الباب السادس في شرايطه

الصفحة 110 

 

وفيه مقدمة وفصول منها [ خمس ] في إثبات عصمته من المعقول ويتلوها أقطاب في إثباتها من المنقول وباقيها في رد الاعتراضات عليها.

مقدمة

 

لا شك في كون الإمامة لطفا للعلم الضروري بفساد الأنام بفقد الإمام و التجاء الناس إليه في ساير الأيام فسقط قول بعض الخوارج بسقوطه أصلا وقول بعضهم والأصم وأتباعه إذا تناصف الناس وقول هشام وأتباعه إذا لم يتناصف الناس.

قلنا: لا يحصل التناصف إلى الأبد بدون الإمام لأحد، وقد ازدوج في وجوبها العقل والسمع واصطحب الرأي والشرع وهذا شئ اعتمله(1) الخبراء ونظمه الشعراء قال حكيم العرب الأفوه الأودي:

 

لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم      ولا سراة إذا جهالهم سادوا

إذا تولت سراة الناس آخرهم    نمى على ذاك أمر الناس فازدادوا

تهدي الأمور بأهل الرأي ما صلحت     فإن تولت فبالأشرار تنقاد

 

وقد أسلفنا في باب إثبات الوصي حجج المخالفين وأجبنا عنها بأوضح البراهين والعصمة شرط فيها لما يأتي، واللطف واجب على الله من حيث الحكمة، ومنعه الأشاعرة [ لأنهم ] قالوا: إن الإمامة لطف دنياوي وهو غير واجب على الله تعالى.

قلنا: إذا رفعت العصمة عن الأمة علم بالبديهة ميلها إلى ترك مشاق التكليف، و إلى الراحة والتخفيف، ومع الإمام يذهب ذلك الإحجام.

وقد جاء القرآن بوجود الإمام في كل زمان (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم).

(إني جاعلك [ للناس إماما)، (إنا جعلناك(2) ] في الأرض خليفة). (وإن

____________

(1) اعتمده. خ.

(2) ما بين العلامتين ساقط من النسختين أضفناه بالقرينة.

الصفحة 111 

من أمة إلا خلا فيها نذير). (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا). (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد(1)) ورتب الله تعالى في كتابه طاعة أولي الأمر على طاعة الرسول صلى الله عليه وآله المرتبة على طاعته تعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) فكيف يختص لطف الإمام بالأمور الدنياوية لولا الأهوية المردية، فظهر وجوب الإمامة والعصمة، وهذا مذهب الإمامية و الإسماعيلية.

قالت الأشاعرة: فعلى هذا تثبت إمامة المشايخ لحصول اللطف بهم في زمانهم باستظهار الاسلام في أيامهم فإن عليا نقص الاسلام في خلافته، والحسن كان اللطف في ترك إمامته واشتهر الفساد في طلب الحسين وخروجه والباقون منهزمون مختفيون إلى من تعتقدونه مهديا لم ينتفع به دنيا ولا دينا؟ فعلى تقريركم: العصمة للمشايخ دونهم. قلنا: لا نسلم عدم نقص الاسلام في زمانهم لأنكم نقلتم ارتداد سبع فرق في زمان أبي بكرهم: قوم عتبة، وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وبعض تميم وبني كندة وبنو بكر بن وايل، وفي زمان عمر ارتدت غسان قوم جبلة كما نقله شارح الطوالع عن الزمخشري وغيره وفي زمان عثمان حصل من الفساد ما لا يخفى على انسان و أيضا فالارتداد يدل على عصيان الأمة لا على أن الإمام عديم العصمة وإلا لزام أن يكون النبي عديم العصمة لارتداد كثير من المسلمين في عهد سيد المرسلين.

إن قالوا: هذا ينقلب عليكم لأن الارتداد إذا لم يدل على عدم العصمة لم يدل على عدم عصمة الثلاثة. قلنا: إنما ذكرنا ذلك إلزاما لكم حيث قلتم حصل النظام في زمان الثلاثة، على أنه يمتنع من كل أحد دعوى عصمة الثلاثة.

وقولهم كان اللطف في ترك إمامة الحسن وعدم خروج الحسين، قلنا: إنما كان من عصيان الأمة وهلا قالوا: كان اللطف في ترك السقيفة وترك الشورى لإمامة عثمان الذي أظهر الأحداث وآوى الأخباث. وأيضا فلو لزم من عصيان الأمة عند قيام الأئمة عدم الإمامة لزم مثله في النبوة فإن العصيان كان عند بعثهم. بل يلزم

____________

(1) أسرى: 71. البقرة: 124. ص: 26. فاطر: 24. النحل: 74. النساء: 40.

الصفحة 112 

امتناع التكليف إذا كان سببا لعصيان الخلق، وانهزام الأئمة واختفاؤهم لا يدل على عدم إمامتهم لتواتر النصوص من الطريقين فيهم.

على أن ذلك معارض باختفاء الأنبياء من قبلهم، وقتلهم وهزيمة جدهم.

وخوف المهدي من الظالمين، يمنعه من الاشتهار كما ألجأ الخوف جده إلى الاستتار، و قد كان ظاهرا لأوليائه، فلما اشتد الأمر استتر عنهم كأعدائه، وليس الستر سببا لنفي ولادته ولطفيته، كما في عيسى المجمع على حياته، وقد قيل: إنه المهدي و الصحيح أنه وزيره ومن خاصته.

وقد ظهر على تقديرنا أنه لا عصمة للمشايخ، كيف ذلك؟ وقد علم منهم الأيام عبادة الأصنام، وأئمتنا بحمد الله لم ينقل أحد من مبغضيهم عنهم نوعا من العصيان على مرور الأزمان، بل نقلوا فضائلهم وتعبداتهم وأنشأ الخاص والعام المدايح والمحامد فيهم قال ابن حنبل شعرا:

 

قوما نجوما في السماء زواهر    في برج ثاني عشر ظل قرانها

ومنازل القمر المنير عليهم       سعد السعود وعزهم دبرانها

شرفت بوطئهم البلاد وإن علوا  قلل المنابر شرفت عيدانها

سل عنهم الليل البهيم وإنهم    في كل ظلمة حندس رهبانها

 

(الفصل الأول)

* (في وجوب عصمة الإمام في قضية العقول ويتلوها) *

* (أقطاب من دلايل المنقول) *

 

الموجب للعصمة جواز الخطأ على الأمة فلو جاز خطأ الإمام فإن لم يحتج إلى إمام فترجح بلا مرجح وإن احتاج فإما إلى نفسه أو إلى من يعود إليه وهو الدور أو لا يعود وهو التسلسل وقد انعقد الاجماع على أن الإمام لا يحتاج إلى إمام فبالأولى أن لا يحتاج في أمور الإمامة إلى الرعية فبطلت إمامة من قال: (إذا تعوجت فقوموني) إذ من يحتاج إلى الرعية فهو إلى الإمام أحوج، ولأنه حافظ

الصفحة 113 

الشرع، فلولا العصمة لجاز الغلط والتبديل المؤديان إلى التضليل، والكتاب لا يحيط بالأحكام، إذ لا تعين فيه لكثير منها كعدد الركعات، ومقادير الزكوات.

ولأن الكتاب في نفسه لا بد له من حافظ موثوق به، وبهذا يندفع ما قد تهول به من قول أمير المؤمنين في نهج البلاغة (لم يخل الله خلقه من نبي مرسل أو كتاب منزل أو حجة لازمة أو محجة قائمة) فإن ظاهر الترديد الذي فيه منع الخلو يقتضي الاكتفاء بالكتاب قلنا: في الكتاب، الآيات المتشابهات، والمجملات، و أوامر خفيات خبط المفسرون فيها، فاتباع بعضهم لا ترجيح فيه والكل غير ممكن لتضاد القول وتنافيه، فلا بد من معصوم يتعين الرجوع إليه، والتعويل في ذلك عليه، ومنع الخلو ليس فيه منع الجمع، بل قد يجب الجمع، فإن الانسان لا يخلو من الكون واللون مع لزوم الجمع فيهما فكذا هنا.

اعترض القاضي بأن القرآن غني عن التأويل إذ بينه النبي، فلا حاجة إلى الإمام، أجاب المرتضى بأن ذلك مكابرة فإن اختلاف العلماء فيه لا خفاء فيه، ولو قدر أن النبي صلى الله عليه وآله بينه فلا بد من الإمام لينقل بيانه، إذ الأمة غير مأمونة على ذلك.

اعترض القاضي بأن الإمام لما لم يمكن مشافهته للكل علم أنه لا بد من ناقل إما متواتر أو غيره وكلاهما لازم بعد موت النبي. أجاب المرتضى بأن الإمام حي مراع لبيانه عن التبديل، وكذا الإمام الآخر بعده، بخلاف ما بعد الرسول وهو ظاهر معقول، ولا السنة. بخروج كثير من الأحكام عن الروايات ولا القياس لبناء الشرع على جمع الممكنات، وقد أبطله الرازي من أربعين وجها، والاستحسان والرأي أيضا لم يحفظاه إذ فيهما أنواع الضلالات، ولا مجموع الأمة لجواز الخطأ على آحادها فجاز على جميعها، لأنه يصدق بالضرورة الحسية سلب العصمة من بعض الرعية، فيكذب نقيضه وهو إثبات العصمة لكل الرعية، إذ نقيض السالبة الجزئية الموجبة الكلية.

قالوا: ينقض هذا قول النبي صلى الله عليه وآله (لا تجتمع أمتي على ضلال) قلنا: هذا

الصفحة 114 

الخبر إن نقله بعض الأمة فلا حجة في نقله وإن نقله كلهم لزم إثبات الشئ بنفسه إذ لا يعلم حينئذ صحة إجماعهم إلا من إجماعهم، ولو سلم صدوره عن النبي فالوجه فيه أن الإمام المعصوم من جملة الأمة، فلهذا لا تجتمع على ضلال، لأنه إن دخل في أقوالهم فالحق في قوله، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وآله علي يدور مع الحق والحق معه، و إن خرج فلا إجماع.

والعين في تجتمع إن جزمت فلفظ لا ناهية، فيجوز الاجتماع، إذ ليس كل منهي عنه في حيز الامتناع، وإن ضمت العين، لم يتعين اللفظ لكونها نافية إذ يجوز ورود الخبر ومعناه النهي، مثل (ومن دخله كان آمنا(1)) أي آمنوه ومثل قول النبي صلى الله عليه وآله (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) فإنه خبر يراد به النهي، إذ قد يلدغ المؤمن من جحر مرارا.

قالوا: لا نافية دخلت على نكرة وهي لفظ ضلال، فتعم. قلنا: لا، فإن النكرة لا بد أن تلي حرف النفي مثل: لا رجل في الدار، وهنا توسطت لفظة (تجتمع) ولفظة (الأمة) فيتعين كون لا للنهي لا للنفي.

إن قالوا: تقديره لا ضلال على أمتي، قلنا لا حاجة إلى تغيير اللفظ مع إمكان الحمل على النفي، ومع ذلك فإذا كانت لا نافية داخلة على نكرة وهي للعموم لزم أن يقال بصدق سلب الضلال عن كل الأمة، فيكذب نقيضه وهو ثبوت الضلال على بعض الأمة، لكن كذب هذا النقيض باطل اتفاقا، فصدق ذلك باطل التزاما ومع ذلك كله فأكثر الأحكام لم تجتمع عليها الأمة فيجب المعصوم ليحفظها و يتلافى ما يحدث فيها وسيأتي في ذلك دلالات في باب رد الشبهات.

ولأنه إن جازت المعصية عليه، فإذا وقعت منه فلا بد لحدها من يستوفيه لعدم سقوط النهي عن المنكر، والمستوفي له ليس إلا الإمام بإجماع الأمة، فيحتاج إلى آخر وذلك إما معصوم فالمطلوب، أو غيره فيتسلسل. وفي هذا نظر إذ هو مبني

____________

(1) آل عمران: 97.

الصفحة 115 

على وقوع المعصية والكلام في جوازها وليس كل جايز واقع فجاز أن لا يقع فلا يلزم المحذور المذكور إلا أن يقال: إن من خالط الناس واطلع على بواطنهم وجدهم لا ينفكون عن فعل قبيح، ولهذا إن الأئمة المنصوبين من قبل الرعية وقعت منهم الخطيئات، وسنذكر ذلك في باب مفرد من أراده راجعه.

ولأن فرض وقوع المعصية منه، يوجب كونه ظالما، فلا إمامة له من أحكم الحاكمين، لقوله تعالى (لا ينال عهدي الظالمين(1)) وغير المعصوم بالفعل يصدر منه ذنب بالضرورة، وكل من يصدر منه ذنب ظالم، فكل غير معصوم بالفعل ظالم، وكل ظالم ليس بإمام للآية.

وفي هذا نظر إذ إمكان وقوع المعصية لا يستلزم الظلم، فلا يستلزم عدم الإمامة وإنما المستلزم له وقوعها لا إمكانه وقد تقرر في المنطق اشتراط فعلية الصغرى في الشكل الأول على الأقوى لأنها لو كانت ممكنة لم يندرج الأصغر في الأوسط المحكوم عليه بالأكبر، لأن حصول الأوسط للأصغر بالامكان، لا يوجب حصول الأكبر للأصغر، لجواز أن لا يخرج الامكان إلى الفعل، إذ ليس كل منكر واقع إلا أن نقول: إنا استقرينا أحوال الناس في هذه المادة، فوجدنا الامكان لا ينفك عن الوقوع فجزمنا بصيرورتها فعلية، أو نقول: الثلاثة عصوا إجماعا حال كفرهم فظالمون، فلا ينالهم عهد الإمامة.

إن قيل: الاسلام يجبه فينالهم العهد. قلنا: ولد إبراهيم كان مسلما ومنعه الله بكفره السابق، وقد ذكر علي بن أبي طالب عليه السلام مع عصمته في نهج بلاغته أن من عبد غير الله أو كذب أو همز أو فر من زحف أو ظلم فلا إمامة له، وهذا الكلام يشمل السابق واللاحق ثم تلا قوله تعالى (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا(2)) وقد أسند الشيخ أبو جعفر القمي إلى الرضا عليه السلام أن آية (لا ينال

____________

(1) البقرة: 124.

(2) ألم السجدة: 24.

 

 

 

 

الصفحة 116 

عهدي الظالمين) أبطلت إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وجعلها الله في أهل الصفوة والطهارة، فقال: (ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)(1) الآية وقد استوفينا كلام هذين السيدين في باب إبطال الاختيار فليراجع منه.

تنبيه(2): إن قالوا: معصوم اسم مفعول، فيكون مجبورا على ترك العصيان في كل آن، ولا فخر في ذلك على انسان، قلنا: العصمة الملجئة من الله إنما هي من الغلط والنسيان وأما العصمة التي لا يقع منها عصيان فهي لطف يفعله الله، لا يوجب الاجبار، بل يجامع الاختيار، والانسان يعلم أنه يترك ذنوبا بحسب اختياره فالمعصوم يترك الجميع كذلك، إما للطف من نفسه بزيادة عقله وعلمه ومداومته على الفكر في أمور معاده، وملازمته على الطاعات بخلاف غيره، وإما من الله تفضيلا لا يوجب مشاركة غيره فيه، لكونه زايدا على القدر الواجب عليه، فلهذا لا يقال:

لو رزق الله تعالى أحدا ذلك لساواه في العصمة، ويكون اختصاص المعصوم بهذا لعلمه تعالى بقبول المحل له دون غيره، وفي هذا نظر لأنه يوجب أن لا يجعل الله للكافر لطفا لعلمه بعدم قبوله إلا أن يقال: الكلام في اللطف المتفضل به، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، أو نقول لا يلزم من وضعه في المحل القابل عدم وضعه في غير القابل ليحتج به على محله، فلا يلزم العبث في فعله.

إن قيل: فالمعصوم إن لم تنازعه نفسه إلى المعصية فلا مشقة في تركها، فأحدنا أعظم أجرا منه، وإن نازعته لم يؤمن أن يكون طاهرا باطنا. قلنا: بل الشهوة الطبيعية موجودة فيه، والمراد من الطهارة الباطنة عدم إرادة المعصية لا عدم شهوتها وبينهما فرقان، على أنه لو دلت صيغة (معصوم) على المفعول، لم يكن الله تعالى موجودا لأنها صيغة مفعول، وهو على الله تعالى محال، وقد جاء مفعول بمعنى فاعل

____________

(1) الأنبياء: 73.

(2) تذنيب، خ.

الصفحة 117 

في قوله (حجابا مستورا) و (رجلا مسحورا)(1) على ما قيل.

قالوا: إذا كان احتياج الناس إلى المعصوم لأجل خطأهم يلزم أن يكون فيهم من ليس بإمام ولا مأموم كالإمام اللاحق مع أبيه السابق فإنه حينئذ ليس بإمام ولا مأموم، لأنه معصوم. قلنا: نحن لم نقل: إن الإمام لا يحتاج إلى إمام آخر يعلمه وينتهي إلى النبي الكفيل، إلى جبرائيل، إلى الرب الجليل، وإنما قلنا: لا يحتاج إلى إمام آخر يزجره عن قبيح أو يأمره بواجب، لولاهما لأقدم و أحجم، إذ ذلك محال على الإمام، وكذلك كان حال علي مع النبي صلى الله عليه وآله وكذا حال كل إمام.

إن قيل: فلم لا يجوز انقطاع التسلسل بالقرآن العظيم أو النبي صلى الله عليه وآله ولا حاجة إلى الإمام؟ قلنا: لو كان هذان مساعدين لبعض الأمة كانا مساعدين لكلاهما لجواز الخطاء عليهما(2) فلا إمام وقد علمت وجوب نصبه عقلا ونقلا كالنبي صلى الله عليه وآله.

إن قيل: لم لا يجوز أن يكون مجموع الأمة لطفا له وهو لطف لآحادها ولا دور لاختلاف جهته. قلنا: لو كان مجموعها لطفا له لكان لكل فرد لطفا، وحينئذ لا حاجة إلى الإمام وفيه نظر إذ المجموع يخالف الأفراد، ولهذا وقع الفرق بين متواتر الأخبار وآحادها، أو نقول: مجموع الأمة ليس بمعصوم، فلا يكون لطفا لنصب معصوم، والأصوب أن الأمة لا يمكن اجتماعها على نصبه، وبعضها غير كاف فيه ولو أمكن، فعن مشقة وطول زمان، فيخلو ذلك من المعصوم وقد بينا وجوب نصبه على العموم.

إن قيل يكفي خمسة منهم كما في بيعة الأول. قلنا: يجوز اختلاف الخمسة ولهذا أمر عمر بقتل أهل الشورى، على أنه يجوز اتفاق كل خمسة على شخص فيقع التعدد المستلزم للفساد، ولأنه خرق الاجماع بلا نزاع.

____________

(1) أسرى: 45 و 47.

(2) كذا لكلها لجواز الخطأ عليها. ظ.

الصفحة 118 

 

(الفصل الثاني)

 

لو جاز منه معصية لانحط عن درجة أقل العامة، فلا يصلح للإمامة، بيانه أن الصغيرة من الكبير كبيرة (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون(1)).

إن قيل: فإذا جازت عصمة واحد فلم لا تجوز عصمة الكل فإنه إذا كان الغرض من خلقهم إثابتهم، كان الموجب لذلك خلق العصمة فيهم [ ماذا بعصمة واحد ].

قلنا: إنما خص الله واحدا بالعصمة لأجل استحقاقه لها بكسبه أسبابها، وباقي الرعية ليس ذلك فيهم، فلم تكن العصمة لهم. إن قيل: إن خلق الله الأنفس متساوية استحال اختصاص أحدها بما يوجب العصمة، لأنه ترجيح بلا مرجح وإن خلقها مختلفة كما في خبر الطين عاد اللوم عليه، حيث عرض البعض للعصيان بخلقه من الأصل الخبيث. قلنا: خلقها متساوية ولا يلزم تساوي أفعالها لجواز ترجيح المختار بلا مرجح، ولو لزم من تساويها تساوي أفعالها لزم اتحادها فكانت جميع النفوس تفعل فعلا واحدا في جميع الأوقات، إذا كانت الأفعال مستندة إلى طبيعتها لا إلى اختيارها بل النفس الواحدة تفعل الطاعة والمعصية مع الجزم بعدم الاختلاف فيها، وخبر الطين آحاد لا يعتمد عليه في المسائل العلمية، ولو كان الخلق من الخبيث يمنع الطاعة لم يؤمن كافر أبدا، ومن الطيب يمنع المعصية، لم يفسق مؤمن أبدا وهنا أبحاث:

1 - إذا وجب نصب الإمام على الله فكل من علم أنه لا يصلح ولا يراعي ما لأجله احتاجت الرعية إليه يقبح نصبه، فيجب المعصوم المعلوم لله دون غيره إن قيل: لم لا يكون خوفه من العزل يمنعه من المعصية؟ قلنا: علم بالعادات عجز الرعية عن عزل آحاد الولاة فضلا عمن عمت ولايته الخاص والأوقات، ولهذا لم يمنع عثمان خوف العزل عن الأحداث والبدع، ولم يمنع يزيد الملعون من أنواع الفجور

____________

(1) الزمر: 9.

الصفحة 119 

كضرب الطبول، وشرب الخمور، وقتل أولاد البتول، ونهب مدينة الرسول، و لأن الرعية تشارك غير المعصوم في المعصية فلا ينهاه فلا تعزله، ولهذا لما سب علي على المنابر لم تعزل الرعية الآمر به، مع علم كل واحد منهم بقبحه حتى رفعه عمر بن عبد العزيز.

2 - الإمام المعصوم معناه إما نفوذ حكمه على كل من عداه، أو عدم نفوذ حكم كل من عداه عليه، أو هما معا، والكل منقوض بنائبه البعيد، فإنه لا ينفذ حكم أحد عليه لبعد الإمام عنه، ولا يحكم هو على كل من عداه لخروج الإمام والقطر الآخر منه، مع أنه لا عصمة له. قلنا: يمنعه خوف عزل الإمام له في مستقبل الأوقات، على أنا نمنع الحصر إذ الإمامة لها الحكم العام فلها العصمة دون النايب وغيره من الأنام.

إن قيل: فخوف العزل من الإمام يتصور في النايب القريب دون البعيد، لعدم الاطلاع عليه. قلنا: إذا لم يمكن الإمام تدارك خطاه وظلمه، لا يلزم منه إبطال عصمته إذ لا يلزم عصمة الإمام عرفانه كلما يحدث في الأنام، ولا اقتداره على إزالة كلما يخالف من الأحكام، على أنه معارض بالنبي صلى الله عليه وآله.

3 - لو لم يكن الإمام معصوما، فإن كان عاميا لم يجب على المجتهد ولا على عامي آخر طاعته لقبح الأمر من الله بطاعة العامي حيث قال تعالى: (أطيعوا الله و أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم(1)) وإن كان مجتهدا لم يجب على مجتهد آخر اتباعه ويتخير العامي في اتباع المنصوب وغيره، فلا فايدة في نصبه.

إن قيل: ذلك منقوض بالقاضي المنصوب فإنه لا يجوز للمجتهد ولا للعامي العدول عن حكمه، قلنا: كلامنا ليس في فصل الدعاوي. على أن القاضي إن نصب نفسه فلا ترجيح له على غيره، وإن نصبه غير المعصوم، فلا ترجيح لناصبه على غيره وإن نصبه المعصوم ثبت المطلوب.

____________

(1) النساء: 84.

الصفحة 120 

 

(الفصل الثالث)

 

وفيه وجوه:

1 - لو جاز الخطأ على الإمام لزم إفحامه، لأن الرعية لا تتبعه إلا في ما علمت صوابه، وهو الحافظ للشرع، فلا يعلم صوابه إلا منه فيدور.

2 - كل من حكم بإمامته علم منه تقريب الطاعة ضرورة. ولا شئ من غير المعصوم يعلم منه ذلك ضرورة: فلا شئ ممن يعلم إمامته بغير معصوم ضرورة. فلزم:

(كل من علمت إمامته معصوم) إذ السالبة المعدولة تستلزم الموجبة المحصلة مع تحقق الموضوع.

3 - غير المعصوم لا يمكن العلم بإمامته، لجواز معصيته، وكل من لا يمكن العلم بإمامته لا يقع التكليف باتباعه لعدم إطاقته.

4 - غير المعصوم إن كفى [ في ] تقريب نفسه من طاعة ربه، لم يحتج إلى إمام مطلقا، فاستغنت عنه(1) الرعية مع ذلك الفرض إذا وإن لم يكف في تقريب نفسه كيف يصلح لتقريب غيره.

5 - الإمام يجب أن يخشى منه بالضرورة للأمر بطاعة أولي الأمر، ولقوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره)(2) ولا شئ من غير المعصوم يجب أن يخشى منه لأنه ظالم، وكل ظالم لا يخشى لقوله تعالى: (إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم(3) فالناتج: لا شئ من الإمام بغير معصوم بالضرورة.

إن قيل: قولكم (لا شئ من غير المعصوم يجب أن يخشى) ليست ضرورية واختلاطها مع غير الضرورية في الشكل الثاني لا ينتج ضرورية قلنا: بل هي الضرورية وبيانها ظاهر على أنه قد ظهر في المنطق إنتاج الضرورية فيه مع غير [ ها ] ضرورية.

إن قيل: قولكم غير المعصوم ظالم. إلى آخره ممكنة، إذ لا يجب الظلم بل يجوز

____________

(1) يعني عن الإمام.

(3) البقرة: 150.

(2) النور: 63.

الصفحة 121 

والممكنة لا تنتج في الشكل الأول. قلنا: قد ظهر في المنطق إنتاجها، قال الشيخ جمال الدين في كتاب الألفين: قد برهنا في المنطق على خطأ المتأخرين فيها.

6 - امتثال أمر الإمام واجب من باب التقوى، وليس امتثال غير المعصوم من باب التقوى، لجواز أمره بالخطأ عمدا أو خطأ ويصدق عليه اسم ظالم بمعصية واحدة ونقيض الظالم ليس بظالم، والليس بظالم هو المنفي(1) فهي سالبة كلية إذ لو كانت جزئية لم يكن قولنا ظالم جزئيه، وقد عرفت أنها جزئية، ومتى كانت سالبة كلية صدقت على من لم يعص أبدا، وهو المعصوم، فوجب وجوده لقوله: (إن الله يحب المتقين(2)) فعلم حصول المقتضي والصارف منفي، فيجب الفعل ولله المنة.

7 - انتفاء الإمام المعصوم يلزمه كون الحجة للرعية على الله، وهو محال لقوله تعالى (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل(3)) والإمام مساو للرسول في تنفيذ الأحكام، والتقريب من طاعة الملك العلام، فنفيه مساو لنفيه، و لازم أحد المتساويين لازم للآخر، فانتفاء الإمام المعصوم في عصرنا محال، فوجب وجوده في كل عصر لكذب السالبة الجزئية.

بل نقول: إذا امتنع الخلو من النبي الذي هو لطف خاص، امتنع بالأولى الخلو من الإمام الذي هو لطف عام، والذي يوضح هذا المراد قوله تعالى (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد(4)).

8 - غير المعصوم لا يستحق النصرة لظلمه: (ما للظالمين من أنصار(5)) أي من استحقاق أنصار، والإمام يستحق النصرة للأمر بطاعة أولي الأمر.

9 - جاء في القرآن: النفوس ثلاث: الأمارة: وهي الشريرة (إن النفس

____________

(1) هو المتقي. خ.

(2) براءة: 5 و 8.

(3) النساء: 164.

(4) الرعد: 8.

(5) البقرة: 270.

الصفحة 122 

لأمارة بالسوء(1)) واللوامة: وهي التي تخلط (عملا صالحا وآخر سيئا(2)) (ولا أقسم بالنفس اللوامة(3)) والمطمئنة: وهي الخيرة محضا، (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية(4)) ونفس الإمام من هذا القسم خاصة لمنعه النفسين الأخيرتين عن مقتضياتهما، إذ لو كانت من إحداهما لم تحملها على خلاف شهواتها، إذ مثل الشئ لا يكون علة لزواله فتبطل فائدته في بعض الأزمان مع فرض الاحتياج إليه في كل أوان.

10 - الإمام يهديه الله لأن أمره بطاعته دليل هدايته، وغير المعصوم لا يهديه الله لظلمه (والله لا يهدي القوم الظالمين(5) فالإمام ليس غير معصوم.

إن قيل: عندكم أن الله يريد الهداية العامة للكل، فتكذب كبراكم قلنا:

إنما نفينا الهداية التي هي اللطف الزايد عن القدر الواجب، فلا نسلم أنها عامة.

إن قيل: شرط إنتاج الثاني دوام إحدى مقدمتيه أو كون الكبرى من القضايا الست المنعكسة سلبا، وهما هنا مطلقتان، فانتفى الشرط، قلنا: بل الصغرى ضرورية فحصل الشرط. وأيضا غير المعصوم ظالم، والظالم له بئس المثوى لقوله تعالى: (و بئس مثوى الظالمين(6) فغير المعصوم له بئس المثوى، ولا شئ من الإمام له بئس المثوى فلا شئ من غير المعصوم بإمام والاعتراض والجواب كما سلف 11 - القوة العقلية ليست غالبة للقوة الشهوية دائما، ولا في كل الناس وإلا لم يحتج إلى إمام دائما، لتحقق السبب الصارف، بل القوة الشهوية غالبة إما بالقوة أو بالفعل والثاني إما دائم أو في الجملة، فصدقت مانعة خلو في غير المعصوم، وهي تستلزم وجوب عصمة الإمام إذ نقيض الممكنة إنما هو الضرورية.

12 - الإمام لطف كما سلف في ترك المخالفات، وانتظام أمر المخلوقات

____________

(1) يوسف: 53.

(2) براءة: 103.

(3) القيامة: 2.

(4) الفجر: 27.

(5) الجمعة: 5.

(6) آل عمران 151.

الصفحة 123 

وحفظ الأوامر الشرعيات، وإيضاح المجملات، والكشف عن المتشابهات، فهو ملجأ الرعية في ذلك دون ذوي العقول الناقصات.

اعترض قاضي القضاة بأن المكلفين إن علموا بالضرورة كون الإمام حجة وجب الاشتراك فيها، ولا شك أن بعضهم لا يعلمه، فإن يؤثر هذا البعض فيه، لزم تجويز أن يعلموا ساير أمور الدين بالضرورة، ولا يقدح البعض فيه، فيستغني من الإمام. وإن علموه بالاستدلال فلا شك أن بعضهم لا يقوم بما كلف من الاستدلال عليه، فيحتاج إلى إمام آخر يكون لطفا لهم في فعل الاستدلال، والكلام فيه كالأول ويتسلسل وحينئذ لا بد أن يقال: يمكنهم معرفة الحجة بغير حجة، فجاز مثل ذلك في ساير ما كلفوه.

أجاب المرتضى بأنا لم نثبت الحاجة إلى الإمام ليعلمنا ما نجهله فقط، بل الحاجة إليه مع ذلك في تعليم والواجب ومجانبة القبيح، فإن العلم به وإن كان ضروريا، إلا أن فعله متوقع منا عند فقد الإمام، والعلم بجهته لا يمنع من وقوعه فإن أكثر القبايح والمظالم تقع من العالم بها، وكون الإمام لطفا في ارتفاع الظلم لا يلزم منه أن يكون لطفا في كل تكليف حتى في معرفة نفسه.

وأجاب أيضا بأن معرفة الله وثوابه وعقابه لطف في التكليفيات، وليست لطفا في نفسها للزوم الدور، فإذا جاز الاستغناء عنها في نفسها وهي من جملة التكاليف جاز الاستغناء عنها في غيرها وهو محال.

إن قيل: المعرفة بالله وثوابه وإن لم تكن لطفا في نفسها، فالظن بوجوبها يقوم مقامها، فلم ينفك المكلف من لطف تكليفه بها. قلنا: وما يمنع من كون اللطف في معرفة الإمام ظن وجوبها، ولا يجب أن يكون هذا الظن طريقا إلى سائر التكاليف، فلا يستغنى عن الإمام.

13 - جواز خطأ الأمة علة الحاجة إلى الإمام، ولولا كونه علتها لم يكن عدمه علة لعدمها، فكان يجوز مع عدمه ثبوتها إذ لا علية فينفك أحدهما عن الآخر . ويلزم منه ثبوت حاجة الأنبياء مع عدم جواز الخطأ عليهم، فعلة حاجة الأمة و

الصفحة 124 

هو جواز الخطأ إن كانت في الإمام لزم التسلسل، لاطراد المعلول مع العلة.

إن قيل: حاصلكم أن من ثبتت عصمته لا يحتاج إلى إمام فلم لا يكون الله علم أنه متى نصب للمعصوم إماما امتنع من المخالفات أو يكون إلى الامتناع أقرب ومتى خلا فلا.

أجاب المرتضى بما حاصله أنه يلزم من ذلك رفع العصمة عن الإمام المفروض أولا وذلك لا يضرنا لأن اللطف الذي هو الإمام المفروض ثانيا ليوجب عصمة الإمام هو اللطف المفروض أولا لعصمة الأمة لأن إمام الإمام إمام الأمة.

على أن في الاعتراض تسليم حاجة الرعية إلى الإمام لأن المعصوم إذا احتاج إلى الإمام فغيره أولى بالحاجة إلى الإمام، وفي الأولوية نظر لأن المعترض فرض عدم عصمة الإمام وأنه يمتنع من المخالفات لإمام آخر فقوله: إذا احتاج المعصوم فغيره أولى نوع مصادرة والأسد أن يقال: إذا احتاج الإمام المختار للأمة. وإن لم يكن معصوما فالهابط عن منزلته أولى.

تذنيب:

لما قلنا: لو لم يكن جواز الخطأ علة الحاجة لانفكا. قال الرازي:

لا يلزم من عدم الانفكاك الاحتياج كإضافتي الأبوة والنبوة والمماسة والأخوة إذ لو احتاجت إحداهما إلى الأخرى لتقدمت عليها وهو محال، لأنهما يوجدان معا ولأنه إن احتاجت إحداهما إلى الأخرى دون الأخرى ترجح بلا مرجح وإن دار الاحتياج بينهما لزم الدور. قلنا: لا يلزم عن وجودهما معا عدم احتياج إحداهما [ معا ] كما في العلة الموجبة ومعلولها فإنها تقارنه زمانا وحينئذ فاحتياجه إليها دون العكس لا يكون ترجيحا بلا مرجح.

وفي هذا نظر فإن له أن يقول: لا يلزم من وجود متلازمين بينهما علية أن لا يوجدان إلا وبينهما علية وقد ذكرنا في الإضافات عدم العلية فليكن من هذا القسم الإمامة واحتياج الرعية وقد أجابه النصير بجواب ضعفه جمال الدين في ألفيه من أراده وقف عليه واختار أن الإضافات اعتباريات لا تحقق لها خارجا وإلا لزم التسلسل ولا ترد المعارضة بها.

الصفحة 125 

وله أن يقول الاحتياج والإمامة من الإضافيات فترد المعارضة بها.

تذنيب آخر:

لما قلنا: الإمام لا يحتاج إلى إمام. قالوا: فعلي احتاج إلى النبي صلى الله عليه وآله وكذا الحسنان إلى أبيهما عليهم السلام. أجاب المرتضى بأنا إنما منعنا حاجة المعصوم إلى الإمام الذي يكون لطفا له في ترك الحرام ولا يلزم منه غناؤه عن إمام يعلمه الأحكام، ويرشده لمصالح الأنام.

14 - الإمام متبوع فيما يفعل ويأمر، وغير المعصوم غير متبوع فيهما، لأنه لا يؤمن من الارتداد وغيره والأمر به، ولا يجوز تكليف الرعية اتباع من يجوز معه هلاكها. ويستقر ذلك بالميزان فنقول: كل إمام يجب اتباعه دايما ولا شئ من غير المعصوم يجب اتباعه في الجملة - فلا شئ من الإمام بغير معصوم دائما، وينعكس إلى: لا شئ من غير المعصوم بإمام.

اعترض القاضي بأن الواجب اتباعه فيما علم من الشرع حسنه لا مطلقا.

قلنا: لو لم يجب إلا فيما علم منه حسنه لزم الدور، ولزم كونه إماما في بعض الدين لا كله وهو محال، قال: لم لا يجوز اتباعه فيما لا يعلم قبحه كالعبد الذي يطيع مولاه فيما لا يعلم قبحه؟ قلنا: المفسدة لزمت من عدم أمن المكلف وهو حاصل فيما لا يعلم قبحه، والعبد المأمور إن لم يتمكن من العلم بالقبح فلا قبح عليه، وإن تمكن لزمه القبح قبل العلم بوجه الفعل، والفرض في الرعية تمكنها من العلم بوجه الفعل المأمور به من الإمام.

قال: يكفي حسن الظاهر كما في إمام الصلاة فإنه يتبع مع تجويز كون صلاته قبيحة في نفس الأمر. قلنا: الصلاة لم يوجد فيها معنى الاقتداء الحقيقي، ولو سلم فهي من التكاليف المنوطة بالظن بخلاف الإمامة.

قال: فالنواب متبوعون فيما لا يعلم القبح فيه مع عدم عصمتهم فكذا الإمام قلنا: النائب عليه معصوم لا يسامحه ويخاف عاقبته، وخطؤه ينجبر بنظر الإمام بخلاف من لا ولاية عليه، ولأن ولاية النايب خاصة لا يلزم عموم فسادها بخلاف الإمامة العامة.

الصفحة 126 

 

(الفصل الرابع)

 

وفيه وجوه:

1 - الإمام لا يصح كونه مفضولا لقبح تقديمه على الفاضل، ولا مساويا لامتناع الترجيح بلا مرجح فهو أفضل، فهو معصوم، إذ لو عصى في حال فإن عصى فيه كل واحد من الأمة اجتمعت على الخطأ وإن بقي واحد منها فهو أفضل من الإمام في تلك الحالة فله الاستحقاق، ويخرج الأول، فلا تستقر الإمامة لواحد وهو باطل.

2 - وقوع الخطأ مع عدم الإمام ممكن، فلو أمكن مع وجوده لزم العبث في نصبه، فإن ترجح وقوعه مع الإمام أو وجب لزمت المفسدة في نصبه، وإن ترجح عدمه مع الإمام فإن انتهى الرجحان إلى الوجوب فالمطلوب وإن لم ينته فلنفرض وقوعه في وقت وعدمه في آخر فترجح أحدهما بأحدهما إما لا لمرجح وهو محال أوله فإن أمكن معه الطرف الآخر عاد الكلام وإلا لزم الوجوب.

إن قيل: فهذا لازم في باقي الأمة مع عدم اتصافها بالعصمة، فإن الخطأ من كل فرد إن وجب وقوعه لزمت المفسدة في خلقه، وإن ترجح عدمه ولم ينته إلى الوجوب لزم ما ذكرتم، وإن انتهى إلى الوجوب لزمت العصمة وهو المطلوب.

قلنا: الوجوب هنا بحسب المحمول وهو لا ينافي الامكان والإمام وإن كان الوجوب أيضا في حقه بحسب المحمول إلا أن له من الألطاف الزايدة على الوجوب ما يمنع الوقوع.

3 - الإمام تجب طاعته بالضرورة ما دام إماما وإلا لزم العبث في نصبه، حيث يجبر الله الخلق في اتباعه، وغير المعصوم لا تجب طاعته بالامكان حين هو إمام لجواز عصيانه، فلا تجتمع الإمامة وجواز المعصية، لتناقض الحينية الممكنة والمشروطة العامة.

الصفحة 127 

4 - يجب طاعة الإمام وإن لم يكن معصوما لأنه بغير وجوب طاعته ينتقض الغرض من نصبه فيصدق: كلما لم يكن الإمام معصوما وجبت طاعته، وينعكس إلى: كلما لم تجب طاعة الإمام كان الإمام معصوما. وتنعكس هذه إلى قولنا: قد يكون إذا كان الإمام معصوما لم تجب طاعته وهذا محال إذ وجوب طاعة غير المعصوم توجب طاعة المعصوم بطريق أولى فيصدق دائما [ إما ] أن يكون الإمام معصوما أو لا تجب طاعته مانعة جمع، ويلزمه: كلما كان الإمام معصوما وجبت طاعته وهو نقيض قد يكون إذا كان الإمام معصوما لم تجب طاعته.

5 - إجماع الأمة حق والإمام سيدها فلا ينعقد بدونه إجماع لوجوب اتباعه عليها، فقوله وفعله بمنزلة قولها، فإن كانت معصومة فهو أولى بالعصمة منها، و لأنه إما واجب الخطأ فحاله أسوء من حالها أو جائزه فلا رجحان له عليها، أو ممتنعه وهو العصمة المدعى حصولها.

6 - كلما لم تكن العصمة ثابتة في الإمام، أمكن انتفاء وجه وجوب الإمام وكل ما أمكن نفي وجه وجوبه أمكن نفي وجوبه لكن نفي وجوبه محال. فنفي وجه وجوبه محال فنفي العصمة عنه محال.

7 - الإمام يقرب من الطاعة ويبعد من المعصية، وغير المعصوم يمكن فيه عكس ذلك، فلا يصدر من الحكيم، ولا من إجماع الأمة لأنه ضلال.

8 - غير المعصوم في اتباعه ظن الضرر، لغلبة الشهوة عليه، فيجوز أن يدعو إلى مقتضاها، وفي ترك اتباعه ظن الضرر لأنه نصب للارشاد، فيلزم جمع النقيضين أو الخلو عنهما.

9 - كل ما كان نصب الإمام واجبا، كان عدمه أشد محذورا من وجوده بالضرورة، لأن فيه إخلال اللطف، وينعكس إلى: كل ما كان عدمه أشد محذورا كان وجوده واجبا، وكلما لم يكن معصوما كان وجوده أشد محذورا من عدمه بالامكان لجواز أمره بالعصيان، وكل ما كان وجوده أشد محذورا كان عدمه واجبا لأنه يكون لطفا.

الصفحة 128 

10 - لا شئ من الإمام نصبه عبث الضرورة، لامتناع العبث عليه تعالى، و على الاجماع، وغير المعصوم نصبه عبث بالامكان إذ يمكن تقريبه من المعصية، فلا يحصل الغرض منه، فيكون عبثا، فالناتج: لا شئ من الإمام بغير معصوم بالضرورة لأن اختلاط الضرورية والممكنة في الشكل الثاني نتيجته ضرورية لثبوت الضرورة للصغرى بالضرورة، وسلبها عن الأخرى بالضرورة، ويلزم النتيجة: كل إمام معصوم. لاستلزام السالبة المعدولة المحمول للموجبة المحصلة المحمول مع وجود الموضوع، والوجود هنا حاصل للموضوع.

11 - لا شئ من الإمام آمر بمعصية بالضرورة، وكل غير معصوم آمر بها بالامكان، فلا شئ من الإمام بغير معصوم بالضرورة.

12 - يمتنع جعل سبب أحد الضدين سببا للآخر، وناصب غير المعصوم جعله سببا للأمر بالطاعة والمعصية.

إن قيل: المعصية ممكنة ولا يلزم من إمكانها وقوعها. قلنا: إمكان اللازم لازم لإمكان الملزوم، وفي هذا نظر إذ لا يلزم من تلازم الامكانين الوقوع، لإمكان وقوع القبايح من الإله بالنظر إلى القدرة، ويلزمه إمكان خروجه عن الحكمة، ولم يقعا.

والأسد أن إمكان وقوع المعصية من الإمام يلزمه عدم الوثوق، فيلزمه عدم الانقياد، فيلزم عدم الفائدة فيه.

13 - الإمامة زيادة تكليف للإمام، ففي كونه غير معصوم زيادة حاجة على الرعية إلى الإمام.

14 - تحصيل الإصابة في أوامر الله ونواهيه مطلوب ضروري، فلو جعل غير المعصوم طريقا إليه، لاستنتجت الضروريات من الممكنات في البرهان وهو محال لما ثبت في الميزان، وبيان أن الإصابة في ما ذكرناه مطلوب ضروري أن الاستقراء والتمثيل ليسا دليلين فيه، ولا الخطابة لاختصاصها بالعوام، ولا الجدل لأنه لا طريق بعده، ولا المغالطة وهو ظاهر، فتعين أن يكون برهانا وهو الإمام فيكون معصوما.

الصفحة 129 

 

(الفصل الخامس)

 

وفيه وجوه:

1 - الإمام إن لم يكن لطفا لم يجب نصبه، وهو محال. وإن كان لطفا لنا خاصة أوله خاصة وهو أيضا محال وإلا لكان تكليفنا بطاعته وتكليفه بالقيام بإمامتنا تكليفا للغير للطف الغير، فتعين كونه لنا وله، فنحن نتمكن من طاعته و هو يتمكن من حملنا على التكليف بحيث لا إخلال وهو يوجب عصمته.

2 - قد ظهر في علم الكلام أنه يقبح جعل لطف شخص من أفعال الآخر و هو يضره لأنه ظلم والإمام غير المعصوم تكليفه بالإمامة لطف لنا وهي تضره لأن قيامه بها يمنعه من إمام آخر يكون لطفا له، فإن كان له إمام آخر تسلسل، و إن لم يكن خلا بعض المكلفين عن اللطف، ولزم الترجيح بلا مرجح.

3 - إما كل واحد من الناس معصوم، أو لا شئ منهم بمعصوم، وهما باطلان بالضرورة لقوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين(1)) فتعينت عصمة البعض، فهو إما غير الإمام وهو محال لقوله تعالى:

(أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع(2)) الآية ولأن الاحتياج إلى عصمة الإمام أكثر لتأثيرها فيه وفي غيره بخلاف عصمة غيره، فبقي أن يكون المعصوم هو الإمام وحده، أو هو مع غيره وفيهما المطلوب من عصمته.

4 - عدالة المكلف وقيامه بالواجبات معلول لعدالة الإمام كذلك، فتجب عدالته في كل وقت وهي العصمة، إن قيل: لم لا يجوز أن يكون عدالة الإمام علة معدة فلا يجب حصولها، قلنا: العلة المعدة إما معدة لوجود معلولها كأجزاء الحركة وهذه لا بد من وجودها، أو معدة لعدمه، فعدالة الإمام يمتنع كونها معدة

____________

(1) الحجر: 42.

(2) يونس: 35.

الصفحة 130 

لعدم عدالة الرعية، لمنافاة عدمها اللطف.

5 - قول الإمام وفعله دليل، وكل دليل يمتنع معه نقيض المدلول، وإلا لم يكن دليلا، فقول الإمام وفعله يمتنع نقيضه وذلك هو العصمة.

6 - وجه الحاجة إلى الإمام جواز خطأ الرعية، فلو جاز خطاؤه جاز إلزامه للمكلف بالخطأ، فيكون قد أكد وجه الحاجة، فلا يمكن نصبه لدفع الحاجة، بل ونقول في نصبه مفسدة، لأن غير الإمام لا يمكنه الالزام بالخطأ والإمام غير المعصوم يمكنه الالزام بالخطأ فيقع ويكثر، فقد حارب معاوية عليا وأمر بسبه فسب دهرا وأمر بإخفاء فضائله بالأقطار، ونهى الناقلين عن إيراد ما فيها من الأخبار وتظاهر ابنه يزيد الملعون المثبور، بشرب الخمور، وأفعال الفجور، وخراب البيت المعمور، ونهب مدينة الرسول، وقتل الحسين ابن البتول، وأولاده وإشهار كريمه وكريماته في بلاده وأجناده.

تذنيب:

خطأ المكلف على غيره أشد في المفسدة من خطاءه على نفسه، و الإمام غير المعصوم خطاؤه على غيره ونفسه، فتركه بغير إمام أشد محذورا من ترك الرعية، ولا يليق من الحكيم تعالى النظر للمرجوح وإهمال الراجح.

7 - قد بينا وجوب نصب الإمام ووجوب اتباعه، والواجب لا بد من اختصاصه بصفة تزيد على حسنه، لامتناع الترجيح بلا مرجح، وتلك الصفة هي كون أفعاله وأقواله صوابا دائما، وذلك مسبب عن العصمة.

8 - علي أفضل من الملائكة، لدخوله في آية الاصطفاء، والملائكة معصومون لقوله تعالى:) لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون(1)).

إن قيل: هذه لا تفيد العموم. قلنا: يصح إخراج أي فرد كان وهو مسبار العموم، ولقوله تعالى (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون).

(يسبحون الليل والنهار لا يفترون(2)) ولأنهم لو كانوا عصاة لما حسن منهم

____________

(1) التحريم: 6.

(2) الأنبياء: 27، 20.

الصفحة 131 

الطعن على البشر بالمعصية، ومتى كان علي أفضل من المعصوم فهو معصوم، ولأنه مساو للنبي بآية المباهلة، والنبي أفضل من آدم وهو ظاهر، وآدم أفضل من الملائكة بسجودهم له، ولا يحسن أمر العالي بالسجود للسافل، ولأن النبي صلى الله عليه وآله قال: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) والإمام أولى بذلك، لأنه أفضل العلماء والأنبياء أفضل من الملائكة، والملائكة معصومون والمساوي للأفضل أفضل، وإذا ثبتت عصمتهم فمطلق الإمام معصوم، لعدم القائل بالفرق.

9 - نصب الحدود واجب لدفع المعاصي إجماعا، ولا يقيمها إلا الإمام اتفاقا فهو معصوم التزاما، لأن غيره يجوز تركها منه، فيكون ذلك تناقضا، ولهذا رفع عمر الحد عن المغيرة بن شعبة بحكم الهواء، وكان كلما لقيه يقول: قد خفت أن يرميني الله بحجارة من السماء.

10 - الرئاسة العامة لغير المعصوم دفعها واجب، لوجود الخوف فيها لتجويز خطاءها، ولا شئ من الإمام دفع رئاسته واجب، فلا شئ من غير المعصوم بإمام.

11 - غير المعصوم مانع من ألطاف الإمام بالامكان، ولا شئ من الإمام بمانع من ألطاف الإمام بالضرورة، لأنه نصب لها فلا يكون مانعا منها، فلا شئ من غير المعصوم بإمام بالضرورة، لما بينا في المنطق أن نتيجة هذا الضرب ضرورية ولئن سلمنا سلب ضروريتها فهي دائمة، وفي دوامها يتم المراد ويسقط الايراد.

12 - كل إمام مصلح بالضرورة، ولا شئ من غير المعصوم بمصلح بالامكان فلا شئ من الإمام بغير معصوم.

13 - غير المعصوم غاو بالامكان، ولا شئ من المعصوم بغاو بالضرورة، لأنه لدفع الغي فلا يتصف بالغي فلا شئ من غير المعصوم بإمام بالضرورة.

14 - عدم المعصوم يلزمه المحال، وهو صدور الذنب المسبب عن إضلال الله عند الخصم، (ومن يضلل الله فما له من هاد(1)) وهذا سالبة كلية صادقة، * فلو

____________

الرعد: 135.

 

 

 

 

الصفحة 132 

هداه الله في وقت لصدق نقيضها وهو الموجبة الجزئية وهو محال، لامتناع صدق النقيضين وحينئذ لا يهتدى بالنبي ولا بالإمام، فلا فائدة في البعثة.

15 - لا شئ من الإمام يباح الاعتداء عليه، بالضرورة. وكل غير معصوم بالفعل يباح الاعتداء عليه في الجملة، لأنه ظالم في الجملة، فيدخل في قوله (فلا عدوان إلا على الظالمين(1)) ينتج: دائما لا شئ من الإمام بغير معصوم بالفعل.

16 - كل غير معصوم يركسه الله بما كسب بالامكان، ولا شئ من الإمام يركسه الله بما كسب بالضرورة، فلا شئ من غير المعصوم بإمام بالضرورة، أو بالدوام.

17 - كل من ليس بمعصوم يمكن كونه ظالما، ولا شئ من الإمام بظالم بالضرورة، فلا شئ من غير المعصوم بإمام بالضرورة.

(الفصل السادس)

 

وفيه أمور:

1 - غير المعصوم يمكن أن يتبرأ منه من تبعه، لقوله تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا(2)) الآية ولا شئ من الإمام المنصوب من الله يتبرأ منه بالضرورة، فلا شئ من غير المعصوم بإمام بالضرورة على قول، وبالدوام على قول والمطلق حاصل في القولين.

2 - غير المعصوم يمكن أن يكون من أهل النار، فيمكن أن يدعو إلى النار ولا شئ من الإمام بالضرورة من أهل النار [ ولا يدعو إلى النار ]، فلا شئ من غير المعصوم بإمام بالضرورة أو بالدوام.

3 - غير المعصوم مفسد لنفسه ولمتبعه بالامكان، ولا شئ من الإمام كذلك بالضرورة، فغير المعصوم ليس بإمام.

____________

(1) البقرة: 193.

(2) البقرة: 166.

الصفحة 133 

4 - غير المعصوم كاذب بالامكان فيدخل في قوله تعالى (فنجعل لعنة الله على الكاذبين(1)) ولا شئ من الإمام بكاذب بالضرورة، فلا شئ من غير المعصوم بإمام.

5 - لا شئ من غير المعصوم قوله وفعله بمجرده حجة بالامكان، لعدم كونه معلوما، فلا يجب اتباعه، وكل إمام قوله وفعله بمجرده حجة بالضرورة فيجب اتباعه، فلا شئ من غير المعصوم بإمام بالضرورة أو بالدوام.

6 - مخالف غير المعصوم له على الله حجة لو آخذه لأنه معذور لعدم عصمته وجواز خطاءه، ولا شئ من مخالف الإمام كذلك، فلا شئ من غير المعصوم بإمام.

7 - الإمام المعصوم متق وكل متق الله معه، لقوله تعالى: (والله مع المتقين(2)) فالمعصوم الله معه بالضرورة، ولا شئ من غير المعصوم الله معه بالامكان فلا شئ من الإمام بغير معصوم.

إن قيل: قد أخبر الله تعالى أنه مع كل أحد بقوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة(3)) الآية. قلنا: هذه المعية بمعنى العلم لهم، والإحاطة بهم، والمعية مع المتقين بمعنى المعونة، وزيادة الألطاف والهداية، وترجيح العناية، والحث على المتابعة، وإلا لم يكن في القيد بالتقوى فايدة، وقد ذهب جماعة من الأصوليين إلى أن التخصيص بالوصف، يقتضي التخصيص بالحكم، فلو كانت المعية الأولى هي الثانية تناقضا.

إن قيل: لا تناقض لدخول المتقين في كل أحد والجزء لا يناقض الكل.

قلنا: كلامنا على اقتضاء التخصيص بالحكم، وظاهر فيه التناقض، وأيضا على التداخل يلزم التأكيد فيه، والتأسيس مقدم عليه.

انتهت هذه الفصول الموجبة للعصمة من المعقول، ويتلوها أقطاب في شئ من المنقول، بالنور المنزل على الرسول، وهو الكتاب المجيد، والركن الشديد الوتيد

____________

(1) آل عمران: 61.

(2) البقرة: 194 وبراءة 37 و 124 ولفظ الآية (واعلموا أن الله مع المتقين).

(3) المجادلة: 7.

الصفحة 134 

الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

القطب الأول:

وفيه الآيات المتضمنة للرحمة مثل: (بسم الله الرحمن الرحيم. أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة. إن رحمة الله قريب من المحسنين. إنه هو الغفور الرحيم.

كتب ربكم على نفسه الرحمة(1)) ونحو ذلك كثير مما فيه نسبة الرحمة إلى الله سبحانه كثير، يستغنى بالإشارة إلى مجمله، عن التطويل بمفصله، إذ لو سبرنا باقي أفرادها خرجنا عن قيد الوجيز بإيرادها يجدها في الكتاب العزيز من أرادها.

ووجه الاستدلال بها أن الرحمة إنما يكون ثبوتها بفعل مأمورات التكاليف وترك منهياتها، وإنما يكون ذلك بالألطاف المقربة إليها، المصرفة للقوى الشهوية والغضبية عنها، ولا أهم في ذلك من المعصوم في كل زمان، إذ منه تستفاد علوم أحكام السنة والكتاب لكل انسان، فترك نصبه يعود بالتعطيل على الأحكام، العائد على نفي الرحمة عن الحكيم العلام، فلا يكون لآيات الرحمة معنى معقولا، وهو تناقض لا يصدر إلا ممن كان غبيا جهولا.

القطب الثاني:

في الآيات المتضمنة للتقوى: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى. هدى للمتقين. إنما يتقبل الله من المتقين. وآتاهم تقواهم. إن المتقين في جنات و نعيم(2)) ونحو مما يقرب إليه ويعول في هذا المعنى عليه.

ووجه الاستدلال بهذه الآيات أن التقوى المحثوث عليها، المرغب فيها إنما تحصل بامتثال الأوامر وإهمال الزواجر فإن لم يكن للمكلف طريق يؤدي إلى العلم بذلك على الاطلاق، لزم التكليف بما لا يطاق، فإن كان الطريق إلى الظن مؤديا، فإن الظن لا يغني من الحق شيئا، وغير المعصوم لا يجب التعويل

____________

(1) البقرة: 157. الأعراف: 55. يوسف: 98. الأنعام: 54.

(2) البقرة: 197. البقرة:. 1 المائدة: 30. القتال: 17. الطور: 17.

الصفحة 135 

عليه، لإمكان نسبة المعصية إليه، فلا يحصل الوثوق بالوصول إلى التقوى، بل قد يجذب إلى ضدها فتعم به البلوى، فيجب وجود المعصوم ليفيد العلوم بأحكام الحي القيوم.

إن قيل: آيات التقوى مهملة وهي غير عامة، فتصدق بمفرد، فلا يفيد مطلوبكم. قلنا: بل الوقاية فرط الصيانة، يقال: وقاة فاتقى، فلا يتم إلا باجتناب الكبائر والصغائر، قال الله تعالى: (وأنا ربكم فاتقون(1)) والمراد بها فعل كل الطاعات، وترك جميع المعصيات. وقال النبي صلى الله عليه وآله (لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس).

القطب الثالث:

في الآيات التي فيها طلب الهداية، مثل: (اهدنا الصراط المستقيم(2)) و التي فيها نسبة الهداية إلى الرب الكريم مثل (فهديناهم. والله يهدي من يشاء.

سيهديهم ويصلح بالهم. وهديناه النجدين. ومن يهد الله فما له من مضل. ولكن الله يهدي من يشاء هذا هدى. [ هدى ظ ] للمتقين)(3) ونحو ذلك يستغنى بقليله عن كثيره، ويشار بنزيره إلى غزيره.

ووجه الاستدلال أن الهداية جميعها غير معلومة بالعقول، فإن غالبها إنما يستفاد من المنقول، فإن فوض النقل والبيان إلى جايز الخطأ، ولا شك في اختلاف المفسرين والرواة، فإن سمع المكلف من الجميع، وقع في الأمر الشنيع، ولا ترجيح لبعض لارتفاع العصمة عن كل، فالمرشد على اليقين إلى معرفة الهداية هو المعصوم عن الغواية، فإن لم يجب وجوده كلفنا بما لا سبيل إليه، وطلبنا الصواب ممن لا يعول عليه، ولهذا لما تغلب على هذه المنزلة من جهل الفتوى، خبط في دين الله خبط عشوى.

____________

(1) المؤمنون: 52.

(2) الفاتحة: 5.

(3) فصلت: 17. النور: 46. القتال: 5. البلد: 10. الزمر: 37. القصص:

56. الجاثية: 10. البقرة: 1.

الصفحة 136 

 

القطب الرابع:

في الآيات المتضمنة للخوف ونحوه: (مثل لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ما على المحسنين من سبيل. إنما يخشى الله من عباده العلماء. فلا تخشوهم و اخشون. ما لكم لا ترجون لله وقارا. يعذب من يشاء. مأواهم جهنم(1)) وغير ذلك من الآيات المشتملة على الوعيد بالمخالفة.

وجه الاستدلال أن خروج المكلف عن خوف الوعيد، والسقوط في العذاب الشديد، إنما يكون باختياره ما يوجب ذلك، وهو غير عالم بما يوجبه أو يسلبه من تلقاء نفسه، ولا ممن يحكم في عقله بجواز معصيته، فلا ملجأ له في زوال الهم الفادح، إلا بهداية من لا يفعل ولا يأمر إلا بصالح، وذلك هو الإمام المعصوم، الذي لا يصدق عليه اسم الظلوم.

القطب الخامس:

الآيات الناطقة بما يوجب الهلاك، مثل: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. ولا تخونوا أمانتكم. ولا تفسدوا. فلا تولوهم الأدبار. ولا تكونوا كالذين آذوا موسى. ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن. ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة(2)) إلى غير ذلك مما لا يخفى حقيقته ولا يعفى طريقه، فنقول:

الكتاب والسنة مجملان في هذه وغيرها، فلا بد من طريق إلى معرفة المراد يقينا منها، ومجتهدو الأمة غايتهم الظن والتبعيض، ولا يصلون إلا في قليل إلى العلم القطعي المانع من النقيض، فلا بد من معصوم يجزم العبد بصوابه، فلا يخشى

____________

(1) البقرة: 62. براءة: 92. فاطر: 28. البقرة: 150. نوح: 13. البقرة:

284. آل عمران: 197.

(2) البقرة: 190. (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم): الأنفال:

27. البقرة: 11. الأنفال: 15. الأحزاب: 69. الأنعام: 151. البقرة: 188.

الأنعام: 152. البقرة 195.

الصفحة 137 

باتباعه من غضب الله وعقابه، والنبي غير دائم الوجود، فلا بد من نايب يقوم بمقامه، ويودي إلى أمته تفاصيل أحكامه، لئلا يدرس طريق نجاتهم فتكون الحجة لهم على بارئهم، حيث لم يستمر لهم منه نصب السبيل وينتقض قوله (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)(1).

إن قلت: هذا يفهم كون الإمام رسولا. قلت: لا، بل هو تكميل لدينه، و نايب في رعيته بعد حينه، ولا خفاء أن الله لا يخل أمة من الخلفاء (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير(2)).

القطب السادس:

الآيات المتضمنة للاستمرار على الحق اليقين: (ربنا لا تزغ؟ قلوبنا بعد إذ هديتنا. لئن أشركت ليحبطن عملك. يا أيها الذين آمنوا. آمنوا بما نزل على محمد. اصبروا وصابروا. وافعلوا الخير. والله يحب الصابرين. الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق. لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد.

إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا(3)).

فالدوام على ذلك وشبهه فيما لم تقض الضرورة به، ولم تهتد العقول إلى كسبه، إنما يحصل من النبي صلى الله عليه وآله، ومع فقده فمن الإمام، وغير المعصوم يشارك في الحاجة إلى الاستفادة ممن جعل الرب الحكيم عنده، ومنه الإفادة، وقد نص الله في كتابه المبين على اصطفاء قوم معينين في قوله: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين(4)) وإنما يحسن ذلك من الحكيم مع عصمتهم من أول خلقهم إلى آخر عمرهم، فإن كان المراد الأنبياء والأئمة فالمطلوب

____________

(1) النساء: 164.

(2) فاطر: 24.

(3) آل عمران: 8. الزمر: 65. النساء 135. القتال: 2. آل عمران: 200 الحج: 77. آل عمران: 146. الرعد: 22. إبراهيم: 7. الحجرات 15.

(4) آل عمران: 33.

الصفحة 138 

فيدخل فيه علي وفاطمة وباقي الأئمة، لأن الجمع المضاف للعموم، وإن أريد الأنبياء حصل المطلوب أيضا، لأن كل من قال بعصمتهم قال بعصمة الأئمة، و من منع عصمة الأئمة لم يقل بعصمتهم، فالفرق إحداث قول الثالث.

القطب السابع:

الآيات التي فيها الحث على عمل الصالحات مثل: (افعلوا الخير)(1) ومن يفعل خيرا يجز به. (ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره(2)) والآيات التي فيها الزجر عن المعصيات (من يعمل سوء يجز به. من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته. كل امرء بما كسب رهين. فمن افترى على الله الكذب. اعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا. حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا(3)) فهذه الآيات ونحوها لا يوصل إلى حقائقها إلا بالمعصوم، إذ الكتاب والسنة مشتملان على المجملات والمتشابهات، وتفويض استخراج ذلك إلى الاجتهاد المختلف باختلاف الأمارات، فيه تعطيل الأمور، والتكليف بغير المقدور، والخوف من عدم إصابة اليقين، للقادة والتابعين.

وقد ذكر أن رجلا دخل على فخر الدين الرازي في موضعه فوجده يبكي فقال له: مم بكاؤك؟ فقال: مسألة حكمت بها منذ ثلاثين سنة، ووضعتها في مصنفاتي وسارت بها الركبان، والآن ظهر لي أنها خطأ فما يؤمنني أن يكون جميع ما صنفته وألفته كذلك، فهذا خوف هذا الإمام مع سعة علمه، وإقرار العارفين له بزيادة فهمه.

إن قيل: فما ذكرتم بطلان الاجتهاد، والاجماع يرده. قلنا: اكتفي في المسائل العملية به تخفيفا عند فقد المعصوم، وقد قال الله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم(4)) لأن المسائل العلمية

____________

(1) الحج: 77.

(2) الزلزال: 7.

(3) النساء: 122. البقرة: 81. الطور: 21. آل عمران: 94، 103، 152، 105.

(4) النساء: 82.

الصفحة 139 

التي لا تستقل العقول بإدراكها، تحتاج إلى المعصوم فيها، لينبه عليها بمقدمات يضعها لا يهتدي غيره إليها.

إن قيل: النهي عن الافتراق لا يستلزم وجوب الاجتماع إذ النهي عن الشئ لا يستلزم الأمر بضده. قلنا: عند الأشاعرة أن متعلق النهي فعل الضد فسقط السؤال، وعند أبي هاشم متعلقه عدم الفعل، والمقصود هنا من عدم التفرق اجتماع المسلمين لتحصيل فوائد الاجتماع، وأبو هاشم لا يمنع ذلك.

إن قيل: النهي عن التفرق لا يعم جميع أحكام العباد، بل مخصوص بما المقصود منه الاجتماع، كالأصول والجهاد. قلنا: (لا تفرقوا) نكرة منفية فتعم ولأن المراد عدم إدخال الماهية في الوجود، فلو دخلت في وقت عدم الامتثال.

القطب الثامن:

الآيات الدالة على شفقة الله تعالى بخلقه، وذلك في آيات الرحمة والعفو و المغفرة والتوبة والنعمة، وفي أمر رسوله بنحو ذلك من التلطيف والتغافل عنهم والارفاق بهم، في قوله: (فاصفح الصفح الجميل. فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم(1)) وبدون نصب الإمام المعصوم من الله ورسوله لا يوجد ذلك، إذ لا يتم إلا به، فكيف يحسن من النبي صلى الله عليه وآله مع شدة شفقته الاخلال به.

إن قيل: هذا من باب الخطابة والمسألة علمية فلا تستفاد من الخطابة.

قلنا: لا بل ذلك من باب مفهوم الموافقة، فإن الأمر باللين والاستغفار والتواضع هابط في اللطفية عن المعصوم، فيجب بالأولى، والخطاب الإلهي برهاني لأن إثبات الرحمة التامة وإرادة المنافع العامة، علة في نصب الإمام المعصوم الذي تفقد تلك الفايدة بفقده، وهذا برهان لمي ولأنه تعالى أثبت أحد معلولي الرحمة وهو الأمر باللين والشفقة، فيثبت المعلول الآخر وهو نصب المعصوم الذي تفقد تلك

____________

(1) الحجر: 85. آل عمران: 159.

الصفحة 140 

الفائدة بفقده، وهذا برهان إني.

إن قيل: فاعل الحسن لحسنه لا يلزمه فعل كل حسن، والله فعل ذلك وأمر به، فلا يلزمه فعل كل حسن، فلا يلزمه نصب الإمام. قلنا: بلى، فإنه إذا فعل الحسن الذي هو غير واجب لحسنه لزم منه أن يفعل الواجب لحكمته، وقد بينا وجوب نصب الإمام والعناية به، وإلا لزم نقض غرضه من نفع خلقه، إذ الإمام أتم في تحصيل ذلك من اللين وغيره من المأمور به.

القطب التاسع:

الآيات التي فيها إخفاء الحق وكتمانه مثل: (لم تصدون عن سبيل الله [ من آمن ظ ] تبغونها عوجا. لم تقولون على الله ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. لم تلبسون الحق بالباطل(1)) ونحوها مما ينجذب إلى معناها تقتضي التحرز عن اتباع من يجوز فيه ذلك، وكل من ليس بمعصوم يجوز فيه ذلك، ولأن آية (لم تلبسون الحق بالباطل) ناصة على الباطل الممازج للحق، فيدخل الباطل الصرف بطريق أولى، وإذا كان النهي تعلق بالمرتكب للباطل في بعض الأحوال، فالمراد به الزجر عن الموجبة الجزئية المطلقة العامة فيكون نقيضها وهو الدائمة الكلية مرادا وهذه صفة العصمة وهي تحصل في الأمة إذا أطاعت الإمام في كل شئ وذلك ممكن، وهي مكلفة به، فالإمام أولى منها بها وإلا لشاركها في وجه حاجتها إليه، ولأن الله تعالى لما أمر باتباع الإمام لمجرد قوله في كل شئ علم أن سبيل الإمام هو العصمة، وإذا كان المكلف أيضا مأمورا بالعصمة كيف يكلف باتباع من ليس فيه عصمة.

القطب العاشر:

الآيات المتضمنة للاستعاذة من الشيطان مثل: (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم من شر الوسواس الخناس)(2) ونحو ذلك (ولا تتبعوا خطوات الشيطان(3) فالمأمور

____________

(1) آل عمران: 99. الصف: 3. آل عمران: 71.

(2) النحل: 97. الناس: 4.

(3) البقرة: 168.

الصفحة 141 

بالاستعاذة منه لا يكون هو المأمور باتباعه مطلقا والإمام مأمور باتباعه مطلقا فالمأمور بالاستعاذة منه لا يكون هو الإمام، وجايز الخطأ مأمور بالاستعاذة منه فجايز الخطأ لا يكون إماما ولا يقع من الحكيم الأمر بالاستعاذة به، ممن يخيل الخطأ في الأحكام الشرعية منه ثم يأمر باتباعه، لأن المأمور بالاستعاذة به منه شر، والمأمور باتباعه خير من كل وجه، فلو جاز خطأ الإمام ولو وقتا، لكان الخير من كل وجه شرا من بعض الوجوه، وهو تناقض، ومحال أيضا من الحكيم الأمر بالاستعاذة به من شئ وهو قادر على إنقاذه منه، ثم يأمره باتباعه ويحرم الإقدام على خلافه، ولأن الإمام هاد دائما فلو جاز خطأه لكان الله قد أمر باتباع من أمر بالتعوذ منه في وقت.

ولأن غير المعصوم قد يتبع خطوات الشيطان ولا شئ من متبعها يجب اتباعه ما دام متبعا لها، فلا شئ من غير المعصوم بواجب الاتباع وكل إمام واجب الاتباع فلا شئ من غير المعصوم بإمام وينعكس إلى لا شئ من الإمام بغير معصوم.

القطب الحادي عشر:

قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون(1)) فكل من ابتغى غير دين الله في أي شئ كان، فهو مذموم مستحق للعقاب، ولا شئ من الإمام كذلك لأنه إنما وجب ليعرف المكلف تفاصيل دين الله، ولا يخالفه في شئ، وإنما ذلك المعصوم فلا شئ ممن يتبع غير دين الله بإمام، وتنعكس إلى لا شئ من الإمام يبتغي غير دين الله.

ونحو ذلك قوله (تبغونها عوجا(2)) والتقرير كما سلف، ونحو ذلك قوله (و يريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما(3)) فنقول: غير المعصوم يتبع الشهوات، وكل من يتبع الشهوات يميل عظيما وكل من يميل عظيما لا يقتدى به، والإمام يقتدى به، فغير المعصوم ليس بإمام.

____________

(1) آل عمران: 83.

(2) آل عمران: 99.

(3) النساء: 26.

الصفحة 142 

وأيضا فالإمام نصب لدفع المكلف عن الشهوات والميل عن الحق، ولا يمكن ذلك بدون اطمئنانه، والاطمئنان مطلوب لقوله تعالى: (وما جعله الله إلا ذكرى لكم ولتطمئن قلوبكم(1)) ولا يطمئن إلا إذا كان الدافع له موصوفا بذلك، فإن من أمر بمعروف ولم يفعله لم يثق المكلف به، ولا يوصف بالميل عن الشهوات وإلى الحق دائما إلا المعصوم، ولهذا لما تولى غيره أمر الخليفة، اتبع الشهوات، ومال إلى اللذات، وكثر ذلك في الرعية، وشاع الفساد في البرية، ولما مالت علماء السوء إلى ذلك قررت الاتباع ما يرفع اللوم عنهم، من كون الله كتب ذلك عليهم، و خلقه فيهم، ولا حيلة لهم في دفعه، ولا قدرة لهم على منعه، بل جميع المناهي واقعة بطريق الاجبار، كل ذلك حتى لا يعودون عليهم بالانكار.

تذنيب:

كل آيات الوعد والوعيد، والأمر والنهي، والحث على التمسك بالدين والمن بالارشاد إلى طريق المؤمنين، وما فيه ذكر الظالمين والفاسقين والمعتدين والمبدلين، وغير ذلك من جنسه وغير جنسه كثير مخزون في الكتاب المبين، من أتقن ما أصلناه منه، قدر على استخراج ما سكتنا عنه، وتبين له الاحتياج إلى المعصوم في كل فرد من أفراده، وأنه بدونه لا يصل إلى كنه مراده، ومن طلب ذلك بوجوه تفصيله فكتاب الألفين تكفل بتحصيله، وفيما وضعنا في هذا الكتاب من الفصول والأقطاب غنية لأولي الألباب عن الإطناب، في القصد إلى سبيل الصواب.

(الفصل السابع)

 

قالوا: إن قلتم: إن عليا كان إماما في عصر النبي خرقتم الاجماع، وإن قلتم: لا، جاز كون باطنه في تلك الحال على غير العصمة، لعدم الإمامة وحينئذ لا يضر العصيان من غيره تقدم إمامته. قلنا: علي وإن لم يكن إماما في حياة النبي فإنه كان معصوما لأجل إمامته بعده، لئلا يقع التنفير عنه، كالنبي قبل بعثته

____________

(1) آل عمران: 126. الأنفال: 10 وفيه (بشرى) مكان (ذكرى).

الصفحة 143 

ونفرق بينه وبين من شوهدت معاصيه وكفره قبل تحكيمه، وخطائه ومخالفته بعد توليته، حتى قال الأول إن لي شيطانا يعتريني فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم، وتمنى الثاني عند موته أن لم يكن شيئا وأن يكون نسيا منسيا، وأحداث الثالث لا تحصى كثرة، وسنورد طرفا منها في المطاعن جهرة، بخلاف من فرض فيه ذلك ولم يعلم منه البتة، ولما نصبه الله ورسوله استدللنا بالمعلول على العلة.

إن قالوا: لم يكن أحد بعد النبي معصوما إلا عصمة الإيمان. قلنا: هذه لا يعلم بالباطن حصولها، وحسن الظاهر لا يدل عليها لوقوع النفاق في كثير من الأمة في حياة نبيها وحينئذ لا وثوق ولا أمان بحصول الثلاثة باطنا على الإيمان لجواز إظهاره وإبطان الكفران، ولم قطعتم بالاطلاق على كذب من وصفهم بالنفاق.

إن قالوا: فمدائح النبي فيهم ترفع هذا التجويز لرواية سعيد بن عمرو بن نفيل، أن النبي صلى الله عليه وآله عد العشرة المشهورة من أهل الجنة. قلنا: إن سلم ذلك عن الفساد، فهو من أخبار الآحاد، والراوي له أحد العشرة، فيرد الحكم بقوله لشهادته لنفسه.

إن قالوا: لم ينكره أحد من الأمة فصار إجماعا. قلنا: فالأمة قد اجتمعت على استحلال دم أحد العشرة، وهو عثمان وكيف تستحل دم من تعتقد أنه من أهل الجنان، وإن لم تجتمع عليه، فقد استحله جماعة كثيرة منها فكيف يدعى في صلاحه إجماعها، والشيخان قد أكذبا ما روى سعيد فيهما، بجزعهما عند موتهما حتى قال الأول لابنته عائشة: هلك أبوك، هذا رسول الله معرض عني فقال عمر:

لا تخبروا بذلك فإنكم أهل بيت يعرف فيكم عند الموت الهذيان، وقال عمر عند احتضاره: ليت أمي لم تلدني، وسيأتي في المطاعن بإسناده إلى صحاحهم.

وعثمان لم يحتج بخبر سعيد وقت حصره، وقد ذكر غيره من فضائله ليدفع بها من قتله وضره، ولو كان صحيحا عنده كان ذكره أوكد من غيره، وهذا علي وطلحة والزبير من العشرة قد استحل كل منهم دم الآخر ولم يسلموا السعيد

الصفحة 144 

في روايته، وتخلف سعد بن أبي وقاص عن علي وبيعته في زمان إمامته ومع ذلك كله لو صح الحديث عن النبي كان معلقا بعاقبتهم، فجاز [ في ر ] كونهم على ضلالهم إلى قرب حضور آجالهم آثروا توبتهم، فكان إلى الجنة عاقبتهم كما ادعوا في طلحة والزبير توبتهما بعد حربهما لإمامهما.

(الفصل الثامن)

 

قالوا: ورد الخبر بندم علي على تحريق الغالين لما بلغه كلام ابن عباس في ذلك، فإن دفعتم الندم فأرونا في الكتاب والسنة التحريق على جناية في الدنيا وقد جاء في الخبر أنه شهد على نفسه بالخطأ في التحكيم، وقال حين رأى اختلاف الناس عليه:

 

لقد عثرت عثرة لا أنجبر        سوف أكيس بعدها وأستمر

وأجمع الأمر الشتيت المنتشر

 

وهذا كله ينافي العصمة، قلنا: أدلة العصمة لا تنكسر بهذه الشبهات والأخبار الشاذات المرسلات، وخبر الواحد مع ذكر رواته والنص على عدالتهم لا يوجب علما، فما بال المرسل؟ وكيف يكون قول ابن عباس سبب ندم علي عليه السلام وهو تلميذه وعنه أخذ الأحكام قال: ما ملئت عيني منه قط هيبة له، ولم نسمع له الخلاف لعلي عليه السلام إلا في مال البصرة ثم ندم ولم يزل يبكي حتى عمي.

ولم يرجع علي إلى أحد في شئ من الأحكام، بل كانت رؤساء الصحابة ترجع عما حكمت إلى قوله عليه السلام وقد جاء النقل من الفريقين واستفاض بين الخصمين قول النبي صلى الله عليه وآله له: (أنا مدينة العلم وعلي بابها. الحق يدور مع علي حيث دار أقضاكم علي). وضرب بيده على صدره حين بعثه إلى اليمن وقال: (اللهم اهد قلبه وثبت لسانه قال علي فما شككت في قضاء بين اثنين).

وقولهم: أرونا في الكتاب والسنة التحريق بالنار. فإن الله تعالى يقول

الصفحة 145 

ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(1)) وقد آتانا أن عليا مدينة العلم وأمر جميع الأمة بأخذ علم الدين عن أمير المؤمنين، فعلمنا بذلك أنه لم يحرق بالنار إلا بعهد من الرسول إليه، على أن الله قد جعل إحدى خصال عقوبة المحاربين النار في الدنيا.

وما ذكره من ندمه على التحكيم، فالبطلان ظاهر فيه، والشعر المنسوب إليه مكذوب عليه، كيف ذلك وإنما قتل من الخوارج أربعة آلاف حيث حكموا بضلاله في التحكيم، أفيصح أن يشهد على نفسه بخطائه فيما قتل الناس لأجله.

ثم إن ذكر العثرة لا يدل على الخطأ والندم، لجواز تسمية ما أعقب العثرة عثرة مجازا، يجب المصير إليه لما تلوناه من قول النبي صلى الله عليه وآله فيه، وقد أضاف الرب الخبير زيادة الرجس إلى السورة والنفور إلى النذير. وأبلغ من ذلك أن الله تعالى سمى الحسنة سيئة والعدل جورا في قوله: (وجزاء سيئة سيئة. ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه(2)).

إن قالوا: إنما سماهما بذلك لوقوعها في صحبة السيئة والعدوان، كما تقرر في علم المعاني والبيان، قلنا: والتحكيم وقع في صحبة العثرة من الضالين حيث عدلوا إليه عن الحق اليقين، الذي قال الله تعالى فيه: (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين).(3) على أنا نعارض بقول النبي صلى الله عليه وآله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، وهذا يدل بظاهره على ندمه على سوق الهدي، ولم يخرجه ذلك من عصمته، بل هو مصروف عن ظاهره، فكذا ما نحن فيه.

قالوا: تلك صغاير جايزة على النبي، وأنتم أثبتم للإمام العصمة مطلقا.

قلنا: لم نثبتها له إلا على حد ثبوتها للنبي وإلا لكان أفضل من النبي ولا يقول ذلك سوى الضال الغبي، على أنا لا نجوز الصغاير على النبي وإنما قصدنا معارضتكم لنريكم أنكم [ ا ] دخلتم في أشنع مما ألزمتم خصمكم.

وهذان الفصلان لخصتهما من كلام الشيخ المفيد رحمه الله.

____________

(1) الحشر: 7.

(2) الشورى: 40. البقرة: 194.

(3) يس: 12.

الصفحة 146 

وقد ذكر المرتضى في شافيه أن عليا إنما ذكر ذلك الشعر تحسرا على كتاب كتبه إلى ابن أبي بكر ليعمل به، فاعترضه معاوية فأخذه فأشفق أن يعمل به، فيوهم على الضعفة أنه من عمله فيشتد شبهتهم من قبله، قال: وهذا التفسير قد روي عن علي عليه السلام من طرق معروفة من كتب أهل السير.

إن قيل: فلم حارب الفرق الثلاث(1) دون الأولين. قلنا: لوجود الناصر دون الأولين، أو لجواز ظنه أنه لو لم يحارب ارتد أكثر المستضعفين، ولو حارب الأولين ارتد قوم من ضعفاء اليقين.

إن قيل: فعندكم قد ارتد دافعوا النص على أمير المؤمنين، فلا فايدة في ترك محاربة الأولين. قلنا: خاف أن يتعاظم الكفر بوجود المحاربة فيؤدي إلى جحد الله وتوحيده والرسول وما جاء به.

إن قيل: فعندكم أن الاقرار بالله ورسوله، لا ينفع عند جحد النص على خليفته، فلا زيادة بالمحاربة عما حصل بعدمها. قلنا: أقل مراتب الريادة أنهم إذا حاربوا الإمام، وأظهروا جحد الإمامة، وطعنوا فيها طعنا مسموعا، حصلت زيادة.

(الفصل التاسع)

 

رووا أن عليا قال: كنت إذا حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أحلفته بالله فإن حلف صدقته وإلا فلا. وإن أبا بكر حدثني وصدق أبو بكر، قال النظام:

إن كان ثقة فلا معنى للإحلاف، وإن كان غيره لم تزل تهمته بالإحلاف، فإن من جوز الكذب على النبي يجوز الحلف عليه، قلنا: لم ينقل أحد أن عليا نقل عن النبي حرفا بواسطة، وهذا الخبر ضعيف لأنه مسند إلى أسماء بن الحكم، وهو مجهول عند أهل الرواية وروي من طريق آخر إلى سعد بن سعيد قال الزبير و يحيى بن معين والشيباني إنه ضعيف خبيث متروك الحديث. ولا موضع لإنكار

____________

(1) يعني الناكثين والقاسطين والمارقين.

الصفحة 147 

النظام الأحلاف فإنه في الثقة يزيد في يقينه، وفي غيره ربما أحجم للخوف عن يمينه، فإن كثيرا من المتهمين يرجعون عن الجحود لأجل اليمين، ولو كان لا مدخل لليمين، لطعن بها الكافرون على شريعة المسلمين، بأن يقولوا: إن كان ثقة فلا معنى لها، وإن كان غيره فإقدامه على اليمين أولى من غيرها.

وما؟ قاله من تصديق أبي بكر فلعلمه بصدوره عن النبي صلى الله عليه وآله لا بمجرد إخبار النبي. على أنه لا يلزم من صدق أبي بكر في حديث صدقه في كل حديث حتى يلزم صدقه في قوله: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث).

قالوا: قتل علي أصحاب الجمل ولم يغنم فإن حل أحدهما حل الآخر و إلا حرما معا. قلنا: قال عليه السلام: فأيكم يأخذ عائشة في سهمه؟ فقال له الراسي:

أليس لنا قتل غيرها دونها، قال: بلى، قال: فلنا سبي غيرها دونها فقال عليه السلام:

مننت عليهم كما من النبي صلى الله عليه وآله على أهل مكة وقال لعباد لما اعترضه بذلك:

إن دار الهجرة حرمت ما فيها وإنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير، فما كان في دورهم فهو ميراث لذريتهم. وقد ارتد في أيام أبي بكر علاثة فلم يتعرض لماله و آخر في أيام عمر فلم يتعرض لماله، هذا.

وقد شهد له النبي صلى الله عليه وآله أن الحق يدور مع علي حيث دار. وإن لم يعلم وجه الصواب، وجب علينا الكف والتفويض إلى من علمت عصمته، وأومن بدعاء النبي خطاؤه، وكما يرجع في آيات الجبر والتشبيه، إلى إثبات العدل والتنزيه.

قالوا: قطع سارقا من أشاجعه. قلنا: هو أعلم باللغة العربية، من غيره، ولقد قال له قائل: أفلا قطعت من الرسغ؟ قال: فعلى أي شئ يتوكأ؟ وبأي شئ يستنجي؟ على أن ذلك بنص الكتاب في قوله (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم(1)).

قالوا: جلد الوليد أربعين، قلنا جلده بسعفة لها رأسان، فكانت ثمانين أخذا

____________

(1) البقرة: 79.

 

 

 

 

الصفحة 148 

من قوله تعالى: (وخذ بيدك ضغثا(1)).

قالوا: جهر بشتمة رجال في القنوت. قلنا: تظافرت الروايات أن النبي كان يلعن في قنوت الصبح قوما من أعدائه بأسمائهم أربعين صباحا فكان يقول: (اللهم العن رعلا وذكوان، والعن الحدثين من أسد وغطفان، والعن أبا سفيان والعن سهيلا ذا الأسنان) قالوا: أجاز شهادة الصبيان. قلنا: قد أجازها جماعة من الصحابة والتابعين فقد روى مالك بن أنس أن ابن الزبير كان يقضي بشهادتهم فيما بينهم من الجراح وقال مالك أيضا: المجتمع عليه عند أهل المدينة جواز شهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح قبل تفرقهم ولا يجوز على غيرهم، وقال عروة: تقبل شهادة بعضهم على بعض، ويؤخذ بأول قولهم، ورواه ابن أبي الزياد عن أبيه أنه من السنة، ورواه عن عمر بن عبد العزيز وكان أيضا يجيزها مروان وابن شهاب وربيعة وشريح في ذلك.

قالوا: فيها مخالفة (وأشهدوا ذوي عدل(2)) قلنا: لا يدل التخصيص بالوصف على التخصيص بالحكم، وقد قبل النبي شهادة خزيمة وحده، وشهادة واحد مع اليمين، وأمر الله بشهادة الكفار على الوصية.

قالوا: سأل عبيدة السلماني عليا عليه السلام من بيع أمهات الأولاد، فقال: كان رأيي ورأي عمر ببيعهن وأما الآن أرى أن لا يبعن. قلنا: قال الشيخ المفيد: قد أطبق الفقهاء ونقاد الآثار على بطلانه، ولو سلم جاز كون كلام علي في زمان عمر للتقية وخوف الفتنة، وقد أمضى النبي أحكام الكفار عام الحديبية للمصلحة، و ليس لهم حمل اختلاف أبي بكر وعمر على ذلك، لأنهم أهل الشوكة.

قالوا: نقل الجاحظ عن إبراهيم أن عليا اختلف قوله في الجد كأبي بكر قلنا: هذا تخرص وبهت. إذ لم يختلف من أهل الآثار في ذلك اثنان.

____________

(1) ص: 44.

(2) الطلاق: 2.

الصفحة 149 

قالوا: قال الشعبي: رجع علي عن قوله في الحرام ثلاثا، أي قال رجل لامرأته أنت حرام. قلنا: الشعبي ناصب كاذب فاسق أما فسقه فسنذكره في باب الطعن في رجالكم، وأما كذبه فإنه قال: لم يشهد الجمل من الصحابة إلا أربعة وقد أجمعت أهل الأخبار على أن مع علي فيه ثمانية [ ألف ] من الأنصار، وتسع مائة من أهل بيعة الرضوان، وسبعون من أهل بدر، وكان يحلف بالله أن عليا دخل قبره ولم يحفظ القرآن. فقد ظهر في ذلك نصبه، وشاع بإنكار الاجماع كذبه.

قالوا: قال لقضاته بعد مصير الحكم إليه: اقضوا كما كنتم تقضون، فإن كان القضاء الماضي حقا فلا عتب على الماضين الآمرين به، وإن كان باطلا بطلت عصمة الآمرين به. إذ لا تقية حينئذ. قلنا: إنما قال ذلك - وإن كان الحكم له - لأن الأمة قد كانت اعتادت تلك، واطمأنت نفوسها إلى حقيتها، ولهذا أراد أهل الشورى بيعته على سيرة الشيخين، فلما أبى إلا على كتاب الله انصرفوا عنه وعن كتاب الله إلى سيرتهما، فقال ذلك للقضاة لاستصلاح الرعية وقد علل ذلك في قول (حتى يكون الناس جماعة) فلما قتل الطوائف الثلاث وخمدت الفتنة، غير بعض ما كان.

قالوا: فلم لم يغير الكل: قلنا: ربما لم يخف من إظهار الخلاف في البعض كما يخاف في الكل وربما كانت الشبهة على الاتباع في المتروك أشد منها في الآخر.

قالوا: أكره الزبير وطلحة على البيعة. قلنا: لا، بل إنما بايع الناس بعد أن ألحوا عليه، وقد قال في خطبة له: فتداك الناس علي كتداك الإبل على حياضها وحتى وطئ الحسنان وشقت أعطافي. وفي موضع آخر: ينثالون إلي كعرف الضبع، والعامة تروي أنه قال لهما: امددا أيديكما أبايعكما فإنني أكون لكما وزيرا خير من أن أكون لكما أميرا فأول من بايعه طلحة، وقال الأسدي: أول يد صفقت على يد أمير المؤمنين يد شلاء يوشك أن لا يتم هذا الأمر، فكيف الاكراه مع هذه المسارعة.

قالوا: قتل عثمان: قلنا: قد علم من سمع الأخبار أنه لم يقتل عثمان، بل أنفذ ابنه الحسن ليسقيه الماء وهو ظمآن، وإنما تولى قتله طلحة والزبير في جماعة

الصفحة 150 

من المهاجرين والأنصار، وقد قال لهما: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت في قتله ولم يمكن أحد منهم الرد عليه.

قالوا: كان يحدث بالمعاريض ويدلس حين قال: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله فهو كما حدثتكم وإذا سمعتموني أحدث فيما بيني وبينكم فإنما أنا رجل محارب والحرب خدعة، ولعل قوله أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين و قوله في ذي الثدية ما كذبت ولا كذبت كان برأيه للخدعة، ولعل الشئ الذي كان يراه حقا استجاز إسناده إلى الله ورسوله لأنهما أمرا بكل حق.

قلنا: لا تدليس فيه وقد أفصح عن المراد منه، وفرق بين الحديثين بأن ما حدث عن الرسول فهو كما حدث وإذا حدث عن نفسه فله وجه تأويل وقد يضطر الإمام إلى معاريض الكلام ويجري ذلك مجرى متشابه القرآن، وإخباره بقتال الطوايف كان وهو متوجه إلى قتال طلحة والزبير فإن قوما أشاروا بالكف عنهما فأضاف إلى النبي الإخبار بقتالهما، وقال: أما والله لقد علم أصحاب محمد وهذه عايشة فاسألوها أن أصحاب الجمل، والمخزج اليد، ملعونون على لسان النبي الأمي وقال: لا أجد إلا قتالهم أو الكفر بما أنزل على محمد، فكيف يكون عن رأيه وقد استشهد عايشة بلعنه أصحابها مع كونها من أكبر أعدائه.

هب: أنه علم حال الناكثين فكيف أخبر عن حال القاسطين والمارقين؟ ولم يظهر منهم في حال الإخبار ما يخالف الدين.

إن قالوا: كان إخباره ترجيما وظنا فأصاب. قلنا: هذا يسقط أخبار الأنبياء بالغيوب، لجواز كونه عن ترجيم فأصابوا، وفي هذا خروج عن الاسلام.

تذنيب:

أكثر ما أوردته في هذا الفصل من الاعتراض والكلام ما حكاه المفيد في محاسنه عن الجاحظ عن النظام، والجواب له رحمة الله عليه ورضوانه لديه وقد قال الجاحظ في آخر فصل حكاه عن النظام في الفتيا: وكان إبراهيم من حفاظ الحديث مع ذهن حديد ولسان ذرب، يتخلص به إلى الغامض، ويحل به المنعقد وهو مع ذلك يخطئ خطأ الغمرية، ويخبط خبط السكران، ويجمع بين السقطة والغفلة والحزم والإضاعة، قال جاحظ عقيب هذا الفصل: وقول إبراهيم لم يعمل به مسلم.