الباب في خوفه (عليه السلام) من الله وبكائه من خشية الله تعالى وخبر ضرار، وتصور الدنيا له (عليه السلام) وطلاقه الدنيا من طريق الخاصة

الصفحة 21   

وفيه ستة أحاديث

الأول: في رسالة الأهواز للصادق (عليه السلام)، قال أبي: قال علي بن الحسين (عليه السلام): سمعت أبا عبد الله الحسين يقول: حدثني أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: " إني كنت بفدك في بعض حيطانها وقد صارت لفاطمة، قال: فإذا أنا بامرأة قد قحمت علي وفي يدي مسحاة، وأنا أعمل بها، فلما نظرت إليها طار قلبي مما تداخلني من جمالها، فشبهتها ببثينة بنت عامر الجمحي، وكانت من أجمل نساء قريش فقالت: يا بن أبي طالب هل لك أن تتزوج بي فأغنيك عن هذه وأدلك على خزائن الأرض، فيكون لك المال ما بقيت ولعقبك من بعدك، فقلت لها: من أنت حتى أخطبك من أهلك؟ قالت أنا الدنيا، قلت لها: فارجعي واطلبي زوجا غيري، وأقبلت على مسحاتي وأنشأت أقول:

 

لقد خاب من غرته دنيا دنية    وما هي إن غرت قرونا بطايل

أتتنا على زي العزيز بثينة        وزينتها في مثل تلك الشمايل

فقلت لها غري سوائي فإنني    عزوف عن الدنيا ولست بجاهل

وما أنا والدنيا فإن محمدا        أحل صريعا بين تلك الجنادل

وهبها أتتنا بالكنوز ودرها        وأموال قارون وملك القبائل

أليس جميعا للفناء مصيرها      وتطلب من خزانها بالطوائل

فغري سواي إنني غير راغب   بما فيك من ملك وعز ونائل

فقد قنعت نفسي بما قد رزقته  فشأنك يا دنيا وأهل الغوايل

فإني أخاف الله يوم لقائه         وأخشى عذابا دائما غير زايل

 

فخرج من الدنيا وليس في عنقه تبعه لأحد حتى لقي الله محمودا غير ملوم ولا مذموم، ثم اقتدت به الأئمة من بعده بما قد بلغكم، لم يتلطخوا بشئ من بواقيها صلى الله عليهم أجمعين

الصفحة 22   

وأحسن مثواهم "(1).

الثاني: ابن شهرآشوب وغيره واللفظ له: قال معاوية لضرار بن ضمرة: صف لنا عليا فقال: كان والله صواما بالنهار قواما بالليل، يحب من اللباس أخشنه ومن الطعام أجشبه، وكان يجلس فينا ويبتدي إذا سكتنا، ويجيب إذا سألنا، يقسم بالسوية ويعدل في الرعية، لا يخاف الضعيف من جوره، ولا يطمع القوي في ميله، والله لقد رأيته ليلة من الليالي وقد أسبل الظلام سدوله وغارت نجومه، وهو يتململ في المحراب تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ولقد رأيته مسيلا للدموع على خده، قابضا على لحيته يخاطب دنياه فيقول: " يا دنيا أبي تشوقت ولي تعرضت؟ لا حان حينك فقد أبنتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعيشك قصير وخطرك يسير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق "(2).

الثالث: ابن بابويه قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن جرير الطبري قال: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن المخزومي قال: حدثنا محمد بن أبي يعقوب عن موسى بن أبي أيوب التميمي عن موسى بن المغيرة عن الضحاك بن مزاحم، قال: ذكر علي (عليه السلام) عند ابن عباس بعد وفاته فقال: وا أسفاه على أبي الحسن، مضى والله ما غير ولا بدل وما قصر ولا جمع ولا منع، ولا آثر إلا لله، والله لقد كانت الدنيا أهون عليه من شسع نعله، ليث في الوغى، بحر في المجالس، حكيم في الحكماء، هيهات، قد مضى إلى الدرجات العلى(3).

الرابع: ابن بابويه قال: حدثني أبي (رحمه الله) قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم عن إسماعيل بن مرار عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان عن أبي حمزة الثمالي عن الأصبغ بن نباتة أنه قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) علي بن أبي طالب إذا أتى بالمال أدخله بيت مال المسلمين، ثم جمع المستحقين، ثم ضرب يده في المال فنثره يمنة ويسرة وهو يقول: " يا صفراء يا بيضاء لا تغريني، غري غيري، هذا جناي وخياره فيه إذ كان جان يده إلى فيه " ثم لا يخرج حتى يفرق ما في بيت مال المسلمين ويؤتي كل ذي حق حقه، ثم يأمر أن يكنس ويرش، ثم يصلي فيه ركعتين، ثم يطلق الدنيا ثلاثا يقول بعد التسليم: " يا دنيا لا تتعرضي ولا تتشوقي ولا تغريني، فقد

____________

(1) بحار الأنوار: 70 / 84.

(2) مناقب آل أبي طالب: 1 / 371، وروضة الواعظين، وأمالي الصدوق: 724.

(3) أمالي الصدوق: 492 / مجلس 63 / ح 12.

الصفحة 23   

طلقتك ثلاثا لا رجعة لي عليك "(1).

الخامس: روي معلوما أن أبا بكر توفي وعليه لبيت مال المسلمين نيف وأربعون ألف درهم وعمر مات وعليه نيف وثمانون ألف درهم، وعثمان مات وعليه ما لا يحصى كثرة، وعلي مات وما ترك إلا سبعمائة درهم فضلا عن عطائه، أعدها لخادم(2).

السادس: ابن بابويه قال: حدثنا علي بن أحمد بن موسى الدقاق (رضي الله عنه) قال: حدثنا محمد بن الحسن الطاري قال: حدثنا محمد بن الحسين الخشاب قال: حدثنا محمد بن محسن عن المفضل ابن عمر عن الصادق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن آبائه قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): " والله ما دنياكم عندي إلا كسفر(3) على منهل(4) حلوا إذا صاح بهم سائقهم فارتحلوا ولا لذاذتها في عيني إلا كحميم أشربه غساقا وعلقم(5) زعاقا(6)، وسم أفعاة أسقاه دهاقا، وقلادة من نار أوهقها خناقا، ولقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها، وقال لي: اقذف بها قذف الأتن لا يرضيها لي راقعها، فقلت له: أعزب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى، وتنجلي عنا علالات الكرى، ولو شئت لتسربلت بالعبقري المنقوش من ديباجكم، ولأكلت لباب هذا البر بصدور دجاجكم، ولشربت الماء الزلال بريق زجاجكم، ولكني أصدق الله جلت عظمته حيث يقول *(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار)*.

فكيف أستطيع الصبر على نار لو قذفت بشررها إلى الأرض لأحرقت نبتها، ولو اعتصمت نفس بقلة لأنضجها وهج النار في قلتها وإنما خير لعلي أن يكون عند ذي العرش مقربا أو يكون في لظى خسيئا مبعدا مسخوطا عليه بجرمه مكذبا، والله لئن أبيت على حسك السعدان مرقدا و تحتي أطمار على سفاها ممددا، أو أجر في أغلالي مصفدا أحب إلي من أن ألقى في القيامة محمدا خائبا في ذي يتمة أظلمه بفلسه متعمدا، ولم أظلم اليتيم وغير اليتيم لنفس تسرع إلى البلاء قفولها، ويمتد في أطباق الثرى حلولها، وإن عاشت رويدا فبذي العرش نزولها.

معاشر شيعتي احذروا فقد عضتكم الدنيا بأنيابها، تخطف منكم نفسا بعد نفس كذئابها،

____________

(1) أمالي الصدوق: 357 / مجلس 47 / ح 17.

(2) ذكره ابن شهرآشوب في المناقب: 1 / 363، وحلية الأبرار للمصنف: 2 / 202.

(3) السفر: المسافرون.

(4) المنهل: المورد والمشرب.

(5) العلقم: الحنظل.

(6) زعاق كغراب: المر الغليظ لا يطاق شربه.

الصفحة 24   

وهذه مطايا الرحيل قد أنيخت لركابها، ألا إن الحديث ذو شجون، فلا يقولن قائلكم: إن كلام علي متناقض لأن الكلام عارض، ولقد بلغني أن رجلا من قطان المدائن تبع بعد الحنيفية علوجه، ولبس من ناله دهقانه منسوجة، وتضمخ بمسك هذه النوافج في صباحه، وتبخر بعود الهند رواحه، وحوله ريحان حديقة يشم تفاحة وقد مد له مفروشات الروم على سرره، تعسا له بعد ما ناهز السبعين من عمره، وحوله شيخ يدب على أرضه من هرمه، وذو يتمة تضور من ضره ومن قرمه، فما واساهم بفاضلات من علقمة، لئن أمكنني الله منه لأخضمنه خضم البر ولأقيمن عليه حد المرتد، ولأضربنه الثمانين بعد حد، ولأسدن من جهله كل مسد، تعسا له، أفلا شعر أفلا صوف أفلا وبر أفلا رغيف قفار الليل إفطار مقدم، أفلا عبرة على خد في ظلمة ليالي تنحدر، ولو كان مؤمنا لاتسقت له الحجة إذا ضيع ما لا يملك، والله لقد رأيت عقيلا أخي وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعة، وعاودني في عشر وسق من شعيركم يطعمه جياعه، وكاد يلوي ثالث أيامه خامصا ما استطاعه ورأيت أطفاله شعث الألوان من ضرهم كأنما اشمأزت وجوههم من قرهم، فلما عاودني في قوله وكرره أصغيت إليه سمعي، فظنني أوتغ ديني فاتبع ما سره، أحميت له حديدة ينزجر إذ لا يستطيع منها دنوا ولا يصطبر، ثم أدنيتها من جسده فضج من ألمه ضجيج ذي دنف يئن من سقمه، وكاد يسبني سفها من كظمه، وحرقة في لظى أضنى له من عدمه، فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة حماها إنسانها لمدعبه، وتجرني إلى نار سجرها جبارها من غضبة؟ أتئن من الأذى ولا أئن من لظى، والله لو سقطت المكافاة عن الأمم، وتركت في مضاجعها باليات في الرمم لاستحييت من مقت رقيب يكشف فاضحات الأستار من الأوزار تنسخ، فصبرا على دنيا تمر بلأوائها كليلة بأحلامها تنسلخ كم بين نفس في خيامها ناعمة، وبين أثيم في الجحيم يصطرخ.

ولا تعجب من هذا واعجب بلا صنع منا من طارق طرقنا بملفوفات زملها في وعائها، ومعجونة بسطها في إنائها فقلت له: أصدقة أم نذر أم زكاة؟ وكل ذلك يحرم علينا أهل بيت النبوة وعوضنا الله منه خمس ذي القربى في الكتاب والسنة، فقال لي: لا ذاك ولا ذاك ولكنه هدية، فقلت له: ثكلتك الثواكل أفعن دين الله تخدعني بمعجونة عرقتموها بقندكم، وخبيصة صفراء أتيتموني بها بعصير تمركم؟ أمختبط أم ذو جنه أم تهجر؟ أليست النفوس عن مثقال حبة من خردل مسؤولة؟ فماذا أقول في معجونة؟ أتزقمها معمولة.

والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، وأسترق لي قطانها مذعنة بأملاكها على أن

الصفحة 25   

أعصي الله في نملة أسلبها شعيرة فألوكها ما قبلت ولا أردت، ولدنياكم أهون عندي من ورقة في جرادة تقضمها، وأقذر عندي من عراقة خنزير يقذف بها أجذمها، وأمر على فؤادي من حنظلة يلوكها ذو سقم فيبشمها، فكيف أقبل ملفوفات عكمتها في طيها، ومعجونة كأنها عجنت بريق حية قيئها؟ اللهم إني نفرت عنها نفار المهرة من كيها أريه السها ويريني القمر، أمتنع من وبرة من قلوصها ساقطة، وأبتلع إبلا في مبركها رابطة، أدبيب العقارب من وكرها التقطت أم قواتل الرمش في مبيتي أرتبط؟ فدعوني أكتفي من دنياكم بملحي وأقراصي، فبتقوى الله أرجو خلاصي، ما لعلي ونعيم يفنى ولذة تنحتها المعاصي سألقى وشيعتي ربنا بعيون ساهرة وبطون خمصة يمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ونعوذ بالله عن سيئات الأعمال "(1).

____________

(1) أمالي الصدوق: 718 / ح 7.