسولا بديني التوحيد ووعدني أن من أخذ بديني فله عاقبة الدار ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ وفي هذا تعريض لفرعون وقومه، وفيه نفي أن تكون لهم عاقبة الدار، فإنهم بنوا سنة الحياة على الظلم وفيه انحراف عن العدالة الاجتماعية التي تهدي إليها فطرة الإنسان الموافقة للنظام الكوني (36).

 

والخلاصة: عرض موسى عليه السلام معجزاته، ولكن مجموعة العمل رفضت الهدى، ووفقا لهذا رفض القوم ما رآه فرعون غير صالح لهم، واتبعوا أمر الطاغية، وما أمر فرعون برشيد، ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ (37) لقد تكاتفوا حول عقيدة الشمس التي دونها آباء الضلال، في الوقت الذي كان فيه نور أبيض يسطع في يد موسى يدعوهم إلى الهدى، لكنهم تعاموا عنه. لأن مصلحة فرعون ليست في هذا النور.

 

3 - القرار الفرعوني:

بعد أن شاهد فرعون المعجزات. واتهم موسى عليه السلام بالسحر وبأنه يعمل من أجل إخراج أهل مصر من مصر! إغراء لمن حوله وحثا لهم على أن يتفقوا معه على دفع موسى بأي وسيلة ممكنة. ولما اتفقوا معه وتبنوا أطروحته.

قال: إذا كان الشأن هذا فماذا تشيرون علي أن أعامله به حتى أعمل به؟ ﴿قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ / يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ (38) قال المفسرون: أي أخر موسى وأخاه وأمهلهما، ولا تعجل إليهما بسياسة أو سجن ونحوه، حتى تعارض سحرهما بسحر مثله، وابعث في البلاد عدة من شرطتك وجنودك يحشرون كل سحار عليم فيها ويأتوك بهم والتعبير ب ﴿كُلِّ سَحَّارٍ﴾ إشارة إلى أن هناك من هو أعلم منه بفنون السحر وأكثر عملا. واعتمد فرعون الخطة، وقالوا لموسى: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى / قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ (39) قال المفسرون: جعل موسى عليه السلام الموعد يوم الزينة. وكان يوما لهم يجري بينهم مجرى العيد. ويظهر من اللفظة أنهم كانوا يتزينون فيه ويزينون الأسواق. واشترط موسى أن يحشر الناس ضحى أي وقت انبساط الشمس من النهار، ليكون ما يأتي به ويأتون به على أعين الناس في ساعة مبصرة، وبدأت الأبواق الفرعونية تجوب البلاد لجمع السحرة كي تتم المنازلة الكبرى، وبدأت الجماهير تستعد لمشاهدة معركة من معارك فرعون! ﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ / لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ (40) قال المفسرون: اجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم. وقال قائلهم: ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ﴾ ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم (41).

 

وجاء السحرة وطلبوا الأجر من فرعون إن كانوا هم الغالبين، فجعل لهم الأجر وزاد عليه الوعد بجعلهم من المقربين، وقبل المنازلة توجه موسى عليه السلام إلى السحرة وقال: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ (42) قال المفسرون: قال لهم موسى: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم. إيجاد أشياء لا حقائق لها وأنها مخلوقة وليست مخلوقة، فتكونون قد كذبتم على الله. فيهلككم بعقوبة، هلاكا لا بقية له (43). وبعد أن قال لهم موسى ذلك يقول تعالى: ﴿ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ (44) ومعناه: أنهم تشاجروا فيما بينهم، فقائل يقول: ليس هذا بكلام ساحر إنما هذا كلام نجي، وقائل يقول: بل هو ساحر (45) وانتهى أمرهم بأن قالوا: ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى / فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ (46) أي: قال السحرة فيما بينهم. تعلمون أن هذا الرجل وأخاه ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس، وتتبعهما العامة، ويقاتلا فرعون وجنوده، فينصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم (47) ثم أضافوا إلى ذلك أمرا آخر أشد من الخروج من الديار وهو ذهاب طريقتهم المثلى وسنتهم القومية، التي هي ملة الوثنية الحاكمة فيهم قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل! وقد اشتد بها عظمهم وثبت عليها لحمهم. والعامة تقدس السنن القومية، وعلى الأخص ما اعتادت عليه وظنت بأنها سنن ظاهرة سماوية (48) فقالوا: إذا غلب هذان. أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بالرئاسة كان في ذلك الفناء بالمرة لأنهما سيذهبان بسنة قومية تعتمد عليها ملتهم وتستند إليها شوكتهم وعظمتهم وتعتصم بها حياتهم. فلو اختلفوا وتركوا مقابلة موسى، واستعلى هو عليهم كان في ذلك الفناء المحقق، ثم كان الرأي هو أن يجمعوا كل كيد لهم، ثم يتركوا الاختلاف، ويأتوا صفا حتى يستعلوا ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ (49) أي منا ومنه. فالفائز اليوم هو الفالح.

 

4 - التخيل والسحر:

اتفق السحرة على أن يتحدوا ولا يهنوا في حفظ ملتهم ومدينتهم ويكروا على عدوهم كرة رجل واحد، وجلس فرعون على سرير مملكته واصطف له أكابر دولته ووقفت الرعايا على يمينه ويسراه (50) وقال السحرة: ﴿ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى / قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى / فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى / قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى﴾ (51) قال المفسرون: خيروا موسى بين أن يبدأ بالإلقاء أو يصبر حتى يلقوا، فأخلى لهم الظرف كي يأتوا بما يأتون به، وهو معتمد على ربه واثق بوعده، من غير قلق واضطراب وقد قال ربه فيما قال: ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ (52) وقال: ﴿ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ (53). وعندما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم ﴿قَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ (54). فإذا بحبالهم وعصيهم يخيل للناس أنها تسعى. فخاف موسى عليه السلام على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه (55) وقيل: إنه خاف أن يتفرق الناس بعد رؤية سحرهم ولا يصبروا إلى أن يلقي عصاه. وقيل: إنه خاف أن يلتبس الأمر على الناس فلا يميزوا بين آيته وسحرهم للتشابه فيشكوا ولا يؤمنوا ولا يتبعوه، ولم يكن يعلم بعد أن عصاه ستلقف ما يأفكون، وقيل: أحس في نفسه نوعا من الخوف لا يعبأ به.

 

لأنهم أظهروا للناس من السحر ما يشابه آيته المعجزة أو ما يقرب منه. وإن كان ما أتوا به سحرا لا حقيقة له، وما أتى به آية معجزة ذات حقيقة. وقد استعظم الله سحرهم إذ قال: ﴿قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ (56).

 

وعندما ألقوا حبالهم وعصيهم خيل لموسى من سحرهم أنها تسعى، فلقد اختص سبحانه موسى من بين الناس بأنه ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ (57) أما بقية الناس فلقد ذكرهم الله تعالى في موضع آخر فقال: ﴿سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾ (58) واسترهبوهم أي أخافوهم. وبما أن خوف الناس ليس كخوف موسى. لأن موسى واثق من نصر الله. وهو ما خاف إلا على الناس، لأنه كان يطمع أن يؤمنوا، فإذا تفرقوا قبل أن يلقي بعصاه خسروا.

 

فكذلك هناك فرق بين موسى والناس في عملية سحروا أعين الناس، هناك فرق بين ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ﴾ وهذا خاص بموسى. وبين ﴿سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ وهذا خاص بالناس يوم الزينة خارج منهم موسى. والناس عندما اجتمعوا يوم الزينة كان عندهم الاستعداد التام للإيمان بالسحرة. قالوا: ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ (59) وهذا الاستعداد له دخل كبير في عملية تلقي الحدث. أما موسى عليه السلام فكان له موقف آخر عندما ألقوا حبالهم وعصيهم ﴿فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (60) قال المفسرون: والحقيقة التي بينها لهم أن الذي جاؤوا به سحر، والسحر شأنه إظهار ما ليس بحق واقع في صورة الحق الواقع لحواس الناس وأنظارهم، وإذا كان باطلا في نفسه! فإن الله سيبطله، لأن السنة الإلهية جارية على إقرار الحق وإحقاقه في التكوين، وإزهاق الباطل وإبطاله، فالدولة للحق وإن كان للباطل جولة أحيانا ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ وقد جرت السنة الإلهية أن يصلح ما هو صالح ويفسد ما هو فاسد وهذه الحقيقة تستلزم أن السحر وكل باطل غيره لا يدوم في الوجود، إن موسى عند إلقاء السحرة حبالهم، كان على يقين من أن الباطل إلى زوال لكنه كان يريد للناس أن يكونوا تحت مظلة الحق لا تحت مظلة الباطل، وخيفة موسى لم تكن كخوف الناس، وتخيل موسى، لم يكن كسحر عيون الناس، ولعل في هذا كفاية لمن قالوا إن الذي جرى على الناس جرى على موسى عليه السلام.

  

1- كتاب الأنباء: 285.

2- كتاب الأنباء: 286.

3- تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف / تحت الطبع.

4- كتاب الأنباء: 347.

5- سورة غافر، الآيتان: 23 - 24.

6- سورة العنكبوت، الآية: 39.

7- سورة الشعراء، الآيتان: 18 - 19.

8- الميزان: 261 / 15.

9- سورة الشعراء، الآيات: 20 - 22.

10- الميزان: 265 / 15.

11- سورة الشعراء، الآية: 23.

12- سورة الشعراء، الآية: 24.

13- سورة الشعراء، الآية: 25.

14- سورة الشعراء، الآية: 26.

15- تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف.

16- سورة الشعراء، الآية: 27.

17- سورة الشعراء، الآية: 28.

18- سورة الشعراء، الآية: 29.

19- سورة طه، الآيات: 49 - 55.

20- سورة الشعراء، الآية: 29.

21- سورة الأعراف، الآيات: 104 - 106.

22- ابن كثير: 236 / 2.

23- سورة الأعراف، الآيتان: 107 - 108.

24- كتاب الأنباء: 286.

25- تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف تحت الطبع.

26- الميزان: 213 / 8.

27- سورة غافر، الآيتان: 23 - 24.

28- سورة طه، الآية: 57.

29- الميزان: 172 / 14.

30- سورة الشعراء، الآيتان: 34 - 35.

31- سورة يونس، الآيتان: 77 - 78.

32- الميزان: 109 / 10، ابن كثير: 426 / 2.

33- سورة القصص، الآيتان: 36 - 37.

34- ابن كثير: 389 / 3.

35- الميزان: 37 / 16.

36- الميزان: 36 / 16.

37- سورة طه، الآية: 79.

38- سورة الشعراء، الآيتان: 36 - 37.

39- سورة طه، الآيتان: 58 - 59.

40- سورة الشعراء، الآيتان: 39 - 40.

41- ابن كتير: 334 / 3.

42- سورة طه، الآية: 61.

43- ابن كثير: 157 / 3.

44- سورة طه، الآية: 62.

45- ابن كثير: 157 / 3.

46- سورة طه، الآيتان: 63 - 64.

47- ابن كثير: 156 / 3.

48- الميزان: 176 / 14.

49- الميزان: 176 / 14.

50- ابن كثير: 157 / 3.

51- سورة طه، الآيات: 65 - 68.

52- سورة طه، الآية: 46.

53- سورة القصص، الآية: 35.

54- سورة الشعراء، الآية: 44.

55- ابن كثير: 158 / 3.

56- سورة الأعراف، الآية: 116.

57- سورة طه، الآية: 66.

58- سورة الأعراف، الآية: 116.

59- سورة الشعراء، الآية: 40.

60- سورة يونس، الآية: 81.

-------------------------------------------

6 - المجازر والخوف والاستكبار:

عندما ألقى السحرة بحبالهم وعصيهم، وسحروا أعين الناس. صار الوادي وكأنه ملآن بالحيات يركب بعضها بعضا، وعندما ألقى موسى عليه السلام بعصاه، صارت تنينا عظيما هائلا ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي، حتى لم تبق منها شيئا إلا تلقفته، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانا جهرة نهارا ضحوة، فقامت المعجزة واتضح البرهان (1) يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ / فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ / فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ / وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ / قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ / رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ (2) قال المفسرون: السحرة هم الذين ألقوا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، وذلك إشارة إلى كمال تأثير آية موسى فيهم وإدهاشها إياهم، فلم يشعروا بأنفسهم حينما شاهدوا عظمة الآية وظهورها عليهم، إلا وهم ملقون ساجدون...

 

فاضطرتهم الآية إلى الخرور على الأرض ساجدين، والإيمان برب العالمين الذي اتخذه موسى وهارون. وفي ذكر موسى وهارون دلالة على الإيمان بهما مع الإيمان برب العالمين. كما أن بيانهم رب العالمين برب موسى وهارون إشارة إلى رفضهم لعقيدة (رع) رب العالمين الذي تجري دماؤه في عروق الدجاجلة الكبار والصغار، وعلى رأسهم الفرعون المتكبر المسرف العالي في الأرض. وما إن أع لن السحرة ذلك، حتى هاج فرعون، وبدأ يلقي بالاتهامات ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ (3)! قوله إنه لكبيركم ورقة سياسية يريد بها تهييج العامة عليهم، فهو يريد أن يقول: إنهم تواطأوا مع رئيسهم عند المنازلة فتخاذلوا وانهزموا وآمنوا لتتبعهم العامة وتذهب الطريقة المثلى! ولهذا قال في موضع آخر: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ (4)!

 

وبدأ فرعون يحدد العقاب، فقال للسحرة: ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ (5) وفي الوقت الذي كان فرعون يهدد فيه بالعقاب، جاءه الرد من السحرة: ﴿قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ / وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ (6).

 

قال المفسرون: لقد آمنوا بالبعث، وذلك في قوله: ﴿قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ﴾. وقد قابلوه بما يبطل كيده، وتنقطع به حجته، وهو أنك تهددنا بالعذاب قبال ما تنقم منا من الإيمان بربنا ظنا منك أن ذلك شر لنا، إن ذلك ليس بشر لأننا نرجع إلى ربنا، وإن ما تظنه أنت جرما هو لنا خير. لقد حطموا له قاعدته: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾. أخبروه أنهم قد تحققوا أنهم إلى الله راجعون. وأن عذاب الله أشد من عذابه. وأنهم يصبرون اليوم على عذاب فرعون طمعا في أن ينجيهم الله من عذابه الأليم يوم القيامة، ولهذا قالوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا﴾ أي عمنا بالصبر على دينك والثبات عليه ﴿وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ أي متابعين لموسى وهارون، وقالوا لفرعون: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ وهكذا كانوا في أول النهار سحرة يقولون قد أفلح اليوم من استعلى. ويلقون حبالهم قائلين بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون. وبعد أن شاهدوا آية ربهم لما جاءتهم آمنوا، ثم وقفوا بإيمانهم أمام الجبروت الفرعوني، واستغاثوا بربهم أن يفرغ عليهم الصبر، لقد شبهوا أنفسهم بالآنية والصبر بالماء، وإعطاءه بإفراغ الإناء بالماء، وهو صبه فيه حتى يغمره، وإنما سألوا ذلك ليفيض الله عليهم من الصبر، ما لا يجزعون به عند نزول أي عذاب وألم ينزل بهم.

 

لقد طلبوا الصبر عليهم، لأن الفرعون قاس، وفي آخر النهار كان السحرة على جذوع النخل. تجري الدماء من أطرافهم، لكنها كانت دماء كماء الصبر، وهكذا بدأوا النهار سحرة وختموه شهداء بررة. أما فرعون فانطلق إلى قصره كالثور الهائج يهدد ويتوعد ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ (7) قال المفسرون: هذا إغراء من القوم لفرعون وتحريض له أن يقتل موسى وقومه، لأنهم يفسدون أهل رعيته ويدعونهم إلى عبادة ربهم وترك آلهة فرعون وعبادته (8). وكانت الألوهية في عهد الأسرة التاسعة عشرة (1308 - 1194 ق. م) معقودة (لآمون رع) وكان فرعون يمثله على الأرض!

 

ويحكم باسمه (9). فكان رد فرعون (ابن آمون رع!) أن وعد الملأ من قومه.. أن يعيد إلى بني إسرائيل تعذيبه السابق، وهو قتل أبنائهم واستحياء نسائهم واستبقاؤهن للخدمة، وعقب بقوله: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ وهو تطييب قلوبهم وإسكان ما في نفوسهم من الاضطراب (10). وبعد وعده لقومه بقتل أبناء بني إسرائيل. جلس مع مجموعة مجملة، وحددوا أن الذي ينبغي أن يقتل من بني إسرائيل هم أبناء الذين آمنوا لا غير. يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ / وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ / إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ / فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ﴾ (11) فبين الوعد بالقتل في قوله: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ﴾ وبين التنفيذ في قوله: ﴿اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ إشارة إلى تدخل أطراف في تحديد من الذي يقتل. ولما كان تحديد أبناء الذين آمنوا قد جاء في آية يتصدرها فرعون وهامان وقارون، فإن قارون بصفته أميرا على بني إسرائيل من قبل فرعون، يكون قد ساهم مساهمة فعالة في التحديد وفي التنفيذ، وعن مجموعة العمل هذه يقول المفسرون: أما فرعون فهو الجبار حاكم القبط، وأما هامان فوزيره، وأما قارون فمن طغاة بني إسرائيل ذو الخزائن المليئة، ولقد اختص الله الثلاثة بالذكر، لكونهم أصولا ينتهي إليها كل فساد، وقد جاءهم موسى بالحق، وكان من الواجب أن يقبلوه ولا يردوه لأنه حق. وكان ما جاءهم به من عند الله، وكان من الواجب أن يقبلوه ولا يردوه، فقابلوه بالكيد، وصدوا عن سبيل الله وأمروا بقتل أبناء الذين آمنوا!

 

لم تكن ملامح الفطام على جذوع النخل فقط حيث صلب السحرة، ولم تكن في بيوت ضعفاء قوم موسى، وإنما كانت ملامحه أيضا داخل القصر الفرعوني نفسه، فالسيدة آسية زوجة فرعون لم تنج من البطش لأنها آمنت برسالة موسى عليه السلام، وهي التي كانت تتعهده عندما كان صغيرا في بيت فرعون، يقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (12) قال المفسرون: قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة: الجمع بين كون البيت المبني لها عند الله في الجنة. لكون الجنة دار القرب من الله وجوار رب العالمين. فقد اختارت جوار ربها والقرب منه، على أن تكون أنيسة فرعون وملكة مصر، وآثرت بيتا يبنيه لها ربها على بيت فرعون، الذي فيه مما تشتهيه الأنفس وتتمناه القلوب. لقد عزفت نفسها عما هي فيه من زينة الحياة الدنيا، وهي لها خاضعة، وتعلقت بما عند ربها من الكرامة والزلفى، فآمنت بالغيب، واستقامت على إيمانها حتى لقت ربها شهيدة. وقولها: ونجني من فرعون وعمله، سؤال أن ينجيها الله من شخص فرعون، ومن عمله الذي يدعو ضرورة المصاحبة والمعاشرة. لقد استغاثت بالله من مجتمعها الخاص. وقولها: ونجني من القوم الظالمين - وهم قوم فرعون - كان استغاثة بالله أن ينجيها من المجتمع العام - لقد رفضت آسية الخاص والعام، وطلبت القرب والجوار فجمعت بين الكرامتين.

 

قتلها فرعون بعد خزيه في يوم الزينة، عندما علم بإيمانها برسالة موسى عليه السلام كما قتل الماشطة وأولادها وكانت الماشطة تقوم بخدمة بنات فرعون، قتلها ومعها أولادها عندما علم أنها رفضته ورفضت شذوذ آبائه، لقد تتبع فرعون كل طاقة تحمل نور الإيمان وأجرى فيها الدماء. كان أطفال المؤمنين في الماء المغلي، ثم يقطع أطراف الآباء بين ضحكات الملأ وهتاف الجماهير. لقد كانوا يظنون أنهم يبلغون مع كل قتيل يقتلونه القمة! وأن الأطراف المقطوعة والأجساد المعلقة على جذوع النخل بطوله لا تحتاج دليل.

 

1 - الخوف:

في عالم ما أريكم إلا ما أرى ترتجف الفطرة ويعم الخوف! وفي عالم فرعون خاف الكل من الكل! وكان مجرد ذكر اسم موسى جريمة في قانون فرعون وبهذا صد فرعون عن سبيل الله. يقول تعالى: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ / وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ / فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ / وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (13) قال المفسرون: قال البعض إن الضمير في قومه راجع إلى فرعون والذرية التي آمنت من قوم فرعون، وقال آخرون ومنهم ابن جرير: إن الضمير لموسى والمراد بالذرية جماعة من بني إسرائيل لا من قوم فرعون (14). وذهب صاحب الميزان مع ابن جرير فيما قال. وقال: والذي يفيده السياق - وهو الظاهر من الآية -، أن يكون الضمير راجعا إلى موسى، والمراد بالذرية من قوم موسى. بعض الضعفاء من بني إسرائيل دون ملئهم الأشراف الأقوياء، والاعتبار يساعد على ذلك، فإن بني إسرائيل كانوا محكومين بحكم آل فرعون، والعادة الجارية في أمثال هذه الموارد، أن يتوسل الأقوياء والأشراف بأي وسيلة أمكنت، إلى حفظ مكانتهم الاجتماعية وجاههم القومي - كقارون مثلا - ويتقربوا إلى الجبار المسيطر عليهم بإرضائه بالمال والتظاهر بالخدمة والتجنب عما لا يرتضيه، فلم يكن في وسع الملأ من بني إسرائيل، أن يعلنوا موافقة موسى على دعوته وأن يتظاهروا بالإيمان به، وقصص بني إسرائيل في القرآن أعدل شاهد على أن كثيرا من عتاة بني إسرائيل ومستكبريهم لم يؤمنوا بموسى إلى أواخر عهده، وإن كانوا يسلمون له ويطيعونه في عامة أوامره التي كان يصدرها لبذل المساعي في سبيل نجاة بني إسرائيل. لما كان فيها صلاح قوميتهم وحرية شعبهم ومنافع أشخاصهم، فالإطاعة في هذه الأمور شئ والإيمان بالله وما جاء به الرسول شئ آخر، ويستقيم على هذا المعنى قوله: (وملإيهم) بأن يكون الضمير إلى الذرية. ويفيد النص أن الذرية الضعفاء كانوا في إيمانهم يخافون الملأ والأشراف من بني إسرائيل. فإن الأشراف في بني إسرائيل ربما كانوا يمنعونهم لعدم إيمانهم أنفسهم، أو تظاهروا بذلك ليرضوا به فرعون وقومه (15).

 

وخلاصة ما نريد أن نقوله: إن الضعفاء كانوا يخافون من الداخل ومن الخارج، ففي الداخل يوجد أصحاب المصالح الذين يضحون بأي شئ في سبيلها، وفي الخارج فرعون وهامان وجنودها. أما فرعون فهو عال في الأرض لا يعدل فيما يحكم ويتفنن في التعذيب والقتل، وأما هامان فبقاؤه في بقاء فرعون وأما الجنود فغوغاء أتباع لكل ناعق، لقد كان الضعفاء يخافون على دينهم الذي يدفعون من أجله أبناءهم. من الذين يخافون على دنياهم ولا يتحرجون في فعل أي شئ من أجل الحفاظ إما على المصلحة وإما على الكرسي. إن عالم الخوف هذا الذي وضع قيوده وأسواره حول الفطرة. يعود إلى النظام الذي أقامه فرعون، فنظام فرعون هو أخطر النظم على الفطرة، لأنه محمل بالذهب وغني بالمصالح ومسلح بالبطش ويسهر عليه فقهاء فرق وشيع كل منهم يقدم هوى، وجميع الأهواء تصب في النهاية عند ابن آمون وفي عالم الخوف هذا يقول تعالى: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (16) قال المفسرون: لقد استنهضهم للاستعانة بالله والصبر على الشدائد، لأن الأرض يورثها من يشاء، وفرعون لا يملك الأرض حتى يمنحها من يشاء، ويمنع من التمتع بها من يشاء. وقد جرت السنة الإلهية أن يخص الله من يتقيه من عباده بحسن العاقبة، والله تعالى نظم الكون نظما يؤدي كل نوع إلى غاية وجوده وسعادته التي خلق لأجلها، فإن جرى على صراطه الذي ركب عليه، ولم يخرج عن خط سيره الذي خط له، بلغ سعادته لا محالة، والإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع أيضا حاله هذا الحال، إن جرى على صراطه الذي رسمته له الفطرة، واتقى الخروج عنه والتعدي منه إلى غير سبيل الله، هداه الله إلى عاقبته الحسنة، وأحياه الحياة الطيبة، وأرشده إلى كل خير يبتغيه.

 

إن فرعون لا يملك الأرض، وإنما يمتلك أجسادا في سجون أهوائه، والأرض لله، والعاقبة مطلقا للمتقين. وعلى المتقين يجري الاختبار. قد يكون اختبارهم تحت مظلة فرعون، وقد يكون تحت مظلة عاد أو ثمود أو أصحاب الأيكة. وفي جميع الأحوال، فإن أصحاب مظلات الصد عن سبيل الله، يتربعون على عروش هي أنسب شئ لشقاء لا ينتهي. فالأرض عليها تقي وشقي، فالمتقي لا يعنيه إن كان في القمة أو في القاع لأنه يأخذ بالأسباب ويسير في حياته وفقا لفقه الحلال والحرام، والشقي هو تحت الزخرف والزينة شقي، لأنه يقيم حياته على مقاييس تتصادم مع الكون وفطرة الوجود، ولذلك فزواله حتمي، لأن زواله سنة من سنن الوجود.

 

لقد كان الضعفاء يخافون من جبابرة الداخل والخارج، وكان موسى عليه السلام يبث فيهم الاستعانة بالله والصبر على الشدائد، وعندما قالوا له: ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ (17) قال لهم قولا بليغا ينسف قواعد تجار الأهواء والمصالح من بني إسرائيل، الذين حرفوا التوراة بعد ذلك، معتبرين أن العاقبة لبني إسرائيل، ولا تحتمل شرطا ولا قيدا: ﴿قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾(18) قال المفسرون:

كأنه قال: ما أمرتكم به. أن اتقوا الله في سبيل مقصدكم، هذه كلمة حية ثابتة، فإن عملتم بها كان من المرجو أن يهلك الله عدوكم ويستخلفكم في الأرض.

 

بإيمانكم إياها. والله لا يصطفيكم بالاستخلاف اصطفاء جزافا، ولا يكرمكم إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد، بل ليمتحنكم بهذا الملك، ويبتليكم بهذا الاستخلاف، فينظر كيف تعملون، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء﴾ (19) والقرآن بهذا يبين خطأ ما يعتقده اليهود من كرامتهم على الله كرامة لا تقبل عزلا. ولا تحتمل شرطا ولا قيدا، والتوراة تعد شعب إسرائيل شعب الله الذين لهم الأرض المقدسة، كأنهم ملكوها من الله سبحانه ملكا لا تقبل نقلا ولا إقالة (20) وقد بينا زيف ذلك الادعاء في سلسلة بحوثنا عن المسيح الدجال الذي مقدر له الخروج آخر الزمان.

 

لقد واجه الذين آمنوا الخوف الذي غرس فرعون رموزه وأوتاده وقضبانه في كل مكان، وأمام سيل الخوف الجارف بث موسى عليه السلام بين أتباعه الصبر، كان فرعون يقتل الأطفال. فيروي الذين آمنوا الدماء بالدموع، ويقدمون الحزن والآهات والدموع إلى موسى كي يشهد عليها ويرفعها في دعائه إلى الله.

 

2 - الاستكبار:

لم يستطع فرعون أن يواجه حجة موسى عليه السلام التي دمر بها عقيدة الشمس وفروعها، تلك العقيدة التي قالت بأن الآلهة قد زاولوا مهمة الحكم على الأرض يوما! ثم غادروها ليأتي بعد ذلك أبناؤهم من البشر ليحكموا أهلها. لقد دمر الأصنام التي شيدتها الأساطير أصنام (رع) (أوزير) (آمون) (حور) (بتاح) (آتوم) (حتحور) (أبيس) (تحوت) ذلك الطابور الذي تعد أوثانه بالآلاف. وعندما لم يستطع فرعون وفقهاؤه أن يواجهوا حجج موسى ومعجزاته القاهرة مارسوا عمليات قتل الأطفال والرجال والنساء، ولأن عمليات القتل لم يتدخل فيها من يقهر فرعون ويجبره على الكف عنها. تطاول فرعون في هذا الميدان الخالي، واستغل هذا الموقف أمام شعبه. فطلب منهم أن يتركوه ليقتل موسى. وليدع موسى ربه ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (21).

 

قال المفسرون: ﴿ذَرُونِي﴾ أي اتركوني. خطاب يخاطب به ملأه. وفيه دلالة على أن هناك مانعا يمنعه. مانعا شخصيا وهو أنه عاجز عن ذلك. يقول الله تعالى لموسى: ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا﴾ (22) ومانعا داخليا أنه كان هناك من يشير عليه أن لا يقتل موسى ويكف عنه، وهؤلاء جاء ذكرهم في كتاب الله كما يشير إليه قوله تعالى: ﴿قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾ (23) فقوله: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى﴾ كان فرعون يريد به أهدافا سياسية، اتخذ موسى مدخلا لها. وهو وإن كان لم يظهر عجزه أمام شعبه إلا أنه تاجر بهامش (الديمقراطية) التي يعطيها لهم لتصب في أهدافه في نهاية الأمر.. فسياسة ﴿ذَرُونِي﴾ تفيد أن هناك اعتراضا على قتل موسى، وهذا الاعتراض يستقيم مع الخوف الداخلي للفرعون. وخوف فرعون الداخلي هذا، لا يتعارض مع خروجه وراء موسى بعد ذلك إلى البحر الذي لاقى فرعون فيه حتفه. لأن هذا الخروج كان يخضع لسنة الاستئصال، فالله تعالى أخرجه من دائرة الغيظ التي كانت تشتعل بداخله لعدم مقدرته قتل موسى الذي يهدد ملكه، كما أخرجه وأخرج قومه من جنات وعيون وكنوز. كان فرعون يعطيهم فيها مسحة من الحرية التي تصب في أهدافه يقول تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ / وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيم﴾(24).

 

﴿وقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾. قال المفسرون: وقوله: (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي فليدع ربه أن ينجيه من يدي وليخلصه من القتل إن قدر.. وقوله هذا مكمل لما سبق للوصول إلى أهدافه السياسية، فكأنه يقول لقومه: اتركوني أقتل موسى الذي يقول لكم: إنه رسول رب العالمين، وليدع ربه أن يخلصه من القتل، فأنتم شاهدتم وتشاهدون أنني أقتل أتباع موسى ولم يخلصهم إله موسى من يدي، وهذا يثبت ألوهيتي.. وبعد هذه المقدمة طرح فرعون أهدافه ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (25) فعدم مقدرته على قتل موسى، جعله يفكر في فرض حصار على دعوة موسى حتى لا تنتشر بين المصريين. قال المفسرون: ذكر لهم أنه يخاف موسى عليهم من جهة دينهم ومن جهة دنياهم. أما من جهة دينهم والذي هو عبادة الأوثان. فأن يقوم موسى بتبديله ويضع موضعه عبادة الله وحده، وأما من جهة دنياهم، فإنه إذا عظم أمر موسى وتقوى جانبه وكثر متبعوه فيترتب على هذا تمرد. وينتهي الأمر إلى ضياع الأمن في البلاد (26).

 

لقد كانت أطروحات فرعون تنطلق من دائرة التكبر والجحود والعناد، فهو يقتل ولكن دماء القتيل ستطوق عنقه يوم القيامة، وهو يدافع عن دين الأوثان ودنيا الأوثان لأن في هذا مصلحته، ويوم القيامة سيقف هو وأتباعه يلعن بعضهم بعضا، وبعد خطاب فرعون الذي أراد به أن يحاصر الدعوة قال موسى عليه السلام: ﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ (27) قال المفسرون: قوله: ﴿عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم﴾ فيه مقابلة منه لفرعون في قوله: ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾ حيث خص فرعون ربوبية الله بموسى. فأشار موسى بقوله: ﴿عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم﴾ أي أنه تعالى ربهم كما هو ربه، نافذ حكمه فيهم كما هو نافذ فيه، ومن هنا يظهر أن الخطاب في قوله: ﴿وَرَبِّكُم﴾ لفرعون ومن معه دون قومه من بني إسرائيل. وقوله: ﴿­مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ يشير إلى فرعون وكل من يشاركه في صفتي التكبر وعدم الإيمان بيوم الحساب ولا يؤمن من اجتمعت فيه الصفتان أصلا (28).

 

ولم يذهب التهديد بقتل موسى عليه السلام سدى، فلقد انتفض الإيمان ممثلا في مؤمن آل فرعون، الذي قام وواجه الجبابرة بأبلغ الكلام وأقوى الحجج. لقد قام مؤمن آل فرعون بعد خطاب فرعون. وألزم نفسه أن ينطق بالعدل في عالم يحرمه الأجساد ولا يعدل في حق الله أو حق الناس.. يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ / يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (29) قال المفسرون: كان الرجل من القبط من خاصة فرعون. وهم لا يعلمون بإيمانه لكتمانه إياهم ذلك تقية، ولقد أنكر قتلهم لموسى، وأخبرهم بأن موسى جاءهم بالبينات من ربهم، وعلى هذا فقتله هو قتل رجل جاء بالحق من ربهم، ثم قال لهم إن يك موسى صادقا. يصبكم ما وعدكم من أنواع العذاب. وإن يك كاذبا. كفاه كذبه. ثم قال: يا قوم لكم الملك اليوم غالبين عالين في أرض مصر. على من دونكم من بني إسرائيل. فمن ينصرنا من أخذ الله وعذابه كما يعدنا به موسى إن جاءنا. وقد أدخل المؤمن نفسه فيهم على تقدير مجئ البأس، ليكون أبلغ في النصح وأوقع في قلوبهم، إنه يريد لهم من العافية ما يريده لنفسه، وكان رد فرعون على ما أشار به المؤمن: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى﴾ أي ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي، وأنه على يقين مما يهدي إليه قومه، وأمام هذا الاستكبار الفرعوني قال المؤمن: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ / مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ﴾ (30) قال المفسرون: لقد حذر قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة، وذكرهم بالذين كذبوا رسل الله في القديم كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من الأمم المكذبة، كيف حل بهم بأس الله، وما رده عنهم راد ولا صده عنهم صاد، وما أهلكهم الله إلا بذنوبهم وتكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره، وما الله يريد ظلما للعباد (31).

 

وبعد أن ذكرهم بالأمم الماضية. ذكرهم بيوسف عليه السلام فقال: ﴿وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾ (32) قال المفسرون: أقسم لقد جاءكم يوسف من قبل بالآيات البينات التي لا تدع ريبا في رسالته من الله. فما زلتم في شك مما جاءكم به ما دام حيا، حتى إذا هلك ومات قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا، فناقضتم أنفسكم ولم تبالوا، ثم أكده بقوله: ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ﴾(33) وكان الله تعالى قد بعث في مصر رسولا من قبل موسى وهو يوسف عليه السلام كان عزيز أهل مصر، وكان رسولا يدعو إلى الله أمته بالقسط، فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي، وعندما مات قالوا طامعين لن يبعث الله من بعده رسولا! وذلك لكفرهم وتكذيبهم، ومن كان حاله هذا يضله الله لإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه (34).

 

وبعد أن قام المؤمن بتشخيص حالة القوم، قام بوصف المسرف المرتاب فقال: ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ (35) قال المفسرون: وصف لكل مسرف مرتاب، فإن من تعدى طوره بالإعراض عن الحق واتباع الهوى، واستقر في نفسه الارتياب، فكان لا يستقر على علم ولا يطمئن إلى حجة تهديه إلى الحق، جادل في آيات الله بغير برهان إذا خالفت مقتضى هواه، وقوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾ يفيد أن قلوبهم مطبوع عليها فلا يفقهون حجة ولا يركنون إلى برهان (36) ومن كانت هذه صفته لا يعرف بعد ذلك معروفا ولا ينكر منكرا (37).

 

كان الرد الفرعوني. على هذا العلم الواسع. هو رد المسرف الكذاب والمسرف المرتاب والمتكبر الجبار، لقد أشار إلى مجموعة عمله ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ / أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ (38) قال المفسرون: أمر منه لوزيره هامان أن يبني له بناء يتوصل به إلى الإطلاع إلى إله موسى! ولعله أصدر هذا الأمر أثناء محاجة الذي آمن، ولذلك وقع ذكره بين مواعظ الذي آمن واحتجاجاته، والمعنى: آمرك يا هامان ببنائه، لأني أرجو أن أبلغ بالصعود عليه الأسباب، ثم فسر الأسباب بقوله: ﴿أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ﴾ وفرع عليه قوله: ﴿فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ كأنه يقول: أن الإله الذي يدعوه ويدعو إليه موسى ليس في الأرض إذ لا إله فيها غيري. فلعله في السماء، فابن لي صرحا لعلي أبلغ بالصعود عليه الأسباب السماوية الكاشفة عن خبايا السماء، فأطلع من جهتها إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا. وقيل: إن مراده أن يبني له رصدا يرصد فيه الأوضاع السماوية لعله يعثر فيها على ما يستدل به على وجود إله موسى. بعد اليأس من الظفر عليه بالوسائل الأرضية. وهذا لا يستقيم على شئ من مذاهب الوثنية، ولعل فرعون قال ذلك تمويها على الناس أو جهلا منه، وما هو من الظالمين ببعيد، ولقد زين الشيطان له قبيح عمله فرآه حسنا، وصده عن سبيل الرشاد، فرأى انصداده عنها ركوبا عليها، فجادل في آيات الله بالباطل، وأتى بمثل هذه الأعمال القبيحة والمكائد السفهية لإدحاض الحق ولذلك ختمت الآية ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ أي هلاك وانقطاع (39).

 

وبعد صدور الأوامر ببناء الصرح من الذي يقول لقومه: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ هرول الجميع من أجل تنفيذ التعليمات الفرعونية ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ / وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ﴾ (40) إنها ثقافة عقيدة الشمس. فالقوم يعتقدون أن الآلهة في الفضاء أجسام تحل أرواحها على الأرض في أصنام من حجارة وأصنام من بشر، لقد كان فرعون الذي يهدي قومه سبيل الرشاد يرى أن الله تعالى جسم ساكن في بعض طبقات الجو أو في الأفلاك! فكان يرجو إذا نظر من الصرح أن يطلع إليه، وهو يعلم أنه لن يستطيع أن يقدم لقومه دليلا واحدا على أنه الآلهة (آمون) و (رع) وغيرهما لهم وجود في الفضاء أو في الأرض، لأن أوثانه لا توجد إلا داخل الأساطير الخرافية التي زينها الشيطان ثم احتوتها مدارس الفراعنة! إن الأمر ببناء الصرح كان له أهداف سياسية يريد بها التعمية على الناس وإضلالهم، إنها سياسة ما أريكم إلا ما أرى. التي تصب في إناء ابن آمون، ولأنها سياسة خالية من الرشد والرشاد، خاطب المؤمن قوم فرعون كما يقول تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ / يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ (41).

 

قال المفسرون: دعاهم إلى اتباعه ليهديهم، واتباعه اتباع لموسى. وفي قوله: ­﴿أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ تعريض لفرعون حيث قال: ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ ثم بين لهم أن الذي يستند إليه سلوك سبيل الرشاد، ولا يستغني عنه الدين الحق هو الإعتقاد بأن للإنسان حياة خالدة مؤبدة.. هي الحياة الآخرة، وأن هذه الحياة الدنيا متاع في الآخرة، ومقدمة مقصودة لأجلها، ولذلك بدء به في بيان سبيل الرشاد. ثم ذكر السيئة والعمل الصالح ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (42) فقد أجمع الدين الحق، وهو سبيل الرشاد في أوجز بيان، وهو أن للإنسان دار قرار، يجزى فيها بما عمل في الدنيا من عمل سئ أو صالح، فليعمل صالحا ولا يعمل سيئا، وزاد بيانا، إذ أفاد أنه إن عمل صالحا يرزق بغير حساب (43).

 

ثم ختم المؤمن الذي يعيش في ديار الاستكبار بيانه بدعوة لا يرفضها إلا مسرف مرتاب ومتكبر جبار قال: ﴿وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ / تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ / لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ / فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (44) قال المفسرون: قال: يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة، أي النجاة من النار، وتدعونني إلى النار. وقد كان يدعوهم إلى سبب النجاة، ويدعونه إلى سبب دخول النار، ثم فسر ما دعوه إليه وما دعاهم إليه. فقال: تدعونني لأكفر. أي إلى أن أكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم، أي أشرك به شيئا لا حجة لي على كونه شريكا، فأفتري على الله بغير علم، وأنا أدعوكم إلى العزيز الذي يغلب ولا يغلب، الغفار لمن تاب إليه وآمن به، أي أدعوكم إلى الإيمان به والإسلام له.. لقد ثبت ثبوتا أن ما تدعونني إليه، مما تسمونه شريكا له سبحانه. ليس له دعوة في الدنيا. إذ لم يعهد نبي أرسل إلى الناس من ناحية ليدعوهم إلى عبادته، ولا في الآخرة إذ لا رجوع إليه فيها من أحد، وأما الذي أدعوكم إليه، وهو الله سبحانه، فإن له دعوة في الدنيا، وهي التي تصداها أنبياؤه ورسله المبعوثون من عنده، المؤيدون بالحجج والبينات، وفي الآخرة وهي التي يتبعها رجوع الخلق إليه لفصل القضاء بينهم.. ومن المعلوم أن الربوبية لا تتم بدون دعوة في الدنيا ونظيرتها الدعوة في الآخرة، وإذا كان الذي يدعوهم إليه ذا دعوة في الدنيا والآخرة، دون ما يدعونه إليه، فهو الإله دون ما يدعون إليه.

 

وقوله: ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ معطوف على قوله: ﴿أَنَّمَا تَدْعُونَنِي﴾ أي لا جرم أن مردنا إلى الله، فيجب الإسلام له واتباع سبيله ورعاية حدود العبودية، ولا جرم أن المسرفين وهم المتعدون طور العبودية - وهم أنتم - أصحاب النار، فالذي أدعوكم إليه فيه النجاة دون ما تدعونني إليه. ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ صدر الآية موعظة وتخويف لهم، وهو تفريع على قوله: ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ ﴾ أي إذا كان لا بد من الرجوع إلى الله، وحلول العذاب بالمسرفين، وأنتم منهم ولم تسمعوا اليوم ما أقول لكم، فستذكرون ما أقول لكم حين عاينتم العذاب، وتعلمون عند ذاك أني كنت ناصحا لكم (45).

(فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.

 

 

1- ابن كثير: 158 / 3.

2- سورة الأعراف، الآيات: 122.

3- سورة طه، الآية: 71.

4- سورة الأعراف، الآية: 123.

5- سورة طه، الآية: 71.

6- سورة الأعراف، الآيتان: 125 - 126.

7- سورة الأعراف، الآية: 127.

8- ابن كثير: 239 / 2.

9- تاريخ الخوف والجوع / تحت الطبع.

10- الميزان: 224 / 8.

11- سورة غافر، الآيات: 23 - 25.

12- سورة التحريم، الآية: 11.

13- سورة يونس، الآيات: 83 - 86.

14- ابن كثير: 427 / 2.

15- الميزان: 113 / 10.

16- سورة الأعراف، الآية: 128.

17- سورة الأعراف، الآية: 129.

18- سورة الأعراف، الآية: 129.

19- سورة آل عمران، الآية: 140.

20- الميزان: 225 / 8.

21- سورة غافر، الآية: 26.

22- سورة القصص، الآية: 35.

23- سورة الشعراء، الآية: 36.

24- سورة الشعراء، الآيتان: 57 - 58.

25- سورة غافر، الآية: 26.

26- الميزان: 328 / 17.

27- سورة غافر، الآية: 27.

28- الميزان: 328 / 17.

29- سورة غافر، الآيتان: 28 - 29.

30- سورة غافر، الآيتان.: 30 - 31.

31- ابن كثير: 79 / 4، الميزان: 330 / 17.

32- سورة غافر، الآية: 34.

33- الميزان: 330 / 17.

34- ابن كثير: 79 / 4.

35- سورة غافر، الآية: 35.

36- الميزان.

37- ابن كثير: 79 / 4.

38- سورة غافر، الآيتان: 36 - 37.

39- الميزان: 332 / 17.

40- سورة القصص، الآيتان: 38 - 39.

41- سورة غافر، الآيتان: 38 - 39.

42- سورة غافر، الآية: 40.

43- الميزان: 333 / 17.

44- سورة غافر، الآيات: 41 - 44.

45- الميزان: 334 / 17.

---------------------------------------------

7 - أيام من العذاب:

لم يستمع القوم إلى ما قاله المؤمن لهم، ورموه بالتهم الباطلة حتى تضيع كلماته ويجلب فرعون لنفسه المنفعة، لقد صبوا عليه الاتهامات لأنه ألقى بحججه على حياة الباطل وسمعته، وعرى أفعالهم المرعبة النكراء التي رسمتها الشياطين المخيفة في مجالسهم ومعايدهم. صبوا عليه الاتهامات بعد أن أخبرهم أنه عند ساعة الموت سيكتشفون الحقيقة، والحقيقة لن تكون أبدا فيما نقلوه لهم عن أوزير ورع وآمون، فهذا الطابور هراء وهباء ضائع في خلاء وليس له دعوة.

 

ولا يحمل إلا بصمات الشياطين، وإذا كانوا يظنون أن الموت يضع حدا لشقائهم بعد أن أضاعوا حياتهم في حمل الأحجار ونقشها خدمة للفرعون، فإن الحقيقة أنه من عند الموت ستبدأ مأساتهم إلى ما لا نهاية. فهناك في أسفل، لن يروا أوزير إله الرحمة. وسيروا مقاما من العذاب في ميزان لا نهائية، عندما قال لهم المؤمن هذا صبوا عليه الاتهامات لأنه لم يدخل السرور والمتعة على عمر الخلود..

 

الخلود الذي يقف على بابه الفرعون ابن آمون رع، وابن حور بن أوزير إله الخصب والموتى (1).

لم يستمعوا إلى صوت المؤمن، ولم ينصتوا لموسى عليه السلام، فأخذهم الله بالقحوط المتعددة لعلهم يذكرون يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ (2) قال المفسرون: أي اختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم بالسنين وهي سني الجوع بسبب قلة الزروع (3) لقد ضربهم الله بالجدب كي يتبينوا أن النيل والشمس لا يملكان لهم من الله شيئا، والنيل والشمس كانا من أهم أرباب الفراعنة، وعندما ضربهم القحط لم يتذكر القوم ولم يتدبروا في آيات الله، ومقابل هذا الجمود ضربهم الله تعالى بما هو أشد كي يفكروا ويتوبوا ويؤمنوا بالله ورسوله يقول تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ﴾ (4) لقد أرسل سبحانه عليهم ما يدعوهم للخضوع لله. ولكنهم استكبروا وكانوا قوما مجرمين. يقول المفسرون: قوله تعالى: ﴿آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ﴾ يدل على أنها أرسلت متفرقة لا مجتمعة، منفصلة بعضها عن بعض، وكل آية من هذه الآيات كانت تأتيهم عن أخبار موسى وإنذاره. لقد أرسل الله عليهم آياته. أرسل الطوفان فصب عليهم الماء، وعندما خافوا فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن لك. ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل وهكذا فعلوا مع كل آية، يخافون فيذهبون إلى موسى، ويعطوه العهد.. فلما يكشف عنهم العذاب يضحكون وينكثون وينقضون عهدهم. يقول تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ / وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ / فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ﴾ (5) والعذاب عندما ضرب، ضرب الجميع في المنازل والقصور. وفي الشوارع وفي الحقول، ولكن القوم في كل مكان لم يكن لديهم أي استعداد فطري للخروج على ما يراه فرعون لهم، كانوا يتعذبون بالجوع والطوفان والجراد والقمل وغير ذلك، وعيونهم على فرعون ليضعوا في عقولهم ما سينطق به، لقد تعذبوا من أجل فرعون، وساروا في طريق العذاب كي ينعموا بما وعدهم الفراعنة وكهان الفراعنة بالخلود الدائم بعد الموت. ذلك الخلود الذي لا يكتمل إلا بطاعة فرعون.

 

وبعد أن كشف الله العذاب عنهم، ذلك العذاب الذي كان دعوة للتوبة، بدأ فرعون في ممارسة سياسة التشكيك في الآيات التي ضربتهم كما بدأ في ممارسة سياسة التحقير من موسى عليه السلام، ويخبر الله تعالى عن رد فرعون بعد أن جاءه موسى عليه السلام بآيات الله التسع بأنه قال: ﴿إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا / قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا﴾ (6) قال المفسرون: ذكر ههنا التسع آيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا (7) وفرعون بعد هذه الآيات ازداد عنادا وكفرا واتهم موسى عليه السلام بأنه مسحور أي اختل عقله، فقال له موسى: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب السماوات والأرض، أنزلها بصائر تبصر بها لتمييز الحق من الباطل. وإني لأظنك يا فرعون هالكا بالآخرة لعنادك وجحودك، وإنما أخذ موسى الظن دون اليقين لأن الحكم لله (8).

 

إنها سياسة التشكيك في الآيات سياسة تصف موسى مرة بأنه ساحر، ومرة بأنه مسحور، ومرة بأنه مجنون ومع سياسة التشكيك هذه سارت سياسة التحقير

معها جنبا بجنب. فكان فرعون ينادي في قومه: انظروا أنا من طبقة أعلى من طبقة البشر. أعلى بكثير من طبقة موسى، وها هي الأنهار وها هم الجنود والكهنة الجميع على أرض مصر مسخر لخدمتي، كما سخروا لخدمة آبائي من قبل الذين تشهد متون الأهرامات بأنهم كانوا آلهة أبناء آلهة (9) فكيف يأتي موسى وهو الذي لا يمتلك شيئا ولا يرجى منه شئ. وليس له أن يكون حمالا عندنا كيف يأتي ويفرض نفسه دليلا علينا. يقول تعالى عن الفقه الفرعوني في سياسة التشهير بعد جحود القوم بآيات الله: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ / أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ / فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ / فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ (10) قال المفسرون: جمع قومه ونادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها - قائلا: أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك. وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء لا ملك لهم ولا سلطان، كما أن موسى الذي يريد أن يكون عليكم ﴿لَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ أي أن لسانه فيه ثقل وفرعون في هذا كاذب، لأن الله تعالى رفع عن موسى هذا الثقل لقوله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ (11) بعد قوله عليه السلام: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي / يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ (12) وفرعون عندما يطرح على قومه ما هو ليس بموجود دليل على أنه كان يعلم أن عقول قومه في سلة مهملاته. ثم قال فرعون ما قاله قبله كفار قوم نوح وكفار عاد وثمود. ولكن على طريقة فرعون، فقال: لو كان موسى رسولا.

 

لألقي إليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة يخدمونه ويشهدون بتصديقه، وكانت المعابد الفرعونية تعج حينئذ بالعديد من الكهان السحرة. الذين يوهمون الناس بأن داخل المعابد ملائكة تعمل في خدمة الفرعون، وعلى هذا شب القوم... وعندما قال فرعون هذا لقومه وافقوه ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ أي استخف عقولهم وأحلامهم، ودعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له (13) والمقولة الفرعونية التي تطالب بالملائكة لتكون في خدمة الرسول. رفعها من بعده كفار قريش فقالوا: ﴿لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾ (14) وكم كان في قريش من فرعون.

 

وبعد أن شقت سياسة التشكيك والتحقير طريقها. وبعد أن توغل فرعون في عقول قومه. بدأ فرعون يلوح بسياسة الإرهاب، وبدأ القوم يعلنون أن الرجم بالحجر سيكون مصير موسى. وعندما علم موسى عليه السلام بذلك قال: ﴿...وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ / وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ﴾ (15) قال المفسرون: معناه: أني التجأت إلى الله تعالى من رجمكم إياي فلا تقدرون على ذلك، فالظاهر أنه أشار إلى ما أمنه ربه من قبل المجئ إلى القوم كما في قوله تعالى: ﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى / قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ (16) وبعد أن التجأ موسى إلى حصن الله الحصين، قال لهم: إن لم تؤمنوا لي فكونوا بمعزل مني. لا لي ولا علي، ولا تتعرضوا إلي بخير أو شر (17).

 

وأمام سياسة التشكيك والتحقير والإرهاب توجه موسى بالدعاء: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ﴾ (18) قال المفسرون: دعاه بأن هؤلاء قوم مجرمون، وقد ذكر من دعائه السبب الداعي له إلى الدعاء، وهو إجرامهم إلى حد يستحقون معه الهلاك، ويعلم ما سأله مما أجاب به ربه تعالى إذ قال بعد ذلك: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا﴾ وهو الهلاك (19) وتفصيل دعاء موسى عليه السلام جاء في موضع آخر من كتاب الله، عندما أمر الله تعالى موسى وهارون أن يجعلوا بيوت بني إسرائيل في مصر متقابلة يقابل بعضها بعضا وفي وجهة واحدة، كي يتمكنا من القوم بالتبليغ ويتمكنوا من إقامة الصلاة. فبعد هذا دعا موسى ربه الدعاء القاصم لفرعون وقومه، يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ / وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ / قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (20) قال المفسرون: وهذه الدعوة كانت من موسى غضبا لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم ولا يجئ منهم شئ، كما دعا نوح عليه السلام فقال: ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا / إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ (21) واستجاب الله تعالى لموسى عليه السلام فيهم هذه الدعوة (22). وذكر المفسرون أن موسى عليه السلام كان يدعو. وكان هارون يؤمن له. فقد كانا معا يدعوان وإن كان متن الدعاء لموسى عليه السلام وحده، وأمرهما الله تعالى بعد أن أجاب دعوتهما أن يستقيما أي أن يثبتا على ما أمرهم الله به وإحياء كلمة الحق ولا يتبعان سبيل الذين لا يعلمون بإجابة ما يقترحونه عليهما عن أهواء أنفسهم ودواعي شهواتهم وفي هذا تلويح إلى أن فرعون وملائه سيسألون أمورا فيها إحياء سنتهم القومية وسيرتهم الجاهلية (23) وتحت مظلة الدعاء وقف موسى وقومه في محراب الإيمان. ووقف فرعون وقومه على طريق الانحراف والشذوذ والصد عن سبيل الله لم يفكروا ما الذي ينتظرهم هناك في نهاية الطريق؟ وهم لم يفكروا لأنهم صادروا العقل وصادروا البصيرة من قديم، والتفوا حول كهنة المعابد ليأخذ القوم نصيبهم من الدخان ويأخذ فرعون نصيبه من الأمتعة التي تحيط به في الدنيا وترتفع به إلى عالم الاستكبار، وعند موته تربط الأمتعة ربطا متينا وتوضع معه في قبره. فلا يستفيد الأحياء منها ولا الأموات. إن عقيدة الشمس تقف بأصحابها عند السراب في نهاية الطريق. ولكن القوم رضوا بها لأن عليها بصمات الآباء، تلك البصمات التي حجبت نفوسهم فلم يتدبروا حقيقة النور الذي جعله الله تعالى في يد موسى عليه السلام، وهم لم يتدبروا إلا لأنهم صادروا أسماعهم وأبصارهم وعقولهم وقلوبهم. صادروها لصالح فرعون وحده. فرعون الذي أوهمتهم عقيدة الشمس بأنه باب الخلود الدائم والنعيم المقيم.

 

لقد وقف فرعون وملأه تحت مظلة الدعاء الذي دعا به موسى، وقف يتباهى بالأنهار والحقول والذهب والجنود، وفي محراب الإيمان جلس موسى عليه السلام يبشر المؤمنين، وهو على أرضية اليقين بأن الله تعالى استجاب الدعوة المتضمنة لعذاب فرعون وملئه وعدم توفيقهم للإيمان حتى يروا العذاب الأليم.

 

8 - يوم الغضب:

بعد أن أوحى الله تعالى لموسى وهارون أن يتخذا لقومهما مساكن من البيوت في مصر، وكانوا قبل ذلك يعيش معظمهم عيشة البدو في أماكن مختلفة.

وأمرهم سبحانه أن يجعلوا بيوتهم متقابلة وفي وجهة واحدة ليسهل اتصال بعضهم ببعض ويتمشى أمر التبليغ والمشاورة والاجتماع والصلوات. بعد أن أمر سبحانه بذلك، قام موسى وهارون عليهما السلام بتنفيذ ما أمر به الله وكان فرعون يظن أن اجتماع القوم على رقعة واحدة من الأرض في صالحه. لأنه يسهل عليه مراقبة المداخل والمخارج ويستطيع الإغارة عليهم في وقت واحد ومن جهة واحدة فيقضي عليهم جميعا، لهذا تركهم فرعون يجتمعون ويشيدون مساكنهم، وبعد أن ظن فرعون أن بني إسرائيل يشيدون لأنفسهم المصيدة التي فيها يهلكون، جاء الوحي الإلهي الذي فيه هلاك فرعون وملئه. يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ (24) قال المفسرون: أمرهم سبحانه بالسير ليلا، وقوله: ﴿إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ تعليل للأمر، أي سر بهم ليلا ليتبعكم آل فرعون، وفيه دلالة على أن لله في اتباعهم أمرا (25)، وكان موسى عليه السلام يعلم بوحي من الله الاتجاه الذي يسير فيه بقومه والطرق التي يسلكها.

 

وكان لاقتراب البيوت بعضها من بعض فائدة كبيرة، حيث تم تنفيذ الأوامر بدقة وفي وقت قصير، وما إن تحرك ركب بني إسرائيل خارج المنطقة حتى علم فرعون بهذا التحرك. يقول تعالى: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ / إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ / وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ / وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾ (26) قال المفسرون: لما علم فرعون بذلك أرسل في ﴿الْمَدَائِنِ﴾ التي تحت سلطانه رجالا ﴿حَاشِرِينَ﴾ يحشرون الناس ويجمعون الجموع. قائلين للناس: إن ﴿هَؤُلَاء﴾ بني إسرائيل لشرذمة قليلون ﴿وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ﴾ يأتون من الأعمال ما يغيظوننا به ﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ﴾ مجموع متفق فيما نعزم عليه ﴿حَاذِرُونَ﴾ نحذر العدو أن يغتالنا أو يمكر بنا وإن كان ضعيفا قليلا.

 

وبعد أن قال فرعون هذا ونقلت أبواق دعايته بلاغه هرولت الجموع الفرعونية ووقفت صفوفا وراء فرعون، وانطلق الجميع وراء موسى وقومه يقول تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ / وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ (27) قال المفسرون: لما كان خروجهم عن مكر إلهي. بسبب داعية الاستعلاء والاستكبار التي فيهم، نسب سبحانه إلى نفسه أنه أخرجهم من قصورهم المشيدة وبيوتهم الرفيعة (28) وبدأ جيش الاستكبار يشق الظلام ليدخل في ظلام. وموسى عليه السلام ينطلق بقومه في اتجاه البحر. يقول تعالى: ﴿فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ / فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ / قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ (29) قال المفسرون: تقدمت جحافل فرعون التي فيها أهل الحل والعقد والأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود ولحقوا ببني إسرائيل ﴿مُّشْرِقِينَ﴾ أي داخلين في وقت شروق الشمس وطلوعها ﴿فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ﴾ أي دنا بعضهم من بعض. فرأى كل من الجمعين الآخر ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى﴾ من بني إسرائيل خائفين فزعين ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ سيدركنا جنود فرعون. قال موسى كلا لن يدركونا ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ والمراد بهذه المعية، معية الحفظ والنصرة. وهي التي وعدها له ربه أول ما بعثه وأخاه إلى فرعون ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ أما قوله: ﴿سَيَهْدِينِ﴾ أي سيدلني على طريق لا يدركني فرعون معها (30).

 

وانتهى موسى عليه السلام بقومه إلى البحر، ومن خلفهم تجري عربات وخيول فرعون يقودها الصفوة في الدولة، وكل واحد فيهم يريد أن يكون له شرف قتل موسى ليزداد قربا من فرعون، وعند مسافة قدرها الله بين الطرفين، جاء وقت المفاصلة. يقول تعالى: ﴿َأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ (31) قال المفسرون: أي كل قطعة منفصلة من الماء ﴿كَالطَّوْدِ﴾ وهو القطعة من الجبل العظيم. وفي موضع آخر يقول تعالى: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى﴾ (32) قال المفسرون: عندما ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق كل فرق كالطود العظيم، أرسل الله تعالى الريح على أرض البحر. فلفحته حتى صار يابسا كوجه الأرض.وقوله: ﴿لَّا تَخَافُ دَرَكًا﴾أي من فرعون ﴿وَلَا تَخْشَى﴾ أي من البحر (33).

 

وحفظ الله تعالى البحر على حاله وهيئته حتى قطعه موسى ومن معه وخرجوا منه، وأوحى الله تعالى إلى موسى: ﴿وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ﴾ (34). قال المفسرون: أي اتركه ساكنا أو مفتوحا على حاله فيدخلونه طمعا في إدراككم فهم جند مغرقون (35). وجاء فرعون وجنوده. وشاهدوا الطريق اليابس. واندفعوا فيه، لم يسجل القرآن أن فرعون تدبر في الأمر، وأيقن كعسكري أن الذي أمامه مانع طبيعي وليس صناعيا ووجود الطريق اليابس في المانع الطبيعي في لحظة يعني أن هناك معجزة، وهذا في حد ذاته يدعوه كرجل عسكري أن يعيد تقدير الموقف على أساس جديد. لم يسجل القرآن ذلك ليسقط فرعون أمام التاريخ كعسكري وكفرعون وكإنسان، وانطلق فرعون بغيا وراء موسى وقومه يقول تعالى: ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ (36) فعندما دخل آخرهم الطريق اليابس في البحر. انطبق البحر عليهم يقول تعالى: ﴿فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا﴾ (37) ﴿انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (38) لم ينج أحد لقد غرق الكهنة صناع الآلهة التي من ذهب والتي من طين! وغرق الأمراء الذين أفنوا حياتهم في الارتعاش أمام كل فرعون. لينالوا بارتعاشهم كل شئ ترجوه من متاع رخيص، وغرق الجنود الذين أفنوا حياتهم في الارتعاش والصياح، لقد أصبح الجميع فريسة للأمواج وسقط فرعون معهم، والذي كان يتباهى منهم بالتصور أصبح أرخص من أي شئ في الوجود. يقول تعالى: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ (39) قال المفسرون: أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة فلم يبق منهم أحد (40).

 

وفي الآية من الاستهزاء بأمرهم وتهويل العذاب الواقع بهم (41) وفي موضع آخر يقول تعالى عن فرعون: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ (42) قال المفسرون: النبذ: الطرح للشئ من غير أن يعتد به. والمعنى: فأخذناه وجنوده. وهم ركنه. وطرحناهم في البحر. والحال أنه أتى من الكفر والجحود والطغيان بما يلام عليه. وإنما خص فرعون بالملامة مع أن الجميع يشاركونه فيها. لأنه إمامهم الذي قادهم إلى الهلاك، وفي الآية من الإيماء إلى عظمة القدرة وهول الأخذ، وهوان أمر فرعون وجنوده ما لا يخفى (43).

 

لقد غرقوا. ولم يكونوا في حاجة إلى قبر وشاهد يدل عليهم، لقد غرقوا ولم يغن عنهم أوزير الذي نسجه الخيال وقال لهم إنه ينتظر الموتى ليضعهم بين الأبرار، لقد غرقوا وقت شروق الشمس التي طالما سبحوا بحمدها! ودخل الطين في أفواههم القذرة. يقول تعالى في نهايتهم: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ (44) قال المفسرون: بكاء السماء والأرض على شئ فائت، كناية تخيلية عن تأثرهما عن قوته وفقده، فعدم بكائهما عليهم بعد إهلاكهم، كناية عن هوان أمرهم على الله. وعدم تأثير هلاكهم في شئ من أجزاء الكون (45) وقيل: لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها (46).

 

1- تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف تحت الطبع.

2- سورة الأعراف، الآية: 130.

3- ابن كثير: 239 / 2.

4- سورة الأعراف، الآية: 133.

5- سورة الزخرف، الآيات: 47 - 50.

6- سورة الإسراء، الآيتان: (101 - 102).

7- ابن كثير: 67 / 3.

8- الميزان: 219 / 13.

9- تاريخ الجوع والخوف / للمؤلف / تحت الطبع.

10- سورة الزخرف، الآيات: 51 - 54.

11- سورة طه، الآية: 36.

12- سورة طه، الآيتان: 27 - 28.

13- الميزان: 111 / 18، ابن كثير: 130 / 4.

14- سورة الفرقان، الآية: 7.

15- سورة الدخان، الآيتان: 20 - 21.

16- سورة طه، الآيتان: 45 - 46.

17- الميزان: 139 / 18.

18- سورة الدخان، الآية: 22.

19- الميزان: 140 / 18.

20- سورة يونس، الآيات: 87 - 89.

21- سورة نوح، الآيتان: 26 - 27.

22- ابن كثير: 429 / 2.

23- الميزان: 117 / 10.

24- سورة الشعراء، الآية: 52.

25- الميزان: 276 / 15.

26- سورة الشعراء، الآيات: 53 - 56.

27- سورة الشعراء، الآيتان: 57 - 58.

28- الميزان: 277 / 15.

29- سورة الشعراء، الآيات: 60 - 62.

30- الميزان: 277 / 15.

31- سورة الشعراء، الآية: 63.

32- سورة طه، الآية: 77.

33- ابن كثير: 160 / 3.

34- سورة الدخان، الآية: 24.

35- الميزان: 140 / 18.

36- سورة طه، الآية: 78.

37- سورة الإسراء، الآية: 103.

38- سورة الزخرف، الآية: 55.

39- سورة القصص، الآية: 40.

40- ابن كثير: 390 / 3.

41- الميزان: 38 / 16.

42- سورة الذاريات، الآية: 40.

43- الميزان: 380 / 18.

44- سورة الدخان، الآية: 29.

45- الميزان: 141 / 18.

46- ابن كثير: 142 / 4.

-----------------------------------------

9- مقتل الفرعون:

لقد كان لكل مستكبر قصة وهو يصارع الغرق، ولكن القرآن تخطى الفراعنة الصغار فلم يصف حالهم مع الموج، لأنهم صغار أتباع لكل ناعق! أما فرعون فلقد وقف عنده القرآن ليصف موقفه مع الغرق في مشهد وحركة، ففرعون هو صاحب التاج الأكبر والجوزة الأعظم! وهو مؤسس فقه الإستحواز ومؤصل عقدة الامتلاك، وهو سيد كل طريق مسدود يبصر فيه بالجنود ويبصر بالعبيد ولا يدخل إليه إلا كل محني الظهر. يقول تعالى في مشهد فرعون وهو يصارع الأمواج: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (1) يقول المفسرون: أي آمنت بأنه - وقد وصف الله - بالذي آمنت به بنو إسرائيل. ليظفر بما ظفروا به بإيمانهم. وهو مجاوزة البحر والأمان من الغرق، ولذلك أيضا جمع بين الإيمان والإسلام. ليزيل بذلك أثر ما كان يصر عليه من المعصية. فالإيمان كان من أجل مصلحة، وهذا النوع من الإيمان لا ينفع صاحبه حين البأس. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ / فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ (2) إنها سنة الله في عباده أن لا تقبل توبة بعد رؤية البأس (3) لهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال:

﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (4) قال المفسرون: آلآن: أي أتؤمن بالله الآن وهو حين أدركك العذاب ولا إيمان وتوبة حين غشيان العذاب ومجئ الموت من كل مكان، وقد عصيت قبل هذا وكنت من المفسدين، وأفنيت أيامك في معصيته. ولم تقدم التوبة لوقتها. فماذا ينفعك الإيمان بعد فوت وقته. وهذا هو الذي كان موسى وهارون سألاه ربهما. أن يأخذه بعذاب أليم ويسد سبيله إلى الإيمان. إلا حين يغشاه العذاب فلا ينفعه الإيمان ولا تغني عنه التوبة شيئا (5).

 

إن التجارة لها ميدانها، وحساب الربح والخسارة له موائده، أما التجارة في العقيدة والبيع والشراء في آيات الله فكل هذه جرائم لا يفلت مرتكبها من تحت السماء! ولقد تاجر فرعون في حياته بكل شئ، وعندما ضربه الموج لم يجد في جعبته إلا أوراق الإيمان والإسلام، ولكن هيهات هيهات، لقد امتلأت بزته الحربية بالماء وغاصت به في الأوحال، وبعد حين دفعه الموج إلى الضفة التي بلغها يوما وهو مزهو بالنصر، بعد أن راوده الأمل في اللحوق بموسى، لقد قذف به البحر إلى الشاطئ ليكون عبرة لنهاية طريق. وهو الذي التقط يوما صندوقا قذف به البحر إلى الشاطئ ليكون الذي بداخله آية لجميع الظالمين: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ (6) لقد قذف اليم في أول الرحلة صندوقا به موسى. وقذف اليم في آخر الرحلة الفرعون! قذفه لهدف ومن وراء هذا الهدف حكمة، فبعد مصرع الفرعون قال تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾(7) قال المفسرون: لم يقل سبحانه: ﴿نُنَجِّيكَ﴾ وإنما قال: ﴿نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ ومعناه ننجي بدنك. وتنجيته ببدنه تدل على أن له أمرا آخر وراء البدن، فقده بدنه بغشيان العذاب وهو النفس التي تسمى أيضا روحا، وهذه النفس المأخوذة هي التي يتوفاها الله ويأخذها حين موتها كما قال تعالى: ­﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾ (8) وهذه النفس هي التي يخبر عنها الإنسان بقوله: ﴿أَنَا﴾ وهي التي بها تتحقق للإنسان إنسانيته. وهي التي تدرك وتريد وتفعل الأفعال الإنسانية بواسطة البدن، بما له من القوى والأعضاء المادية.

 

وليس للبدن إلا أنه آلة وأداة تعمل بها النفس أعمالها المادية، ولمكان الاتحاد الذي بينها وبين البدن، يسمى باسمها البدن، وإلا فأسماء الأشخاص في الحقيقة لنفوسهم لا لأبدانهم. وناهيك في ذلك التغير المستمر الذي يعرض البدن مدى الحياة، والتبدل الطبيعي، الذي يطرأ عليه حينا بعد حين. حتى ربما تبدل البدن بجميع أجزائه إلى أجزاء أخر تتركب بدنا آخر. فلو كان زيد مثلا هو البدن الذي ولدته أمه يوم ولدته، والاسم له، لكان غيره وهو ذو سبعين وثمانين قطعا والاسم لغيره حتما، فهذه وأمثالها شواهد قطعية على أن إنسانية الإنسان بنفسه دون بدنه. والأسماء للنفوس لا للأبدان، يدركها الإنسان ويعرفها إجمالا، وإن كان ربما أنكرها في مقام التفصيل، وبالجملة فالآية (الْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ كالصريح أو هو صريح في أن النفوس وراء الأبدان، وأن الأسماء للنفوس دون الأبدان. إلا ما يطلق على الأبدان بعناية الاتحاد. فمعنى ﴿نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ نخرج بدنك من اليم وننجيه. وهو نوع من تنجيتك. لما بين النفس والبدن من الاتحاد القاضي بكون العمل الواقع على أحدهما واقعا بنحو على الآخر.. وهذا بوجه نظير قوله تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾ (9) فإن الذي يعاد إلى الأرض هو جسد الإنسان دون الإنسان التام فليست نسبة الإعادة إلى الإنسان إلا لما بين نفسه وبدنه من الاتحاد. وقد ذكر بعضهم أن مفاد قوله: ﴿نُنَجِّيكَ﴾ أن يكون فرعون خارجا من اليم حيا، وقال البعض الآخر. إن المراد بالبدن الدرع وكان لفرعون درع من ذهب يعرف به فأخرجه الله فوق الماء بدرعه، والحق أن هذا كله تكلف لا حاجة إليه. فلم يقل: ﴿نُنَجِّيكَ﴾ وإنما قال ﴿نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ ومعناه ننجي بدنك والباء للآلية أو السببية. والعناية هي الاتحاد الذي بين النفس والبدن. وقال البعض: ­﴿نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ بمعنى نجعلك على نجوة من الأرض وهذا لا يفي بدفع الإشكال من أصله. فإن الذي جعل على نجوة هو بدن فرعون على قولهم. وهو غير فرعون قطعا وإلا كان حيا سالما. ولا مناص إلا أن يقال: إن ذلك بعناية الاتحاد الذي بين الإنسان وبدنه، ولو صححت هذه العناية إطلاق اسم الإنسان على بدنه من غير نفس، لكان لها أن تصحح نسبة التنجية إلى الإنسان من جهة وقوع التنجية ببدنه. وخاصة مع وجود القرينة الدالة على أن المراد بالتنجية هي التي للبدن، دون التي للإنسان المستتبع لحفظ حياته وسلامته نفسا وبدنا والقرينة هي قوله: ­﴿بِبَدَنِكَ﴾ (10).

 

10- مشهد من حياة النار:

دفعت الأمواج بالبدن ليكون للأجيال عبرة وليعلموا أن الله تعالى هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده، وأنه لا يقوم لغضبه شئ ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ أي لا يتعظون بها ولا يعتبرون (11) لقد ذهب فرعون وقومه، بعد أن خطوا على جبين الرحلة البشرية خطوطا عديدة للانحراف، كانوا هم أئمتها وفقهاؤها. ولقد حذر الله تعالى عباده من هذه الخطوط ومن هؤلاء الأدلة. قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ (12) قال المفسرون الدعوة إلى النار، هي الدعوة إلى ما يستوجب النار من الكفر والمعاصي، ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار. تصييرهم سابقين يقتدي بهم اللاحقون وقال تعالى: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ (13) قال المفسرون: فهم لكونهم أئمة يقتدي بهم من خلفهم في الكفر والمعاصي، لا يزال يتبعهم ضلال الكفر والمعاصي من مقتديهم ومتبعيهم وعليهم من الأوزار مثل ما للمتبعين فيتبعهم لعن مستمر باستمرار الكفر والمعاصي بعدهم، فالآية في معنى قوله تعالى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ (14).

 

وفرعون دليل القوم في الدنيا.. هو نفسه سيكون دليل أتباعه يوم القيامة يقول تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ / وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾ (15) قال المفسرون: يقدم قومه: فإنهم اتبعوا أمره. فكان إماما لهم من أئمة الضلال. ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾ أي يقدمهم فيوردهم النار ﴿وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ والورد هو الماء الذي يرده العطاش من الحيوان والإنسان للشرب. والورود أصله قصد الماء، وقد يستعمل في غيره، وفي هذا استعارة لطيفة، بتشبيه الغاية التي يقصدها الإنسان في الحياة لمساعيه المبذولة، بالماء الذي يقصده العطشان، وسعادة الإنسان الأخيرة هي رضوان الله والجنة. لكن قوم فرعون لما غووا باتباع أمر فرعون، وأخطأوا سبيل السعادة الحقيقية، تبدلت غايتهم إلى النار، فكانت النار هي الورد الذي يردونه، وبئس الورد المورود، لأن الورد هو الذي يجمد لهيب الصدر ويروي العطشان، فإذا تبدل إلى عذاب النار. فبئس الورد المورود ﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾ أي هم اتبعوا أمر فرعون. فأتبعتهم لعنة من الله في هذه الدنيا، وإبعاد من رحمته وطرد من ساحة قربه، وبئس الرفد رفدهم يوم القيامة، وهو النار التي يسجرون فيها (16).

 

والنار التي وعد الله بها فرعون ومن اتبعه يوم القيامة. لن تكون بعيدة عنهم قبل يوم القيامة، فهم يعرضون عليها في عالم البرزخ جزاء لهم لما قدمته أيديهم وخطته على جبين الرحلة البشرية. يقول تعالى: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ / النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ / وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ / قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ (17) قال المفسرون: الآية صريحة أولا في أن هناك عرضا على النار، ثم إدخالا فيها، والإدخال أشد من العرض. وثانيا في أن العرض على النار قبل قيام الساعة التي فيها الإدخال وهو عذاب البرزخ - عالم متوسط بين الموت والبعث - وثالثا أن التعذيب في البرزخ ويوم تقوم الساعة بشئ واحد، وهو نار الآخرة، لكن البرزخيين يعذبون بها من بعيد وأهل الآخرة بدخولها.

 

والمعنى: وحاق بآل فرعون سوء العذاب إذ يتحاجون في النار، أو.. واذكر من سوء عذابهم إذ يتحاجون في النار، فيقول الضعفاء منهم. للذين استكبروا. إنا كنا في الدنيا لكم تبعا. وكان لازم ذلك أن تكفونا في الحوائج وتنصرونا في الشدائد ولا شدة أشد مما نحن فيه. فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار. وإن لم يكن جميع عذابها فقد قنعنا بالبعض. وهذا ظهور مما رسخ في نفوسهم في الدنيا من الالتجاء بكبريائهم ومتبوعيهم من دون الله. يظهر منهم ذلك يوم القيامة. وهم يعلمون أنهم في يوم لا تغني فيه نفس عن نفس شيئا، والأمر يومئذ لله. فيقول مستكبروهم: إن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل، فالأسباب ساقطة عن التأثير، وقد طاحت منا ما كنا نتوهمه لأنفسنا في الدنيا من القوة والقدرة، فحالنا وحالكم ونحن جميعا في النار واحدة، ولسنا نختص دونكم بقوة حتى نغني عنكم شيئا من العذاب ومما قيل في الآية: إن الضمير في قوله: ﴿يَتَحَاجُّونَ﴾ لمطلق الكفار من أهل النار.. بعيد. والقول بأن الضمير لقريش أبعد (18).

 

لقد انتهت الرحلة بالنار، نار في عالم البرزخ ونار يوم القيامة، كما انتهت بلعن في الدنيا، وفي الآخرة هم من المقبوحين. لقد انتهت الرحلة في الدنيا بالغرق وتدمير ما يعرشون ويوم القيامة بئس الرفد المرفود. إن فرعون وقومه إنتاج حقيقي لعالم الانحراف بجميع رموزه وأعلامه، لقد حملت الدولة الفرعونية شذوذ وانحراف قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وأهل مدين ففرعون إمام دولة له مجموعة عمل قادرة على التأثير، ولديه الإمكانيات الهائلة التي يمكن أن ينفذ بها سياسته التي دق الكفر أوتادها على امتداد زمن طويل، ولأن فرعون مدخل للصد عن سبيل الله ومدخل إلى النار أفاض القرآن في قصته وحذر تعالى الإنسانية كلها من طرق وخطوط فرعون فقال تعالى: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى / إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾ (19) قال المفسرون: إن في حديث موسى وقصته لعبرة لمن كان له خشية، وكان من غريزته أن يخشى الشقاء والعذاب والإنسان من غريزته ذلك. ففيه عبرة لمن كان إنسانا مستقيما على طريق الفطرة (20) وقال تعالى: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ (21) جعلهم سلفا للآخرين لتقدمهم عليهم في دخول النار، وجعلهم مثلا لهم لكونهم مما يعتبر به الآخرون لو اعتبروا واتعظوا، ففرعون مجموعة من الجرائم ساعده قومه على ارتكابها، تحت شعار الحفاظ على سنة الآباء، التي لا يستفيد منها سوى فرعون وطابور كهنته الذين يطبخون له الفتوى التي يريد! لقد أجرى فرعون الدماء على جذوع النخل وفي البيوت وفي القصور وجحد بآيات الله وكل ذلك من أجل حماية شذوذه وامتلك فرعون الكثير، ولكن هيهات هيهات. لقد انهالت على السهل أعاصير الشتاء فدمرت ما كانوا يعرشون، وقلب البحر الهائج سطحه، وهبط فرعون وقومه إلى الجحيم ليصبحوا عبرة لأصحاب المداخل المسدودة الذين يدونون أوراق الفقه الواحد، الذي يعبر عن وجهة نظر فرعونية.. قادرة على امتصاص جميع الأهواء وصهرها في قالب ذهبي واحد!

 

 

1- الميزان: 117 / 10.

2- سورة غافر، الآيتان: 84 - 85.

3- الميزان: 357 / 17، ابن كثير: 430 / 2.

4- سورة يونس، الآية: 91.

5- الميزان: 118 / 10.

6- سورة القصص، الآية: 8.

7- سورة يونس، الآية: 92.

8- سورة الزمر، الآية: 42.

9- سورة طه، الآية: 55.

10- الميزان 190 / 10.

11- ابن كثير: 431 / 2.

12- سورة القصص، الآية: 41.

13- سورة القصص، الآية: 42.

14- سورة العنكبوت، الآية: 13.

15- سورة هود، الآيتان: 98 - 99.

16- الميزان: 382 / 10.

17- سورة غافر، الآيات: 45 - 48.

18- الميزان: 336 / 17.

19- سورة النازعات، الآية: 26.

20- الميزان: 189 / 20.

21- سورة الزخرف، الآية: 56.

----------------------------------