رد من زعم أن أبا بكر كان من أهل الفضل والسعة

فصل

 

فأما ادعاؤهم أن الله تعالى شهد لأبي بكر بأنه من أهل الفضل والسعة، فليس الأمر كما ظنوه، وذلك لقوله تعالى: { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة }(1) إنما هو نهي يختص بذكر أهل الفضل والسعة، يعم في المعنى كل قادر عليه، وليس بخبر في الحقيقة ولا المجاز.

وإنما يختص بذكر ما سميناه على حسب اختصاص الأمر بالطاعات بأهل الإيمان حيث يقول تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله }(2) و { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته }(3).

وإن كان المعني من الأمر بذلك عاما لجميع المكلفين، والمراد في الاختصاص من اللفظ ما ذكرناه ملاءمة الوصف لما دعا إليه من الأعمال، وهو يجري مجرى قول القائل لمن يريد تأديبه ووعظه: لا ينبغي لأهل العقل والمروءة والسداد أن يرتكبوا الفساد، ولا يجوز لأهل الدين والعفاف أن يأتوا(4) قبائح الأفعال، وإن كان المخاطب بذلك ليس من أهل المروءة والسداد، ولا أهل الديانة والعفاف، وإنما خص

____________

(1) سورة النور 24: 22.

(2) سورة الأنفال 8: 20.

(3) سورة آل عمران 3: 102.

(4) في ب، ح، م: أن يرتكب.

 

الصفحة 181 

بالمنكر ما وصفناه لما قدمناه وبيناه.

فيعلم أن ما تعلق به المخالف فيما ادعاه من فعل أبي بكر من لفظ القرآن على خلاف ما توهمه وظنه، وأنه ليس من الخبر في شئ على ما بيناه.

وأماه قولهم: أن أبا بكر كان من أهل السعة في الدنيا بظاهر القرآن، فالقول فيه كالمتقدم سواء، ومن بعد ذلك فإن الفضل والسعة والنقص والفقر من باب التضايف، فقد يكون الإنسان من ذوي الفضل بالإضافة إلى من دونه من أهل الضائقة والفقر(1)، ويكون مع ذلك مسكينا بالإضافة إلى من هو أوسع حالا منه، وفقيرا إلى من هو محتاج إليه.

وإذا كان الأمر على ما وصفناه، لم ينكر وصف أبي بكر بالسعة عند إضافة حاله إلى مسطح وأنظاره من المضطرين بالفقر ومن لا معيشة له ولا عائدة عليه، كما يكون السقف سماء لمن هو تحته، وتحتا لمن هو فوقه ويكون الخفيف ثقيلا عندما هو أخف منه وزنا، والقصير طويلا بالإضافة إلى من هو أقصر منه، وهذا ما لا يقدح في قول الشيعة، ودفعها الناصبة عما ادعته لأبي بكر من الاحسان والإنفاق على النبي صلى الله عليه وآله، حسب ما تخرصوه من الكذب في ذلك، وكابروا به العباد، وأنكروا به ظاهر الحال، وما جاء به التواتر من الأخبار، ودل عليه صحيح النظر والاعتبار، وهذا بين لمن تدبره.

____________

(1) في ب: الإضافة والفضل.

 

الصفحة 182 

فصل

 

وقد روت الشيعة سبب نزول هذه الآية من كلام جرى بين بعض المهاجرين والأنصار، فتظاهر المهاجرون عليهم وعلوا في الكلام، فغضبت الأنصار من ذلك، وآلت بينها أن لا تبر ذوي الحاجة من المهاجرين، وأن تقطع معروفها عنهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، فاتعظت الأنصار بها، وعادت إلى بر القوم وتفقدهم، وذكروا في ذلك حديثا طويلا وشرح جوابه أمرا بينا.

فإذا ثبت مذهبهم في ذلك سقط السؤال من أصله، ولم يكن لأبي بكر فيه ذكر، واستغني بذلك عن تكلف ما قدمناه، إلا أنا قد تطوعنا على القوم بتسليم ما ادعوه، وأوضحنا لهم عن بطلان ما تعلقوا به فيه، استظهارا للحجة وإصدارا عن البيان، والله الموفق للصواب.

فصل آخر

 

ثم يقال لهم: خبرونا عما ادعيتموه لأبي بكر من الفضل في الدنيا، لو انضاف إلى التقوى، ونزول القرآن أن تصريح الشهادة له به عودا بعد سدى، هل كان موجبا لعصمته من الضلال في مستقبل الأحوال، ودالا على صوابه في كل فعل وقول، وأنه لا يجوز عليه الخطأ والنسيان، وارتكاب الخلاف لله تعالى والعصيان؟

فإن ادعوا له بالعصمة من الآثام، وأحالوا من أجله عليه الضلال في الاستقبال، خرجوا عن الاجماع، وتفردوا بالمقال، بما لم يقبله

 

الصفحة 183 

أحد من أهل الأديان، وكابروا دلائل العقول وبرهان السمع، ودفعوا الأخبار.

وقيل لهم: دلوا على صحة ما ادعيتموه من ذلك. فلا يجدون شيئا يعتمدونه على كل حال.

وإن قالوا: ليس يجب له بالفضل والسعة وسائر ما عددناه وانضاف إليه ونطق به القرآن العصمة من الضلال، بل جائز عليه الخطأ مع استحقاقه لجميعه ومقارفة الذنوب في الاستقبال.

قيل لهم: فهب أنا سلمنا لكم(1) الآن من تأويل الآية على ما اقترحتموه، ما أنكرتم في ضلال الرجل فيما بعد من إنكاره النص على أمير المؤمنين عليه السلام، ودفعه عما أوجب الله تعالى عليه الاقرار به من الفرض، وتغيير حاله من الفضل بالنقص، إذ كانت العصمة مرتفعة عنه، والخطأ جائز عليه، والضلال عن الحق موهوم منه ومظنون به، فلا يجدون حيلة، في دفع ذلك، ولا معتمدا في إنكاره، وهذا مما تقدم معناه، إنما ذكرته للتأكيد والبيان، وهو مما لا محيص لهم عنه، والحمد لله.

____________

(1) في ب، ح: لهم.