بداية الوحي

.: بداية الوحي :.

 

إن محمداً (ص) كان في غار حراء حين نزل عليه جبرائيل وقال له: إقرأ يا محمد. قال: ما أنا بقارئ، فاحتضنه جبرائيل وضغطه وقال له: إقرأ يا محمد وتكرر الجواب. ثم أعاد جبرائيل عمله ثانية وسمع نفس الجواب. وفي المرة الثالثة قال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾(1).

 

قال ذلك واختفى عن أنظار النبي (ص).

 

رسول الله أحسّ بتعب شديد بعد هبوط أولى أشعة الوحي عليه فذهب إلى خديجة وقال: (زملوني ودثروني). (الطبرسي) في مجمع البيان يروي عن الحاكم النيسابوري قصة أول نزول الوحي ما ينبئ أنّ سورة الحمد كانت أول ما نزل على النبي (ص) يقول: إن رسول الله قال لخديجة إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء.

 

فقالت: ما يفعل الله بك إلا خيراً، فوالله إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث.

 

قالت خذيجة: فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل وهو ابن عم خديجة فاخبره رسول الله (ص) بما رأى، فقال له ورقة: إذا أتاك فاثبت له حتى تسمع ما يقول ثم إئتني فأخبرني، فلما خلا ناداه يا محمد: قل بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين... حتى بلغ ولا الضالين، قل لا إله إلا الله، فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له: أبشر ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وإنك على مثل ناموس موسى، وإنك نبي مرسل، وإنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدنّ معك، فلمّا توفي ورقة، قال رسول الله (ص): (لقد رأيت القس في الجنة علية ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني) (2).

 

من هو أوّل من أسلم؟

 

قالوا بالإجماع،(3) إن أول من أسلم من النساء خديجة زوجة النبي (ص) الوفية المضحية. وأما من الرجال فكل علماء الشيعة ومفسريهم، وفريق كبير من أهل السنة قالوا: إن علياً (ع) أول من أسلم ولبّى دعوة النبي الأكرم (ص).

 

إن اشتهار هذا الموضوع بين علماء أهل السنة بلغ حداً إدعى جماعة منهم الإجماع عليه واتفقوات على ذلك. ومن جملة هؤلاء الحاكم النيسابوري فأنه يقول(4): لا أعلم خلافاً بين أصحاب التواريخ أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أوّلهم إسلاماً، وإنما اختلفوا في بلوغه.

 

وكتب ابن عبد البر(5): اتفقوا على أن خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقه فيما جاء به، من على بعدها.(6)

 

وكتب أبو جعفر الإسكافي: قد روى الناس كافة افتخار علي بالسبق إلى الإسلام.(7)

 

وبعد هذا، فإن الروايات الكثيرة التي نقلت عن النبي (ص) وعن علي (ع) نفسه، والصحابة- في هذا الباب بلغت حد التواتر، وكنموذج لها نورد هنا بعض الأحاديث:

 

1- قال النبي (ص): "أولكم وروداً على الحوض أولكم إسلاماً، علي بن أبي طالب (ع)".(8)

 

2- نقل جماعة من علماء أهل السنة عن النبي (ص) أنه أخذ بيد علي (ع) وقال: "إن هذا أول من آمن بي، وهذا أول من يصافحني، وهذا الصديق الأكبر".(9)

 

3- نقل أبو سعيد الخدري عن النبي (ص) أنه وضع يده بين كتفي علي (ع) وقال: "يا علي، لك سبع خصال لا يحاجك فيهن أحد يوم القيامة: أنت أول المؤمنين بالله إيماناً، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله..."(10)

 

وكما أشرنا سابقاً، فإن عشرات الروايات في مختلف كتب التأريخ والتفسير والحديث قد نقلت عن النبي (ص) وآخرين في هذا الباب.(11)

 

تحريف التأريخ:

وهنا إلتفاتة لطيفة، وهو أن جماعة لمّا لم يستطيعوا إنكار سبق علي (ع) في الإيمان والإسلام سعوا في إنكار ذلك بأساليب أخر، أو التقليل من أهمية هذا الموضوع، والبعض يحاول أن يجعل أبا بكر مكان علي (ع)، ويدّعي أنه أول من أسلم.

 

فهم يقولون تارةً أن علياً (ع) في ذلك الوقت كان في العاشرة من عمره، وهو غير بالغ طبعاً، وعلى هذا فإن إسلامه إسلام صبي، ومثل هذا الإسلام لم يكن له تأثير في تقوية جبهة المسلمين وزيادة إقتدارهم في مقابل الأعداء.(12)

        

وهذا عجيب حقاً، وهو في الحقيقة إيراد واعتراض على شخص النبي (ص)، لأنّا نعلم أن النبي (ص) قد عرض الإسلام على عشيرته يوم الدار، ولم يقبله إلا علي (ع) حين قام وأعلن إسلامه، فقبل النبي (ص) إسلامه، بل وخاطبه بأنك: أخي ووصيي وخليفتي.

 

إن هذا الحديث الذي نقله جماعة من حفاظ الحديث، من الشيعة والسنة، في كتب الصحاح والمسانيد، وكذلك جمع من مؤرخي الإسلام، واستندوا عليه، يبين أن النبي (ص) مضافاً إلى قبوله إسلام علي (ع) في ذلك السن الصغير، فإنه عرّفه للحاضرين- وللناس في ما بعد- بأنه أخوه ووصيه وخليفته.(13)

 

ويعبرون تارةً أخرى بأن أول من أسلم من النساء خديجة، ومن الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي (ع)، وأرادوا بهذا التعبير أن يقللوا من أهمية إسلام علي (ع).(14)

        

إلا أن أولاً: كما قلنا، إن سنّ علي (ع) الصغير في ذلك اليوم لا يقدح في أهمية الأمر، بأي وجه، ولا يقلل من شأنه، خاصة وأن القرآن الكريم قال في شأن يحيى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾(15)، وكذلك نقرأ ما قاله في شأن عيسى من أنه تكلم وهو في المهد، وخاطب أولئك الذين وقعوا في حيرة وشك من أمره وقال: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾.(16)

 

إننا إذا ما ضممنا مثل هذه الآيات إلى الحديث الذي نقلناه آنفاً من أنه (ص) جعل علياً (ع) وصيه وخليفته اتضح أن هذا الكلام لم يصدر إلا عن تعصّب مقيت.

 

ثانياً: إن من الغير مسلم تاريخياً أن أبا بكر هو ثالث من أسلم، بل ذكروا في كثير من كتب التأريخ والحديث جماعة أخرى أسلمت قبله.

 

ونُنهي هذا البحث بذكر هذا المطلب، وهو أن علياً (ع) أشار مراراً وتكراراً في خطبه إلى أنه أول من أسلم، وأول من آمن، وأول من صلى مع النبي (ص) وبين موقعه من الإسلام، وهذه المسألة قد نقلت عنه في كثير من الكتب.

 

إضافة إلى أن ابن أبي الحديد نقل عن العالم المعروف أبي جعفر الإسكافي المعتزلي، أن البعض يقول: إذا كان أبوبكر قد سبق إلى الإسلام، فلماذا لم يستدل لنفسه بذلك في أي موقف؟ بل ولم يدع ذلك أي أحد من مواليه من الصحابة.(17)

 

 

1- العلق/1.

2- جدير بالذكر أنّ في بعض كتب التّفسير والتاريخ كلاماً حول حياة الرّسول الأكرم (ص)، في هذه البرهة الزمنية لا تتناسب أبداً مع شخصية النّبي الأكرم (ص)، وتستند حتماً إلى أحاديث مختلفة أو إلى إسرائيليات، من ذلك أنّ النّبي (ص) اغتم كثيراً لدى نزول الوحي عليه أوّل مرّة، وخشي أن يكون إلقاءات شيطانية! ومن ذلك أنّه (ص) همّ مرّات أن يلقي بنفسه من أعلى الجبل! وأمثال هذه الخزعبلات التي لا تنسجم مع ما ذكرته كتب السيرة حول ما يتمتع به الرّسول (ص) من رجاحة في العقل، وضبط كبير في النفس، وصبر وسعة صدر، وثقة بالدور الكبير الذي ينتظره. ويبدو أنّ أعداء الإسلام دسّوا هذه الرّوايات للطعن في الإسلام وللحط من شخصية النّبي (ص).

3- إنّ أكثر المفسّرين طرح هذا السؤال –لمناسبة الآية100 من سورة التوبة ﴿السّابقون الأوّلون...﴾.

4- في (المستدرك على الصحيحين) وفي كتاب (المعرفة)، في ص22.

5- في (الاستيعاب) ج2، ص457.

6- الغدير، ج3، ص238 و237.

7- المصدر السّابق.

8- الحديث أعلاه –حسب نقل الغدير- جاء في مستدرك الحاكم، ج2، ص136، والإستيعاب، ج2، ص457، وشرح ابن أبي الحديد، ج3، ص258.

9- في المصدر السابق إنّ هذا الحديث قد نقل عن الطبراني، والبيهقي، والميثمي في المجتمع، والحافظ الكنجي في الكفاية، والإكمال، وكنز العمال.

10- هذا الحديث –حسب نقل الغدير- قد نقل في كتاب حلية الأولياء، ج1، ص66.

11- ومن أراد مزيد الإطلاع فليراجع الجزء الثّالث من الغدير ص220-240، وكتاب إحقاق الحق الجزء 3ص114- 120.

12- هذا القول ذكره الفخر الرازي في تفسيره في ذيل الآية 100 من سورة التوبة.

13- هذا الحديث نقل بعبارات مختلفة، وما أوردناه أعلاه هو ما نقله أبو جعفر الإسكافي في كتاب (نهج العثمانية)، وبرهان الدين في (أنباء نجباء الأبناء)، وابن الأثير في (الكامل)، وآخرون. لمزيد الإطلاع والإستيضاح راجع الجزء الثّاني من الغدير، ص278- 286.

14- ذكر هذا التعبير المفسّر المعروف والمتعصّب صاحب المنار في ذيل الآية 100 من سورة التوبة.

15- مريم/12.

16- مريم/30.

17- الغدير، ج3، ص240.