فصل في الكلام على ما اعتمده من دفع وجوب النص من جهة العقل

الواجب أن نقدم قبل حكاية كلامه، ومناقضة الدلالة على وجوب النص، ثم نعترض جملة ما أورده في هذا الفصل.

فمما يدل من طريق العقول على وجوب النص، أن الإمام إذا وجبت عصمته بما قدمناه من الأدلة، وكانت العصمة غير مدركة فتستفاد من جهة الحواس، ولم يكن أيضا عليها دليل يوصل إلى العلم بحال من اختص بها فيتوصل إليها بالنظر في الأدلة، فلا بد مع صحة هذه الجملة من وجوب النص على الإمام بعينه، أو إظهار المعجز القائم مقام النص عليه، وأي الأمرين صح بطل الاختيار. الذي هو مذهب المخالف، ومن أجله تكلفنا الدلالة على وجوب النص وإنما بطل (1) من حيث كان في تكليفه مع ثبوت عصمة الإمام تكليف لإصابة ما لا دليل عليه، وذلك في القبح يجري مجرى تكليف ما لا يطاق (2).

فإن قيل: ولم لا جاز مع ثبوت العصمة التي ادعيتموها تكليف الاختيار؟ بأن يعلم الله تعالى أن المختارين للإمام لا يختارون إلا

____________

(1) أي الاختيار.

(2) لأن تكليف ما لا يطاق ممنوع شرعا (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقبيح عقلا.

الصفحة 6      

معصوما، ولا يتفق لهم إلا اختيار المعصوم، فيحسن تكليفهم الاختيار مع العلم بما ذكرناه من حالهم.

قلنا: ليس ما ذكرتموه بمخرج هذا التكليف من اللحوق بتكليف ما لا يطاق، ولا دليل عليه ولا معتبر بالعلم في هذا الباب، لأن علم الله تعالى من حال المكلف أنه يتفق له اختيار المعصوم ليس بدلالة على عين الإمام المعصوم، فقد آل الأمر إلى أنه تكليف لما لا دليل عليه، وقبح ذلك ظاهر.

وقد عورض من أجاز ما تضمنه هذا السؤال، وألزم إجازة تكليف اختيار الشرائع والأنبياء، والأخبار عما كان ويكون من الغائبات إذا علم أن من كلف ذلك يتفق له في الشرائع ما فيه المصلحة، وفي الأنبياء من يجب بعثه، وفي الأخبار الصدق منها دون الكذب، ولا فرق بين من أجاز اختيار المعصوم وبين من أجاز كل ما ذكرناه.

وفي الناس من ارتكب جواز اختيار الشرائع والأنبياء، وقد حكي ذلك عن مؤنس بن عمران (1).

فأما الأخبار عما لا يتعلق بالأحكام من الأمور الكائنات فإنه لم يتركب حسن تكليفها ولا فرق بين ما ارتكبه مما حكيناه وبين ما لم يرتكبه،

____________

(1) في " الشافي " المخطوط " مؤيس بن عمران " وفي المطبوع " يونس " تصحيف، وهو كما في طبقات المعتزلة ص 70 مؤيس بن عمران الفقيه قال: وكان يقول بالارجاء " ونقل القاضي في المغني 12 / 238 " إن الله تعالى يجوز أن يكلف العبد باختياره إذا علم أنه لا يختار إلا الصلاح " قال " وأنكر ذلك المعتزلة " وفي " تلخيص الشافي " ج 1 / 277 " موسى بن عمران " وعلق السيد بحر العلوم دامت إفاداته على ذلك بقوله: " في نفس الشافي: يونس بن عمران - من علماء الكلام - ولعله الأصح ". ولكن الصحيح في اسمه ما تقدم.

الصفحة 7      

لأن الجميع يرجع إلى أصل واحد، وهو أنه تكليف لما لا دليل عليه ولا سبيل إليه، وذلك يجري مجرى تكليف ما لا يطاق.

ويبين ما ذكرناه أنا نعلم وكل عاقل قبح تكليف أحدنا غيره الإخبار عما يفعله المكلف مستسرا به (1) وعن مبلغ أمواله التي لا طريق لمن كلفه الإخبار عنها إلى العلم بمبلغها، وليس يخرج هذا التكليف من القبح غلبة ظن المكلف بأن المكلف يصيب اتفاقا أو علمه بذلك فقد يجوز أن يعلمه من جهة نبي صادق وإذا قبح هذا التكليف وظهر سفه مكلفه لكل عاقل، ولم يكن العلة في قبحه إلا فقد الدليل وجب قبح كل نظير له من التكاليف، وهذا الدليل آكد ما اعتمد عليه في وجوب النص من طريق العقل، بل هو الذي يجب أن يكون التعويل عليه، ويتلوه في القوة ما استدل به كثير من أصحابنا أيضا على وجوب النص فقالوا: قد ثبت أن الإمام لا بد أن يكون أفضل الخلق عند الله تعالى وأعلاهم منزلة في الثواب في زمانه وعند ثبوت إمامته، لأنه إذا كان إماما للكل فلا بد أن يكون أفضل من الكل، وستأتي الدلالة على هذا الموضع فيما يأتي من الكتاب، وإذا ثبت كونه أفضل ولم يمكن التوصل إليه بالأدلة ولا بالمشاهدة وجب النص أو المعجز على الحد الذي رتبناه عند التعلق بالعصمة، وإذا سئل على هذا الدليل عما ذكرناه في دليل العصمة فالجواب عنه ما ذكرناه هناك لأن مرجع الطريقين إلى أصل واحد.

وقد استدل على وجوب النص على الإمام بكونه عالما بجميع الأحكام حتى لا يفوته شئ منها، وأن كونه عالما بها لا يمكن الوصول إليه إلا بالنص، ولو أمكن الوصول إليه بالامتحان لم يجز أن يكون الممتحن له

____________

(1) مستسرا به: مستخفيا.

الصفحة 8      

إلا من هو عالم بجميع الأحكام. وقد علمنا أن من يمكنه اختيار الإمام وامتحانه من جماعات الأمة لا يعلم بذلك، ولا يحيط به، ورتب الكلام في هذه الطريقة ترتيبه في الطريقين المتقدمين.

وهذا الدليل ليس يرجع فيه إلى مجرد العقل بل لا بد فيه من ثبوت أمر لا يثبت إلا بالسمع، لأن التعبد بالأحكام الشرعية في الأصل كان يجوز في العقل سقوطه وارتفاعه عن المكلفين، ولا شئ من هذه الأحكام إلا والعقل يجوز أن لا يرد التعبد به بأن لا يكون فيه مصلحة وإذا كان العقل غير موجب لثبوت هذه الأحكام في حال فكيف يجب فيه كون الإمام عالما بها في كل حال ويجعل علمه بذلك من شروط إمامته؟ والذي يقتضيه مجرد العقل أن الإمام لا بد أن يكون مضطلعا (1) بما أسند إليه، عالما بما عول فيه عليه في التدبير (2).

فأما العلم بالأحكام الشرعية الواردة من طريق السمع فليس في العقل إلا أن السمع إذا ورد بها علمنا بالقياس العقلي أن الإمام لا بد أن يكون عالما بجميعها على ما سنذكره.

فأما قوله في هذا الفصل: " إنه غير ممتنع أن يعلم تعالى أن الصلاح أن لا يقام الإمام أصلا فكما يكوز ذلك فجاز أن يكون الصلاح إقامته بطريقة الاجتهاد إذا ثبت وبين موضعه، بأن يدل تعالى على الصفة التي إذا كان عليها من يقيمه كان صلاحا " فمما قد تقدم فساده بما دللنا به على وجوب الإمامة، وعلى أن الصفة التي لا بد من كون الإمام عليها لا يمكن أن يستفاد من جهة الاجتهاد، وأنها مما لا يقوم على مثله دلالة فيعلم من

____________

(1) اضطلع بالأمر: قام به مع ثقله وفي المخطوطة " مطلعا ".

(2) على تدبيره، خ ل.

الصفحة 9      

طريق النظر في الأدلة، ولو لم يثبت من ذلك إلا كونه معصوما لكفى في وجوب النص عليه وفساد اختياره،.

فأما معارضته لنا بالأمراء والعمال والحكام، ثم بالشهود والأوصياء، والزامه التسوية بينهم وبين الأئمة في وجوب النص فغير لازمة، لأن جميع من ذكر من هؤلاء ليس يجب اختصاصه بصفة لا سبيل إلى الوصول إليها بالامتحان على حد ما قلناه في الإمام وقد فرقنا بين الإمام وأمرائه وسائر المتولين من قبله في العصمة بما يقتضي الفرق بينهم وبينه في وجوب النص أيضا، لأنه إذا كان ما أوجب النص عليه من الاختصاص بالعصمة غير موجود فيهم لم يجب مساواتهم له في وجوب النص عليهم، وجاز أن يرجع في ولايتهم إلى الاختيار والقول في الشهود والأوصياء كالقول في الأمراء والحكام في أنه لا صفة لهم يستحيل أن تعلم بالامتحان بالذي يعتبر فيهم من حسن الظاهر، والعدالة المظنونة دون المعلومة يمكن الوصول إليه ولا يجري مجرى العصمة التي لا سبيل إلى العلم بها بالامتحان والاختبار.

فأما إلزامه نفسه إقامة الأنبياء بالاجتهاد والاختبار قياسا على الأئمة. وقوله في الجواب: (إن الذي له يجب في الرسول أن يكون معينا هو كونه حجة فيما حمل من الرسالة فلا بد من أن يكون تعالى قد حمله من الرسالة بعينه، ثم لا بد من أن يدعي ويصدقه الله تعالى بدلالة الإعجاز لتحصيل البغية، وذلك لا يأتي في الإمام لأنه ليس بحجة في شئ يتحمله، وإنما يقوم بالأمور التي ذكرناها مما قد وجبت بالشرع.

فلنا إن نقول له: إذا أوجبت الدلالة على عين الرسول صلى الله عليه وآله وأبطلت

الصفحة 10   

اختياره لأجل كونه حجة وصادقا فيما ادعاه لأن ذلك مما لا يعلم بطريقة الاختيار فأوجب أيضا في الإمام مثله.

لأنا قد دللنا على وجوب عصمته، والعصمة مما لا يمكن أن تعلم بالاختيار فكان تحصيل السؤال الذي ذكرت وسألت نفسك عنه أن يقال:

لو جاز ثبوت الإمام مع وجوب عصمته بغير نص لم يمتنع مثله في النبي صلى الله عليه وآله وإنما عدلنا عن معارضته بكون الإمام حجة كما أن النبي حجة وإن كانت الدلالة قد سوت بينهما في معنى الحجة عندنا.

وقد تقدم ذكرها فيما مضى من الكتاب حيث دللنا على أن الإمام حافظ للشرع ومؤد له إلينا لأن دلالة كون الإمام حجة على هذا الوجه ترجع إلى أمر متعلق بالسمع، وكلامنا في هذا الفصل على ما يقتضيه مجرد العقول، فلا بد من العدول عما لا يعلم ثبوته إلا بالسمع.

فأما قوله في آخر الفصل: " على أن السمع قد ورد في باب الإمامة بما ذكرناه على ما سنبينه من بعد وثبوت السمع على هذا الوجه يدل على أن العقل لا يمنع من ثبوت ذلك بغير النص " فدعوى منه على السمع غير صحيحة، وليس يمكن أن يدعى سمع تقوم بمثله الحجة في باب الاختيار، وأكثر ما يمكن ادعاؤه (1) في السمع وروده بأن اختيارا وقع لبعض من ادعيت إمامته، ولم يثبت أن المختارين كان لهم فعل ما فعلوه، ولا أن الذي عقدوا له الإمامة تثبت له إمامة على الحقيقة، ونحن لم نمنع من اختيار من تدعى له الإمامة وليس بإمام على الحقيقة. وإنما منعنا من اختيار الإمام الذي تثبت إمامته وتصح، وسنتكلم على ما وعدنا بإيراده من السمع عند البلوغ إليه بعون الله تعالى.

____________

(1) خ " أن يدعى ".

الصفحة 11   

فأما قوله: " وثبت أيضا إن أحدا من السلف لم يذكر في الإمامة أنها لا تكون إلا بالنص، وقد جرت فيها الخطوب (1) وأن العقل يقتضي ذلك فيها، لتصرف بذلك عما كانوا عليه على اختلاف أحوالهم " فباطل، لأنه لا شبهة في أن جماعة من جملة (2) السلف خالفت في أصل الاختيار، على ما سنذكره من بعد عند الكلام في إمامة أبي بكر بمشيئة الله تعالى.

وقد دل الدليل على أن إنكار هؤلاء كان لأصل الاختيار وإن لم يصرحوا به، واكتفوا بالنكير على الجملة، ولو لم يدل الدليل على ذلك لكان إنكارهم محتملا للأمرين، يعني إنكار أصل الاختيار جملة، وإنكار أمامة المختار في تلك (3) الحال، وإذا كان محتملا بطل ادعاؤه الإطباق، وأن أحدا من السلف لم يقل في الإمامة أنها لا تكون إلا بالنص، وصار محتاجا إلى أن يدل على أن الإنكار الواقع الذي بينا أنه محتمل للأمرين لم يكن إلا لأحدهما دون الآخر وأنى له بذلك؟ فإن عول صاحب الكتاب على ما لا يزال أصحابه يعتمدونه من رجوع من ذكرنا من المخالفين ووقوع الرضا منهم فسنبين بطلان هذا فيما بعد، وندل على أن الرضا لم يعلم وأكثر ما علم الكف عن النكير المخصوص، وذلك لا يدل على الرضا في مثل تلك الحال، على أن أحدا من المنكرين لإمامة أبي بكر ممن ذكرناه لم يقل أيضا أنه جائز عندي من طريق العقل الاختيار وإنما خلافي هذا في

____________

(1) الخطوب جمع خطب وهو الأمر العظيم.

(2) خ " جلة " ويقصد بهم عليا عليه السلام والمنحازين إليه يوم السقيفة كالزبير وسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار، وخالد وأبان ابني سعيد بن العاص، وأبي الهيثم بن التيهان، وسهل وعثمان ابني حنيف، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وأبي أيوب الأنصاري وأبي بن كعب وبريدة الأسلمي والعباس وأولاده بل بني هاشم كافة وغيرهم.

(3) خ " ذلك ".

الصفحة 12   

عين المختار لا في أصل الاختيار، وكما لم يقل عند إظهار الخلاف أنني مخالف في أصل الاختيار، ومبطل لجميعه، وليس خلافي خلاف من ينكر اختيارا ويصحح آخر فإن جاز عند خصومنا أن يكون ما ذكرناه أولا مستقرا في نفوس القوم المخالفين في إمامة الرجل الذي ذكرناه وإن لم يصرحوا به، وعولوا على ما يرجع إلى الدليل فيه من أحوالهم، جاز أيضا أن يكون ما ذكرناه أخيرا كان في نفوسهم ولم يظهروه للعلة التي ذكرت أو لغيرها، وما يدعى في الأنصار من أن ظاهر خلافهم كان في عين المختار لا في أصل الاختيار لا يمكن أن يدعى في غيرهم ممن ذكر خلافه في تلك الحال.

وأما الشورى وما يدعونه من أن دخول الجماعة فيها كان على سبيل الرضا بالاختيار فسنبين أيضا أنه ليس كل الداخلين فيها كان راضيا بالاختيار إذا انتهينا إلى الكلام فيما يتعلق بالشورى، على أن الخطوب لم تجر في أن العقل يدل على فساد الاختيار أم على صحته وإنما جرت في أعيان المختارين وقد خولف في ذلك بما أقل أحواله أن يكون محتملا بإنكار أصل الاختيار كاحتماله لغيره وليس يجب على المنكر في كل حال أن يبني وجه إنكاره على سبيل التفصيل وجهته، فإذا لم يجب ذلك لم يكن ترك القوم للتصريح بأن إنكارهم إنما كان لأصل الاختيار دون فرعه إلا على أنهم لم يكونوا منكرين لأصله، لأن النكير على سبيل الجملة يكفي في مثل تلك الحال