ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته

تأمل الآن يا مفضل ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته فإنه لو عرف مقدار عمره و كان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع ترقب الموت و توقعه لوقت قد عرفه بل كان يكون بمنزلة من قد فنى ماله أو قارب الفناء فقد استشعر الفقر و الوجل من فناء ماله و خوف الفقر على أن الذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء المال لأن من يقل ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك و من أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس و إن كان طويل العمر ثم عرف ذلك وثق بالبقاء و انهمك في اللذات و المعاصي و عمل على أنه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في آخر عمره و هذا مذهب لا يرضاه الله من عباده و لا يقبله أ لا ترى لو أن عبدا لك عمل على أنه يسخطك سنة و يرضيك يوما أو شهرا لم تقبل ذلك منه و لم يحل عندك محل العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك و نصحك في كل الأمور و في كل الأوقات على تصرف الحالات فإن قلت أ و ليس قد يقيم الإنسان على المعصية حينا ثم يتوب فتقبل توبته قلنا إن ذلك شي‏ء يكون من الإنسان لغلبة الشهوات له و تركه مخالفتها من غير أن يقدرها في نفسه و يبني عليه أمره فيصفح الله عنه و يتفضل عليه بالمغفرة فأما من قدر أمره على أن يعصي ما بدا له ثم يتوب آخر ذلك فإنما يحاول خديعة من لا يخادع بأن يتسلف التلذذ في العاجل و يعد و يمني نفسه التوبة في الأجل و لأنه لا يفي بما يعد من ذلك فإن النزوع من الترفه و التلذذ و معاناة التوبة و لا سيما عند الكبر و ضعف البدن أمر صعب و لا يؤمن على الإنسان مع مدافعته بالتوبة أن يرهقه الموت فيخرج من الدنيا غير تائب كما قد يكون على الواحد دين إلى أجل و قد يقدر على قضائه فلا يزال يدافع بذلك حتى يحل الأجل و قد نفذ المال فيبقى الدين قائما عليه فكان خير الأشياء للإنسان أن يستر عنه مبلغ عمره فيكون طول عمره يترقب الموت فيترك المعاصي و يؤثر العمل الصالح فإن قلت و ها هو الآن قد ستر عنه مقدار حياته و صار يترقب الموت في كل ساعة يقارف الفواحش و ينتهك المحارم قلنا إن وجه التدبير في هذا الباب هو الذي جرى عليه الأمر فيه فإن كان الإنسان مع ذلك لا يرعوى و لا ينصرف عن المساوئ فإنما ذلك من مرحه و من قساوة قلبه لا من خطإ في التدبير كما أن الطبيب قد يصف للمريض ما ينتفع به فإن كان المريض مخالفا لقول الطبيب لا يعمل بما يأمره و لا ينتهي عما ينهاه عنه لم ينتفع بصفته و لم تكن الإساءة في ذلك للطبيب بل للمريض حيث لم يقبل منه و لئن كان الإنسان مع ترقبه للموت كل ساعة لا يمتنع عن المعاصي فإنه لو وثق بطول البقاء كان أحرى بأن يخرج إلى الكبائر الفظيعة فترقب الموت على كل حال خير له من الثقة بالبقاء ثم إن ترقب الموت و إن كان صنف من الناس يلهون عنه و لا يتعظون به فقد يتعظ به صنف آخر منهم و ينزعون عن المعاصي و يؤثرون العمل الصالح و يجودون بالأموال و العقائل النفيسة في الصدقة على الفقراء و المساكين فلم يكن من العدل أن يحرم هؤلاء الانتفاع بهذه الخصلة لتضييع أولئك حظهم منها