وعد الله المؤمنين والمؤمنات والصادقين الجنة في الجملة

فصل

ثم يقال له: قد وعد الله المؤمنين والمؤمنات في الجملة مثل وعد به السابقين من المهاجرين والأنصار، ولم يوجب ذلك نفي الغلط عن كل من استحق اسم الإيمان، ولا إيجاب العصمة له من الضلال، ولا القطع له بالجنة على كل حال.

قال الله عز وجل: { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم }(1).

فإن وجب للمتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام الثواب على كل حال، لاستحقاقهم الوصف بأنهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على ما ادعيت لهم في المقال، فإنه يجب مثل ذلك لكل من استحق اسم الإيمان في حال من الأحوال، بما تلوناه، وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإسلام.

ويقال له أيضا: قد وعد الله الصادقين مثل ذلك، فقطع لهم بالمغفرة والرضوان، فقال سبحانه: { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم

____________

(1) سورة التوبة 9: 72.

 

الصفحة 80   

ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم }(1).

فهل يجب لذلك أن يقطع على كل من صدق في مقاله بالعصمة من الضلال، ويوجب له الثواب المقيم، وإن ضم إلى فعله قبائح الأفعال؟!

فإن قال: نعم. خرج عن ملة الإسلام، وإن قال: لا يجب ذلك لعلة من العلل. قيل له في آية السابقين مثل ما قال، فإنه لا يجد فرقا.

ويقال له أيضا: ما تصنع في قول الله تعالى: { وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }(2)؟!

أتقول أن كل من صبر(3) على مصاب فاسترجع مقطوع له بالعصمة والأمان من العذاب، وإن كان مخالفا لك في الاعتقاد، بل مخالفا للإسلام؟!

فإن قال: نعم ظهر خزيه، وإن قال: لا يجب ذلك. وذهب في الآية إلى الخصوص دون الاشتراط، سقط معتمده من عموم آية السابقين، ولم يبق معه ظاهر فيما اشتبه به الأمر عليه في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وخطأ المتقدمين عليه حسب ما ذكرناه.

وهذا باب إن بسطنا القول فيه، واستوفينا الكلام في معانيه،

____________

(1) المائدة 5: 119.

(2) سورة البقرة 2: 155 - 157.

(3) في ب: أتقول إن كان من خبر.

 

 

الصفحة 81   

طال به الخطاب، وفيما اختصرناه كفاية لذوي الألباب.

فصل

 

فإن قال في أصل الجواب أنه لا يجوز تخصيص السابقين الأولين، ولا الاشتراط فيهم، لأنه سبحانه قد اشترط في التابعين، وخصهم بقوله:

{ والذين اتبعوهم بإحسان }(1).

فلو كان في السابقين الأولين من يقع منه غير الحسن الجميل، لما أطلق الرضا عنهم في الذكر ذلك الاطلاق، واشترط فيمن وصله بهم من التابعين.

قيل له: أول ما في هذا الباب، أنك أوجبت للسابقين بهذا الكلام العصمة من الذنوب، ورفعت عنهم جواز الخطأ وما يلحقهم به من العيوب، والأمة مجمعة على خلاف ذلك لمن زعمت أن الآية فيه صريحة(2)، لأن الشيعة تذهب إلى تخطئة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام، والمعتزلة والشيعة وأكثر المرجئة وأصحاب الحديث يضللون طلحة والزبير في قتالهم أمير المؤمنين عليه السلام، والخوارج تخطئ أمير المؤمنين عليه السلام وتبرأ منه ومن عثمان، وطلحة والزبير ومن كان في حيزهما، وتكفرهم بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام، وولايتهم(3) عثمان بن عفان، فيعلم

____________

(1) سورة التورة 9: 100.

(2) (صريحة) ليس في أ، ب، ح.

(3) في م: وتوليتهم.

 

الصفحة 82   

أن إيجاب العصمة لمن يزعم أن الله تعالى عناه في الآية(1) بالرضوان باطل، والقول به خروج عن الاجماع.

على أن قوله تعالى: { والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه }(2) ليس هو شرطا في التابعين، وإنما هو وصف للاتباع، وتمييز له من ضروبه التي لا يوجب شئ منها الرحمة والغفران، وهذا مما لا يبطل الخصوص في السابقين، والشرط في أفعالهم على ما ذكرناه.

مع أنا قد بينا أن المراد بالسابقين الأولين، هم الطبقة الأولى من المهاجرين والأنصار، وذكرنا أعيانهم وليس من المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام والمخالفين عليه من كان من الأولين، وإن كان فيهم جماعة من التالين، ولسنا ندفع ظاهر الأولين من القوم، وأنهم من أهل الثواب وجنات النعيم على عمومهم دون الخصوص، وهذا أيضا يسقط تعلقهم بما ذكروه في التابعين، على أنه لا يمتنع أن يكون الشرط في التابعين شرطا في السابقين، ويكتفى به بذكر السابقين للاختصار، ولأن وروده(3) في الذكر على الاقتران.

ويجري ذلك مجرى قوله تعالى: { والله ورسوله أحق أن يرضوه }(4)

____________

(1) (في الآية) ليس في ب، ح، م.

(2) سورة التوبة 9: 100.

(3) (وروده) ليس في ب، ح، وفي أ: الجميع.

(4) سورة التوبة 9: 62.

 

الصفحة 83   

وقوله تعالى: { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم }(1).

ويقال له أيضا: أليس الله تعالى يقول: { كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين }(2).

وفي الأنفس من لم يرده، ولم يستثنه لفظا، وهم: الأطفال والبله(3) والبهائم والمجانين؟! وإنما يدل استثناؤهم لفظا(4) على استثناء أهل(5) العقول.

فبم ينكر أن يكون الشرط في السابقين مثل الشرط في التابعين، وأن اللفظ من ذكر السابقين موجود في التابعين؟ وهذا بين لمن تدبره.

على أن الذي ذكرناه في الخبر، وبينا أنه لا يجوز من الحكيم تعالى أن يقطع بالجنة إلا على شرط الاخلاص، لما تحظره الحكمة من الاغراء بالذنوب، يبطل ظنهم في تأويل هذه الآية، وكل ما يتعلقون به من غيرها في القطع على أمان أصحابهم من النار، للاجماع على ارتفاع العصمة عنهم، وأنهم كانوا ممن يجوز عليه اقتراف الآثام، وركوب الخلاف لله تعالى على العمد والنسيان، وقد تقدم ذلك فيما سلف، فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه.

____________

(1) سورة التوبة 9: 34.

(2) سورة المدثر 74: 38، 39.

(3) البله: جمع أبله: ضعيف العقل. " مجمع البحرين - بله - 6: 343 ".

(4) (وهم الأطفال.. لفظا) ليس في أ.

(5) (أهل) ليس في أ، ب، ح.

 

الصفحة 84   

فصل آخر

 

ويمكن أيضا مما ذكرناه من أمر طلحة والزبير وقتالهما لأمير المؤمنين عليه السلام، وهما عند المخالفين من السابقين(1) الأولين، ويضم إليه ما كان من سعد بن عبادة، وهو سيد الأنصار ومن السابقين الأولين، ونقباء رسول الله صلى الله عليه وآله في السقيفة، ترشح(2) للخلافة، ودعا أصحابه إليه، وما راموه من البيعة له على الإمامة حتى غلبهم المهاجرون على الأمر، فلم يزل مخالفا لأبي بكر وعمر، ممتنعا عن بيعتهما في أهل بيته وولده وأشياعه إلى أن قتل بالشام على خلافهما ومباينتهما(3).

وإذا جاز من بعض السابقين دفع الحق في الإمامة، واعتقاد الباطل فيها، وجاز من بعضهم استحلال الدم على الضلال، والخروج من الدنيا على غير توبة ظاهرة للأنام، فما تنكر من وقوع مثل ذلك من المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام - وإن كانوا من السابقين الأولين(4) - وما الذي يعصمهم مما وقع من شركائهم في السبق والهجرة وغير ذلك مما تعدونه لهم في الصفات، وهذا مما لا سبيل إلى دفعه.

____________

(1) في ب، ح، م: التابعين.

(2) في ب: توشحه.

(3) أنظر تفصيل ذلك في: الكامل في التاريخ 2: 331، الطبقات الكبرى 3: 616، أسد الغابة 2: 284.

(4) (وإن.. الأولين) ليس في ب، ح، م.