فصل

ظهر عن كل واحد منهم من العلوم العقلية والشرعية في زمانه، ولم ينقلوا ذلك عن عالم غيرهم، ولا تعلموا من أحد سواهم، ولا درسوا الكتب السالفة لمن عداهم، وذلك من الأدلة اللائحة، والبراهين الواضحة، على صحة إمامتهم، إذ لا يخص الحكيم سبحانه بخرق عادته من يكذب في دعوته.

إن قيل: فما يمنع من استفادتهم من غيرهم؟ قلنا: لم يشتهر لأحد من الفضل ما يدانيهم، ولو كان ذلك لبحث عنه كل شخص من مخالفيهم، لحرصهم على إطفاء نورهم، وقد اعترض الكفار على النبي صلى الله عليه وآله حيث قالوا: إنه تعلم من غيره كما نطق به القرآن حتى رد الله قولهم بقوله: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر(1)) (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا(2)) و (ما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا(3)) و (ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم(4)) و (ما

____________

(1) القصص: 44.

(2) القصص: 46.

(3) القصص: 45.

(4) آل عمران: 44.

الصفحة 172 

كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون(1)) و (قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا(2)) وقال تعالى: (قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض(3) وقال: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين(4)) والأئمة عليهم السلام لم ينقل أنهم أخذوا من غير آبائهم عن جدهم عن ربهم، وقد كان لكل واحد في زمانه رجال كثير يأخذون عنه.

وأما أمير المؤمنين فأحكامه مشهورة اعترف الشيخان وغيرهما بسعتها.

وابنه الحسن حكم في بيض نعام كسره محرم بإرسال الإبل بعددها، وحكم في البقرة التي قتلت الحمار إن كانت دخلت عليه في منامه ضمن صاحبها، وإن دخل عليها فهدر، بعد أن حكم الشيخان بقولهما: بهيمة جنت على بهيمة فلا ضمان.

الحسين عليه السلام، أخذت عنه الأحكام وعلم الفرزدق المناسك وغيرها.

زين العابدين مع شدة خوفه، وانقطاعه لعبادة ربه، أخذ عنه الزهري وعطاء وغيرهما وحاض قوم في الصوم فقسمه لهم إلى أربعين قسما، وذكر ابن طلحة أن أعرابيا قطع القفار إلى الحسن ليكلمه في عويص العربية، فأشار بعض من حضر أن يبدأ بالحسين فسلم وقال: جئتك من الهرقل والجعلل، والأثيم والهمهم، ثم قال:

 

هفى قلبي إلى الهيف   وقد ودع شرحيه

وقد كان البقا غضا       بجراري ذيليه

علالات ولذات فيا سقيا لعصريه

فلما علم الشيب         من الرأس نطاقيه

وأمسى قد عناني        منه تجديد خضابيه

تسليت عن اللهو        وألقيت قناعيه

فلو يعلم ذو رأي        أصيل فيه رأييه

 

____________

(1) العنكبوت: 48.

(2) الفرقان: 50 (3) الفرقان، 6.

(4) النحل: 103.

الصفحة 173 

 

لألفى غيره منه له في كر عصريه

 

فارتجل الحسين عليه السلام:

 

فما رسم سجا فيه       محى آية رسميه

سفود درج الذيلين      في نوعا قناعيه

ومود جرصف تترى    على تلبيد نوءيه

ودلاج من المزن         دنا نوء سماكيه

إلى مثعنجر الودق       بجرد من خلاليه

وقد أحمد برقاه          فلا ذم لبرقيه

وقد جلل رعداه          فلا ذم لرعديه

نجيح الرعد شجاج      إذا أرخى نطاقيه

فأضحى دارسا قفرا      لبينونة أهليه

 

فقال الأعرابي: ما رأيت أعرب منه كلاما، ولا أذرب منه لسانا، فقال الحسن في أخيه:

 

غلاما كرم الرحمن      بالتطهير جديه

كساه القمر القمقام      من نور سنائيه

ولو عدد طماح نفجنا عن عداديه

وقد أرضيت من شعري         وقومت عروضيه

 

فقال الأعرابي: بأبي أنتما وأمي، بارك الله فيكما، فلقد انصرفت وأنا محب لكما راض عنكما.

والباقر عليه السلام أخذ عنه جابر وغيره علم التفسير، وسأله عمرو بن عبيد عن قوله تعالى: (السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما(1)) قال عليه السلام: كانت السماء لا تمطر فمطرت والأرض لا تنبت فنبتت.

ورآه هشام بن عبد الملك يفتي الناس فسأل عنه فقيل: محمد بن علي المفتون

____________

(1) النساء: 30.

الصفحة 174 

به أهل العراق، فبعث إليه فسأله ما يأكل الناس يوم القيامة؟ فقال عليه السلام: يحشرون على قرصة وأنهار متفجرة، فرأى هشام أنه قد ظفر به فبعث إليه: ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ؟ فقال عليه السلام: هم في النار أشغل ولم يشغلوا حتى قالوا:

(أفيضوا علينا من الماء ومما رزقكم الله(1)) فانقطع هشام.

إن قيل: بل الباقر عليه السلام أخذ عن جابر، قلنا: ظاهر من جابر أنه لم يبلغ من العلم مبلغ الباقر، وإنما تميز عن غيره بقوله: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وطلب جابر من الباقر عليه السلام أن يعلمه ما ينتفع به فقال: إنك لا تحمل فقال: بلى، فقال: أنا آدم أبو البشر ففتح عينيه في وجهه، وقال: بل أنت مولاي وكاد أن يطيش، فقال: أنا آدم اللون وأولادي بشر، فسكن، فقال: ما أسرع ما تنسخت فقال: الإقالة يا سيدي، وإنما روى الباقر عنه أخبارا رواها عن الرسول صلى الله عليه وآله تقريبا على الناس.

والصادق عليه السلام شأنه لا يخفى، وأخذ عنه أربعة آلاف رجل أحكاما لا تعفى وأخذ مالك عنه، وانقطع أبو حنيفة بين يديه، ولما رد على ابن طالوت حيث قال له: إلى كم تدرسون هذا البيدر الخ فأجابه عليه السلام فانقطع، فقال لأصحابه: ظننتم أنكم تلقوني على تمرة، فألقيتموني على جمرة فقالوا: لقد فضحتنا ما رأينا أحقر منك في مجلسه، فقال: أبي تقولون هذا؟ فإنه ابن من حلق رؤس من ترون.

وقال عليه السلام: وجدت علم الناس في أربع: الأول أن تعرف ربك، والثاني أن تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما يخرجك عن دينك.

والكاظم عليه السلام أخذ عنه الناس كثيرا وروى عنه أخوه علي بن جعفر كتابا شهيرا وسأله أبو حنيفة عن أفعال العباد فقال: إن كان الله تفرد بها سقط عن العباد الذم فيها، وإن شاركها فالذم عليهما، وإن تفرد العباد بها تفردوا بمستحقها

____________

(1) الأعراف: 50.

الصفحة 175 

فبهت أبو حنيفة من ذلك.

الرضا عليه السلام روى عنه الخاص والعام أحاديث في التفسير والكلام، فروى عنه داود بن سليمان: الإيمان عقد بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، ولما سار إلى خراسان أخذ الناس عنه كثيرا من هذا الشأن، وروى عن النبي صلى الله عليه وآله من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة لكن بشروطها، وأنا من شروطها، يعني معرفة الإمام.

الجواد عليه السلام له رجال أخذوا عنه المعلوم وظهر فضله على العموم، ولما عزم على تزويجه المأمون، لامه العباسيون فأجابهم بغزارة علمه، فقالوا: متى جمع ذلك على صغر سنه؟ فقال المأمون: هؤلاء قوم موادهم من الله سبحانه، فإن أردتم فامتحنوه.

فاجتمعوا على يحيى بن أكثم، فسأله عن محرم قتل صيدا فقال عليه السلام: في الحل أو الحرم؟ عالما أو جاهلا؟ عمدا أو خطأ؟ حرا أو عبدا؟ صغيرا أو كبيرا؟ من ذوات الطير أو غيرها؟ من صغار الصيد أم كبارها، مصرا أم نادما؟ ليلا أم نهارا؟ فلم يدر ابن أكثم ما يقول، فقال المأمون: الآن صح ما أخذتم به، فعند ذلك زوجه ابنته أم الفضل، وطلب تفسير ذلك ففسره، وأمر أن يسأل ابن أكثم فقال: سل!

إن عرفت أجبتك، وإلا استفدت منك، فسأله عن جارية حلت وحرمت مرارا فلم يدر، ففسر له ذلك، وهي مشهورة.

فقال المأمون: إن أهل هذا البيت خصوا بالكمال من الصبي، ألا ترون أن رسول الله صلى الله عليه وآله افتتح دعوته بعلي، وهو ابن عشر سنين، وباهل بالحسن والحسين، وهما دون ست سنين.

والهادي والعسكري ظهر منهما ما ظهر من آبائهما، وقد خرج عن العسكري الرسالة المقنعة تشتمل على معظم الأحكام، وذكر الحميري في كتاب المكاتبات رجال العسكري عليه السلام.

وأما الإمام المهدي فسيأتي عنه شئ من ذلك في بابه إن شاء الله تعالى.

إن قيل: من أين لهم هذه العلوم؟ قلنا: من جدهم، فقد ورد عنهم: عندنا

الصفحة 176 

الجامعة كتاب أملاه النبي صلى الله عليه وآله على علي عليه السلام، من جميع ما يحتاج إليه الناس إلى قيام الساعة، أو من الالهام، أو من الملائكة، فقد ورد عنهم عليهم السلام علما غابرا ومزبورا ونكتا في القلوب، ونقرا في الأسماع، فالغابر علم ما مضى، والمزبور علم ما بقي، والنكت الالهام، والنقر حديث الملائكة.

وقولهم عليهم السلام: إنا لنجمع زغب الملائكة عن فرشنا، وقد قال رجل لأمير - المؤمنين: إني أحبك فقال عليه السلام: كذبت إني لا أرى اسمك في الأسماء، ولا شخصك في الأشخاص، فسئل عن ذلك، فقال عليه السلام: إن الله تعالى عرف نبيه أسماء المؤمنين، وأثبتها النبي صلى الله عليه وآله لنا، وأنا أعرفهم.

وروى جماعة أنهم رأوا عند الباقر وزين العابدين عليهما السلام كتابا كبيرا فسألوهم عنه فقالوا: هذا ديوان المؤمنين، فسألوهم النظر فيه فوجدوا أسماءهم.

إن قيل: فقوله تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم(1)) يبطل ما تدعونه من اختصاص الإمام بتبيينه، قلنا: إذا وضع العلم عند حافظ لا ينسى ولا يجهل، و كلف الناس الفزع إليه، سقط ما اعترضتم به عليه.

إن قيل: إن المعلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله انقطاع الوحي وهو يبطل ما ذكرتم من حديث الملائكة قلنا: إنما الاجماع على ختم النبوة أما على أن الملائكة لا تخاطب أحدا فلا.

____________

(1) النحل: 44.

الصفحة 177