فصل: ادعاء أن آية (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح) أوجبت لأبي بكر وأصحابه الجنة ورده

الصفحة 151 

 

مسألة أخرى

 

وقد تعلق هؤلاء القوم أيضا بعد الذي ذكرناه عنهم فيما تقدم من الآي بقوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير }(1).

فزعموا بجهلهم أن هذه الآية دالة على أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا و عبد الرحمن وأبا عبيدة بن الجراح من أهل الجنة على القطع والثبات، إذ كانوا ممن أسلم قبل الفتح، وأنفقوا وقاتلوا الكفار، وقد وعدهم الله الحسنى - وهي الجنة وما فيها من الثواب - وذلك مانع من وقوع معصية منهم يجب عليه بها العقاب، وموجب لولايتهم في الدين وحجيتهم على كل حال(2).

____________

(1) سورة الحديد 57: 10 (2) ممن ذهب إلى هذا الرأي الكلبي والزمخشري والقرطبي والنسفي والفخر الرازي، أنظر تفسير الكشاف 4: 474، تفسير القرطبي: 17 / 240، تفسير النسفي 3: 478، تفسير الفخر الرازي 29: 219.

 

الصفحة 152 

فصل

 

فيقال لهم: إنكم بنيتم كلامكم في تأويل هذه الآية وصرف الوعد فيها إلى أئمتكم على دعويين:

إحداهما: مقصورة عليكم لا يعضدها برهان، ولا تثبت بصحيح الاعتبار.

والأخرى: متفق على بطلانها، لا تنازع في فسادها ولا اختلاف، ومن كان أصله فيما يعتمده ما ذكرناه، فقد وضح جهله لذوي الألباب.

فأما الدعوى الأولى: فهي قولكم أن أبا بكر وعمر قد أنفقا قبل الفتح، وهذا ما لا حجة فيه بخبر صادق ولا كتاب، ولا عليه من الأمة إجماع، بل الاختلاف فيه موجود، والبرهان على كذبه(1) لائح مشهود.

وأما الدعوى الأخيرة: وهي قولكم أنهما قاتلا الكفار فهذه مجمع على بطلانها غير مختلف في فسادها، إذ ليس يمكن لأحد من العقلاء أن يضيف إليهما قتل كافر معروف، ولا جراحة مشرك موصوف، ولا مبارزة قرن ولا منازلة كفؤ، ولا مقام مجاهد.

وأما هزيمتهما من الزحف فهي أشهر وأظهر من أن يحتاج فيه إلى الاستشهاد، وإذا خرج الرجلان من الصفات التي تعلق الوعد بمستحقها من جملة الناس، فقد بطل ما بنيتم على ذلك من الكلام،

____________

(1) في أ: على كذب مدعيه.

 

الصفحة 153 

وثبت بفحوى القرآن ودلائله استحقاقهما الوعيد بضد ما استحقه أهل الطاعة.

فصل

 

على أن اعتلالكم يوجب عموم الصحابة كلها بالوعد، ويقضي لهم بالعصمة من كل ذنب، لأنهم بأسرهم بين رجلين: أحدهما أسلم قبل الفتح وأنفق وقاتل، والآخر كان ذلك منه بعد الفتح، ومن دفع(1) منهم عن ذلك كانت حاله حال أبي بكر وعمر وعثمان في دفع الشيعة لهم عما أضافه إليهم أشياعهم من الإنفاق لوجه الله تعالى، وإذا كان الأمر على ما وصفناه، وكان القرآن ناطقا بأن الله تعالى قد وعد جماعتهم الحسنى، فكيف يختص بذلك من سميتموه، لولا العصبية والعناد؟!

فصل

 

ثم يقال لهم: إن كان لأبي بكر وعمر وعثمان الوعد بالثواب، لما ادعيتموه لهم من الإنفاق والقتال، وأوجب ذلك عصمتهم من الآثام، لأوجب ذلك لأبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية(2) وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص أيضا، بل هو لهؤلاء أوجب، وهم به أحق من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم ممن سميتموه، لما نحن مثبتوه في المقال.

____________

(1) في ب، وقع.

(2) (ومعاوية) ليس في ب، ح، م.

 

الصفحة 154 

وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن أبا سفيان أسلم قبل الفتح بأيام، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله الأمان لمن دخل داره تكرمة له وتمييزا عمن سواه، وأسلم معاوية قبله في عام القضية(1) وكذلك كان إسلام يزيد بن أبي سفيان(2).

وقد كان لهؤلاء الثلاثة من الجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يكن لأبي بكر وعمر وعثمان، لأن أبا سفيان أبلى يوم حنين بلاء حسنا، وقاتل يوم الطائف قتالا لم يسمع بمثله في ذلك اليوم لغيره، وفيه ذهبت عينه، وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وآله مع ابنه يزيد بن أبي سفيان، وهو يقدم بها بين يدي المهاجرين والأنصار.

وقد كان أيضا لأبي سفيان بعد النبي صلى الله عليه وآله مقامات ومعروفة في الجهاد، وهو صاحب يوم اليرموك، وفيه ذهبت عينه الأخرى، وجاءت الأخبار أن الأصوات خفيت فلم يسمع إلا صوت أبي سفيان، وهو يقول: يا نصر الله اقترب. والراية مع ابنه يزيد، وقد كان له بالشام وقائع مشهورات(3).

ولمعاوية من الفتوح بالبحر وبلاد الروم والمغرب والشام في أيام عمر وعثمان وأيام إمارته وفي أيام أمير المؤمنين عليه السلام وبعده ما لم يكن لعمر

____________

(1) كان معاوية يقول أنه أسلم عام القضية وكتم إسلامه من أبيه وأمه. أنظر أسد الغابة 4:

385.

(2) أسلم يوم فتح مكة. أنظر سير أعلام النبلاء 1: 329، أسد الغابة 5: 112.

(3) أنظر الإصابة 3: 237، سير أعلام النبلاء 2: 106.

 

الصفحة 155 

ابن الخطاب.

وأما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص فشهرة قتالهما مع النبي صلى الله عليه وآله وبعده تغني الإطالة بذكرها في هذا الكتاب، وحسب عمرو بن العاص في فضله على أبي بكر وعمر تأمير رسول الله صلى الله عليه وآله إياه عليهما في حياته(1) ولم يتأخر إسلامه عن الفتح فيكون لهما فضل عليه بذلك، كما يدعى في غيره.

وأما خالد بن الوليد فقد أمره رسول الله صلى الله عليه وآله في حياته، وأنفذه في سرايا كثيرة(2).

ولم ير لأبي بكر وعمر ما يوجب تقديمهما على أحد في أيامه صلى الله عليه وآله، فإن أنصف الخصوم جعلوا ما عددناه لهؤلاء القوم فضلا على من سموه في متضمن الآي، وإلا فالتسوية واجبة بينهم في ذلك على كل حال، وهذا يسقط تعلقهم بالتخصيص فيما سلمناه لهم تسليم جدل من التفضيل على ما أدعوه في التأويل، وإن القول فيه ما قدمناه.

فصل

 

ثم يقال لهم: أليست الآية قاضية بالتفضيل ودالة على الثواب والأجر لمن جمع بين الإنفاق والقتال معا، ولم يفرد أحدهما عن الآخر،

____________

(1) عقد رسول الله صلى الله عليه وآله لواء لعمرو على أبي بكر وعمر في غزوة ذات السلاسل.

أنظر سير أعلام النبلاء 3 / 57 و 67.

(2) أنظر سير أعلام النبلاء 1: 366.

 

الصفحة 156 

فيكون مختصا به على الانفراد؟! فلا بد من أن يقولوا: بلى. وإلا خالفوا ظاهر القرآن.

فيقال لهم: هب أنا سلمنا لكم أن لأبي بكر وعمر وعثمان إنفاقا، ولم يصح ذلك بحجة من خبر صادق ولا إجماع ولا دليل قرآن، وإنما هي دعوة عرية عن البرهان، فأي قتال لهم قبل الفتح أو بعده مع النبي صلى الله عليه وآله حتى يكونوا بمجموع الأمرين مستحقين للتفضيل على غيرهم من الناس؟! فإن راموا ذكر قتال بين يدي النبي صلى الله عليه وآله لم يجدوا إليه سبيلا على الوجوه كلها والأسباب، اللهم إلا أن يقولوا ذلك على التخرص والبهت بخلاف ما عليه الاجماع، وذلك باطل بالاتفاق.

ثم يقال لهم: قد كان للرسول صلى الله عليه وآله مقامات في الجهاد، وغزوات معروفات، ففي أيها قاتل أبو بكر وعمر وعثمان، أفي بدر، فليس لعثمان فيها ذكر واجتماع، ولم يحضرها باتفاق، وأبو بكر وعمر كانا في العريش محبوسين عن القتال، لأسباب تذكرها الشيعة، وتدعون أنتم خلافا لما تختصون(1) به من الاعتقاد؟!

أم بأحد فالقوم بأسرهم ولوا الأدبار، ولم يثبت مع النبي صلى الله عليه وآله سوى أمير المؤمنين عليه السلام، وانضاف إليه نفر من الأنصار؟!

أم بخيبر وقد عرف العلماء ومن خالطهم من العامة ما كان من أمر أبي بكر وعمر فيها من الفساد والرجوع من الحرب والانهزام،

____________

(1) في أ، ب، ح: تختصمون.

 

الصفحة 157 

حتى غضب النبي صلى الله عليه وآله، وقال: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه "(1) فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام، وكان الفتح على يديه، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله؟!

أم في يوم الأحزاب فلم يكن لفرسان الصحابة وشجعانها ومتقدميها في الحرب إقدام في ذلك اليوم سوى أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه خاصة، وقتله عمرو بن عبد ود، ففتح الله بذلك على أهل الإسلام؟!

أم في يوم حنين فأصل هزيمة المسلمين كانت فيه بمقال من أبي بكر، واغتراره بالجمع، واعتماده على كثرة القوم دون نصر الله ولطفه وتوفيقه، ثم انهزم هو وصاحبه أول الناس، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله إلا تسعة نفر من بني هاشم، أحدهم أمير المؤمنين عليه السلام، وثبتوا به في ذلك المقام؟! ثم ما بين هذه الغزوات وبعدها، فحال القوم فيها في التأخر عن الجهاد ما وصفناه لغيره من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم ومسلمة الفتح، وأضرابهم من الناس وطبقات الأعراب في القتال والإنفاق، وما هو مشهور عند نقلة الآثار، وقد نقلنا لأبي سفيان وولديه في هذا الباب ما لا يمكن دعوى مثله لأبي بكر وعمر وعثمان على ما قدمناه وشرحناه.

وإذا لم يكن للقوم من معاني الفضل ما يوجب لهم الوعد(2)، بالحسنى على ما نطق به القرآن، ولا اتفق لهم الجمع بين الإنفاق والقتال

____________

(1) تقدم تخريجاته في ص 34.

(2) في ب، ح: الوجه.

 

الصفحة 158 

بالإجماع وبالدليل(1) الذي ذكرناه، فقد ثبت أن الآية كاشفة عن نقصهم، دالة على تعريتهم(2) مما يوجب الفضل، ومنبهة على أحوالهم المخالفة لأحوال مستحقي التعظيم والثواب.

فصل

 

ثم يقال لهم أيضا: أخبرونا عن عمر بن الخطاب، بما ذا قرنتموه بأبي بكر(3) وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن، فيما ادعيتموه لهم من الفضل في تأويل الآية، ولم يكن له قتال قبل الفتح ولا بعده، ولا ادعى له أحد إنفاقا على كل حال!

وهب أن الشبهة دخلت عليكم في أمر أبي بكر بما تدعونه من الإنفاق، وفي عثمان ما كان منه من النفقة في تبوك، وفي طلحة والزبير وسعيد بالقتال، أي شبهة دخلت عليكم في عمر بن الخطاب، ولا إنفاق له ولا قتال؟! وهل ذكركم إياه في القوم إلا عصبية وعنادا وحمية في الباطل، وإقداما على التخرص في الدعاوى والبهتان.

فصل آخر

 

ثم يقال لهم: خبرونا عن طلحة والزبير ما توجه إليهما من الوعد

____________

(1) في أ: دليله.

(2) في أ: تعريهم.

(3) في أ: قربتموه إلى أبي بكر.

 

الصفحة 159 

بالحسنى في الآية على ما ادعيتموه للجماعة، وهل عصمهما ذلك من خلاف أمير المؤمنين عليه السلام وحربه، وسفك دماء أنصاره وشيعته، وإنكار حقوقه التي أوجبها الله تعالى له ودفع إمامته؟!