خيار المجلس

معنى الخيار في اللغة اذا قلت لآخر: لك الخيار فان معناه اختر لنفسك ما تحب وهذا المعنى هو الاصل لقول الفقهاء: ان الخيار ملك امضاء العقد وفسخه بالقول أو بالفعل.. والحكمة من الخيار افساح المجال للمتعاقد ليتروى ويتدبر مدة الخيار ويفعل ما يراه خيراً له ومن الخيار ما يثبت باشتراط المتعاقدين كخيار الشرط ومنها ما يثبت بحكم الشارع كخيار الحيوان والعيب .

والخيارات كثيرة ومتنوعة وقد انهاها بعض الفقهاء إلى أربعة عشر خياراً وقال الشيخ الانصاري: «والمجتمع في كل كتاب سبعة ونحن نقتفي أثر المقتصر على السبعة لأن ما عداها لا يستحق عنواناً مستقلاً اذ ليس له أحكام مغايرة لسائر أنواع الخيار» .

وكذلك نحن نقتفي اثر هذا الشيخ الجليل والسبعة التي ذكرها هي: خيار المجلس والحيوان والشرط والغبن والتأخير والرؤية والعيب .

 

 

من تتبع الأدلة الشرعية وأقوال الفقهاء يتضح له أن العقد على أنواع ثلاثة :

الأول: لا يقبل الخيار والاقالة بحال كعقد الزواج .

الثاني:جائز من غير خيار ولو اشترط فيه اللزوم لكان الشرط لغواً كالعارية.

الثالث:بين الاثنين يقبل الجواز واللزوم معاً ولكن الأصل فيه اللزوم ولا يخرج عن هذا الأصل إلى الجواز إلاّ بدليل كعقد البيع .

وذكر الشيخ الأنصاري للزوم اربعة معانٍ منها «أن وضع البيع وبناءه شرعاً وعرفاً على اللزوم وصيرورة المالك كالأجنبي». وقال السيد اليزدي معلقاً على ذلك: «الانصاف أن هذا الوجه احسن الوجوه واتمها ومحصله أن بناء البيع على اللزوم فاذا ورد دليل الامضاء كفى» .

والمراد بدليل الامضاء الذي أشار إليه السيد قوله تعالى: «أَوْفُواْ بِالْعُقودِ» حيث دل على وجوب الوفاء بجميع العقود ومنها عقد البيع وهذا الوجوب وان كان حكماً تكليفياً فانه يستدعي الحكم الوضعي وهو فساد الفسخ من أحد المتعاقدين دون رضا الآخر .

وقال قائل: ان آية اوفوا بالعقود لا تدل على اللزوم وانما هي توجب العمل بما يقتضيه العقد ان لازماً فلازم وان جائزاً فجائز تماماً كما اذا قيل: اطع الأحكام الشرعية أي يجب أن تعمل بما تستدعيه الأحكام وجوباً أو استحباباً .

الجواب  :

ان الذي يدل عليه عقد البيع ـ مثلاً ـ هو انتقال المثمن إلى المشتري والثمن إلى البائع لا غير أمّا ان هذا الانتقال قد حصل على نحو اللزوم أو على نحو الجواز فاجنبي عن دلالة العقد واقتضائه وانما يتعين احدهما ويستفاد من دليل خارج عن العقد واعني بالدليل الخارج عن العقد تباني العرف واقرار الشرع لهذا التباني والذي لا شك فيه أن العرف قد تباني على أن احكام عقد البيع لازمة له واحكام عقد العارية ـ مثلاً ـ جائزة وأيضاً ليس من شك أن الشارع قد أمضى هذا التباني واذا كان العقد لا يقتضي جوازاً ولا لزوماً فلا يبقى موضوع للقول بأن اوفوا بالعقود معناه اعملوا بما يقتضيه العقد من اللزوم والجواز بل معناه التزم وفِ بمدلول العقد وفرق كبير بين قولنا: اللزوم بنفسه منشأ بالعقد وبين قولنا: التزم بالمعنى المنشأ بالعقد .

 

 

يطلق اتحاد المجلس على معنيين: احدهما أن يكون الايجاب والقبول في مجلس واحد بحيث لا يكون الموجب في مكان والقابل في مكان آخر. الثاني: أن المجلس الذي تم فيه التعاقد بين المتعاقدين لم ينفض بعد بمفارقة أحدهما للآخر وهذا المعنى هو المقصود بالبحث هنا أما المعنى الأول فلا شأن لفقهاء المذهب الجهفري به إلاّ من حيث اتصال القبول بالايجاب ووجوب الموالاة بينهما باعتبارهما شطري العقد تحفظاً من عدم وجود احدهما عند وجود الآخر وهذا يدخل في شروط العقد التي سبق الكلام عنها ولا علاقة له بالخيارات.

وليس المراد باتحاد المجلس حصول الايجاب والقبول في مكان واحد فقط وان كان هذا هو الغالب بل المراد به ما يعم ذلك وهو بقاء كل من الموجب والقابل في نفس المكان الذي جرى فيه العقد فلو افترض أن كلا منهما في مكان وتفاهما تفاهماً تاماً بالهاتف أو بغيره كان اتحاد المجلس هنا بقاء كلٍ في مكانه فان تركه إلى غيره حصل التعدد ولم يبق للخيار من موضوع .

واذا اكرها أو أحدهما على التفريق يبقى الخيار لانهما فرّقا ولم يفترقا أجل اذا طال أمد الفرقة الجبرية بحيث يعلم أنهما لا يمكثان عادة في مجلس العقد أكثر من الأمد المنصرم يبطل الاتحاد بعد هذا الأمد التقديري .

 

 

الأصل لهذا الخيار المشهور: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا». قال الشهيد الثاني في المسالك: «هذا الحديث أوضح دلالة من عبارة الفقهاء» .

وقال الإمام الصادق عليه‏السلام: ايما رجل اشترى من رجل بيعاً فهما بالخيار ما لم يفترقا فان افترقا فقد وجب البيع .

وقال صاحب الجواهر: «الاجماع على ذلك متحقق والنصوص مستفيضة أو متواترة» ([1]) .

 

_______________________________________

[1] النص المتواتر هو الذي ترويه جماعة يمتنع اتفاقهم على الكذب عادة أمّا النص المستفيض فهو الذي تكثر رواته ولا يبلغ حد التواتر بل يبقى من أقسام الخبر الواحد .

 

 

لا ريب أن خيار المجلس يثبت للأصيل والولي وهل يثبت للوكيل أيضاً؟.

الجواب  :

لا بد قبل الحكم من النظر إلى محل الوكالة فان كان قد جرى التفاوض وتم الاتفاق مبدئياً بين البائع والمشتري على كل شيء ولم تبق إلاّ الشكليات فقط ما اجراء الصيغة وما إليه فوكل كل منهما أو أحدهما من أن يقوم بهذه الشكليات ان كان كذلك فلا يثبت الخيار للوكيل اذ لا يصدق عليه أنّه بائع ومشترٍ بل هو آلة أو شبيه بها .

وان كان محل الوكالة التصرفات الأساسية كالتفاوض وتحديد الثمن وتعيين الشروط وما إلى هذا مما تختلف فيه الرغبات ان كان كذلك يثبت الخيار للوكيل لأنه والحال هذه تماماً كالأصيل ويصدق عليه حقيقة حديث «البيعان».. وبالايجاز أن المعيار الأساسي لمن يثبت له هذا الخيار أن يكون مصداقاً لهذا الحديث اصيلاً كان أو وكيلاً .

 

 

قال الشيخ الانصاري: «لا يثبت خيار المجلس في شيء من العقود سوى البيع عند علمائنا كما في كتاب التذكرة» .

أمّا العقود الجائزة فلا معنى لخيار المجلس فيها ولا لغيره ما دام لكل من المتعاقدين عدم الالتزام بحمك العقد فالخيار ـ اذن ـ لا يزيدها شيئاً عن أصلها وبكلمة ان محل الخيار هو العقد الذي من شأنه اللزوم لولا الخيار .

وأمّا العقود اللازمة ـ غير البيع ـ فلأن خيار المجلس خلاف الأصل وقد خرجنا عن هذا الأصل لوجود الدليل وحديث «البيعان» يقتصر على البيع لأنه المتيقن أجل انّه يعم جميع اقسام البيع من الصرف والسلم والمرابحة والتولية والمواضعة والنسيئة ويأتي الكلام عن كل هذه العناوين في محلها .

 

 

ويسقط هذا الخيار بالموجبات التالية :

1 ـ افتراق أحد المتبايعين عن صاحبه ولو بخطوة واحدة بحيث ينتفي معها اتحاد المجلس.. بداهة أن الاحكام تتبع الاسماء والاسماء تتبع معانيها المعروفة بين الناس وقد روي عن الإمام الباقر أبي جعفر الصادق عليهماالسلامانه قال: بايعت رجلاً فلما بعته قمت ومشيت خطى ثم رجعت إلى المجلس ليجب البيع حيث افترقنا .

2 ـ اشتراط سقوطه في ضمن العقد نحو أن يقول البائع للمشتري: بعتك على أن لا يكون لك خيار المجلس أو يقوله المشتري للبائع أو ما يجري مجرى هذا القول مما يدل على الاشتراط بصراحة ووضوح وحينئذ يسقط هذا الخيار لأنه من الحقوق التي تسقط بالاسقاط والاجماع على ذلك والنص وهو حديث: «المؤمنون عند شروطهم» .

وقال قائل: ان هذا الشرط باطل لأنه يتنافى مع طبيعة العقد المقتضية للخيار ومع السنة الموجبة له وهى حديث «البيعان». ومعلوم أن كل شرط خالف طبيعة العقد أو كتاب اللّه‏ وسنة نبيه فهو لغو .

ونجيب بأن اشتراط سقوط هذا الخيار لا يتنافى مع طبيعة العقد كما أنه على وفق السنة وذلك أن العقد من حيث هو لا يستدعي خيار المجلس ولا غيره من الخيارات لأن الخيار حكم شرعي يستخرج من الأدلة الشرعية وقد استخرجنا خيار المجلس من حديث «البيعان» واذا عطفنا عليه حديث «المؤمنون عند شروطهم» وجمعناهما في كلام واحد كان المعنى هكذا: «البيعان بالخيار إلاّ إذا تراضيا على عدم الخيار» تماماً كما لو قال الشارع: صم ثم قال: لا ضرر ولا اضرار فان معنى الجملتين معاً يجب عليك الصوم حيث لا يضر بك وبهذا نجد تفسير قول الفقهاء: ادلة الشروط حاكمة ومقدمة على أدلة الأحكام .

وبتعبير غامض إلاّ عند أهل الفن أن هذا الشرط يتنافى مع العقد المطلق لا مع مطلق العقد ([2]) .

واتفقوا قولاً واحداً بشهادة صاحب الجواهر والمكاسب على أن المتبايعين اذا انشأ العقد مطلقاً من غير قيد وبعد انعقاده وتمامه تراضيا على اسقاط خيار المجلس صح وسقط الخيار لأنه حق لهما ولكل ذي حق اسقاط حقه ولو اسقطع احدهما دون الآخر سقط حق من اسقط وبقي حق من لم يسقط لعدم ارتباط أحد الحقين بالآخر .

واختلف الفقهاء فيما اذا أسقط كل منهما أو أحدهما حقه في هذا الخيار عند المفاوضة وقبل انشاء العقد ثم انشأه مجرداً عن الشرط .

فذهب المشهور بشهادة الشيخ الانصاري إلى أن هذا الاتفاق لا يجب العمل به «لأنه وعد بالتزام والتزام تبرعي لا يجب الوفاء به» .

وذهب جماعة منهم الشيخ الطوسي والقاضي ـ على ما نقل عنهما ـ والسيد اليزدي إلى وجوب الوفاء تماماً كما لو كان في ضمن العقد قال هذا السيد في حاشيته على المكاسب «أمّا كونه وعداً فممنوع لأن المتعاقدين لم يقصدا الوعد كما هو الفرض وانما قصدا انشاء سقوط هذا الخيار وأمّا كونه الزاماً تبرعياً فممنوع كذلك ونحن نقول: يجب الوفاء لعموم المؤمنون عند شروطهم» .

وهو الحق لأن العبرة بانشاء القصد أي قصد عدم الخيار هنا وقد عبرا عن ذلك بصراحة أمّا أن يكون هذا التعبير مقارناً للعقد فليس بشرط بل يؤثر أثره مع التقديم كما يؤثر مع التأخير والمقارنة ويأتي مزيد من التوضيح عند الكلام عن الشروط واحكامها وبناء العقد عليها .

3 ـ اذا تصرف البائع بالثمن أو المشتري بالمثمن تصرفاً يدل في نظر العرف على الرضا فلا يحق للمتصرف أن يفسخ وان لم يفترقا لأن معنى الخيار ان يختار امضاء العقد أو فسخه ـ كما قدمنا ـ ولا فرق بين أن يختار ذلك بالقول أو يختاره بالفعل قال الإمام الصادق عليه السلام: خيار الحيوان ثلاثة أيام للمشتري اشترط ذلك أو لم يشترط فان أحدث المشتري فيما اشترى حدثاً قبل ثلاثة أيام فذلك رضاً منه .

فقوله: «فذلك رضا منه» دليل عام وقاعدة كلية ان كل تصرف يدل على الرضا بالعقد فهو مسقط للخيار سواء أكان خيار الحيوان أو المجلس أو غيرهما وللحديث عن التصرف بقية تأتي في أثناء الكلام عن سائر الخيارات .

_____________________________________

[2] مطلق العقد هو القاسم المشترك الشامل لجميع انواع العقود واقسامها ومنها العقد المجرد عن كل قيد ـ العقد المطلق ـ ومنها العقد المقيد فالمقيد قسيم للمطلق وكل منهما قسم وفرد لمطلق العقد ومن هنا صح أن نقول: العقد المقيد لا يتنافى مع مطلق المقيد لأنه من اقسامه وافراده ويتنافى مع العقد المطلق لأنه قسيم له .