باب السابع عشر في رد الاعتراضات على شئ من شرائع أتباع الإمام عليه السلام

الصفحة 261 

قالوا: أول ما تكذبون أنكم تسندون ما جاء عن أئمتكم إلى نبيكم، لقول الصادق: حديث أبي وجدي حديث رسول الله صلى الله عليه وآله (1) فلا حرج أن تقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وآله.

قلنا: هذا حديث غير مشهور، ولئن سلم جاز نسبته إلى الرسول لقول الصادق عليه السلام: والله ما نقول بأهوائنا، بل ما قال ربنا، وهذا حق لثبوت عصمته، و أقل أحواله ثبوت عدالته، وما المانع من قول الراوي كل حديث أرسلته، ففلان طريقي فيه، فيسنده عند سماعه إلى ما ذكر للعلم السابق به.

وقد سئل الباقر عليه السلام عما يرسله فقال: كل حديث لم أسنده فسندي فيه أبي عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله عز وجل، وقد أسلفنا في باب تخطئة الأربعة أن أهل السنة رضوا بنسبة جملة مذهبهم إليهم مع تخطئة بعضهم بعضا، وعدلوا عن نسبة المذهب إلى نبيهم، مع كونها أوكد لتعظيمه ولحرمتهم، ثم فصلوا في الرد علينا أمورا:

منها: مسح الرجلين في الوضوء، احتجوا بقراءة النصب في الرجلين على

____________

(1) قال الشيخ المفيد قدس سره في الارشاد ص 257: وكان عليه السلام يقول: إن حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث حدى حديث علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وحديث علي أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وحديث رسول الله قول الله عز وجل.

الصفحة 262 

الغسل، وجعلوها عطفا على غسل اليدين (1).

قالوا: وقراءة الجر تحتمل العطف عليهما، وعلى مسح الرأس، لكن الغسل أولى، لأن قراءة الجر بالمجاورة، كجحر ضب خرب، وعذاب يوم أليم.

قلنا: أنكر الكسائي إعراب المجاورة، ومنع الزجاج وغيره من محققي النحو وروده في القرآن، وتأولوا الخرب بأنهم أرادوا (خرب جحره) و (أليم عذابه) مثل مررت برجل حسن وجهه، ولأن في الآية حرف العطف الموجب تساوي المعطوف والمعطوف عليه، ولم يرد الإعراب بالمجاورة مع حرف العطف كما سلف في المثالين، وكقول الآخر:

 

كأن ثبيرا في عرانين وبله        كبير أناس في بجاد مزمل (2)

 

قالوا: جاء القرآن والشعر بجر المجاورة مع حروف العطف، فإن حمزة والكسائي قرءا: (وحور عين (3)) - والحور لا يطاف بهن حتى يعطفن على المجرور

____________

(1) قرأ نافع وابن عامر ويعقوب والكسائي وحفص والأعشى عن أبي بكر عن عاصم (وأرجلكم) بالنصب، والباقون بالجر. أما قراءة الجر فهو نص على وجوب مسح الأرجل كالرأس وأما النصب فبالعطف على محل (برؤوسكم) إذ الجار والمجرور محله النصب على المفعولية كقولهم: (مررت بزيد وعمرا) وعليه قراءة (تنبت بالدهن وصبغا للآكلين (المؤمنون: 20).

وسيأتي مزيد توضيح لذلك في كلام المصنف رحمه الله.

(2) الشعر لإمرء القيس الشاعر المعروف الجاهلي، والشاهد في وقوع (مزمل) صفة لكبير، وهو مرفوع خبر كأن ولكن الشاعر جره بالمجاورة للبجاد، وفيه أن البيت من قصيدته المعروفة الطويلة:

 

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل        بسقط اللوى بين الدخول فحومل

 

وقافية القصيدة ورويها اللام المكسورة، وإنما جر ((مزمل) للضرورة الشعرية رعاية للقافية، نعم يحتمل الجر بالمجاورة، فليس بحجة.

(3) الواقعة: 22، وقراءة حمزة والكسائي بالجر في حور عين.

الصفحة 263 

المتقدم، وإنما يطاف عليهن - بالجر بالمجاورة.

قلنا: معناه وقرناهم بهن، وقد ذكر نحوه أبو علي الفارسي في كتاب الحجة، ونمنع أنه لا يطاف بهن إذ قد يطاف بهن على الأزواج وأما الشعر:

 

فهل أنت إن ماتت أتانك راحل          إلى آل بسطام بن قيس فخاطب

 

قلنا: (خاطب) فعل أمر لا عطف، ويمكن أن يكون (فخاطب) مرفوعا بالعطف على راحل، فخفض الراوي وهما منه (1).

قالوا: قال الشاعر:

 

لم يبق إلا أسير غير منفلت      وموثق في عقال الأسر مكبول

 

فجر موثوق بالمجاورة، مع الواو أيضا، إذ التقدير لم يبق إلا أسير أو منفلت (2) ولو جر بغير ذهب التمدح. إذ يصير لم يبق إلا غير منفلت وإلا غير موثق.

قلنا: لا بل المعنى لم يبق غير أسير غير منفلت، ولم يبق غير موثق.

سلمنا الإعراب بالمجاورة لكنه إنما يصح مع عدم الاشتباه، كما في المثال فإنه لا لبس في كون الخرب صفة الجحر، وهنا الأرجل جاز كونهما ممسوحة فجرها بالمجاورة تلتبس.

هذا وقد ذكر صاحب تقريب المتدارك وهو من أكبر شيوخهم وممن يوجب الغسل دون المسح، قال مكي: قراءة الجر تقتضي المسح، لكن نسخ بفعل النبي صلى الله عليه وآله الغسل، وحكى معناه عن الشعبي ثم قال: وقد أوردنا من حديث مالك حديثين صحيحين بمسح النبي صلى الله عليه وآله على الرجلين. والعجب منه مع

____________

(1) أو هو على الاقواء، والاقواء: اختلاف قوافي الشعر، برفع بيت وجر آخر قال الفيروزآبادي: وقلت قصيدة لهم بلا اقواء وأما الاقواء بالنصب فقليل.

(2) كذا في النسخ ولعل الصحيح: إذ التقدير: لم يبق إلا أسير غير منفلت: وموثق في عقال الأسر.

الصفحة 264 

اعترافه بعدم الطعن في الحديثين، وبأن الآية غير منسوخة، ودالة على المسح يقول بالغسل.

وحكى ابن المغربي وغيره عن أنس ابن مالك أنه صلى الله عليه وآله كان يمسح رجليه، و حكاه ابن عباس وقتادة، وخير الحسن والجبائي والطبري بين الغسل والمسح ثم قال الطبري: والمسح نص القرآن لأن قراءة الجر عطف على مسح الرأس بلا خلاف بين أهل اللسان، ومن زعم أنه خفض بالجوار فقد جهل وأخطأ وحمل كتاب الله على أضعف اللغات، ومستهجن التأويلات.

ثم قال: وقراءة النصب محمولة على الخفض بالعطف على الموضع كقول الشاعر:

 

معاوي إننا بشر فأسجح         فلسنا بالجبال ولا الحديدا (1)

 

وهذا فصيح مشهور، ومنه (حاش لله ما هذا بشرا (2) (واختار موسى قومه سبعين رجلا (2)) لما حذفت الباء و (من) نصب بشرا وقومه، ومنه (أحل لكم

____________

(1) هو من أبيات لعقبة بن الحارث الأسدي، أو عقبة بن هبيرة الأسدي، يخاطب بها معاوية بن أبي سفيان وبعده:

 

أكلتم أرضنا فجردتموها          فهل من قائم أو من حصيد

ذروا خون الخلافة واستقيموا    وتأمير الأراذل والعبيد

معاوي إننا بشر فأسجح         فلسنا بالجبال ولا الحديد

 

ذكر ذلك البغدادي في الخزانة ج 2: 82 وهكذا في جامع الشواهد فعليه فلا يصلح للاستشهاد، لكن قال ابن الأنباري في كتاب الإنصاف: 333 بعد نقل الشعر: ومن زعم أن الرواية (ولا الحديد) بالخفض، فقد أخطأ، لأن البيت الذي بعده:

 

أديروها بني حرب عليكم       ولا ترضوا به الغرض البعيدا

 

والروي المخفوض لا يجتمع مع الروي المنصوب في قصيدة واحدة.

(2) يوسف، 31.

(3) الأعراف: 155.

الصفحة 265 

ليلة الصيام (1)) على حذف (في) ومررت برجل وعمرا.

قال ابن عباس: الوضوء غسلتان ومسحتان، وقال: في كتاب الله المسح ويأبى الناس إلا الغسل، وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين، وقال الشعبي:

نزل جبرئيل بالمسح دون غيره (2).

وروى أبو عبيدة في غريب الحديث والزمخشري في الفائق أن النبي صلى الله عليه وآله أتى كظامة قوم فتوضأ ومسح على قدميه، ونحوه عن ابن عباس وعلي عليه السلام وعن عثمان أيضا وإنما الحجاج خطب وقال: أقرب شئ من ابن آدم خبث قدميه، فاغسلوا، فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج.

وقد قال بعضهم: إن في الآية تقديما تقديره اغسلوا وجوهكم وأيديكم و أرجلكم وامسحوا برؤوسكم، قال: وهذا أبعد شئ من تنزيل الآية ولو جاز هذا التقدير لم يترتب المعطوفات في لسان العرب.

قالوا: الآية أوجبت المسح، والسنة أوجبت الغسل، والمسح داخل فيه وقد غسل في حياة النبي صلى الله عليه وآله وبعده، ولم ينقل عن أحد من الصحابة غيره، حتى أن أعرابيا ترك لمعة من رجليه وصلى، فأمر النبي صلى الله عليه وآله بالإعادة، وقال: ويل للأعقاب [ من النار ].

قلنا: قد عرفتم فيما سلف من كتبكم ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله والصحابة في المسح، وقد أمر الله بالمسح إلى الكعبين، وهما قبتا القدم، فلو وجبت الغسل إلى الأعقاب لكان النبي صلى الله عليه وآله متعديا أمر الله، وهو محال.

قالوا: الواجب الغسل فعبر بالمسح عنه لاشتراكهما في البلل، وقد جاء مثله في تسمية التبن والماء علفا، علفتها تبنا وماء باردا (2) وأشركوا الرمح في التقليد الموضوع للسبق:

____________

(1) البقرة: 187.

(2) تفسير الطبري ج 6 ص 128. ذيل آية المائدة.

(3) آخره: حتى شتت حمالة عيناها.

الصفحة 266 

 

 

ورأيت بعلك في الوغى          متقلدا سيفا ورمحا (1)

 

قلنا: لا مانع من حمل المسح على حقيقته، ولو جاز ذلك في الرجلين جاز مثله في الرأس، وهو باطل إجماعا، وقد حكى صاحب التقريب اختيار أبي المعالي أن الأرجل نصبت بفعل مستأنف. ثم قال: وهذا قول من يترك كلام رب العالمين على معتاد المتكلمين.

قال وهب: إنهم تكلفوا القراءة النصب وجها، فما قولهم في قراءة الجر و هي متواترة؟ فقد رد صاحب التقريب قولكم من قريب.

قالوا: في الغسل يحصل المسح، دون العكس قلنا: قد قال صاحب [ التقريب عن ] المالكية أن الغسل لا يراد به المسح أبدا، والمسح لا يراد به الغسل أبدا، فهما حقيقتان فلا تداخل قالوا: غسلهما يجزئ عن الوضوء في الحدث الأكبر، فيجزئ من الأصغر قلنا: عندكم لا يجزئ الغسل عن الوضوء، وعندنا يجزئ في الجنابة لا غيرها، فلو صح ذلك التقدير لا طرد في غيرها.

قالوا: رخص النبي صلى الله عليه وآله في مسح الخف، ولولا أن العزيمة في الغسل انتفت الرخصة. قلنا: أتى مسح الخف من طرقكم فلا حجة فيه علينا، والمشقة في نزع الخف كافية في الفرق بين الرخصة والعزيمة، فلا دلالة من الثلاث على تعيين الغسل.

ومن العجب تجويز مسح الخفين، ومنع مسح الرجلين، مع مجئ القرآن بالرجلين دون الخفين.

وروى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أن عمر جمع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسألهم عن مسح الخفين، فقال المغيرة بن شعبة: رأيت النبي صلى الله عليه وآله مسحهما، فقال علي نسخت المائدة ذلك، وبذلك قال جماعة من الصحابة والتابعين: منهم أنس بن مالك.

____________

(1) وفي بعض الكتب صدر البيت هكذا. يا ليت زوجك قد غدا.

 

 

 

 

الصفحة 267 

وقال ابن عباس: سبق كتاب الله المسح على الخفين، وجاءت الآثار عن الأئمة الأبرار أن الرجل ليصلي أربعين سنة وما يطيع الله، يجعل موضع المسح غسلا.

وقال الصادق عليه السلام: (إذا رد الله كل إهاب إلى موضعه، ذهبت طهارة الناصبية في جنوب الإبل والبقر والغنم).

وروت الناصبية عن عائشة: لئن تقطع رجلاي بالمواسي أحب إلي من أن أمسح على الخفين، وروت أيضا عن أبي هريرة ما أبالي مسحت على خفي أم على ظهر عير بالفلاة.

قالوا: حد الله الرجلين بالكعبين، فمعطوفان على اليدين المحدودتين بالمرفقين. قلنا: قد ذكر الوابشي وغيره من مفسريكم أن الآية تدل قويا على المسح، وفي صحيح البخاري مسحنا على أرجلنا فنادى النبي صلى الله عليه وآله ويل للأعقاب وهذا يدل على أنهم فهموا المسح من الآية، وإلا لكانوا قد جهلوا، وعلى ربهم افتروا، وهذا يوافق أحاديثكم وكتبكم أن الآية منسوخة، وقد عطف الله على الوجه المطلق اليدين المحدودتين، فالأحسن أن يعطف على الرأس المطلق، الرجلين المحدودتين، لحصول المطابقة به، وأيضا فإن الله بعد تقضي جملة الغسل، أتى بجملة السمح، فلو جازت المخالفة بين الرأس والرجلين في المسح، جازت بين الوجه و اليدين في الغسل.

قال الشعبي: نزل القرآن بالمسح، ألا ترى أن المتيمم يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا: نقله الفراء عنه في معالم التنزيل.

قالوا: إنما أتى لفظ المسح في الرجلين لترك الإتراف، لأنهما تربتان من الأرض قلنا: ذلك لا يوجب الترف، ولا نسلم اعتيادهم الترف وقد عرف مباينة الحقيقتين فاشتراكهما في التسمية يوجب التعمية، فقد دلت علماؤكم وكتبكم على ما ذهبنا إليه.

ولنا أحاديث كثيرة من طرقنا، أعرضنا عنها، لعدم الالتزام بها، ولئلا يطول

الصفحة 268 

بها الكلام، من أرادها وقف على كثير منها في تهذيب الأحكام.

وأما ابتداؤنا بالمرفقين فإن (إلى) في قوله تعالى: (إلى المرافق) محمولة على (مع) مثل (من أنصاري إلى الله (1)) (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم (2)) ويقال:

فلان ولي الكوفة إلى البصرة، ولا يراد الغاية بل المعنى مع البصرة، وقال امرء القيس:

 

له كفل كالدعص لبده الندا      إلى حارك مثل الرباح المضبب

 

وقال النابغة:

 

ولوح ذراعين في بركة  إلى جؤجؤ زهل المنكب

 

فأراد بإلى (مع) (3).

____________

(1) آل عمران: 52.

(2) النساء: 2.

(3) أقول: لما كان ظاهر قوله تعالى (أيديكم) في (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) ينصرف إلى الكفين بحسب المعتاد بين الناس عند الغسل، زاد بعده (إلى المرافق) تعميما للغسل والمغسول، فلفظ (إلى) جيئ به لبيان ذلك، لا للانتهاء.

وأما أن الغسل يكون مبتدئا من المرافق أو بالعكس، فهو خارج عن مدلول اللفظ ولما كانت الآية الشريفة مطلقة من حيث ذلك، انصرف إطلاقه إلى الفرد الأكمل الأشرف وهو الغسل على النحو المعتاد الفطري - أعني الغسل من الأعلى إلى الأسفل - وذلك لأن الماء كسائر الأجسام الطبيعية الثقيلة إنما يجري من الأعلى إلى الأسفل وبجريانه يذهب بدرن الوجه واليدين، فالفرد الأكمل الأشرف من أنحاء الغسل أن يكون مبتدئا من الأعلى لينصب غسالة الوجه من الذقن، وغسالة اليدين من الأنامل، وما لورد الماء من الأسفل إلى الأعلى، أو عاليا وسافلا، فقد رد الغسالة - وفيها درن الوجه و اليدين وكثافتها - إلى المغسول وفيه نقض الغرض.

وهذا هو الذي بينه النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته في مورد الوضوء، وقد قال صلى الله عليه وآله: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.

الصفحة 269 

وبالجملة فاستعمالها ظاهر في الكلام، وقد عضدها أخبار أهل البيت عليهم السلام وقد روى علي بن رئاب عن الصادق عليه السلام أن في مصحف علي (اغسلوا وجوهكم و أيديكم من المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم من الكعبين) (1).

ومنها: المتعة كانت من أحكام الجاهلية ثم استمرت حتى نسخت، قلنا:

أخرج البخاري ومسلم حديث عبد الله بن مسعود كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وآله فرخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، وأخرجا حديث جابر وسلمة أن منادي رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إنه أذن لكم أن تستمتعوا، وزاد مسلم يعني متعة النساء، وكان ذلك عام أوطاس سنة ست من الهجرة قبل خيبر، كما ذكره صاحب جامع الأصول فكيف تكون من أحكام الجاهلية (2).

وقد أخرج في الجمع بين الصحيحين من عده طرق إباحتها أيام النبي صلى الله عليه وآله وأبي بكر وبعض أيام عمر، وأن جميع المسلمين فعلوها بأمر النبي صلى الله عليه وآله إلى حين وفاته، وأيام أبي بكر.

وفي مسند ابن حنبل: لم ينزل قرآن بحرمتها، ولم ينه النبي صلى الله عليه وآله عنها حتى مات، وفي صحيح الترمذي: سئل ابن عمر عنها فأحلها، فقال: أبوك نهى عنها فقال: النبي صلى الله عليه وآله وضعها أفتترك السنة وتتبع قول أبي؟

وقال محمد بن حبيب: كان ستة من الصحابة وستة من التابعين يفتون بإباحتها وذكر ذلك أيضا الحسن بن علي بن زيد في كتاب الأقضية.

قالوا: لم يفعلها النبي صلى الله عليه وآله ولا علي. قلنا: ليس كل ما لم يفعلاه يحكم بتحريمه، وإلا لحرمت أنواع من التجارات، ونكاح الإماء والكتابيات، و السنديات.

____________

(1) يعني أن ذلك في مصحف علي عليه السلام تفسيرا، لا لفظا.

(2) ترى البحث عن المتعة في أغلب كتب أصحابنا مستوفى، راجع النص والاجتهاد للسيد شرف الدين قدس سره ص 126، كنز العرفان في فقه القرآن ج 2 ص 149 الطبعة التي خرجت عن المكتبة المرتضوية الناشر لهذا الكتاب.

الصفحة 270 

تخيل بعضهم أن الرجل إذا تمتع في غربة وخرج مدة طويلة، ثم عاد فتزوج بامرأة، فإذا هي بنته من تلك، قلنا: لو كان هذا مانعا لمنع في الدائم، إذ يفرض فيها ذلك كله.

قالوا: إنه يجب أن يشهد بزواجها، فلا يخفى حالها، قلنا: وهذا عندنا واجب في المستمتع بها، وهذا قول المفيد في العيون.

قالوا: نسخها قوله: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم (1)) الآية! قلنا: الآية مكية، وتحليل المتعة مدنية اتفاقا، وقد قال صاحب التقريب: ما في القرآن ما نتعلق به في نسخ المتعة، وقلنا أيضا: الآية صريحة في إباحتها، لكونها زوجة.

قالوا: تخلفت عنها أحكام الزوجة من الطلاق، والقسمة، والميراث ونحوها قلنا: لا يدل التخلف على عدم الزوجية، فإن الفسخ عن الدائمة يسقط الطلاق والنشوز القسم، والإنفاق والكفر والقتل الإرث، وهو اتفاق.

وقلنا: أيضا لو لم تكن داخلة لزم كون النبي صلى الله عليه وآله لأمره بها بعد نزول الآية والصحابة بفعلها داخلون في التوعد عليها في قوله: (ومن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (2)).

قالوا: نسختها (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون) (3) (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون (4)) فقد توعد على التمتع فيدخل فيه نكاح المتعة.

قلنا: الآيتان مكيتان إجماعا، ونكاح المتعة مدنية، كما سلف، فينقلب

____________

(1) المؤمنون: 5 و 6.

(2) المؤمنون: 7.

(3) المرسلات: 46.

(4) الحجر: 30.

الصفحة 271 

الاستدلال بأن يكونا منسوختين على رأيهم، فويل لتلك الطائفة العمياء ما أكثر جهالها (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (1)) ولو نسختا المتعة بعمومها لنسخ الدائم لوجود التمتع الذي هو الالتذاذ فيه، ونسخ الأكل والشرب المباحان وغيرهما.

قالوا: لا دلالة لكم في قوله: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن (2)) لأن سين الاستفعال تدل على أن المعنى ما استوفيتم من منافعهن، أي الدائمات ولو أراد المتعة لقال: ما تمتعتم.

قلنا: قد جاءت السين [ لا ] للاستفعال (فاستجاب له ربه (3)) (فاستجبنا له (4)) (واستشهدوا (5)) وقد سلفت رواية البخاري ومسلم أذن لكم أن تستمتعوا، و أخرجا أيضا: كنت أذنت لكم في الاستمتاع بالنساء.

وقلنا: لو أراد الدائمات، لم يشرط الايتاء بالاستمتاع، لأن لهن النصف بدونه، بل المراد به الموقتات، والمراد آتوهن أجر ما حصل به الانتفاع دون ما منعن منه (6).

وقد قال صاحب التقريب: ذهب بعض الناس إلى أن المراد بالآية نكاح المتعة، قال: وهي محتملة.

قالوا: ذكر الله في الآية المال في قوله: (أن تبتغوا بأموالكم (7)) ولا شك

____________

(1) القتال: 24.

(2) النساء: 24.

(3) يوسف: 34.

(4) الأنبياء: 76 وغير ذلك.

(5) البقرة: 282.

(6) قد سلف منا في هذا المجلد ص 190 كلام في ذلك فراجع.

(7) النساء: 24.

الصفحة 272 

أنه عام في المتعة وغيرها، فلا وجه للتخصيص بها، فلا تدل الآية عليها.

قلنا: ظاهر الآية أداء المال بشرط الاستمتاع، فإن أريد به المتعة فلا بحث، وإن أريد الالتذاذ، قلنا: ليس أداء الدائمة مشروطا بالالتذاذ، لوجوب النصف لها بدون الاستمتاع منها، فظهر أن المراد التمتع بها، ولا يدل على خروج الدائمة من مفهوم الآية، لأن التخصيص بالذكر لا يوجب التخصيص بالحكم، ولو سلم خروجها فقد دل قوله: (فنصف ما فرضتم (1)) لهن - عليها.

على أن المتعة حقيقة في المنقطع، فإن استعمل في الدائم فبالمجاز، فلا يسارع الذهن إليه، ولهذا لو قيل: فلان يتمتع لم يصرف إلى الدائم، كما أن الوطئ (2) لغة وطئ القدم، وقد صار حقيقة في الجماع، فكذا التمتع لغة الالتذاذ، وصار عرفا في ذلك النكاح.

قالوا: نكاح الأمة مشروط بعدم طول الحرة، والمتمتع بها ترضى بالقليل لقصر مدتها، والأمة لا تكون إلا لذي ثروة، وهو لا يرضى بالقليل ولو جاز نكاح المتعة الذي هو بقليل المال، لم يجز نكاح الأمة على حال (3).

قلنا: كلام الله تعالى في (استطاع) متعلق بالدائمة، وفي عدمه متعلق بالأمة والمنقطعة خارجة عن البحث، ولا نسلم قصر مهر المتمتع بها عن الأمة إلا في العاهرة والفتوى بتحريمها، أما غيرها فلا ترضى بالقليل، لطول مدتها بالاستبراء قبله والاعتداد بعده وأيضا فقد تتعذر الأمة وبالجملة فما ذكره خطابي.

وأيضا فلا نسلم اشتراط عدم الطول في الأمة لعموم (ولأمة مؤمنة خير من مشركة (4)) ويحمل ذلك الطول على التنزيه، وقد قال ابن المرتضى في تفسيره:

إن عامة أهل العلم، قالوا: إن آية (فما استمتعتم) منسوخة، قال: وكان ابن

____________

(1) البقرة: 237.

(2) في النسخ: اللواط، وأظنه سهو قلم.

(3) وقد مر منا أن نكاح الإماء أيضا يجب أن يكون بالمتعة راجع ص 190، مما سبق.

(4) البقرة: 221.

الصفحة 273 

عباس يذهب إلى أنها محكمة، ويرخص في نكاح المتعة، وسئل عنها، فقال: أما تقرأ (فما استمتعتم به منهن إلى أجل) قال: لا أقرأها هكذا، قال ابن عباس ثلاث مرات: هكذا أنزل الله.

وقال القاضي في تفسيره أنوار التنزيل: نزلت الآية في المتعة، وذكر ابن عباس جوازها، وحكى الحسن البصري عن الحكم أنه سمع عليا يقول: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي (1).

قال عمران بن حصين: تمتعنا في زمن النبي صلى الله عليه وآله ومات ولم ينه عنها، لكن قال رجل برأيه فانتهينا، ذكره الثعلبي، وصاحب معالم التنزيل، وقال: الآية منسوخة.

قال: وكان ابن عباس يذهب إلى أنها محكمة فيقرأها (إلى أجل) ويرخص في المتعة وروى الثعلبي عن جبير بن أبي ثابت قال: أعطاني ابن عباس مصحفا و قال: هذا على قراءة أبي، فإذا فيه (إلى أجل) والزيادة مقبولة وإن لم تثبت قرآنا، فإنها تثبت حكما فظهر بذلك كله أنها نزلت في متعة النساء.

قالوا: وروى عبد الله والحسن ابنا محمد عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله نهى عنها يوم خيبر. قلنا: مزيفة لأن مذهب علي عليه السلام بخلافها:

قالوا: روى ابن سبرة أن النبي صلى الله عليه وآله نهى عنها في حجة الوداع، قلنا:

لو صح هذا رفع النهي المدعى في خيبر، مع أن هذا مطعون في سنده، مضطرب

____________

(1) رواه الطبري في تفسيره ج 5 ص 13 عن شعبة عن الحكم، وأخرجه الرازي في تفسيره ذيل آية النساء: 24 (ج 1 ص 50 - الطبعة الأخيرة) والسيوطي في الدر المنثور ج 2 ص 140، وذكره ابن أبي الحديد ج 12 ص 253 في شرح الخطبة 223 من النهج وهكذا الشيخ في تلخيص الشافي ج 4 ص 32 بسنده عن جيش بن المعتمر.

الصفحة 274 

في ألفاظه، معارض بأشهر منه، وبإباحتها.

قالوا: نهى عمر عنها، قلنا: لا حجة فيه مع معارضة ابن عباس وابن مسعود وغيرهما.

قالوا: إجماع الصحابة والتابعين على منعها. قلنا: لا إجماع مع مخالفة أهل البيت والشيعة بأجمعها.

(بحث)

 

قال النووي في السفر الأول من منهاج المحدثين، في تفسير صحيح مسلم أنها أبيحت قبل خيبر، وحرمت فيه، وأبيحت بفتح مكة وحرمت بعده بثلاثة أيام.

وقال الماوردي: روى إباحتها ابن مسعود وابن عباس وجابر وسلمة و سبرة قال: والحديث الذي فيه: استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله محمول على أنه لم يبلغهم نسخها، وإنما كرر النسخ في حجة الوداع ليشيع.

قلنا: الإباحة دراية، والنسخ رواية لا تعارض الدراية، والعجب ادعاؤهم كون الشيخين خصيصان بصحبة النبي صلى الله عليه وآله، ويخفى النسخ عنهما إلى خلافة عمر مع إشاعتها، وكذا كيف خفي عنهما نسخ (فمن ابتغى وراء ذلك (1)) لولا قلة التأمل وقد حكي أن مالكا أيضا قال بإباحتها.

قالوا: أمر الله بالتخفيف في نكاح الإماء للضعفاء (يريد الله أن يخفف عنكم) (2)) فلو جازت المتعة الناقصة في المهر عن الأمة كان أولى بالمنة.

____________

(1) المؤمنون: 7.

(2) النساء، 28.

الصفحة 275 

قلنا: سلف عدم قصور مهر المتعة، ولو سلم القصور فقد دل ذكر الأمة على المتعة بمفهوم الموافقة.

قالوا: يستقبحها القائل بها والمنكر لها، كما لو طلبت من أحدهما أخته أو أمه ليتمتع بها، ولو كانت مشروعة لانتفى ذلك عنها.

قلنا: دلت الآية والروايات عليها، فالقبح لازم لمنكرها، وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله بها صريحا وفعلها الصحابة، فيلزم كونهم أتوا قبيحا، وليس كلما استقبح لم يكن مشروعا، فإن الشريف يستقبح خطبة الدني والجاهلية استقبحت شرائع النبي صلى الله عليه وآله.

وقد أخرج البخاري ومسلم حديث جابر استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وعمر، وفي رواية أبي نضرة اختلف ابن عباس وابن الزبير في المتعتين فقال جابر بن عبد الله: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وآله ثم نهانا عنهما عمر، فلم نعد لهما (2).

وقال صاحب التقريب: قيل: إنه مذهب ابن عباس وابن مسعود وجابر ونسب أيضا إلى بعض التابعين، وحكي إباحتها في كتاب السلطان عن أمير المؤمنين وابن مسعود وجابر وسلمة والخدري والمغيرة ومعاوية وابن عباس وابن جريج وابن جبير ومجاهد وعطاء وغيرهم.

وذكر الحسن بن علي بن زيد في كتاب الأقضية، يعلى بن منبه، وصفوان ابن أمية وطاووس وابن دينار وجابر بن يزيد، وذكر ابن حبيب النحوي:

زيد بن ثابت وسلمة بن الأكوع وأنس، ووجدنا عليا وولديه وأصحابه الأربع وابن أرقم وأبي الهيثم وحذيفة وأبيا والبراء وبريدة وأبا أيوب، ومن

____________

(1) راجع سنن البيهقي ج 7 ص 206، شرح النووي لصحيح مسلم ج 9 ص 184 شرح النهج ج 20 ص 130 (الطبعة الحديثة).

الصفحة 276 

التابعين السدي وابن المسيب والأعمش قائلين بإباحتها، وصنف ابن شاذان كتابا فيها.

وقال أبو حنيفة لصاحب الطاق: إذا كانت المتعة حلالا فأرسل نساءك يتمتعن ويكسبن عليك، فقال: ليس كل الصناعات يرغب فيها، ثم قال: فإذا كان النبيذ حلالا فأرسل نساءك يكتسبن عليك قال: واحدة بواحدة، وسهمك أنفذ.

فهذه كتب القوم، وصحاح أخبارهم، وأما أخبارنا فكثيرة شهيرة أعرضنا عنها لعدم الالزام فيها، والإطالة بها، وما كفاهم هذا الانكار حتى أنشأ شاعرهم الحمار.

 

شعر:

 

قول الروافض نحن أطيب مولدا         قول أتى بخلاف قول محمد

نكحوا النساء تمتعا فولدن من  ذاك النكاح فأين طيب المولد؟

 

فأجابه شاعر الأبرار، بحديث المجوس الوارد عن النبي المختار:

 

شعر:

 

لا بل مواليد النواصب جددت   دين المجوس فأين دين محمد؟

لف الحرير على الأيور وغمسها          بالأمهات دليل طيب المولد

 

وقال الآخر:

 

إن التمتع سنة معروفة  ورد الكتاب بها وسنة أحمد

ثم استمر الحال في تحليلها      قد صح ذلك في الحديث المسند

عن جابر وعن ابن مسعود وعن         نقل ابن عباس كريم المولد

ومن المحال بأن يكون محمد   قد ضل في شئ وحبتر مهتد

حتى نهى عمر بغير دلالة        عنها وكدر صفو ذاك المورد

 

ولهذا لما سأل يحيى بن أكثم رجلا بصريا: بمن اقتديت في تحليل المتعة؟

الصفحة 277 

قال: بعمر بن الخطاب، حيث قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما (1) فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه.

وروى الطبري في كتاب المسترشد (2) قول عمر: ثلاث كن على عهد رسول الله أنا محرمهن، ومعاقب عليهن: متعة الحج، ومتعة النساء، وحي على خير العمل في الأذان (3).

والعجب أن المتعة يعيبوننا لأجلها، وقد عرفت ما جاء في حلها، وأئمتهم يحكمون بما يرده الشرع والطباع، ويمجه العقل والأسماع.

هذا أبو حنيفة يقول: لو عقد رجل على إحدى محارمه عالما بها ووطئها لحق الولد به، وسقط الحد عنه، وكذا لو استأجر امرأة ففعل ذلك فيها، ورفع الزنا بلف الحريرة على الذكر، ولم يوجب حدا في الايقاب في الذكر، وجعل شرب النبيذ سنة وتحريمه بدعة وهذا الشافعي يجيز سماع الغنى والقصب ونحوه، و يجيز وطئ الأخت من الرضاع إذا ملكها وهذا مالك يجعل الدف سنة في الوليمة والعرس، وهذا ابن حنبل يذهب إلى تجسيم الرب الجليل، ولا يخفى ما في أحكامه؟

____________

(1) راجع أحكام القرآن للجصاص ج 1 ص 342 تفسير القرطبي ج 2 ص 370 المبسوط للسرخسي باب القران من كتاب الحج، زاد المعاد لابن القيم ج 1 ص 444 كنز العمال ج 8 ص 293، تاريخ ابن خلكان ج 2 ص 359 ط إيران ترجمة يحيى بن أكثم، تفسير الرازي ج 10 ص 50 ذيل آية النساء 24 وهكذا ذيل قوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) البقرة: 196، البيان والتبيين ج 2 ص 223، الحيوان ج 4 ص 278. شرح النهج الحديدي تحت الخطبة 223.

(2) المستنير خ. المستبين خ.

(3) ذكره الإمام القوشجي في شرحه على تجريد الكلام ص 408 ط إيران وهو من الأشاعرة، واعتذر بأن ذلك اجتهاد منه.

الصفحة 278 

من التضليل، فقد ارتكب المخالف كل بدعة، وشدد علينا في أمر المتعة، وذلك بغضا لآل نبيه، وانهماكا في ضلاله.

 

شعر:

 

من كان ذا علم وذا فطنة         وبغض أهل البيت من شأنه

فإنما الذنب على أمه    إذ حملت من بعض جيرانه

 

وقال آخر:

 

يا ذا الذي هجر الوصي وآله     أظهرت منه أن أمك فاعله

فرقت بضاعتها على جيرانها (1)        والسائلين من الورى والسابلة

 

 

*  *  *

 

 

حب علي بن أبي طالب          منقبة باطنة ظاهره

تخبر عن مبغضه أنه    من نطفة جاءت بها عاهره

 

وقد ذكرنا شيئا من مخالفتهم لكتاب ربهم وسنة نبيهم في مكانين من الباب الخامس عشر فليطلب منه، قال الحجاج:

 

الحق ليس بضايع        وله نفاق بضايع

فقد اتبعت أئمة يقضون حق التابع

فأبو حنيفة للنبيذ        وللقمار الشافعي

والمالكي لإستها         ما في الفراش بضايع

مثل النجوم ثلاثة         وحلقت ذقن الرابع

 

وقال المغربي:

 

أجاز الشافعي فقال شيئا          وقال أبو حنيفة لا يجوز

 

____________

(1) وقفت خ.

الصفحة 279 

 

 

فضل الشيب والشبان منا         ولم تهدي الفتاة ولا العجوز

ولم آمن على الفقهاء حبسا      إذا ما قيل للأمناء جوزوا

 

ومنها: حل وطئ الدبر، لما قلنا: (فأتوا حرثكم أنى شئتم (1)) قالوا: الحرث لا يكون إلا في القبل الذي هو منبت الزرع، وهو الولد ولفظة (أنى) بمعنى كيف قلنا: قد تظافرت الروايات عن إمامكم الثاني أنه فعله ونزل فيه (نساؤكم حرث لكم (2)) وروى جوازه عبد الله ابنه، وذلك في تفسير الثعلبي وجامع الترمذي وأسباب النزول للواحدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وقد أجاز مالك إباحته.

فأسند الثعلبي إلى ابن عباس أن عمر أتى النبي صلى الله عليه وآله وقال: هلكت حولت رحلي البارحة، فنزلت (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) و رواه الفراء في معالمه وابن المرتضى في تفسيره قال: ويحكى عن مالك إباحته ويقرب منه ما حكاه الطحاوي في كتاب الاختلاف عن مالك (3).

قولهم: لا يكون الحرث إلا موضع الزرع قلنا: منقوض بإجماع الفريقين على جوازه في نحو السرة والفخذين ولو كان حل الوطئ مربوطا بإرادة الولد لارتفع حيث لا يمكن الولد ولفظة (أنى) قال قتادة والربيع: معناها من أين شئتم، كما قال تعالى: (أنى لك هذا (4)).

قالوا: يجوز كون المعنى من أين شئتم في الفرج قلنا: تخصيص لا دليل عليه

____________

(1) البقرة: 223.

(2) البقرة: 223.

(3) قال الفاضل السيوري في كتابه كنز العرفان ج 2 ص 288: وأجازه مالك قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أن وطئ المرأة في دبرها حلال، ثم قرأ الآية المذكورة.

(4) آل عمران: 37.

الصفحة 280 

قالوا: روى ابن عباس وجابر والحسن وغيرهم أن سبب نزولها قول اليهود:

إن من أتى المرأة من خلفها في قبلها خرج الولد أحول، فأنزل الله تكذيبهم بإباحة ذلك بعد أن يكون في الفرج، قلنا: تقدم في الأصول أن السبب لا يخص فلا يضر ذكره.

قالوا: قولكم في قوله تعالى: (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم (1)) أي مثل ما للذكران وهي الأدبار، لا حجة لكم فيه لأنه لو أراد الأدبار لقال: (وتذرون ما خلق لكم من أزواجكم مثله) كما قال في الفلك الكبار: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (2)) يعني الزواريق وقد وبخ الله واطئ الدبر وأخرج الحيوان الأعجم من توبيخه حيث لم يأت إلا في قبله.

قلنا: الظاهر أنه أباح منهن ما يلتمس من الذكران، والتوبيخ إنما هو على أدبار الذكران لا النسوان، وإن احتمل أن يريد أن قبلهن يعوض عن أدبار الذكران وإن لم يتساويا من كل وجه لاستوائهما في مطلق الالتذاذ، ولهذا الاحتمال قال جماعة منا بتحريمه، واهتداء الحيوان الأعجم إنما هو بنكرته وطبعه، فلا حجة في صنعه، ولو كان ذلك لعقله كان أولى من الفاسق بتكليفه حيث يطأ الأتان وغيره من مخالفه، وقد عرفتم صحة الأحاديث من طرقكم، وفعل ذلك وروايته من أئمتكم.

ومنها: عدم وقوع الطلاق بدون الإشهاد لقوله تعالى: (فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا (3)).

____________

(1) الشعراء، 165.

(2) يس: 42.

(3) الطلاق: 2.

 

 

 

 

الصفحة 281 

قالوا: الإشهاد يتعلق بالنكاح في قوله عن المطلقات: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن) لا بقوله: (أو فارقوهن) قلنا: قال القاضي في تفسيره: إنه متعلق بالرجعة والفرقة، ولأن العطف ب (أشهدوا) لا يجوز رجوعه إلى الفرقة، لأنها ليست شيئا يفعل، وإنما هي العدول عن الرجعة، ولم يوجب الإشهاد فيها أحد، ولا يرجع إلى الرجعة التي عبر الله عنها بالامساك لأنه لم يوجب الإشهاد فيها سوى الشافعي في أحد قوليه، وليس حجة علينا، مع أنه محجوج بقوله الآخر، وقول مقاتل: إنه مستحب، فتعين رجوع العطف إلى الطلاق.

قالوا: العطف على الأقرب أولى. قلنا: الأولوية تتبع المعنى لا القرب قال الله: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه (1)) عادت (و تسبحوه) إلى الله، وهو الأبعد لعدم صلاحها للأقرب، وبهذا يظهر لك الجواب عن قولهم: إن جملة الطلاق تقدمت.

قالوا: لا يلزم من عطف الإشهاد على الطلاق كونه شرطا فيه بأن يكون أمر إرشاد كما أمر في الدين بالكتابة والإشهاد، وأمر في البيع بالإشهاد، وليس هذان شرطا في صحة الدين والبيع.

قلنا: الأمر حقيقة في الوجوب، فلا يصار عنه إلا عن دليل، فلا تشنيع على من تبع ظواهر الآيات.

قالوا: المحتاج في الإشهاد النكاح لأن فيه انتقال البضع إلى الزوج، فيحتاج إلى تثبت الانتقال، والطلاق حل هو التخلية فيكفي فيه النية قلنا: وفي الطلاق رد البضع إليها فيحتاج إلى تثبيته، وقد ساعدنا الخصم عليه فقال ابن المرتضى في تفسيره:

فائدة الإشهاد على أن يموت أحدهما فيدعي الباقي بقاء الزوجية ليرث، ولأنه لما

____________

(1) الفتح: 9.

الصفحة 282 

ثبت التزويج لو ادعت المرأة الطلاق لم تثبت إلا ببينة، وبدونها تكون كالمعلقة و كذا لو ادعاه الزوج، لم يخلص من لوازم النكاح إلا ببينة، فلهذا صار الإشهاد شرطا في الطلاق، بخلاف النكاح لملك المرأة بضعها، ولا منازع لها، فإذا تراضيا على وجه شرعي تم الأمر، ولم يحتج إلى الأشهاد وفاقا.

على أنا لا نثبت شرطية الإشهاد هنا بمجرد الأمر به لورود الأمر بالندب وغيره، بل نثبت بالأخبار الصحيحة عن أئمة الاسلام أهل البيت عليهم السلام وبها أيضا أثبتنا عدم شرطية النكاح به، وقد وافق بعضهم على أنهما إذا تواصيا بالكتمان صح بلا شهود، وقد جاء النكاح في مواضع من الكتاب عاريا عن ذكر الشهود.

قالوا: جاء بالسنة (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل). قلنا: على تقدير صحته محمول على نفي الكمالية كلا صدقة وذو رحم محتاج، وبه يسقط الاحتجاج ويترك اللجاج، وقد خالف مالك ذلك وقد أضاف الله النكاح إليهن في قوله: (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن (1)) (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن حتى تنكح زوجا غيره (2)).

ومنها: نجاسة المشرك يدل عليها قوله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام (3)) فقد أجراهم الله مجرى القذر، وقد جاء من طرق المخالف ما رواه ابن المرتضى والزمخشري عن الحسن: من صافح مشركا فليتوضأ وحكى الفراء في المعالم عن الضحاك وأبي عبيدة أنه قدري، وحكى ابن المرتضى و الزمخشري في تفسيرهما عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، و لفظة (نجس) حقيقة شرعية في نجاسة العين، فلا يعدل عنها مع إمكانها سوى ذي مين

____________

(1) البقرة: 240.

(2) البقرة: 223.

(3) براءة، 28.

الصفحة 283 

وإنما رجعوا في ذلك إلى فعل عمر، فقد ذكر أبو حامد في الإحياء أنه توضأ من جرة نصرانية، على أن في الجمع بين الصحيحين سأل تغلبة الحسني النبي صلى الله عليه وآله عن الأكل في آنيتهم، فقال: إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها.

ورووا أن أبا بكر قال: ندمت أن لا أكون سألت النبي صلى الله عليه وآله عن ذبائح أهل الكتاب، وروى النضر بن شميل عن هاشم بن حسان عن ابن سيرين عن عبيدة قال: سألت عليا عليه السلام عن ذبائح النصارى فقال: لا تأكلوا ذبائحهم. فإنهم لم يتعلقوا بشئ من دينهم إلا بشرب الخمر.

قال مؤلف الكتاب:

 

أباحوا ذبائح أهل الكتاب         فيا ويلهم من أليم العقاب

أليس رووا النهي عنها وقد      بتنجيسهم جاء نص الكتاب

 

قالوا: حل طعامهم في قوله: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم (1)) دليل طهارتهم، فوفقنا بين هذه وآية التنجيس بأن نجاستهم باطنة، وذلك استعارة لا على الحقيقة في عينهم، أو ذلك للمبالغة في ذمهم، أو للملازمة بين النجايس كالدم والخمر وبينهم، فقبلت التأويل بذلك وبوجود الخلاف، وحل الطعام لا يقبل التأويل.

قلنا: قد بينا أن النجاسة حقيقة في العينية على أن ظاهر آية حل الطعام متروك عندهم بخروج الخمر والخنزير، وما لم يذكر اسم الله عليه، فالمراد الحبوب أو غير المباشرة من غيرها.

قالوا: حل نكاحهم بالاتفاق، دليل على طهارتهم في قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب (2)) فآية حل الطعام والنكاح ناسخة للنجاسة للنص

____________

(1) المائدة: 5.

(2) المائدة: 5.

الصفحة 284 

على أن (المائدة) آخر القرآن نزولا.

قلنا: نمنع الاتفاق إلا أن يكون منكم، ولا نسلم أن (المائدة) * لم يدخلها منسوخ، وقد ذكر صاحب التقريب أن آيتها منسوخة بقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن (1)) ونسبه الطبري إلى ابن عباس، ورواه ابن المغربي عن ابن عمر وهو مذهب عمر انتهى كلامه.

وقال هبة الله المفسر البغدادي منهم: إن عبد الله بن عمر قال: آية البقرة محكمة، وآية المائدة، ولهذا قال هبة الله: إن المائدة دخلها الناسخ والمنسوخ، و عند أكثرهم أن آيتي البقرة والمائدة مجهولتا التاريخ.

قالوا: ومن ثم اختلف في أيتهما الناسخة؟ قال صاحب التقريب فيهما و في آية الممتحنة: لا أعلم نقلا يعتمد في المتقدم والمتأخر منها.

قلنا: فحينئذ يترجح أحكام آية البقرة لقوله عليه السلام: ما اجتمع الخلال و الحرام إلا غلب الحلال الحرام.

إن قيل: آية البقرة مخصوصة بالوثني قلنا: لام الجنس للعموم، وقد روى شهر بن حوشب عن ابن عباس أن عمر فرق بين طلحة وحذيفة، وامرأتيهما الكتابيتين، ذكره صاحب التقريب وغيره، وقال: وأخرج الطبري عن ابن عباس أن الله حرم نكاح كل كافرة بقوله: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر (2)) ومن الكفار أهل الكتاب لقوله: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب (3)) (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب (4)) وقد بين الله مورد النكاح أنه المؤمنات

____________

(1) البقرة: 221.

(2) الممتحنة: 10.

(3) البينة: 1.

(4) البقرة: 105.

الصفحة 285 

ولو جاز غيره لم يخصصهن، ولأن النكاح مودة لقوله: (وجعل بينكم مودة (1)) والكافر محرم له المودة لآية (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) الآية (2)).

إن قالوا: مخصصة بالحربية لآية (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين (3)) قلنا: منسوخة الحكم، وقد حكى البلخي أن المراد بالكتابيات اللواتي أسلمن، لأنهم كانوا يتحرجون من نكاحهن، ومن علمائنا من خص الآية بالمتعة والملك للروايات وهم محجوجون بما ذكرناه، فالأولى عدمه إلا عند الضرورة.

قالوا: (ولقد كرمنا بني آدم (4)) يقتضي بعمومه عدم التنجيس، قلنا:

إنما استدللنا بالنص على التنجيس، على أن التكريم لو اقتضى عموم رفع التنجيس لزم أن لا ينجس المسلم بنجاسة عارضية، والاجماع خلافه، وقد فسر ابن عباس وعطاه والضحاك وغيرهم كما نقله الفراء وابن المرتضى عنهم التكريم بسبعة عشر خصلة منها العقل، والأكل بيده، والنظر إلى السماء، والنطق، واعتدال القامة وحسن الصورة، وتسخير الأشياء، والرجال والنساء، بالذوائب واللحاء ولم يذكروا التطهير، ولو فرضنا أن الله قال: ولقد طهرنا بني آدم، مع قوله:

(إنما المشركون نجس) (5)) لم يتناقضا، ولم يلزم مساواة ذوات الأنبياء في الطهارة

____________

(1) الروم: 21.

(2) المجادلة: 22.

(3) الممتحنة: 8.

(4) الإسراء: 70.

(5) براءة: 28.

الصفحة 286 

للكافر، وبطلانه ظاهر.

ومنها: ما نقموا علينا من تركنا (ربنا لك الحمد) عند القيام من الركوع وقد ذكر في الحديث الثاني من الجمع بين الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله كان إذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده، ومثله في الحديث الثاني والخمسين من المتفق عليه ونحوه أبو داود في صحيحه (1) فنحن يحسن منا أن نذمهم، حيث تركوا أسوة نبيهم، وصحيح أخبارهم، وقالوا: ربنا لك الحمد، بأهوائهم.

ومنها: ما نقموا علينا في ترك الوضوء مع غسل الجنابة، وقد ذكر ابن حنبل في مسنده أن النبي صلى الله عليه وآله كان لا يتوضأ بعد الغسل، وفي الحلية قال النبي صلى الله عليه وآله:

من توضأ بعد الغسل فليس منا، وذكره أيضا أبو داود في سننه (2) وقد سلف ذلك فيما سلف.

ومنها: فساد الصوم الواجب سفرا لما صح من روايات أهل البيت فيه، و ساعد الخصم عليه، قال ابن المرتضى: الصوم جائز يعني في السفر عند عامة أهل العلم إلا منعا روي عن ابن عباس وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعلي بن الحسين فإنهم قالوا: لا يجوز وأوجبوا القضاء قال: وهو مذهب أهل البيت لقوله عليه السلام: ليس من البر الصيام في السفر، وقال ذلك بعينه الفراء في معالمه.

وحكى صاحب التقريب في الناسخ والمنسوخ أن الطبري نسب القول بنسخ التحريم إلى عدة من الصحابة والتابعين، وأورده بأسانيد.

قال: وزعم بعض الناس أن التخيير منسوخ بحديث ابن عباس خرج النبي

____________

(1) سنن ابن داود ج 1: 198.

(2) سنن أبي داود ج 1: 57.

الصفحة 287 

صلى الله عليه وآله عام الفتح في رمضان فلما بلغ الكديد أفطر إلى آخر الشهر فقيل: إن من الناس من صام؟ فقال مرتين: أولئك العصاة، فالفطر عند هؤلاء واجب على المسافر، ومن صام لم يجزه.

وقريب منه ذكر ابن المرتضى في تفسيره عن جابر والفراء في معالمه أيضا عن جابر، وروي ذلك في الجمع بين الصحيحين في الحديث الثاني من المتفق عليه.

وفيه لما استوى النبي صلى الله عليه وآله على راحلته دعا بإناء فأراه الناس ثم شربه وشرب الناس، وفي حديث آخر من الجمع بين الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله فعل ذلك لما بلغ كراع الغميم وقد تقدم في الباب المتقدم.

فهذه روايات الفريقين ويعضدها قوله تعالى: (فعدة من أيام أخر (1)) ومن أضمر (فأفطر فعدة) من غير دليل، فقد ضل سواء السبيل.

قالوا: الصوم عزيمة في الحضر، والفطر رخصة في السفر، ومتى صحت العزيمة قدمت على الرخصة كالماء والتراب قلنا: لا بل الفطر في السفر عزيمة أيضا ولو سلم أنه رخصة لم يناف الوجوب لاجتماعهما في مادة أكل الميتة بخوف التلف.

قالوا: إذا ارتفع وجوب الصوم لا يلزم منه رفع جوازه لما تقرر في الأصول قلنا: لا بل رفع الوجوب أعم من بقاء الجواز كما في صورة الميتة عند التلف، وقد سلف، والوجوب خاص لا يلزم من ارتفاعه ارتفاع العام الذي أحد أفراده التحريم ولو سلم بقاء الجواز من بحث الأصول فالاستناد في وجوب الفطر إلى ما مضى من المنقول (2).

____________

(1) البقرة: 185.

(2) منها: إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يجب أن يؤخذ بعزائمه.

الصفحة 288 

ومنها: ما أنكروه علينا في القنوت قبل الركوع، وفي الجمع بين الصحيحين في الحديث التاسع والثلاثين من المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وآله قنت في صلاة الغداة ودعا على قوم، فقال رجل: القنوت بعد الركوع أو عند الفراغ من القراءة؟

فقال: بل عند الفراغ من القراءة.

ومنها: فساد صوم متعمد البقاء على الجنابة إلى الصباح استنادا إلى روايات أهل بيت نبينا، المعتضدة بروايات خصومنا، قال ابن قدامة في المغني: كان أبو هريرة يقول: لا صوم له، ويروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله، وذكر ذلك أكثر الأصوليين في باب التعادل، وحكي عن الحسن وسالم بن عبد الله قالا: يتم صومه ويقضي، وعن النخعي: يقضي عن الفرض دون النفل وعن عروة وطاوس: إن علم بجنابته في رمضان فلم يغتسل حتى أصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم قضاها هذا آخر كلام قدامة.

فإن عارضوا بخبر عائشة كان النبي صلى الله عليه وآله يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم يومه، وفي بعض الروايات وذلك في شهر رمضان قلنا: هو من طرقكم دوننا فلا يعارضنا.

إن قالوا: الجنابة لا تنافي الصوم كما في المحتلم نهارا، فكذا هنا، قلنا:

يفرق بين عمد البقاء عليها إلى النهار لأجل الاختيار، وبين الاحتلام في النهار لعدم الاختيار، على أن ابتداء الجنابة أضعف من استدامتها ولا يلزم من عدم تأثير الضعيف في إبطال الصوم عدم تأثير القوي.

قالوا: لا معنى للطهارة والحدث في الصوم إذ ليس عملا كالصلاة.

قلنا: إنما أثبتنا شرطية الطهارة بالأحاديث، لا بقياس الصوم على الصلاة ثم لا نسلم أن الطهارة لا يكون إلا لعمل، فإنها تكون للزمان والمكان، فلا يلزم من عدم تعلقهم المعنى بين الطهارة والصيام عدم المعنى، وقد أوجب الله اعتداد الصغيرة

الصفحة 289 

واليائسة وغير ذلك، ولا يعقل له معنى، ثم كيف تقولون ذلك؟ وعندكم أن الله يفعل لا لغرض؟ على أن عدم المعنى بينهما لا يلزم منه تنافيهما.

قالوا: أباح الله الجماع والأكل والشرب إلى الفجر فيقع الغسل في جزء من اليوم، قلنا: جاز تعلق الغاية بالجملة الأخيرة وقد تواتر أن المباشرة قبل نزول الآية كانت منتفية نفيا كليا فتكون الآية الناسخة لتحريمها إيجابا جزئيا لأن السلب الكلي إنما يناقضه الايجاب الجزئي.

وأما الأكل والشرب، فكان نفيهما جزئيا متعلقا باليوم، فيكون إيجابهما كليا في عامة الليل، وإن السنة بنيت إجمال الآية كما بينت إجمال أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، ونحوهما.

قالوا: وإذا جاز الوطئ إلى الفجر، وقع النزع الذي هو جزء منه بعد الفجر قلنا: إذا جعلتم النزع جزءا منه والفجر غاية له فهو غاية لجزئيه فلا يجوز تأخير الجزء إلى الفجر إذ يجب خروج الغاية هنا تغليبا للحرمة بخلاف المسجد الأقصى في آية الأسرى.

ومنها: ما نقموا علينا في السجود على شئ تتخذوه، وفي الجمع بين الصحيحين في الحديث الثالث من المتفق عليه في مسند ميمونة كان النبي صلى الله عليه وآله يصلي على خمرته، ومنه: في أفراد مسلم في الحديث الثاني كان النبي صلى الله عليه وآله يصلي على الخمرة (1) ونحوه في مسند عائشة عن الخدري وقد ذكر صاحب الصحاح و غيره من أهل اللغة أن الخمرة سجادة صغيرة تعمل من سعف النخل، فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله فعل ذلك ولنا به أسوة حسنة، فعلام تنكره الفرقة المفتتنة؟

ومنها: إنكار بعضهم فضيلة الجمعة والمنافقين في الجمعة وفي مسند أبي نعيم

____________

(1) وتراه في سنن أبي داود ج 1 ص 152.

الصفحة 290 

وأبي حنيفة وابن حنبل كان النبي صلى الله عليه وآله في الجمعة يقرأ بهما وفي الجمع بين الصحيحين في مسند ابن عباس في الحديث الحادي والعشرين من أفراد مسلم قرأ أبو هريرة بهما فقيل له: كان علي بن أبي طالب في الكوفة يقرأ بهما! فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله في الجمعة يقرأ بهما.

ومنها: إنكارهم الجريدتين مع الميت وقد أسلفنا في الباب السالف حديث الحميدي فيها، ونزيد هنا ما أسنده أيضا إلى كعب الأسلمي وجابر الأنصاري أن النبي أمر أن يقطع غصنين من شجرتين، ويوضع كل منهما على قبر، وقال:

أحببت بشفاعتي أن ترد عنهما العذاب ما داما رطبين.

وقال البخاري (1): أمر بريدة الأسلمي أن يوضع في قبره جريدتان، و ذكر الإصفهاني في كتاب الترغيب، وأخرجه مسلم والبخاري عن يعلى بن سيابة قال: إن النبي صلى الله عليه وآله مر على قبر يعذب صاحبه، وقال: كان يأكل لحوم الناس ثم وضع عليه جريدة، وقال: لعله أن يخفف ما دامت رطبة.

قال المرتضى والحسن: والتعجب من ذلك كتعجب الملحدة من الطواف والرمي وتقبيل الحجر، ونحو ذلك وكثير من الشرائع مجهول العلل.

ومنها: ما نقمونا في الجمع بين الفرائض وقد جاء القرآن (بأقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل (2)) ولم يعين تفريق الصلاة، ولا خص كل واحدة بوقت معين من دلك؟، وقد عرف في الأصول بطلان من خص الوجوب بأول الوقت أو آخره.

قالوا: السنة بينت قلنا: بيانها محمول على الاستحباب ولا لوم في تركه.

____________

(1) كتاب الجنائز باب الجريد على القبر ج 1 ص 236.

(2) أسرى: 78.

الصفحة 291 

قالوا: مداومة النبي صلى الله عليه وآله على تفريقها دليل الوجوب فيها، قلنا: لا بل المقرر في الأصول حمل أفعال النبي صلى الله عليه وآله على الندب إذا جهل وجهها، وقد داوم على مندوبات فلم يلزم وجوبها.

على أنه قد روى الحميدي في الحديث الثامن والثمانين من المتفق عليه في مسند عبد الله بن عباس قال: صلى النبي الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، من غير خوف ولا سفر، قال ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته وفي صحيح مسلم من حديث حبيب مثل ذلك (1).

وفي رواية جابر بن زيد في مسند ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله صلى في المدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء.

وفي فرائد الأفراد للدارقطني عن عائشة: جمع النبي صلى الله عليه وآله بين الظهرين و العشائين في المدينة من غير خوف ولا مطر، ونحوه روى صاحب الحلية عن سفيان الثوري عن جابر أن النبي جمع بين الظهرين بالمدينة من غير مطر ولا سفر ولا خوف، وجمع بين العشائين أيضا ونحوه في موطأ مالك عن ابن عباس.

وقد روى مسلم في صحيحه أن عبد الله بن شقيق نازع ابن عباس في الجمع بين الصلاتين فقال: أتعلمني بالسنة لا أم لك؟ فسألت أبا هريرة فصدقه.

 

شعر:

 

ولو أنصفت في حكمها أم مالك         إذا لرأت تلك المساوي محاسنا

 

____________

(1) أخرجه في نيل الأوطار ج 3 ص 229، والحديث متفق عليه، تراه في سنن أبي داود ج 1 ص 276 و 277.

الصفحة 292 

تذنيب:

لا خلاف في وجوب اتباع المجمع عليه، وترك المختلف فيه إذ فيه براءة الذمة عن يقين، والبعد عن تجويز اتباع المضلين، فنقول: أجاز بعض السنة الوضوء بالنبيذ، والماء مجز إجماعا، ومسح الخفين، والقدمان مجزيان إجماعا والصلاة في الدار المغصوبة، والمباحة مجزية إجماعا، وترك النية والتسمية في الفاتحة، وفعلهما غير مبطل إجماعا، و (مدهامتان (1)) عوضها، وفعلها وتمام السورة غير مبطل إجماعا وترك الطمأنينة في الركوع والسجود والرفع منهما، و فعلهما غير مبطل إجماعا، وفعل الكتف والتأمين وتركهما غير مبطل إجماعا، و السجود على الملبوس، وعلى الأرض ونباتها غير مبطل إجماعا، وترك التشهد مع قول النبي صلى الله عليه وآله لابن مسعود لما علمه إياه: إذا فعلت هذا فقد قضيت صلاتك مع أن فعله غير مبطل إجماعا، والخروج من الصلاة بحبقة (2) والتسليم مخرج إجماعا إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وما كفاهم ترك ما أجمع فيه حتى شنعوا على العاملين به، فما أحسن قول بعض الفضلاء في ذلك ونحوه:

 

شعر:

 

إذا محاسني اللاتي أمت بها     صارت ذنوبا فقل لي كيف أعتذر

 

وقد وضعت أشياء أخر من ذلك في باب تخطئة كل واحد من الأئمة الأربعة وما فيها من المخالفات للمعقولات، ومنطوق الآيات، وأخبار الثقات، فإذا أريد التطرف به فليطلب من موضعه.

____________

(1) الرحمن: 64.

(2) الحبقة: الضرطة، وأكثر استعمالها في العنز يقال: ما يساوي حبقة عنزة.

الصفحة 293 

إن قالوا: فأنتم خالفتم أيضا ما أجمع عليه، فيلزمكم ما ألزمتمونا فيه فأجزتم جمع الفرائض والتفريق مجز إجماعا ونكاح المرأة على عمتها وخالتها بإذنها وعدمه جايز إجماعا، واستحببتم الجريدتين، وتركهما غير مخل إجماعا، ولم توجبوا الوضوء مع غسل الجنابة وفعله غير مبطل إجماعا، وأجزتم النكاح بغير ولي ولا شهود، وبهما صحيح إجماعا ونحو ذلك يظهر لمن تتبعه.

قلنا: أما تفريق الفرائض فندب إجماعا، والنكاح على العمة منطوق القرآن (فانكحوا ما طاب (1)) (وأحل لكم ما وراء ذلكم (2)) وقد أسلفنا في الجريدتين ما رويتم، وقدمنا الدليل على عدم اشتراط الولي والإشهاد، والوضوء من كتاب الله وكتبكم، فلا اشتراك بيننا وبينكم ولله المنة.

 

*  *  *

 

فهذا ما تهيأ لي في جمع الصراط المستقيم، إلى مستحقي التقديم. وقد أردفته من المعقول معان مستغربة الإشارات، مستعذبة العبارات، وأردفته من المنقول تقريب الكلمات، وتهذيب المقدمات، فجاء بحمد الله محصول فصوله متخلصا من تضليل معانيه، وكان بعون الله مدلول أصوله ملخصا من تطويل مبانيه، حيث استعنت من الله بمنه ومنعته، واستبنت من لطفه ورحمته واعتضدت بطوله وعزته، و اعتمدت على حوله وقوته.

وأسأل الله الكريم أن يستمر بي على اعتقاد صحته، وأطلب من فضله العميم أن يجازيني على جمعه النعيم بجنته، عالما بأنه يجيب من دعاه من عباده، ولا يخيب من رجاه لمعاشه ومعاده، ولأختمه بأبيات سنحت لي عند نظامه، وسمحت بها فكرتي عند تمامه:

____________

(1) النساء: 3.

(2) النساء: 24.

الصفحة 294 

 

شعر:

 

جمعت من الدين القويم صحائفا        هداني إليها خالقي بجلاله

وحررت فيه للولي لطائفا        تجلى عمى عين الغبي وباله؟؟

وأوضحت فيه للغوي طرائفا    سرائرها مطوية في خياله؟؟

وقررت فيه كل قول منضد      يزحزحه في دينه عن؟؟؟ له

فلا وامق إلا هدى بكماله        ولا وامق (1) إلا هوى بفعاله

يساق إليه الموت عند نزاله      وينساق للأفحام عند جداله

وسميته باسم الصراط تيمنا      ليسلك فيه للنبي وآله

وأرجو إلى الرحمن منهم شفاعة         تصرف عني من عظيم وباله

لنصف وثلث من ربيع آخر أتى          لا عوام (ذق ند) تمام (2) جماله

____________

(1) ولا مارق خ ل.

(2) عدد حروفها 854، راجع ج 2 ص 20 من مقدمة المجلد الثاني؟ دمة العلامة آقا بزرك الطهراني مد ظله.

الصفحة 295 

 

*  *  *

 

هذا الكتاب مبشر برشاد من     يسلك طرائقه بغير خلاف (1)

فكأنه المبعوث أحمد إذ أتى    في آخر الأديان بالإنصاف

وكأنه من بين كتب الشيعة      المتقدمين كسورة الأعراف

ينبيك عن كتب الرجال وما رووا        بعبارة تغني وقول شاف

سهل الطرايق عذبة ألفاظه        فكأنها ممزوجة بسلاف

فإذا قرأت أصوله وفروعه        رواك من عذب فرات صاف

فهو الصراط المستقيم ومنهج   الدين القويم لسالكيه كاف

تأليف من شهدت له آراؤه      بكماله في سائر الأوصاف

للشيخ زين الدين قطب زمانه   رب المكارم عبد آل مناف

فلقد أنار منار شيعة حيدر       وأبار من هو للنصوص مناف

فجزاؤه من أحمد ووصيه        أهل السماحة معدن الأشراف

أن يمنحاه شفاعة مقبولة         ويخصه باريه بالألطاف

 

____________

(1) قطعة مدح قائلها المؤلف والمؤلف قدس سره، توجد في النسخة التي جعلناها أصلا في الصفحة الأخيرة بعد ختم الكتاب، وفي بعض النسخ في ظهر الكتاب الصفحة الأولى على ما في ص 10 من تقدمه العلامة المرعشي مد ظله في المجلد الأول من هذا الكتاب.