أحكام الخيار

أجمع الفقهاء بشهادة صاحب الجواهر وصاحب المكاسب على أن الخيار بشتى اقسامه وانواع ينتقل بعد موت صاحبه الى ورثته لأنه حق والحق يقبل النقل من ملك إلى ملك.

وخيار الشرط ينتهي بانتهاء أمده سواء أعلم به الوارث أو لم يفعل أمّا الجهل بالغبن أو بأنه موجب للخيار فلا يسقط حق الوارث بالفسخ أجل يثبت له على الفور فاذا علم ومضى أمد يتمكن فيه من الفسخ ولم يبادر سقط الخيار تماماً كما هي الحال بالقياس إلى المورث نفسه أمّا اذا مات أحد المتعاقدين في المجلس بعد انعقاد العقد وكان لم يسقط خياره عند التعاقد أمّا هذا الخيار فمن قائل بأنه يبقى إلى أن ينقل الجثمان أو ينتقل الطرف الثاني من المجلس ومن قائل بأنه يستمر إلى وصول الخبر إلى الوارث وقال ثالث: بل يبقى إلى الابد وهذا القائل هو صاحب الجواهر وهذه عبارته بالحرف: «الأقرب ثبوته للوارث مطلقاً».. أمّا نحن فلا نعقل توريث هذا الخيار بحال .

ثم اذا كان للوارث الخيار أي خيار أكثر من واحد واختار أحدهما الفسخ والاخر الامساك قدم الفاسخ لأن من اختار الامساك قد أسقط حقه في الخيار في حقيقة الأمر والواقع فينحصر الحق في الآخر هذا إلى أن رد بعض المبيع دون بعضه ضرر على البائع.

واذا جعل أحد المتعاقدين الخيار لأجنبي ومات هذا الأجنبي فال ينقل الخيار إلى ورثته ولا يعود إلى من اختاره لذلك لأن الخيار منذ البداية تعلق بالأجنبي خاصة فلا يتعداه إلى غيره .

أمّا من فصّل بين أن يكون الاجنبي محلاً للخيار على سبيل الظرفية فينتقل الخيار إلى الورثة وبين أن يكون الخيار وصفاً له على سبيل القيد فلا ينتقل الى الورثة أمّا هذا التفصيل فهو بعيد عن أفهام العرف التي يناط بها معرفة موضوعات الاحكام وتشخيصها .

ثم ان ارث الخيار لا يرتبط بإرث المال الذي تعلق به الخيار بل قد يكون الخيار للوارث والمال لغيره ومثال ذلك أن يكون على زيد ديون تستغرق جميع ما يملك بحيث اذا توفي تسلط الدائنون على تركته بكاملها ولا يبقى منها للورثة شيء وكان قد اشترى قبل وفاته عقاراً وجعل الخيار لنفسه أمداً معيناً وصادق موته في زمن الخيار فينتقل حق الخيار إلى ورثته مع العلم بأنهم اذا امضوا البيع تسلط الدائنون على العين ومنعوا الورثة من التصرف بها .

 

 

ذهب المشهور بشهادة صاحب الجواهر والشيخ الانصاري إلى أن المبيع يملكه المشتري في زمن الخيار بمجرد انعقاد العقد وان وجود الخيار أي خيار لا يمنع من التملك وانتقال المعقود عليه الى المشتري لأن العقد متى تم بالايجاب والقبول أثر أثره وترتبت عليه جميع احكامه ومنها انتقال المثمن إلى المشتري والثمن إلى البائع وإلاّ كان وجوده كعدمه قال صاحب الجواهر: «المقتضي للملك موجود والمانع مفقود» يريد بالمقتضي ان اسم البيع ينطبق على العقد بالخيار ويريد بعدم المانع أن الخيار لا يمنع من تأثير العقد وترتب احكامه عليه. وقال الشيخ الانصاري: «الأقوى ما هو المشهور لعموم أحل اللّه‏ البيع وتجارة عن تراض». وما من شك أن المعاملة مع الخيار هي بيع وتجارة عن تراض وعليه ينتقل المبيع إلى من اشترى بالخيار ويتصرف فيه تصرف المالك في املاكه .

وأيضاً يدل على ذلك ما نقلناه عن الإمام عليه‏السلامفي فصل خيار الشرط فقرة «الدليل» من أن من باع واشترط لنفسه إن رد الثمن فنماء المبيع للمشتري وضمانه عليه.. ويثبت النماء للمشتري حتى ولو كان الخيار له لا للبائع فاذا فسخ رد العين واسترد الثمن ولا يرجع البائع عليه بالنماء .

وتسأل: لقد ثبت عن الإمام الصادق عليه‏السلامأن المبيع اذا تلف في الزمن الذي يكون فيه الخيار للمشتري فهو من مال البائع قال عبد الرحمن بن عبد اللّه‏ سألت الإمام الصادق عليه‏السلامعن رجل اشترى أمة بشرط يوم أو يومين فماتت عنده على من يكون الضمان؟. فقال: ليس على الذي اشترى ضمان حتى يمضي شرط.. وايضاً قال الإمام عليه‏السلام: ان حدث في الحيوان حدث قبل ثلاثة أيام فهو من مال البائع وما إلى ذلك مما يتفق والقاعدة المعروفة وهي: «التلف بعد القبض في زمن الخيار ممن لا خيار له». واذا كان التلف من مال البائع فيجب أن تكون المنفعة له لا للمشتري لأن الخراج بالضمان أجل اذا كان الخيار للبائع تكون المنفعة للمشتري على وفق القاعدة .

ونجيب بأنه لا منافاة من حيث المبدأ بين أن تكون المنفعة تابعة لملك العين وبين أن يكون ضمان تلفها على غير مالكها فان المغصوب نماؤه لمالكه وضمانه على غاصبه.. ومن اشترى عيناً واشترط الخيار لنفسه يمكلها بانعقاد لوجود الدليل الذي سنعرضه في الفقرة التالية أمّا حديث «الخراج بالضمان» فلا يطرد في كل مورد بل يختص العمل به فيما اذا كان التلف بعد القبض مع عدم الخيار للمشتري أما اذا اشترى وقبض والخيار له لا للبائع فان الخراج يكون له والضمان على البائع للدليل الآتي.. وبكلمة ان فقهاء الاماميّة لا يعملون بحديث الخراج بالضمان إلاّ في موارد خاصة .

 

 

اذا كان الخيار لأحد المتعاقدين دون الآخر فهل يجوز لمن ليس له الخيار أن يتصرف في العين تصرفاً من ردها على صاحب الخيار ـ مثلاً ـ اشترى زيد كتاباً من عمرو واشترط صاحب الكتاب أن يسترجعه اذا أرجع الثمن في ثلاثة أيّام فهل لزيد الذي اشترى الكتاب أن يتلفه أو ينقله إلى من يشاء قبل مضي الأيام الثلاثة .

وللفقهاء في ذلك أقوال اصحها ما نعته الشيخ الانصاري بقوله: «لا يخلو من قوة» وهو أن الخيار اذا ثبت بالشرط الصريح المتفق عليه بين المتعاقدين كالمثال المذكور فلا يجوز لمن لا خيار له أن يتصرف تصرفاً يمنع من استرداد العين لأن الغاية من هذا الشرط في نظر العرف هي سلامة العين وبقاؤها على ما هي ليتمكن صاحب الخيار من استرجاعها .

وإذا لم يثبت الخيار بشرط صريح من المتعاقدين كخيار المجلس والحيوان والغبن والرؤية وما إلى ذلك مما ثبت بجعل من الشارع فيجوز لغير ذي الخيار أن يتصرف ما شاء حتى ولو كان التصرف مانعاً من رد العين فان فسخ صاحب الخيار الذي له الحق في استرجاع العين ووجدها هالكة أو منتقلة عن ملك الطرف الآخر طالبه بالبدل من المثل أو القيمة.

والدليل على جواز هذا التصرف ما اشرنا إليه من أن التمليك والتملك يتحقق بانعقاد العقد فيشمله حديث: «الناس مسلطون على أموالهم» .

 

 

يرتكز في كل فهم ان المال اذا كان في يد صاحبه يتصرف فيه دون مانع ثم هلك يكون هلاكه وخسارته عليه وحده سواء تملكه بالشراء أو بغيره وسواء اشتراه بالخيار أو من غير خيار واذا غصب المال ظالم واستولى عليه كانت الخسارة على الظالم جزاء وفاقاً لظلمه وتعديه أمّا المالك فلا خسارة عليه بعد أن حال الغاصب بينه وبين ما يملك وكذا الامين فانه يضمن ما في يده من مال الغير اذا قصر وفرط جزاء لتقصيره.. فهلاك المال ـ اذن ـ لا يكون على صاحبه إلاّ اذا كان في يده لا في يدٍ غاصبة ولا مفرطة .

وقد استثنى الفقهاء من ذلك موردين: الأول فيما اذا هلك المبيع بآفة سماوية قبل أن يقبضه المشتري ويتسلمه المورد الثاني فيما اذا هلك المبيع في يد المشتري في زمن خياره لا خيار البائع هذا مع العلم بأن المشتري هو المالك في الحالين أمّا السبب الموجب لاستثناء المورد لأول فحديث: «كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» ويأتي الكلام عنه في الفصل التالي وأمّا السبب لاستثناء المورد الثاني فهو قول الإمام الصادق عليه‏السلام: ان حدق في الحيوان حدث قبل ثلاثة أيام فهو من مال البائع وقوله: ان كان بين المتبايعين شرط أياماً معدودة فهلك المبيع في يد المشتري فهو من مال البائع إلى غير ذلك مما ثبت عن الإمام ودل بصراحة على أن هلاك المبيع في يد المشتري اثناء خياره يكون من مال البائع على شريطه أن يكون المبيع حيواناً أو غيره بشرط الخيار للمشتري.

وعلى الرغم من أن مورد هذا الروايات لا يتعدى خيار الحيوان والشرط فقد استخرج منها كثير من الفقهاء قاعدة أجروها في جميع الخيارات وهذه القاعدة هي: «أن التلف بعد القبض في زمن الخيار يكون من مال من لا خيار له» ([1]) . فان كان الخيار للبائع فالتلف من المشتري وان كان للمشتري فالتلف من البائع وبديهة أن المشتري هو المالك في الحالين لأنه يملك المبيع بمجرد انعقاد العقد كما تقدم وعلى هذا يكون الحكم على وفق الاصل ان كان الخيار للبائع وعلى خلاف الأصل ان كان للمشتري .

ومن أجل هذا قال صاحب الجواهر: ان هذا الحكم وهو التلف في زمن الخيار من مال من لا خيار له مختص بخيار الحيوان والشرط فقط دون غيرهما اقتصاراً فيما خالف الأصل على موضع اليقين الذي دل عليه النص أمّا الشيخ الانصاري فقد عطف على هذين الخيارين خيار المجلس على شريطة أن يسقط البائع خياره ويبقى خيار المشتري لأن هذا الحكم لا يثبت فيما اذا كان الخيار لكل من المتبايعين بالاجماع مضاقاً إلى أن لفظ: «من ما من لا خيار له» لا ينطبق على التعاقد الذي يكون الخيار فيه للمتعاقدين ولا على ما لا خيار فيه لأحدهما ويختص بالتعاقد الذي يكون فيه الخيار لأحدهما دون الآخر .

______________________________________

[1] قال السيد اليزدي: «قد اشتهرت هذه القاعدة في ألسنة متأخري المتأخرين» يريد الفقهاء الذين لا يبعد زمانهم كثيراً عن زمانه: وتوفي هذا السيد سنة 1337 هـ وقال صاحب الجواهر: «لم أجدها في كتب المتقدمين ولا في كلام الاساطين من المتأخرين» .

 

 

اتفقوا على أن صاحب الخيار يسقط خياره ويصير العقد لازماً اذا أتلف العين بنفسه في مدة خياره وان اتلفها المتعاقد الثاني الذي لا خيار له وأمضى صاحب الخيار البيع رجع على من اتلف بالمثل أو القيمة وكذلك اذا اتلفها اجنبي. وسبقت الاشارة إلى ذلك في الكلام على الخيارات وأيضاً اتفقوا على أن من باع أو اشترى بالخيار أي خيار ثم تلفت العين بآفة سماوية قبل قبضها يسقط الخيار ويعود كل من الثمن والمثمن إلى مالكه الاول كأن لم يكن شيء وقال جماعة من كبار الفقهاء منهم العلامة الحلي وصاحب الجواهرى وصاحب المكاسب قالوا في توجيه ذلك: ان العقد ينفسخ تلقائياً قبل تلف المعقود عليه آناماً ويكون التلف كاشفاً عن هذا الانفساخ.. ولا مصدر لهذا التوجيه والتعليل إلاّ الاستحسان.. ونحن  وان كنا نقول: لا تعبد في المعاملات غير أنّا نتخذ من المصلحة معياراً لآراء الفقهاء في كل معاملة وتعاقد ونرفض الفروض والاحتمالات وان انسجمت بظاهرها مع المنطق ما دامت لا تمت إلى المصلحة والعمل الملموس بسبب ([2]) .

وعلى أية حال فان الغرض أن نعرف: هل تلف العين بآفة سماوية بعد قبضها وفي زمن الخيار يسقط معه الخيار ويعود كل من العوضين إلى مالكه تماماً كما هي حال التلف قبل القبض أو أن التلف بالآفة يسقط الخيار ويحق لصاحبه بعد هلالك العين أن يطالب بمثلها أن كانت مثلية وبقيمتها ان كانت قيمية؟.

وليس من شك أن بقاء الخيار لا يرتبط ببقاء العين لأن معنى الخيار هو الحق في فسخ العقد أو امضائه ولا يسقط هذا الحق بهلاك العين المالية ما دام لها بدل من المثل أو القيمة.. فان اشترى زيد من عمرو متاعاً ـ مثلاً ـ واشترط الخيار لنفسه وقبض المتاع ثم هلك في زمن الخيار فان فسخ زيد رجع على عمرو بالثمن وانتهى كل شيء وان امضى البيع رجع على ببدل المتاع التالف من المثل أو القيمة وان كان الخيار لعمرو أي للبائع فان أمضى البيع فلا شيء له وان فسخ رد الثمن وطالب بمثل المتاع أو قيمته تماماً كما لو امضى المشتري .

ولكن بعض الخيارات لا يعقل فيها الفسخ مع هلاك العين كخيار العيب فان الغرض من تشريعه هو رد العين المعيبة إلى صاحبها كما هي حتى لا يتضرر الذي انتقلت إليه بامساكها وبقائها عنده وبديهة أنّه مع التلف لا يمكن الرد والامساك فلا يبقى ـ اذن ـ موضوع للخيار بين الرد أو الامساك قال الشيخ النائيني في تقريرات الخوانساري: «النزاع في سقوط خيار العيب أو بقائه لغو لأن إعمال الخيار يتوقف على بقاء العين بحالها فلو تغيرت عما وقع عليه العقد ولم تكن العين قائمة بعينها سقط الخيار فضلاً عما لو تلفت». واذا سقط خيار العيب لعدم تعقله وامكانه تعين الرجوع على صاحب العين المعيبة بالارش وأخذ العوض منه عما فات من صحة الصفات .

وألحق الشيخ الانصاري خيار الشرط بخيار العيب وقال بسقوط الخيار فيه مع التلف لأن الغاية منه استرجاع المعقود عليه بعينه وشخصه والمفروض هلاكه قال هذا الشيخ الجليل: «يمكن القول بعدم بقاء الخيار المشروط بردّ الثمن في البيع الخياري اذا تلف المبيع عند المشتري لأن الثابت من اشتراط المتعاقدين هو التمكن من استرداد المبيع بالفسخ عند رد الثمن». وليس من شك أن استرداد المبيع بالذات متعذر فينتفي موضوع الخيار ثم اعترف الشيخ الانصاري بأن إلحاق خيار الشرط بخيار العيب مخالف للمشهور وأنّه لم يجد أحد التزم بذلك أو تعرض له .

أمّا بقية الخيارات كخيار المجلس والحيوان والرؤية والغبن فليس الغرض منها رد المعقود عليه بالذات وانما الغرض الاول هو ماليته وكفى ومعلوم أن للمالية فردين: أحدهما شخصية العين والآخر بدلها من المثل أو القيمة فاذا انتفى الفرد الأول بقي الثاني وعلى هذا يكون الخيار بعد التلف باقياً كما كان قبله في غير خيار العيب عند المشهور وغير خيار الشرط ايضاً عند الشيخ الانصاري.. فان فسخ المشتري الذي له الخيار رجع بالثمن وكفى وان أمضى رجع ببدل المبيع من المثل أو القيمة وان كان الخيار للبائع وامضى اكتفى بأخذ الثمن وان فسخ ارجع الثمن وطالب ببدل التالف .

___________________________________

[2] وان كان لا بد من التوجيه فالأولى أن يقال: ان البائع حين اجرى عقد البيع فقد التزم بتسليم المبيع بجميع مقوماته وصفاته للمشتري اذ لا تخلص الملكية له إلاّ بذلك ويؤيد هذا التوجيه قول الفقهاء: ان طلاق العقد يقتضي تسليم المثمن والثمن فلا بد ـ اذن ـ ان يكون تلف المبيع قال القبض على البائع. وقد نتعرض لذلك في الفصل الآتي .