فصل في إبطال ما دفع به ثبوت النص وورود السمع به

الذي نذهب إليه أن النبي صلى الله عليه وآله نص على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة بعده، ودل على وجوب فرض طاعته ولزومها لكل مكلف، وينقسم النص عندنا في الأصل إلى قسمين أحدهما يرجع إلى الفعل ويدخل فيه القول، والآخر إلى القول دون الفعل.

فأما النص بالفعل والقول، فهو ما دلت عليه أفعاله صلى الله عليه وآله وأقواله المبينة لأمير المؤمنين عليه السلام من جميع الأمة، الدالة على استحقاقه من التعظيم والاجلال والاختصاص بما لم يكن حاصلا لغيره كموآخاته صلى الله عليه وآله بنفسه وإنكاحه سيدة نساء العالمين (1) ابنته عليها السلام، وأنه لم يول عليه أحدا من الصحابة، ولا ندبه لأمر أو بعثه في جيش إلا كان هو الوالي عليه المقدم فيه وأنه لم ينقم عليه من طول

____________

(1) تواتر قول رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام (سيدة نساء العاملين، وسيدة نساء المؤمنين، وسيدة نساء أهل الجنة) أنظر صحيح البخاري 4 / 183 كتاب بدء الخلق باب علامات النبوة، و ج 4 / 209 كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، و ج 7 / 141 كتاب الاستئذان، باب من ناجى بين يدي الناس، ولم يخبر بسر صاحبه حتى إذا مات أخبر به.

الصفحة 66   

الصحبة وتراخي المدة شيئا، ولا أنكر منه فعلا، ولا استبطاه في صغير من الأمور ولا كبير مع كثرة ما توجه منه صلى الله عليه وآله إلى جماعة من أصحابه من العتب، إما تصريحا أو تلويحا.

وقوله صلى الله عليه وآله فيه (علي مني وأنا منه) (1) و (علي مع الحق والحق مع علي) و (اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر) (2) إلى غير ما ذكرناه من الأفعال والأقوال الظاهرة التي لا يخالف فيها ولي ولا عدو، وذكر جميعها يطول، وإنما شهدت هذه الأفعال والأقوال باستحقاقه عليه السلام الإمامة ونبهت على أنه أولى بمقام الرسول من قبل أنها إذا دلت على التعظيم (3) والاختصاص الشديد، فقد كشفت عن قوة الأسباب إلى أشرف الولايات، لأن من كان أبهر فضلا، وأعلى في الدين مكانا فهو أولى بالتقديم وأقرب وسيلة إلى التعظيم، ولأن العادة فيمن يرشح (4) لشريف الولايات، ويؤهل لعظيمها أن يصنع به وينبه عليه ببعض ما قصصناه.

وقد قال قوم من أصحابنا أن دلالة الفعل ربما كانت آكد من دلالة القول، وأبعد من الشبهة، لأن القول بدخله المجاز، ويحتمل ضروبا من التأويلات لا يحتملها الفعل.

____________

(1) أخرجه النسائي في الخصائص ص 16 بلفظ (أن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي)، والترمذي 2 / 297، وأحمد في المسند ج 4 / 136، و 437، والبخاري في صحيحه 4 / 207 كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب علي بن أبي طالب، وفيه (أن عليا مني وأنا من علي وهو ولي كل مؤمن بعدي). وسيأتي سبب هذا القول ج 3 / 244.

(2) (علي مع الحق) مرت تخريجه ج 1 ص 172 وأما حديث الطير سيأتي تخريج مصادره ص 100 من الجزء الثالث.

(3) الفضل العظيم خ ل.

(4) خ " توشح ".

الصفحة 67   

فأما النص بالقول دون الفعل ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: ما علم سامعوه من الرسول صلى الله عليه وآله مراده منه باضطرار، وإن كنا الآن نعلم ثبوته والمراد منه استدلالا وهو النص الذي في ظاهره ولفظه الصريح بالإمامة والخلافة، ويسميه أصحابنا النص الجلي كقوله عليه السلام (سلموا على علي بإمرة المؤمنين) (1) و (هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا) (2).

والقسم الآخر: لا نقطع على أن سامعيه من الرسول صلى الله عليه وآله علموا النص بالإمامة منه اضطرارا ولا يمتنع عندنا أن يكونوا علموه استدلالا من حيث اعتبار دلالة اللفظ، وما يحسن أن يكون المراد أو لا يحسن.

فأما نحن فلا نعلم ثبوته والمراد به إلا استدلالا كقوله صلى الله عليه وآله (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (3) و (من كنت مولاه فعلي مولاه) (4) وهذا الضرب من النص هو الذي يسميه أصحابنا النص الخفي.

ثم النص بالقول ينقسم قسمة أخرى إلى ضربين:

____________

(1) أنظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 12 وابن عساكر (ترجمة أمير المؤمنين (ع)) عن بريدة الأسلمي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله أن نسلم على علي بإمرة المؤمنين...

(2) هذا الحديث هو حديث يوم الدار أخرجه الطبري في التاريخ 2 / 321 وأحمد في المسند 1 / 111 / 159، والحاكم في المستدرك 3 / 132 والحلبي في السيرة 1 / 381، والسيوطي في جمع الجوامع 6 / 397 عن ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي وسنعرج فيما يأتي.

(3) سيأتي الكلام على حديث المنزلة في أول الجزء الثالث أن شاء الله تعالى.

(4) سيأتي تخريج الحديث.

الصفحة 68   

فضرب منه تفرد بنقله الشيعة الإمامية خاصة، وإن كان بعض من لم يفطن بما عليه فيه من أصحاب الحديث قد روى شيئا منه، وهو النص الموسوم بالجلي.

والضرب الآخر رواه الشيعي والناصبي وتلقاه جميع الأمة بالقبول على اختلافها، ولم يدفعه منهم أحد يحفل بدفعه يعد مثله خلافا وإن كانوا قد اختلفوا في تأويله وتباينوا في اعتقاد المراد به وهو النص الموسوم بالخفي الذي ذكرناه ثانيا.

ونحن الآن نشرع في الدلالة على النص الجلي لأنه الذي تفرد أصحابنا به، وكلام صاحب الكتاب في هذا الفصل كأنه مقصور عليه.

فأما النصوص الباقية فسيجئ الكلام في تأويلها وإبطال ما جرح المخالفون فيها فيما بعد بعون الله تعالى.

والطريق إلى تصحيح النص الذي ذكرناه أن نبين صفة الجماعة التي إذا أخبرت كانت صادقة، والشروط التي معها يكون خبرها دلالة وموصلا إلى العلم بالمخبر، ثم نبين أن تلك الصفات والشروط حاصلة في نقل الشيعة للنص على أمير المؤمنين عليه السلام.

أما شروط الجماعة التي إذا أخبرت أمكن أن يعلم صحة مخبرها فثلاثة:

أحدها - أن ينتهي في الكثرة إلى حد لا يصح معه أن يتفق الكذب على المخبر الواحد منها، والشرط الآخر أن يعلم أنه لم يجمعها على الكذب جامع من تواطؤ وما يقوم مقامه، والآخر (1) أن يكون اللبس والشبهة زائلين عما خبرت عنه.

____________

(1) خ " والشرط الثالث ".

الصفحة 69   

هذا إذا كان الكلام في الجماعة المخبرة عن المخبر بلا واسطة فإن كانت مخبرة عن غيرها وجب اعتبار هذه الشروط فيمن خبرت عنه حتى يعلم أن الجماعات التي خبرت عنها هذه الجماعة صفتها فيما ذكرناه صفة هذه الجماعة وبه نقطع على أنه لم يتوسط بينها وبين المخبر عنه جماعة لم تكمل لها هذه الشروط فإن قال قائل: بينوا تأثير الشروط التي ذكرتموها في العلم بصحة الخبر وإن فقدها أو فقد بعضها مخل بالعلم بصحته ووجودها محصل لطريق العلم، ثم بينوا كيف السبيل إلى العلم بحصولها؟ وما الطريق إليه؟

قيل له: أما تأثير الشروط المذكورة فبين، لأن الجماعة إذا لم تبلغ الحد الذي يستحيل عليها عند بلوغه الكذب عن المخبر المخصوص اتفاقا لم نأمن من وقوع الكذب منها على هذا الوجه، كما أن الواحد والاثنين إذا أخبرا عن أمر لم نأمن في خبرهما أن يكون كذبا من حيث كان ما ذكرناه من اتفاق الكذب غير مأمون منهما وكذلك متى لم نعلم أنها لم تتواطأ أو حصل فيها ما يقوم مقام التواطؤ جوزنا أن يكون الكذب وقع منها على سبيل التواطؤ لأنا نعلم أن بالتواطؤ يجوز على الجماعة ما يستحيل لولاه والشبهة ووقوع اللبس أيضا مما يجمع على الكذب، ألا ترى إلى جواز الكذب على الخلق العظيم من المبطلين في الإخبار عن دياناتهم ومذاهبهم التي اعتقدوها بالشبهات، أو بما يجري مجراها من التقليد، وإنما جاز أن يخبروا مع كثرتهم بالكذب على سبيل الشبهة وإن لم يكن هناك تواطؤ، لأن الشبهة تخيل لهم كون الخبر صادقا (1) والمذهب حقا فكما أنهم إذا علموه صدقا جاز أن يخبروا عنه مع الكثرة من غير تواطؤ

____________

(1) خ " صدقا ".

الصفحة 70   

وكان علمهم بأنه صدق يدعوهم إلى الخبر ويقوم مقام السبب الجامع، فكذلك إذا اعتقدوا فيما ليس بهذه الصفة أنه عليها لأن المعتبر فيما يجري هذا المجرى هو بالاعتقاد لا بما عليه الشئ في نفسه، ولهذا يجوز أن يختار الكذب على الصدق في بعض المواضع مع تساويهما في المنافع ودفع المضار متى اعتقد في الكذب أنه صدق ولا فرق فيما شرطناه من ارتفاع اللبس والشبهة بين أن يكون المخبر عنه مشاهدا أو غير مشاهد لأن الشبهة كما يصح دخولها فيما ليس بمشاهد كالديانات وما أشبهها فقد يصح دخولها في المشاهد على بعض الوجوه ولهذا نبطل نقل اليهود والنصارى صلب المسيح عليه السلام، ونقول إن نقلهم لو اتصل بالمخبر عنه مع استيفاء جميع أسلافهم للشروط الحاصلة في هؤلاء الأخلاف من الكثرة وغيرها لأمكن أن يكون خبرهم باطلا من جهة الشبهة ووقوع الالتباس، لأن المصلوب لا بد أن يتغير حليته، وتنكر صورته، فلا يعرفه كثير ممن كان يعرفه، وبعده عن الناظرين معين أيضا على دخول الشبهة.

ولأن اليهود الذين ادعوا قتله لم يكن لهم به معرفة مستحكمة، لأنه لم يكن مخالطا لهم ولا مكاسرا، (1) ومن هذه صورته لا يمتنع أن يشتبه الحال فيه بغيره، وقد قيل إن الله سبحانه ألقى شبه المسيح على غيره، وأن ذلك مما يجوز على عهد الأنبياء، وإن كان غير جائز في أحوال أخر، وكل هذه الوجوه ترجع إلى الشبهة واللبس، فلذلك ذكرناها، وإن كانت كالخارجة عن مقصدنا فلا بد من اشتراط ارتفاع الشبهة في المخبر عنه مشاهدا كان أو غير مشاهد.

وإنما شرطنا في الجماعات المتوسطة بين المخبر عنه مثل ما شرطناه في الجماعة التي تلينا لأنا متى لم نعلم ذلك جوزنا كون الجماعة المخبرة لنا

____________

(1) مكابرا، خ ل، ومكاسرا أوجه، لأن معناها كونه معهم في مكان واحد.

الصفحة 71   

صادقة عمن خبرت عنه، وإن كان الخبر في الأصل باطلا، فليس يصح أن يعلم كون الخبر في الأصل صدقا والمخبر عنه على الحد الذي تناوله الخبر إلا بأن تحصل الشروط المذكورة في طبقات المخبرين، ومن ها هنا لم نلتفت إلى أخبار اليهود عن تأبيد الشرع وأخبارهم وأخبار النصارى عن صلب المسيح عليه السلام من حيث كان نقلهم ينتهي إلى عدد قليل لا يصح أن يؤمن فيه التواطؤ وغيره.

وإنما قلنا إن تكامل الشروط التي وصفنا مقتض كون الخبر صدقا من حيث خبر الجماعة الموصوفة لما لم يخل من أن يكون صدقا أو كذبا، وكان وقوعه كذبا لا بد أن يكون إما اتفاقا أو لتواطؤ أو لشبهة، وقد علمنا ارتفاع كل ذلك فوجب أن يكون صدقا، لأنه لا يمكن أن يقال:

أن كونه كذبا يقتضي الاجتماع عليه، ولا يحتاج إلى أحد الأقسام التي ذكرتموها كما تقولون في الصدق، لأنا سنبين عن بطلان تساوي الصدق والكذب في هذا الوجه.

وأما الطريق إلى العلم بحصول هذه الشروط في الجماعة فواضح، لأنه متعلق بالعادات، ولا شئ أجلى مما أستند إليها.

أما اتفاق الكذب عن المخبر الواحد فكل من عرف العادات يعلم ضرورة أنه لا يقع من الجماعة، وأن حال الجماعة فيه مخالفة لحال الواحد والاثنين.

ولهذا يجوز أن يخبر أحد من حضر الجامع يوم الجمعة بأن الإمام سها فتنكس على رأسه من المنبر وهو كاذب، ولا يجوز أن يخبر جميع من حضر الجامع بذلك إلا لتواطؤ أو ما يقوم مقامه، وقد مثل المتكلمون امتناع وقوع الكذب منهم إذا لم يكن تواطؤ بامتناع وقوع تصرف

الصفحة 72   

مخصوص، ولباس معين، وأكل شئ واحد، ونظم قصيدة بعينها منهم من غير أن يكون لهم سبب جامع، ومثلوه أيضا بما هو معلوم من استحالة أن يخبر الواحد أو الجماعة عن الأمور الكثيرة فيقع خبرهم بالاتفاق صدقا من غير علم تقدم، وبما يعلمه أيضا من استحالة وقوع الكتابة المنتظمة أو الصنعة المحكمة من الجماعة وهي جاهلة بما وقع منها على سبيل الاتفاق، وإن كان كل واحد منها يجوز أن يقع منه كتابة الحرف والحرفين، وكل الذي ذكروه صحيح، وليس منزلة العلم باستحالة وقوع الكذب اتفاقا من الجماعة الكثيرة من غير تواطؤ بأدون رتبة وأخفى عند العقلاء من جميع ما ذكر، بل منزلة هذه العلوم أجمع عند من خبر العادات واحدة، وإنما يحمل بعضها على بعض على سبيل الكشف والايضاح، وإلا فالكل على حد واحد، وليس يخرج العلم الذي ذكرناه من حيز الضرورة وقوعه عند ضرب من الاختبار للعادة، لأنه غير ممتنع في العلوم الضرورية أن تقع عند تقدم اختبار أو غيره كالعلم بالصنائع ووقوعه عند مزاولتها والحفظ الواقع عند الدرس، وليس لأحد أن يقول: إذا جاز أن يخبر الجماعة الكثيرة بالصدق ومن غير تواطؤ فألا جاز أن يخبر الجماعة الكثيرة بالكذب على هذا الوجه؟ وأي فرق بين الأمرين؟ لأن مفارقة الصدق للكذب في هذا الباب معلومة من جهة أن الصدق يجري في العادة مجرى ما حصل فيه سبب جامع، وعلم الجماعة بكونه صدقا داع إليه وجامع عليه، وليس كذلك الكذب لأن الكذب لا بد في فعله من أمر زائد وسبب جامع، ولصحة ما ذكرناه ما استحال في العادة أن يخبر أهل بلد كبير بوقوع حادثة عظيمة وهم كاذبون مع تواطؤ (1) وما يقوم مقامه، وجاز أن يخبر بذلك وهم صادقون مع ارتفاع التواطؤ.

____________

(1) من غير تواطؤ، خ ل.

الصفحة 73   

فأما ما به يعلم ارتفاع التواطؤ عن الجماعة فهو أن التواطؤ إما أن يكون واقعا بالملاقاة والمشافهة أو بالمكاتبة والمراسلة وربما تكررت هذه الأمور فيه بمجرى العادة، بل الغالب تكرره، لأن الجماعات الكثيرة العدد لا يستقر بينها ما يعمل عليه ويجمع على الأخبار به من أول وهلة، وبأيسر سبب، وما هذه حاله لا بد أن يظهر ظهورا يشترك كل من كان له اختلاط بالقوم في المعرفة به، حتى يؤدي عند عدم ظهوره إلى وجوب القطع على انتفائه وظهور ما يقع من تواطؤ الجماعة واجب في الجماعة القليلة العدد أيضا، حتى أن من خالطها على قلة عددها لا بد أن يقف على ذلك أن وقع منها، وإذا وجب ظهور ما ذكرناه فيمن قل عدده من الجماعات فهو في العدد الكثير أوجب، على أن الجماعة ربما بلغت في الكثرة مبلغا يستحيل معه عليها التواطؤ جملة، ونقطع على تعذره لأنا نعلم أن أهل بغداد بأسرهم لا يجوز أن يواطؤا جميع أهل خراسان، لا باجتماع ومشافهة، ولا بمكاتبة ومراسلة.

وأما الأسباب الجامعة على الأفعال القائمة مقام التواطؤ كتخويف السلطان وإرهابه فلا بد أيضا من ظهورها ووقوف الناس عليها لأنه ليس يجمع الجماعة على الأمر الواحد من خوف السلطان إلا ما ظهر لهم ظهورا شديدا، وما بلغ من الظهور هذا المبلغ لا بد أن يكون معروفا، فمتى لم تكن المعرفة به حاصلة وجب القطع على ارتفاعه.

فأما ما يعلم به ارتفاع (1) الشبهة واللبس عما خبرت عنه الجماعة، فهو أن الشبهة إنما تدخل فيما يرجع إلى المذاهب والاعتقادات، ويخرج عن باب ما يعلم ضرورة على الوجه الذي ذكرناه فيما تقدم، فإذا كان خبر

____________

(1) زوال، خ ل.

الصفحة 74   

الجماعة عن أمر معلوم بالمشاهدة ضرورة خرج عن هذا الباب.

وقد تدخل الشبهة ويقع الالتباس أيضا في الأشياء المدركة (1) على بعض الوجوه، لأن المشاهد للشئ من بعد ربما اشتبه عليه أمره حتى يعتقد فيه خلاف الحق، كما يصيب من شاهد السراب واعتقد أنه ماء، وكذلك قد يسمع الكلام من بعد فيشتبه على السامع، إلا أنا نفرق بين أحوال المدركات ونميز بين ما يصح اعتراض الشبهة فيه وما لا يصح أن يعترضه شبهة، فمتى كان الخبر متناولا لحال لا تدخل الشبهة في مثلها، وتكاملت شروطها الباقية، قطعنا على صحته.

فأما حصول الشرائط المذكورة في جميع الطبقات فيعلم بما يرجع إلى العادة أيضا لأنها جارية بأن الأقوال التي تظهر وتنشر بعد أن لم تكن كذلك لا بد أن يعرف ذلك من حالها حتى يعلم الزمان الذي ابتدأت فيه بعينه، والرجال الذين ابتدعوها، وتولوا إظهارها، وحكم الأخبار التي يقوى فروعها (2) ويرجع نقلها إلى آحاد أو جماعة قليلة العدد هذا الحكم ولا بد فيمن كانت له خلطة بأهل الأخبار من أن يكون عارفا بحالتي ضعفها وقوتها، بهذا جرت العادات في المذاهب والأقوال الحادثة بعد أن كانت مفقودة، والقوية بعد الضعف، كما علمناه من حال الخوارج والجهمية (3) والنجارية (4) ومن جرى مجراهم ممن أحدث مقالة لم تتقدم، حتى فرق

____________

(1) خ المذكورة.

(2) خ " وقوعها ".

(3) الجهمية: هم أصحاب جهم بن صفوان السمرقندي مولى بني راسب نسب إليه أنه يرى أن الأفعال في الحقيقة لله والانسان مجبور على أفعاله، وأشياء أخرى قتله سالم بن أحوز المازي بمرو سنة 128 وانظر الملل والنحل 1 / 86، والفرق بين الفرق 128، ومقالات الاسلاميين 2 / 494.

 

(4) النجارية: أصحاب الحسين بن محمد بن عبد الله الرازي المتوفى في حدود سنة 220 رأس الفرقة النجارية من المعتزلة له كتب منها " البذل " في الكلام و " إثبات الرسل " و " الارجاء " و " القضاء والقدر " وغيرها أنظر الملل والنحل 1 / 88 ومقالات الاسلاميين 1 / 283.

 

 

الصفحة 210 

علوم الدين وذلك ظاهر من حالهما فبطلت إمامتهما وثبتت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام لأنه لا قول لأحد من الأمة بعد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها.

فأما طريقة الطعن في أن غيره لا يصلح للإمامة فواضحة وقد اعتمدنا شيوخنا رحمهم الله قديما، وربما ذكروا فيما يخرج أبا بكر من الصلاح للإمامة ارتفاع العصمة عنه، وإخلاله بكثير من علوم الدين وهو الأقوى وإن رجع إلى ما تقدم، وربما ذكروا أنه أخر عن الولايات وقدم عليه غيره وأنه عزل عن أداء سورة براءة بعد أن توجه بها وعزل أيضا عن الجيش المبعوث لفتح خيبر بعد أن بأن قبح أثره فيه وأورد الرسول صلى الله عليه وآله عقيب عزله من القول ما لا شك في خروجه مخرج التهجين والتوبيخ حتى أن كثيرا من أصحابنا ذهبوا إلى أن ما تضمنه قوله صلى الله عليه وآله في تلك الحال في الوصف لأمير المؤمنين عليه السلام محبته لله ورسوله ومحبة الله ورسوله له تدل على انتفائه عمن عزل عن الولاية، ويذكرون أشياء كثيرة في هذا الجيش هي مذكورة في الكتب مشهورة يستخرجون من جميعها كون الرجل ممن لا يصلح للإمامة وسيأتي الكلام فيها مشروحا عند انتهائنا إلى الكلام في إمامة أبي بكر بمشيئة الله وعونه (1).

قال صاحب الكتاب: " وأما ادعاؤهم أن الإمام لا يكون إلا معصوما، فقد قلنا فيه بما وجب فلا يمكنهم جعل ذلك أصلا في هذا الباب على أن طريق العلم بأن أمير المؤمنين عليه السلام معصوم ثبوت

____________

(1) كما سيأتي مصادر تلك الوقائع، وتخريج تلك الأحاديث إن شاء الله تعالى.

الصفحة 211 

النص على عينه لأن الذي يدل من جهة العقل (1) على ذلك إن دل إنما هو عصمة الحجة من غير تعيين، وإذا صح ذلك فمتى قالوا أنه منصوص عليه لكونه معصوما بالنص (وإنما يحصل معصوما بالنص) (2) فقد علقوا النص عليه بالعصمة، والعصمة بالنص، وهذا يوجب أن كل واحد منهما لا يدخل في أن يكون معلوما (فكيف التعلق بما هذا حاله) (3).

فأما قولهم: أنه الأفضل ففيمن يخالفهم من يقول أن الأفضل أبو بكر فكيف يمكن إثبات النص بذلك وفيمن يخالفهم من لا يسلم أن الأحق بالإمامة الأفضل بل يجوز إمامة المفضول على كل وجه أو يجوز إمامة المفضول إذا كان في الفاضل علة تقعده أو كان هناك عذر وفيهم من يقول يجوز إمامة من غيره مثله في الفضل،... " (4).

يقال له: أما ما أحلت عليه من كلامك في العصمة فقد تقدم نقضه وبيان فساده، ودللنا على وجوب كون الإمام معصوما بما استحكمناه واستقصيناه، ولو كان طريق العلم بأن أمير المؤمنين عليه السلام معلوم ثبوت النص عليه ولا طريق إليه غيره حسب ما ظننت لا يلزمنا شئ مما أوردته، لأنك بنيته على ما لا نعتمده فقلت: " ومتى قالوا: إنه منصوص عليه لكونه معصوما وإنما يحصل معصوما بالنص وجب كذا وكذا " وهذا مما لم نقله ولا نقوله، والذي اعتمدناه في كونه عليه السلام منصوصا عليه فقد تقدم، وجملته أن الدليل إذا دلنا على أن الإمام في الجملة لا بد من عصمته وأجمعت الأمة على ارتفاع العصمة عمن ادعيت إمامته بعد

____________

(1) " من جهة العقل " ساقطة من المغني.

(2) ما بين المعقوفين ساقط من " الشافي " وأعدناه من " المغني ".

(3) ما بين المعقوفين ساقط من " الشافي " وأعدناه من " المغني ".

(4) المغني 20 ق 1 / 132.

الصفحة 212 

الرسول صلى الله عليه وآله سوى أمير المؤمنين عليه السلام (1) فقد وجب بطلان إمامة من عداه وثبتت إمامته عليه السلام فكيف يجوز أن نقول: إنه منصوص عليه لكونه معصوما، وقد ثبتت العصمة عندنا لمن ليس بإمام.

فإن قيل: فكيف السبيل إلى العلم بعصمته عليه السلام من هذا الاستخراج وعلى هذه الطريقة، وأنتم تعلمون أنه ليس كل من قال بأنه المنصوص عليه بعد الرسول يذهب إلى عصمته لأن من ذهب من الزيدية إلى النص يثبته ويخالف في العصمة؟

قلنا: إذا ثبت أنه عليه السلام المنصوص عليه بالإمامة وكان العقل دالا على أن الإمام لا يكون إلا معصوما وجب عصمته فأما التعلق بمنازعة من نازعنا في كونه عليه السلام الأفضل فغير نافع، لأنا لم نعتمد ذلك على أنه لا خلاف فيه، وليس كل ما وقع فيه خلاف يجب أن يبطل الاعتماد عليه وإذا دللنا على أنه الأفضل سقط خلاف المخالف وسندل عليه عند الكلام في التفضيل.

وأما الدليل على أن المفضول لا يجوز أن يكون إماما فقد تقدم فيما مضى من الكتاب.

قال صاحب الكتاب: " فأما توصلهم إلى النص بما يقدح في سائر من يقال: إنه إمام فبعيد لأن من خالفهم ينفي عنهم ما يذكرون، ويزعمون أنهم يصلحون للإمامة كصلاح أمير المؤمنين عليه السلام بل فيمن خالفهم من يعلو فيقول: لا يصلح بعد الرسول للإمامة غير أبي بكر، ويقول في كل وقت إن الذي يصلح للإمامة ليس إلا من تولى.

____________

(1) لعدم الإجماع على ارتفاع عصمته عليه السلام باعتبار قول الإمامية بها.

الصفحة 213 

فإن قيل: أليس ربما يسلكون مع أهل الحديث مثل ذلك في إمامة معاوية (1) فلماذا منعتمونا من مثله؟

قيل له: لأن الوجوه التي لا يصلح معاوية للإمامة معها (2) ظاهرة ولا شبهة فيها فنقرب بذكرها عليهم لا أنا نجعل ذلك أصلا لأن عندنا أن الإمامة فيمن يصلح لها لم تثبت إلا بوجوه لم تثبت في معاوية وثبتت في أمير المؤمنين عليه السلام وإنما يدفع شيوخنا إلى ذكر ذلك عند سؤال يورد عليهم (3) نحو قولهم: إنهم أجمعوا (4) على إمامة معاوية وأنه عند تسليم الحسن عليه السلام سمي عام الجماعة فإذا لم يوجب ذلك إمامته فكذلك القول في إمامة أبي بكر فنذكر عند ذلك أن هذا الكلام إنما يقال فيمن يصلح للإمامة ويكون في أمره شبهة ولا يتأتى مثله في معاوية كما لا يتأتى مثله في الخوارج وغيرهم وتبين بهذا الوجه وبغيره اختلال كلامهم فأما أن يجعل ذلك أصلا في الإمامة فبعيد، على أن ما يقتضي ثبوت إمامة أبي بكر يبطل القدح فيه، ويمنع من القول بأنه لا يصلح للإمامة فيجب أن يكون الكلام في إثبات إمامته فإن ما عداه تابع له، وهذا يبين أنه لا شبهة فيما جرى هذا المجرى من الحجاج في إثبات النص، فإن الواجب أن يذكروا دليلا بعينه من كتاب أو سنة ليصح التعلق به، وليس القوم بهذه الطريقة أسعد حالا ممن خالفهم بأن يقول (5): ليس بعد إبطال النص إلا طريقة الاختيار وقد ثبت في إمامة أبي بكر فيجب أن يقال بإمامته ويكونوا محيلين

____________

(1) في الأصل " في معاوية " وآثرنا ما في " المغني ".

(2) غ " لها ".

(3) " عليهم " ساقطة من " المغني ".

(4) غ " اجتمعوا ".

(5) غ " ممن يقول ".

الصفحة 214 

على أمر معلوم،.... (1) ".

يقال له: ليس كل ما طعن به أصحابنا في صلاح أبي بكر للإمامة مما يتمكن المخالفون من إنكاره، وإن خالفوا في كونه دليلا على أنه لا يصلح للإمامة، لأن إخلاله بكثير من علوم الدين وحاجته فيها إلى غيره وتوقفه في مواضع منها معلوم ظاهر، وكذلك كونه غير معصوم، وأنه ممن يجوز عليه الخطأ أيضا مجمع عليه، وقد تقدمت الأدلة على أن من كانت هذه حاله لا يصلح أن يكون إماما.

فأما تأخيره عن الولايات، وتقديم غيره عليه وعزله عن ولاية أداء سورة براءة على الوجه الذي ذكرناه فمما لا خلاف أيضا فيه، وسنتكلم على ذلك وما أشبهه إذا انتهينا إلى الكلام في إمامة أبي بكر إن شاء الله عز وجل، وفي الجملة ليس ثبوت الخلاف في الشئ دليلا على بطلانه، ومانعا من الاعتماد عليه، والمراعى في هذا الباب ما تدل الأدلة على صحته سواء وقع الخلاف فيه أو الوفاق.

ثم يقال له: في اعتماده في جواب السؤال الذي أورده على أن الوجوه التي لا يصلح لها معاوية للإمامة ظاهرة: أليس مع ظهورها عندك قد خالفك فيها الخلق الكثير ممن يعتقد إمامة معاوية وذهبوا في كثير مما يعتقد كون معاوية عليه من الأسباب المانعة من صلاحه للإمامة إلى أنه باطل لا أصل له، وفي البعض الذي سلموا حصوله إلى أنه غير دال على ارتفاع صلاحه للإمامة، وإذا جاز أن تثبت حجتك عليهم في أن معاوية لا يصلح للأمر مع ما ذكرناه من خلافهم وساغ لك الاعتماد على ما يخالفون فيه، فألا ساغ لنا مثله في إمامة أبي بكر فكيف جعلت وقوع

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 133

الصفحة 215 

الخلاف علينا فيما نقول إن أبا بكر لا يصلح لأجله للإمامة مانعا من الاحتجاج به ولم تلزم نفسك مثله في باب معاوية؟

ومن العجب قوله: " فنقرب بذكرها عليهم ولا نجعلها أصلا، لأنه لا مانع من جعل كون من يدعي له الإمامة ما لا يصلح لها أصلا في إبطال إمامته، بل هو الأولى عند قيام الدليل عليه، لأن كونه ممن لا يصلح للإمامة مفسد لإمامته كما أن انتفاء ما به يثبت الإمامة عنه من عقد وغيره مبطل لها، وإنما كان الوجه الأول أكد وأولى لأنه مانع من وقوع الإمامة وجواز وقوعها، والثاني مانع من ثبوتها وغير مانع من جوازه، ألا تعلم إنا لو ألزمنا إمامة كافر أو متظاهر بالفسق أو من ليس له نسب في قريش لكان الأولى أن نبين أنه لا يصلح للإمامة، ونجعل بيان حاله مبطلا لإمامته، ولا نعدل إلى ذكر انتفاء ما به تثبت الإمامة من عقد وما يجري مجراه، ولسنا نعلم بين إيراد ما ذكره من كون معاوية لا يصلح للأمر في جواب السؤال الذي حكاه وبين إيراده ابتداء فرقا (1) يقتضي أن يستحسن جوابا وينكره ابتداء، لأنه إذا ساغ أن يقول لمن يدعي الإجماع على إمامة معاوية أن ذلك لا يتأتى في معاوية لأنه لا يصلح للإمامة ساغ أن يقول أيضا في الأصل لمن يسأل عن ثبوت إمامة معاوية أن ثبوت الإمامة إنما يتأتى فيمن يصلح لها ومعاوية ممن لا يصلح لها.

فإن قال: لم أرد أني لا أجعل ذلك أصلا في نفي إمامة معاوية وإنما أردت أن أجعله أصلا في باب انتفاء الإمامة.

قيل له: ولم لا يكون ما ذكرته أصلا في نفي إمامة كل من ثبت أنه لا يصلح للإمامة سواء كان معاوية أو غيره؟ اللهم إلا أن يريد أنني لا

____________

(1) " فرقا " مفعول " نعلم ".

الصفحة 216 

أجعله أصلا فيمن يصلح للإمامة أو فيمن لا أعلم هل يصلح أم لا؟

وهذا إذا أردته خارج عما نحن فيه، وعما كلامنا عليه، لأن الكلام إنما هو في صحة التطرق يكون من يدعى له الإمامة لا يصلح لها إلى نفي إمامته كما يصح أن يتطرق إلى نفيها بغيره من عدم العقد أو ما يجري مجراه، على أن الجواب عن السؤال الذي حكى أن شيوخه دفعوا إليه ما نراه إلا مؤكدا للسؤال أو محققا له، لأنه إذا جاز أن يحصل الإجماع على الصورة التي كانت عليها في أيام أبي بكر الذي يصلح عنده للإمام في ولاية من ليس بإمام، ولا يصلح للإمامة، فقد بطل أن يكون الامساك عن النكير، وإظهار التسليم، دلالة على حصول الإجماع في الحقيقة، ووقوع الرضا في موضع من المواضع لحصولهما فيمن ليس بإمام ولا يصلح للإمامة.

فأما قوله: " إن الذي يقتضي ثبوت إمامة أبي بكر يمنع من القول بأنه لا يصلح للإمامة، ويبطل القدح فيه " فإنما يصح لو ثبتت إمامة أبي بكر وقام على صحتها دليل، ونحن نبين بطلان ما يظنه دليلا على إمامته إذا بلغنا إليه، على أن الاعتبار القياسي الذي اعتمدناه ليس مما يمكن أن يدعى دخول الاحتمال والتخصيص فيه كألفاظ النص، فالكلام فيه أولى من العدول إلى الكلام فيما يدعونه من الإجماع على أبي بكر الذي قد بينا أنه يحتمل ويجوز الانصراف عن ظاهره.

وقوله: " ليس بعد إبطال النص إلا طريقة الاختيار " صحيح أيضا غير أنه لم يقم دليلا على بطلان ما نذهب إليه من النص، وقد بينا صحة الأصلين اللذين جعلناهما مقدمة لطريقتنا وهما العصمة، وأن الحق لا يخرج عن الأمة، فصح ما بنيناه عليهما، وبطل ما بناه صاحب الكتاب

الصفحة 217 

على ثبوت بطلان النص لفقد الدلالة عليه.

قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر ربما تعلقوا بقوله تعالى:

(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (1) ويقولون: المراد بالذين آمنوا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام لأنه وصفه بصفة لم تثبت إلا له وهي إيتاء الزكاة في حال الركوع، وربما ادعوا في ذلك أخبارا منقولة أنه الذي أريد به، ويقولون: قد يذكر الواحد بلفظ الجمع تفخيما لشأنه، ويقولون:

المراد بالولي في الآية لا يخلو من وجهين أما أن يراد من له التولي في باب الدين أو يراد نفاذ الأمر وتنفيذ الحكم ولا يجوز أن يراد به الأول لأن ذلك لا يختص الرسول ولا (2) أمير المؤمنين عليه السلام لأن الواجب تولي كل مؤمن (3) فلا يكون لهذا الاختصاص وجه فلم يبق إلا أن المراد ما ذكرناه،... " (4).

يقال له: ترتيب الاستدلال بهذه الآية على النص هو أنه قد ثبت أن المراد بلفظة (وليكم) المذكورة في الآية من كان متحققا بتدبيركم والقيام بأموركم ويجب طاعته عليكم وثبت أن المعنى بـ (الذين آمنوا) أمير المؤمنين عليه السلام. وفي ثبوت هذين الوصفين دلالة على كونه عليه السلام إماما لنا.

فإن قال: دلوا أولا على أن لفظة ولي تفيد في الاستعمال ما ادعيتموه من المتحقق بالتدبير والتصرف، ثم دلوا على أن المراد بها في الآية

____________

(1) المائدة 55.

(2) " لا " ساقطة.

(3) غ " كل قوم " وهو خطأ بين.

(4) المغني 20 ق 1 / 133.

الصفحة 218 

ذلك، لأنه قد يجوز أن يحتمل اللفظ في وضع اللغة ما لا يقصد المخاطب بها إليه في كل حال، ودلوا من بعد على توجه لفظ (الذين آمنوا) إلى أمير المؤمنين عليه السلام وأنه المتفرد بها دون غيره.

قيل له: أما كون لفظة ولي مفيدة لما ذكرناه فظاهر لا إشكال في مثله، ألا ترى أنهم يقولون: فلان ولي المرأة، إذا كان يملك تدبير إنكاحها والعقد عليها، ويصفون عصبة المقتول بأنهم أولياء الدم من حيث كانت إليهم المطالبة بالقود (1) والإعفاء، وكذلك يقولون في السلطان أنه ولي أمر الرعية، وفيمن يرشحه لخلافته عليهم بعده أنه ولي عهد المسلمين، قال الكميت: (2)

ونعم ولي الأمر بعد وليه         ومنتجع التقوى ونعم المؤدب

 

إنما أرادوا ولي الأمر والقائم بتدبيره.

____________

(1) القود - بفتحتين - القصاص، يقال: أقاد القاتل بالقتيل: قتله به.

(2) الكميت: هو ابن زيد الأسدي، شاعر مقدم، عالم بلغات العرب، خبير بأيامها، فصيح من شعراء مضر وألسنتها وكان في أيام بني أمية ولم يدرك الدولة العباسية، ومات قبلها، وكان معروفا بالتشيع، مشهورا بذلك وقصائده الهاشميات من جيد شعره ومختاره، على أن يد التحريف مدت إليها، وأسقطت منها - كما تجد تفصيل ذلك في الغدير 2 / 181 - وقد ترجم للكميت جماعة منهم أبو الفرج في " الأغاني " 15 / 113 فما بعدها، وابن قتيبة في " طبقات الشعراء " ص 368 - 371، والعباسي في " معاهد التنصيص " 3 / 93 وغيرهم والبيت في المتن من هاشميته التي أولها:

 

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب      ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب

 

الصفحة 219 

وقال أبو العباس المبرد في كتابه المترجم بـ " العبارة " (1) عن صفات الله تعالى: " أصل تأويل الولي الذي هو أولى أي أحق، ومثله المولى " وفي الجملة من كان واليا لأمر ومتحققا بتدبيره، يوصف بأنه وليه وأولى به في العرف اللغوي والشرعي معا والأمر فيما ذكرناه ظاهر جدا.

فأما الذي يدل على أن المراد بلفظة " ولي " في الآية ما بيناه من معنى الإمامة، فهو أنه قد ثبت أولا أن المراد بـ (الذين آمنوا) ليس هو جميعهم على العموم، بل بعضهم، وهو من كانت له الصفة المخصوصة التي هي إيتاء الزكاة في حال الركوع، لأنه تعالى كما وصف بالأيمان من أخبر بأنه ولينا بعد ذكر نفسه، وذكر رسوله صلى الله عليه وآله كذلك وصفه بإيتاء الزكاة في حال الركوع، فيجب أن يراعى ثبوت الصفتين معا.

وقد علمنا أن الصفة الثانية التي هي إيتاء الزكاة لم تثبت في كل مؤمن على الاستغراق، لأن مخالفينا وإن حملوا نفوسهم على أن يجوزوا مشاركة غير أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك الفعل له فليس يصح أن يثبتوه لكل مؤمن وسندل فيما بعد على أن المراد وصفهم بإعطاء الزكاة في حال الركوع دون أن يكون أراد أن من صفتهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ومن صفتهم الركوع ونبطل أيضا أن يكون المراد بالركوع الخضوع دون الفعل المخصوص عند الكلام على ما أورده صاحب الكتاب.

وإذا ثبت توجه الآية إلى بعض المؤمنين دون جميعهم ووجدناه تعالى قد أثبت كون من أراده من المؤمنين وليا لنا على وحيه يقتضي التخصيص

____________

(1) العبارة: من كتب المبرد وموضوعه في صفات الله سبحانه كما يظهر من المتن، والمبرد هو محمد بن يزيد الثمالي الأزدي إمام من أئمة الأدب مشهور ومؤلفاته في مختلف العلوم تناهز المائة أشهرها الكامل توفي ببغداد أيام المعتضد العباسي سنة 5 أو 286 ودفن في مقابر باب الكوفة في دار اشتريت له.

الصفحة 220 

ونفي ما أثبته لمن عدا المذكور لأن لفظة إنما يقتضي بظاهرها ما ذكرناه يبين صحة قولنا إن الظاهر من قولهم إنما النحاة المدققون البصريون وإنما الفصاحة في الشعر للجاهلية نفي التدقيق في النحو والفصاحة عمن عدا المذكورين والمفهوم من قول القائل إنما لقيت اليوم زيدا وإنما أكلت رغيفا نفي لقاء غير زيد، وأكل أكثر من رغيف.

قال الأعشى: (1)

ولست بالأكثر منهم حصى      وإنما العزة للكاثر (2)

 

____________

(1) الأعشى: لقب لعدة من الشعراء أنهاهم الآمدي في المؤتلف والمختلف إلى سبعة عشر من جاهليين وإسلاميين والمراد به هنا أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل، وهو أعشى قيس، ويعرف بالأعشى الكبير أحد الشعراء المشهورين في الجاهلية وأدرك الاسلام ولم يسلم، وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله ليسلم فبلغ قريشا خبره فقالوا هذه صناجة العرب ما يمدح أحدا إلا رفع قدره، فرصدوه على طريقه فلما ورد عليهم، قالوا: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم على يديه، فقالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها بك رافق، ولك موافق، قال: وما هن؟ قال أبو سفيان: الزنى قال: لقد تركني الزنى وما تركته - يعني كبر وضعف - قال: ثم ماذا؟ قال: القمار، قال: لعلي إن لقيته أصبت منه عوضا من القمار، قال: ثم ماذا؟ قال: الربا، قال: ما دنت ولا أدنت قط، قال: الخمر، قال: أوه أرجع إلى صبابة بقيت لي في المهراس فأشربها، فقال أبو سفيان: فهل لك في شئ خير لك مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن وهو الآن في هدنة فتأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر علينا أتيته، قال: ما أكره ذلك، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش هذا الأعشى والله لئن أتى محمدا واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب، فاجمعوا له مائة من الإبل، ففعلوا فأخذها وانطلق إلى بلده فلما كان بقاع منفوحة رماه بعيره فقتله، وذلك سنة 7 هـ. (أنظر معاهد التنصيص 1 / 201).

(2) البيت المذكور في المتن من قصيدة للأعشى قالها في منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل والقصيدة طويلة تجدها في ديوانه ص: 104 - 108 وأولها:

 

شاقتك من قلة أطلالها بالشط فالوتر إلى حاجر

 

إلى أن يقول:

 

ولست بالأكثر منهم حصى      البيت...

 

وقد تمثل أمير المؤمنين عليه السلام ببيت من هذه القصيدة في خطبته الشقشقية.

 

شتان ما يومى على كورها       ويوم حيان أخي جابر

 

الصفحة 221 

وإنما أراد نفي العزة عمن ليس بكافر فيجب أن يكون المراد بلفظ ولي في الآية ما يرجع إلى معنى الإمامة والاختصاص بالتدبير لأن ما يحتمله هذه اللفظة من الوجه الآخر الذي هو الموالاة في الدين والمحبة لا تخصيص فيه والمؤمنون كلهم مشتركون في معناه وقد نطق الكتاب بذلك في قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (1) وإذا بطل حملها على الموالاة فلا بد من حملها على الوجه الذي بيناه لأنه لا محتمل للفظة سواها وفيمن يستدل بهذه الآية على النص من يقول إذا طولب بمثل ما طولبنا به وقد ثبت أن اللفظة محتملة للوجهين جميعا على سبيل الحقيقة فالواجب حملها على المعنيين معا إذ هي محتملة لهما معا ولا تنافي بينهما.

وقد بينا فيما تقدم أن هذه الطريقة غير سديدة ولا معتمدة ومنهم من يقول أيضا إن ظاهر قوله تعالى (إنما وليكم) يقتضي توجه الخطاب إلى جميع المكلفين مؤمنهم وكافرهم لأن أحدنا لو أقبل على جماعة فشافههم بالخطاب بالكاف يحمل خطابه على أنه متوجه إلى الجميع من حيث لم يكن بأن يتناول بعضهم أولى من أن يتناول كلهم وجميع المكلفين فيما توجه إليهم من خطاب القديم تعالى بمنزلة من شافهه أحدنا بخطابه لأنهم جميعا

____________

(1) التوبة 71.

الصفحة 222 

في حكم الحاضرين له فيجب أن يكون الخطاب متوجها إلى جميعهم كما توجه قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام) (1) وما أشبهه من الخطاب إلى الكل، وإذا دخل الجميع تحته استحال أن يكون المراد باللفظة الموالاة في الدين، لأن هذه الموالاة يختص بها المؤمنون دون غيرهم، فلا بد إذا من حملها على ما يصح دخول الجميع فيه، وهو معنى الإمامة ووجوب الطاعة، وهذه الطريقة أيضا لا تستمر لأنها مبنية على أن ظاهر الخطاب يقتضي توجهه إلى الكل وذلك غير صحيح، غير أن صاحب الكتاب لا يمكنه دفع الاستدلال بهاتين الطريقتين على أصوله، لأنه يذهب إلى ما بنينا عليه.

فأما الذي يدل على توجه لفظة (الذين آمنوا) إلى أمير المؤمنين على السلام فوجوه:

منها، أن الأمة مجمعة مع اختلافها على توجهها إليه عليه السلام لأنها بين قائل إنه عليه السلام المختص بها وقائل إن المراد بها جميع المؤمنين الذي هو عليه السلام أحدهم.

ومنها، ورود الخبر بنقل طريقتين مختلفتين ومن طريق العامة والخاصة بنزول الآية في أمير المؤمنين عليه السلام عند تصدقه بخاتمه في حال ركوعه والقصة في ذلك مشهورة ومثال الخبر الذي ذكرنا إطباق أهل النقل عليه ما يقطع به.

ومنها، أنا قد دللنا على أن المراد بلفظة (ولي) في الآية ما يرجع إلى الإمامة ووجدنا كل من ذهب إلى أن المراد بهذه اللفظة ما ذكرناه يذهب إلى

____________

(1) البقرة 183.

الصفحة 223 

أن أمير المؤمنين عليه السلام المقصود بها فوجب توجهها إليه والذي يدل على أنه عليه السلام المختص باللفظة دون غيره أنه إذا ثبت اقتضاء اللفظة للإمامة وتوجهها إلى عليه السلام بما بيناه وبطل ثبوت الإمامة لأكثر من واحد في الزمان ثبت أنه عليه السلام المتفرد بها ولأن كل من ذهب إلى أن اللفظة تقتضي الإمامة أفرده صلوات الله عليه بموجبها.

قال صاحب الكتاب: " واعلم أن المتعلق بذلك لا يخلو (1) من أن يتعلق بظاهره أو بأمور تقارنه فإن تعلق بظاهره فهو غير دال على ما ذكر وإن تعلق بقرينة فيجب أن يبينها ولا قرينة في ذلك من إجماع أو خبر مقطوع به.

فإن قيل: ومن أين أن ظاهره لا يدل على ما ذكرناه.

قيل له: من وجوه، أحدها: إنه تعالى ذكر الذين آمنوا من غير تخصيص بمعين (2) أو نص عليه والكلام بيننا وبينهم في واحد معين فلا فرق بين من تعلق بذلك في أنه الإمام وبين من تعلق به في أن الإمام غيره وجعله نصا فيه على أنه تعالى ذكر الجمع فكيف يحمل الكلام على واحد معين وقوله (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) لو ثبت أنه لم يحصل إلا لأمير المؤمنين عليه السلام لم يوجب ذلك أنه المراد بقوله: (والذين آمنوا) لأن صدر الكلام إذا كان عاما لم يجب تخصيصه لأجل تخصيص الصفة كما ذكرناه في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (3) إلى ما شاكله، وليس يجب إذا ما خصصنا الذي ذكره ثانيا لدليل أن نخص

____________

(1) غ " لا يخلو إما ".

(2) غ " تخصيص لعلي ".

(3) آل عمران 110.

الصفحة 224 

الذي ذكره أولا (1) من غير دليل... " (2).

يقال له: قد بينا كيفية الاستدلال بالآية على النص ودللنا على أنها متناولة لأمير المؤمنين عليه السلام دون غيره وفي ذلك إبطال لما تضمنه صدر هذا الفصل وجواب عنه.

فأما حمل لفظ الجمع على الواحد فجائز معهود استعماله في اللغة والشريعة، قال الله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد) (3) و (إنا أرسلنا نوحا) (4) و (إنا نحن نزلنا الذكر) (5) وإنما المراد العبارة عنه تعالى دون غيره، وهو واحد، ومن خطاب الملوك والرؤساء فعلنا كذا وأمرنا بكذا، ومرادهم الوحدة دون الجمع والأمر في استعمال هذه الألفاظ على التعظيم في العبارة عن الواحد ظاهر، فإن أراد صاحب الكتاب بقوله: " إنه تعالى ذكر الجمع فكيف يحمل الكلام على واحد معين " السؤال (6) عن جواز ذلك في اللغة، وصحة استعماله فقد دللنا وضربنا له الأمثلة، وإن سأل عن وجوب حمل اللفظ مع أن ظاهره للجمع على الواحد، فالذي يوجبه هو ما ذكرناه فيما تقدم.

فأما إلزامه أن يكون لفظ (الذين آمنوا) على عمومه وإن دخل التخصيص في قوله: (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) فغير صحيح، لأن اختصاص الصفة التي هي إيتاء الزكاة في حال الركوع يدل على

____________

(1) غ " أولا، لا من دليل ".

(2) المغني 20 ق 1 / 134.

(3) الذاريات 47.

(4) نوح الآية التالية للبسملة.

(5) الحجر: 9.

(6) السؤال مفعول لأراد.

الصفحة 225 

اختصاص صدر الكلام، لأن الكل صفات الموصوف الواحد، ألا ترى أن قائلا لو قال في وصيته: أعطوا من مالي كذا للعرب، الذين لهم نسب في بني هاشم، أو قال: لقيت الأشراف النازلين في محلة كذا لم يوجب كلامه ولم يفهم منه إلا تفريق ماله على من اختص من العرب بكونه من بني هاشم، وأنه لقي من الأشراف من كان نازلا في المحلة المخصوصة التي عينها، وإن أحدا لا يقول: إن ظاهر كلامه يقتضي إعطاء المال لكل العرب، وأنه لقي أشراف بلده كلهم، أو إشراف جميع الأرض، ويدعي أن القول المتقدم لا يختص بتخصيص الصفة الواردة عقيبه، فقد وجب بما ذكرناه أن يختص لفظ (الذين آمنوا) بمن آتى الزكاة في حال الركوع كما وجب اختصاص ما استشهد به من المثالين.

فإن قال: أراكم قد حملتم الآية على مجازين أحدهما، أنكم جعلتم لفظ الجمع للواحد والمجاز الآخر حملكم لفظ الاستقبال على الماضي لأن قوله: (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) لفظه لفظ الاستقبال وأنتم تجعلونه عبارة عن فعل واقع فلم صرتم بذلك أولى منا إذا حملنا الآية على مجاز واحد وهو أن يحمل قوله تعالى: (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) على أنه أراد به أن من صفتهم إيتاء الزكاة ومن صفتهم أنهم راكعون من غير أن يكون إحدى الصفتين حالا للأخرى، هذا إذا ثبت أنه إذا حمل على ذلك كان مجازا على نهاية اقتراحكم أو تحمله لفظة (إنما) إذا عدلنا عن تأويل الركوع بما ذكرناه على المبالغة لا على تخصيص الصفة بالمذكور ونفيها عمن عداه، فنكون أولى منكم، لأن معكم في الآية على تأويلكم مجازين ومعنا مجاز واحد.

قيل له: أما ظنك أن لفظ (يؤتون) موضوع للاستقبال وحمله على

 

 

 

الصفحة 226 

غيره يقتضي المجاز فغلط، لأن لفظة يفعلون وما أشبهها من الألفاظ التي تدخل عليها الزوائد الأربع الموجبة للمضارعة وهي الهمزة والتاء والنون الياء (1) ليست مجردة للاستقبال، بل هي مشتركة بين الحال والاستقبال، وإنما تخلص للاستقبال بدخول السين أو سوف، وقد نص على ما ذكرناه النحويون في كتبهم، فمن حملها على الحال دون الاستقبال لم يتعد الحقيقة، ولا تجاوز باللفظة ما وضعت له، وعلى هذا تأولنا الآية لأنا جعلنا لفظة (يؤتون الزكاة) عبارة عما وقع في الحال من أمير المؤمنين عليه السلام، وليس يمتنع أن نذكر في الجواب عن السؤال وجها آخر وإن كنا لا نحتاج مع ما ذكرنا إلى غيره لأنه الظاهر من مذهب أهل العربية، وهو أن يقال: إن نزول الآية وخطاب الله تعالى بها يجوز أن يكونا قبل الفعل الواقع في تلك الحال فتجري اللفظة على جهة الاستقبال وهو الحقيقة، بل الظاهر من مذاهب المتكلمين في القرآن أن الله تعالى:

أحدثه في السماء قبل نبوة النبي صلى الله عليه وآله بمدد طوال وعلى هذا المذهب لم يجر لفظ الاستقبال في الآية إلا على وجهه، لأن الفعل المخصوص عند أحداث القرآن في الابتداء لم يكن إلا مستقبلا، وإنما يحتاج إذا كان القول في القرآن على ما حكيناه إلى أن تتأول ألفاظه الواردة بلفظة الماضي مما يعلم أنه وقع مستقبلا، وإلا فما ذكر بلفظ الاستقبال لا حاجة بنا إلى تأوله لوقوعه على وجهه فأما لفظة (الذين) فإنها وإن كانت موضوعة في الأصل للجمع دون الواحد فغير ممتنع أن تكون بالعرف وكثرة الاستعمال قد دخلت في أن تستعمل في الواحد المعظم أيضا على سبيل الحقيقة، يدل على ذلك أن قوله تعالى: (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه) وما أشبهه من الألفاظ لا يصح أن يقال أنه مجاز وكذلك قول أحد الملوك نحن

____________

(1) ويجمعها لفظة " أنيت ".

الصفحة 227 

الذين فعلنا كذا لا يقال أنه خارج عن الحقيقة لأن العرف قد ألحقه ببابها، ولا شك في أن العرف يؤثر هذا التأثير كما أثر في لفظة غائط (1) وما أشبهها علي أنا لو سلمنا أن استعمال لفظة الذين في الواحد مجاز وعلى وجه العدول عن الحقيقة لكنا نحمل الآية على هذا الضرب من المجاز أولى منكم بحملها على أحد المجازين اللذين ذكرتموهما في السؤال من وجهين:

أحدهما، أن المجاز الذي لم يشاهد في الاستعمال وجرت عادة أهل اللسان باستعماله أولى مما لم يكن بهذه الصفة وقد بينا الشاهد باستعمال مجازنا من القرآن والخطاب وأنه لقوته وظهوره قد يكاد يلحق بالحقائق، وليس يمكن المخالف أن يستشهد في استعمال مجازه لا قرآنا ولا سنة ولا عرفا في الخطاب لأن خلو سائر الخطاب من استعمال مثل قوله: (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) إلا على معنى يؤتون الزكاة في حال الركوع ظاهر وكذلك خلوه من استعمال لفظة (إنما) على وجه التخصيص وإن وجدت هذه اللفظة فيما يخالف ما ذكرناه فلن يكون ذلك إلا على وجه الشذوذ والمجاز ولا بد أن يكون هناك شبه قوي يختص بالصفة ولا تثبت إلا له حتى يكون المسوغ لاستعمالها قوة الشبه بما يبلغ الغاية في الاختصاص، والوجه الآخر إنا إذا حملنا الآية على أحد المجازين اللذين في خبر المخالف ليصح تأولها على معنى الولاية في الدين دون ما يقتضي وجوب الطاعة والتحقق بالتدبير لم نستفد بها إلا ما هو معلوم لنا، لأنا نعلم وجوب تولي المؤمن في الدين بالقرآن، وقد تأولنا الآية الدالة على ذلك فيما تقدم وبالسنة والاجماع والأمر فيه ظاهر جدا لأن كل أحد يعلمه من دين الرسول صلى الله عليه

____________

(1) فإن الغائط في الأصل المطمئن من الأرض الواسع ولما كان من يريد قضاء الحاجة يطلب ذلك المكان قيل: جاء من الغائط ثم نقلها العرف إلى المعنى المشهور حتى ترك المعنى الأول.

الصفحة 228 

وآله وإذا عدلنا إلى المجاز الذي اخترناه في تأويل الآية استفدنا معه بالآية فائدة ظاهرة لا تجري مجرى الأولى، وكلام الحكيم كما يجب حمله على الوجه الذي يفيد عليه كذلك حمله على ما كان أزيد فائدة فظهرت مزية تأويلنا على كل وجه.

وبعد، فمن ذهب من مخالفينا إلى أن الألف واللام إذا لم يكونا للعهد اقتضتا الاستغراق وهم الجمهور وصاحب الكتاب أحد من يرى ذلك فلا بد له في تأويل الآية من جاز آخر زائد على ما تقدم، لأن لفظه (الذين آمنوا) تقتضي الاستغراق على مذهبه، وهو في الآية لا يصح أن يكون مستغرقا لجميع المؤمنين لأنه لا بد أن يكون خطابا للمؤمنين، لأن الموالاة في الدين لا تجوز لغيرهم، ولا بد أن يكون من خوطب بها ووجه بقوله (إنما وليكم الله ورسوله) خارجا عمن عني بالذين آمنوا وإلا أدى إلى أن يكون كل واحد ولي نفسه فوجب أن يكون لفظ (الذين آمنوا) غير مستغرق لجميع المؤمنين، وإذا خرج عن الاستغراق خرج عن الحقيقة عند من ذكرناه من مخالفينا ولحق بالمجاز، وانضم هذا المجاز إلى أحد المجازين المتقدمين، فصارا مجازين وعلى تأويلنا إذا سلمنا أن العبارة عن الواحد بلفظ الجمع على سبيل التعظيم يكون مجازا لا يتحصل إلا مجاز واحد فصار تأويلنا في هذه أولى من تأويله.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فمن أين أن المراد بالثاني هو أمير المؤمنين عليه السلام وظاهره يقتضي الجمع (1)؟

وليس يجب إذا روي أنه عليه السلام تصدق بخاتمه وهو راكع ألا

____________

(1) غ " الجميع ".

الصفحة 229 

يثبت غيره مشاركا له في هذا الفعل بل (1) يجب لأجل الآية أن يقطع (2) في غيره بذلك وإن لم ينقل (3) لأن نقل ما جرى هذا المجرى لا يجب وبعد فمن أين أن المراد بقوله: (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) ما زعموه دون أن يكون المراد به أنهم يؤتون الزكاة وطريقتهم التواضع والخضوع ليكون ذلك مدحا لهم في إيتاء الزكاة وإخراجا لهم (4) من أن يؤتوها مع المن والأذى وعلى طريقة (5) الاستطالة والتكبر فكأنه تعالى مدحهم غاية المدح فوصفهم بإقامة (6) الصلاة وبأنهم يؤتون الزكاة على أقوى وجوه القربة وأقوى ما تؤدى عليه الزكاة مع ما ذكرناه وليس من المدح إيتاء الزكاة مع الاشتغال بالصلاة لأن الواجب في الراكع أن يصرف همته ونيته إلى ما هو فيه ولا يشتغل بغيره ومتى أراد الزكاة فعلها تالية للصلاة فكيف يحمل الكلام على ذلك ولا يحمل على ما يمكن توفية العموم (7) حقه معه أولى مما يقتضي تخصيصه،... " (8).

يقال له: قد دللنا على أن المراد باللفظ الأول الذي هو الذين آمنوا أمير المؤمنين عليه السلام وإن كان لفظ جمع واللفظ الثاني الذي هو يقيمون

____________

(1) غ " بل يجب بالأثر أن نقطع على غيره بذلك ".

(2) لأجل أن لا يمتنع أن يقطع، خ ل.

(3) لو كان لنقل ولو من طريق ضعيف وقد روي عن أحد الصحابة أنه قال:

" لقد تصدقت بأربعين خاتما وأنا راكع لينزل في ما نزل بعلي فما نزل " (سفينة البحار 1 / 378 مادة ختم).

(4) غ " فإخراج حالهم ".

(5) غ " طريق ".

(6) غ " بإدامة الصلاة " وما في المتن أوجه.

(7) غ " ما يمكن فيه العموم ".

(8) المغني 20 ق 1 / 135.

الصفحة 230 

الصلاة ويؤتون الزكاة إذا كان صفة للمذكور باللفظ الأول فيجب أن يكون المعني بهما واحدا ولم نعتمد في أنه عليه السلام المخصوص بقوله تعالى: (ويؤتون الزكاة) دون غيره على نقل الخبر بل اعتمدنا الخبر في جملة غيره من الوجوه في الدلالة على توجه الآية إليه عليه السلام واعتمدنا في أنه عليه السلام المتفرد بها دون غيره على الوجهين اللذين قدمناهما.

فأما حمله لفظة الركوع على التواضع فغلط بين لأن الركوع لا يفهم منه في اللغة والشرع معا إلا التطأطؤ المخصوص دون التواضع والخضوع وإنما يوصف الخاضع بأنه راكع على سبيل التشبيه والمجاز لما يستعمله من التطامن وترك التطاول.

قال صاحب الكتاب " العين " (1): " كل شئ ينكب لوجهه فيمس

____________

(1) صاحب كتاب " العين " هو الخليل بن أحمد الفراهيدي أعلم الناس بالنحو والغريب في زمانه، وواضع علم العروض، عاش زاهدا قانعا في اخصاص البصرة، وعاش الناس بعلمه لم يطرق أبواب الملوك والأمراء، وكانوا يخطبون وده فيمتنع عليهم، فقد روي: أن سليمان بن قبيصة المهلبي أرسل إليه هدية قيمة - وكان واليا على السند - وطلب إليه أن يسير إليه، فرد الهدية وكتب إليه:

 

أبلغ سليمان أني عنه في سعة   وفي غنى غير أني لست ذا مال

الرزق عن قدر لا الضعف ينقصه        ولا يزيدك فيه حول محتال

 

غير أن للخليل صلة وثيقة ورابطة أكيدة بليث بن نصر بن سيار كاتب البرامكة، لا لمنصبه ولا لماله بل لما يجمع بينهما من العلم والمعرفة، فقد كان الليث بارع الأدب، بصيرا بالنحو والشعر والغريب فارتحل إليه الخليل فوجده بحرا، وأحسن وفادته، وأكرمه غاية الاكرام، فألف له كتاب العين المذكور فوقع منه موقعا عظيما، ووصله بمأتي ألف درهم واعتذر إليه من التقصير، وأقبل الليث على كتاب العين ينظر فيه ليلا ونهارا إلى أن حفظ نصفه، وكانت تحته ابنة عم له جميلة ونبيلة تحبه حبا جما، فبلغها عنه أنه اشترى جارية فائقة الجمال، وأبعدها في منزل صديق له فوجدت عليه وقالت: والله لأغيضنه، وقالت: إني أراه مشغوفا بهذا الكتاب، وقد هجر كل لهو ولذة، وأقبل على النظر فيه، فلأفجعنه به، ثم عمدت إلى الكتاب فأحرقته، فلما عاد افتقد الكتاب فظن أنه سرق، فجمع غلمانه وتهددهم وأوعدهم، فأخبره أحدهم أنه رأى زوجته أخذته، فأقبل إليها، وقال: ردي الكتاب، والجارية لك، وقد حرمتها على نفسي، فأخذت بيده وأدخلته الحجرة التي أحرقته فيها، فلما رآه رمادا أسقط في يده، وصار كأنه فجع بمال عظيم، أو ولد حبيب، فكتب منه النصف الأول من حفظه حيث لم يكن للكتاب - نسخة غير نسخته - وكان الخليل قد توفي - وكلف جماعة من العلماء في زمانه فقال لهم: مثلوا عليه، فمثلوا عليه فلم يلحقوه، ولذا قيل: إن النصف الأول أتقن وأحكم من النصف الأخير، وكانت نسخة من هذا الكتاب في مكتبة المرحوم الشيخ محمد الشيخ طاهر السماوي - فيما أخبرني أحد العلماء - ولا يدرى بمصيرها الآن، حيث أن هذه المكتبة تبعثرت بعد وفاته ووقعت في يد من لا يعرف لها قدرا، وتوجد نسخة من كتاب العين في مكتبة الآثار العراقية (مكتبة المتحف الآن) تحت رقم 509 / 373 لغة في 2500 ورقة كما عن مجلة لغة العرب للأستاذ الكرملي، توفي الخليل سنة 170 هـ.

الصفحة 231 

بركبتيه الأرض أو لا يمس بعد أن تطأطأ رأسه فهو راكع وأنشد للبيد (1) أخبر أخبار القرون التي مضت أدب كأني كلما قمت راكع " وقال صاحب الجمهرة (2) " الراكع الذي يكبو على وجهه، ومنه الركوع في الصلاة قال الشاعر:

____________

(1) البيت من قصيدة للبيد بن ربيعة مطلها:

 

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع    وتبقى الجبال بعدنا والمصانع

 

(2) صاحب الجمهرة أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد - بالتصغير - الأزدي إمام من أئمة اللغة والشعر والأدب توفي ببغداد سنة 321 يوم وفاة أبي هاشم الجبائي - المكرر ذكره في الشافي - فقال الناس: مات علم اللغة وعلم الكلام في يوم واحد، وكتابه " الجمهرة في اللغة " تنقيح وتهذيب لكتاب " العين " الذي تقدم ذكره آنفا حتى قيل:

 

وهو كتاب العــ          ـين إلا أنه قد غيره

 

ويقال: إنه كان يملي أكثر هذا الكتاب من حفظه.

الصفحة 232 

 

وأفلت حاجب فوت العوالي    على شقاء تركع في الظراب

 

أي يكبو على وجهها " وإذا ثبت أن الحقيقة في الركوع ما ذكرناه لم يسغ حمله على المجاز لغير ضرورة.

ويقال له: في قوله: " ليس من المدح إيتاء الزكاة مع الاشتغال بالصلاة وأن الواجب على الراكع أن يصرف همته إلى ما هو فيه " إنما لا يكون ما ذكرته مدحا إذا كان قطعا للصلاة وانصرافا عن الاهتمام بها والاقبال عليها.

فأما إذا كان مع القيام بحدودها والأداء بشروطها فلا يمتنع أن يكون مدحا على أن الخبر الذي بينا وروده من طريقين مختلفين مبطل لتأويله هذا لأن الرواية وردت بأن النبي صلى الله عليه وآله لما خرج إلى المسجد وسأل عمن تصدق على السائل فعرف أن أمير المؤمنين عليه السلام تصدق بخاتمه هو راكع قال: " إن الله تعالى أنزل فيه قرآنا " وقرأ الآيتين وفي هذا دلالة واضحة على أن فعله عليه السلام وقع على غاية ما يقتضي المدح والتعظيم فكيف يقال إنه يتنافى في الجمع بين الصلاة والزكاة؟ وبعد فإنا لم نجعل إيتاء الزكاة في حال الركوع جهة لفضل الزكاة حتى يجب الحكم بأن فعلها في حال الركوع أفضل بل مخرج الكلام يدل على أنه وصف بإيتاء الزكاة في حال الركوع المذكور أولا على سبيل التمييز له من غيره وللتعريف فكأنه تعالى لما قال: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) أراد أن يعرف من عناه بالذين آمنوا فقال تعالى (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) غير أن وجه الكلام وإن كان ما ذكرناه فلا بد أن يكون في إعطائه الزكاة في حال الركوع غاية الفضل

____________

(1) الأشق من الخيل: الذي يشتق بعدوه يمينا وشمالا، مؤنته شقاء. والظراب:

جمع ظرب: ما نتأ من الحجارة وحد طرفه، والجبل المنبسط، والرابية الصغيرة.

الصفحة 233 

وأعلى وجوه القرب بدليل نزول الآية الموجبة للمدح والتعظيم فيه عليه السلام وبما وقع من مدحه عليه السلام أيضا يعلم أن فعله للزكاة لم يكن شاغلا عن القيام بحدود الصلاة.

قال صاحب الكتاب - بعد أن أورد كلاما يتضمن أن إثباته وليا لنا لا يمنع من كون غيره بهذه الصفة، وقد تقدم الكلام على ذلك -: " وبعد فإن صح أنه المختص بذلك فمن أين أنه يختص بهذه الصفة في وقت معين ولا ذكر للأوقات فيه؟

فإن قالوا: لأنه تعالى أثبته كذلك فيجب أن يكون هذا الحكم ثابتا له في كل وقت.

قيل لهم: إن الظاهر إنما يقتضي أنه كذلك في حال الخطاب وقد علمنا أنه لا يصح أن يكون إماما مع الرسول صلى الله عليه وآله فلا يصح التعلق بظاهره.

ومتى قيل إنه إمام من بعد في بعض الأحوال فقد زالوا عن الظاهر، وليسوا بذلك أولى ممن يقول: إنه إمام في الوقت الذي ثبت أنه إمام فيه (1) هذا لو سلمنا أن المراد بالولي ما ذكروه فكيف وذلك غير ثابت لأنه تعالى بدأ بذكر نفسه ولا يصح إن يوصف تعالى بأنه ولينا بمعنى إمضاء الحدود والأحكام على الحد الذي يوصف به الإمام، بل لا يقال ذلك في الرسول (2) فلا بد من أن يكون محمولا على تولي النصرة في باب الدين، وذلك مما لا يختص بالإمامة ولذلك قال من بعد (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) فبين ما يحصل لمن يتولى الله من

____________

(1) غ " في الوقت الذي أقيم فيه ".

(2) غ " في الرسول صلى الله عليه وآله ".

الصفحة 234 

الغلبة والظفر، ذلك لا يليق إلا بتولي النصرة ولذلك ذكر في الآية الأولى الولي (1) وفي الآية الثانية التولي، وفصل بين الإضافتين ليبين أن المراد تولي النصرة في باب الدين، لأن ذلك هو الذي يقع فيه الاشتراك،... " (2).

يقال له: أما الذي يدل على اختصاصه بموجب الآية في الوقت الذي ثبت له عليه السلام الإمامة فيه عندنا فهو أن كل من أوجب بهذه الآية الإمامة على سبيل الاختصاص أوجبها بعد الرسول صلى الله عليه وآله بلا فصل، وليس يعتمد على ما حكاه من أن الظاهر إثبات الحكم في كل وقت ومن قال بذلك من أصحابنا فإنه ينصر هذه الطريقة بأن يقول:

الظاهر لا يقتضي الحال فقط، بل يقتضي جميع الأوقات التي الحال من جملتها، فإذا خرج بعضها بدليل بقي ما عداه ثابتا بالظاهر أيضا، ولم يسغ الزوال عنه، ويقول: إنني أخرجت الحال بدليل إجماع الأمة على أنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله إمام غيره ولا دليل يقتضي إخراج الحال التي تلي الوفاة بلا فصل، والمعتمد هو الأول.

فأما الجواب لمن قال: لستم بذلك أولى ممن يقول: إنه إمام في الوقت الذي تثبت عنده إمامته فيه، يعني بعد وفاة عثمان، فهو أيضا ما قدمناه لأنه لا أحد من الأمة يثبت الإمامة بهذه الآية لأمير المؤمنين عليه السلام بعد عثمان دون ما قبلها من الأحوال بل لا أحد يثبتها له عليه السلام بعد عثمان دون ما تقدم من الأحوال على وجه من الوجوه، وبدليل من الأدلة والقديم تعالى وإن لم يوصف بأنه ولينا بمعنى إقامة الحدود علينا، فهو

____________

(1) " الولي " ساقطة من " المغني ".

(2) المغني 20 ق 1 / 136.

الصفحة 235 

يوصف بذلك بمعنى أنه أملك بتدبيرنا وتصريفنا، وأن طاعته تجب علينا، وهذا المعنى هو الذي يجب للرسول والإمام، ويدخل تحته إمضاء الحدود والأحكام وغيرها، لأن إمضاءها جزء مما يجب طاعته فيه غير أن ما يجب لله تعالى لا يصح أن يقال: إنه مماثل لما يجب للرسول والإمام بالاطلاق، لأن ما يجب له عز وجل آكد مما يجب لهما من قبل أن ما يجب لهما راجع إلى وجوب ما وجب له عز وجل ولولا وجوبه لم يجب.

وقول صاحب الكتاب: (لا يقال ذلك في الرسول صلى الله عليه وآله) طريف لأنا لا نعلم مانعا من أن يقال ذلك في الرسول صلى الله عليه وآله وهو أحد ما يجب طاعته فيه، وكيف لا يقال، ونحن نعلم أن الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله خليفة له وقائم فيما كان يتولاه ويقوم به مقامة، وإذا كان إلى الإمام إقامة الحدود وإمضاء الأحكام، فلا بد أن يكونا إلى من هو خليفة له وقائم فيها مقامه.

وليس له أن يقول: إنما عنيت إن الرسول لا يوصف بإمضاء الحدود وإقامة الأحكام على الحد الذي يوصف به الإمام، ولم أرد أنه لا يوصف بهما أصلا، لأنه لا مانع من أن يوصفا جميعا بما ذكره على حد واحد من قبل أن المقتضي له فيهما واحد وهو فرض الطاعة وإن كانا يختلفان من حيث كان أحدهما نبيا والآخر إماما، وليس لاختلافهما من هذا الوجه مدخل فيما نحن فيه.

فأما حمله لفظة (ولي) على معنى التولي في الدين المذكور في الآية الثانية (1) فغير صحيح لأنه غير ممتنع أن يخبر تعالى بأنه ولينا ورسوله ومن

____________

(1) وهي قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) المائدة 56.

الصفحة 236 

عناه بـ (الذين آمنوا) ثم يوجب علينا في الآية الثانية توليهم ونصرتهم، ويخبرنا بما لنا فيهما من الفوز والظفر، وإذا لم يمتنع ما ذكرناه وكنا قد دللنا على وجوب تناول الآية الأولى لمعنى الإمامة فقد بطل كلامه.

قال صاحب الكتاب - بعد أن ذكر شيئا قد مضى الكلام عليه " وقد ذكر شيخنا أبو علي (1) أنه قيل -: إنها نزلت في جماعة من أصحاب النبي (2) صلى الله عليه وآله في حال كانوا فيها في الصلاة وفي الركوع فقال تعالى: (الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) في الحال ولم يعن أنهم يؤتون الزكاة في حال الركوع، بل أراد أن ذلك طريقتهم، وهم في الحال راكعون، وحمل الآية على هذا الوجه أشبه بالظاهر ويبين ذلك أن الغالب من حال أمير المؤمنين عليه السلام أن الذي دفعه إلى السائل ليس بزكاة لوجوه منها أن الزكاة لم تكن واجبة عليه على ما نعرف من غالب أمره في أيام النبي صلى الله عليه وآله ولأن دفع الخاتم بعيد أن يعد في الزكاة ولأن دفع الزكاة منه عليه السلام لا يقع إلا على وجه القصد عند وجوبه (3) وما فعله فالغالب منه أنه جرى على وجه الإنفاق (4) لما رأى السائل المحتاج، وأن غيره لم يواسه فواساه وهو في الصلاة فذلك بالتطوع أشبه، ولم نقل ذلك إلا نصرة للقول الذي حكيناه لا أنه يمتنع في الحقيقة أن يكون ذلك زكاة لماله،... " (5) ".

يقال له: ليس يجوز حمل الآية على ما تأولها شيخك أبو علي من

____________

(1) هو أبو علي الجبائي وقد جاء ذكره مرارا في هذا الكتاب.

(2) غ " من فضلاء أصحاب النبي صلى الله عليه " وآله.

(3) غ " وجوده ".

(4) على وجه الأنعام، خ ل.

(5) المغني 20 ق 1 / 137.

الصفحة 237 

جعله إيتاء الزكاة منفصلا من حال الركوع ولا بد على مقتضى اللسان واللغة من أن يكون الركوع حالا لإيتاء الزكاة والذي يدل على ذلك أن المفهوم من قول أحدنا الكريم المستحق للمدح الذي يجود بماله وهو ضاحك، وفلان يغشي إخوانه وهو راكب معنى الحال دون غيرها حتى أن قوله هذا يجري مجرى قوله: إنه يجود بما له في حال ضحكه ويغشي إخوانه في حال ركوبه، ويدل أيضا عليه أنا متى حملنا قوله تعالى: (يؤتون الزكاة وهم راكعون) على خلاف الحال، وجعلنا المراد بها أنهم يؤتون الزكاة ومن وصفهم أنهم راكعون من غير تعلق لأحد الأمرين بالآخر كنا حاملين الكلام على معنى التكرار لأنه أفاد تعالى بوصفه لهم بأنهم يقيمون الصلاة وصفهم بأنهم راكعون، لأن الصلاة مشتملة على الركوع وغيره، وإذا تأولناها على الوجه الذي اخترناه استفدنا بها معنى زائدا وزيادة الفائدة بكلام الحكيم أولى.

فإن قال: إنما قبح أن يحمل قولهم فيمن يريدون مدحه فلان يجود بماله وهو ضاحك على خلاف الحال من قبل أن وقوع الجود منه مع طلاقة الوجه يدل على طيب نفسه بالعطية، وهو أن المال لا يعظم في عينه فصار ذلك وجها تعظم معه العطية ويكثر المدح المستحق عليها، وليس الحال في الآية هذه لأنه لا مزية لإعطاء الزكاة في حال الركوع على إتيانها في غيرها، وليس وقوعها في تلك الحال يقتضي زيادة مدح أو ثواب ففارق حكمها حكم المال الذي أوردتموه.

قيل له: لو كانت العلة في وجوب حمل الكلام الذي حكيناه على الحال، وقبح حمله على خلافها ما ذكرته لوجب أن يحسن حمل قولهم:

فلان يغشي إخوانه وهو راكب، ولقيت زيدا وهو جالس، على خلاف

الصفحة 238 

الحال لمفارقته للمثال الأول في العلة حتى يفهم من قولهم أنه يغشي إخوانه، ومن صفته أنه راكب ولقيت زيدا ومن صفته أنه جالس من غير أن يكون حالا للغشيان والجلوس حالا للقاء، وإذا كان المفهوم خلاف هذا فقد بطل أن تكون العلة ما ذكرته، ووجب أن يكون الظاهر في كل الخطاب الوارد على هذه الصفة معنى الحال فأما قوله: " إن الزكاة لم تكن واجبة على أمير المؤمنين عليه السلام على ما يعرف من غالب أمره في تلك الحال " فظاهر البطلان لأنه غير واجب أولا حمل اللفظ على الزكاة الواجبة دون النافلة، ولفظ الزكاة لو كان إطلاقه مفيدا في الشرع للعطية الواجبة فغير ممتنع أن نحمله على النفل الذي يشهد بمعناه أصل اللغة، لأن الزكاة في اللغة النماء والطهارة، والواجب من الزكاة والنفل جميعا يدخلان تحت هذا الأصل، ويكون الموجب للانتقال عن ظاهر اللفظ لو كان له ظاهر علمنا بالخبر توجه الآية إلى من يستبعد وجوب الزكاة عليه.

وبعد، فإن الاستبعاد لوجوب الزكاة عليه لا معنى له، لأنه غير ممتنع وجوبها عليه في وقت من الأوقات بحصول أدنى مقادير النصاب الذي تجب في مثله الزكاة، وليس هذا من اليسار المستبعد فيه، لأن ملك مائتي درهم لا يسمى مؤسرا.

فأما دفع الخاتم فما نعلم من أي وجه استبعد أن يكون زكاة لأن حكم الخاتم حكم غيره وكل ما له قيمة وينتفع الفقراء بمثله جائز أن يخرج في الزكاة.

فأما القصد إلى العطية، فمما لا بد منه، وإنما الكلام في توجهه إلى الواجب أو النفل وليس في ظاهر فعله صلوات الله عليه ما يمنع من القصد إلى الواجب لأنه عليه السلام وإن لم يعلم بأن السائل يستحضر فيسأله لا

الصفحة 239 

يمتنع أن يكون أعد الخاتم للزكاة فلما حضر من يسأل اتفاقا تصدق به عليه، أو يكون عليه السلام يعده لذلك، فلما حضر السائل ولم يواسه أحد دفعه إليه ونوى الاحتساب به في الزكاة، وقد يفعل الناس هذا كثيرا فأي وجه لاستبعاده والقول بأنه بالتطوع أشبه؟.

فأما اعتذاره في آخر الكلام من إيراده وتضعيفه له فقد كان يجب أن لا يورد ما يحوج إلى الاعتذار والتنصل (1) فإن ترك إيراد ما يجري هذا المجرى أجمل من إيراده مع الاعتذار.

قال صاحب الكتاب: " وقد قال شيخنا أبو هاشم يجب أن يكون المراد بذلك الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة الواجبتين دون النقل الذي وجوده كعدمه في أنه يكون المؤمن مؤمنا معه، فلا بد من حمله على ما لولاه لم يكن مؤمنا، ولم يجب توليه لأنه جعله من صفات المؤمنين فيجب أن يحمل على ما لولاه لم يكن مؤمنا (ولا كان كذلك (2)) ". قال:

" والذي فعله أمير المؤمنين عليه السلام كان من النفل لأنه عليه السلام وغيره من جلة الصحابة (3) لم يكن عليهم زكاة، وإنما الذي وجب عليه زكاة عدد يسير وذلك يمنع من أن لا يراد بالآية سواه ".

قال: " ومثل هذا الجمع في لغة العرب لا يجوز أن يراد به الواحد وإنما يجوز ذلك في مواضع مخصوصة ".

قال: " والمقصد بالآية مدحهم فلا يجوز أن يحمل على ما لا يكون

____________

(1) التنصل: التبرء، يقال: تنصل من ذنبه أي تبرأ.

(2) التكملة من المغني.

(3) غ " عامة الصحابة ممن ".

الصفحة 240 

مدحا وإيتاء الزكاة في الصلاة مما ينقض (1) أجر المصلي لأنه عمل في الصلاة، فيجب أن يحمل على ما ذكرناه من أنه أداء الواجب، ومما يبين صحة هذا الوجه أنه أجرى الكلام على طريق الاستقبال لأن قوله: (الذين يقيمون الصلاة) لا يدخل تحته الماضي من الفعل فالمراد الذين يتمسكون بذلك على الدوام ويقومون به، ولو كان المراد به أن يزكوا في حال الركوع لوجب أن يكون ذلك طريقة لفضل الزكاة في الصلاة وأن يقصد إليه حالا بعد حال، فلما بطل ذلك علم أنه لم يرد به هذا المعنى، وأنه أريد به الذين يقيمون الصلاة في المستقبل، ويدومون عليها، ويؤتون الزكاة وهم في الحال متمسكون بالركوع وبالصلاة فجمع لهم بين الأمرين، أو يكون المراد بذكر الركوع الخضوع على ما قدمنا ذكره لأن الركوع والسجود قد يراد بهما هذا المعنى.

وقد أنشد (2) أبو مسلم (3) لما ذكر هذا الوجه ما يدل عليه، وهو قول الأضبط بن قريع (4):

____________

(1) في المغني بالصاد المهملة والمعنى متقارب.

(2) غ " وقد استدل ".

(3) أبو مسلم: هو محمد بن علي بن محمد الإصبهاني النحوي المفسر صنف تفسيرا كبيرا في عشرين مجلدا قال الداوودي في طبقات المفسرين " وكان عارفا بالنحو غاليا في الاعتزال " ولد سنة 366 ومات سنة 366 (طبقات المفسرين 2 / 211).

(4) الأضبط بن قريع السعدي هو أخو جعفر بن الأضبط المعروف بأنف الناقة، وكان الأضبط قد أساء قومه مجاورته فانتقل عنهم إلى آخرين فكانوا كذلك فقال المثل المشهور: " بكل واد سعد " وفي رواية: " أينما أوجه ألق سعدا "، أما البيت في المتن فمن أبيات له رواها ابن قتيبة في الشعر والشعراء 1 / 242 وفي روايته " لا تهين الفقير " والبيت من شواهد النحو، استشهد به النحاة على أن نون التوكيد تحذف لالتقاء الساكنين، والأصل " لا تهينن " فحذفت النون وبقيت الفتحة دليلا عليها لأنها مع المفرد المذكر.

الصفحة 241 

 

لا تحقرن الفقير علك أن        تركع يوما والدهر قد رفعه

 

وقال والذين وصفهم في هذا الموضع بالركوع والخضوع هم الذين وصفهم (1) من قبل بأنه يبدل المرتدين بهم (2) بقوله: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين) وأراد به طريقة التواضع (أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (3) وكل ذلك يبين أن المراد بالآية الموالاة في الدين لأنه قد قيل فكأنه قال: إنما الذي ينصركم ويدفع عنكم لدينكم هو الله ورسوله والذين آمنوا.

وقد روي أنها نزلت في عبادة بن الصامت (4) لأنه كان قد دخل في حلف اليهود ثم تبرأ منهم ومن ولايتهم، وفزع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قال فأنزل الله تعالى هذه الآية مقوية لقلوب من دخل في الإيمان، ومبينا له أن ناصره هو الله ورسوله والمؤمنون،... " (5).

____________

(1) غ " هو الذي وصف ".

(2) غ " منهم ".

(3) المائدة 54. وهذه الآية من الآيات النازلة في علي عليه السلام وإن كاد بعضهم أن يزحزح سبب نزولها فيه بأقوال لا تقوم أمام الأدلة الواضحة، والشواهد المؤيدة لذلك قال الرازي في تفسيره 12 / 20: " أنها نزلت في علي، ويدل عليه وجهان، الأول: أنه صلى الله عليه وسلم لما دفع الراية إلى علي عليه السلام يوم خيبر قال: (لأدفعن الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) وهذه هي الصفة المذكورة في الآية، والوجه الثاني أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) وهذه الآية في حق علي فكان الأولى جعل ما قبلها أيضا في حقه (وانظر تفسير النيسابوري هامش تفسير الطبري 6 / 143).

(4) عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي صحابي كبير شهد العقبة وبدرا وسائر المشاهد بعدها توفي بالرملة وقيل بالقدس سنة 38 هـ.

(5) المغني 20 ق 1 / 138.

 

 

 

الصفحة 242 

يقال له: ليس الأمر على ما ظنه أبو هاشم من أن الآية تقتضي الصلاة والزكاة الواجبتين دون ما كان متنفلا به لأنها لم تخرج مخرج الصفة لما يكون به المؤمن مؤمنا وإنما وصف الله تعالى من أخبر بأنه ولينا بالائتمام وبإقامة الصلاة وبإيتاء الزكاة ولا مانع من أن يكون في جملة من الصفات ما لو انتفى لم يكن مخلا بالإيمان، وإنما كان يجب ما ظنه أن لو قال: إنما المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، فأما إذا كانت الآية خارجة خلاف هذا المخرج فلا وجه لما قاله ولا شبهة في أنه كان يحسن أن يصرح تعالى بأن يقول: (إنما وليكم) بعد ذكر نفسه تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله (الذين آمنوا) الذين يتطوعون بفعل الخيرات ويتنفلون بضروب القرب ويفعلون كذا وكذا مما لا يخرج المؤمن بانتفائه عنه من أن يكون مؤمنا هذا إذا سلمنا ما يريده من أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة الواجبتين من شرائط الإيمان، ومما لا يكون المؤمن مؤمنا إلا معه والصحيح عندنا خلافه، وليس يمكن أن يدعى أن لفظ الصلاة في الشرع يفهم من ظاهره الصلاة الواجبة دون النفل، وليس ادعاء ذلك في الصلاة بجار مجرى ادعائه في الزكاة لأنا نعلم من عرف أهل الشرع جميعا أنهم يستعملون لفظ الصلاة في الواجب والنفل على حد واحد حتى أن أحدهم لو قال: رأيت فلأنا يصلي ومررت بفلان وهو في الصلاة لم يفهم من قوله الصلاة الواجبة دون غيرها، على أنا قد بينا قبيل هذا الفصل أن الذي فعله أمير المؤمنين عليه السلام ليس بمنكر أن يكون واجبا، وأن المستبعد فيه وفيمن علمنا من حاله ما علمناه من حاله عليه السلام استمرار وجوب الزكاة في الأحوال ووجوب المقادير منها التي يعدها الناس يسارا فأما وجودا قبل مقاديرها في بعض الأحوال فغير مستنكر ولا مناف للمعلوم والعدد اليسير الذي أشار إليهم وإخراج أمير المؤمنين عليه السلام من جملتهم هم

الصفحة 243 

الموصوفون باليسار وكثرة المال واتساعه ومن وجبت عليه زكاة ما في بعض الأوقات لا يجب دخوله في جملتهم، فبطل قول أبي هاشم إن الذي ذكره يمنع من أن لا يراد بالآية سواه لبطلان ما جعل قوله الذي حكيناه ثمرة له، ونتيجة على أن الذي يمنع من أن يراد بها سواه عليه السلام قد قدمناه وبيناه.

فأما التعلق بلفظ الجمع فقد مضى الكلام فيه.

وأما تعلقه بالعمل في الصلاة فيسقط من وجهين: أحدهما، أنه لا دليل على وقوع فعله عليه السلام على وجه يكون قاطعا للصلاة بل جائز أن يكون عليه السلام أشار إلى السائل بيده إشارة خفيفة لا تقطع منها الصلاة فهم منها أنه يريد التصدق عليه، فأخذ الخاتم من إصبعه، وقد أجمعت الأمة على أن يسير العمل في الصلاة لا يقطعها. والوجه الآخر أنه غير واجب للقطع على أن جميع الأفعال في الصلاة كانت محظورة في تلك الحال.

وقد قيل: إن الكلام فيها كان مباحا ثم تجدد حظره من بعد، فلا ينكر أن يكون هذه أيضا حال بعض الأفعال، والذي يبين ما ذكرناه، ويوجب علينا القطع على أن فعله عليه السلام لم يكن قاطعا للصلاة ولا ناقضا من حدودها ما علمنا من توجه مدح الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله إليه بذلك الفعل المخصوص.

وقوله: " فيجب أن يحمل على ما ذكرناه من أنه أداء الواجب " إن أراد به أداءه في الصلاة فهو الذي أنكره وعده قطعا لها، وإن أراد أداءه على طريق الانفصال من الصلاة فقد مضى أن الكلام يقتضي إيتاء الزكاة في حال الركوع، والتعلق بلفظ الاستقبال قد مضى أيضا ما فيه، وكذلك

الصفحة 244 

كون الركوع جهة وطريقة لفضل الزكاة، لأنا قد بينا أن الآية لا تقتضي كون الركوع جهة وطريقة لفضل الزكاة والصلاة حتى يجب للقصد إلى فعل أمثالها.

وقلنا: إن الخطاب أفاد الوصف لمن عني بلفظ (الذين آمنوا) والتمييز له عن سواء فكأنه تعالى قال: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) الذين يصلون ويؤتون الزكاة في حال ركوعهم ليتميز المذكور الأول مع أن فعله عليه السلام لا بد أن يكون واقعا على نهاية القربة لما حصل عليه من المدح، ويشبه ما تأولنا عليه الآية قول أحد ملوكنا مقبلا على أصحابه: أفضلكم عندي وأكرمكم لدي من نصرني في غرة شهر كذا، وهو راكب فرسا من صفته كذا، وأشار إلى فعل مخصوص وقع من بعض أصحابه على وجه ارتضاه وعظمت منزلته به عنده، ونحن نعلم أن قوله لا يقتضي أن لغرة الشهر والأوصاف التي وصف ناصره بها تأثيرا في قوة نصرته حتى يكون ذلك جهة وطريقة يقصد إليها من أراد نصرته، وقد تقدم أن حقيقة الركوع ما ذكرناه، وأنه يستعمل في الخضوع وما يجري مجراه على سبيل المجاز، والبيت الذي أنشده مما يجوز فيه شاعر، والمجاز لا يقاس عليه.

فأما قوله: حاكيا عن أبي مسلم بن بحر: " أن الذين وصفهم في هذا الموضع بالركوع والخضوع هم الذين وصفهم من قبل بأنه يبدل المرتدين بهم " فغير صحيح لأنه غير منكر (1) أن يكون الموصوف بإحدى الآيتين غير الموصوف بالآية الأخرى حتى تكون الآية التي دللنا على اختصاصها بأمير المؤمنين عليه السلام على ما حكمناه به من خصوصها، والآية الأولى عامة

____________

(1) غير ممتنع، خ ل.

الصفحة 245 

في جماعة من المؤمنين، وليس يمنع من ذلك نسق الكلام وقرب كل واحدة من الآيتين من صاحبها لأن تقارب آيات كثيرة من القرآن مع اختلاف القصص والمعاني والأحكام معلوم ظاهر، وهو أكثر من أن يذكر له شاهدا.

وإذا كنا قد دللنا على أن لفظة قوله تعالى: (إنما وليكم الله) يدل على اختصاص أمير المؤمنين عليه السلام بالآية فليس يسوغ أن يترك ما تقتضيه الدلالة لما يظن أن نسق الكلام وقرب بعضه من بعض يقتضيه، على أنه لا مانع لنا من أن نجعل الآية الأولى متوجهة إلى أمير المؤمنين عليه السلام ومختصة به أيضا لأنا قد بينا أن لفظ الجمع قد يستعمل في الواحد بالعرف فليس لمتعلق أن يتعلق بلفظ الآية في دفع اختصاصها به عليه السلام ومما يقوي هذا التأويل أن الله تعالى وصف من عناه بالآية بأوصاف وجدنا أمير المؤمنين عليه السلام مستكملا لها بالاجماع، لأنه تعالى قال:

(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) (1) وقد شهد النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام بما يوافق لفظ الآية في الخبر الذي لا يختلف فيه اثنان حين قال صلى الله عليه وآله وقد ندبه لفتح خيبر بعد فرار من فر عنها واحدا بعد آخر:

" لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه " (2) فدفعها إلى أمير المؤمنين عليه السلام

____________

(1) المائدة 54.

(2) حديث الراية رواه عامة علماء الحديث والسير نذكر منهم البخاري ج 4 / 12 في كتاب الجهاد والسير، باب ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وسلم وفي باب فضل من أسلم على يديه وص 20 و ج 4 / 207 في كتاب بدأ الخلق باب مناقب علي بن أبي طالب و ج 5 / 76 كتاب المغازي باب غزوة خيبر ومسلم ج 7 / 121 و 122 في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب و ج 5 / 195 في كتاب الجهاد والسير في باب غزوة ذي قرد وغيرها.، والترمذي ج 2 / 300 والإمام أحمد في المسند ج 1 / 99 و 320 و ج 2 / 382. و ج 4 / 51 و ج 5 / 353، والنسائي ص 5 وفي مواضع أخرى من خصائص أمير المؤمنين الخ.

الصفحة 246 

فكان من ظفره وفتحه ما وافق خبر الرسول صلى الله عليه وآله ثم قال تعالى: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) فوصف من عناه بالتواضع للمؤمنين والرفق بهم والعزيز على الكافرين هو الممتنع من أن ينالوه مع شدة نكايته فيهم ووطأته عليهم، وهذه أوصاف أمير المؤمنين عليه السلام لا يدانى فيها ولا يقارب ثم قال: (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) فوصف جل اسمه من عناه بقوة الجهاد، وبما يقتضي الغاية فيه.

وقد علمنا أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله بين رجلين رجل لا غناء له في الحرب ولا جهاد، وآخر له جهاد وغناء، ونحن نعلم قصور كل مجاهد عن منزلة أمير المؤمنين في الجهاد، وأنهم مع علو منزلتهم في الشجاعة وصدق البأس لا يلحقون منزلته، ولا يقاربون رتبته، لأنه عليه السلام المعروف بتفريج الغم، وكشف الكرب عن وجه الرسول صلى الله عليه وآله وهو الذي لم يحجم قط عن قرن، ولا نكص عن هول، ولا ولى الدبر، وهذه حال لم يسلم لأحد قبله ولا بعده وكان عليه السلام للاختصاص بالآية أولى لمطابقة أوصافه لمعناها وقد ادعى قوم من أهل الغباوة والعناد أن قوله تعالى: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) المراد به أبو بكر من حيث قاتل أهل الردة.

ولسنا نعرف قولا أبعد من الصواب من هذا القول، حتى أنه ليكاد أن يعلم بطلانه ضرورة لأن الله تعالى إذا كان قد وصف من أراده بالآية

الصفحة 247 

بالعزة على الكافرين، وبالجهاد في سبيله مع اطراح خوف اللوم كيف يجوز أن يظن عاقل توجه الآية إلى من لم يكن له حظ من ذلك الوصف لأن المعلوم أن أبا بكر لم يكن له نكاية في المشركين، ولا قتيل في الاسلام ولا وقف في شئ من حروب النبي صلى الله عليه وآله موقف أهل البأس والعناء، بل كان الفرار سنته والهرب ديدنه، وقد انهزم عن النبي صلى الله عليه وآله في جملة المنهزمين في مقام بعد مقام، وكيف يوصف بالجهاد في سبيل الله على الوجه المذكور في الآية من لا جهاد له جملة، وهل العدول بالآية عن أمير المؤمنين عليه السلام مع العلم الحاصل لكل أحد بموافقة أوصافه بها إلى أبي بكر إلا عصبية ظاهرة، وانحراف شديد.

وقد روي نزولها في قتال أمير المؤمنين عليه السلام أهل البصرة عنه عليه السلام نفسه، وعن عبد الله بن عباس وعمار بن ياسر رضي الله عنهما وإذا عضد ما ذكرناه من مقتضى الآية الرواية زالت الشبهة، وقويت الحجة على أن صاحب الكتاب قد وهم في الحكاية عن أبي مسلم، وحكى عنه ما لم يقله ولا يقتضيه صريح قوله ولا معناه، لأن الذي قاله أبو مسلم بعد إنشاد البيت: " والذي وصفهم به من الركوع في هذا المعنى هو الذي وصف به من أوعد المرتدين بالإتيان بهم بدلا منهم من الذلة على المؤمنين، والعزة على الكافرين " هذه ألفاظه بعينها في كتابه في تفسير القرآن وهي بخلاف حكاية صاحب الكتاب لأن أبا مسلم جعل الوصف في الآيتين واحدا، ولم يقل أن الموصوف واحد وصاحب الكتاب حكى عنه أن الموصوفين بالآية الأولى هم الموصوفون بالآية الأخرى، وهذا تحريف ظاهر لأنه غير ممتنع أن يكون الوصف واحدا والموصوف يختلف ولم يحقق حكايته هذا الضرب من التحقيق لأن أبا مسلم لو ادعى ما حكاه عنه كانت دعواه حجة، بل أردنا أن نبين عن وهم صاحب الكتاب في الحكاية، والذي

الصفحة 248 

تقدم من كلامنا مبطل للدعوى التي ذكرها في الآية سواء كان أبو مسلم مدعيا أو غيره.

فأما قوله: " وقد روى أنها نزلت في عبادة بن الصامت " فباطل وليس يقابل ما ادعاه من الرواية ما روي من نزولها في أمير المؤمنين عليه السلام لأن تلك رواية أطبق على نقلها جماعة أصحاب الحديث من الخاصة والعامة وما ادعاه أحسن أحواله أن يكون مسندا إلى واحد معروف بالتحايل والعصبية، ولا يوجد له موافق من الرواة ولا متابع، على أن مفهوم الآية ممتنع مما ذكره، لأنا قد دللنا على اقتضائها فيمن وصف بها معنى الإمامة، فليس يجوز أن يكون المعني بها عبادة بعينه للاتفاق على أنه لا إمامة له في حال من الأحوال، ولا يجوز أيضا أن يكون نزلت بسببه الذي ذكره لأن الآية يصح خروجها على سبب لا يطابقها وإن جاز مع مطابقته أن يتعدى إلى غيره وقد بينا أن المراد بها لا يجوز أن يكون ولاية الدين والنصرة لدخول لفظة " إنما " المقتضية للتخصيص فلم يبق فيما ذكرناه شبهة.

قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر، ربما تعلقوا بقوله تعالى:

(وأن تظاهرا عليه فإن الله هو موليه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) (1) ويقولون المراد بصالح المؤمنين هو أمير المؤمنين علي

____________

(1) التحريم 4 والنصوص في أن المراد بصالح المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كثيرة، قال السيوطي في اللؤلؤ المنثور 6 / 244 في تفسير هذه الآية: " أخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (وصالح المؤمنين علي بن أبي طالب) وقال: وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس في قوله (وصالح المؤمنين) قال هو علي بن أبي طالب، وأخرجه العسقلاني في فتح الباري 13 / 27 عن مجاهد ومحمد بن علي وجعفر بن محمد (عليهما السلام) والهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 194 عن زيد بن أرقم ومثله في الصواعق ص 198 وقال ابن حجر " ورد موقوفا ومرفوعا أن صالح المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه " وفيه " لما أصيب الحسين بن علي رضي الله عنه قام زيد بن أرقم على باب المسجد فقال: أفعلتموها أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(اللهم إني أستودعكهما وصالح المؤمنين).

الصفحة 249 

عليه السلام وقد جعله الله تعالى مولى للرسول صلى الله عليه وآله ولا يجوز أن يخصه بذلك إلا لأمر يختص (1) به دون سائر المؤمنين وذلك الأمر ليس إلا طريقة الإمامة " (2).

ثم أورد كلاما كثيرا أبطل به دلالة هذه الآية على النص والذي نقوله إن الآية التي تلاها لا تدل عندنا على النص على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة ولا اعتمدها أحد من شيوخنا في هذا الموضع وكيف يصح اعتمادها في النص من حيث تتعلق بلفظة " مولاه " ونحن نعلم إن هذه اللفظة لو اقتضت النص بالإمامة لوجب أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام إماما للرسول صلى الله عليه وآله لأن المكنى عنه بالهاء التي في لفظة " مولاه " هو الرسول صلى الله عليه وآله ولو اقتصر صاحب الكتاب في إبطال دلالة الآية على النص على ما ذكرناه لكفاه ولاستغنى عن غيره.

وإنما يعتمد أصحابنا هذه الطريقة من الآية في الدلالة على فضل أمير المؤمنين عليه السلام وتقدمه وعلو رتبته، فإن جعل لها تعلق بالنص على الإمامة من حيث دلت على الفضل المعتبر فيها وكان الإمام لا يكون إلا الأفضل جاز وذلك لا يخرجها من أن يكون غير دالة بنفسها على الإمامة، بل يكون حكمها في الدلالة على الفضل حكم غيرها من الأدلة

____________

(1) يختصه خ ل.

(2) المغني 20 ق 1 / 139.

الصفحة 250 

عليه وهي كثيرة، وربما استدل أصحابنا بهذه الآية على سوء طريقة المرأتين اللتين توجه العتب إليهما، واللوم في الآية ويذكرون في السر الذي أفشته إحداهما إلى صاحبتها خلاف ما يذكره المخالفون، والطريقة لنصرة هذا الوجه معروفة ولولا أن الموضع لا يقتضيها لبسطناها ضربا من البسط.

فأما وجه دلالة الآية على الفضل والتقدم فواضح، لأنه قد ثبت بالخبر الذي اشتركت في روايته رواة الخاصة والعامة أن صالح المؤمنين المذكور في الآية هو أمير المؤمنين عليه السلام وليس يجوز أن يخبر الله تعالى أنه ناصر رسوله إذا وقع التظاهر عليه بعد ذكر نفسه تعالى وذكر جبرئيل عليه السلام إلا من كان أقوى الخلق نصرة لنبيه صلى الله عليه وآله وأمنعهم جانبا في الدفاع عنه، ولا يحسن ولا يليق بموضوع الكلام ذكر الضعيف النصرة، والمتوسط فيها ألا ترى أن أحد الملوك لو تهدد بعض أعدائه ممن ينازعه سلطانه ويطلب مكانه، فقال: لا تطمعوا في ولا تحدثوا نفوسكم بمغالبتي، فإن معي من أنصاري فلانا وفلانا، فإنه لا يحسن أن يدخل في كلامه إلا من هو الغاية في النصرة، والمشهور بالشجاعة، وحسن المدافعة.

فأما ما حكاه عن أبي مسلم من أن المراد بصالح المؤمنين الجميع وسقطت الواو كما سقطت من قوله: (يوم يدع الداع إلى شئ نكر) (1) فما قاله جائز غير ممتنع وجائز أيضا أن يريد بصالح المؤمنين الجميع، وإن كان أتى بلفظ الواحد، غير أن العمل بالرواية يمنع من حمل الآية على الجميع.

فأما حكايته عن أبي هاشم قوله: " إن الآية لا تليق إلا بالجمع لأنه

____________

(1) القمر 6.

الصفحة 251 

تعالى بين لهم حال الرسول بنصرة الغير ومظاهرته، فلا بد من أن يذكر الجمع فيه " فتوهم منه طريف لأن المخصوص بالذكر إذا كان أعظم شأنا في النصرة وأظهر حالا في الغناء (1) وصدق اللقاء كان تخصيصه أولى بالحال من ذكر الجميع الذين ليست لهم هذه المنزلة، فكان ذكر الأفضل في النصرة والأشهر بها أليق بمثل هذا الكلام.

قال صاحب الكتاب: " وربما تعلقوا بهذه الآية من وجه آخر بأن يقولوا يدل على أنه الأفضل لتخصيصه بالذكر (2) ولأنه جعل صالح المؤمنين وهو بمعنى الأصلح من جماعتهم، فإذا كان الأفضل أحق بالإمامة فيجب أن يكون إماما ".

قال: " ونحن نبين من بعد أن الأفضل ليس بأولى بالإمامة وأنه (3) لا يمتنع العدول عنه إلى غيره، وبعد فإن قوله: (وصالح المؤمنين) لا يدل على أنه أصلحهم وأفضلهم وإنما يدل على أنه صالح، وأنه ظاهر الصلاح، فهو بمنزلة قول القائل: فلان شجاع القوم إذا ظهرت شجاعته فيهم، وإن لم يكن بأشجعهم، فلا اللغة تقتضي ذلك ولا التعارف، وإن كنا قد بينا أن تسليم ذلك لا يوجب ما قالوه، وبينا أن الآية لا تدل على أنه المراد به دون غيره ولا الروايات المروية في ذلك متواترة فيقطع بها،... " (4).

يقال له: أما التخصيص بالذكر فيفيد ما قدمناه من التقدم في

____________

(1) الغناء - بفتح -: إذا كان بالمعجمة فهو الدفع والمنع، وإذا كان بالمهملة فهو التعب.

(2) غ " لتخصيصه بالولي ".

(3) غ " مع أنه لا يمتنع ".

(4) المغني 20 ق 1 / 141.

الصفحة 252 

النصرة لكل أحد، ولم نرك أبطلت ذلك بشئ، وإنما تكلمت على الأصلح والظاهر من قوله تعالى (وصالح المؤمنين) يقتضي كونه أصلح من جميعهم بدلالة العرف والاستعمال، لأن أحدنا إذا قال: فلان عالم قومه، وزاهد أهل بلده، لم يفهم من كلامه إلا كونه أعلمهم وأزهدهم، ويشهد أيضا بصحة قولنا أيضا ما روي عن أبي عمرو بن العلاء (1) من قوله: كان أوس بن حجر (2) شاعر مضر حتى نشأ النابغة وزهير فطأطئا منه، فهو شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع وإنما أراد بلفظة شاعر أشعر لا غير.

فأما ما ذكره من قولهم: فلان شجاع القوم فهو جار مجرى ما ذكرناه، لأنه لا يفهم منه إلا أنه أشجعهم ألا يعلم أنه لا يقال في كل واحد من القوم إذا ظهرت منه شجاعة ما: أنه شجاع القوم، وقد دللنا على أن الأفضل أحق بالإمامة، وإنها لا تجوز للمفضول فيما تقدم،

____________

(1) أبو عمرو بن العلاء زبان بن عمار التميمي من أئمة الأدب واللغة وهو أحد القراء السبعة ولد بمكة ونشأ بالبصرة ومات بالكوفة سنة 157 وكلامه هذا نقله العباسي في معاهد التنصيص ج 1 / 33 وفيه " أسقطه " بدل " طأطأ منه ". ونقل قولا للأصمعي " كان أوس أشعر من زهير ولكن النابغة طأطأ منه ".

(2) أوس بن حجر: هو أوس بن مالك بن حزن التميمي من فحول شعراء الجاهلية وكان من حديثه أنه كان في سفر له فمر ليلا بأرض بني أسد فصرعته ناقته، فاندقت فخذه، فمرت به جواري الحي عند الصباح فأبصرنه ملقى ففزعن منه وكانت معهن حليمة بنت فضالة بن كلدة - وكانت أصغرهن - فدعاها فقال لها: من أنت؟

قلت حليمة بنت فضالة بن كلدة فأعطاها حجرا، وقال: اذهبي إلى أبيك فقولي:

ابن هذا يقرؤك السلام، فبلغت أباها ذلك، فقال: لقد أتيت أباك بمدح طويل أو هجاء طويل، ثم تحمل إليه بعياله وضرب عليه بيتا وقال: لن أتحول أبدا حتى تبرأ، وعالجه وكانت حليمة تمرضه حتى برأ فمدح فضالة بشعره ورثاه بعد موته فلعله من هذه القصة سمي ابن حجر.

الصفحة 253 

والرواية الواردة بنزول الآية في أمير المؤمنين عليه السلام وإن لم تكن متواترة فهي مما ظهر نقله بين أصحاب الحديث خاصتهم وعامتهم، وما له هذا الحكم من الرواية يجب قبوله، على أن الشيعة مجمعة على توجه الآية إلى أمير المؤمنين عليه السلام واختصاصه بها وإجماعهم حجة.

قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر، وربما تعلقوا بآية المباهلة (1) وأنها لما نزلت جمع النبي صلى الله عليه وآله عليا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وأن ذلك يدل على أنه الأفضل، وذلك يقتضي أنه بالإمامة أحق، ولا بد من أن يكون هو المراد بقوله (وأنفسنا وأنفسكم) لأنه عليه السلام لا يدخل تحت قوله تعالى: (ندع أبناءنا وأبناءكم ونسائنا ونساءكم) (2) فيجب أن يكون داخلا تحت قوله: (وأنفسنا وأنفسكم) ولا يجوز أن يجعله من نفسه إلا وهو يتلوه في الفضل ".

قال: " وهذا مثل الأول في أنه كلام في التفضيل، ونحن نبين أن الإمامة قد تكون فيمن ليس بأفضل، وفي شيوخنا من ذكر عن أصحاب الآثار أن عليا عليه السلام لم يكن في المباهلة، قال شيخنا أبو هاشم:

" إنما خصص (3) صلى الله عليه وآله من تقرب منه في النسب ولم يقصد الإبانة عن الفضل ودل على ذلك بأنه عليه السلام أدخل فيها الحسن والحسين عليهما السلام مع صغرهما لما اختصا به من قرب النسب وقوله:

(وأنفسنا وأنفسكم) يدل على هذا المعنى لأنه أراد قرب القرابة كما يقال في الرجل يقرب في النسب من القوم: إنه من أنفسهم ولا ينكر أن يدل ذلك على لطف محله من رسول الله صلى الله عليه وآله، وشدة محبته له

____________

(1) غ " آيات المباهلة ".

(2) آل عمران 61.

(3) غ " الأخص ".

الصفحة 254 

وفضله، وإنما أنكرنا (1) أن يدل ذلك على أنه الأفضل أو على الإمامة،... " (2).

يقال له: لا شبهة في دلالة آية المباهلة على فضل من دعي إليها وجعل حضوره حجة على المخالفين، واقتضائها تقدمه على غيره، لأن النبي صلى الله عليه وآله لا يجوز أن يدعو إلى ذلك المقام ليكون حجة فيه إلا من هو في غاية الفضل وعلو المنزلة، وقد تظاهرت الرواية بحديث المباهلة وأن النبي صلى الله عليه وآله دعا إليها أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وأجمع أهل النقل وأهل التفسير على ذلك.

ولسنا نعلم إلى أي أصحاب الآثار أشار بدفع أمير المؤمنين عليه السلام في المباهلة وما نظن أحدا يستحسن مثل هذه الدعوى، ونحن نعلم أن قوله: (أنفسنا وأنفسكم) لا يجوز أن يعني بالمدعو فيه النبي صلى الله عليه وآله لأنه هو الداعي، ولا يجوز أن يدعو الانسان نفسه، وإنما يصح أن يدعو غيره، كما لا يجوز أن يأمر نفسه وينهاها، وإذا كان قوله تعالى: (وأنفسنا وأنفسكم) لا بد أن يكون إشارة إلى غير الرسول صلى الله عليه وآله وجب أن يكون إشارة إلى أمير المؤمنين عليه السلام لأنه لا أحد يدعي دخول غير أمير المؤمنين وغير زوجته وولديه عليهم السلام في المباهلة، وما نظن من حكى عنه دفع دخول أمير المؤمنين عليه السلام فيها يقدم على أن يجعل مكان أمير المؤمنين غيره، وهذا الضرب من الاستدلال كالمستغني عن تكلف إطباق أهل الحديث كافة على دخول

____________

(1) أي وأنكرنا أن يدل ذلك على الإمامة.

(2) المغني 20 ق 1 / 142.

الصفحة 255 

أمير المؤمنين عليه السلام في المباهلة (1)، وإنما أوردناه استظهارا في الحجة.

وأما ما حكاه عن أبي هاشم من أن القصد لم يكن إلى الإبانة عن الفضل وإنما قصد إلى إحضار من يقرب منه في النسب، فظاهر البطلان لأن القصد لو كان إلى ما ادعاه لوجب أن يدعو العباس وولده، وعقيلا إذ كان إسلام العباس وعقيل وانضمامهما إلى الرسول صلى الله عليه وآله متقدما لقصة المباهلة بزمان طويل لأن المباهلة كانت في سنة عشرة من الهجرة، لما وفد السيد والعاقب فيمن كان معهما من أساقفة نجران على النبي صلى الله عليه وآله وبين هذه الحال وبين حصول العباس وعقيل مع النبي مدة فسيحة، وفي تخصيص النبي صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين بالحضور دون من عداه ممن يجري مجراه في القرابة دليل على ما ذكرناه.

فأما تعلقه بدخول الحسن والحسين عليهما السلام فيها من صغر سنهما فمعلوم أن صغر السن ونقصانها عن حد بلوغ الحلم لا ينافي كمال العقل وإنما جعل بلوغ الحلم حدا لتعلق الأحكام الشرعية، وقد كان سنهما عليهما السلام في تلك الحال سنا لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقول لأن سن الحسن عليه السلام كان في قصة المباهلة يزيد على سبع سنين بعدة شهور وسن الحسين عليه السلام يقارب السبعة، على أن من مذهبنا أن الله تعالى يخرق العادات للأئمة ويخصهم بما ليس لغيرهم، فلو صح أن كمال العقل مع صغر السن ليس بمعتاد لجاز فيهم عليهم السلام على سبيل خرق العادة، وليس يجوز أن يكون المعنى في قوله تعالى:

____________

(1) أنظر تفسير الطبري 3 / 212 و 213 ومعالم التنزيل للبغوي 2 / 150 والدر المنثور للسيوطي 2 / 39 والترمذي 2 / 166 و 300 ومسند أحمد 1 / 185 ومستدرك الحاكم 3 / 150. الخ.

الصفحة 256 

(وأنفسنا وأنفسكم) قرب القرابة حسب ما ظن بل لا بد أن تكون هذه الإضافة مقتضية للتخصيص والتفضيل.

وقد عضد هذا القول من أقوال الرسول صلى الله عليه وآله في مقامات كثيرة بمشهد من أصحابه ما يشهد بصحة قولنا فمن ذلك ما تظاهرت به الرواية من أنه صلى الله عليه وآله سئل عن بعض أصحابه فقال له قائل: فعلي؟ فقال: " إنما سألتني عن الناس ولم تسألني عن نفسي " (1).

وقوله: صلى الله عليه وآله لبريدة الأسلمي: " يا بريدة لا تبغض عليا فإنه مني وأنا منه، إن الناس خلقوا من شجر شتى وخلقت أنا وعلي من شجرة واحدة " (2).

وقوله صلى الله عليه وآله يوم أحد وقد ظهرت من وقاية أمير المؤمنين عليه السلام له بنفسه ونكايته في المشركين وفضه لجمع منهم بعد الجمع ما

____________

(1) في كنز العمال 6 / 400 أن السائل عمرو بن العاص وهناك روايات عدة فيها تصريح من رسول الله صلى الله عليه وآله أن عليا نفسه مثل قوله صلى الله عليه وآله (لتنتهن يا بني وليعة أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي) أو قال: (عديل نفسي) قال عمر بن الخطاب (رض): فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ قاتلعت صدري رجاء أن هذا، فأشار إلى علي بن أبي طالب (وانظر خصائص النسائي ص 15، ومجمع الزوائد 7 / 110 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد م 1 / 97) وفوق ذلك ما شهد به القرآن الكريم (وأنفسنا وأنفسكم).

(2) أخرجه - باختلاف يسير على ما في المتن - أحمد في المسند 5 / 356، والنسائي في الخصائص ص 23 والهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 127 و 128 وقال:

أخرجه أحمد والبزاز، والحاكم في المستدرك 2 / 241 والذهبي في تلخيصه، وفي ميزان الاعتدال 1 / 462، الخ.

الصفحة 257 

ظهر هذا بعد انهزام الناس وانفلالهم (1) وإسلامهم للرسول صلى الله عليه وآله حتى قال جبرئيل عليه السلام: " يا محمد إن هذه لهي المواساة " فقال صلى الله عليه وآله (يا جبرئيل إنه مني وأنا منه) فقال جبرئيل " وأنا منكما " (2) ولا شبهة في أن الإضافة فيما ذكرناه من الأخبار إنما تقتضي التفضيل والتعظيم والاختصاص دون القرابة.

قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر، واستدل بعضهم بقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (3) وذكر أن إيجابه تعالى طاعته لا يكون إلا وهو منصوص عليه معصوم لا يجوز عليه الخطأ، وثبوت ذلك يقتضي أنه أمير المؤمنين لأنه قول بعد ما ذكرناه إلا ذلك،... " (4).

ثم شرع في إفساد هذه الطريقة، والكلام على بطلانها والذي يقوله: " إن هذه الآية لا تدل على النص على أمير المؤمنين " وما نعرف أحدا من أصحابنا اعتمدها فيه، وإنما استدل بها ابن الراوندي في كتاب " الإمامة " على أن الأئمة يجب أن يكونوا معصومين، منصوصا على أعيانهم، والآية غير دالة على هذا المعنى أيضا والتكثير بما لا تتم دلالته (5) لا معنى له، فإن فيما تثبت به الحجة مندوحة (6) وكفاية بحمد الله ومنه، على أن

____________

(1) الإنفلال: الانكسار.

(2) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 6 / 114 وقال " رواه الطبراني "، والمحب في الرياض النضرة 2 / 172 وقال: " أخرجه أحمد ".

(3) النساء 59.

(4) المغني 20 ق 1 / 142.

(5) لا يثمر دلالته، خ ل.

(6) مندوحة: سعة.

الصفحة 258 

الآية لو دلت على وجوب عصمة الأئمة، والنص عليهم على ما اعتمدها ابن الراوندي فيه، وحكاه صاحب الكتاب في صدر كلامه لم تكن دالة على وقوع النص على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة، وإنما يرجع في ذلك إلى طريقة اعتبار الإجماع، وتأمل أقوال الأمة المختلفين في الإمامة، وأن الحق لا يخرج عن الأمة على ما رتبناه فيما تقدم فكيف يحسن أن تجعل دلالة في النص وتحكى في جملة الأدلة عليه، وهذا يوجب كون جميع ما دل من جهة العقل على وجوب عصمة الأئمة، والنص عليهم دالا على النص على أمير المؤمنين عليه السلام وبعد ذلك ظاهر.

قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر من طريق السنة، قالوا قد ثبت عنه صلى الله عليه وآله يوم غدير خم ما يدل على أنه نص على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة لأنه مع الجمع العظيم في ذلك المقام قام فيهم خطيبا فقال: " ألست أولى بكم منكم بأنفسكم " (1)؟ فقالوا اللهم نعم، فقال بعده إشارة إليه " فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله " حتى قال عمر بن الخطاب له: بخ بخ (2) أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، ولا يجوز أن يريد بقوله " من كنت مولاه " إلا ما تقتضيه مقدمة الكلام، وإلا لم يكن لتقديمها فائدة، فكأنه صلى الله عليه وآله قال:

____________

(1) غ " من أنفسكم ".

(2) بخ - بوزن بل - كلمة تقال عند المدح والرضا بالشئ وتكرر للمبالغة فيقال: بخ بخ، وإذا وصلت خفضت ونونت فيقال: بخ بخ وربما شددت فيقال:

بخ، والعجيب أنها في المغني لخ لخ، وعلق عليها المحقق قائلا: " هكذا بالأصل " ولم يكلف نفسه عناء البحث عنها، ولعله أمر مقصود لتضييع الحقيقة في هذه " اللخلخة ".

 

 

 

الصفحة 259 

فمن كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به، لتكون المقدمة مطابقة لما تقدم ذكره، وما قصد إليه من الذكر بعد المقدمة يكون مطابقا لها، وقد علمنا أنه لم يرد بقوله: " ألست أولى بكم منكم بأنفسكم " إلا في الطاعة والاتباع والانقياد، فيجب فيما عطف عليه أن يكون هذا مراده به، وذلك لا يليق إلا بالإمامة واستدل بعضهم بدلالة الحال في ذلك وهو أنه تعالى أنزل على رسوله صلى الله عليه وآله: " (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (1) فأمر النبي صلى الله عليه وآله عند ذلك في غدير خم بجمع أصحابه، وقام وأخذ بيد أمير المؤمنين عليه السلام فرفعها حتى رأى قوم بياض إبطه، وقال هذا القول مع كلام تقدم أو تأخر ولا يجوز أن يفعل ذلك إلا لبيان أمر عظيم، وذلك لا يليق إلا بالإمامة التي فيها أحياء معالم الدين دون سائر ما يذكر في هذا الباب مما يشركه فيه غيره، ومما قد بأن وظهر من قبل.

وقال بعضهم في وجه الاستدلال بذلك أنه صلى الله عليه وآله لما قال " من كنت مولاه فعلي مولاه " لم يخل من أن يريد بذلك مالك الرق أو المعتق وابن العم أو يريد بذلك العاقبة كقوله تعالى (النار هي موليكم) (2) أي عاقبتكم أو يريد بذلك ما يليه خلفه أو قدامه لأنه قد يراد ذلك بهذا اللفظ أو يراد بذلك مالك الطاعة، لأن ذلك قد يراد بهذا اللفظ، فإذا بطلت تلك الأقسام من حيث يعلم أنه صلى الله عليه وآله لم يرد مالك الرق ولا المعتق أو المعتق (3) فيجب أن يكون هذا هو المراد

____________

(1) المائدة: 67.

(2) الحديد: 15.

(3) المعتق والمعتق كلاهما بصيغة بالبناء على المجهول ولكن الأول بكسر التاء فاعل العتق والثاني بفتحها مفعوله.

الصفحة 260 

ومالك الطاعة لا يكون إلا بمعنى الإمام لأن الإمامة مشتقة من الإئتمام به والائتمام هو الاتباع والاقتداء والانقياد فإذا وجبت طاعته فلا بد من أن يستحق هذا المعنى.

وفيهم من استدل بذلك بأن قال: إنه صلى الله عليه وآله قال هذا القول فلو لم يرد به الإمامة على ما نقول لكان بأن يكون محيرا لهم وملبسا عليهم أقرب من البيان والحال حال بيان، فلا بد من حمله على ما ذكرناه، وإن يقال: إن القوم عرفوا قصده صلى الله عليه وآله في ذلك لأنهم لو لم يعرفوا مراده في إثبات الإمامة بما يقول لكان قوله هذا خارجا عن طريقة البيان، وزعم أن الذي له قاله معروف بالتواتر وإنما كتمه بعضهم وعدل عنه بغضا ومعاداة،... " (1).

يقال له: الوجه المعتمد في الاستدلال بخبر الغدير على النص هو ما نرتبه فنقول: إن النبي صلى الله عليه وآله استخرج من أمته بذلك المقام الاقرار بفرض طاعته، ووجوب التصرف بين أمره ونهيه، بقوله صلى الله عليه وآله: (ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟) وهذا القول وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فالمراد به التقرير، وهو جار مجرى قوله تعالى:

(ألست بربكم) (2) فلما أجابوه بالاعتراف والاقرار رفع بيد أمير المؤمنين عليه السلام وقال عاطفا على ما تقدم: (فمن كنت مولاه فهذا مولاه) وفي روايات أخرى (فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره واخذل من خذله) فأتى عليه السلام بجملة يحتمل لفظها معنى

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 144.

(2) الأعراف 172.

الصفحة 261 

الجملة الأولى التي قدمها وإن كان محتملا لغيره، فوجب أن يريد بها المعنى المتقدم الذي قررهم به على مقتضى استعمال أهل اللغة وعرفهم في خطابهم، وإذا ثبت أنه صلى الله عليه وآله أراد ما ذكرناه من إيجابه كون أمير المؤمنين عليه السلام أولى بالإمامة من أنفسهم، فقد أوجب له الإمامة، لأنه لا يكون أولى بهم من أنفسهم إلا فيما يقتضي فرض طاعته عليهم، ونفوذ أمره ونهيه فيهم، ولن يكون كذلك إلا من كان إماما.

فإن قال: دلوا على صحة الخبر، ثم على أن لفظة " مولى " محتملة لأولى وأنه أحد أقسام ما يحتمله، ثم على أن المراد بهذه اللفظة في الخبر هو الأولى دون سائر الأقسام، ثم على أن الأولى يفيد معنى الإمامة.

قيل له: أما الدلالة على صحة هذا الخبر فما يطالب بها إلا متعنت (1) لظهوره وانتشاره، وحصول العلم لكل من سمع الأخبار به، وما المطالب بتصحيح خبر الغدير، والدلالة عليه، إلا كالمطالب بتصحيح غزوات الرسول الظاهرة المشهورة، وأحواله المعروفة، وحجة الوداع نفسها، لأن ظهور الجميع، وعموم العلم به بمنزلة واحدة.

وبعد، فإن الشيعة قاطبة تنقله وتتواتر به، وأكثر رواة أصحاب الحديث يروونه بالأسانيد المتصلة، وجميع أصحاب السير ينقلونه ويتلقونه عن أسلافهم خلفا عن سلف، نقلا بغير إسناد مخصوص، كما نقلوا الوقائع والحوادث الظاهرة، وقد أورده مصنفوا الحديث في جملة الصحيح، فقد استبد هذا الخبر بما لا يشركه فيه سائر الأخبار لأن الأخبار على ضربين أحدهما لا يعتبر في نقله الأسانيد المتصلة كالخبر عن وقعة بدر وحنين

____________

(1) المتعنت: طالب الزلة.

الصفحة 262 

والجمل وصفين، وما جرى مجرى ذلك من الأمور الظاهرة التي نقلها الناس قرنا بعد قرن بغير إسناد معين، وطريق مخصوص، والضرب الآخر يعتبر فيه اتصال الأسانيد كأكثر أخبار الشريعة، وقد اجتمع في خبر الغدير الطريقان معا مع تفرقهما في غيره من الأخبار، على أن ما اعتبر في نقله من أخبار الشريعة اتصال الأسانيد لو فتشت جميعه لم تجد رواته إلا الآحاد، وخبر الغدير قد رواه بالأسانيد الكثيرة المتصلة الجمع الكثير فمزيته ظاهرة، ومما يدل على صحة الخبر إطباق علماء الأمة على قبوله، ولا شبهة فيما ادعيناه من الإطباق، لأن الشيعة جعلته الحجة في النص على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة، ومخالفوا الشيعة تأولوه على خلاف الإمامة على اختلاف تأويلاتهم، فمنهم من يقول أنه يقتضي كونه الأفضل، ومنهم من يقول: إنه يقتضي موالاته على الظاهر والباطن، وآخرون يذهبون فيه إلى ولاء العتق ويجعلون سببه ما وقع من زيد بن حارثة وابنه أسامة من المشاجرة، إلى غير ما ذكرناه من ضروب التأويلات والاعتقادات.

وما نعلم أن فرقة من فرق الأمة ردت هذا الخبر واعتقدت بطلانه، وامتنعت من قبوله، وما تجمع الأمة عليه لا يكون إلا حقا عندنا وعند مخالفينا، وإن اختلفنا في العلة والاستدلال.

فإن قال: فما في تأويل مخالفيكم للخبر ما يدل على تقبلهم له، أوليس قد يتأول المتكلمون كثيرا مما يقبلونه كأخبار المشبهة وأصحاب الرؤية فما المانع من أن يكون في الأمة من يعتقد بطلانه أو يشك في صحته.

قيل له: ليس يجوز أن يتأول أحد من المتكلمين خبرا يعتقد

الصفحة 263 

بطلانه، أو يشك في صحته، إلا بعد أن يبين ذلك من حاله ويدل على بطلان الخبر أو على فقد ما يقتضي صحته، ولم نجد مخالفي الشيعة في ماض ولا مستقبل يستعملون في تأويل خبر الغدير إلا ما يستعمله المتقبل لأنا لا نعلم أحدا منهم يعتد بمثله قدم الكلام في إبطاله، والدفع له إمام تأويله، ولو كانوا أو بعضهم يعتقدون بطلانه أو يشكون في صحته لوجب مع ما نعلمه من توفر دواعيهم إلى رد احتجاج الشيعة به وحرصهم على دفع ما يجعلونه الذريعة إلى تثبيته أن يظهر عنهم دفعه سالفا وآنفا، ويشيع الكلام منهم في دفع الخبر كما شاع كلامهم في تأويله لأن دفعة أسهل من تأويله، وأقوى في إبطال التعلق به، وأنفى للشبهة.

فإن قال: أليس قد حكي عن ابن أبي داود السجستاني (1) دفع الخبر، وحكى مثله عن الخوارج، وطعن الجاحظ في كتاب " العثمانية " (2) فيه.

____________

(1) هو أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ولد بسجستان ولاية واسعة من كور خراسان - سنة 230 وطاف مع أبيه، أبي داود (صاحب السنن المشهور) في كثير من البلدان، وحضر معه على شيوخه ثم نزل بغداد أخيرا، فكان من كبار الحفاظ فيها، إلى حد أن قيل: إنه أحفظ من أبيه، كان يتهم الانحراف عن علي والميل عليه " فأراد أن يدفع عنه هذه الشبهة فجعل يقرأ على الناس فضائل علي عليه السلام إلى درجة أن ابن جرير الطبري استغرب ذلك لما بلغه فقال: " تكبيرة من حارس " وروى عنه أنه كان يقول: " كل من كان بيني وبينه شئ أو ذكرني بشئ فهو في حل إلا من رماني ببغض علي بن أبي طالب " كف بصره أخيرا وتوفي ببغداد سنة 316 ودفن فيها، له كتب منها التفسير والسنن والمسند، والناسخ والمنسوخ (أنظر تاريخ بغداد 9 من ص 464 - 468، ومعجم البلدان: 3 / 190).

(2) العثمانية من رسائل الجاحظ، وقد نقضه أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي المتوفى سنة 240 هـ وهو من أكابر علماء المعتزلة ومتكلميهم صنف سبعين كتابا في الكلام ومن كتبه كتاب " المقامات في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام و " نقض العثمانية " وقد لخص ابن أبي الحديد العثمانية ونقضها في شرح نهج البلاغة م 3 / 254 كما أن لابن أبي الحديد نقض عليها أيضا أشار إليه في م 1 / 113 بقوله عن معاوية " وقد ذكرنا في " نقض العثمانية " على شيخنا أبي عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه " الخ.

الصفحة 264 

قيل له: أول ما نقوله إنه لا معتبر في باب الإجماع بشذوذ كل شاذ عنه، بل الواجب أن يعلم أن الذي خرج عنه ممن يعتبر قول مثله في الإجماع ثم يعلم أن الإجماع لم يتقدم خلافه، فابن أبي داود والجاحظ لو صرحا بالخلاف لسقط خلافهما بما ذكرناه من الإجماع خصوصا بالذي لا شبهة فيه من تقدم الإجماع، وفقد الخلاف وقد سبقهما ثم تأخر عنهما.

على أنه قد قيل: إن ابن أبي داود لم ينكر الخبر وإنما أنكر كون المسجد الذي بغدير خم متقدما، وقد حكي عنه التنصل من القدح في الخبر، والتبري مما قذفه به محمد بن جرير الطبري والجاحظ أيضا لم يتجاسر على التصريح بدفع الخبر، وإنما طعن في بعض رواته، وادعى اختلاف ما نقل من لفظه، ولو صرحا وأمثالهما بالخلاف لم يكن قادحا لما قدمناه.

أما الخوارج فما يقدر أحد على أن يحكي عنهم دفعا لهذا الخبر، أو امتناعا من قبوله، وهذه كتبهم ومقالاتهم موجودة معروفة وهي خالية مما ادعي، والظاهر من أمرهم حملهم الخبر على التفضيل وما جرى مجراه من ضروب تأويل مخالفي الشيعة، وإنما آنس (1) بعض الجهلة بهذه الدعوى على الخوارج ما ظهر منهم فيما بعد من القول الخبيث في أمير المؤمنين عليه السلام فظن أن رجوعهم عن ولايته يقتضي أن يكونوا جاحدين لفضائله

____________

(1) آنس - بالمد وهي هنا بمعنى أبصر.

الصفحة 265 

ومناقبه، وقد أبعد هذا المدعي غاية البعد، لأن انحراف الخوارج إنما كان بعد التحكيم للسبب المعروف، وإلا فاعتقادهم لإمامة أمير المؤمنين عليه السلام وفضله وتقدمه قد كان ظاهرا، وهم على كل حال بعض أنصاره وأعوانه، وممن جاهد معه الأعداء، وكانوا في عداد الأولياء إلى أن كان من أمرهم ما كان، وقد استدل على صحة الخبر بما تظاهرت به الرواية من احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام به في الشورى على الحاضرين (1) في جملة ما عدده من فضائله ومناقبه، وما خصه الله تعالى به حين قال: (أنشدكم الله هل فيكم أحد أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيده فقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه غيري؟) فقال: القوم: اللهم لا.

قالوا: وإذا اعترف به من حضر الشورى من الوجوه، واتصل أيضا بغيرهم من الصحابة ممن لم يحضر الموضع كما اتصل به سائر ما جرى، ولم يكن من أحد نكير ولا إظهار شك فيه مع علمنا بتوفر الدواعي إلى إظهار ذلك لو كان الخبر بخلاف ما حكمنا به من الصحة، فقد وجب القطع على صحته، هذا على أن الخبر لو لم يكن في الوضوح كالشمس لما جاز أن يدعيه أمير المؤمنين عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله لا سيما (2) في ذلك المقام الذي ذكرناه، لأنه عليه السلام كان أنزه وأجل قدرا من ذلك.

قالوا: وبمثل هذه الطريقة يحتج خصومنا في تصحيح ما ذكره

____________

(1) احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام يوم الشورى تجده مفصلا في الغدير 1 / 159 فما بعدها.

(2) في الأصل " سيما " والمظنون أن " لا " ساقطة من سهو القلم، فإن " سيما " لا تستعمل إلا مع الجحد خصوصا إذا أريد ترجيح ما بعدها على ما قبلها حيث لا يستثنى بها إلا ما أريد تعظيمه.

الصفحة 266 

أبو بكر يوم السقيفة وأسنده إلى الرسول صلى الله عليه وآله من قول: (الأئمة من قريش) وفيما جرى مجراه من الأخبار.

فإن قال: كيف يصح احتجاجكم بهذه الطريقة وغاية ما فيها أن يكون الحاضرون للشورى صدقوا بخبر الغدير، وشهدوا بصحته وأن يكون من عداهم من الصحابة الذين لم يحضروا وبلغهم ما جرى أمسكوا عن رده، وإظهار الشك فيه على سبيل التصديق أيضا، وليس في جميع ذلك حجة عندكم، لأنكم قد رددتم فيما مضى من الكتاب على من جعل تصديق الصحابة بخبر الإجماع وإمساكهم عن رده حجة في صحته.

قيل له: إنما رددنا على من ذكرت من حيث لم يصح عندنا أو لا إطباق الصحابة على الخبر المدعى في الإجماع (1) ثم لما سلمنا للخصوم ما يدعونه من إطباق الصحابة أريناهم أنه لا حجة فيه على مذاهبهم وأصولهم لأنهم يجيزون على كل واحد منهم عقلا الغلط، واعتقاد الباطل بالشبهة، فلا أمان قبل صحة ما يدعونه من السمع من وقوع ما جاز عليهم، وأبطلنا ما يتعلقون به من عادة الصحابة في قبول الصحيح من الأخبار ورد السقيم، وبينا أنهم لم يقولوا في ذلك إلا على دعوى لا يعضدها برهان، وأنهم رجعوا في أن الخطأ لا يجوز عليهم إلى قولهم أو ما يجري مجرى قولهم، وهذا لا يمنعنا من القطع على صحة ما يجمع عليه الأمة على مذاهبنا لأنا لا نجيز على كل واحد منهم الخطأ والضلال كما أجازوه من طريق العمل وإنما وإنما نجيزهما على من عدا الإمام، لأن العقل قد دلنا على وجود المعصوم في كل زمان، ومنعنا من اجتماع الأمة على الباطل إنما هو

____________

(1) يريد بالخبر (لا تجتمع أمتي على ضلال) وقد تقدم وانظر الملل والنحل ج 1 / ص 1.

الصفحة 267 

لأجله فمن يسلك طريقتنا يجب أن نمنعه من الثقة بالاجماع وتمسكه به.

فإن قال: جميع ما ذكرتموه إنما يصح في متن الخبر أعني هو قوله صلى الله عليه وآله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) دون المقدمة المتضمنة للتقرير لأن أكثر من روى الخبر لم يروها (1) والإطباق من العلماء على القبول واستعمال التأويل غير موجود فيها لأنكم تعلمون خلاف خصومكم فيها وإنشاد أمير المؤمنين عليه السلام أهل الشورى لم يتضمنها في شئ من الروايات، ودليلكم على إيجاب الإمامة من الخبر متعلق بها فدلوا على صحتها.

قيل له: ليس ينكر أن يكون بعض من روى خبر الغدير لم يذكر المقدمة إلا أن من أغفلها ليس بأكثر ممن ذكرها ولا يقاربه، وإنما حصل الاخلال بها من آحاد من الرواة، ونقلة الشيعة كلهم ينقلون الخبر بمقدمته، وأكثر من شاركهم من رواة أصحاب الحديث أيضا ينقلون المقدمة ومن تأمل نقل الخبر وتصفحه علم صحة ما ذكرناه، وإذا صح فلا نكير في إغفال من أغفل المقدمة، لأن الحجة تقوم بنقل من نقلها، بل ببعضهم.

فأما إنشاد أمير المؤمنين عليه السلام أهل الشورى وخلوه من ذكر المقدمة فلا يدل على نفيها أو الشك في صحتها لأنه عليه السلام قررهم من الخبر بما يقتضي الاقرار بجميعه على سبيل الاختصار، ولا حاجة به إلى أن يذكر القصة من أولها إلى آخرها وجميع ما جرى فيها لظهورها، ولأن الاعتراف بما اعترف به منها هو اعتراف بالكل، وهذه عادة الناس

____________

(1) يريد بالمقدمة قوله صلى الله عليه وآله: (ألست أولى بكم من أنفسكم؟).

الصفحة 268 

فيما يقررونه، ألا ترى أن أمير المؤمنين لما أن قررهم في ذلك المقام بخبر الطائر في جملة الفضائل والمناقب اقتصر على أن قال: (أفيكم رجل قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم ابعث إلي بأحب خلقك يأكل معي، غيري) ولم يذكر إهداء الطائر (1) وما تأخر عن هذا القول من كلام الرسول وكذلك لما أن قررهم صلوات الله عليه بقول الرسول صلى الله عليه وآله فيه لما ندبه لفتح خيبر ذكر بعض الكلام دون بعض ولم يشرح القصة وجميع ما جرى فيها وإنما اقتصر عليه السلام على القدر المذكور اتكالا على شهرة الأمر وأن في الاعتراف ببعضه اعترافا بكله، ولا ينكر أن يكون هذه علة من أغفل رواية المقدمة من الرواة، فإن أصحاب الحديث كثيرا ما يقولون فلان يروي عن الرسول صلى الله عليه وآله كذا فيذكرون بعض لفظ الخبر والمشهور منه على سبيل الاختصار، والتعويل على ظهور الباقي، فإن الجميع يجري مجرى واحدا، وسنبين فيما بعد بعون الله ما يفتقر من الأدلة على إيجاب الإمامة من خبر الغدير إلى المقدمة وما لا يفتقر إليها إن شاء الله.

وأما الدليل على أن لفظ (مولى) تفيد في اللغة أولى فظاهر لأن من كان له أدنى اختلاط باللغة وأهلها يعرف أنهم يضعون هذه اللفظة مكان أولى كما أنهم يستعملونها في ابن العم، وما المنكر لاستعمالها في الأولى إلا

____________

(1) إجمال حديث الطائر أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله طائر مشوي بين رغيفين فقال صلى الله عليه وآله: (اللهم ائتني بأحب خلقك إليك) وفي رواية (وإلى رسولك يأكل معي من هذا) فجاء علي عليه السلام... الحديث وقد رواه جماعة من أصحاب المسانيد والسنن باختلاف يسير ومعنى واحد منهم الترمذي 2 / 299، والخطيب في التاريخ 3 / 171 و 9 / 369 والحاكم في المستدرك 3 / 130 و 131 وأبو نعيم في الحلية 6 / 339 وابن الأثير في أسد الغابة 4 / 30 وقال: " وقد رواه عن أنس غير واحد ".

الصفحة 269 

كالمنكر لاستعمالها في غيره من أقسامها، ومعلوم أنهم لا يمتنعون من أن يقولوا في كل من كان أولى بالشئ أنه مولاه، فمتى شئت أن تفحم المطالب بهذه المطالبة فأعكسها عليه ثم طالبه بأن يدل على أن لفظة مولى تفيد في اللغة ابن العم والجار أو غيرهما من الأقسام، فإنه لا يتمكن إلا من إيراد بيت شعر أو مقاضاة إلى كتاب أو عرف لأهل اللغة، وكل ذلك موجود ممكن لمن ذهب إلى أنها تفيد الأولى، على أنا نتبرع بإيراد جملة تدل على ما ذهبنا إليه فنقول: قد ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى (1) ومنزلته في اللغة منزلته، في كتابه في القرآن المعروف بالمجاز لما انتهى إلى قوله (مأواكم النار هي مولاكم) (2) أولى بكم، وأنشد بيت لبيد عاضدا لتأويله:

 

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه          مولى المخافة خلفها وأمامها (3)

 

وليس أبو عبيدة ممن يغلط في اللغة، ولو غلط فيها أو وهم لما جاز أن يمسك عن النكير عليه والرد لتأويله غيره من أهل اللغة ممن أصاب ما غلط فيه على عادتهم المعروفة في تتبع بعضهم لبعض، ورد بعض على بعض فصار قول أبي عبيدة الذي حكيناه مع أنه لم يظهر من أحد من أهل اللغة رد له، كأنه قول للجميع، ولا خلاف بين المفسرين في أن قوله

____________

(1) أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي بالولاء من العلماء باللغة والشعر والأدب، وأيام العرب وأخبارها قال فيه الجاحظ: " لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه " وهو أول من صنف في غريب الحديث توفي سنة 209.

(2) الحديد 15.

(3) البيت من المعلقة، ويروى " فعدت " بالعين المهملة، أي أنها خائفة من كلا جانبيها، من خلفها وأمامها، والفرج: الواسع من الأرض، والفرج أيضا:

الثغر، والثغر موضع المخافة، ومولى المخالفة معناه ولي المخالفة، أي الموضع الذي فيه المخالفة، (أنظر شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 150).

الصفحة 270 

تعالى (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا) (1) إن المراد بالموالي من كان أملك بالميراث وأولى بحيازته وأحق به.

وقال الأخطل (2):

 

فأصبحت مولاها من الناس بعده         وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

 

وقال أيضا مخاطبا بني أمية:

 

أعطاكم الله جدا تنصرون به     لا جد إلا صغير بعد محتقر

لم تأشروا فيه إذ كنتم مواليه     ولو يكون لقوم غيركم أشروا (3)

 

وقال غيره:

____________

(1) النساء 33.

(2) الأخطل: غياث برغوث التغلبي، لقب بالأخطل لبذاءة لسانه، وروي أنه هجا رجلا من قومه فقال له إنك لأخطل، نشأ في أطراف الحيرة ثم اتصل بالأمويين فكان شاعرهم المفضل، وكان أحد الشعراء الثلاثة المتفق على أنهم أشعر أهل زمانهم جرير والفرزدق والأخطل توفي سنة 90. والبيت من قصيدة له في مدح يزيد بن معاوية وقد أجاره من النعمان بن بشير حين هجا الأخطل الأنصار فأراد النعمان الانتصاف منه مطلعها:

 

صحا القلب إلا من ضغائن فاتني        بهن أمير مستبد فأصعدا

 

(ديوان الأخطل ص 84).

(3) هما من قصيدة للأخطل في مدح عبد الملك بن مروان مطلعها:

 

خف القطين فراحوا منك أو بكروا      وأزعجتهم نوى في صرفها غير

 

وهي كما في ديوانه ص 98 أربعة وثمانون بيتا، ويروى أن عبد الملك لما أنشده الأخطل هذه القصيدة أمر غلامه أن يغمره بالحلل، وأمر له بجفنة كانت بين يديه فملئت له دراهم، وقال: إن لكل قوم شاعرا، وإن شاعر بني أمية الأخطل. (أنظر معاهد التنصيص 1 / 272 - 276 وديوان الأخطل ص 163).

الصفحة 271 

 

كانوا موالي حق يطلبون به       فأدركوه وما ملوا وما تعبوا

 

وقال العجاج (1):

 

الحمد لله الذي أعطى الخير     موالي الحق أن المولى شكر

 

وروي في الحديث: (أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل) (2) كل ما استشهدنا به لم يرد بلفظ مولى فيه إلا معنى أولى دون غيره، وقد تقدمت حكايتنا عن المبرد قوله: " إن أصل تأويل الولي الذي هو أولى أي أحق ومثله المولى " وقال في هذا الموضع بعد أن ذكر تأويل قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) (3) " والولي والمولى معناهما سواء وهو الحقيق بخلقه المتولي لأمورهم ".

وقال الفراء (4) في كتاب " معاني القرآن ": الولي والمولى في كلام

____________

(1) العجاج: هو أبو الشعثاء بن رؤبة السعدي، والعجاج لقب له، ولد في الجاهلية، وقال الشعر فيها ثم أسلم، من الشعراء المجيدين، وهو أول من رفع الرجز وشبهه بالقصيدة، توفي حدود سنة 90، والبيت ثاني بيت من أرجوزته في مدح عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان عبد الملك بن مروان وذلك لما وجهه إلى أبي فديك عبد الله بن ثور القيسي الحروري فقتله وأصحابه فقال العجاج:

 

قد جبر الدين الإله فجبر         وعور الرحمن من ولي العور

فالحمد لله الذي أعطى الحبر    موالي الحق أن المولى شكر

 

وعور: أفسد، وولى: جعله وليا له، وقيل: العور: الحق فعلى المعنى الأول يكون ضمير " من " للمقتول وعلى الثاني للقاتل، والحبر: السرور، يقال هو في حبرة من العيش أي مسرة (وانظر ديوان العجاج ج 1 ص 4).

(2) سنن الترمذي 1 / 204 أبواب النكاح، وفي نهاية ابن الأثير ج 4 / 229 مادة (ولا) عن الهروي، وقال بعد نقل الحديث: " وليها " أي والي أمرها.

(3) سورة محمد 11.

(4) الفراء: أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي من أئمة اللغة والأدب ومن تلامذة الكسائي، قال فيه ثعلب: " لولا الفراء ما كانت اللغة، ولد بالكوفة ونشأ بها، ثم انتقل إلى بغداد فعهد إليه المأمون تأديب ولديه، توفي سنة 207 في طريق مكة، والفراء - بتشديد الراء - لأنه كان يفري الكلام بحثا وتحقيقا، ويقال لأبيه الأقطع لأن يده قطعت يوم فخ وكان مع الحسين بن علي بن الحسين بن الحسن بن علي عليهم السلام.

الصفحة 272 

العرب واحد وفي قراءة عبد الله بن مسعود: (إنما موليكم الله ورسوله) مكان (وليكم).

وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في (1) كتابه في القرآن المعروف ب (المشكل): " والمولى في اللغة ينقسم على ثمانية أقسام، أولهن المولى المنعم المعتق ثم المنعم عليه المعتق والمولى الولي والمولى الأولى بالشئ " وذكر شاهدا عليه الآية التي قدمنا ذكرها وبيت لبيد " والمولى الجار، والمولى ابن العم، والمولى الصهر، والمولى الحليف " واستشهد على كل قسم من أقسام المولى بشئ من الشعر لم نذكره لأن غرضنا سواه.

وقال أبو عمرو غلام ثعلب في تفسير بيت الحارث بن حلزة (2):

الذي هو:

____________

(1) أبو بكر الأنباري محمد بن القاسم بن محمد نسبة إلى الأنبار، كان من أعلم أهل زمانه بالأدب واللغة، ومعرفة أيام العرب، ومن أكثرهم حفظا للأشعار وشواهد القرآن حتى قيل: كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا للقرآن وثلاثمائة ألف شاهد من شواهده توفي ببغداد سنة 328.

(2) يعني أبا عمرو بن العلاء.

(3) الحارث بن حلزة اليشكري شاعر جاهلي من أهل بادية العراق، ومن أصحاب المعلقات، ومطلع معلقته:

 

آذنتنا ببينها أسماء       رب ثاو يمل منه الثواء

 

ارتجلها بين يدي عمر بن هند ملك الحيرة، وأكثر من الفخر بها حتى ضرب به المثل فقيل: (أفخر من الحارث بن حلزة).

الصفحة 273 

 

زعـمـوا أن كـل مـن ضـر     ب العير موال لنا، وأني الولاء (1)

 

أقسام المولى وذكر في جملة الأقسام، أن المولى السيد وإن لم يكن مالكا، والمولى الولي.

وقد ذكر جماعة ممن يرجع إلى مثله في اللغة أن من جملة أقسام المولى السيد الذي ليس بمالك ولا معتق، ولو ذهبنا إلى ذكر جميع ما يمكن أن يكون شاهدا فيما قصدناه لأكثرنا، وفيما أوردناه كفاية ومقنع.

فإن قيل: أليس ابن الأنباري قد أورد أبيات الأخطل التي استشهدتم بها وشعر العجاج والحديث الذي رويتموه وتأول لفظه مولى في جميعه على ولي دون أولى فكيف ذكرتم أن المراد بها الأولى؟

قيل له: الأمر على ما حكيته عن ابن الأنباري غير معلوم في اللغة أن لفظة ولي تفيد معنى أولى، وقد دللنا على ذلك فيما تقدم من الكلام في تأويل قوله: (إنما وليكم الله) وجميع ما استشهدنا به من الشعر والخبر لا يجوز أن يكون المراد بمولى فيه ألا الأولى ومن كان مختصا بالتدبير ومتوليا للقيام بأمر (ما قيل إنه مولاه، لأنه متى لم يحمل على ما قلناه لم يفد فكيف يصح حمل قوله: بغير إذن مولاها) إذا قيل: إن المراد به وليها على غير من يملك تدبيرها وإليه العقد عليها.

فإن قيل: قد دللتم على استعمال لفظة " مولى " في أولى فما الدليل على أن استعمالهم جرى على سبيل الحقيقة لا المجاز، والمجاز قد يدخل في الاستعمال كما تدخل الحقيقة.

____________

(1) البيت من المعلقة و " العير " الوتد أو الحمار، وغالبية الناس في زمانه من أهل الوبر يضربون الأوتاد عند إقامتهم، أو الحمير عند ركوبهم والمعنى أنهم يلزموننا ذنوب جميع الناس مع أنهم غير موالين لنا، وتقرأ " أنا " فيكون المعنى نحن أهل الولاء فحذف المضاف.

 

 

 

الصفحة 274 

قيل له: إنما يحكم في اللفظ بأنه مستعمل في اللغة على وجه الحقيقة بأن يظهر استعماله فيها من غير أن يثبت ما يقتضي كونه مجازا من توقيف من أهل اللغة أو ما يجري مجرى التوقيف، فأصل الاستعمال يقتضي الحقيقة وإنما يحكم في بعض الألفاظ المستعملة بالمجاز لأمر يوجب علينا الانتقال عن الأصل.

وأما الذي يدل على أن المراد بلفظة مولى في خبر الغدير الأولى، فهو أن من عادة أهل اللسان في خطابهم إذا أوردوا جملة مصرحة وعطفوا عليها بكلام محتمل لما تقدم التصريح به ولغيره لم يجز أن يريدوا بالمحتمل إلا المعنى الأول، يبين صحة ما ذكرناه أن أحدهم إذا قال مقبلا على جماعة ومفهما لهم وله عدة عبيد: ألستم عارفين بعبدي فلان؟ ثم قال عاطفا على كلامه: فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله تعالى، لم يجز أن يريد بقوله: عبدي بعد أن قدم ما قدمه إلا العبد الذي سماه في أول كلامه دون غيره من سائر عبيده، ومتى أراد سواه كان عندهم ملغزا خارجا عن طريقة البيان ويجري قوله: فاشهدوا أن عبدي حر، عند جميع أهل اللسان مجرى قوله: فاشهدوا أن عبدي فلانا حر إذا كرر مجرى تسميته وتعيينه، وهذه حال كل لفظ محتمل عطف على لفظ مفسر على الوجه الذي صورناه، فلا حاجة بنا إلى تكثير الأمثلة منه.

فإن قال: وكيف يشبه المثال الذي أوردتموه خبر الغدير وإنما تكررت فيه لفظة عبدي غير موصوفة على سبيل الاختصار بعد أن تقدمت موصوفة وخبر الغدير لم يتكرر فيه لفظة واحدة، وإنما وردت لفظة مولى فادعيتم أنها تقوم مقام أولى المتقدمة.

قيل له: إنك لم تفهم موقع التشبيه بين المثال وخبر الغدير وكيفية

الصفحة 275 

الاستشهاد به لأن لفظة عبدي وإن كانت متكررة فيه فإنها لما وردت أولا موصولة بفلان جرت مجرى المفسر المصرح الذي هو ما تضمنته المقدمة في خبر الغدير من لفظ أولى، ثم لما وردت من بعد غير موصولة حصل فيها احتمال واشتباه لم يكن في الأول فصارت كأنها لفظة أخرى تحتمل ما تقدم وتحتمل غيره، وجرت مجرى لفظة مولى من خبر الغدير في احتمالها لما تقدم ولغيره، على أنا لو جعلنا مكان قوله: فاشهدوا أن عبدي حر أشهدوا أن غلامي أو مملوكي حر لزالت الشبهة في مطابقة المثال للخبر، وإن كان لا فرق في الحقيقة بين لفظة عبدي إذا تكررت وبين ما يقوم مقامها من الألفاظ في المعنى الذي قصدناه.

فإن قال: ما تنكرون من أن يكون إنما قبح أن يريد القائل الذي حكيتم قوله بلفظة عبدي الثانية والتي تقوم مقامها من عدا المذكور الأول الذي قررهم بمعرفته من حيث تكون المقدمة إذا أراد ذلك لا معنى لها ولا فائدة فيها، ولأنه أيضا لا تعلق لها بما عطف عليها بالفاء التي تقتضي التعلق بين الكلامين، وليس هذا في خبر الغدير لأنه إذا لم يرد بلفظة مولى أولى وأراد أحد ما يحتمله من الأقسام لم تخرج المقدمة من أن تكون مفيدة ومتعلقة بالكلام الثاني لأنها تفيد التذكير بوجوب الطاعة، وأخذ الاقرار بها ليتأكد لزوم ما يوجبه في الكلام الثاني لهم ويصير معنى الكلام إذا كنت أولى بكم وكانت طاعتي واجبة عليكم فافعلوا كذا وكذا، فإنه من جملة ما آمركم بطاعتي فيه، وهذه عادة الحكماء فيما يلزمونه من يجب عليه طاعتهم فافترق الأمران، وبطل أن يجعل حكمهما واحدا.

قيل له: لو كان الأمر على ما ذكرت لوجب أن يكون متى حصل في المثال الذي أوردناه فائدة لمقدمته وإن قلت وتعلق بين المعطوف والمعطوف

الصفحة 276 

عليه أن يحسن ما ذكرناه وحكمناه بقبحه، ووافقنا عليه، ونحن نعلم أن القائل إذا أقبل على جماعة فقال: ألستم تعرفون صديقي زيد الذي كنت ابتعت منه عبدي فلانا الذي من صفته كذا وأشهدناكم على أنفسنا بالمبايعة؟ ثم قال عقيب قوله: فاشهدوا أنني قد وهبت له عبدي أو رددت عليه عبدي لم يجز أن يريد بالكلام الثاني إلا العبد الذي سماه وعينه في صدر الكلام، وإن كان متى لم يرد ذلك يصح إن يحصل فيما قدمه فائدة ولبعض كلامه تعلق ببعض لأنه لا يمتنع أن يريد بما قدمه من ذكر العبد تعريف الصديق، ويكون وجه التعلق بين الكلامين أنكم إذا كنتم قد شهدتم بكذا وعرفتموه، فاشهدوا أيضا بكذا، وهو لو صرح بما قدمناه حتى يقول بعد المقدمة فاشهدوا أنني قد وهبت له أو رددت إليه عبدي فلانا الذي كنت ملكته منه، ويذكر من عبيده غير من تقدم ذكره لحسن وكان وجه حسنه ما ذكرناه فثبت أن الوجه في قبح حمل الكلام الثاني على معنى غير الأول (1) مع احتماله له خلاف ما ادعاه السائل، وأنه الذي ذهبنا إليه.

فأما الدليل على أن لفظة أولى تفيد معنى الإمامة فهو إنا نجد أهل اللغة لا يضعون هذا اللفظ إلا فيمن كان يملك تدبير ما وصف بأنه أولى به (2) وتصريفه وينفذ فيه أمره ونهيه، ألا تراهم يقولون: السلطان أولى بإقامة الحدود من الرعية، وولد الميت أولى بميراثه من كثير من أقاربه، والزوج أولى بامرأته، والمولى أولى بعبده، ومرادهم في جميع ذلك ما ذكرناه ولا خلاف بين المفسرين في أن قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين

____________

(1) على غير، خ ل.

(2) بتدبيره، خ ل.

الصفحة 277 

من أنفسهم) (1) المراد به أنه أولى بتدبيرهم، والقيام بأمورهم، من حيث وجبت طاعته عليهم، ونحن نعلم أنه لا يكون أولى بتدبير الخلق وأمرهم ونهيهم من كل أحد منهم إلا من كان إماما لهم مفترض الطاعة عليهم.

فإن قالوا: اعملوا على أن المراد بلفظة " مولى " في الخبر ما تقدم من معنى ولي من أين لكم أنه أراد كونه أولى بهم في تدبيرهم، وأمرهم ونهيهم، دون أن يكون أراد أنه أولى بأن يوالوه ويحبوه أو يعظموه ويفضلوه، لأنه ليس يكون أولى بذواتهم، بل بحال لهم وأمر يرجع إليهم، فأي فرق في ظاهر اللفظ أو معناه بين أن يريد بما يرجع إليهم تدبيرهم وتصريفهم وبين أن يريد أحد ما ذكرناه؟

قيل له: سؤالك يبطل من وجهين، أحدهما إن الظاهر من قول القائل: فلان أولى بفلان، أنه أولى بتدبيره، وأحق بأن يأمره وينهاه، فإذا انضاف في ذلك القول بأنه أولى به من نفسه زالت الشبهة في أن المراد ما ذكرناه، ألا تراهم يستعملون هذه اللفظة مطلقة في كل موضع حصل فيه تحقق بالتدبير، واختصاص بالأمر والنهي كاستعمالهم لها في السلطان ورعيته، والوالد وولده، والسيد وعبده؟ وإن جاز أن يستعملوها مقيدة في غير هذا المعنى إذا قالوا: فلان أولى بمحبة فلان أو بنصرته أو بكذا وكذا منه إلا أن مع الإطلاق لا يعقل عنهم إلا المعنى الأول ولذلك نجدهم يمتنعون من أن يقولوا في المؤمنين أن بعضهم أولى ببعض من أنفسهم، ويريدون فيما يرجع إلى المحبة والنصرة وما أشبههما ولا يمتنعون من القول بأن النبي صلى الله عليه وآله أو الإمام أو من اعتقدوا أن له فرض طاعته عليهم أولى بهم من أنفسهم، ويريدون أنه أحق بتدبيرهم

____________

(1) الأحزاب 6.

الصفحة 278 

وأمرهم ونهيهم، والوجه الآخر أنه إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله أراد بما قدمه من كونه أولى بالخلق من نفوسهم أنه أولى بتدبيرهم وتصريفهم من حيث وجبت طاعته عليهم بلا خلاف وجب أن يكون ما أوجبه لأمير المؤمنين عليه السلام في الكلام الثاني جاريا ذلك المجرى لأنه صلى الله عليه وآله بتقديم ما قدمه يستغني عن أن يقول: فمن كنت أولى به في كذا وكذا فعلي أولى به فيه، كما أنه بتقديم ما قدمه استغنى عن أن يصرح بلفظة أولى إذ أقام مقامها لفظة مولى والذي يشهد بصحة ما قلناه إن القائل من أهل اللسان إذا قال: فلان وفلان - وذكر جماعة - شركائي في المتاع الذي من صفته كذا، ثم قال عاطفا على كلامه: فمن كنت شريكه فعبد الله شريكه، اقتضى ظاهر لفظه أن عبد الله شريكه في المتاع الذي قدم ذكره، وأخبر أن الجماعة شركاؤه فيه، ومتى أراد أن عبد الله شريكه في غير الأمر الأول كان سفيها عابثا ملغزا.

فإن قال (1): إذا سلم لكم إنه عليه السلام أولى بهم بمعنى التدبير ووجوب الطاعة من أين لكم عموم وجوب فرض طاعته في جميع الأمور التي تقوم بها الأئمة؟ ولعله أراد أنه أولى بأن يطيعوه في بعض الأشياء دون بعض.

قيل له: الوجه الثاني الذي ذكرناه في جواب سؤالك المتقدم يسقط هذا السؤال ومما يبطله أيضا أنه إن أثبت له عليه السلام فرض طاعته على جميع الخلق في بعض الأمور دون بعض وجبت إمامته، وعموم فرض طاعته، لأنه معلوم أن من وجبت على جميع الناس طاعته، وامتثال تدبيره، لا يكون إلا الإمام، ولأن الأمة مجمعة على أن من هذه صفته هو

____________

(1) فإن قيل، خ ل.

الصفحة 279 

الإمام، ولأن كل من أوجب لأمير المؤمنين من خبر الغدير فرض الطاعة على الخلق أوجبها عامة في الأمور كلها على الوجه الذي يجب للأئمة ولم يخص شيئا دون شئ، وبمثل هذه الوجوه نجيب من سأل فقال:

كيف علمتم عموم القول لجميع الخلق مضافا إلى عموم إيجاب الطاعة لسائر الأمور ولستم ممن يثبت للعموم صيغة في اللغة فتتعلقون بلفظة " من " وعمومها؟ وما الذي يمنع على أصولكم من أن يكون أوجب طاعته على واحد من الناس أو جماعة من الأمة قليلة العدد؟ لأنه لا خلاف في عموم تقرير النبي صلى الله عليه وآله للأمة وعموم قوله صلى الله عليه وآله بعد: (فمن كنت مولاه) وإن لم يكن للعموم صيغة، وقد بينا أن الذي أوجبه ثانيا يجب مطابقته لما قدمه في وجهه وعمومه في الأمور فكذلك يجب عمومه في المخاطبين بمثل تلك الطريقة، ولأن كل من أوجب من الخبر فرض الطاعة وما يرجع إلى معنى الإمامة ذهب إلى عمومه لجميع المكلفين، كما ذهب إلى عمومه في الأفعال.

طريقة أخرى في الاستدلال بخبر الغدير، وقد يستدل على إيجاب الإمامة من الخبر بأن يقال: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وآله أوجب لأمير المؤمنين عليه السلام أمرا كان واجبا له لا محالة، فيجب أن يعتبر ما يحتمله لفظة " مولى " من الأقسام (1) وما يصح منها كون النبي صلى الله

____________

(1) قال ابن الأثير في النهاية 4 / 228 مادة " ولا " تكرر ذكر المولى في الحديث وهو اسم يقع على جماعة كثيرة فهو: الرب، والمالك، والسيد، والمنعم والمعتق - بكسر التاء -، والناصر والمحب، والتابع، والجار، وابن العم، والحليف، والعقيد (أي المعاقد وهو المعاهد) والصهر، والعبد، والمعتق - بفتح التاء - والمنعم عليه، وكل من ولي أمرا أو قام به فهو مولاه ووليه " قال: " وقد تختلف مصادر هذه الأسماء، فالولاية - بالفتح - في الولاية والنسب والمعتق - بكسر التاء - والولاية - بالكسر - في الإمارة والولاء المعتق، والموالاة من والى القوم.

الصفحة 280 

عليه وآله مختصا به، وما لا يصح وما يجوز أن يوجبه لغيره في تلك الحال، وما لا يجوز وما يحتمله لفظ " مولى " ينقسم إلى أقسام منها ما لم يكن صلى الله عليه وآله عليه ومنها ما كان عليه ومعلوم لكل أحد أنه عليه السلام لم يرده، ومنها ما كان عليه ومعلوم بالدليل أنه لم يرده، ومنها ما كان حاصلا له صلى الله عليه وآله ويجب أن يريده لبطلان سائر الأقسام، واستحالة خلو كلامه من معنى وفائدة.

فالقسم الأول: هو المعتق (1) والحليف لأن الحليف هو الذي ينضم إلى قبيلة أو عشيرة فيحالفها على نصرته والدفاع عنه فيكون منتسبا إليها متعززا بها، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله حليفا لأحد على هذا الوجه.

والقسم الثاني: ينقسم على قسمين أحدهما معلوم أنه لم يرده لبطلانه في نفسه كالمعتق (2) والمالك والجار والصهر والحليف والإمام إذا عد من أقسام مولى، والآخر معلوم أنه لم يرده من حيث لم يكن فيه فائدة وكان ظاهرا شائعا وهو ابن العم.

(القسم) الثالث: الذي يعلم بالدليل أنه لم يرده هو ولاية الدين، والنصرة فيه والمحبة أو ولاء المعتق والدليل على أنه صلى الله عليه وآله لم يرد ذلك إن كل أحد يعلم من دينه صلى الله عليه وآله وجوب تولي المؤمنين ونصرتهم وقد نطق الكتاب به، وليس يحسن أن يجمعهم على الصورة التي حكيت في تلك الحال، ويعلمهم ما هم مضطرون إليه من دينه،! وكذلك هم يعلمون أن ولاء العتق لبني العم قبل الشريعة وبعدها، وقول عمر بن الخطاب في الحال على ما تظاهرت به الرواية لأمير المؤمنين عليه السلام (أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة) (3)

____________

(1) أي بفتح التاء.

(2) بكسر التاء.

(3) قول عمر لعلي: " أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة " رواه جماعة من العلماء والمحدثين منهم الطبري في تفسيره 3 / 428، الرازي في تفسيره 3 / 336 أحمد في المسند 4 / 281 الخطيب في تاريخه 8 / 290، المحب في رياضه 2 / 169 ابن كثير في تاريخه 210 الشهرستاني في الملل والنحل ج 1 ص 163 وفيه (طوبى لك يا علي أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة) وابن الأثير في النهاية ج 4 / 228 مادة " ولا " نقل أوله، وفي الفتوحات الاسلامية للسيد أحمد زيني دحلان 2 / 306 قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما " أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة ".

الصفحة 281 

يبطل أن يكون المراد بالخبر ولاء العتق ولمثل ما ذكرناه في إبطال أن يكون المراد بالخبر ولاء العتق أو إيجاب النصرة في الدين استبعد أن يريد صلى الله عليه وآله قسم ابن العم لأن خلو الكلام من فائدة متى حمل على أحد الأمرين كخلوه منها إذا حمل على الآخر، فلم يبق إلا القسم الرابع الذي كان حاصلا له عليه السلام ويجب أن يريده وهو الأولى بتدبير الأمة وأمرهم ونهيهم، وقد دللنا على أن من كان بهذه الصفة فهو الإمام المفترض الطاعة، ودللنا أيضا فيما تقدم على أن من جملة أقسام مولى الأولى، فليس لأحد أن يعترض بذلك، وليس له أيضا أن يقول: قد ادعيتم في صدر الاستدلال إن النبي صلى الله عليه وآله أوجب أمرا كان له، وليس يجب ما ادعيتموه، بل لا يمتنع أن يريد بقوله: (فمن كنت مولاه) ما يرجع إلى وجوب الطاعة، ويريد بقوله (فعلي مولاه) أمرا آخر لم يكن عليه، ولا يتعلق بما تقدم، لأنا لا نفتقر في هذه الطريقة إلى أن نثبت أن النبي صلى الله عليه وآله أوجب ما كان حاصلا له، لأنه صلى الله عليه وآله لا بد أن يوجب بلفظة (مولى) على كل حال أحد ما يحتمله في اللغة من الأقسام، وقد علمنا بطلان إيجابه لما عدا الإمامة من سائر الأقسام بما تقدم ذكره، فوجب أن يكون المراد هو الإمامة وإلا فلا فائدة في الكلام، وليس له أن يقول: إن المراد هو إثبات الموالاة ظاهرا وباطنا لأن إبطال هذا الوجه يأتي عند الكلام على صاحب الكتاب مستقصى.

الصفحة 282 

طريقة أخرى: ويمكن أن يستدل من ذهب إلى أن اللفظ المحتمل لأمور كثيرة إذا أطلق يجب حمله على سائر محتملاته إلا ما منع منه الدليل على إيجاب الإمامة من الخبر بهذه الطريقة بعد أن يبين أن من أقسام مولى أولى، وإن أولى يفيد معنى الإمامة، وقد ذكرنا فيما تقدم فساد الاستدلال بطريقة الاحتمال، وأن الأصل الذي هي مبنية عليه لا يثبت صحته، وإذا قد فرغنا مما أردنا تقديمه إمام مناقضته فنحن نرجع إلى كلامه.

فنقول: أما الدلالة الأولى فقد رتبناها وشرحناها وهي على خلاف ما حكاه لأنا لا نقول: إن المراد بلفظة (مولى) لو لم يطابق المقدمة لم تكن للمقدمة فائدة، بل الدلالة على وجوب مطابقتها للمقدمة قد بيناها في كلامنا.

فأما الدلالة الثانية التي حكاها فليست دلالة تقوم بنفسها لأنه لو قيل للمستدل بها: لم زعمت أنه لا بد أن يبين في تلك الحال أمرا عظيما، ثم لم زعمت أنه ليس في أقسام مولى أمر عظيم يستحق أن يبين؟ وأن سائر ما يذكر لا يصح أن يراد لم يكن بد من الرجوع إلى طريقة التقسيم التي ذكرناها فأما الدلالة الثالثة وهي دلالة التقسيم، وقد مضت مرتبة وأما الدلالة الرابعة فتجري مجرى الثالثة في أنها متى لم يستند إلى دلالة كانت دعوى لأن أصحابنا إنما يقولون: لو لم يرد النبي صلى الله عليه وآله ما ذهبنا إليه لوجب أن يكون ملبسا محيرا إذا تبين وجه دلالة القول على الإمامة فلا بد إذا من بيان إيجاب القول للإمامة بالطريقة المتقدمة ليستقيم أن يقول إنه صلى الله عليه وآله لكان محيرا.

وأما المعرفة بقصده عليه السلام ضرورة فليس مما يعتمده أصحابنا في هذا الخبر وأمثاله ولا يمتنع عندنا أن يكون المراد معلوما بضرب من الاستدلال ولا يقولون أيضا: لو لم نعرف القصد من الكلام باضطرار لم

الصفحة 283 

يكن بيانا بل يقولون: لو لم يرد الإمامة مع إيجاب خطابه لها لكان ملغزا عادلا عن طريق البيان بل عن طريق الحكمة.

قال صاحب الكتاب: " واعلم أن المراد بالخبر - على ما ذهب إليه شيخانا (1) الإبانة عن فضل مقطوع به لا يتغير على الأوقات، لأن وجوب الموالاة على القطع يدل على أن من وجب ذلك له باطنه كظاهره وإذا أوجب النبي صلى الله عليه وآله موالاته عليه السلام ولم يقيده بوقت، فيجب أن يكون هذه حاله (2) * في سائر الأوقات، ولو لم يكن هذا هو المراد لوجب أن لا يلزم سائر من غاب عن الموضع موالاته، ولما وجب بعد ذلك الوقت عليهم موالاته، وبطلان ذلك يبين أنه يقتضي الفضل الذي لا يتغير، وهذه منزلة عظيمة تفوق منزلة الإمامة، ويختص هو بها دون غيره، لأنه صلى الله عليه وآله لم يبين في غيره هذه الحالة كما بين فيه، ولأن الإمامة إنما تعظم من حيث كانت وصلة إلى هذه الحالة، فلو لم تكن هذه من أشرف الأحوال لم تكن الإمامة شريفة، ودلوا على أن المراد بمولى ما ذكروه بقوله تعالى: (إن الله مولى الذين آمنوا) (3) وأن المراد بذلك موالاة الدين والنصرة فيه، وبقوله عز وجل (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) (4) وأن المراد بذلك النصرة في الدين وبينوا أن الموالاة في اللغة وإن كانت مشتركة فقد غلب (5) عرف الشرع في استعمالها

____________

(1) يعني بشيخيه أبا علي الجبائي وأبا هاشم الكعبي، وقد تكرر ذكرهما في الكتاب.

(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".

(3) سورة محمد 12.

(4) سورة التحريم 4.

(5) غ " فقد علم ".

الصفحة 284 

في هذا الوجه، قال الله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (1).

قالوا: ويدل على أن هذا هو المراد قوله صلى الله عليه وآله: (اللهم وال من والاه) ولو لم يكن المراد بما تقدم ما ذكرناه لم يكن هذا القول لائقا به وقول عمر: (أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة) يدل على أن هذا هو المراد، لأنه ما أراد إلا هذا الوجه... " (2) يقال له: أما الدلالة الأولى التي رتبناها وبينا كيفية الاستدلال بها فهي مسقطة لكلامك في هذا الفصل، ومزيلة للاعتراض به، لأنا قد بينا بما لا يتمكن من دفعه أن المراد بلفظة (مولى) يجب أن يكون موافقا للمقدمة، وأنه لا يسوغ حمله إلا على معناها، ولو صح أن يراد بلفظة (مولى) ما حكيته عن شيخيك، وكان ذلك من بعض أقسامها في اللغة، وليس بصحيح في الحقيقة، لكان حكم هذا المعنى حكم سائر المعاني التي تحتملها اللفظة في وجوب صرف المراد عنها، وحمله على ما تضمنته المقدمة على ما دللنا عليه، فلم يبق إلا أن يبين أنه غير قادح أيضا في دلالة التقسيم، والذي يبينه أنك لا تخلو فيما ادعيته من حمل الكلام على إيجاب الموالاة مع القطع على الباطن من أن تسنده إلى ما يقتضيه لفظة (مولى) ووضعها في اللغة أو في عرف الشريعة أو إلى إطلاق الكلام من غير تقييد بوقت، وتخصيص بحال، أو إلى أن ما أوجبه عليه السلام يجب أن يكون مثل ما وجب له وإذا كان الواجب له هو الموالاة على هذا الوجه وجب مثله فيما أوجبه فإن أردت الأول فهو ظاهر الفساد، لأن من المعلوم أن لفظة

____________

(1) التوبة 71.

(2) المغني 20 ق 1 / 146.

الصفحة 285 

(مولى) لا تفيد ذلك ذلك في اللغة ولا في الشريعة، وأنها إنما تفيد في جملة ما يحتمله من الأقسام تولي النصرة والمحبة من غير تعلق بالقطع على الباطن، أو عموم سائر الأوقات، ولو كانت فائدتها ما ادعيته لوجب أن لا يكون في العالم أحد مواليا لغيره على الحقيقة إلا أن يكون ذلك الغير نبيا أو إماما معصوما، وفي علمنا بإجراء هذه اللفظة حقيقة في المؤمن وكل من تولى نصرة غيره، وإن لم يكن قاطعا على باطنه دليل، على أن فائدتها ما ذكرناه دون غيره، وإن أردت الثاني فغير واجب أن يقطع على عموم القول بجميع الأوقات من حيث لم يقيد بوقت، لأنه كما لم يكن في اللفظ تخصيص بوقت بعينه، فكذلك ليس فيه ذكر قد استوعب الأوقات، فادعاء أحد الأمرين لفقد خلافه من اللفظ كادعاء الآخر لمثل هذه العلة، وقد بينا فيما مضى من الكتاب أن حمل الكلام على سائر الأوقات، والحمل على سائر محتملاته لفقد ما يقتضي التخصيص غير صحيح، وقد قال الله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) ولم يخصص بعضا دون بعض من الأوقات، كما لا تخصيص في ظاهر خبر الغدير، ولم يقل أحد إنه تعالى أوجب بالآية موالاة المؤمنين على الظاهر دون الباطن، وفي الأحوال التي يظهر منهم فيها الإيمان، وما يقتضي الموالاة، فلا ينكر أن يكون ما أوجب من الموالاة في خبر الغدير جاريا هذا المجرى، وليس لأحد أن يقول: متى حملنا ما أوجب من الموالاة في الخبر على الظاهر دون الباطن لم نجعله مفيدا لأن وجوب هذه الموالاة لجميع المؤمنين معلوم قبل الخبر، فيجب أن يكون المراد ما ذكرناه من الموالاة المخصوصة، وذلك أن الذي ذكره يوجب العدول عن حمله على الموالاة جملة لأنه ليس هو بأن يقترح إضافته إلى الموالاة المطلقة التي يحتملها اللفظ وزيادة فيها ليجعل للخبر فائدة أولى ممن أضاف إلى الموالاة ما نذهب إليه من إيجاب فرض

الصفحة 286 

الطاعة، وقال إنه عليه السلام إنما أراد من كان يواليني موالاة من يجب طاعته، والتدبر بتدبيره فيلوال عليا على هذا الوجه، واعتل في تمحله (1) من الزيادة أيضا طلب الفائدة للخبر، وإذا حاول دعوى من ادعى الموالاة المخصوصة غيرها وجب إطراحها، والرجوع إلى ما يقتضيه اللفظ، فإذا علمنا أن حمله على الموالاة المطلقة الحاصلة بين جميع المؤمنين يسقط الفائدة وجب أن يكون المراد ما ذهبنا إليه من كونه أولى بتدبيرهم وأمرهم ونهيهم.

وإن أردت القسم الثالث (2) قلنا لك: لم زعمت أنه عليه السلام إذا كان ممن يجب له الموالاة على الظاهر والباطن وفي كل حال فلا بد أن يكون ما أوجبه في الخبر مماثلا للواجب له؟ أولستم تمنعونا مما هو آكد من استدلالكم هذا إذا أوجبنا حمل لفظة. " مولى " على ما تقتضيه المقدمة وأحلنا أن يعدل بها عن المعنى الأول وتدعون أن الذي أوجبناه غير واجب وأن النبي صلى الله عليه وآله لو صرح بخلافه حتى يقول بعد المقدمة:

فمن وجب عليه موالاتي فليوال عليا، أو فمن كنت أولى به من نفسه فليفعل كذا وكذا، مما لا يرجع إلى المقدمة لحسن وجاز فألا التزمتم مثل ذلك في تأويلكم! لأنا نعلم أنه عليه السلام لو صرح بخلاف ما ذكرتموه حتى يقول فمن ألزمته موالاتي على الباطن والظاهر فليوال عليا في حياتي أو ما دام متمسكا بما هو عليه لجاز وحسن، وإذا كان جائزا حسنا بطل أن يكون الخبر مقتضيا لمماثلة ما أوجبه من الموالاة فيما وجب له منها.

____________

(1) المماحلة: المماكرة والمكايدة.

(2) وهو ولاية الدين والنصرة فيه والمحبة، أو ولاء المعتق - بكسر التاء - وقد علم بالدليل أنه صلى الله عليه وآله لم يرده في حديث الولاية.

الصفحة 287 

فإن قيل: كيف يصح أن تجمعوا بين الطعن على ما ادعيناه من إيجاب النبي صلى الله عليه وآله في الخبر من الموالاة مثل ما وجب له، وبين القطع على أن لفظة " مولى " يجب مطابقتها لما قدره الرسول صلى الله عليه وآله لنفسه في المقدمة من وجوب الطاعة وعمومها في سائر الأمور، وجميع الخلق والطريق إلى تصحيح أحد الأمرين طريق إلى تصحيح الآخر؟

قلنا: إنا لم نوجب مطابقة لفظ " مولى " لمعنى المقدمة في الوجوه المذكورة من حيث يجب أن يكون ما أوجبه عليه مطابقا لما أوجبه له على ما ظنه مخالفونا وتعلقوا به في تأويل الخبر على الموالاة باطنا وظاهرا، وإنما أوجبنا ذلك من حيث صرح النبي صلى الله عليه وآله في المقدمة بتقريرهم بما يجب له من فرض الطاعة بلا خلاف، ثم عطف على الكلام بلفظ محتمل له يجري مجرى المثال الذي أوردناه في الشركة وأن من قدم ذكر شركة مخصوصة وعطف عليها محتملا لها كان ظاهر الكلام يفيد المعنى الأول، وجرى ما يأوله مخالفونا مجرى أن يقول القائل من غير تقدم مقدمة تتضمن ذكر شركة مخصوصة: من كنت شريكه ففلان شريكه، فكما أن ظاهر هذا القول لا يفيد إيجابه شركة فلان في كل ما كان شريكا فيه لغيره وعلى وجهه، ولم يمتنع أن يريد إيجاب شركته في بعض الشرك الذي بينه وبين غيره وعلى بعض الوجوه، ولم يجر هذا القول عند أحد من أهل اللسان في وجوب حمل المعنى الثاني على الأول مجرى أن يقول: فمن كنت شريكه ففلان شريكه بعد وقوله فلان وفلان حتى يذكر جميع شركائه - شركائي - في كذا وكذا وعلى وجه كذا فيذكر متاعا مخصوصا، وشركة مخصوصة، ولا يجري قوله: من كنت شريكه في كذا على وجه كذا ففلان شريكه، فكذلك ما ذكروه لا وجه فيه لإيجاب مثل ما كان للرسول صلى الله عليه وآله من الموالاة المخصوصة.

الصفحة 288 

فإن قيل: جميع ما ذكرتموه إنما يبطل القطع على أن الرسول صلى الله عليه وآله أوجب من الموالاة مثل ما كان له ولا شك في أنه مفسد للمذهب الذي حكاه صاحب الكتاب عن أبي علي وأبي هاشم وشرع في نصرته وتقويته، فبأي شئ ينكرون على من جوز أن يريد عليه السلام ذلك ولم يقطع على عدم جواز غيره وسوى في باب الجواز بين هذه المنزلة وبين المنزلة التي تعود إلى معنى الإمامة لأنه لا مانع في جميع ما ذكرتموه من التجويز، ودلالة التقسيم لا يتم لكم دون أن تبينوا أن شيئا من الأقسام التي يجوز أن يراد باللفظة لا يصح أن يكون المراد من الخبر سوى القسم المقتضي لمعنى الإمامة، وهذا آكد ما يسأل عنه على هذه الطريقة!.

والجواب عنه: أنه إذا ثبت أن القسم المقتضي للإمامة جائز أن يكون مرادا ووجدنا كل من جوز كون الإمامة مراده في الخبر يقطع على إيجابها وحصولها، لأن من خالف القائلين بالنص لا يجوز أن يكون الإمامة ولا معناها مرادة من الخبر ومن جوز أن تكون مرادة كالقائلين بالنص قطع عليها فوجب أن يكون ما ذهبنا إليه هو المقطوع به من هذه الحجة لأن ما عدا ما ذكرناه من القولين خارج عن الإجماع.

فأما قول صاحب الكتاب - فيما حكيناه من كلامه في هذا الفصل " إن المراد (بالخبر - على ما ذهب إليه شيخانا - الإبانة عن فضل مقطوع به لا يتغير على الأوقات) (1) لو لم يكن ما ذكره لوجب أن لا يلزم من غاب عن الموضع موالاته، ولما وجبت عليهم الموالاة بعد ذلك الوقت " فغير لازم، لأن الصحيح عندنا أن موالاته عليه السلام إنما وجبت في الحال وبعدها على من حضر وغاب لأن الرسول صلى الله عليه وآله أوجب له الإمامة

____________

(1) ما بين الحاصرتين من " المغني ".

الصفحة 289 

بالقول وإلا يجب موالاته على سائر الوجوه فليس في وجوب الموالاة على ما ذكر دلالة على صحة تأويله، ولو قال من خالف طريقة صاحب الكتاب أيضا ليس يمتنع أن يكون ما أوجبه من الموالاة يلزم من غاب وفيما بعد الحال على الحد الذي يلزم لجماعة المؤمنين ما داموا متمسكين بالإيمان وما يقتضي التبجيل والتعظيم، ولا يكون في ذلك دلالة على الموالاة المخصوصة التي ادعيت لم يمكنه دفع كلامه، اللهم إلا أن يقول: إنني عنيت أن موالاته تلزم من غاب على كل حال وبغير شرط، وكذلك في المستقبل من الأوقات وهذا إذا ادعاه غير مسلم له، وهو مدفوع عنه أشد الدفاع ولا سبيل عندنا إلى تثبيت هذه المنزلة بالخبر إلا بعد أن يثبت ما نذهب إليه من إيجابه إمامته عليه السلام.

فأما قوله: " وهذه منزلة عظيمة تفوق منزلة الإمامة " فغلط منه لأن الإمامة لا تحصل إلا لمن حصلت له هذه المنزلة وقد تحصل هذه المنزلة لمن ليس بإمام فكيف تفوق منزلة الإمامة وهي مشتملة عليها مع اشتمالها على غيرها من المنازل العالية، والرتب الشريفة، وما ننكر أن يكون المنزلة التي ادعاها من أشرف المنازل غير أنها لا تفوق منزلة الإمامة ولا تساويها لما ذكرناه، وقد دللنا فيما سلف من الكتاب على أن الإمام لا يكون إلا معصوما مأمون الباطن، وليس له أن يقول إنكم عولتم في حصول الموالاة على الباطن للإمام على دعوى.

فأما ما ذكره من الآيات مستشهدا به على أن المراد بلفظة " مولى " الموالاة في الدين فإنما يكون طاعنا على من أنكر احتمال اللفظة لهذا الوجه في جملة محتملاتها.

فأما من أقر بذلك وذهب إلى أن المراد في خبر الغدير خلافه فليس

الصفحة 290 

يكون ما ذكره صاحب الكتاب مفسدا لمذهبه، وكيف يكون كذلك، وأكثر ما استشهد به أن لفظة " مولى " أريد بها معنى الموالاة فيما تلاه من القرآن وذلك لا يحظر (1) أن يراد بها خلاف الموالاة في الخبر.

وقوله: " إن الموالاة في اللغة وإن كانت مشتركة فقد غلب عرف الشرع في استعمالها " في الوجه الذي ذكره مغالطة لأن لفظة الموالاة غير لفظة " مولى " والموالاة وإن كان أصلها في اللغة المتابعة فإن العرف قد خصصها بموالاة الدين ومتابعة النصرة فيه، ولفظة " مولى " خارجة عن هذا الباب وكلامنا إنما هو في لفظة " مولى " لا في الموالاة والنبي صلى الله عليه وآله لم يقل من كان يواليني فليوال عليا، بل قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه).

فأما استدلاله على ما ادعاه بقوله صلى الله عليه وآله (اللهم وال من والاه) فغير واجب أن يكون ما تقدم لفظة " مولى " محمولا على معنى الموالاة لأجل أن آخر الخبر تضمنها، لأنه لو صرح بما ذهبنا إليه حتى يقول: من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه، أو من كنت طاعتي عليه مفترضة فطاعة علي عليه مفترضة، (اللهم وال من والاه) لكان كلاما صحيحا يليق بعضه ببعض ولسنا نعلم من أين ظن أن المراد بالكلام الأول لو كان إيجاب فرض الطاعة لم يلق بما تأخر عنه! فإنه من الظن البعيد، وادعاؤه إن عمر أراد بقوله: " أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة " ما ذهب إليه حتى جعل قوله دليلا على صحة تأويله، طريف لأن عمر لم يصرح بشئ يدل على ما يخالف مذهبنا ويوافق مذهبه، وإنما شهد لأمير المؤمنين عليه السلام بمثل ما تضمنه لفظ الرسول صلى الله عليه

____________

(1) أي لا يمنع.

 

 

 

 

الصفحة 291 

وآله، فأي حجة له في قوله وخصومه يقولون في جوابه: إن عمر لم يرد بكلامه إلا ما ذهبنا إليه من وجوب فرض الطاعة والرئاسة ويكونون في ظاهر الحال منتصفين منه، هذا إذا لم يدلوا على صحة قولهم في اقتضاء الخبر للإمامة وفرض الطاعة ببعض ما تقدم فيكونوا أسعد حالا من صاحب الكتاب وأظهر حجة.

قال صاحب الكتاب: " ويدل على ذلك منه أنه صلى الله عليه وآله أثبت له هذا الحكم في الوقت لأنه في حال ما أثبت نفسه مولى لهم أثبته مولى من غير تراخ ولا يصح أن يحمل ذلك على الإمامة، لأن المتعالم من حاله أنه في حال حياة الرسول صلى الله عليه وآله لا يكون مشاركا للرسول في الأمور التي يقوم بها الإمام كما هو مشارك له في وجوب الموالاة باطنا وظاهرا، فحمله على هذا الوجه هو الذي يقتضيه الظاهر وقولهم: إنه إمام في الوقت مع سلبهم إياه معنى الإمامة والتصرف في الحال لا وجه له، ويعود الكلام فيه إلى غباوة (1) وكذلك إذا قالوا إنه إمام صامت ثم يصير ناطقا لأن ظاهر الخبر يقتضي له مثل ما يقتضي للرسول، فإن أريد بذلك الإمامة وجب أن يكون له أن يتصرف فيما إلى الإمام برأيه واجتهاده من دون مراجعة الرسول، وليس ذلك بقول لأحد ومتى قالوا: يفعل ذلك بالمراجعة فليس له في ذلك من الاختصاص إلا ما لغيره... " (2).

يقال له: من أين قلت إن الذي أوجبه الرسول صلى الله عليه وآله في خبر الغدير يجب أن يكون ثابتا في الحال؟ فإن قالوا: لو لم أوجب ذلك إلا من حيث أراكم توجبون عموم فرض الطاعة لسائر الخلق وفي سائر

____________

(1) في الأصل والمخطوطة " عبارة " وهو تصحيف " غباوة " كما في المغني.

(2) المغني 20 ق 1 / 147.

الصفحة 292 

الأمور وتتعلقون بالمقدمة، وأن النبي صلى الله عليه وآله لما قرر الأمة بفرض طاعته عليهم في كل أمر وجب مثله لمن أوجب له مثل ما كان واجبا لنفسه ومن المعلوم أن فرض طاعة النبي صلى الله عليه وآله على الخلق لم يكن مختصا بحال دون حال، بل كان عاما في سائر الأحوال التي من جملتها حال الخطاب بخبر الغدير فساوى ما ذكرتموه.

قيل له: أما إذا صرت إلى هذا الوجه وأوجبت ما ادعيته من هذه الجهة فأكثر ما فيه أن يكون ظاهر الخطاب يقتضيه، وما يقتضيه ظاهر الخطاب قد يجوز الانصراف عنه بالدلائل، ونحن نقول: إنا لو خلينا والظاهر لأوجبنا عموم فرض الطاعة لسائر الأحوال وإذا منع من ثبوت ما وجب بالخبر في حال حياة الرسول صلى الله عليه وآله امتنعنا له وأوجبنا الحكم فيما يلي هذه الأحوال بالخبر، لأنه لا مانع من ثبوت الإمامة وفرض الطاعة فيها لغير الرسول صلى الله عليه وآله، وإذا كان اللفظ يقتضي سائر الأحوال فخرج بعضها بدلالة نفي البعض.

ومما نجيب به أيضا عن كلامه أنه قد ثبت كون النبي صلى الله عليه وآله مستخلفا لأمير المؤمنين عليه السلام بخبر الغدير، والعادة جارية فيمن يستخلف أن يحصل له الاستحقاق في الحال ووجوب التصرف بعد الحال ألا ترى أن الإمام إذا نص على خليفة له يقوم بالأمر بعده اقتضى ظاهر استخلافه الاستحقاق (1) في الحال، والتصرف بعدها بالعادة الجارية في أمثال هذا الاستخلاف (2) فيجب بما ذكرناه أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام مستحقا في تلك الحال، وما وليها من أحوال حياة الرسول

____________

(1) الاستخلاف خ ل.

(2) الاستحقاق خ ل.

الصفحة 293 

للإمامة، والتصرف في الأمة بالأمر والنهي بعد وفاته، ومتى أحسنا الظن بمن قال في أمير المؤمنين عليه السلام: إنه إمام صامت في حال حياة الرسول صلى الله عليه وآله حملنا قوله من طريق المعنى على هذا الوجه وإن كان غالطا في إطلاقه لفظ الإمامة، لأنه لما رأى أن الخبر يقتضي لأمير المؤمنين عليه السلام استحقاق الأمر والاختصاص به في الحال من غير تصرف فيه ذهب إلى أنه الإمام، وجعل صموته عن الدعاء والقيام بالإمامة من حيث رأى أن التصرف لا يجب له في الحال، وأنه متأخر عنها صمتا وإنما غلط في الوصف بالإمامة من حيث كان الوصف بها يقتضي ثبوت التصرف في الحال، فمن لم يكن له التصرف في حال من الأحوال لا يكون إماما فيها، وقد أجاب قوم من أصحابنا بأن قالوا: إن الخبر يوجب لأمير المؤمنين عليه السلام فرض الطاعة في الحال على جميع الأمة حتى يكون له عليه السلام أن يتصرف فيهم بالأمر والنهي، ومنهم من خصص وجوب فرض طاعته، فقال: إن الكلام أوجب طاعته على سبيل الاستخلاف فليس له أن يتصرف بالأمر والنهي والرسول حاضر، وإنما له أن يتصرف في حال غيبته أو حال وفاته، وامتنع الكل من إجراء اسم الإمامة عليه وإن كان مفترض الطاعة على الوجه الذي ذكرناه، وقالوا: إنما يجري اسم الإمامة على من اختص بفرض الطاعة مع أنه لا يد فوق يده، فأما من كان مطاعا وعلى يده يد فإنه لا يكون إماما ولا يستحق هذه التسمية كما لا يستحقها جميع أمراء النبي صلى الله عليه وآله وخلفائه في الأمصار وإن كانوا مطاعين، ويقولون: إن التسمية بالإمامة وإن امتنع منها في الحال فواجب إجراؤها بعد الوفاة لزوال العلة المانعة من إجرائها والوجه الأول أقوى الثلاثة وهو الذي نختاره.

فإن قيل: كيف يصح أن يكون ما اقتضاه الخبر غير ثابت في الحال

الصفحة 294 

مع ما يروى من قول عمر: " أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة " وظاهر قوله: أصبحت يقتضي حصول الأمر في الحال قلنا ليس في قول عمر أصبحت مولاي، ما يقتضي حصول الإمامة في الحال وإنما يقتضي ثبوت استحقاقها في حال التهنئة وإن كان التصرف متأخرا وليس يمتنع أن يهنأ الانسان بما يثبت له استحقاقه في الحال وإن كان التصرف فيه يتأخر عنها لأن أحد الملوك والأئمة لو استخلف على رعيته من يقوم بأمرهم إذا غاب عنهم أو توفي لجاز من رعيته أن يهنئوا ذلك المستخلف بما ثبت له من الاستحقاق وإن لم يغب الملك ولا توفي وهذه الجملة تأتي على كلامه في الفصل.

قال صاحب الكتاب بعد سؤال أورده وأجاب عنه لا يسئل عن مثله: " فإن قيل: كيف يجوز أن يريد صلى الله عليه وآله ذلك! وقد تبين من حاله من قبل بل من حال غيره ما يوجب الموالاة؟ وكيف يجمع الناس لمثل ذلك والحال ما قلنا؟ " ثم قال: " قيل له: قد بينا أن هذه المرتبة تفوق مرتبة الإمامة، وأن الإمامة إنما يشرف للوصول بها إلى هذه المنزلة فلا يمتنع أن يجمع له صلى الله عليه وآله لذلك الناس وليظهر هذه المنزلة له، ولو قيل: إن جمعه عليه السلام الناس عند هذا الخبر يدل على ما قلناه لأنه من أشرف المنازل لكان أقرب، وقد بينا أن في الخبر من إبانة فضله ما لم يظهر لغيره، وهو القطع على أن باطنه كظاهره فيما يوجب الموالاة، وأنه لا يتغير على الدوام، وذلك لم يثبت لغيره ولا يثبت بسائر الأخبار له، لأن المروي في هذا الباب من الأخبار لا يخلو من وجهين، أما أن يقتضي الفضل (1) في الحال، وأما أن يقتضي علاقة

____________

(1) غ " الفعل ".

الصفحة 295 

العاقبة وإما أن يقتضي ما ذكرناه فغير حاصل إلا في هذا الخبر على أنه لو كان حاصلا في غيره كان لا يمتنع أن يجمع الناس له ليؤكد هذا الأمر، ويبين الحال فيه بيانا شافيا ظاهرا كما أن من خالفنا في الإمامة فإنهم يزعمون أنه يدل على الإمامة، وإن كان غيره من الأخبار قد دل على ذلك، على أن الذي يروون من جمع الناس ومن المقدمات الكثيرة التي يذكرونها في هذا الباب، ليس بمتواتر، وإنما يرجع فيه إلى الآحاد فكيف يصح الاعتماد عليه فيما طريقه العلم؟... " (1).

يقال له: إن أحدا لا يسألك عن السؤال الذي أوردته على نفسك في هذا الفصل، على أن الموالاة الواجبة بالخبر هي الموالاة المخصوصة التي ادعيتها، بل على أن يكون الموالاة المطلقة التي تجب لجماعة المؤمنين، فإذا سألت عن ذلك فليس يقال لك أيضا: إن الموالاة لا يجوز أن يكون المراد لأجل أن إيجابها قد تقدم بيانه من قبل، بل الذي يقال إنها لا يجوز أن يكون المراد في خبر الغدير من قبل أن وجوه موالاة المؤمنين بعضهم لبعض في الدين قد كان معلوما لكل أحد من دينه عليه السلام، وليس يصح أن يدخل في مثله شبهة، فلو جاز مع ما ذكرناه أن يكرر عليه السلام بيانه وإيجابه لم يمتنع قول من حمل الخبر على أن المراد به من كنت ابن عمه فعلي ابن عمه، وإن كان ما يفيده هذا القول معلوما لا يدخل في مثله شبهة، ولو صح أن يكون المراد ما توهمه من الموالاة المخصوصة لحسن أن يجمع صلى الله عليه وآله الناس لأن فيه فائدة معقولة غير أنا قد بينا أن الخطاب لا يقتضيه وادعاؤه لا يصح على أنه لو كان حاصلا في غيره لم يمتنع أن يجمع الناس له ليؤكد الأمر، فإن أراد بما يؤكد الموالاة

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 149.

الصفحة 296 

المطلقة العامة فإن تأكيدها لا يحسن لما ذكرناه، كما لا يحسن أن يريد قسم ابن العم على جهة التأكيد والإمامة، وإن كان أصحابنا يقولون: إن بيان إيجابها متقدم ليوم الغدير فليس يجري مجرى ما هو معلوم من دينه عليه السلام من وجوب الموالاة بين المؤمنين فلهذا حسن تأكيدها وتكرير بيانها، وإن لم يحسن في غيرها من المعلوم الظاهر الذي لا تعترض الشبهة فيه فأما المقدمة المتضمنة للتقرير فقد بينا أن الخبر متواتر بها، وأن أكثر من روى الخبر رواها وذكرنا ما يمكن أن يكون وجها في إغفال من أغفلها، وكذلك القول في جمع الناس فإنه أيضا ظاهر منقول فأما الكلام الزائد على قوله (ألست أولى بكم منكم بأنفسكم أو بالمؤمنين من أنفسهم) على اختلاف الرواية فما ينكر أن يكون أكثر الروايات خالية منه، واعتمادنا في خبر الغدير غير مفتقر إليه، على أن من تعلق بعدم الفائدة وأبطل أن يكون المراد الموالاة في الدين إنما ينصر بذلك طريقة التقسيم، لأن الطريقة الأولى لا يحتاج في إبطال قول من ادعى إثبات الموالاة في الدين بالخبر إلى ذكر الفائدة، بل سقط قوله بما يوجبه الكلام من حمل المعنى على ما طابق المقدمة، وطريقة التقسيم غير مفتقرة إلى شئ من المقدمات وجمع الناس فلو صح أنه صلى الله عليه وآله لم يجمع أحدا ولا قدم كلاما لقطعنا على أنه لم يرد الموالاة في الدين التي تجب لسائر المؤمنين لما تقدم بيانه، ولأوجبنا أن يكون المراد ما ذهبنا إليه إذا بطلت سائر الأقسام.

قال صاحب الكتاب: " فإن قيل: كيف يجوز أن يكون المراد ما ذكرتموه مع تقديمه صلى الله عليه وآله: (ألست أولى بكم منكم بأنفسكم) وقد علمتم أن الجملة التابعة للمقدمة لا بد من أن يراد بها ما أريد بالمقدمة وإلا كانت في حكم اللغو، فإذا كان مراده صلى الله عليه وآله بقوله: (ألست أولى بكم منكم بأنفسكم) وجوب الطاعة والانقياد فما عطف

الصفحة 297 

عليه من قوله (فمن كنت مولاه) مثله فكأنه قال: فمن كنت أولى به فعلي أولى به، وهذا تصريح بما ذكرناه! قيل له: لا نسلم أن المراد بالمقدمة (3) معنى الإمامة (1) بل المراد بها معنى النبوة أو المراد بها معنى الاشفاق والرحمة وحسن النظر، يبين ذلك أن ظاهر اللفظ يقتضي أنه صلى الله عليه وآله أولى بهم في أمر يشاركونه فيه، وذلك لا يليق بالإمامة، ويليق بمقتضى النبوة لأنه صلى الله عليه وآله بين لهم الشرع الذي بقيامهم به يصلون إلى درجة الثواب فيكون البيان من قبله والقيام به من قبلهم، لكنه لما لم يتم إلا ببيانه صلوات الله عليه كانت منزلته في ذلك أبلغ فصلح أن يكون أولى وكذلك متى أريد بذلك الرأفة والرحمة والاشفاق وحسن النظر، لأنه فيما يرجع إلى الدين هو أحسن نظرا لأمته منهم لأنفسهم، ومتى حمل الأمر على ما قالوه خالف الظاهر، فإن قالوا: قد دخل فيما ذكرتموه وجوب الطاعة وذلك يصحح ما قلناه، قيل لهم: إنه وإن كان كذلك فليس هو المقصود وإن كان تابعا له، وإنما قدحنا بما ذكرناه في قولكم لأنكم جعلتموه المقصود، وعلى هذا الوجه لا يطلق في الرسول صلى الله عليه وآله أنه إمام على ظاهر ما يقولون في إمام الزمان، وإنما يطلق ذلك بمعنى الاتباع، لأن الإمامة عبارة عن أمور مخصوصة لا زيادة فيها ولا نقصان، فلا يجب وإن كان النبي صلى الله عليه وآله يقوم بما يقوم به الإمام أن يوصف بذلك على الوجه الذي ذكرناه، كما لا يوصف بأنه أمير وساع وحاكم، وإن كان يقوم بما يقوم به جميعهم، وليس يمتنع في اللفظ أن يفيد معنى من المعاني إذا انفرد فإذا كان داخلا في غيره لم يقع الاسم عليه، وهذا كثير في الأسماء وإذا لم يصح أن يراد بقوله: (ألست أولى بكم منكم بأنفسكم)

____________

(1) المراد بها معنى الطاعة والانقياد وإنما المراد، خ ل.

الصفحة 298 

معنى الإمامة فقد بطل ما أدعوه على أن كثيرا ممن تقدم من شيوخنا ينكر أن تكون هذه المقدمة ثابتة بالتواتر ويقول: إنها من باب الآحاد والثابت هو قوله صلى الله عليه وآله: (من كنت مولاه) إلى آخر الخبر وهو الذي كرره أمير المؤمنين عليه السلام في مجالس عدة عند ذكر مناقبه،... " (1).

يقال له: أول ما نقوله إنا لا نعلم أحدا تقدم أو تأخر ممن تكلم في تأويل خبر الغدير خالف في أن مراد النبي صلى الله عليه وآله بالمقدمة هو التقرير لوجوب فرض طاعته على الأمة في سائر الأمور من غير تخصيص لبيان شرع من غيره كما لم يخالف أحد في أن قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (2) المراد به أولى بتدبيرهم، وبأن يطيعوه وينقادوا لأوامره، ومعلوم أن التقرير الواقع بالمقدمة في خبر الغدير مطابق لما أوجبه الله تعالى للرسول صلى الله عليه وآله في الآية، وموافق لمعناها، ومع هذا فقد أجاب صاحب الكتاب عن غير ما سأل عنه لأنه ألزم نفسه في السؤال أن يكون المراد فرض الطاعة من غير إضافة إلى إمامة أو غيرها، وفرض الطاعة لا يختلف في الإمام والنبي صلى الله عليه وآله.

وقال في الجواب: " إنا لا نسلم إن المراد بالمقدمة معنى الإمامة بل معنى النبوة "، وهذا عدول ظاهر عما سأل نفسه عنه على أنه قد فسر ما ذهب إليه، وادعى أن المراد ببعض ما يشتمل عليه وجوب الطاعة لأن بيان الشرع أحد ما يطاع فيه النبي صلى الله عليه وآله ولا خلاف في أن طاعته واجبة في كل ما يأمر به، وينهى عنه، سواء كان بيان شرع أو

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 150 و 151.

(2) الأحزاب 6.

الصفحة 299 

غيره، وإنما وجب أن يطيعوه في بيان الشرع من حيث كانت طاعته واجبة عليهم في كل أمر على العموم.

وبعد، فإن صاحب الكتاب ادعي أن ظاهر اللفظ يقتضي أنه أولى بهم في أمر يشاركونه فيه، وفسر ذلك بما لا اشتراك فيه لأن النبي صلى الله عليه وآله وإن كان مبينا للشرع والأمة قائمة بما بينه لهم فلم تشاركه الأمة في صفة واحدة، لأن البيان الذي يختص هو عليه السلام به لا يشاركه فيه الأمة، وليس يكون قيامهم بالشرع مشاركة له في البيان،.

فإن قنع صاحب الكتاب لنفسه بما ذكره فمثله في مقتضى الإمامة، لأن الإمام من حيث وجبت طاعته يقيم في الأمة الأحكام ويأمرهم وينهاهم فيكون الأوامر من جهته والامتثال من جهتهم، وقد دللنا فيما تقدم على أن تصرف الإمام لطف في فعل الواجبات والامتناع من المقبحات، وهذا مثل ما ذكره من الاشتراك، لأن الامتناع من القبيح وفعل الواجب من جهة المكلفين، وما هو لطف فيهما من جهته وقد دللنا أيضا على أن الإمام حجة في بيان الشرع وإن كان يخالف النبي صلى الله عليه وآله من حيث كان النبي مبينا للشرع ومبتدئا بغير واسطة من البشر، وما نطق صاحب الكتاب بحمل نفسه على القول بأن التقرير اختص ببيان الشرع مع هذه المزية المخصوصة لأن شبهته في ذلك الاشتراك في الصفة، وقد بينا أنها تدخل في مقتضى الإمامة من الوجوه الثلاثة (1) التي لو لم يثبت منها إلا ما لا خلاف فيه من وجوب طاعة الإمام، ولزوم الدخول تحت أحكامه مما يقتضي الاشتراك على الوجه الذي ذكره لكان فيه كفاية في رفع كلامه.

____________

(1) وهي الأوامر من جهة الإمام، والامتثال من جهة الأمة، وكون تصرف الإمام لطف لهم في الأمر بالحسن والنهي عن القبيح.

الصفحة 300 

فأما الاشفاق والرحمة فليس يجوز أن يكون عليه السلام أشفق علينا وأرحم بنا بالاطلاق وفي كل أمر وحال، بل لا بد من أن يقيد ذلك بما يرجع إلى الدين، فإذا قيد به فقد عاد الأمر إلى فرض الطاعة، لأنه لا يكون بهذه الصفة إلا من وجبت طاعته، ولزوم الانقياد لآمره ونهيه، وكيف لا يجب طاعة من يقطع على أنه لا يختار لنا ويدعونا إلا إلى ما هو أصلح لنا في ديننا وأعود علينا وأدخل في حسن النظر لمعادنا، وكان صاحب الكتاب عبر عن التقرير لفرض الطاعة بلفظ آخر يقوم مقامه لأنه لا فرق بين أن يقول: إنه أولى بأن نطيعه وننقاد له، وبين أن يقول: إنه أولى بالإشفاق علينا، وحسن النظر فيما يرجع إلى ديننا، لأن الوصف الذي لا يثبت إلا لمفترض الطاعة كالوصف بفرض الطاعة، وهذه الصفة يعني الاشفاق وحسن النظر في الدين، حاصلة للإمام عندنا فكيف يقال إن اللفظ لا يليق بالإمامة، ويليق بمقتضى النبوة.

وقوله: (ليس بمقصود) لا يغني شيئا لأنا قد ذكرنا أن أحدا لم يجعله غير مقصود، وأبطلنا شبهة من حمله على خلاف التقرير بفرض الطاعة، وبينا أن الذي ذكره من الوجهين إما أن يكون بعض ما وجبت له فيه الطاعة والانقياد أو إثبات صفة لا تحصل إلا لمن تجب طاعته فكأن النبي صلى الله عليه وآله إذا صرنا إلى ما ذكره صاحب الكتاب قررهم في المقدمة (1) بإحدى الصفتين اللتين قد بينا أنهما لا تحصلان إلا لمفترض الطاعة، وإذا أوجب لغيره في الكلام مثل ما وجب له في المقدمة فقد حصلت له البغية، لأن من تجب طاعته على الخلق في سائر أمور الدين لا يكون إلا الإمام إذا لم يكن نبيا.

____________

(1) قررهم أي النبي صلى الله عليه وآله في المقدمة وهي قوله: (ألست أولى بكم منكم بأنفسكم).

الصفحة 301 

وقوله: " لا يطلق في النبي صلى الله عليه وآله إنه إمام كما لا يطلق إنه كذا وكذا " لا نحتاج إلى مضايقته فيه، وإن كان غير ممتنع إطلاق كون الرسول صلى الله عليه وآله إماما لنا بمعنى أنه يجب علينا الاقتداء به، والامتثال لأوامره، لأنا لم نسمه (1) القول بأن الرسول صلى الله عليه وآله قررهم في المقدمة بكونه إماما وإنما ذهبنا إلى أن التقرير وقع لفرض الطاعة التي تجب للرسول والإمام، ولا يختلف فيهما ولا خلاف بيننا وبينه في أن الرسول صلى الله عليه وآله تجب طاعته، ويصح أن يقرر بوجوبها أمته، فامتناع إطلاق لفظ الإمامة عليه لا يضرنا ولا يؤثر فيما قصدناه.

وقوله: " إذا لم يصح أن يراد بقوله: (ألست أولى بكم منكم بأنفسكم) معنى الإمامة فقد بطل ما ادعوه " فما رأيناه أبطل معنى الإمامة بشئ أكثر مما ذكروه من معنى الاشتراك، وقد بينا أنه يدخل في معنى الإمامة، وبما ذكره من امتناع إطلاق لفظ الإمام على الرسول صلى الله عليه وآله، وذلك غير مبطل لحصول معنى الإمامة في التقرير، لأنه اعتمد أن الرسول صلى الله عليه وآله وإن كان يقوم بما يقوم به الإمام، فإن الوصف بالإمامة لا يطلق عليه والمعنى حاصل له، فعلى هذا فما المانع من أن يكون التقرير وقع بفرض الطاعة وهو معنى الإمامة، لأن المراد بقولنا:

إنه بمعناها إن هذه الصفة لا تحصل بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا لمن كان إماما قائما بما يقوم به الأئمة، وإن كان إطلاق الاسم يمتنع لما ذكره.

فأما حكايته عن كثير من شيوخه دفع التواتر بالمقدمة (2) فليس

____________

(1) لم نسمه: لم نكلفه.

(2) أي دفعهم تواتر مقدمة حديث الغدير وهي (ألست أولى بكم منكم بأنفسكم) وأن المتواتر عندهم (من كنت مولاه فعلي مولاه) الخ.

الصفحة 302 

بحجة، وقد دللنا فيما مضى على أن الشيعة تتواتر بالخبر بمقدمة الحديث وأكثر من رواة من العامة روى المقدمة أيضا (1) وإنما أغفلها من الرواة قليل من كثير، وبينا ما يصح أن يكون عذرا في ترك من ترك روايتها، وليس يجوز أن يجعل إغفال من أغفلها حجة في دفع رواية من رواها.

وأما اقتصار أمير المؤمنين في الاحتجاج على ذكر ما عدا المقدمة من الخبر فإنه لا يدل أيضا على بطلانها لأنه عليه السلام احتج من الخبر بما يكون الاعتراف به اعترافا بالجميع على عادة الناس في أمثال هذه الاحتجاجات، وقد تقدم الكلام في هذا وذكرنا أيضا أن طريقة التقسيم (2) غير مفتقرة إلى المقدمة، وإنما يحتاج إليها في الطريقة الأولى التي اعتمدناها، وطريق إثباتها واضح بما أوردناه، ويمكن أن يستدل على الإمامة بالخبر من وجه آخر لا يفتقر إلى المقدمة وهو أن يقال: قد ثبت أن من جملة ما يحتمله لفظة " مولى " من الأقسام معنى الإمام بما دللنا عليه من قبل، ووجدنا كل من ذهب إلى أن لفظ خبر الغدير يحتمل معنى الإمامة، وأن لفظة " مولى " يقتضيها في جملة أقسامها يذهب إلى أن الإمامة هي المرادة بالخبر، وهذه طريقة قوية يمكن أن تعتمد.

قال صاحب الكتاب: " على أن ذلك لو صح وثبت أن المراد به ما قالوه لم يجب فيما تعقبه من الجملة أن يراد به ذلك، بل يجب أن يحمل

____________

(1) من رواة المقدمة ابن عقدة - كما في أسد الغابة 1 / 367، والنسائي في مواضع من خصائص أمير المؤمنين وأحمد في المسند 4 / 372، والبزاز كما في مجمع الزوائد 9 / 107 والطبراني.

(2) أي تقسيم معاني " مولى " كما تقدم مع بيان الطريقة التي اعتمدها المرتضى تحت قوله: طريقة أخرى في الاستدلال بخبر الغدير. كما في المجمع أيضا 9 / 106 والحاكم في المستدرك 109 / 533.

الصفحة 303 

على ما يقتضيه لفظه، فإن كل لفظه يقتضي ما ذكروه فلا وجه لتعلقهم بالمقدمة، وإن كان لا يقتضي ذلك لم يصر مقتضيا له لأجل المقدمة، وإنما قدم صلى الله عليه وآله ذلك ليؤكد ما يريد أن يبين لهم من وجوب موالاته عليه السلام وموالاة أمير المؤمنين عليه السلام، لأن العادة جارية فيمن يريد أن يلزم غيره أمرا عظيما في نفسه أن يقدم مثل (1) هذه المقدمات تأكيدا لحق الرجل الرئيس السيد الذي يريد إلزام قومه أمرا، فيقول لهم: ألست القائم بأموركم والذاب عنكم (2) والناصر لكم، والمنعم عليكم، فإذا قالوا: نعم فيقول عنده: فافعلوا كيت وكيت، وإن كان ما أمرهم به ثانيا لا يتصل بما أمرهم أولا ولا يكون لتقديم ذلك حكمة، وعلى هذا الوجه قال النبي صلى الله عليه وآله: (إنما أنا لكم مثل الوالد فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط ولا بول) (3) فقدم صلى الله عليه وآله عند إرادته بيان ما يختص بحال الخلوة، ما يدل على إشفاق وحسن نظر فكذلك القول فيما ذكرناه، ولو أن الذي ذكرناه صرح به لكان خارجا من العبث صلى الله عليه وآله ليسلم من العيب بأن يقول: ألست أولى بكم في بيان الشرع لكم، وما يجب عليكم، وما يحل عليكم، وما يحرم فإذا كنت كذلك في باب الدين فمن يلزمه موالاتي باطنا وظاهرا بالإعظام والمدح والنصرة فليوال عليا على هذا الحد لكان الكلام حسنا مستقيما يليق بعضه ببعض، وإنما كان يجب ما ذكروه لو كان متى حملت الجملة الثانية على ما قلناه نبت (4) عن الجملة

____________

(1) غ " قبل هذه ".

(2) " الذاب عنكم " ساقطة من المغني، كما أن فيه " القيم " مكان " القائم ".

(3) مسند أحمد 2 / 247 بحروف ما في المتن ورواه بالمضمون عامة أرباب السنن في كتب الطهارة من سننهم.

(4) نبت: تباعدت، وفي " المغني " انتفت، والمنافرة: التجافي والتباعد.

الصفحة 304 

الأولى ونافرتها، فأما إذا كانت الحال ما ذكرناه فهو مستقيم لا خلل فيه،... " (1).

يقال له: قد مضى في جملة ما قدمناه من الكلام ما يبطل معاني فصلك هذا، فأما نفيك لأن يكون الكلام مقتضيا لما ذكرناه لأجل المقدمة، وقولك: (يجب أن يحمل على ما يقتضيه لفظه من غير مراعاة للمقدمة) فغير صحيح لأنك أن أردت بذلك الاقتضاء على سبيل الاحتمال لا على الإيجاب فاللفظ ليس يصير لأجل المقدمة مقتضيا فغير ما كان مقتضيا له، وإن أردت بالاقتضاء الإيجاب، فقد بينا أن بورود المقدمة لا بد من تخصيص اللفظ الوارد من بعدها بمعناها، وضربنا له الأمثال، ومما يبين صحة ما ذكرناه أن قول القائل: عبدي حر وله عبيد كثير لفظه محتمل مشترك بين سائر عبيده، فإذا قال بعد أن يقرر بمعرفة بعض عبيده ممن يسميه ويعينه: فعبدي حر، كان كلامه الثاني محمولا على سبيل الوجوب على العبد الذي قدم تعيينه وتعريفه، وصار قوله: فعبدي حر إذا ورد بعد المقدمة مقتضيا على سبيل الإيجاب لما لو لم يحصل لم يكن مقتضيا له على هذا الوجه، وإن كان يقتضيه على طريق الاحتمال.

وأما قوله عليه السلام: (إنما أنا لكم مثل الوالد) إلى آخر الخبر، فغير معترض على كلامنا لأنه صلى الله عليه وآله لم يورد في الكلام الثاني لفظا يحتمل معنى الكلام المتقدم، وأراد به خلاف معناه، والذي أنكرناه في خبر الغدير غير هذا لأنه لو لم يرد بلفظة " مولى " معنى أولى لكان قد أورد لفظا محتملا لما تقدم من غير أن يريد به معنى المتقدم، وفساد ذلك ظاهر، وليس ينكر أن يكون صلى الله عليه وآله لو صرح بما ذكره صاحب

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 151.

الصفحة 305 

الكتاب على سبيل التقدير مفيدا فكلامه خارج عن العبث إلا أنه متى لم يصرح بذلك وأورد اللفظ المحتمل فلا بد من أن يكون مراده ما ذكرناه كما أن القائل إذا أقبل على جماعة وقال لهم: ألستم تعرفون ضيعتي الفلانية، ثم قال: فاشهدوا أن ضيعتي وقف، لا يجوز أن يفهم من لفظه الثاني إذا كان حكيما إلا وقفه للضيعة التي قدم ذكرها، وإن كان جائزا أن يصرح بخلاف ذلك، فيقول بعد تقريره بمعرفة الضيعة: فاشهدوا أن ضيعتي التي تجاورها وقف، فيصرح بوقفه غير الضيعة التي سماها أو عينها، وهذه الجملة تأتي على كلامه.

قال صاحب الكتاب بعد أن ذكر التعلق بإمساك أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين عن الاحتجاج بالنص من خبر يوم الغدير في المواقف التي وقع التنازع في الإمامة فيها فقد مضى الكلام عليه مستوفى: " وقد قال شيخنا أبو هاشم: (إن ظاهر الخبر يقتضي إثبات حال ما أثبته صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام في الحال وذلك لا يتأتى في الإمامة (فيجب حمله على ما ذكرناه (1)) ومتى قالوا: إن الظاهر وإن اقتضى الحال فإنا نحمله على بعد موت النبي صلى الله عليه وآله لم يكونوا بذلك أولى ممن حمله على الوقت الذي بويع فيه ويكون ذلك أولى لما ثبت بالدليل من صحة إمامة أبي بكر، وقال: متى قالوا:

تثبت له الإمامة في الحال لكنه إمام صامت، قيل لهم: فيجب أن لا يصير ناطقا بهذا الخبر لأنه إنما دل على كونه إماما صامتا، ومتى قالوا: إنه يدل على كونه إماما ناطقا، فيجب أن يكون كذلك في الوقت، وبين أنه لا يمكنهم القول بأنه إمام (2) مع أنه لا يقوم بما إلى الأئمة في حال حياته "

____________

(1) ما بين المعقوفين من " المغني ".

(2) كلمة " إمام " كانت مطموسة في " المغني " فقال المحقق: لعلها " ثابتا "، ولا يستقيم المعنى حتى لو كانت كما عللها.

الصفحة 306 

وقال: " لا فرق بين من استدل بذلك على النص وبين من قال: إن قوله صلى الله عليه وآله لأبي بكر: (اتركوا لي أخي وصاحبي، صدقني حيث كذبني الناس) وهو نص على إمامته بعد وفاته إلى غير ذلك مما روي نحو قوله صلى الله عليه وآله (لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا) وقوله: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) إلى غير ذلك مما اشتهرت (1) فيه الرواية.... " (2).

يقال له: إن الكلام في إلزامنا حمل الخبر على إيجاب الإمامة في الحال فقد مضى مستقصى والذي يبطل قول من ألزمنا وجوب النص به بعد عثمان ما تقدم أيضا عند كلامنا في النص الجلي (3)، وهو أن الأمة مجمعة على أن إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد قتل عثمان لم تحصل له بنص من الرسول صلى الله عليه وآله تناول تلك الحال، واختص بها دون ما تقدمها، ويبطله أيضا أن كل من أثبت لأمير المؤمنين عليه السلام النص على الإمامة بخبر الغدير أثبته على استقبال وفاة الرسول صلى الله عليه وآله من غير تراخ عنها.

فأما الأخبار التي أوردها على سبيل المعارضة فالإضراب عن ذكرها، وترك تعاطي الانتصاف من المستدلين بخبر الغدير لها أستر على موردها، وأول ما في هذه الأخبار أنها لا تساوي ولا تداني خبر الغدير في باب الصحة والثبوت، ووقوع العلم لأنا قد بينا فيما تقدم تواتر النقل بخبر الغدير ووقوع العلم به لكل من صحح الأخبار وأنه مما أجمعت الأمة

____________

(1) نفس المصدر السابق.

(2) غ " مما اشتهر في الرواية ".

(3) المغني 20 ق 1 / 152.

الصفحة 307 

على قبوله، وإن كانوا مختلفين في تأويله (1) وليس شئ من هذا في الأخبار التي ذكرها على أن أصحابنا قديما قد تكلموا على هذه الأخبار، وبينوا أن حديث الخلة يناقض ويبطل آخره أوله لأنهم يروون عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: (لو كنت متخذا خليلا لاتخذت فلانا خليلا ولكن ودا وإخاء إيمان) فأول الخبر يقتضي أن الخلة لم تقع وآخره يقتضي وقوعها على الشرط المذكور الذي يعلم كل أحد أن الخلة منه صلى الله عليه وآله لا تكون إلا عليه، لأنه لا يصح أن يخال أحدا إلا في الإيمان وما يقتضيه الدين، ويذكرون أيضا في ذلك ما يروونه من قوله صلى الله عليه وآله قبل وفاته: (برئت إلى كل خليل من خليل فإن الله عز وجل قد اتخذ صاحبكم خليلا) ويقولون: إن كان أثبت الخلة بينه وبين غيره فيما تقدم فقد نفاها وبرئ منها قبل وفاته، وأفسدوا حديث الاقتداء بأن ذكروا أن الأمر بالاقتداء بالرجلين يستحيل لأنهما مختلفان في كثير من أحكامهما وأفعالهما، والاقتداء بالمختلفين والاتباع لهما متعذر غير ممكن ولأنه يقتضي عصمتهما، والمنع من جواز الخطأ عليهما، وليس هذا بقول لأحد فيهما، وطعنوا في

____________

(1) أحصى شيخنا الأميني في الجزء الأول من الغدير رواة حديث الغدير فكانوا مائة وعشرة من الصحابة وأربعة وثمانين من التابعين وثلاثماية وسبعة وخمسين من العلماء ومعظمهم بل جميعهم من علماء السنة وأحصى من أفرد التأليف في الغدير من علماء الفريقين فكانوا ستة وعشرين عالما، وقال ابن كثير في البداية والنهاية 5 / 208 " وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ فجمع فيه مجلدين أورد فيهما طرقه وألفاظه، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة، وقال القندوزي في ينابيع المودة ص 36 " حكي عن أبي المعالي الجويني الملقب بإمام الحرمين أستاذ أبي حامد الغزالي رحمهما الله كان يتعجب ويقول: رأيت مجلدا في بغداد في يد صحاف فيه روايات خبر غدير خم مكتوب عليه: المجلدة الثامنة والعشرون من طرق قوله صلى الله عليه وسلم (من كنت مولاه فعلي مولاه) ويتلوه المجلدة التاسعة والعشرون ".

 

 

 

الصفحة 308 

رواية الخبر بأن راويه عبد الملك بن عمير وهو من شيع بني أمية، وممن تولى القضاء لهم، وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيت أيضا، ظنينا في نفسه وأمانته.

وروي أنه كان يمر على أصحاب الحسين بن علي عليهما السلام وهم جرحى فيجهز عليهم فلما عوتب على ذلك قال: إنما أريد أن أريحهم، وفيهم من حكى رواية الخبر بالنصب وجعل أبا بكر وعمر على هذه الرواية مناديين مأمورين بالاقتداء بالكتاب والعترة، وجعل قوله: (اللذين من بعدي) كناية عن الكتاب والعترة، واستشهد على صحة تأويله بأمره صلى الله عليه وآله في غير هذا الخبر بالتمسك بهما والرجوع إليهما في قوله: (إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) (1) وأبطل من سلك هذه الطريقة في تأويل الخبر اعتراض الخصوم بلفظ " اقتدوا " وأنه خطاب للجميع لا يسوغ توجهه إلى الاثنين بأن قال: ليس ينكر أن يكون اقتدوا باللذين متوجها إلى جميع الأمة وقوله (من بعدي أبا بكر وعمر) نداء لهما على سبيل التخصيص لهما لتأكيد الحجة عليهما وشرح هذه الجملة موجودة في مواضعه من الكتب، وإن كان مخالفونا يدفعون ورود الرواية بالنصب أشد دفع،

____________

(1) حديث الثقلين رواه طائفة من علماء السنة لا يحصون كثرة حتى أفرد السيد ناصر حسين في تتميم العبقات لوالده السيد حامد حسين اللكهنوي مجلدا كاملا وضم إليه حديث السفينة فكان حصيلة بحثه أن من رواه من الصحابة 24 ومن التابعين 19 ثم ذكر طبقات العلماء من رواته من القرن الثاني إلى القرن الرابع عشر، وقد ترجمه وحققه ونظمه الأستاذ المحقق السيد علي الحسيني الميلاني فأخرجه للناس في مجلدين فخمين وعززهما بثالث صغير في حديث السفينة إخراجا فيه يسر ما الناظر ولا يكد الخاطر أحسن الله جزاءه ووفقه لإخراج ما بقي من أجزاء هذه الموسوعة القيمة التي قل أن يكون لها نظير.

الصفحة 309 

ويدعون أنه مما خرج على سبيل التأويل من غير رجوع إلى رواية، ومما يمكن أن يعتمد في إبطال خبر الاقتداء أنه لو كان موجبا للنص على الوجه الذي عارض به أبو هاشم لأحتج به أبو بكر لنفسه في السقيفة، ولما جاز أن يعدل إلى روايته " أن الأئمة من قريش " ولا خفاء على أحد في أن الاحتجاج بخبر الاقتداء أقطع للشغب وأخص بالحجة، وأشبه بالحال لا سيما والتقية والخوف عنه زائلان، ووجوه الاحتجاج له معرضة، وجميع ما يدعيه الشيعة بالنص الذي تذهب إليه عن الرجل منتفية، ولوجب أيضا أن يحتج به أبو بكر على طلحة لما نازعه فيما رواه من النص على عمر، وأظهر الإنكار لفعله فكان احتجاجه في تلك الحال بالخبر المقتضي لنص رسول الله صلى الله عليه وآله على عمر ودعائه الناس إلى الاقتداء به، والاتباع له أولى وألزم من قوله: (أقول: يا رب وليت عليهم خير أهلك) وأيضا لو كان هذا الخبر صحيحا لكان حاظرا (1) مخالفة الرجلين وموجبا لموافقتهما في جميع أقوالهما وأفعالهما، وقد رأينا كثيرا من الصحابة قد خالفهما في كثير من أحكامهما وذهبوا إلى غير ما يذهبان إليه، وقد أظهروا ذلك، فيجب أن يكونوا بذلك عصاة مخالفين لنص الرسول صلى الله عليه وآله وقد كان يجب أيضا أن ينبه الرجلان من يخالفهما على مقتضى هذا الخبر، ويذكر أنهم بأن خلافهما محظور ممنوع منه، على أن ذلك لو اقتضى النص بالإمامة على ما ظنوا لوجب أن يكون ما رووه عنه عليه السلام من قوله:

(أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (2) موجبا لإمامة الكل، وإذا لم

____________

(1) حاظرا: مانعا.

(2) هذا الحديث مروي من طريق جعفر بن عبد الواحد الهاشمي وإليك ما نقله الذهبي في ميزان الاعتدال ج 1 / 413 في جعفر هذا قال: " جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القاضي، قال الدارقطني: يصنع الحديث، وقال أبو زرعة: روى أحاديث لا أصل لها، وقال ابن عدي: يسرق الحديث ويأتي بالمناكير، ثم ساق له ابن عدي أحاديث، وقال كلها بواطيل، وبعضها سرقه من قوم - إلى أن قال - ومن بلاياه عن وهب بن جرير عن أبيه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (أصحابي كالنجوم ومن اقتدى بشئ منها اهتدى ".

الصفحة 310 

يكن هذا الخبر موجبا للإمامة فكذلك الآخر، وقد رووا أيضا عنه عليه السلام أنه قال: (اهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد) (1) ولم يكن في شئ من ذلك نص بإمامة ولا فرض طاعة فكيف يظن هذا في خبر الاقتداء وحكم الجميع واحد في مقتضى ظاهر اللفظ.

وبعد، فلو تجاوزنا عن هذا كله، وسلمنا رواية الأخبار وصحتها، لم يكن في شئ منها تصريح بنص ولا تلويح إليه.

أما خبر الخلة وما يدعونه من قوله عليه السلام (اتركوا لي أخي وصاحبي) فلا شبهة على عاقل في بعدهما عن الدلالة على النص.

فأما خبر الاقتداء فهو كالمجمل لأنه لم يبين في أي شئ يقتدى بهما ولا على أي وجه ولفظة بعدي مجملة ليس فيها دلالة على أن المراد بعد وفاتي دون بعد حال أخرى من أحوالي ولهذا قال بعض أصحابنا: إن سبب هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله كان سالكا بعض الطريق وكان أبو بكر وعمر متأخرين عنه جائيين على عقبه فقال النبي صلى الله

____________

(1) هذا الحديث كما في فيض القدير ج 2 / 56 من حديث عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة بن اليمان، وعبد الملك لم يسمعه من ربعي وربعي لم يسمعه من حذيفة، ا هـ وعبد الملك بن عمير هذا كان قاضيا بالكوفة أيام عبيد الله بن زياد وهو الذي مر على عبد الله بن يقطر رسول الحسين عليه السلام وقد رماه ابن زياد من أعلى قصر الإمارة فرآه يجود بنفسه وقد تهشمت عظامه فذبحه بيده فلما ليم على ذلك قال: أردت أن أريحه!!

الصفحة 311 

عليه وآله لبعض من سأله عن الطريق الذي يسلكه في اتباعه واللحوق به (اقتدوا باللذين من بعدي) وعنى بسلوك الطريق دون غيره، وهذا القول وإن كان غير مقطوع به فلفظ الخبر محتمله كاحتماله لغيره، وأين الدلالة على النص والتسوية بينه وبين أخبارنا، ونحن حيث ذهبنا في خبر الغدير وغيره إلى النص لم نقتصر على محض الدعوى بل كشفنا عن وجه الدلالة، واستقصينا ما يورد من الشبه، وقد كان يجب على من عارضنا بهذه الأخبار وادعاء إيجابها للنص أن يفعل مثل ما فعلناه أو قريبا منه، وليس لأحد أن يتطرق إلى إبطال ما ذكرناه من التأويلات بأن يدعي أن الناس في هذه الأخبار بين منكر ومتقبل، فالمنكر لا تأويل له، والمتقبل يحملها على النص ويدفع سائر التأويلات لأن هذا القول يدل على غفلة شديدة من قائله أو مغالطة، وكيف يكون ادعاؤه صحيحا ونحن نعلم أن كل من أثبت إمامة أبي بكر من طريق الاختيار وهم أضعاف من أثبتها من طريق النص ينقلون هذه الأخبار من غير أن يعتقدوا فيها دلالة على نص عليه.

قال صاحب الكتاب: " وقد قال شيخنا أبو الهذيل (1) في هذا الخبر أنه لو صح لكان المراد به الموالاة في الدين وذكر أن بعض أهل العلم حمله على أن قوما نقموا على علي عليه السلام بعض أموره فظهرت مقالاتهم له، وقولهم فيه، فأخبر عليه السلام بما يدل على منزلته وولايته وفعاله وأفعالهم عما خاف فيه الفتنة، وقد قال بعضهم في سبب ذلك: إنه وقع بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين أسامة بن زيد كلام، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أتقول هذا لمولاك، فقال: لست مولاي، وإنما

____________

(1) أبو الهذيل: محمد بن الهذيل العبدي بالولاء المعروف بالعلاف كان شيخ البصريين في الاعتزال ومن أكبر علمائهم توفي في سامراء سنة 26 أو 27 أو 235 بعد أن أشرف على المائة وقد كف بصره وخرف في آخر عمره.

الصفحة 312 

مولاي رسول الله صلى الله عليه وآله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله (من كنت مولاه فعلي مولاه) يريد بذلك قطع ما كان من أسامة وتبيان (1) أنه بمنزلته في كونه مولى له، وقال بعضهم مثل ذلك في زيد بن حارثة، وأنكروا (2) أن خبر الغدير بعد موته، والمعتمد في معنى الخبر على ما قدمناه لأن كل ذلك لو صح وكان الخبر خارجا فلم يمنع من التعلق بظاهره وما يقتضيه لفظه، فيجب أن يكون الكلام في ذلك دون بيان السبب الذي وجوده كعدمه، في أن وجود الاستدلال بالخبر يتغير،... " (3).

يقال له: أما الذي يبطل ما حكيته عن أبي الهذيل فهو جميع ما تقدم من كلامنا.

فأما التعلق بذكر السبب وما ادعى من ملاحاة زيد بن حارثة أو أسامة ابنه فالذي يفيده ما قدمناه أيضا من اقتضاء الكلام لمعنى الإمامة، وأن صرفه عن معناها يخرجه عن حد الحكمة، وقد ذكر أصحابنا في ذلك وجوها:

منها، أن زيد بن حارثة قتل بمؤتة (4) وخبر الغدير كان بعد منصرف

____________

(1) غ " وبيان ".

(2) غ " وذكروا ".

(3) المغني 20 ق 1 / 154.

(4) مؤتة - بضم الميم وسكون الهمزة بعدها تاء فوقانية - قرية من أرض البلقاء كانت بها الوقعة المذكورة التي استشهد بها جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم وهي اليوم تابعة للكرك من بلاد الأردن تبعد عن الطريق العام بحوالي 40 كيلو متر وقد مررت بها عام 1394 وأنا في طريقي إلى الحج وزرت مرقد جعفر عليه السلام وهو في مسجد جميل قد فرش بالسجاد الفاخر ومرقد زيد قريبا منه وعليه قبة صغيرة جميلة ومثلها القبة على قبر عبد الله بن رواحة وقريب من مراقدهم زرت المسجد الذي عليه على أرضه الوقعة وهو فخم البناء ومفروش بالسجاد الفاخر أيضا.

الصفحة 313 

النبي صلى الله عليه وآله عن حجة الوداع وبين الوقتين زمان طويل فكيف يمكن أن يكون سببه ما ادعوه وهذا الوجه أيضا يختص بذكر زيد بن حارثة وما تقدم وتأخر من الوجوه يعم التعلق بزيد وأسامة ابنه.

ومنها: أن أسباب الأخبار يجب الرجوع فيها إلى النقل كالرجوع في نفس الأخبار ولا يحسن أن يقتصر فيها على الدعاوي والظنون، وليس يمكن أحدا من الخصوم أن يسند ما يدعيه من السبب إلى رواية معروفة، ونقل مشهور، والمحنة بيننا وبينهم في ذلك ولو أمكنهم على أصعب الأمور أن يذكروا رواية في السبب لم يمكن الإشارة فيه إلى ما يوجب العلم وتتلقاه الأمة بالقبول على الحد الذي ذكرناه في خبر الغدير، وليس لنا أن نحمل تأويل الخبر الذي هو صفة على سبب أحسن أحواله أن يكون ناقله واحدا لا يوجب خبره علما ولا يثلج صدرا (1).

ومنها، أن الذي يدعونه في السبب لو كان حقا لما حسن من أمير المؤمنين عليه السلام أن يحتج به في الشورى على القوم في جملة فضائله ومناقبه، وما خصه الله تعالى به، لأن الأمر لو كان على ما ذكروه لم يكن في الخبر شاهد على فضل، ولا دلالة على تقدم، ولوجب أن يقول له القوم في جواب احتجاجه: وأي فضيلة لك بهذا الخبر علينا، وإنما كان سببه كيت وكيت مما تعلمه ونعلمه وفي احتجاجه عليه السلام به وأضرابهم عن رد الاحتجاج دلالة على بطلان ما يدعونه من السبب.

ومنها، أن الأمر لو كان على ما ادعوه في السبب لم يكن لقول عمر

____________

(1) المراد اطمئنان النفس، يقال: ثلجت نفسه أي اطمأنت.

الصفحة 314 

ابن الخطاب في تلك الحال على ما تظاهرت به الروايات الصحيحة " أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة " معنى لأن عمر لم يكن مولى الرسول صلى الله عليه وآله من جهة ولاء العتق ولا جماعة المؤمنين.

ومنها، أن زيدا أو أسامة ابنه لم يكن بالذي يخفى عليه أن ولاء العتق يرجع إلى بني العم فينكره، وليس منزلته منزلة من يستحسن أن يكابر فيما يجري هذا المجرى ولو خفي عليه لما احتمل شكه فيه ذلك الإنكار البليغ من النبي صلى الله عليه وآله الذي جمع له الناس في وقت ضيق وقدم فيه من التقرير والتأكيد ما قدم.

ومنها، أن السبب لو كان صحيحا لم يكن طاعنا على تأويلنا لأنه لا يمتنع أن يريد النبي صلى الله عليه وآله ما ذهبنا إليه مع ما يقتضيه السبب من ولاء العتق، وإنما يكون السبب طاعنا لو كان حمل الخبر على موجبه ينافي تأويلنا وأكثر ما تقتضيه الأسباب أن يجعل الكلام الخارج عليها مطابقا لها، فأما أن لا يتعداها فغير واجب.

ومنها، أن كلام النبي صلى الله عليه وآله يجب أن يحمل على ما يكون مفيدا عليه، ثم على ما يكون أدخل في الفائدة لأنه صلى الله عليه وآله أحكم الحكماء، وإذا كان هذا واجبا لم يحسن أن يحمل خبر الغدير على ما ادعوه لأنه إذا حمل عليه لم يفد من قبل أنه معلوم لكل أحد علما لا يخالج فيه الشك أن ولاء العتق لبني العم.

قال صاحب الكتاب بعد كلام قد تقدم كلامنا عليه: (وأما من استدل بأن ذكر القسمة فيما يحتمله لفظة " مولى " من ملك الرق، والمعتق، وابن العم، والعاقبة، وأبطل كل ذلك، وزعم أنه ليس بعده إلا الإمامة، فإنه يقال له: ومن أين أن هذه اللفظة تفيد الإمامة في لغة

الصفحة 315 

أو شرع أو تعارف ليتم لك إدخاله في القسمة؟ لأنه إنما يدخل في القسمة ما يفيده القول ويحتمله دون غيره، فإن قال: لأن لفظة الإمام تقتضي الإئتمام به والاقتداء، ووجوب الطاعة، ولفظة " مولى " تطلق على ذلك في التفصيل فيجب دخول الإمامة تحته، فيقال له: ومن أين أن وجوب الطاعة يستفاد بمولى، أولست تعلم أن طاعة الوالد على الولد واجبة، ولا يقال له إنه مولى؟ وإذا ملك بعقد الإجارة الأجير يلزمه طاعته ولا يقال ذلك فيه، وقد استعمل أهل اللغة في الرئيس المقدم لفظة " الرب " ولم يستعملوا لفظة " المولى " إلا إذا أرادوا به النصرة، فإن قال: قد ثبت إنهم يقولون في السيد: إنه مولى العبد لما ملك طاعته، ولزمه الانقياد له وذلك قائم في الإمام فوجب أن يوصف بذلك قيل له: لم يوصف المولى بذلك لما ذكرته، وإنما يوصف لأنه يملك بيعه وشراءه، والتصرف فيه بحسب التصرف في الملك وذلك لا يصح في الإمام،... " (1).

يقال له: قد بينا أن لفظة " مولى " تفيد في اللغة من كان أولى بالتدبير، وأحق بالشئ الذي قيل إنه مولاه واستشهدنا من الاستعمال بما لا يمكن دفعه، غير أن ما يستعمل هذه اللفظة فيه على ضربين، أحدهما لا يصح مع التخصص بتدبيره والتحقق بالتصرف فيه وصفه بالطاعة كسائر ما يملك سوى العبيد، فإنه قد يوصف المالك للأموال وما جرى مجراها من المملوكات بأنه مولى لها على الحد الذي وصف الله تعالى به الورثة المستحقين للميراث، والمختصين بالتصرف فيه، في قوله: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم) (2) وإن كان دخول لفظ الطاعة ووجوبها في ذلك ممتنعا، والضرب الآخر يصح مع

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 155.

(2) النساء 7.

الصفحة 316 

التحقق به والتملك له وصفه بالطاعة ووجوبها كالوصف للسيد بأنه مولى العبد، وولي المرأة في الخبر الذي أوردناه متقدما بأنه مولاها ورجوع كلا الوجهين إلى معنى واحد وهو التحقق بالشئ والتخصص بتدبيره، ولا معتبر بامتناع دخول لفظ الطاعة في أحدهما دون الآخر إذا كانت الفائدة واحدة.

فأما إلزامه إجراء لفظة " مولى " على الوالد والمستأجر للأجير من حيث وجبت طاعتهما فغير ممتنع أن يقال في الوالد: أنه مولى ولده بمعنى أنه أولى بتدبيره، كما أنه قد يستعمل فيه ما يقوم مقام مولى من الألفاظ فيقال: إنه أحق بتدبير ولده وأولى به، وكذلك القول في المستأجر لأنه يملك تصرف الأجير إلا أن إطلاق ذلك من غير تفسير وضرب من التفصيل ربما لم يحسن، ليس لأن اللغة لا تقتضيه لكن لأن لفظة " مولى " قد كثر استعمالها بالاطلاق في مالك العبد ومن جرى مجراه فصار تقييدها في الوالد واجبا إزالة للبس والابهام، ومثل هذا كثير في الألفاظ، وليس هو بمخرج لها عن حقائقها وأصولها.

ثم يقال له: إذا قلت: إن لفظة " مولى " تفيد الموالاة في الدين التي يحصل بين المؤمنين، فهلا أطلقت على الوالد أنه مولى ولده والمستأجر أنه مولى أجيره إذا كان الجميع مؤمنين وذهبت في اللفظة إلى معنى الموالاة؟

فإن قلت: إني أطلق ذلك لا أحتشم منه، قلنا لك: ونحن أيضا نطلق ما سمتنا (1) إطلاقه فيهما، ويزيد المعنى الذي ذهبنا إليه، لأن قلة الاستعمال إذا لم تكن مانعة لك من إطلاق اللفظ على المعنى الذي اخترته

____________

(1) سمتنا: كلفتنا.

الصفحة 317 

لم تكن مانعة - وأدلتنا ثابتة - لنا، وإذا ثبت الإطلاق كنت مناقضا إلا أن تعتذر بمثل ما اعتذرنا به.

فأما الرئيس السيد فلا شبهة في إجراء لفظة " مولى " عليه وقد حكينا ذلك فيما تقدم عن أهل اللغة، وليس هو مما يقل استعماله في كلامهم، بل ظهوره بينهم كظهور استعمال لفظة " رب " في الرئيس، ودفع ما جرى هذا المجرى قبيح.

فأما إنكاره استعمال لفظة " مولى " في مالك العبد من حيث ملك طاعته، وقوله: (إنما وصف بمولى من حيث ملك بيعه وشراه والتصرف فيه) فهو إنكار متضمن للاقرار، وإن لم يشعر به، لأنا نعلم أن المالك من العبد التصرف بالبيع والاستخدام وغيرها من وجوه المنافع لا يصح أن يكون مالكا لذلك إلا ويجب على العبد طاعته فيه، والانقياد له في جميعه، فقد صار مالك التصرف غير منفصل من مالك الطاعة ووجوبها بل المستفاد بمالك التصرف معنى وجوب الطاعة والانقياد فيما يرجع إلى العبد وإنما انفصل التصرف المستحق على العبد من الذي ليس لمملوك ولا مستحق بهذه المزية، وهذا يبين أن الذي أباه صاحب الكتاب لا بد له من الاعتراف به.

ثم يقال له: إذا كان وصف مولى العبد إنما أجري من حيث ملك بيعه وشراه لا من حيث وجبت طاعته عليه فيلزمك أن تجري هذا الوصف في كل موضع حصل فيه هذا المعنى، فتقول في المالك للثوب والدار والبهيمة والضيعة: إنه مولى لجميع ذلك، وتطلق القول من غير تقييده فإن فعلت واطلقت ما سمينا لك إطلاقه ذهابا إلى أن أصل اللفظة في الوضع ومعناها يقتضيانه، ولم تحفل بقلة الاستعمال جاز لنا أن نطلق أيضا في

الصفحة 318 

الوالد أنه مولى ولده وكذلك في الأجير ونذهب إلى معنى اللفظة وما يقتضيه وضعها، ولا نجعل قلة الاستعمال مؤثرا فليس ما سمتنا إطلاقه بأقل في الاستعمال مما ألزمناك أن تطلقه وإن أبيت الإطلاق فليس لك بد من أن تصير إلى ما ذكرناه، وإلا كنت مناقضا ويسقط على كل حال إلزامك الذي ظننت أنك تتوصل به إلى إبطال قولنا في إجراء لفطة " مولى " على من وجبت طاعته، على أن استدلالنا بخبر الغدير على إيجاب الإمامة لا يفتقر إلى أن لفظة " مولى " تجري على الإمام، ومالك الطاعة بغير واسطة، لأنا قد بينا احتمالها للأولى، وهذا مما لا يمكن صاحب الكتاب ولا أحدا دفعه فإنه ظاهر في اللغة، وقد ذكرنا فيما تقدم من كلامنا في الشواهد عليه ما في بعضه كفاية، وإذا احتملت أولى من غير إضافة، وقد علمنا أن الأولى في اللغة هو الأحق بلا خلاف، وقد يجوز أن يستعمل لفظة أحق وأولى مضافتين إلى الطاعة كما يجوز استعمالها في غير الطاعة من ضروب الأشياء وإذا جاز ذلك وثبت أن مقدمة خبر الغدير تضمنت التقرير بوجوب الطاعة وكان معنى (أولى بكم) أولى بتدبيركم، ووجوب الطاعة عليكم بغير خلاف أيضا، وكنا قد دللنا فيما تقدم على أن ما أوجبه في الكلام الثاني (1) يجب أن يكون مطابقا لمقتضى المقدمة الأولى حتى كأنه قال عليه السلام من كنت أولى به في تدبيره وأمره ونهيه فعلي أولى به في ذلك، فقد وضح ما قصدناه من الدلالة على النص بالإمامة من غير حاجة إلى أن لفظة " مولى " تجري على ملك الطاعة بنفسها هذا على الطريقة الأولى، فأما على طريقة التقسيم فهي أيضا غير مفتقرة إلى ذلك، لأنه إذا بطل أن يكون مراده صلى الله عليه وآله بلفظة " مولى " سائر ما يحتمله اللفظة سوى

____________

(1) الكلام الثاني في قوله صلى الله عليه وآله (من كنت مولاه فعلي مولاه) والمقدمة الأولى قوله صلى الله عليه وآله (أولست أولى بكم منكم بأنفسكم).

الصفحة 319 

أولى وبطل أن يريد بأولي شيئا مما يجوز أن يضاف إلى هذه اللفظة سوى ما يقتضي الإمامة، والتحقق بالتدبير لما تقدم ذكره، فقد وضح وجه الاستدلال بالطريقتين معا.

قال صاحب الكتاب: (وقد ذكر أبو مسلم أن هذه الكلمة مأخوذة من الموالاة بين الأشياء يعني اتباع بعضها بعضا، ولذلك يقولون فيمن يختصون به من أقربائهم إذا أخبروا عنهم هذا لي ولمن يلين (1) وكان المعنى في كون المؤمن مواليا لأخيه أن يكون متابعا له ثم تصرفوا في الاستعمال قرينة على أن التعارف في ذلك هو بمعنى النصرة ومتابعة البعض للبعض فيما يتصل بأمر الدين، وذلك لا يليق بالإمامة لأن الوجه الذي له يكون مولى لهم يقتضي أن يختصوا بمتابعته ويكون المتابعة من أحد الطرفين واشتقاق اللفظ يقتضي المتابعة من كلا الطرفين وذلك يليق بالموالاة في الدين، وإنما يقال في الإمام أنه مولى لا من جهة الإمامة، بل من جهة الدين لأنه إذا اختص بالإمامة لزمته النصرة وسائر ما يختص به ويتعلق بالدين (2) وعلى هذا الوجه يقال في سائر رعيته أنهم موال له كما يقال فيه أنه مولى لهم، وقد بينا أن المعاني التي يختص بها الإمام وتفيدها الإمامة لا يعلم إلا بالشرع لأن العقل لا يميز ذلك من غيره، وإنما نعرف ذلك شرعا فلا يمكن أن يقال: إن لفظة " مولى " تفيده من جهة اللغة إلا على وجه التشبيه، ولا يمكن أن يقال: إنها لفظة شرعية ولا للتعارف فيها مدخل فكيف يمكن ما ذكروه من إدخال ذلك في القسمة فضلا على أن يقولوا: إنه الظاهر من الكلام ومن عجيب الأمور في هذا المستدل أنه ذكر في الخبر

____________

(1) غ " ولمن يليني فكأن " وفي المخطوطة " ولمن يليهم ".

(2) غ " لتعلق " وقال المعلق: " كذا بالأصل " واكتفى بذلك وخفي عليه المراد!

الصفحة 320 

سائر الأقسام وترك ما حمل شيوخنا الخبر عليه ولو اشتغل (1) بذلك لكان أولى به،... " (2) يقال له: إن الذي حكيته عن أبي مسلم لا ينكر إن يكون صحيحا، وهو إذا صح لا يضرنا ولا ينفعك، وإن كنت قد أتبعته بشئ من عندك ليس بصحيح، ولا خاف الفساد لأن أبا مسلم فسر معنى الموالاة واشتقاقها، ولم يقل إن لفظة " ولي " أو " مولى " لا معنى لها، ولا يحتمل إلا الموالاة التي فسرها بالمتابعة، بل قد صرح بضد ذلك، ونحن نحكي كلامه بعينه في الموضع الذي نقل منه صاحب الكتاب الحكاية قال أبو مسلم في كتاب " تفسير القرآن " عند انتهائه إلى قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله) بعد كلام قدمه " وقد ذكرنا معنى " الولي والموالاة " في عدة مواضع مما فسرنا من السور الماضية، وجملة معناه أن يكون الرجل تابعا محبة أخيه في كل أحواله ويملك منه ما يملكه من نفسه، ويريد له ما يريد لها والناس يقولون فيمن يختصون من أقاربهم إذا أخبروا عنهم: هذا لي ولمن يليني، وكأن المعنى مأخوذ من الموالاة بين الأشياء، أي اتباع بعضها بعضا، فيكون المؤمن مواليا لأخيه أي متابعا له، ويكون المعنى في نسبة ذلك إلى الله تعالى بقوله (إنما وليكم الله ورسوله) أي من يملككم ويلي أمركم، ويجب عليكم طاعته واتباعه وإلى الرسول بما عطف من ذكره على الله تعالى بما فرض الله من طاعته في أدائه عن الله تعالى إذ يقول:

(من يطع الرسول فقد أطاع الله) وبما يبذله من النصح للمؤمنين وهو فوق ما يعطيه بعضهم بعضا كما قال الله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من

____________

(1) غ " ولو استدل ".

(2) المغني 20 ق 1 / 155.

الصفحة 321 

أنفسهم) وإنما ينسب إلى (الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) ما قدمناه من الاتفاق بينهم وطاعة كل واحد منهم لصاحبه ومظافرته إياه على أمر الله، وملكه من أخيه ما يملكه من نفسه فيه " هذا كلامه بألفاظه وهو يشهد بما يذهب إليه من إجراء لفظة " ولي " على من تجب طاعته والانتهاء إلى أمره على خلاف ما يريده صاحب الكتاب، ويذهب إليه، وإذا كان معناها وأصل اشتقاقها إذا أريد بها الموالاة يقتضيان المتابعة على ما ذكر لم يناف ذلك قولنا ولا قدح فيه، لأنا قد ذكرنا فيما تقدم أن لفظة " مولى وولي " تجريان على الموالاة في الدين، ودللنا على أن المراد بهما في الآية وخبر الغدير ما ذهبنا إليه دون غيره، وفي كلام أبي مسلم ما يخالف رأي صاحب الكتاب من وجه آخر لأنه جعل قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) موافقا لمعنى الآية التي ذكرناها في اقتضاء وجوب الطاعة والاتباع، ومعلوم أن التقرير في مقدمة خبر الغدير وقع بما أوجبه الله تعالى في الآية لرسوله صلى الله عليه وآله وأن المعنيين متطابقان، وصاحب الكتاب ينكر فيما حكيناه من كلامه ونقضناه أن يكون التقرير وقع بفرض الطاعة في خبر الغدير، وقد بينا أنه خلاف للأمة، وقد كان يجب عليه إذا احتج بكلام أبي مسلم في الموضع الذي حكاه وجعله قدوة فيما يرجع إلى اللغة والاشتقاق أن يلتزم جميع ما ذكره هناك، ولا يقتصر احتجاجه على ما وافق هواه دون ما خالفه، وليس له أن يقول: إن الخطأ يجوز على أبي مسلم في بعض كلامه دون بعض، لأن ذلك إنما يجوز فيما طريقه الاستدلال، فأما فيما طريقه اللغة التي لا مجال للاستدلال والقياس فيها، وإنما يؤخذ سماعا فإنه لا يجوز لا سيما وقد جعل قوله في معنى اللفظة واشتقاقها حجة، ومن كان بهذه المنزلة فيما يرجع إلى اللغة يجب أن يرجع إلى جميع قوله في معنى هذه اللفظة وتأويلها.

الصفحة 322 

فأما الخطأ الذي اتبع صاحب الكتاب كلام أبي مسلم فهو اعتقاده أن الموالاة إذا كانت بمعنى المتابعة استحال حصولها من جهة واحدة، ووجب أن لا يدخل إلا بين اثنين، وهذا خطأ فاحش لأن لفظة المفاعلة ليس يجب في كل موضع دخوله بين الاثنين، وإن كان قد يدخل بينهما في أكثر المواضع فمن لفظة المفاعلة المستعملة في الواحد دون الاثنين قولهم ناولت وعاقبت وظاهرت وعافاه الله، وما يجري مجرى ما ذكرناه مما يتسع ذكره، وقولهم: تابعت وواليت لا حق بما عددناه مما يكون عبارة عن الواحد وإن كان لفظه لفظ المفاعلة.

فأما ما ذكره في آخر كلامه من أن ما تفيده الإمامة ويختص به الإمام لا يعلم إلا بالشرع، وتوصله بذلك إلى أن لفظة " مولى " لا تفيد الإمامة فغير صحيح، لأن الإمامة تجري في اللغة على معنى الاتباع والاقتداء، وهي في الشرع أيضا تفيد هذا المعنى وإن كانت الشريعة وردت بأحكام يتولاها الإمام على التفصيل لا يفيدها اللفظة اللغوية المفيدة للاتباع والاقتداء على سبيل الجملة.

وقد بينا أن الخبر إذا اقتضى وجوب الطاعة والاتباع فقد دل على الإمامة بجميع أحكامها الشرعية، لأن الطاعة على جميع الخلق في سائر الأمور لا تجب بعد النبي إلا للإمام فقد بطل قوله: (إن الإمامة لا تدخل في القسمة).

فأما تأويل شيوخه للخبر فقد تقدم كلامنا عليه.

قال صاحب الكتاب: " فأما ما أورده من زعم (1) أنه لو لم يرد صلى الله عليه وآله به الإمامة لكان قد تركهم في حيرة وعمى عليهم فإنه يقال له: ما الذي يمنع أن يثبت في كلامه صلى الله عليه وآله ما لا يدل ظاهره

____________

(1) يعني أبا جعفر بن قبة كما سيأتي ذلك في كلام المرتضى.

الصفحة 323 

على المراد، فإن قال: لأنه يؤدي إلى ضد ما بعث له من البيان قيل له:

أليس في كتاب الله تعالى البيان والشفا وفيه متشابه لا يدل ظاهره على المراد، فإن قال: إن المتشابه وإن كان ظاهره لا يدل على المراد، ففي دليل العقل ما يبين المراد به قيل له: فيجوز (1) مثله في كلامه صلى الله عليه وآله لأن من خالف لا يقول إنه صلى الله عليه وآله لم يرد بذلك فائدة، وإنما يقول: إن ظاهره لا يدل على مراده، وإنما يدل عليه بقرينة ".

ثم قال: " فإن قال: إنما أردت أنه صلى الله عليه وآله لما عرف قصده عند هذا الكلام باضطرار إلى الإمامة فلو لم يدل الكلام عليه لكان معميا،... " (2). ونشرع في الجواب عن هذا السؤال بما لم نذكره، لأنا لا نسأله عنه قط فنشتغل بإضمار جوابه.

وقال في آخر الفصل: " ومن عجيب أمر هذا المستدل أنه ادعى ما يجري مجرى الضرورة عند هذا الخبر، ثم ذكر أنه اشتبه على الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله حال هذا النص من حيث ثبت عندهم قوله: (الأئمة من قريش) وظنوا أن هذا العموم يقضي على ذلك النص ".

قال: " وهذا من بعيد ما يقال لأنهم إذا عرفوا ذلك باضطرار وهم جمع عظيم فلا بد من أن يعرفه غيرهم بخبرهم ومتى اشتهرت الحال في ذلك لم يصح وقوع الاشتباه عليهم،... " (3).

يقال له: قد علمنا من الذي وجهت كنايتك في هذا الفصل إليه، وهو شيخنا أبو جعفر بن قبة رحمه الله والذي ذكره في صدر كتابه المعروف

____________

(1) غ " فجوز ".

(2) المغني 20 ق 1 / 156.

(3) المغني 20 ق 1 / 158.

الصفحة 324 

ب " الإنصاف والإصاف " خلاف ما ظننته لأنه إنما أوجب كون النبي صلى الله عليه وآله ملبسا محيرا متى لم يقصد النص بخبر الغدير من حيث بين رحمه الله اقتضاء ظاهر الكلام للنص، وأنه متى حمل على خلافه كان القول خارجا عن مذهب أهل اللغة، وقد فرق في الكتاب أيضا بين متشابه القرآن وبين ما أنكره بأن قال: " إن العقل دال على أنه تعالى لم يقصد بذلك التشبيه وما جرى مجراه مما لا يجوز عليه، والمخاطبون في تلك الحال بالمتشابه قد فهموا معناه، وليس مثل هذا في النص لأن العقل لا يخيل أن يكون قصد بخبر الغدير إلى النص " وأسقط رحمه الله قول من سأل فقال: جوزوا أن يكون السامعون لخبر الغدير من النبي صلى الله عليه وآله قد فهموا مراده وأنه لم يرد به النص بأن قال: " إذا كانت معرفة المراد من الكلام لازمة لنا كلزومها لهم لم يجز أن يخصوا بدلالة أو ما يجري مجرى الدلالة مما يوصل إلى معرفة المراد دوننا، ولوجب أن يقطع عذر الجميع في معرفة مراده لعموم التكليف لهم ".

فأما ما توهمه على أبي جعفر من ادعاء الضرورة في معرفة النص من خبر الغدير، وأنه ناقض من بعد بقوله: (إن الأمر اشتبه على الناس حتى ظنوا أن العمل بقوله عليه السلام: " الأئمة من قريش " أولى) فغلط منه عليه لأن الرجل لم يدع الضرورة في شئ من كلامه، ومن استقرأ كلامه (1) في هذا الباب وغيره عرف صحة ما ذكرناه، بل قد صرح بما يدل على خلاف الضرورة لأنه استدل على إيجاب النص من الخبر باللغة وما تقتضيه المقدمة والعطف عليها، ولو كان قائلا بالضرورة في معرفة المراد لم يحتج إلى شئ مما ذكره على أنه قد قال أيضا عند تقسيم النص إلى قسمين " فأما النص

____________

(1) استقرأ الكلام: تتبعه، وأصله من استقراء الناقة بعد الضراب لينظر ألقحت أم لا؟.

الصفحة 325 

الذي وقع بحضرة العدد الكثير فإنما كان يوم الغدير وكلهم كانوا ذاكرين لكلامه عليه السلام غير أنهم ذهبوا عنه بتأويل فاسد لأنهم إنما دخلت عليهم الشبهة من حيث توهموا أن لذلك الكلام ضربا من التأويل يجوز معه للرؤساء إذا وقعت الفتنة، واختلفت الكلمة أن يختاروا إماما " ومعلوم أن هذا كلام من لا يدعي الاضطرار إلى معرفة المراد بخبر الغدير لأن الضرورة تنافي دخول التأويلات، ولو كان القوم عنده مضطرين ما جاز أن يقول: " إنهم ظنوا أن للكلام ضربا من التأويل عند دخول الشبهة " ولسنا نعلم من أين وقع لصاحب الكتاب ما ظنه مع بعده، وهذه جملة كافية، والمنة لله تعالى

____________

(1) هكذا في الأصل، وبذلك انتهى أيضا الجزء الثاني من تجزئة هذه الطبعة بحمد الله تبارك وتعالى، ويتلوه - إن شاء الله - الجزء الثالث، وأوله بعد البسملة:

قال صاحب الكتاب: " دليل آخر لهم، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله:

(أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).