متن كتاب سليم 2

 4

كلمة عن جمع القرآن

جمع أمير المؤمنين عليه السلام للقرآن

يا أبا الحسن، شئ أريد أن أسألك عنه: رأيتك خرجت بثوب مختوم عليه فقلت:

(يا أيها الناس، إني لم أزل مشغولا برسول الله صلی الله عليه و اله، بغسله وتكفينه ودفنه. ثم شغلت بكتاب الله حتى جمعته، فهذا كتاب الله مجموعا لم يسقط منه حرف)، فلم أر ذلك الكتاب الذي كتبت وألفت.

الصفحة 210 

جمع عمر وعثمان للقرآن

ولقد رأيت عمر بعث إليك - حين استخلف - أن ابعث به إلي، فأبيت أن تفعل. فدعا عمر الناس، فإذا شهد اثنان على آية قرآن كتبها وما لم يشهد عليها غير رجل واحد

رماها ولم يكتبه وقد قال عمر - وأنا أسمع -: (إنه قد قتل يوم اليمامة رجال كانوا يقرؤون قرآنا لا يقرأه غيرهم فذهب)، وقد جاءت شاة إلى صحيفة - وكتاب عمر يكتبون - فأكلتها وذهب ما فيها، والكاتب يومئذ عثمان فما تقولون؟ (1)

وسمعت عمر يقول وأصحابه الذين ألفوا ما كتبوا على عهد عثمان: (إن الأحزاب

كانت تعدل سورة البقرة، والنور ستون ومائة آية، والحجرات تسعون آية) فما هذا؟

وما يمنعك - يرحمك الله - أن تخرج إليهم ما قد ألفت للناس؟

وقد شهدت عثمان حين أخذ ما ألف عمر فجمع له الكتاب وحمل الناس على

قراءة واحدة ومزق مصحف أبي بن كعب وابن مسعود وأحرقهما بالنار. (2)فما هذا؟

____________

١- لا يخفى أن هذا كله كلام طلحة في كيفية جمع القرآن كما يوجد مثله في كتب العامة أيضا، أنظر: منتخب كنز العمال: ج 2 ص 42 و 45. مسند أحمد: ج 5 ص 117. كنز العمال: ج 2 ص 569. الإتقان: ج 2 ص 25. الدر المنثور: ج 6 ص 378.

وروى الفضل بن شاذان في كتاب (الإيضاح): ص 112 عن العامة: أن أبا بكر وعمر جمعا القرآن من أوله إلى آخره من أفواه الرجال بشهادة شاهدين وكان الرجل الواحد منهم إذا أتى بآية سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقبلا منه، وإذا جاء اثنان بآية قبلاها وكتباها. وأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف كانا وضعا صحيفة فيها القرآن ليكتباها فجاءت شاة فأكلت الصحيفة التي فيها القرآن، فذهب من القرآن جميع ما كان في تلك الصحيفة. وأن عمر قال: لقد قتل باليمامة قوم يقرؤون قرآنا لا يقرؤه غيرهم، فذهب من القرآن ما كان عند هؤلاء النفر.

وأما كلام أمير المؤمنين عليه السلام في تأييد القرآن الموجود فسيجئ بعد أسطر.

٢- روي في البحار: ج 8 (طبع قديم) ص 308: أن عثمان جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت خاصة وأحرق المصاحف وكتب المصاحف السبعة على المشهور بين القراء، فبعث بواحد منها إلى الكوفة وبواحد إلى البصرة وإلى كل من الشام ومكة واليمن والبحرين بواحد وأمسك في المدينة مصحفا كانوا يقولون له (الإمام).

الصفحة 211 

إملاء رسول الله صلی الله عليه و اله للقرآن على أمير المؤمنين عليه السلام

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا طلحة، إن كل آية أنزلها الله في كتابه على محمد صلی الله عليه و اله عندي بإملاء رسول الله صلی الله عليه و اله وخطي بيدي، وتأويل كل آية أنزلها الله على محمد صلی الله عليه و اله وكل حلال أو حرام أو حد أو حكم أو أي شئ تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة عندي مكتوب بإملاء رسول الله وخط يدي حتى أرش الخدش.

قال طلحة: كل شئ من صغير أو كبير أو خاص أو عام، كان أو يكون إلى يوم القيامة فهو مكتوب عندك؟

قال: نعم، وسوى ذلك أن رسول الله صلی الله عليه و اله أسر إلي في مرضه مفتاح ألف باب من

العلم يفتح كل باب ألف باب. ولو أن الأمة منذ قبض الله نبيه اتبعوني وأطاعوني لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم رغدا إلى يوم القيامة.

ما كتب في الكتف بإملاء رسول الله صلی الله عليه و اله

يا طلحة، ألست قد شهدت رسول الله صلی الله عليه و اله حين دعا بالكتف ليكتب فيها ما لا تضل الأمة ولا تختلف، فقال صاحبك ما قال: (إن نبي الله يهجر) فغضب رسول الله صلی الله عليه و اله ثم تركها؟ قال: بلى، قد شهدت ذاك.

قال: فإنكم لما خرجتم أخبرني بذلك رسول الله صلی الله عليه و اله وبالذي أراد أن يكتب فيها

وأن يشهد عليها العامة. فأخبره جبرائيل: (أن الله عز وجل قد علم من الأمة الاختلاف والفرقة)، ثم دعا بصحيفة فأملى علي ما أراد أن يكتب في الكتف وأشهد على ذلك

ثلاثة رهط: سلمان وأبا ذر والمقداد، وسمى من يكون من أئمة الهدى الذين أمر الله بطاعتهم

إلى يوم القيامة. فسماني أولهم ثم ابني هذا - وأدنى بيده إلى الحسن - ثم الحسين ثم تسعة من ولد ابني هذا - يعني الحسين -. كذلك كان يا أبا ذر وأنت يا مقداد؟

فقاموا وقالوا: نشهد بذلك على رسول الله صلی الله عليه و اله.

فقال طلحة: والله لقد سمعت من رسول الله صلی الله عليه و اله يقول لأبي ذر: (ما أظلت الخضراء

ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ولا أبر عند الله)، وأنا أشهد أنهما

الصفحة 212 

لم يشهدا إلا على حق، ولأنت أصدق وآثر عندي منهما.

ثم أقبل عليه السلام على طلحة فقال: إتق الله يا طلحة وأنت يا زبير وأنت يا سعد وأنت

يا بن عوف، اتقوا الله وآثروا رضاه واختاروا ما عنده ولا تخافوا في الله لومة لائم.

سند القرآن الموجود في زماننا

قال طلحة: ما أراك - يا أبا الحسن - أجبتني عما سألتك عنه من أمر القرآن ألا تظهره للناس؟ قال عليه السلام: يا طلحة، عمدا كففت عن جوابك.

قال: فأخبرني عما كتب عمر وعثمان، أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن؟ قال عليه السلام: بل

هو قرآن كله، إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنة، فإن فيه حجتنا وبيان أمرنا وحقنا وفرض طاعتنا. فقال طلحة: حسبي، أما إذا كان قرآنا فحسبي.

ثم قال طلحة: فأخبرني عما في يديك من القرآن وتأويله وعلم الحلال والحرام،

إلى من تدفعه ومن صاحبه بعدك؟ قال عليه السلام: إلى الذي أمرني رسول الله صلی الله عليه و اله أن أدفعه إليه.

قال: من هو؟ قال: وصيي وأولى الناس بالناس بعدي، ابني هذا الحسن، ثم يدفعه

ابني الحسن عند موته إلى ابني هذا الحسين، ثم يصير إلى واحد بعد واحد من ولد الحسين، حتى يرد آخرهم على رسول الله صلی الله عليه و اله حوضه. وهم مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم.

اثنا عشر إمام ضلالة من قبائل قريش

أما إن معاوية وابنه سيليان بعد عثمان، ثم يليهما سبعة من ولد الحكم بن

أبي العاص، واحدا بعد واحد تكملة اثني عشر إمام ضلالة، وهم الذين رآهم

رسول الله صلی الله عليه و اله على منبره يردون أمته على أدبارهم القهقرى، عشرة منهم من بني أمية ورجلان أسسا ذلك لهم، وعليهما مثل أوزار هذه الأمة.

فقالوا: يرحمك الله يا أبا الحسن وغفر لك وجزاك الله أفضل الجزاء عنا بنصحك

وحسن قولك.

الصفحة 213 

12

خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في السنة الأخيرة من عمره المبارك

أبان عن سليم قال: كنا جلوسا حول أمير المؤمنين عليه السلام وعنده جماعة من أصحابه،

فقال له قائل: يا أمير المؤمنين، لو استنفرت الناس.

فقام وخطب فقال: ألا إني قد استنفرتكم فلم تنفروا ونصحتكم فلم تقبلوا،

ودعوتكم فلم تسمعوا. فأنتم شهود كغياب وأحياء كأموات وصم ذوو أسماع، أتلو عليكم الحكمة وأعظكم بالموعظة الشافية الكافية وأحثكم على الجهاد لأهل الجور،

فما آتي على آخر كلامي حتى أراكم متفرقين حلقا شتى، تتناشدون الأشعار وتضربون الأمثال وتسألون عن سعر التمر واللبن!

تبت أيديكم، لقد سئمتم الحرب والاستعداد لها، وأصبحت قلوبكم فارغة من

ذكرها، شغلتموها بالأباطيل والأضاليل والأعاليل. ويحكم، أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. وأيم الله ما أظن أن تفعلوا حتى يفعلوا ثم وددت أني قد رأيتهم فلقيت الله على بصيرتي ويقيني واسترحت من مقاساتكم ومن ممارستكم. فما أنتم إلا كإبل جمة ضل راعيها، فكلما ضمت من جانب انتشرت من جانب. كأني بكم والله فيما أرى، لو قد حمس الوغى واستحر الموت قد انفرجتم عن علي بن أبي طالب انفراج الرأس وانفراج المرأة عن ولدها لا تمنع يد لامس.

الصفحة 214 

لماذا لم يفعل أمير المؤمنين عليه السلام ما فعل عثمان من السكوت؟

قال الأشعث بن قيس الكندي: فهلا فعلت كما فعل ابن عفان؟

فقال علي عليه السلام: يا عرف النار (1)، أو كما فعل ابن عفان رأيتموني فعلت؟ أنا عائذ بالله

من شر ما تقول، يا بن قيس، والله إن الذي فعل ابن عفان لمخزاة لمن لا دين له ولا الحق في يده، فكيف أفعل ذلك وأنا على بينة من ربي وحجته في يدي والحق معي؟

والله إن امرء مكن عدوه من نفسه حتى يجز لحمه ويفري جلده ويهشم عظمه

ويسفك دمه وهو يقدر على أن يمنعه لعظيم وزره وضعيف ما ضمت عليه جوانح

صدره. فكن أنت ذلك يا بن قيس فأما أنا فدون - والله - أن أعطي بيدي ضرب بالمشرفي تطير له فراش الهام وتطيح منه الكف والمعصم ويفعل الله بعد ما يشاء.

ويلك يا بن قيس، المؤمن يموت بكل موتة غير أنه لا يقتل نفسه، فمن قدر على

حقن دمه ثم خلا بينه وبين قاتله فهو قاتل نفسه.

ويلك يا بن قيس، إن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فرقة واحدة منها

في الجنة واثنتان وسبعون في النار. وشرها وأبغضها إلى الله وأبعدها منه السامرة الذين يقولون: (لا قتال)، وكذبوا. قد أمر الله عز وجل بقتال هؤلاء الباغين في كتابه وسنة نبيه وكذلك المارقة.

لماذا لم يقم أمير المؤمنين عليه السلام بالسيف في قضايا السقيفة

فقال الأشعث بن قيس - وغضب من قوله -: فما يمنعك يا بن أبي طالب حين بويع

أخو تيم بن مرة وأخو بني عدي بن كعب وأخو بني أمية بعدهما، أن تقاتل وتضرب بسيفك؟ وأنت لم تخطبنا خطبة - منذ كنت قدمت العراق - إلا وقد قلت فيها قبل

____________

١- خطاب إلى الأشعث بن قيس. روي في البحار: ج 41 ص 306 أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يسمي أشعثا (عنق النار) فسئل عن ذلك فقال: إن الأشعث إذا حضرته الوفاة دخل عليه عنق من النار ممدود من السماء فتحرقه وقت وفاته، فلا يدفن إلا وهو فحمة سوداء. فلما توفي نظر سائر من حضر إلى النار وقد دخلت عليه كالعنق الممدود حتى أحرقته وهو يصيح ويدعو بالويل والثبور.

الصفحة 215 

أن تنزل عن منبرك: (والله إني لأولى الناس بالناس وما زلت مظلوما منذ قبض الله محمدا صلی الله عليه و اله).

فما منعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك؟

فقال له علي عليه السلام: يا بن قيس، قلت فاسمع الجواب: لم يمنعني من ذلك الجبن

ولا كراهية للقاء ربي، وأن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها، ولكن منعني من ذلك أمر رسول الله صلی الله عليه و اله وعهده إلي.

أخبرني رسول الله صلی الله عليه و اله بما الأمة صانعة بي بعده، فلم أك بما صنعوا - حين عاينته - بأعلم مني ولا أشد يقينا مني به قبل ذلك، بل أنا بقول رسول الله صلی الله عليه و اله أشد يقينا مني بما عاينت وشهدت. فقلت: يا رسول الله، فما تعهد إلي إذا كان ذلك؟ قال: إن وجدت

أعوانا فانبذ إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد أعوانا فاكفف يدك واحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعوانا.

وأخبرني صلی الله عليه و اله أن الأمة ستخذلني وتبايع غيري وتتبع غيري.

وأخبرني صلی الله عليه و اله أني منه بمنزلة هارون من موسى، وأن الأمة سيصيرون من بعده

بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه، إذ قال له موسى: (يا هارون، ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري قال يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني)، وقال: (يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي). (1)وإنما يعني: إن موسى أمر هارون - حين استخلفه

عليهم - إن ضلوا فوجد أعوانا أن يجاهدهم، وإن لم يجد أعوانا أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم. وإني خشيت أن يقول لي ذلك أخي رسول الله صلی الله عليه و اله: (لم فرقت بين الأمة ولم ترقب قولي وقد عهدت إليك إن لم تجد أعوانا أن تكف يدك وتحقن دمك ودم أهل بيتك وشيعتك)؟

____________

١- سورة الأعراف: الآية 150.

الصفحة 216 

إقدام أمير المؤمنين عليه السلام لمحاربة أبي بكر وعمر

فلما قبض رسول الله صلی الله عليه و اله مال الناس إلى أبي بكر فبايعوه وأنا مشغول برسول الله صلی الله عليه و اله بغسله ودفنه. ثم شغلت بالقرآن، فآليت على نفسي أن لا أرتدي إلا للصلاة حتى

أجمعه في كتاب، ففعلت.

ثم حملت فاطمة وأخذت بيد ابني الحسن والحسين، فلم أدع أحدا من أهل بدر

وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله في حقي ودعوتهم إلى نصرتي.

فلم يستجب لي من جميع الناس إلا أربعة رهط: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير،

ولم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به ولا أقوى به، أما حمزة فقتل يوم أحد، وأما جعفر فقتل يوم مؤتة، وبقيت بين جلفين جافيين ذليلين حقيرين عاجزين: العباس

وعقيل، وكانا قريبي العهد بكفر.

فأكرهوني وقهروني، فقلت كما قال هارون لأخيه: (يا بن أم، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني). فلي بهارون أسوة حسنة ولي بعهد رسول الله صلی الله عليه و اله حجة قوية.

قال عليه السلام: فقال الأشعث: كذلك صنع عثمان، استغاث بالناس ودعاهم إلى نصرته

فلم يجد أعوانا فكف يده حتى قتل مظلوما.

قال عليه السلام: ويلك يا بن قيس، إن القوم - حين قهروني واستضعفوني وكادوا يقتلونني -

لو قالوا لي: (نقتلك البتة) لامتنعت من قتلهم إياي ولو لم أجد غير نفسي وحدي،

ولكن قالوا: (إن بايعت كففنا عنك وأكرمناك وقربناك وفضلناك وإن لم تفعل قتلناك).

فلما لم أجد أحدا بايعتهم، وبيعتي إياهم لا يحق لهم باطلا ولا يوجب لهم حقا.

فلو كان عثمان - حين قال له الناس: (اخلعها ونكف عنك) - خلعها لم يقتلوه،

ولكنه قال: (لا أخلعها). قالوا: (فإنا قاتلوك)، فكف يده عنهم حتى قتلوه. ولعمري

لخلعه إياها كان خيرا له، لأنه أخذها بغير حق ولم يكن له فيها نصيب وادعى ما ليس له وتناول حق غيره.

الصفحة 217 

عثمان أعان على قتل نفسه

ويلك يا بن قيس، إن عثمان لا يعدو أن يكون أحد رجلين: إما أن يكون دعا الناس

إلى نصرته فلم ينصروه، وإما أن يكون القوم دعوه إلى أن ينصروه فنهاهم عن نصرته، فلم يكن يحل له أن ينهى المسلمين عن أن ينصروا إماما هاديا مهتديا لم يحدث حدثا ولم يؤو محدثا. وبئس ما صنع حين نهاهم وبئس ما صنعوا حين أطاعوه وإما

أن يكون جوره وسوء سريرته قضى أنهم لم يروه أهلا لنصرته لجوره وحكمه بخلاف الكتاب والسنة.

وقد كان مع عثمان - من أهل بيته ومواليه وأصحابه - أكثر من أربعة آلاف رجل،

ولو شاء أن يمتنع بهم لفعل. فلم نهاهم عن نصرته؟ ولو كنت وجدت يوم بويع أخو تيم تتمة أربعين رجلا مطيعين لي لجاهدتهم، وأما يوم بويع عمر وعثمان فلا، لأني قد كنت بايعت ومثلي لا ينكث بيعته.

مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في الحروب

ويلك يا بن قيس، كيف رأيتني صنعت حين قتل عثمان إذ وجدت أعوانا؟ هل

رأيت مني فشلا أو تأخرا أو جبنا أو تقصيرا في وقعتي يوم البصرة وهم حول جملهم.

الملعون من معه، الملعون من قتل حوله، الملعون من رجع بعده لا تائبا ولا مستغفرا،

فإنهم قتلوا أنصاري ونكثوا بيعتي ومثلوا بعاملي وبغوا علي. وسرت إليهم في

اثني عشر ألفا وهم نيف على عشرين ومائة ألف، فنصرني الله عليهم وقتلهم بأيدينا

وشفى صدور قوم مؤمنين.

وكيف رأيت - يا بن قيس - وقعتنا بصفين وما قتل الله منهم بأيدينا خمسين ألفا في صعيد واحد إلى النار.

الصفحة 218 

وكيف رأيتنا يوم النهروان، إذ لقيت المارقين وهم مستمسكون يومئذ بدين الذين

ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؟ فقتلهم الله بأيدينا

في صعيد واحد إلى النار لم يبق منهم عشرة ولم يقتلوا من المؤمنين عشرة.

ويلك يا بن قيس، هل رأيت لي لواء رد أو راية ردت؟ إياي تعير يا بن قيس؟ وأنا صاحب رسول الله صلی الله عليه و اله في جميع مواطنه ومشاهده والمتقدم إلى الشدائد بين يديه،

لا أفر ولا أزول ولا أعيى ولا أنحاز ولا أمنح العدو دبري، لأنه لا ينبغي للنبي

ولا للوصي إذا لبس لامته وقصد لعدوه أن يرجع أو ينثني حتى يقتل أو يفتح الله له.

لو وجدت أربعين رجلا مثل الأربعة!!

يا بن قيس، هل سمعت لي بفرار قط أو نبوة؟

يا بن قيس، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إني لو وجدت يوم بويع أخو تيم

- الذي عيرتني بدخولي في بيعته - أربعين رجلا كلهم على مثل بصيرة الأربعة الذين

قد وجدت لما كففت يدي ولناهضت القوم، ولكن لم أجد خامسا فأمسكت.

قال الأشعث: فمن الأربعة، يا أمير المؤمنين؟

قال عليه السلام: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير بن صفية قبل نكثه بيعتي، فإنه بايعني مرتين: أما بيعته الأولى التي وفى بها فإنه لما بويع أبو بكر أتاني أربعون رجلا من المهاجرين والأنصار فبايعوني وفيهم الزبير، فأمرتهم أن يصبحوا عند بابي محلقين رؤوسهم

عليهم السلاح، فما وفى لي ولا صدقني منهم أحد غير أربعة: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير.

وأما بيعته الأخرى إياي، فإنه أتاني هو وصاحبه طلحة بعد ما قتل عثمان فبايعاني

طائعين غير مكرهين، ثم رجعا عن دينهما مرتدين ناكثين مكابرين معاندين

الصفحة 219 

خاسرين، فقتلهما الله إلى النار. وأما الثلاثة - سلمان وأبو ذر والمقداد - فثبتوا على دين محمد عليه السلام وعلى ملة إبراهيم حتى لحقوا بالله يرحمهم الله.

يا بن قيس، والذي فلق الحبة وبرء النسمة، لو أن أولئك الأربعين الذين بايعوا وفوا

لي وأصبحوا على بابي محلقين رؤوسهم قبل أن تجب لعتيق في عنقي بيعته لناهضته وحاكمته إلى الله عز وجل. ولو وجدت قبل بيعة عثمان أعوانا لناهضتهم وحاكمتهم

إلى الله، فإن ابن عوف جعلها لعثمان واشترط عليه فيما بينه وبينه أن يردها عليه عند

موته، وأما بعد بيعتي إياهم فليس إلى مجاهدتهم سبيل.

الشيعة، النواصب، المستضعفون

فقال الأشعث: والله لئن كان الأمر كما تقول لقد هلكت أمة محمد صلی الله عليه و اله غيرك وغير شيعتك.

فقال له علي عليه السلام: فإن الحق والله معي يا بن قيس كما أقول. وما هلك من الأمة إلا الناصبون والناكثون والمكابرون والجاحدون والمعاندون، فأما من تمسك بالتوحيد والإقرار بمحمد صلی الله عليه و اله والإسلام ولم يخرج من الملة ولم يظاهر علينا الظلمة ولم ينصب لنا العداوة وشك في الخلافة ولم يعرف أهلها وولاتها ولم يعرف لنا ولاية ولم ينصب

لنا عداوة، فإن ذلك مسلم مستضعف يرجى له رحمة الله ويتخوف عليه ذنوبه.

قال أبان: قال سليم بن قيس: فلم يبق يومئذ من شيعة علي عليه السلام أحد إلا تهلل وجهه وفرح بمقالته، إذ شرح أمير المؤمنين عليه السلام الأمر وباح به وكشف الغطاء وترك التقية.

ولم يبق أحد من القراء ممن كان يشك في الماضين ويكف عنهم ويدع البراءة منهم ورعا وتأثما إلا استيقن واستبصر وحسن رأيه وترك الشك يومئذ والوقوف. ولم يبق

حوله ممن أبى بيعته إلا على وجه ما بويع عليه عثمان والماضون قبله إلا رئي ذلك في

الصفحة 220 

وجهه وضاق به أمره وكره مقالته. ثم إنه استبصر عامتهم وذهب شكهم. (1)

قال أبان عن سليم: فما شهدت يوما قط على رؤوس العامة كان أقر لأعيننا من ذلك

اليوم، لما كشف أمير المؤمنين عليه السلام للناس من الغطاء وأظهر فيه من الحق وشرح فيه من الأمر والعاقبة وألقى فيه من التقية، وكثرت الشيعة بعد ذلك المجلس من ذلك اليوم وتكلموا، وقد كانوا أقل أهل عسكره وسائر الناس يقاتلون معه على غير علم بمكانه

من الله ورسوله، وصارت الشيعة بعد ذلك المجلس أجل الناس وأعظمهم.

شهادة أمير المؤمنين عليه السلام

وذلك بعد وقعة أهل النهروان وهو يأمر بالتهيئة والمسير إلى معاوية. ثم لم يلبث

أن قتل صلوات الله عليه، قتله ابن ملجم لعنه الله غيلة وفتكا، وقد كان سيفه مسموما

قد سمه قبل ذلك. وصلى الله على سيدنا أمير المؤمنين وسلم تسليما.

____________

١- المراد أن عددا من الناس أبوا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام إلا على وجه ما بويع أبو بكر وعمر وعثمان. وهؤلاء لما سمعوا هذه الخطبة والاحتجاج منه عليه السلام كرهوا مقالته ورئي أثر الكراهة في وجوههم. وفي (ج) هكذا: ولم يبق أحد ممن أبى بيعته على وجه الأرض ممن بايع عثمان، بلغه ذلك إلا ضاق صدره وكره مقالته.

الصفحة 221 

13

بيت المال في عصر عمر

عن أبان، قال سليم: كتب أبو المختار بن أبي الصعق (1)إلى عمر بن الخطاب هذه

الأبيات:

ألا أبلغ أمير المؤمنين رسالة فأنت أمين الله في المال والأمر

وأنت أمين الله فينا ومن يكن أمينا لرب الناس يسلم له صدري

فلا تدعن أهل الرساتيق والقرى يخونون مال الله في الأدم الحمر

وأرسل إلى النعمان وابن معقل وأرسل إلى حزم وأرسل إلى بشر

وأرسل إلى الحجاج واعلم حسابه وذاك الذي في السوق مولى بني بدر

ولا تنسين التابعين كليهما وصهر بني غزوان في القوم ذا وفر

وما عاصم فيها بصفر عيابه ولا ابن غلاب من رماة بني نصر

واستل ذاك المال دون ابن محرز وقد كان منه في الرساتيق ذا وقر (2)

فأرسل إليهم يصدقوك ويخبروا أحاديث هذا المال من كان ذا فكر

وقاسمهم أهلي فداؤك إنهم سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر

____________

١- أبو المختار هو يزيد بن قيس بن يزيد.

٢- قوله: بصفر عيابه، الصفر بمعنى الخالي والعياب جمع العيبة بمعنى الزنبيل من الأدم. وقوله (ابن محرز) جاء في فتوح البلاذري: ابن محرش.

الصفحة 222 

ولا تدعوني للشهادة إنني أغيب ولكني أرى عجب الدهر

أرى الخيل كالجدران والبيض كالدمى(1) وخطية (2) في عدة النمل والقطر

ومن ريطة (3) مطوية في قرابها ومن طي أبراد مضاعفة صفر

إذ التاجر الداري جاء بفأرة من المسك راحت في مفارقهم تجري

ننوب إذا نابوا ونغزو إذا غزوا فإن لهم مالا وليس لنا وفر

فقال ابن غلاب المصري(4) :

ألا أبلغ أبا المختار إني أتيته ولم أك ذا قربى لديه ولا صهر

وما كان عندي من تراث ورثته ولا صدقات من سبي ولا غدر

ولكن دراك الركض في كل غارة وصبري إذا ما الموت كان ورا السمر

بسابغة يغشى اللبان فصولها(5) أكفكفها عني بأبيض ذي وفر

حكم عمر بمصادرة نصف أموال عماله

قال سليم: فأغرم عمر بن الخطاب تلك السنة جميع عماله أنصاف أموالهم لشعر

____________

١- الدمى جمع الدمية وهي الصور المزينة فيها حمرة.

٢- جمع الخطي وهو الرمح المنسوب إلى الخط وهو مرفأ بالبحرين.

٣- الريطة: كل ثوب يشبه الملحفة.

٤- ابن غلاب هو خالد بن الحرث من بني دهمان كان على بيت المال بإصبهان.

٥- السابغة كناية عن الدرع الواسعة، واللبان هو الصدر.

الصفحة 223 

أبي المختار (1) ولم يغرم قنفذ العدوي شيئا - وقد كان من عماله - ورد عليه ما أخذ منه وهو عشرون ألف درهم ولم يأخذ منه عشره ولا نصف عشره!

وكان من عماله الذين أغرموا أبو هريرة - وكان على البحرين - فأحصى ماله فبلغ

أربعة وعشرون ألفا، فأغرمه اثني عشر ألفا.

علة العفو عن قنفذ من مصادرة أمواله

قال أبان: قال سليم: فلقيت عليا عليه السلام فسألته عما صنع عمر، فقال: هل تدري لم كف

عن قنفذ ولم يغرمه شيئا؟ قلت: لا. قال: لأنه هو الذي ضرب فاطمة عليها السلام بالسوط حين جاءت لتحول بيني وبينهم، فماتت صلوات الله عليها وإن أثر السوط لفي عضدها مثل الدملج.

____________

١- ذكر البلاذري أسماء عدد من عمال عمر بن الخطاب، شاطرهم أموالهم حتى أخذ نعلا وترك نعلا وهم:

أبو بكرة نفيع بن الحرث بن كلدة الثقفي، نافع بن الحرث بن كلدة الثقفي، الحجاج بن عتيك الثقفي وكان على الفرات، جزء بن معاوية عم الأحنف كان على سرق، بشر بن المحتفز كان على جندي سابور، ابن غلاب خالد بن الحرث كان على بيت المال بإصبهان، عاصم بن قيس بن الصلت السلمي كان على مناذر، سمرة بن جندب كان على سوق الأهواز، النعمان بن عدي بن نضلة الكعبي كان على كور دجلة، مجاشع بن مسعود السلمي صهر بني غزوان كان على أرض البصرة وصدقاتها، شبل بن معبد البجلي ثم الأحمسي كان على قبض المغانم، أبو مريم بن محرش الحنفي كان على رامهرمز.

 

وهؤلاء ذكرهم أبو المختار في شعره الذي ورد في المتن مع اختلاف في ضبط بعض الأسماء. وكان أيضا من عماله الذين شاطرهم سعد بن أبي وقاص وكان على الكوفة، وأبو موسى الأشعري وكان على البصرة ، وعمرو بن العاص وكان على مصر، وعتبة بن أبي سفيان وكان على الطائف، وأبو هريرة وكان على البحرين، وخالد بن الوليد. راجع الغدير: ج 6 ص 277 - 271. إثبات الهداة: ج 2 ص 369 ح 218.

الصفحة 224 

14

بدع واعتراضات أبي بكر وعمر في الدين

قال أبان عن سليم، قال: انتهيت إلى حلقة في مسجد رسول الله صلی الله عليه و اله، ليس فيها إلا هاشمي غير سلمان وأبي ذر والمقداد ومحمد بن أبي بكر وعمر بن أبي سلمة

وقيس بن سعد بن عبادة.

1

بدع أبي بكر وعمر

تغريم عمر لعماله

فقال العباس لعلي عليه السلام: ما ترى عمر منعه من أن يغرم قنفذا كما أغرم جميع عماله؟

فنظر علي عليه السلام إلى من حوله ثم اغرورقت عيناه بالدموع، ثم قال: شكر له ضربة ضربها فاطمة عليها السلام بالسوط، فماتت وفي عضدها أثره كأنه الدملج.

ثم قال عليه السلام: العجب مما أشربت قلوب هذه الأمة من حب هذا الرجل وصاحبه من

قبله، والتسليم له في كل شئ أحدثه لئن كان عماله خونة وكان هذا المال في أيديهم خيانة ما كان حل له تركه، وكان له أن يأخذه كله فإنه فيئ المسلمين، فما له يأخذ نصفه ويترك نصفه؟ ولئن كانوا غير خونة فما حل له أن يأخذ أموالهم ولا شيئا منهم قليلا

الصفحة 225 

ولا كثيرا، وإنما أخذ أنصافها. ولو كانت في أيديهم خيانة ثم لم يقروا بها ولم تقم

عليهم البينة ما حل له أن يأخذ منهم قليلا ولا كثيرا وأعجب من ذلك إعادته إياهم إلى أعمالهم لئن كانوا خونة ما حل له أن يستعملهم، ولئن كانوا غير خونة ما حلت له أموالهم.

أمير المؤمنين عليه السلام يتعجب من ميل الناس إلى البدع

ثم أقبل علي عليه السلام على القوم فقال: العجب لقوم يرون سنة نبيهم تتبدل وتتغير شيئا

شيئا وبابا بابا ثم يرضون ولا ينكرون، بل يغضبون له ويعتبون على من عاب عليه وأنكره ثم يجيئ قوم بعدنا، فيتبعون بدعته وجوره وأحداثه ويتخذون أحداثه سنة ودينا يتقربون

بها إلى الله في مثل:

نقل مقام إبراهيم عليه السلام إلى موضعه في الجاهلية

تحويله مقام إبراهيم عليه السلام من الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلی الله عليه و اله إلى الموضع الذي كان فيه في الجاهلية الذي حوله منه رسول الله صلی الله عليه و اله. (1)

تغيير صاع رسول الله صلی الله عليه و اله ومده

وفي تغييره صاع رسول الله صلی الله عليه و اله ومده، وفيهما فريضة وسنة. فما كان زيادته إلا سوء لأن المساكين - في كفارة اليمين والظهار - بهما يعطون ما يجب من الزرع. وقد قال

____________

١- روي في البحار: ج 8 (طبع قديم) ص 287 عن أبي عبد الله الحسين عليه السلام أنه قال: كان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام عند جدار البيت، فلم يزل هناك حتى حوله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم. فلما فتح النبي صلى الله عليه وآله مكة رده إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم عليه السلام. فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطاب فسأل الناس: من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال رجل: أنا قد كنت أخذت مقداره بنسع فهو عندي فقال: تأتيني به. فأتاه به، فقاسه ثم رده إلى ذلك المكان!!

وذكر اليعقوبي في تاريخه: ج 2 ص 149 أن ذلك كان في سنة 17.

الصفحة 226 

رسول الله صلی الله عليه و اله: (اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا). لا يحولون بينه وبين ذلك (1)، لكنهم رضوا وقبلوا ما صنع.

غصب فدك

وقبضه وصاحبه فدك وهي في يد فاطمة عليها السلام مقبوضة قد أكلت غلتها على عهد

النبي صلی الله عليه و اله. فسألها البينة على ما في يدها ولم يصدقها ولا صدق أم أيمن. وهو يعلم يقينا - كما نعلم - أنها في يدها. ولم يكن يحل له أن يسألها البينة على ما في يدها

ولا أن يتهمها. ثم استحسن الناس ذلك وحمدوه وقالوا: (إنما حمله على ذلك الورع والفضل)!!

ثم حسن قبح فعلهما أن عدلا عنها فقالا: (نظن إن فاطمة لن تقول إلا حقا وإن عليا

لم يشهد إلا بحق، ولو كانت مع أم أيمن امرأة أخرى أمضيناها لها). فحظيا بذلك عند الجهال وما هما ومن أمر هما أن يكونا حاكمين فيعطيان أو يمنعان؟ ولكن الأمة ابتلوا بهما فأدخلا أنفسهما فيما لا حق لهما فيه ولا علم لهما به. وقد قالت فاطمة عليها السلام لهما - حين أراد انتزاعها وهي في يدها -: (أليست في يدي وفيها وكيلي وقد أكلت غلتها ورسول صلی الله عليه و اله حي)؟

قالا: بلى. قالت: (فلم تسألني البينة على ما في يدي)؟ قالا: لأنها فيئ المسلمين، فإن

قامت بينة وإلا لم نمضها!

قالت لهما - والناس حولهما يسمعون -: (أفتريدان أن تردا ما صنع رسول الله صلی الله عليه و اله وتحكما فينا خاصة بما لم تحكما في سائر المسلمين؟ أيها الناس، اسمعوا ما ركباها.

أرأيتما إن ادعيت ما في أيدي المسلمين من أموالهم، أتسألونني البينة أم تسألونهم)؟

قالا: بل نسألك.

____________

١- أي لا يحول الناس بين عمر وفعله ذلك، بل رضوا به وقبلوه.

الصفحة 227 

قالت: (فإن ادعى جميع المسلمين ما في يدي تسألونهم البينة أم تسألونني)؟

فغضب عمر وقال: إن هذا فيئ للمسلمين وأرضهم، وهي في يدي فاطمة تأكل غلتها،

فإن أقامت بينة على ما ادعت أن رسول الله وهبها لها من بين المسلمين - وهي فيئهم وحقهم - نظرنا في ذلك!

فقالت: حسبي أنشدكم بالله أيها الناس، أما سمعتم رسول الله صلی الله عليه و اله يقول: (إن ابنتي

سيدة نساء أهل الجنة)؟ قالوا: اللهم نعم، قد سمعناه من رسول الله صلی الله عليه و اله. قالت: أفسيدة نساء أهل الجنة تدعي الباطل وتأخذ ما ليس لها؟ أرأيتم لو أن أربعة شهدوا علي بفاحشة أو رجلان بسرقة أكنتم مصدقين علي؟ فأما أبو بكر فسكت، وأما عمر فقال: نعم، ونوقع عليك الحد!!

فقالت: كذبت ولؤمت، إلا أن تقر أنك لست على دين محمد صلی الله عليه و اله. إن الذي يجيز على سيدة نساء أهل الجنة شهادة أو يقيم عليها حدا لملعون كافر بما أنزل الله على محمد صلی الله عليه و اله، لأن من (أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) لا تجوز عليهم شهادة لأنهم

معصومون من كل سوء مطهرون من كل فاحشة. حدثني - يا عمر - من أهل هذه الآية، لو أن قوما شهدوا عليهم أو على أحد منهم بشرك أو كفر أو فاحشة كان المسلمون يتبرؤون منهم ويحدونهم؟ قال: نعم، وما هم وسائر الناس في ذلك إلا سواء!!

قالت: كذبت وكفرت، ما هم وسائر الناس في ذلك سواء لأن الله عصمهم ونزل

عصمتهم وتطهيرهم وأذهب عنهم الرجس. فمن صدق عليهم فإنما يكذب الله

ورسوله. فقال أبو بكر: أقسمت عليك - يا عمر - لما سكت!!

مؤامرة قتل أمير المؤمنين عليه السلام

فلما أن كان الليل أرسلا إلى خالد بن الوليد فقالا: إنا نريد أن نسر إليك أمرا

الصفحة 228 

ونحملكه لثقتنا بك. فقال: احملاني على ما شئتما، فإني طوع أيديكما. فقالا له: (إنه

لا ينفعنا ما نحن فيه من الملك والسلطان ما دام علي حيا أما سمعت ما قال لنا وما

استقبلنا به؟ ونحن لا نأمنه أن يدعو في السر فيستجيب له قوم فيناهضنا فإنه أشجع

العرب، وقد ارتكبنا منه ما رأيت وغلبناه على ملك ابن عمه ولا حق لنا فيه، وانتزعنا

فدك من امرأته. فإذا صليت بالناس صلاة الغداة فقم إلى جنبه وليكن سيفك معك، فإذا صليت وسلمت فاضرب عنقه)!

قال علي عليه السلام: فصلى خالد بن الوليد بجنبي متقلدا السيف. فقام أبو بكر في الصلاة وجعل يؤامر نفسه وندم وأسقط في يده (1) حتى كادت الشمس أن تطلع ثم قال - قبل

أن يسلم -: (لا تفعل ما أمرتك) ثم سلم فقلت لخالد: وما ذاك؟ قال: كان قد أمرني

- إذا سلم - أن أضرب عنقك قلت: أو كنت فاعلا؟ قال: إي وربي إذا لفعلت!

حبس الخمس

قال سليم: ثم أقبل عليه السلام على العباس وعلى من حوله، ثم قال: ألا تعجبون من حبسه وحبس صاحبه عنا سهم ذي القربى الذي فرضه الله لنا في القرآن؟ وقد علم الله أنهم سيظلموناه وينتزعونه منا، فقال: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان

يوم التقى الجمعان). (2)

____________

١- أسقط في يده أي تحير.

٢- سورة الأنفال: الآية 41. والعبارة في إرشاد القلوب هكذا: وأقبل عليه السلام على من كان حوله فقال: أوليس قد ظهر لكم رأى وحملهم علينا أهل البيت من كل جانب ووجه لا يألون به إبعاد ا وتقاصيا وأخذ حقوقنا؟ أليس العجب بحبسه وصاحبه عنا...

الصفحة 229 

إلحاق بيت جعفر بالمسجد

والعجب لهدمه منزل أخي جعفر وإلحاقه في المسجد، ولم يعط بنيه من ثمنه قليلا

ولا كثيرا. ثم لم يعب ذلك عليه الناس ولم يغيروه، فكأنما أخذ منزل رجل من

الديلم. (1)

البدعة في غسل الجنابة

والعجب لجهله وجهل الأمة أنه كتب إلى جميع عماله: (أن الجنب إذا لم يجد الماء فليس له أن يصلي وليس له أن يتيمم بالصعيد حتى يجد الماء وإن لم يجده حتى يلقى الله) ثم قبل الناس ذلك ورضوا به، وقد علم وعلم الناس أن رسول الله صلی الله عليه و اله قد أمر عمارا وأمر أبا ذر أن يتيمما من الجنابة ويصليا، وشهدا به عنده وغيرهما (2) فلم يقبل

ذلك ولم يرفع به رأسا.

البدعة في إرث الجد

والعجب لما خلطا قضايا مختلفة في الجد بغير علم تعسفا وجهلا وادعائهما ما لم يعلما جرأة على الله وقلة ورع.

____________

١- (ب) و (د): ولم يعيروه فكأنما أخذ دار رجل من ترك أو كابل. روي في الغدير: ج 6 ص 262 عن طبقات ابن سعد: أنه لما كثر المسلمون في عهد عمر ضاق بهم المسجد فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دور العباس بن عبد المطلب وحجرات أمهات المؤمنين.

٢- روى العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 83 عن صحيح مسلم: أن رجلا أتى عمر فقال: إني أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال عمر: لا تصل. فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت. فقال النبي صلى الله عليه وآله: إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك؟ فقال عمر: إتق الله يا عمار قال: إن شئت لم أحدث به.

الصفحة 230 

ادعيا أن رسول الله صلی الله عليه و اله مات ولم يقض في الجد شيئا منه (1) ولم يدع أحد يعلم (2) ما للجد من الميراث ثم تابعوهما على ذلك وصدقوهما.

عتق أمهات الأولاد

وعتقه أمهات الأولاد (3) فأخذ الناس بقوله وتركوا أمر رسول الله صلی الله عليه و اله.

القضاء الباطل في ثلاثة أشخاص

وما صنع بنصر بن الحجاج وبجعدة من سليم وبابن وبرة. (4)

____________

١- أي من الميراث.

٢- روى العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 117 عن سنن البيهقي عن عبيدة قال: حفظت عن عمر مائة قضية في الجد قال: وقال (عمر): إني قد قضيت في الجد قضايا مختلفة كلها آلو فيه عن الحق، ولئن عشت إن شاء الله إلى الصيف لأقضين فيها بقضية تقضي به المرأة وهي على ذيلها ثم إن أبا بكر أيضا حكم في الجد بقضايا مختلفة (راجع الغدير: ج 7 ص 120)، ولذلك جاء بضمير التثنية في هذا المورد.

٣- قوله " عثقه أمهات الأولاد " إشارة إلى بدعة عمر حيث حكم بأن كل أمة حبلى تعتق إذا وضعت حملها.

٤- إشارة إلى تغريب نصر بن الحجاج أبي ذويب من المدينة من غير ذنب. روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 286: بينا عمر يطوف في بعض سكك المدينة إذ سمع امرأة تهتف من خدرها:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج

إلى آخر الأبيات. فقال: لا أرى معي رجلا تهتف به العواتق في خدورهن. علي بنصر بن الحجاج. فأتي به وإذا هو أحسن الناس وجها وعينا وشعرا. فأمر بشعره فجز، فخرجت له وجنتان كأنهما قمر، فأمره أن يعتم، فاعتم ففتن النساء بعينيه فقال: عمر: لا والله، لا تساكنني بأرض أنا بها فقال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: هو ما أقول لك فسيره إلى البصرة. هذا وقد فعل مثل ذلك لك بابن عم لنصر بن الحجاج. راجع طبقات ابن سعد: ج 3 ص 385.

وقوله (بجعدة من سليم)، في النسخ (بجعدة بن سليم)، والصحيح ما أوردناه. روى ابن سعد في طبقاته: ج 3 ص 285: أن بريدا قدم على عمر فنثر كنانته فبدرت صحيفة فأخذها فقرأها فإذا فيها:

ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري

قلائصنا - هداك الله - إنا شغلنا عنكم زمن الحصار

فما قلص وجدن معقلات قفا سلع بمختلف البحار

قلائص من بني سعد بن بكر وأسلم أو جهينة أو غفار

يعقلهن جعدة من سليم معيدا يبتغي سقط العذار

فقال (عمر): ادعوا لي جعدة من سليم. قال: فدعوا به، فجلد مائة معقولا، ونهاه أن يدخل على امرأة مغيبة. وأما قوله (بابن وبرة)، فلم أظفر على مصدر يذكر قصته.

ثم إن الأشكال في فعل عمر في الموردين من جهة أنه حكم بما لم يثبت مقتضيه، فمجرد حسن الوجه في نصر بن الحجاج لا يقتضي نفيه عن البلد ومجرد تلك الأبيات الدالة على أن الرجل كانت تفتن النساء إليه بفعاله مع عدم ثبوته بالبينة لا يوجب حد الرجل ولا تعزيره.

الصفحة 231 

البدعة في الطلاق

وأعجب من ذلك أن أبا كنف العبدي أتاه فقال: (إني طلقت امرأتي وأنا غائب

فوصل إليها الطلاق. ثم راجعتها وهي في عدتها وكتبت إليها فلم يصل الكتاب إليها

حتى تزوجت). فكتب له: (إن كان هذا الذي تزوجها قد دخل بها فهي امرأته، وإن كان لم يدخل بها فهي امرأتك)!!

وكتب له ذلك وأنا شاهد، فلم يشاورني ولم يسألني، يرى استغناءه بعلمه عني،

فأردت أن أنهاه، ثم قلت: (ما أبالي أن يفضحه الله). ثم لم يعبه الناس بل استحسنوه واتخذوه سنة وقبلوه منه ورأوه صوابا وذلك قضاء لو قضى به مجنون نحيف سخيف

لما زاد.

إسقاط أجزاء الأذان

ثم تركه من الأذان (حي على خير العمل)، فاتخذوه سنة وتابعوه على ذلك. (1)

____________

١- روى العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 213 عن الطبري عن عمر أنه قال: ثلاث كن على عهد رسول الله أنا محرمهن ومعاقب عليهن: متعة الحج ومتعة النساء وحي على خير العمل في الأذان.

وروي في إثبات الهداة: ج 2 ص 371 ح 232: أن عمر ترك " حي على خير العمل " وقال: خففت أن يتكل الناس عليها ويدع غيرها. وقد روت العامة أن النبي صلى الله عليه وآله قد أمر بها.

الصفحة 232 

البدعة في حكم المفقود زوجها

وقضيته في المفقود وأن (أجل امرأته أربع سنين، ثم تتزوج، فإن جاء زوجها خير

بين امرأته وبين الصداق). (1)فاستحسنه الناس واتخذوه سنة وقبلوه منه جهلا وقلة علم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه.

بدعه في الأعاجم

وإخراجه من المدينة كل أعجمي. (2)

وإرساله إلى عماله بالبصرة بحبل طوله خمسة أشبار وقوله: (من أخذتموه من

الأعاجم فبلغ طول هذا الحبل فاضربوا عنقه)!

ورده سبايا تستر وهن حبالى!!

وإرساله بحبل في صبيان سرقوا بالبصرة وقوله: (من بلغ طول هذا الحبل

فاقطعوه)!(3)

وأعجب من ذلك أن كذابا رجم بكذابة فقبلها وقبلها الجهال فزعموا أن الملك

ينطق على لسانه ويلقنه!(4)

وإعتاقه سبايا أهل اليمن. (5)

____________

١- أورد العلامة الأميني في الغدير: ج 8 ص 200 ما رواه مالك أن عمر قال: (أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو، فإنها تنتظر أربع سنين. ثم تنتظر أربعة أشهر وعشرا ثم تحل). وأنه إن جاء زوجها وقد تزوجت خير بين امرأته وبين صداقها، فإن اختار الصداق كان على زوجها الآخر، وإن اختار امرأته اعتدت حتى تحل، ثم ترجع إلى زوجها الأول وكان لها من زوجها الآخر مهرها بما استحل من فرجها!

٢- ذكر المسعودي في مروج الذهب: ج 2 ص 320: أن عمر كان لا يترك أحدا من العجم يدخل المدينة.

٣- أورد العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 171 عن ابن أبي مليكة: أن عمر كتب في غلام من أهل العراق سرق، فكتب: أن اشبروه، فإن وجدتموه ستة أشبار فاقطعوه. فشبر فوجد ستة أشبار تنقص أنملة فترك!

٤- قوله (رجم بكذابة) أي ألقى كلاما كاذبا رجما بالغيب وهو ادعائه (أن الملك ينطق على لسان عمر).

راجع عن هذه المنقبة المختلقة لعمر: الغدير: ج 6 ص 331، وراجع الحديث 10 من هذا الكتاب.

٥- روى الفضل بن شاذان في (الإيضاح) ص 463: أن عمر أعتق سبايا اليمن وهن حبالى من المسلمين وفرق بينهن وبين من اشتراهن.

وروى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 108: أن أبا بكر أرق سبي اليمن وبيعوا، فوطئت الفروج. فلما استخلف الثاني أعتق ذلك السبي وقال: لا أملك على عربي فأعتقهن وهن حبالى، وفرق بينهن وبين من اشتراهن. فمضين إلى بلادهن ومعهن أولاد أيضا منهن وذلك أن أبا موسى ادعى أنه أعطاهن عهدا وحلف على ذلك فردهم عمر إلى أرضهم حبالى!!

وروي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 196 عن تقريب المعارف والخصال: أن عمر قال عند موته: أتوب إلى الله من ثلاث: من ردي (عتقي) سبايا اليمن و....

الصفحة 233 

2

معصية أبي بكر وعمر للرسول صلی الله عليه و اله واعتراضاتهما عليه!!(1)

وتخلفه وصاحبه عن جيش أسامة بن زيد مع تسليمهما عليه بالأمرة. (2)

ثم أعجب من ذلك أنه قد علم الله وعلمه الناس أنه الذي صد رسول الله صلی الله عليه و اله عن الكتف الذي دعاه به. ثم لم يضره ذلك عندهم ولم ينقصه. (3)

وإنه صاحب صفية حين قال لها ما قال. فغضب رسول الله صلی الله عليه و اله حتى قال ما قال. (4)

____________

١- قد أورد في إثبات الهداة: ج 2 ص 325 موارد كثيرة من اعتراضات عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله.

٢- روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 245 بطرق كثيرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة. فدعا أسامة بن زيد وولاه الجيش وأعطاه الراية ولعن المتخلف عن جيش أسامة وكان ممن نص على أسمائهم أبو بكر وعمر. فرجعا ودخلا المدينة ليلة وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله. وتهيئوا لغصب الخلافة وما في سقيفة بني ساعدة. وقال صلى الله عليه وآله في تلك الليلة: (دخل المدينة الليلة شر عظيم).

٣- راجع عن قصة الكتف: الحديث 11 و 49.

٤- روى العلامة المجلسي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 200 ب 19 ح 3 عن أبي جعفر عليه السلام: إن صفية بنت عبد المطلب مات ابن لها فأقبلت فقال لها عمر: غطي قرطك فإن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله لا تنفعك شيئا فقالت له: هل رأيت لي قرطا يا بن اللخناء؟ ثم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبرته بذلك فبكت.

فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله فنادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس، فقال: ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع... وجاء مثله في مجمع الزوائد: ج 8 ص 216.

الصفحة 234 

وإنه وصاحبه اللذان كفا عن قتل الرجل الذي أمرهما رسول الله صلی الله عليه و اله بقتله، ثم أمرني بعدهما وقال النبي صلی الله عليه و اله في ذلك ما قال. (1)

وأمر النبي صلی الله عليه و اله أبا بكر ينادي في الناس: (إنه من لقي الله موحدا لا يشرك به شيئا

دخل الجنة)، فرده عمر وأطاعه أبو بكر (2) وعصى رسول الله صلی الله عليه و اله فلم تنفذ أمره، فقال رسول الله صلی الله عليه و اله في ذلك ما قال.

فمساويه ومساوي صاحبه أكثر من أن تحصى أو تعد، ثم لم ينقصهم ذلك عند الجهال والعامة، وهما أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وأنفسهم، ويبغضون لهما ما لا يبغضون لرسول الله صلى الله عليه وآله. (3)

____________

١- أورد العلامة الأميني في الغدير: ج 7 ص 216 عن أبي سعيد الخدري: أن أبا بكر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إني مررت بوادي كذا وكذا فإذا رجل متخشع حسن الهيئة يصلي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: إذهب إليه فاقتله. قال: فذهب إليه أبو بكر، فلما رآه على تلك الحالة كره أن يقتله، فجاء إلى رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وآله لعمر: إذهب إليه فاقتله. قال: فذهب عمر فرآه على تلك الحالة التي رآه أبو بكر، فكره أن يقتله. فرجع فقال: يا رسول الله، إني رأيته متخشعا فكرهت أن أقتله. فقال: يا علي، إذهب فاقتله. فذهب علي عليه السلام فلم يره. فرجع فقال: يا رسول الله، إني لم أره. فقال النبي صلى الله عليه وآله: (إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فوقه، فاقتلوهم، هم شر البرية). وروي مثله في البحار: ج 8 طبع قديم ص 229 و 270.

٢- أي رد عمر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وأطاع أبو بكر قول عمر. روى ابن أبي الحديد في شرح النهج: ج 3 ص 108 أن أبا هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: إذهب فمن لقيته وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة. فخرجت فكان أول من لقيت عمر، فقال: ما هذا؟... فضرب عمر في صدري فخررت لأستي وقال: إرجع إلى رسول الله فأجهشت بالبكاء راجعا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما بالك؟ فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا عمر، فقال: ما حملك يا عمر على فعلت؟

٣- زاد في إرشاد القلوب: ويتورعون ذكرهما بسوء ما لا يتورعون عن ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله.

الصفحة 235 

إهانة عمر لرسول الله صلی الله عليه و اله

قال علي عليه السلام: ثم مررت بالصهاكي (1) يوما فقال لي: (ما مثل محمد إلا كمثل نخلة

نبتت في كناسة) فأتيت رسول الله صلی الله عليه و اله فذكرت له ذلك. فغضب النبي صلی الله عليه و اله وخرج مغضبا فأتى المنبر، وفزعت الأنصار فجاءت شاكة في السلاح لما رأت من غضب

رسول الله صلی الله عليه و اله فقال: ما بال أقوام يعيرونني بقرابتي؟ وقد سمعوا مني ما قلت في

فضلهم وتفضيل الله إياهم وما اختصهم الله به من إذهاب الرجس عنهم وتطهير الله

إياهم، وقد سمعتم ما قلت في أفضل أهل بيتي وخيرهم مما خصه الله به وأكرمه

وفضله من سبقه في الإسلام وبلاؤه فيه وقرابته مني وأنه بمنزلة هارون من موسى، ثم تزعمون أن مثلي في أهل بيتي كمثل نخلة نبتت في كناسة؟

ألا إن الله خلق خلقه ففرقهم فرقتين، فجعلني في خير الفريقين. ثم فرق الفرقة

ثلاث فرق، شعوبا وقبائل وبيوتا وجعلني في خيرها شعبا وخيرها قبيلة. ثم جعلهم

بيوتا فجعلني في خيرها بيتا، فذلك قوله: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل

البيت ويطهركم تطهيرا) (2)، فحصلت (3) في أهل بيتي وعترتي وأنا وأخي علي بن

أبي طالب.

ألا وإن الله نظر إلى أهل الأرض نظرة فاختارني منهم، ثم نظر نظرة فاختار أخي عليا ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي. فبعثني رسولا ونبيا

ودليلا، فأوحى إلي أن أتخذ عليا أخا ووليا ووصيا وخليفة في أمتي بعدي.

ألا وإنه ولي كل مؤمن بعدي، من والاه والاه الله ومن عاداه عاداه الله ومن أحبه

أحبه الله ومن أبغضه أبغضه الله. لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا كافر. رب الأرض

____________

١- المراد بالصهاكي عمر بن الخطاب باعتبار أمه الصهاك الحبشية. راجع الحديث 4 من هذا الكتاب.

٢- سورة الأحزاب: الآية 33.

٣- أي فحصلت هذه الآية في هذه الأشخاص.

الصفحة 236 

بعدي وسكنها وهو كلمة الله التقوى وعروة الله الوثقى.

أتريدون أن تطفؤوا نور الله بأفواهكم؟ والله متم نوره ولو كره المشركون. ويريد

أعداء الله أن يطفؤوا نور أخي، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

يا أيها الناس، ليبلغ مقالتي شاهدكم غائبكم. اللهم اشهد عليهم.

يا أيها الناس، إن الله نظر نظرة ثالثة فاختار منهم بعدي اثني عشر وصيا من أهل بيتي

وهم خيار أمتي منهم أحد عشر إماما بعد أخي واحدا بعد واحد كلما هلك واحد قام واحد منهم. مثلهم كمثل النجوم في السماء كلما غاب نجم طلع نجم لأنهم أئمة هداة مهتدون، لا يضرهم كيد من كادهم ولا خذلان من خذلهم بل يضر الله بذلك من كادهم وخذلهم.

فهم حجة الله في أرضه وشهداءه على خلقه. من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم

عصى الله. هم مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا على حوضي.

أول الأئمة أخي علي خيرهم، ثم ابني الحسن ثم ابني الحسين ثم تسعة من ولد الحسين، وأمهم

ابنتي فاطمة، صلوات الله عليهم. ثم من بعدهم (1) جعفر بن أبي طالب ابن عمي وأخو

أخي، وعمي حمزة بن عبد المطلب.

ألا إني محمد بن عبد الله. أنا خير المرسلين والنبيين، وفاطمة ابنتي سيدة نساء أهل

الجنة، وعلي وبنوه الأوصياء خير الوصيين، وأهل بيتي خير أهل بيوتات النبيين

وابناي سيدا شباب أهل الجنة.

____________

١- أي ثم من بعدهم في الفضل.

الصفحة 237 

أيها الناس، إن شفاعتي ليرجوها رجاءكم، أفيعجز عنها أهل بيتي؟ ما من أحد ولده

جدي عبد المطلب يلقى الله موحدا لا يشرك به شيئا إلا أدخله الجنة ولو كان فيه من الذنوب عدد الحصى وزبد البحر.

أيها الناس، عظموا أهل بيتي في حياتي ومن بعدي وأكرموهم وفضلوهم، فإنه

لا يحل لأحد أن يقوم من مجلسه لأحد إلا لأهل بيتي. إني لو أخذت بحلقة باب الجنة ثم تجلى لي ربي تبارك وتعالى فسجدت وأذن لي بالشفاعة، لم أوثر على أهل بيتي أحدا.

أيها الناس، انسبوني من أنا؟ فقام إليه رجل من الأنصار فقال: نعوذ بالله من غضب

الله ومن غضب رسوله، أخبرنا - يا رسول الله - من الذي آذاك في أهل بيتك حتى نضرب عنقه وليبر عترته. فقال: انسبوني، أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن

هاشم حتى انتسب إلى نزار، ثم مضى في نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم خليل الله (1)، ثم قال: إني وأهل بيتي بطينة طيبة من تحت العرش إلى آدم نكاح غير سفاح لم يخالطنا نكاح الجاهلية.

تحدي الرسول صلی الله عليه و اله لهم في أنسابهم وآخرتهم

فسلوني، فوالله لا يسألني رجل عن أبيه وعن أمه وعن نسبه إلا أخبرته به.

فقام إليه رجل فقال: من أبي؟ فقال صلی الله عليه و اله: أبوك فلان الذي تدعى إليه. فحمد الله

____________

١- روي في البحار: ج 15 ص 107 نسب رسول الله صلى الله عليه وآله إلى آدم عليه السلام هكذا: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لوي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن خزيمة بن مدركة بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت حمل بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن سروغ بن هود بن أرفخشذ بن متوشلخ بن سام بن نوح بن لمك بن إدريس بن مهلائيل بن زبارز بن قينان بن أنوش بن شيث وهو هبة الله بن آدم.

الصفحة 238 

وأثنى عليه وقال: لو نسبتني إلى غيره لرضيت وسلمت. ثم قام إليه رجل آخر فقال له:

من أبي؟ فقال: أبوك فلان - لغير أبيه الذي يدعى إليه - فارتد عن الإسلام. ثم قام إليه رجل آخر فقال: أمن أهل الجنة أنا أم من أهل النار؟ فقال: من أهل الجنة. ثم قام رجل آخر فقال: أمن أهل الجنة أنا أم من أهل النار؟ فقال: من أهل النار.

اعتراض عمر بإهانته لساحة رسول الله صلی الله عليه و اله القدسية

ثم قال رسول الله صلی الله عليه و اله - وهو مغضب -: ما يمنع الذي عير أفضل أهل بيتي وأخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي أن يقوم فيسألني

من أبوه وأين هو، أفي الجنة أم في النار؟

فقام إليه عمر بن الخطاب فقال(1): أعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، أعف عنا

يا رسول الله عفا الله عنك، أقلنا أقالك الله، استرنا سترك الله، اصفح عنا صلى الله عليك.

فاستحى رسول الله صلی الله عليه و اله فكف.

اعتراض عمر على رسول الله صلی الله عليه و اله في زكاة أموال العباس

قال علي عليه السلام: وهو صاحب العباس الذي بعثه رسول الله صلی الله عليه و اله ساعيا فرجع وقال: إن العباس قد منع صدقة ماله. فغضب رسول الله صلی الله عليه و اله وقال: (الحمد لله الذي عافانا

أهل البيت من شر ما يلطخونا به. إن العباس لم يمنع صدقة ماله ولكنك عجلت عليه

وقد عجل زكاة سنين. ثم أتاني بعد ذلك يطلب أن أمشي معه إلى رسول الله صلی الله عليه و اله شافعا ليرضى عنه، ففعلت.

اعتراض عمر على رسول الله صلی الله عليه و اله في الصلاة على جنازة المنافق

وهو صاحب عبد الله بن أبي سلول حين تقدم رسول الله صلی الله عليه و اله ليصلي عليه فأخذ

____________

١- في الفضائل: فعند ذلك خشي الثاني على نفسه أن يذكره رسول الله صلى الله عليه وآله ويفضحه بين الناس، فقام وقال:

نعوذ بالله...

الصفحة 239 

بثوبه من ورائه فمده إليه من خلفه وقال: (قد نهاك الله أن تصلي عليه ولا يحل لك

أن تصلي عليه) فقال له رسول الله صلی الله عليه و اله: ويلك، قد آذيتني إنما صليت عليه كرامة

لابنه، وإني لأرجو أن يسلم به سبعون رجلا من بني أبيه وأهل بيته. وما يدريك ما

قلت، إنما دعوت الله عليه. (1)

اعتراض عمر على رسول الله صلی الله عليه و اله في صلح الحديبية

وهو صاحب رسول الله صلی الله عليه و اله يوم الحديبية (2) - حين كتب القضية - إذ قال له: أنعطي

____________

١- روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 200 أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما رجع إلى المدينة مرض عبد الله بن أبي (وكان من المنافقين) وكان ابنه عبد الله بن عبد الله مؤمنا. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وأبوه يجود بنفسه فقال:

يا رسول الله بأبي أنت وأمي، إنك لم تأت أبي عائدا كان ذلك عارا علينا. فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله والمنافقون عنده، فقال ابنه عبد الله بن عبد الله: يا رسول الله، استغفر الله له. فاستغفر له. فقال عمر:

ألم ينهك الله - يا رسول الله - أن تصلي عليهم أو تستغفر لهم؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله، وأعاد عليه، فقال له: ويلك، إني خيرت فاخترت. إن الله يقول: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ".

فلما مات عبد الله جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن رأيت أن تحضر جنازته؟ فحضره رسول الله صلى الله عليه وآله وقام على قبره؟ فقال له عمر: يا رسول الله، ألم ينهك الله أن تصلي على أحد منهم مات أبدا وأن تقوم على قبره؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ويلك وهل تدري ما قلت؟ إنما قلت:

" اللهم احش قبره نارا وجوفه نارا وأصله النار ". فبدا من رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يكن يحب.

٢- روي في البحار: ج 2 ص 334 عند ذكر كتاب الصلح الذي تصالح عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسهيل بن عمرو من جملة ما كتبوه أن سهيلا قال: (على أن لا يأتيك منا رجل - وإن كان على دينك - إلا رددته إلينا، ومن جاءنا ممن معك لم نرده عليك). فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (من جاءهم منا فأبعده الله ومن جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجا)...

فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: يا محمد، هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده... قال أبو جندل بن سهيل: معاشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت. وكان قد عذب عذابا شديدا.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله وإنا لا نغدر بهم.

الصفحة 240 

الدنية في ديننا؟ ثم جعل يطوف في عسكر رسول الله صلی الله عليه و اله يشككهم ويحضضهم ويقول: (أنعطي الدنية في ديننا)؟ فقال رسول الله صلی الله عليه و اله: (أفرجوا عني، أتريدون أن أغدر بذمتي؟ ولأفي لهم بما كتبت لهم، خذ يا سهيل بيد أبي جندل). فأخذه فشده وثاقا في الحديد. ثم جعل الله عاقبة أمر رسول الله صلی الله عليه و اله إلى الخير والرشد والهدى والعزة والفضل.

اعتراض عمر يوم غدير خم

وهو صاحب يوم غدير خم إذ قال هو وصاحبه - حين نصبني رسول الله صلی الله عليه و اله

لولايتي - فقال: (ما يألو أن يرفع خسيسته) وقال الآخر: (ما يألو رفعا بضبع

ابن عمه) وقال لصاحبه - وأنا منصوب -: (إن هذه لهي الكرامة). فقطب صاحبه في وجهه وقال: لا والله لا أسمع له ولا أطيع أبدا ثم اتكأ عليه ثم تمطى وانصرفا، فأنزل

الله فيه: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى، أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى) (1)، وعيدا من الله له وانتهارا.

اعتراض عمر في مرض علي صلی الله عليه و اله واستهزاءه

وهو الذي دخل علي مع رسول الله صلی الله عليه و اله يعودني في رهط من أصحابه، حين غمزه صاحبه فقام وقال: يا رسول الله، إنك قد كنت عهدت إلينا في علي عهدا وإني لأراه لما به فإن هلك فإلى من؟ فقال رسول الله صلی الله عليه و اله: إجلس، فأعادها ثلاث مرات، فأقبل

عليهما رسول الله صلی الله عليه و اله فقال: إيه، والله إنه لا يموت في مرضه هذا. والله لا يموت حتى تملياه غيظا وتوسعاه غدرا وظلما، ثم تجداه صابرا قواما. ولا يموت حتى يلقى منكما هنات وهنات، ولا يموت إلا شهيدا مقتولا.

____________

١- سورة القيامة: الآيات 31 - 35.

الصفحة 241 

3

إتمام الحجة على أبي بكر وعمر وعثمان في خلافة علي عليه السلام

وأعظم من ذلك كله أن رسول الله صلی الله عليه و اله جمع ثمانين رجلا، أربعين من العرب

وأربعين من العجم - وهما فيهم - فسلموا علي بإمرة المؤمنين. ثم قال: (إني أشهدكم

أن عليا أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي ووصيي في أهلي وولي كل مؤمن بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا)، وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد

وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة وسالم ومعاذ بن جبل ورهط من الأنصار. ثم قال:

(إني أشهد الله عليكم).

الانتخاب أو الانتصاب أو الشورى

ثم أقبل علي عليه السلام على القوم فقال: سبحان الله، مما أشربت قلوب هذه الأمة من بليتهما وفتنتهما، من عجلها وسامريها. إنهم أقروا وادعوا أن رسول الله صلی الله عليه و اله لم يستخلف أحدا وأنه أمر بالشورى وقال من قال: (إن رسول الله صلی الله عليه و اله لم يستخلف أحدا وإن نبي الله قال: (إن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت بين النبوة والخلافة)، وقد قال لأولئك الثمانين رجلا: (سلموا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين) وأشهدهم على ما أشهدهم عليه.

والعجب أنهم أقروا ثم ادعوا أن رسول الله صلی الله عليه و اله لم يستخلف أحدا وأنهم أمروا بالشورى، ثم أقروا أنهم لم يشاوروا في أبي بكر وأن بيعته كانت فلتة. وأي ذنب أعظم من الفلتة.

ثم استخلف أبو بكر عمر ولم يقتد برسول الله صلی الله عليه و اله فيدعهم بغير استخلاف فقيل له

في ذلك، فقال: (أدع أمة محمد كالنعل الخلق، أدعهم بغير أحد أستخلف عليهم)؟

طعنا منه على رسول الله صلی الله عليه و اله ورغبة عن رأيه!!

الصفحة 242 

ثم صنع عمر شيئا ثالثا. لم يدعهم على ما ادعى أن رسول الله صلی الله عليه و اله لم يستخلف

ولا استخلف كما استخلف أبو بكر، وجاء بشئ ثالث وجعلها شورى بين ستة نفر

وأخرج منها جميع العرب. ثم حظى بذلك عند العامة، فجعلهم مع ما أشربت قلوبهم

من الفتنة والضلالة أقراني!

ثم بايع ابن عوف عثمان فبايعوه، وقد سمعوا من رسول الله صلی الله عليه و اله في عثمان ما

قد سمعوا من لعنه إياه في غير موطن. (1)

أبو بكر وعمر أسوء حالا من عثمان

فعثمان على ما كان عليه خير منهما.

ولقد قال منذ أيام قولا رققت له وأعجبتني مقالته. بينما أنا قاعد عنده في بيته إذ أتته عائشة وحفصة تطلبان ميراثهما من ضياع رسول الله صلی الله عليه و اله وأمواله التي بيده، فقال:

(لا والله ولا كرامة لكما ولا نعمت عنه ولكن أجيز شهادتكما على أنفسكما. فإنكما شهدتما عند أبويكما أنكما سمعتما من رسول الله صلی الله عليه و اله يقول: (النبي لا يورث، ما ترك فهو صدقة). ثم لقنتما أعرابيا جلفا يبول على عقبيه ويتطهر ببوله (مالك بن أوس بن الحدثان) فشهد معكما، ولم يكن في أصحاب رسول الله صلی الله عليه و اله من المهاجرين ولا من الأنصار أحد شهد بذلك غيركما وغير أعرابي. أما والله، ما أشك أنه قد كذب على

رسول الله صلی الله عليه و اله وكذبتما عليه معه. ولكني أجيز شهادتكما على أنفسكما فاذهبا فلا حق لكما.

فانصرفتا من عنده تلعنانه وتشتمانه. فقال: ارجعا، أليس قد شهدتما بذلك عند

أبي بكر؟ قالتا: نعم. قال: فإن شهدتما بحق فلا حق لكما، وإن كنتما شهدتما بباطل فعليكما وعلى من أجاز شهادتكما على أهل هذا البيت لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

قال عليه السلام: ثم نظر إلي فتبسم ثم قال: يا أبا الحسن، أشفيتك منهما؟ قلت: نعم، والله

____________

١- راجع عن لعن عثمان: الحديث 4 من هذا الكتاب.

الصفحة 243 

وأبلغت وقلت حقا، فلا يرغم الله إلا آنافهما.

فرققت لعثمان وعلمت أنه إنما أراد بذلك رضاي وأنه أقرب منهما رحما وأكف عنا منهما، ح وإن كان لا عذر له ولا حجة بتأميره علينا وادعائه حقنا.

الصفحة 244 

15

من احتجاجات أمير المؤمنين عليه السلام حول أبي بكر وعمر وعثمان

وصف رجال الحرب

أبان عن سليم، قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول قبل وقعة صفين:

إن هؤلاء القوم لن ينيبوا إلى الحق ولا إلى كلمة سواء بيننا وبينهم حتى يرموا

بالعساكر تتبعها العساكر، وحتى يردفوا بالكتائب تتبعها الكتائب، وحتى يجر ببلادهم الخميس تتبعها الخميس، وحتى تشن الغارات عليهم من كل فج عميق، وحتى

يلقاهم قوم صدق صبر لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم وموتاهم في سبيل الله إلا جدا في طاعة الله.

الصحبة الصادقون مع رسول الله صلی الله عليه و اله

والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلی الله عليه و اله نقتل آبائنا وأبنائنا وأخوالنا وأعمامنا وأهل بيوتاتنا،

ثم لا يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما وجدا في طاعة الله واستقلالا بمبارزة الأقران. وإن كان الرجل منا والرجل من عدونا ليتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما

أيهما يسقي صاحبه كأس الموت. فمرة لنا من عدونا ومره لعدونا منا. فلما رآنا الله

صدقا وصبرا أنزل الكتاب بحسن الثناء علينا والرضا عنا وأنزل علينا النصر.

فرار أبي بكر وعمر في الحروب وسوء أدبهما عند الصلح

ولست أقول: إن كل من كان مع رسول الله صلی الله عليه و اله كذلك، ولكن أعظمهم وجلهم وعامتهم كانوا كذلك. ولقد كانت معنا بطانة لا تألونا خبالا. قال الله عز وجل: (قد بدت

الصفحة 245 

البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر "(1).

ولقد كان منهم بعض من تفضله أنت وأصحابك - يا ابن قيس - فارين، فلا رمى

بسهم ولا ضرب بسيف ولا طعن برمح(2). إذا كان الموت والنزال لاذ وتوارى واعتل،

ولاذ كما تلوذ النعجة العوراء لا تدفع يد لامس، وإذا لقي العدو فر ومنح العدو دبره

جبنا ولؤما (3)، وإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم، كما قال الله: " سلقوكم بألسنة حداد

____________

١- سورة آل عمران: الآية 118. وقوله " لا تألونا خبالا " أي لا تقصرون في فساد الأمور.

٢- روي في البحار: ج 29 ص 564 خطبة أمير المؤمنين عليه السلام الذي قال فيه:

يا معشر المجاهدين المهاجرين والأنصار أين كانت سبقة تيم وعدي إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة؟ إلا كانت يوم الأبواء إذ تكاثفت الصفوف، وتكاثرت الحتوف، وتقارعت السيوف؟ أم هلا خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد ود وقد نفح بسيفه، وشمخ بأنفه، وطمح بطرفه؟ ولم لم يشفقا على الدين وأهله يوم بواط إذ اسود لون الأفق، وأعوج عظم العنق، وانحل سيل الغرق؟ ولم لم يشفقا يوم رضوى إذ السهام تطير، والمنايا تسير، والأسد تزأر؟ وهلا بادرا يوم العشيرة إذ الأسنان تصطك، والأذان تستك، والدروع تهتك؟ وهلا كانت مبادرتهما يوم بدر، إذ الأرواح في الصعداء ترتقي، والجياد بالصناديد ترتدي، والأرض من دماء الأبطال ترتوي؟ ولم لم يشفقا على الدين يوم بدر الثانية، والرعابيب ترعب، والأوداج تشخب، والصدور تخضب؟ أم هلا بادرا يوم ذات الليوث، وقد أبيح المتولب، واصطلم الشقب، وادلهم الكوكب؟ ولم لا كانت شفقتهما على الإسلام يوم الكدر، والعيون تدمع، والمنية تلمع، والصفائح تنزع.

ثم عدد وقائع النبي صلى الله عليه وآله كلها على هذا النسق، وقرعهما بأنهما في هذه المواقف كلها كانا من النظارة والخوالف والقاعدين، فكيف بادرا الفتنة بزعمهما يوم السقيفة وقد توطأ الإسلام بسيفه، واستقر قراره، وزال حذاره.

٣- روي في البحار: ج 20 ص 228: أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر عمر بن الخطاب في يوم الخندق أن يبارز ضرار بن الخطاب، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهما. فقال ضرار: ويلك يا بن صهاك، أرمي في مبارزة؟

والله لئن رميتني لا تركت عدويا بمكة إلا قتلته. فانهزم عنه عمر ومر نحوه ضرار وضرب بالقناة على رأسه، ثم قال: احفظها يا عمر، فإني آليت أن لا أقتل قرشيا ما قدرت عليه. فكان عمر يحفظ له ذلك بعد ما ولي، وولاه!!

وروي في البحار: ج 21 ص 11 ح 7 عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث سعد بن معاذ براية الأنصار إلى خيبر فرجع منهزما. ثم بعث عمر بن الخطاب براية المهاجرين فأتي بسعد جريحا، وجاء عمر يجبن أصحابه ويجبنونه.

الصفحة 246 

أشحة على الخير). (1)

فلا يزال قد استأذن رسول الله صلی الله عليه و اله في ضرب عنق الرجل الذي ليس يريد

رسول الله صلی الله عليه و اله قتله، فأبى عليه. (2)ولقد نظر رسول الله صلی الله عليه و اله يوما وعليه السلاح تام،

____________

١- سورة الأحزاب: الآية 19.

٢- روي في البحار: ج 19 ص 271 عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لما كان يوم بدر وأسرت الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما ترون في هؤلاء القوم؟ فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، هم الذين كذبوك وأخرجوك فاقتلهم!!

وروي في البحار: ج 21 ص 94 و 121، وصحيح البخاري: ج 5 ص 9، و ج 8 ص 54، والكشاف للزمخشري: ج 4 ص 511، وتاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 58:

أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يتجهز لفتح مكة، فأتى حاطب بن أبي بلتعة إلى سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام وهي تريد مكة، فكتب معها كتابا إلى أهل مكة... وكتب في الكتاب: (من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة: إن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم). فخرجت سارة.

ونزل جبرئيل فأخبر النبي صلى الله عليه وآله بما فعل. فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام... فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأرسل إلى حاطب فأتاه فقال له: هل تعرف الكتاب؟ قال: نعم. قال: فما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله، والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ صحبتك ولا أجبتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت عزيزا فيهم - أي غريبا - وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي فأردت أ ن أتخذ عندهم يدا. وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدقه رسول الله صلى الله عليه وآله وعذره.

فقام عمر بن الخطاب وقال: دعني - يا رسول الله - أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (وما يدريك يا عمر، لعل الله اطلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

وروي في البحار: ج 21 ص 103 عند ذكر فتح مكة أنه لما أجار العباس أبا سفيان وأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله دخل عمر فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه!

وروي في البحار: ج 19 ص 241 و 271 و 277 و 281، ج 21 ص 158 و 173، ودلائل النبوة للبيهقي: ج 3 ص 140: أن ابن الأكوع كان عينا على النبي صلى الله عليه وآله أيام الفتح وأسر يوم حنين. فمر به عمر بن الخطاب، فلما رآه أقبل على رجل من الأنصار وقال: هذا عدو الله الذي كان علينا عينا، ها هو أسير فاقتله. فضرب الأنصاري عنقه، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فكره ذلك وقال: ألم آمركم أن لا تقتلوا أسيرا؟ وقتل بعده جميل بن معمر بن زهير وهو أسير، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الأنصار وهو مغضب فقال: ما حملكم على قتله وقد جاءكم الرسول أن لا تقتلوا أسيرا؟ فقالوا: إنما قتلناه بقول عمر. فأعرض رسول الله صلى الله عليه وآله حتى كلمه عمير بن وهب في الصفح عن ذلك.

وروي في صحيح البخاري: ج 8 ص 52: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله يقسم جاء عبد الله التميمي من ذي الخويصرة فقال: اعدل يا رسول الله فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل. قال عمر بن الخطاب:

دعني أضرب عنقه فقال صلى الله عليه وآله: دعه.

الصفحة 247 

فضحك رسول الله صلی الله عليه و اله ثم قال - يكنيه -: (أبا فلان، اليوم يومك)!!

فقال الأشعث: ما أعلمني بمن تعني إن ذلك يفر منه الشيطان (1) قال عليه السلام:

يا بن قيس، لا آمن الله روعة الشيطان إذ قال!

إخبار أمير المؤمنين عليه السلام عن عاقبة أمر أصحابه

ثم قال: ولو كنا - حين كنا مع رسول الله صلی الله عليه و اله وتصيبنا الشدائد والأذى والبأس - فعلنا كما تفعلون اليوم لما قام لله دين ولا أعز الله الإسلام. وأيم الله لتحتلبنها دما وندما وحسرة، فاحفظوا ما أقول لكم واذكروه. فليسلطن عليكم شراركم والأدعياء منكم والطلقاء والطرداء والمنافقون، فليقتلنكم ثم لتدعن الله فلا يستجيب لكم ولا يرفع البلاء عنكم حتى تتوبوا وترجعوا فإن تتوبوا وترجعوا يستنقذكم الله من فتنتهم

وضلالتهم كما استنقذكم من شركم وجهالتكم.

التعجب من استخلاف أبي بكر وعمر وعثمان على الأمة!!

ألا إن العجب كل العجب من جهال هذه الأمة وضلالها وقادتها وساقتها إلى النار

لأنهم قد سمعوا رسول الله صلی الله عليه و اله يقول عودا وبدءا: (ما ولت أمة رجلا قط أمرها وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا)، فولوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ما منهم رجل جمع القرآن ولا يدعي أن له علما بكتاب الله ولا سنة نبيه.

وقد علموا يقينا أني أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله،

____________

١- يريد بذلك عمر، وقد اختلقوا له حديثا: (إن الشيطان يفر منه). راجع الغدير: ج 5 ص 311 و ج 8 ص 64 و 94. وراجع الحديث 10 من هذا الكتاب.

الصفحة 248 

وأقضاهم بحكم الله.

وأنه ليس رجل من الثلاثة له سابقة مع رسول الله صلی الله عليه و اله ولا عناء معه في جميع مشاهده، فلا رمى بسهم ولا طعن برمح ولا ضرب بسيف جبنا ولؤما ورغبة في البقاء.

وقد علموا أن رسول الله صلی الله عليه و اله قاتل بنفسه فقتل أبي بن خلف وقتل مسجع بن

عوف. (1)وكان من أشجع الناس وأشدهم لقاء وأحقهم بذلك. (2)

وقد علموا يقينا أنه لم يكن فيهم أحد يقوم مقامي، ولا يبارز الأبطال ولا يفتح

الحصون غيري، ولا نزلت برسول الله صلی الله عليه و اله شديدة قط ولا كربة أمر ولا ضيق ومستصعب من الأمر إلا قال: (أين أخي علي، أين سيفي، أين رمحي، أين المفرج

غمي عن وجهي)، فيقدمني، فأتقدم فأفديه بنفسي ويكشف الله بيدي الكرب عن

وجهه. ولله عز وجل ولرسوله بذلك المن والطول حيث خصني بذلك ووفقني له.

لم يكن لأبي بكر وعمر أي سابقة في الدين

وإن بعض من سميت ما كان ذا بلاء ولا سابقة ولا مبارزة قرن ولا فتح ولا نصر غير

مرة واحدة، ثم فر ومنح عدوه دبره ورجع يجبن أصحابه ويجبنونه وقد فر مرارا!(3)

____________

١- روي في البحار: ج 18 ص 68 و 69 و 74 و 95: أن أبي بن خلف قال للنبي صلى الله عليه وآله بمكة: إني أعلف العوراء - يعني فرسا له - أقتلك عليه . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لكن أنا إن شاء الله. فلقي يوم أحد، فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وآله الحربة من الحارث بن الصمة، فمشى إليه فطعن وانصرف. فرجع إلى قريش وهو يقول:

قتلني محمد. قالوا: ما بك بأس قال: إنه قال لي بمكة: (إني أقتلك) ولو بصق علي لقتلني. فمات بشرف. وقصة مسجع لم أعثر عليه.

٢- في البحار: ج 16 ص 117: ومن أسمائه صلى الله عليه وآله (القتال)، (سيفه على عاتقه)، سمي بذلك لحرصه على الجهاد ومسارعته إلى القراع ودؤوبه في ذات الله وعدم إحجامه. ولذلك قال علي عليه السلام: (كنا إذا احمر البأس اتقيناه برسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكن أحد أقرب إلى العدو منه). وذلك مشهور من فعله يوم أحد إذ ذهب القوم في سمع الأرض وبصرها، ويوم حنين إذ ولوا مدبرين.

٣- روي في البحار: ج 20 ص 107 ح 24: أنه لما انهزم الناس يوم أحد عن النبي صلى الله عليه وآله انصرف إليهم بوجهه وهو يقول: (أنا محمد...). فالتفت إليه أبو بكر وعمر فقالا: الآن يسخر بنا أيضا وقد هزمنا وأورد في البحار: ج 21 ص 70 انهزامهما في غزوة ذات السلاسل.

الصفحة 249 

فإذا كان عند الرخاء والغنيمة تكلم وتغير وأمر ونهى.

ولقد نادى ابن عبد ود - يوم الخندق - باسمه، فحاد عنه ولاذ بأصحابه (1) حتى تبسم رسول الله صلی الله عليه و اله مما رآى به من الرعب وقال صلی الله عليه و اله: (أين حبيبي علي؟ تقدم يا حبيبي يا علي).

عبادتهما الأصنام بعد الإسلام!!

وهو القائل يوم الخندق لأصحابه الأربعة - أصحاب الكتاب والرأي -: (والله إن

ندفع محمدا إليهم برمته نسلم من ذلك، حين جاء العدو من فوقنا ومن تحتنا) كما قال

الله تعالى: (وزلزلوا زلزالا شديدا)، (وظنوا بالله الظنونا)، (وقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا). (2)فقال له صاحبه: (لا، ولكن نتخذ

صنما عظيما نعبده لأنا لا نأمن أن يظفر ابن أبي كبشة فيكون هلاكنا ولكن يكون هذا الصنم لنا ذخرا فإن ظفرت قريش أظهرنا عبادة هذا الصنم (3) وأعلمناهم أنا لن نفارق

ديننا، وإن رجعت دولة ابن أبي كبشة كنا مقيمين على عباد ة هذا الصنم سرا).

فنزل جبرئيل عليه السلام فأخبر النبي صلی الله عليه و اله بذلك، ثم خبر به رسول الله صلی الله عليه و اله بعد قتلي

ابن عبد ود. فدعاهما فقال: (كم صنم عبدتما في الجاهلية)؟ فقالا: يا محمد، لا تعيرنا

بما مضى في الجاهلية. فقال صلی الله عليه و اله لهما: (فكم صنم تعبدان يومكما هذا)؟ فقالا: والذي بعثك بالحق نبيا ما نعبد إلا الله منذ أظهرنا من دينك ما أظهرنا.

____________

١- روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 336: إن عمرو بن عبد ود رآى بيد عمر بن الخطاب (يوم الخندق) قوسا فقال: يا بن صهاك، واللات لئن نقل عن يدك سهم لأقطعنها فتناثر النبل من يده ورجع القهقرى.

٢- سورة الأحزاب: الآيات 10 و 11 و 12، وفي المصحف هكذا: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا. وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا).

٣- قد أورد قصة عبادتهما للصنم المرندي في (مجمع النورين): ص 229 عن كتاب المحتضر.

الصفحة 250 

فقال: يا علي، خذ هذا السيف، فانطلق إلى موضع كذا وكذا فاستخرج الصنم الذي يعبدانه فاهشمه. فإن حال بينك وبينه أحد فاضرب عنقه.

فانكبا على رسول الله صلی الله عليه و اله فقالا: استرنا سترك الله. فقلت أنا لهما: (اضمنا لله

ولرسوله أن لا تعبدا إلا الله ولا تشركا به شيئا). فعاهدا رسول الله صلی الله عليه و اله على ذلك.

وانطلقت حتى استخرجت الصنم من موضعه وكسرت وجهه ويديه وجذمت رجليه، ثم انصرفت إلى رسول الله صلی الله عليه و اله. فوالله لقد عرفت ذلك في وجههما علي حتى ماتا!

مخاصمة أبي بكر وعمر للأنصار بحجة علي عليه السلام

ثم انطلق هو وأصحابه - حين قبض رسول الله صلی الله عليه و اله - فخاصموا الأنصار بحقي. فإن كانوا صدقوا واحتجوا بحق (أنهم أولى من الأنصار لأنهم من قريش ورسول الله صلی الله عليه و اله من قريش)، فمن كان أولى برسول الله صلی الله عليه و اله كان أولى بالأمر، وإنما ظلموني حقي، وإن كانوا احتجوا بباطل فقد ظلموا الأنصار حقهم، والله يحكم بيننا وبين من ظلمنا حقنا وحمل الناس على رقابنا.

ابتلاء الأمة بحب مضليها وقصورها عن لعنهم

والعجب لما قد أشربت قلوب هذه الأمة من حبهم وحب من صدهم عن سبيل

ربهم وردهم عن دينهم!

والله، لو أن هذه الأمة قامت على أرجلها على التراب ووضعت الرماد على رؤوسها وتضرعت إلى الله ودعت إلى يوم القيامة على من أضلهم وصدهم عن سبيل الله ودعاهم إلى النار وعرضهم لسخط ربهم وأوجب عليهم عذابه - بما أجرموا إليهم - لكانوا مقصرين في ذلك.

ما منع أمير المؤمنين عليه السلام عن إعلان الحقائق

وذلك أن المحق الصادق والعالم بالله ورسوله يتخوف إن غير شيئا من بدعهم

الصفحة 251 

وسننهم وأحداثهم، وعادته العامة، ومتى فعل شاقوه وخالفوه وتبرؤا منه وخذلوه

وتفرقوا عن حقه، وإن أخذ ببدعهم وأقر بها وزينها ودان بها أحبته وشرفته وفضلته.

والله لو ناديت في عسكري هذا بالحق الذي أنزل الله على نبيه وأظهرته ودعوت إليه وشرحته وفسرته - على ما سمعت من نبي الله صلی الله عليه و اله فيه - ما بقي فيه إلا أقله وأذله وأرذله ولاستوحشوا منه ولتفرقوا عني.

ولولا ما عاهد رسول الله صلی الله عليه و اله إلي وسمعته منه وتقدم إلي فيه لفعلت، ولكن

رسول الله صلی الله عليه و اله قد قال: (يا أخي، كل ما اضطر إليه العبد فقد أحله الله له وأباحه إياه)، وسمعته يقول: (إن التقية من دين الله، ولا دين لمن لا تقية له). ثم أقبل عليه السلام علي فقال:

أدفعهم بالراح دفعا عني ثلثان من حي وثلث مني

فإن عوضني ربي فأعذرني

ابتلاء أمير المؤمنين عليه السلام بأخابث الناس

وقال علي عليه السلام للحكمين - حين بعثهما -: (أحكما بكتاب الله وسنة نبيه وإن كان

فيهما حز حلقي، فإنه من قادها إلى هؤلاء فإن نيتهم أخبثت).

فقال له رجل من الأنصار: ما هذا الانتشار الذي بلغني عنك؟ ما كان أحد من الأمة

أضبط للأمر منك، فما هذا الاختلاف والانتشار؟ فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: أنا صاحبك الذي تعرف، إلا أني قد بليت بأخابث من خلق الله، أريدهم على الأمر

فيأبون، فإن تابعتهم على ما يريدون تفرقوا عني!

الصفحة 252 

16

نبوءات نبي الله عيسى عليه السلام عن الرسول والأئمة عليهم السلام والأئمة المضلين

أبان عن سليم: قال: أقبلنا من صفين مع أمير المؤمنين عليه السلام، فنزل العسكر قريبا من

دير نصراني. فخرج إلينا من الدير شيخ كبير جميل حسن الوجه حسن الهيئة والسمت ومعه كتاب في يده، حتى أتى أمير المؤمنين عليه السلام فسلم عليه بالخلافة. فقال له علي عليه السلام: مرحبا يا أخي شمعون بن حمون، كيف حالك رحمك الله؟

فقال: بخير يا أمير المؤمنين وسيد المسلمين ووصي رسول رب العالمين. إني من

نسل رجل من حواري أخيك عيسى بن مريم عليه السلام، وأنا من نسل شمعون بن يوحنا

وصي عيسى بن مريم. وكان من أفضل حواري عيسى بن مريم عليه السلام الاثني عشر

وأحبهم إليه وآثرهم عنده وإليه أوصى عيسى بن مريم عليه السلام وإليه دفع كتبه وعلمه وحكمته، فلم يزل أهل بيته على دينه متمسكين بملته فلم يكفروا ولم يبدلوا

ولم يغيروا.

النبي والأئمة الاثني عشر عليهم السلام في كتب عيسى عليه السلام

وتلك الكتب عندي إملاء عيسى بن مريم وخط أبينا بيده، وفيها كل شئ يفعل

الناس من بعده ملك ملك، وكم يملك وما يكون في زمان كل ملك منهم، حتى يبعث

الله رجلا من العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن من أرض تدعى

(تهامة) من قرية يقال لها (مكة)، يقال له (أحمد)، الأنجل العينين، المقرون

الحاجبين، صاحب الناقة والحمار والقضيب والتاج - يعني العمامة - له اثنا عشر اسما.

الصفحة 253 

ثم ذكر مبعثه ومولده وهجرته ومن يقاتله ومن ينصره ومن يعاديه وكم يعيش وما

تلقى أمته من بعده من الفرقة والاختلاف.

وفيه تسمية كل إمام هدى وإمام ضلالة إلى أن ينزل الله عيسى بن مريم من السماء.

فذكر في الكتاب ثلاثة عشر رجلا (1) من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الله، هم خير

من خلق الله وأحب من خلق الله إلى الله. وإن الله ولي من والاهم وعدو من عاداهم. من أطاعهم اهتدى ومن عصاهم ضل. طاعتهم لله طاعة ومعصيتهم لله معصية.

مكتوبة فيه أسمائهم وأنسابهم ونعتهم وكم يعيش كل رجل منهم واحدا بعد

واحد، وكم رجل منهم يستسر بدينه ويكتمه من قومه، ومن يظهر منهم ومن يملك وينقاد له الناس حتى ينزل الله عيسى بن مريم عليه السلام على آخرهم. فيصلي عيسى خلفه ويقول: (إنكم أئمة لا ينبغي لأحد أن يتقدمكم)، فيتقدم فيصلي بالناس وعيسى خلفه

في الصف الأول. أولهم أفضلهم، وآخرهم له مثل أجورهم وأجور من أطاعهم

واهتدى بهداهم.

نص ما في كتب عيسى عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم، أحمد رسول الله واسمه محمد وياسين وطه ون والفاتح

والخاتم والحاشر والعاقب والماحي، وهو نبي الله وخليل الله وحبيب الله وصفيه

وأمينه وخيرته. يرى تقلبه في الساجدين - يعني في أصلاب النبيين - ويكلمه برحمته فيذكر إذا ذكر. وهو أكرم خلق الله على الله وأحبهم إلى الله، لم يخلق الله خلقا - ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، من آدم فمن سواه - خيرا عند الله ولا أحب إلى الله منه، يقعده الله يوم القيامة على عرشه ويشفعه في كل من شفع فيه. وباسمه جرى القلم في اللوح المحفوظ في أم الكتاب وبذكره، محمد رسول الله.

ثم أخوه صاحب اللواء يوم القيامة يوم الحشر الأكبر، وأخوه ووصيه ووزيره،

____________

١- هم النبي والأئمة الاثني عشر عليهم السلام.

الصفحة 254 

وخليفته في أمته، وأحب خلق الله إلى الله بعده علي بن أبي طالب ولي كل مؤمن بعده.

ثم أحد عشر إماما من ولد أول الاثني عشر، اثنان سميا ابني هارون شبر وشبير وتسعة

من ولد أصغرهما وهو الحسين، واحدا بعد واحد، آخرهم الذي يصلي عيسى بن

مريم خلفه). (1)

فيه تسمية كل من يملك منهم ومن يستسر بدينه ومن يظهر. فأول من يظهر منهم

يملأ جميع بلاد الله قسطا وعدلا، ويملك ما بين المشرق والمغرب حتى يظهره الله

على الأديان كلها.

فلما بعث النبي - وأبي حي - صدق به وآمن به وشهد أنه رسول الله، وكان شيخا

كبيرا ولم يكن به شخوص. فمات أبي وقال لي: (إن وصي محمد وخليفته - الذي

اسمه في هذا الكتاب ونعته - سيمر بك إذا مضى ثلاثة أئمة من أئمة الضلالة والدعاة إلى النار المسمين بأسمائهم وقبائلهم فلان وفلان وفلان ونعتهم وكم يملك كل واحد

منهم، فإذا مر بك فاخرج إليه وبايعه وقاتل معه عدوه فإن الجهاد معه كالجهاد مع

محمد، والموالي له كالموالي لمحمد والمعادي له كالمعادي لمحمد).

الأخبار عن أبي بكر وعمر وعثمان وسائر الغاصبين في كتب عيسى عليه السلام

وفي هذا الكتاب - يا أمير المؤمنين - إن اثني عشر إماما من قريش من قومه يعادون

أهل بيته ويمنعونهم حقهم ويقتلونهم ويطردونهم ويحرمونهم ويتبرؤون منهم ويخيفونهم، مسمون واحدا بعد واحد بأسمائهم ونعوتهم، وكم يملك كل رجل منهم

وما يملك، وما يلقى منهم ولدك وأنصارك وشيعتك من القتل والخوف والبلاء.

وكيف يديلكم الله منهم ومن أوليائهم وأنصارهم وما يلقون من الذل والحرب والبلاء والخزي والقتل والخوف منكم أهل البيت.

____________

١- هنا آخر النص الذي ينقله من كتاب الراهب.

الصفحة 255 

الراهب يبايع أمير المؤمنين عليه السلام

ثم قال: يا أمير المؤمنين، ابسط يدك أبايعك، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأشهد أنك خليفة رسول الله في أمته ووصيه وشاهده على خلقه وحجته في أرضه، وإن الإسلام دين الله وإني أبرء من كل دين خالف دين الإسلام، فإنه دين الله الذي اصطفاه لنفسه ورضيه لأوليائه، وإنه دين عيسى بن مريم ومن كان قبله

من أنبياء الله ورسله، وهو الذي دان به من مضى من آبائي. وإني أتولاك وأتولى

أوليائك، وأبرء من عدوك وأتولى الأحد عشر الأئمة من ولدك وأبرء من عدوهم

وممن خالفهم وبرء منهم وادعى حقهم وظلمهم من الأولين والآخرين. ثم تناول يده وبايعه.

ثم قال له أمير المؤمنين عليه السلام: ناولني كتابك، فناوله إياه. فقال علي عليه السلام لرجل من أصحابه: قم مع هذا الرجل فانظر ترجمانا يفهم كلامه، فلينسخه لك بالعربية مفسرا.

فأتاه مكتوبا بالعربية.

فلما أتاه به قال لابنه الحسن عليه السلام: يا بني، ائتني بالكتاب الذي دفعته إليك. فأتاه به،

فقال: أنت يا بني اقرأه، وانظر أنت يا فلان - الذي تستجهل - في نسخة هذا الكتاب،

فإنه خطي بيدي وإملاء رسول الله صلی الله عليه و اله علي.

فقرأه فما خالف حرفا واحدا ليس فيه تقديم ولا تأخير، كأنه إملاء رجل واحد على رجلين!

فحمد الله أمير المؤمنين عليه السلام وأثنى عليه وقال: (الحمد لله الذي لو شاء لم تختلف

الأمة ولم تفترق، والحمد لله الذي لم ينسني ولم يضع أمري ولم يخمل ذكري عنده وعند أوليائه إذ صغر وخمل ذكر أولياء الشيطان وحزبه).

ففرح بذلك من حضر عند أمير المؤمنين عليه السلام من شيعته وشكر، وساء ذلك كثيرا

ممن حوله حتى عرفنا ذلك في وجوههم وألوانهم.

الصفحة 256 

17

خطبة أمير المؤمنين عليه السلام محذرا من الفتن

أبان عن سليم بن قيس قال: صعد أمير المؤمنين عليه السلام المنبر، فحمد الله وأثنى عليه

وقال:

أيها الناس، أنا الذي فقأت (1) عين الفتنة ولم يكن ليجترئ عليها غيري. وأيم الله

لو لم أكن فيكم لما قوتل أهل الجمل ولا أهل صفين ولا أهل النهروان. وأيم الله لولا أن تتكلموا وتدعوا العمل لحدثتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلی الله عليه و اله لمن قاتلهم مستبصرا في ضلالتهم عارفا بالهدى الذي نحن عليه.

ثم قال عليه السلام: سلوني عما شئتم قبل أن تفقدوني، فوالله إني بطرق السماء أعلم مني

بطرق الأرض. أنا يعسوب المؤمنين وأول السابقين وإمام المتقين وخاتم الوصيين

ووارث النبيين وخليفة رب العالمين. أنا ديان الناس يوم القيامة وقسيم الله بين أهل

الجنة والنار، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الذي أفرق بين الحق والباطل، وإن عندي

علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب، وما من آية نزلت إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت.

أيها الناس، إنه وشيك أن تفقدوني، إني مفارقكم وإني ميت أو مقتول. ما ينتظر

أشقاها أن يخضبها من فوقها؟ يعني لحيته من دم رأسه.

والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لا تسألوني من فئة تبلغ ثلاثمائة فما فوقها فيما

____________

١- أي قلعت.

الصفحة 257 

بينكم وبين قيام الساعة إلا أنبأتكم بسائقها وقائدها وناعقها (1)، وبخراب العرصات متى تخرب ومتى تعمر بعد خرابها إلى يوم القيامة.

فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن البلايا.

فقال عليه السلام: إذا سأل سائل فليعقل وإذا سئل مسؤول فليلبث. إن من ورائكم أمورا

ملتجة مجلجلة (2) وبلاء مكلحا مبلحا. (3)

والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو قد فقدتموني ونزلت عزائم الأمور وحقائق البلاء

لقد أطرق كثير من السائلين واشتغل كثير من المسؤولين. وذلك إذا ظهرت حربكم ونصلت عن ناب وقامت عن ساق وصارت الدنيا بلاء عليكم حتى يفتح الله لبقية

الأبرار.

فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين، حدثنا عن الفتن.

فقال عليه السلام: إن الفتن إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت أسفرت. وإن الفتن لها موج كموج البحر وإعصار كإعصار الريح، تصيب بلدا وتخطئ الآخر. فانظروا أقواما كانوا

أصحاب الرايات يوم بدر فانصروهم تنصروا وتؤجروا وتعذروا.

فتنة بني أمية أخوف الفتن

ألا إن أخوف الفتن عليكم من بعدي فتنة بني أمية. إنها فتنة عمياء صماء مطبقة

مظلمة، عمت فتنتها وخصت بليتها. أصاب البلاء من أبصر فيها وأخطأ البلاء من عمي عنها. أهل باطلها ظاهرون على أهل حقها، يملؤون الأرض بدعا وظلما وجورا. وأول

من يضع جبروتها ويكسر عمودها وينزع أوتادها الله رب العالمين وقاصم الجبارين.

____________

١- تشبيه بالراعي إذا نعق بغنمه أي صاح بها وزجرها.

٢- أي مضطربة مرددة.

٣- أي مفزعة معجزة.

الصفحة 258 

ألا إنكم ستجدون بني أمية أرباب سوء بعدي كالناب الضروس تعض بفيها وتخبط بيديها وتضرب برجليها وتمنع درها.

وأيم الله، لا تزال فتنتهم حتى لا تكون نصرة أحدكم لنفسه إلا كنصرة العبد السوء

لسيده، إذا غاب سبه وإذا حضر أطاعه. وأيم الله لو شردوكم تحت كل كوكب لجمعكم الله لشر يوم لهم.

فتن ما بعد بني أمية

فقال الرجل: فهل من جماعة - يا أمير المؤمنين - بعد ذلك؟ قال عليه السلام: إنها ستكونون جماعة شتى، عطاؤكم وحجكم وأسفاركم واحد والقلوب مختلفة.

قال: قال واحد: كيف تختلف القلوب؟ قال عليه السلام: هكذا - وشبك بين أصابعه - ثم

قال: يقتل هذا هذا وهذا هذا، هرجا هرجا ويبقى طغام جاهلية ليس فيها منار هدى

ولا علم يرى. نحن أهل البيت منها بمنجاة ولسنا فيها بدعاة.

قال: فما أصنع في ذلك الزمان يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: انظروا أهل بيت نبيكم،

فإن لبدوا فالبدوا وإن استنصروكم فانصروهم تنصروا وتعذروا، فإنهم لن يخرجوكم

من هدى ولن يدعوكم إلى ردى، ولا تسبقوهم بالتقدم فيصرعكم البلاء وتشمت بكم الأعداء.

يفرج الله عن الفتن بالإمام المهدي عليه السلام

قال: فما يكون بعد ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: يفرج الله البلاء برجل من بيتي كانفراج الأديم من بيته. ثم يرفعون إلى من يسومهم خسفا ويسقيهم بكأس مصبرة

ولا يعطيهم ولا يقبل منهم إلا السيف، هرجا هرجا، يحمل السيف على عاتقه ثمانية

أشهر حتى تود قريش بالدنيا وما فيها أن يروني مقاما واحدا فأعطيهم وآخذ منهم

بعض ما قد منعوني وأقبل منهم بعض ما يرد عليهم حتى يقولوا: (ما هذا من قريش، لو

الصفحة 259 

كان هذا من قريش ومن ولد فاطمة لرحمنا) يغريه الله ببني أمية فيجعلهم تحت

قدميه ويطحنهم طحن الرحى. (ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا، سنة الله في

الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا). (1)

أهل البيت عليهم السلام هم الملجأ في الفتن

أما بعد، فإنه لا بد من رحى تطحن ضلالة، فإذا طحنت قامت على قطبها. ألا وإن

لطحنها روقا وإن روقها حدها وعلى الله فلها.

ألا وإني وأبرار عترتي وأطائب أرومتي أحلم الناس صغارا وأعلمهم كبارا. معنا

راية الحق والهدى، من سبقها مرق ومن خذلها محق ومن لزمها لحق.

إنا أهل بيت من علم الله علمنا، ومن حكم الله الصادق قيلنا، ومن قول الصادق

سمعنا. فإن تتبعونا تهتدوا ببصائرنا وإن تتولوا عنا يعذبكم الله بأيدينا أو بما شاء.

نحن أفق الإسلام، بنا يلحق المبطئ وإلينا يرجع التائب.

والله لولا أن تستعجلوا ويتأخر الحق لنبأتكم بما يكون في شباب العرب

والموالي، فلا تسألوا أهل بيت محمد العلم قبل إبانه، ولا تسألوهم المال على العسر فتبخلوهم، فإنه ليس منهم البخل.

وكونوا أحلاس البيوت، ولا تكونوا عجلا بذرا. كونوا من أهل الحق تعرفوا به

وتتعارفوا عليه، فإن الله خلق الخلق بقدرته وجعل بينهم الفضائل بعلمه وجعل منهم

عبادا اختارهم لنفسه ليحتج بهم على خلقه. فجعل علامة من أكرم منهم طاعته وعلامة من أهان منهم معصيته. وجعل ثواب أهل طاعته النضرة في وجهه في دار الأمن

والخلد الذي لا يورع أهله، وجعل عقوبة أهل معصيته نارا تأجج لغضبه، (وما ظلمهم

____________

١- سورة الأحزاب: الآية 62. وفي المتن: وأخذوا.

الصفحة 260 

الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون). (1)

يا أيها الناس، إنا أهل بيت بنا ميز الله الكذب، وبنا يفرج الله الزمان الكلب وبنا ينزع الله ربق الذل من أعناقكم وبنا يفتح الله وبنا يختم الله. فاعتبروا بنا وبعدونا وبهدانا

وبهداهم وبسيرتنا وسيرتهم وميتتنا وميتتهم، يموتون بالدال والقرح والدبيلة،

ونموت بالبطن والقتل والشهادة.

بلاء آل محمد عليهم السلام في الفتن

ثم التفت عليه السلام إلى بنيه فقال: يا بني، ليبر صغاركم كباركم، وليرحم كبار كم صغاركم، ولا تكونوا أمثال السفهاء الجفاة الجهال الذين لا يعطون في الله اليقين، كبيض بيض في داح. (2)

ألا ويح للفراخ فراخ آل محمد من خليفة يستخلف، جبار (3) عتريف مترف يقتل

خلفي وخلف الخلف بعدي.

أما والله، لقد علمت تبليغ الرسالات وتنجيز العدات وتمام الكلمات وفتحت لي

الأسباب وعلمت الأنساب وأجري لي السحاب، ونظرت في الملكوت فلم يعزب

عني شئ فات ولم يفتني ما سبقني ولم يشركني أحد فيما أشهدني ربي يوم يقوم الأشهاد. وبي يتم الله موعده ويكمل كلماته، وأنا النعمة التي أنعمها الله على خلقه، وأنا الإسلام الذي ارتضاه لنفسه، كل ذلك من من الله به علي وأذل به منكبي.

وليس إمام إلا وهو عارف بأهل ولايته، وذلك قول الله عز وجل: (إنما أنت منذر

ولكل قوم هاد). (4)

ثم نزل، صلى الله عليه وآله الطاهرين الأخيار وسلم تسليما كثيرا.

____________

١- سورة النحل: الآية 33.

٢- الداح نقش يلوح به للصبيان يعللون به.

٣- العتريف بمعنى الخبيث الفاجر. وفي (د): الغطريف، بمعنى المتكبر.

٤- سورة الرعد: الآية 7.

الصفحة 261 

18

1

تأثير الميل إلى الدنيا في علم الإنسان ودينه

قال سليم بن قيس: سمعت أبا الحسن عليه السلام يحدثني ويقول: إن النبي صلی الله عليه و اله قال:

منهومان لا يشبعان: منهوم في الدنيا لا يشبع منها، ومنهوم في العلم لا يشبع منه. فمن اقتصر من الدنيا على ما أحل الله له سلم، ومن تناولها من غير حلها هلك إلا أن يتوب ويراجع. ومن أخذ العلم من أهله وعمل به نجا، ومن أراد به الدنيا هلك وهو حظه.

والعلماء عالمان: عالم عمل بعلمه فهو ناج، وعالم تارك لعلمه فهو هالك. إن أهل

النار ليتأذون من نتن ريح العالم التارك لعلمه. وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل

دعا عبدا إلى الله فاستجاب له، فأطاع الله فدخل الجنة وعصى الله الداعي فأدخل النار بتركه علمه واتباعه هواه وعصيانه لله.

إنما هما اثنان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة.

إن الدنيا قد ترحلت مدبرة وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة، ولكل منهما بنون،

فكونوا من أبناء الآخرة إن استطعتم ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنما اليوم عمل

ولا حساب وغدا حساب ولا عمل.

الصفحة 262 

كيف تبدأ الفتن

وإنما ابتداء وقوع الفتن من أهواء تتبع وأحكام تبتدع، يخالف فيها حكم الله، يتولى

فيها رجال رجالا ويتبرء رجال من رجال. ألا إن الحق لو خلص لم يكن فيه اختلاف

وإن الباطل لو خلص لم يخف على ذي حجى، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيحسبان معا، فهنالك استولى الشيطان على أوليائه ونجا الذين

سبقت لهم منا الحسنى.

إني سمعت رسول الله صلی الله عليه و اله يقول: كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الوليد ويزيد (1) فيها الكبير، يجري الناس عليها فيتخذونها سنة، فإذا غير منها شئ قيل: (إن الناس

قد أتوا منكرا)!!

ثم يشتد البلاء وتسبى الذرية وتدقهم الفتن كما تدق النار الحطب وكما تدق

الرحى بثفالها (2)، يتفقه الناس لغير الدين ويتعلمون لغير العمل ويطلبون الدنيا بعمل

الآخرة.

2

كلام أمير المؤمنين عليه السلام عن بدع أبي بكر وعمر وعثمان

ثم أقبل عليه السلام بوجهه على ناس من أهل بيته وشيعته فقال: والله لقد عملت الأئمة قبلي بأمور عظيمة خالفت فيها رسول الله صلی الله عليه و اله متعمدين، لو حملت الناس على تركها وتحويلها عن موضعها إلى ما كانت تجري عليه على عهد رسول الله صلی الله عليه و اله لتفرق عني جندي، حتى

لا يبقى في عسكري غيري وقليل من شيعتي الذين إنما عرفوا فضلي وإمامتي من

____________

١- أي ينمو.

٢- الثفال: حجر الرحى الأسفل.

الصفحة 263 

كتاب الله وسنة نبيه لا من غيرهما

أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى المكان الذي وضعه فيه رسول الله صلی الله عليه و اله، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام، ورددت صاع رسول الله صلی الله عليه و اله ومده إلى ما كان، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلی الله عليه و اله لأهلها ورددت دار جعفر بن أبي طالب إلى ورثته وهدمتها من المسجد (1)، ورددت قضايا من قضى من كان قبلي بجور، ورددت ما قسم من أرض خيبر (2)، ومحوت ديوان الأعطية (3) وأعطيت كما كان يعطي رسول الله صلی الله عليه و اله

____________

١- راجع الحديث 14 من هذا الكتاب. وقوله (رددت قضايا من قضى...)، القضى والقضاء بمعنى واحد.

٢- روى ابن شبة في تاريخ المدينة المنورة: ج 1 ص 185 وأحمد في مسنده: ج 6 ص 330: أنه لما أخرج عمر اليهود من خيبر ركب في المهاجرين والأنصار وخرج معه جبار بن صخر بن خنساء - وكان خارص أهل المدينة وحاسبهم - ويزيد بن ثابت، فهما قسما خيبر بين أهلها على أصل جماعة السهمان التي كانت عليها. فكانت مما قسم عمر من وادي القرى لعثمان وعبد الرحمن بن عوف وعمر بن أبي سلمة وعامر بن ربيعة وعمرو بن سراقة والأشيم وبني جعفر ولابن عبد الله بن حجش وعبد الله بن الأرقم وغيرهم، لكل إنسان حظر، والحظر القطعة من النخيل أو الإبل أو غيره.

وعن ابن عباس: قسمت خيبر على ألف سهم: خمسمائة وثمانين سهما للذين شهدوا الحديبية، ألف وخمسمائة وأربعين رجلا والذين كانوا مع جعفر بأرض الحبشة أربعون رجلا وكان معهم يومئذ مائتا فرس أو نحوها فأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما.

٣- روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 288 عن ابن أبي الحديد بأسناده: أن عمر استشار الصحابة بمن يبدء في القسم والفريضة؟ فقالوا: ابدء بنفسك. فقال: بل أبدء بآل رسول الله وذوي قرابته. فبدء بالعباس قال ابن الجوزي: قد وقع الاتفاق على أنه لم يفرض لأحد أكثر مما فرض له. روى أنه فرض له خمسة عشر ألفا، وروى أنه فرض له اثني عشر ألفا وهو الأصح. ثم فرض لزوجات رسول الله صلى الله عليه وآله لكل واحدة عشرة آلاف. وفضل عائشة عليهن بألفين... ثم فرض للمهاجرين الذين شهدوا بدرا لكل واحد خمسة آلاف، ولمن شهدها من الأنصار لكل واحد أربعة آلاف. وقد روي أنه فرض لكل واحد ممن شهد بدرا من المهاجرين أو من الأنصار أو غيرهم من القبائل خمسة آلاف. ثم فرض لمن شهد أحدا وما بعدها إلى الحديبية أربعة آلاف، ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد الحديبية ثلاثة آلاف. ثم فرض لكل من شهد المشاهد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ألفين وخمسمائة وألفين وألفا وخمسمائة وألفا واحدا إلى مائتين وهم أهل هجر. ومات عمر على ذلك.

فأما ما اعتمده في النساء فإنه جعل نساء أهل بدر على خمسمائة خمسمائة، ونساء من بعد بدر إلى إلى الحديبية على أربعمائة أربعمائة ونساء من بعد ذلك على ثلاثمائة ثلاثمائة، وجعل نساء أهل القادسية على مائتين، ثم سوى بين النساء بعد ذلك. وكان ذلك في سنة 20 للهجرة. راجع تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 153 وكتاب الخراج لأبي يوسف: ج 1 ص 43.

الصفحة 264 

ولم أجعله دولة بين الأغنياء، وسبيت ذراري بني تغلب (1)، وأمرت الناس أن لا يجمعوا

في شهر رمضان إلا في فريضة، لنادى بعض الناس من أهل العسكر - ممن يقاتل

معي -: (يا أهل الإسلام) وقالوا: (غيرت سنة عمر، نهيتنا أن نصلي في شهر رمضان تطوعا) حتى خفت أن يثوروا في ناحية عسكري. (2)

____________

١- روي في البحار: ج 8 (طبع قديم) ص 287 عن الإمام الصادق عليه السلام: أن بني تغلب من نصارى العرب أنفوا واستنكفوا من قبول الجزية وسألوا عمر أن يعفيهم عن الجزية ويؤدوا الزكاة مضاعفا. فخشي أن يلحقوا بالروم فصالحهم على أن صرف ذلك عن رؤوسهم وضاعف عليهم الصدقة، فرضوا بذلك.

قال المجلسي: فهؤلاء ليسوا بأهل ذمة لمنع الجزية وقد جعل الله الجزية على أهل الذمة ليكونوا أذلاء صاغرين وليس في أحد من الزكاة صغار وذل. فكان عليه أن يقاتلهم ويسبي ذراريهم لو أصروا على الاستنكاف والاستكبار.

٢- روى العلامة الأميني في الغدير: ج 5 ص 31 عن السيوطي وغيره: أن أول من سن التراويح عمر بن الخطاب سنة أربع عشرة وأن أول من جمع الناس على التراويح عمر وأن إقامة النوافل بالجماعات في شهر رمضان من محدثات عمر. و (التراويح) عشرون ركعة يصلونها جماعة في ليالي شهر رمضان.

روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 284 عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: أيها الناس، إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة...). ثم روي أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المسجد. فقال: ما هذا؟ فقيل له: إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع. فقال: بدعة ونعمت البدعة!!

روى الشيخ الطوسي في التهذيب: ج 3 ص 70 ح 227 عن الإمام الصادق عليه السلام قال: لما قدم أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أمر الحسن بن علي عليه السلام أن ينادي في الناس: (لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة). فنادى في الناس الحسن بن علي عليه السلام بما أمره به أمير المؤمنين عليه السلام. فلما سمع الناس مقالة الحسن بن علي عليه السلام صاحوا: واعمراه واعمراه فلما رجع الحسن عليه السلام إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له: ما هذا الصوت؟ فقال: يا أمير المؤمنين، الناس يصيحون: واعمراه، واعمراه فقال أمير المؤمنين عليه السلام:

قل لهم: صلوا!

روي في البحار: ج 96 ص 385 ح 5 أنه لما كان أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماما منا في رمضان. فقال: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه. فلما أمسوا جعلوا يقولون: (ابكوا في رمضان، وارمضاناه) فأتاه الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين، ضج الناس وكرهوا قولك. فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون. ليصلي بهم من شاءوا. ثم قال: (فمن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا).

الصفحة 265 

بؤسي لما لقيت من هذه الأمة بعد نبيها من الفرقة وطاعة أئمة الضلال والدعاة إلى النار.

ولم أعط سهم ذوي القربى منهم إلا لمن أمر الله بإعطائه الذين قال الله: (إن كنتم

آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) (1)، فنحن الذين عنى الله بذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كل هؤلاء منا خاصة (2) لأنه لم يجعل لنا

في سهم الصدقة نصيبا وأكرم الله نبيه صلی الله عليه و اله وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ أيدي الناس. (3)

____________

١- سورة الأنفال: الآية 41.

٢- في الكافي والتهذيب: نحن والله الذين عنى الله بذي القربى الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه فقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين)، منا خاصة.

٣- من قوله (ورددت من قضى من كان قبلي بجور...) إلى آخر الحديث في روضة الكافي زيادة مهمة هكذا:

(... ورددت قضايا من الجور قضى بها، ونزعت نساء تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن، واستقبلت بهن الحكم في الفروج والأحكام وسبيت ذراري بني تغلب ورددت ما قسم من أرض خيبر ومحوت دواوين العطايا وأعطيت كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعطي بالسوية ولم أجعلها دولة بين الأغنياء وألقيت المساحة وسويت بين المناكح وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل وفرضه، ورددت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ما كان عليه، وسددت ما فتح فيه من الأبواب وفتحت ما سد منه وحرمت المسح على الخفين وحددت على النبيذ وأمرت بإحلال المتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وأخرجت من أدخل مع رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجده ممن كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخرجه وأدخلت من أخرج بعد رسول الله ممن كان رسول الله أدخله، وحملت الناس على حكم القرآن وعلى الطلاق على السنة، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم، ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، إذا لتفرقوا عني.

والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن جماعتهم في النوافل بدعة فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: (يا أهل الإسلام، غيرت سنة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا) ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري.

ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار. وأعطيت من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله عز وجل: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)، فنحن والله عني بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله فقال تعالى: (فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل - فينا خاصة - كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم) و (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله - في ظلم آل محمد - إن الله شديد العقاب) لمن ظلمهم رحمة منه لنا وغنى أغنانا الله به ووصى به نبيه صلى الله عليه وآله، ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا، أكرم الله رسوله وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس. فكذبوا الله وكذبوا رسوله وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا ومنعونا فرضا فرضه الله لنا. ما لقي أهل بيت نبي من أمته ما لقينا بعد نبينا، والله المستعان على من ظلمنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).

ولا بأس بالإشارة إلى ذكر تفصيل بعض ما أشار عليه السلام إليه من البدع:

قوله عليه السلام: (وألقيت المساحة)، روي في البحار: ج 8 (طبع قديم) ص 284 أن عمر وضع الخراج على أرض السواد وأمر بمساحة أرضها، ثم ضرب على كل جريب نخل عشرة دراهم وعلى الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب الشجر والرطبة ستة دراهم وعلى الحنطة أربعة دراهم وعلى الشعير درهمين.

وكان الفرض في الأراضي المفتوحة عنوة أن يخرج خمسها لأرباب الخمس وأربعة الأخماس الباقية تكون للمسلمين قاطبة.

قوله عليه السلام: (أنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عز وجل)، قال ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 393:

إن عمر صرف الأخماس عن أهلها فجعلها في الكراع والسلاح ومنع الخمس منهم حين كثره واستعظم ما رآى من كثرته أن يدفعه إلى أهله!

وقوله عليه السلام: (سويت بين المناكح) إشارة إلى ما سيجئ في الحديث 23 من أن عمر سن أن تنكح العرب في الأعاجم ولا ينكحوهم.

وقوله عليه السلام (حرمت المسح على الخفين)، روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 287 عن أبي جعفر عليه السلام قال:

جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وفيهم علي عليه السلام وقال: ما تقولون في المسح على الخفين؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يمسح على الخفين. فقال علي عليه السلام: قبل المائدة أو بعدها؟

(أي قبل نزول سورة المائدة أو بعدها؟) فقال: لا أدري. فقال علي عليه السلام: سبق الكتاب الخفين، إنما أنزلت مائدة قبل أن يقبض بشهرين أو ثلاثة.

وقوله عليه السلام (وحددت على النبيذ)، روى العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 257 عن عدة طرق: أن عمر كان يشرب النبيذ الشديد وكان يقول: إنا نشرب هذا الشراب الشديد لنقطع به لحوم الإبل في بطوننا أن تؤذينا فمن رابه من شرابه شئ فليمزجه بالماء!

وقوله عليه السلام (وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات)، روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 287 عن ابن حزم في كتاب المحلى قال: جمع عمر بن الخطاب الناس فاستشارهم في التكبير على الجنائز.

فقالوا: أكبر النبي صلى الله عليه وآله سبعا وخمسا وأربعا. فجمعهم عمر على أربع تكبيرات. وأورده في الغدير: ج 6 ص 244.

وقوله عليه السلام: (وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)، إشارة إلى إسقاط عمر للبسملة عن أول السور، فقد روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 381: أن عمر حذف بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن ومن الصلاة وقال: ليس في القرآن إلا مرة واحدة!

وقوله عليه السلام (الطلاق على السنة)، روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 287 أن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب:

إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم. وأورده العلامة الأميني في الغدير: ج 6 ص 178.

وقوله عليه السلام (رددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها)، إشارة إلى البدع التي أحدث فيها كالمسح على الخفين ومسح الرأس والأذنين وغسل الرجلين، وكترك الصلاة لمن لم يجد الماء للغسل، ومثل وضع اليمين على الشمال في الصلاة وإسقاط البسملة وقول (آمين) بعد الحمد وكتأخير صلاة الصبح حتى تغيب النجوم وتأخير صلاة المغرب حتى تطلع النجوم وغير ذلك.

وقوله عليه السلام (رددت أهل نجران إلى مواضعهم)، روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 393 والطبري في وقائع سنة 20: أن عمر أجلى أهل نجران وخيبر عن ديارهم وقال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وآله عليه أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمن وكتب لهم كتابا بذمتهم وهو معهم إلى يومنا هذا.

وقوله عليه السلام (رددت سائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله)، روى ابن شهرآشوب في المثالب (مخطوط) ص 393 عن كتاب آداب الوزراء: أن عمر كان يأخذ من جميع أهل الذمة فيما اتجروا فيه كل سنة العشر ومرتين إن اتجروا مرتين ومن لم يتجر أربعة دنانير أو أربعين درهما. والفقهاء أجمعوا أن النبي صلى الله عليه وآله أخذ من كل حالم دينارا ولم ينقل أحد من أهل الأثر خبرا أن النبي صلى الله عليه وآله جعلهم في الجزية طبقات. وقد جعلهم عمر طبقات ثلاث فأخذ من الأغنياء خمسة دنانير إلى مائة درهم ومن الأوساط خمسين درهما ونحو هذا ومن الفقراء دينارا واحدا.

الصفحة 266 

الصفحة 267 

الصفحة 268 

الصفحة 269 

19

أحاديث عن فتنة أبي بكر وعمر

أبان عن سليم قال: شهدت أبا ذر مرض مرضا على عهد عمر في إمارته، فدخل

عليه عمر يعوده وعنده أمير المؤمنين عليه السلام وسلمان والمقداد، وقد أوصى أبو ذر إلى

علي عليه السلام وكتب وأشهد.

فلما خرج عمر قال رجل من أهل أبي ذر من بني عمه بني غفار: ما منعك أن توصي

إلى أمير المؤمنين عمر؟

قال: قد أوصيت إلى أمير المؤمنين حقا حقا.

أمرنا رسول الله صلی الله عليه و اله ونحن أربعون رجلا من العرب وأربعون رجلا من العجم،

فسلمنا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين، فينا هذا القائم الذي سميته (أمير المؤمنين).

ولا أحد من العرب ولا من الموالي العجم راجع رسول الله صلی الله عليه و اله إلا هذا وصويحبه الذي استخلفه، فإنهما قالا: (أحق من الله ورسوله)؟ فغضب رسول الله صلی الله عليه و اله وقال: اللهم

نعم، حق من الله ورسوله، أمرني الله بذلك فأمرتكم به.

قال سليم: فقلت: يا أبا الحسن وأنت يا سلمان وأنت يا مقداد، أتقولون كما قال

أبو ذر؟ قالوا: نعم، صدق. قلت: أربعة عدول، ولو لم يحدثني غير واحد ما شككت

في صدقه ولكن أربعتكم أشد لنفسي وبصيرتي.

قلت: أصلحك الله، أتسمون الثمانين من العرب والموالي؟ فسماهم سلمان رجلا

رجلا. فقال علي عليه السلام وأبو ذر والمقداد: (صدق سلمان) رحمة الله ومغفرته عليه

وعليهم.

الصفحة 270 

فكان ممن سمى(1): أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ومعاذ وسالم والخمسة من أصحاب الشورى، وعمار بن ياسر وسعد بن عبادة والباقي من أصحاب العقبة (2) وأبي بن كعب وأبو ذر والمقداد، وبقية جلهم وأعظمهم من أهل بدر وأعظمهم من الأنصار، فيهم

أبو الهيثم بن التيهان وخالد بن زيد أبو أيوب وأسيد بن حضير وبشير بن سعيد.

قال سليم: فأظن أني قد لقيت عامتهم فسألتهم وخلوت بهم رجلا رجلا، فمنهم

من سكت عني فلم يجبني بشئ وكتمني، ومنهم من حدثني ثم قال: أصابتنا فتنة

أخذت بقلوبنا وأسماعنا وأبصارنا وذلك لما ادعى أبو بكر أنه سمع رسول الله صلی الله عليه و اله

يقول بعد ذلك: (إنا أهل بيت أكرمنا الله واختار لنا الآخرة على الدنيا وإن الله أبى

أن يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة). فاحتج بذلك أبو بكر على علي عليه السلام حين

جيئ به للبيعة، وصدقه وشهد له أربعة كانوا عندنا خيارا غير متهمين: أبو عبيدة وسالم وعمر ومعاذ، وظننا أنهم قد صدقوا.

الصحيفة الملعونة والمعاهدة في الكعبة

فلما بايع علي عليه السلام أخبرنا (3) أن رسول الله صلی الله عليه و اله قال ما قاله، وأخبر أن هؤلاء الخمسة كتبوا بينهم كتابا تعاهدوا فيه وتعاقدوا في ظل الكعبة: (إن مات محمد أو قتل أن يتظاهروا على علي عليه السلام فيزووا عنه هذا الأمر)، واستشهد أربعة: سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير، وشهدوا بعد ما وجبت في أعناقنا لأبي بكر بيعته الملعونة الضالة. فعلمنا أن عليا عليه السلام

لم يكن ليروي عن رسول الله صلی الله عليه و اله باطلا، وشهد له الأخيار من أصحاب محمد صلی الله عليه و اله.

____________

١- أي من سماهم أبو ذر من الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله بالتسليم على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين.

٢- راجع الحديث 20 من هذا الكتاب.

٣- قائل هذا الكلام هو البعض الذي لقيهم سليم لا أبو ذر، فلا يشتبه.

الصفحة 271 

ندامة الصحابة لتقصيرهم في حق أمير المؤمنين عليه السلام

فقال جل من قال هذه المقالة: إنا تدبرنا الأمر بعد ذلك فذكرنا قول النبي صلی الله عليه و اله - ونحن نسمع -: (إن الله يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم وإن الجنة تشتاق إليهم). فقلنا: من هم

يا رسول الله؟ فقال صلی الله عليه و اله: (أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي علي بن أبي طالب، وسلمان الفارسي وأبو ذر والمقداد بن الأسود). وإنا نستغفر

الله ونتوب إليه مما ركبناه ومما أتيناه.

وقد سمعنا رسول الله صلی الله عليه و اله يقول قولا لم نعلم تأويله ومعناه إلا خيرا. قال صلی الله عليه و اله: ليردن علي الحوض أقوام ممن صحبني ومن أهل المكانة مني والمنزلة عندي، حتى إذا

وقفوا على مراتبهم ورأوني اختلسوا دوني وأخذ بهم ذات الشمال. فأقول: يا رب، أصحابي أصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أدبارهم القهقرى منذ فارقتهم.

ولعمرنا، لو أنا - حين قبض رسول الله صلی الله عليه و اله - سلمنا الأمر إلى علي عليه السلام وأطعناه

وتابعناه وبايعناه لرشدنا واهتدينا ووفقنا، ولكن الله قضى الاختلاف والفرقة والبلاء،

فلا بد من أن يكون ما علم الله وقضى وقدر.

20

أصحاب الصحيفة وأصحاب العقبة

سليم بن قيس قال: شهدت أبا ذر بالربذة حين سيره عثمان (1) وأوصى إلى علي عليه السلام

في أهله وماله، فقال له قائل: لو كنت أوصيت إلى أمير المؤمنين عثمان.

فقال: قد أوصيت إلى أمير المؤمنين حقا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، سلمنا عليه بإمرة المؤمنين على عهد رسول الله صلی الله عليه و اله بأمر الله. قال لنا: (سلموا على أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي بإمرة المؤمنين، فإنه زر الأرض

الذي تسكن إليه ولو فقدتموه أنكرتم الأرض وأهلها).

فرأيت عجل هذه الأمة وسامريها راجعا رسول الله صلی الله عليه و اله ثم قال: حق من الله

ورسوله؟ فغضب رسول الله صلی الله عليه و اله ثم قال: (حق من الله ورسوله، أمرني الله بذلك).

فلما سلمنا عليه أقبلا على أصحابهما معاذ وسالم وأبي عبيدة - حين خرجا من بيت

علي عليه السلام من بعد ما سلمنا عليه - فقالا لهم: ما بال هذا الرجل، ما زال يرفع خسيسة

____________

١- روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 305 ما ملخصه: أن عثمان قال لأبي ذر: قد كثر أذاك لي وتولعك بأصحابي، الحق بالشام. فأخرجه إليها. فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها فكتب معاوية إلى عثمان فيه. فكتب عثمان إلى معاوية: (أما بعد فاحمل جندبا على أغلظ مركب وأوعره). فوجه به مع من سار به الليل والنهار وحمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد.

فلما قدم أبو ذر المدينة بعث إليه عثمان: أن الحق بأي أرض شئت. قال: بمكة؟ قال: لا. قال: فبيت المقدس؟ قال: لا. قال: فبأحد المصرين؟ قال: لا، ولكني مسيرك إلى الربذة. فسيره إليها، فلم يزل بها حتى مات.

الصفحة 272 

ابن عمه وقال أحدهما: إنه ليحسن أمر ابن عمه وقال الجميع: ما لنا عنده خير ما بقي علي!!

قال: فقلت: يا أبا ذر، هذا التسليم بعد حجة الوداع أو قبلها؟ فقال: أما التسليمة

الأولى فقبل حجة الوداع، وأما التسليمة الأخرى فبعد حجة الوداع.

قلت: فمعاقدة هؤلاء الخمسة متى كانت؟ قال: في حجة الوداع.

قلت: أخبرني - أصلحك الله عن الاثني عشر أصحاب العقبة المتلثمين الذين أرادوا

أن ينفروا برسول الله صلی الله عليه و اله الناقة، ومتى كان ذلك؟ قال: بغدير خم مقبل رسول الله صلی الله عليه و اله من حجة الوداع.

قلت: أصلحك الله، تعرفهم؟ قال: أي والله، كلهم.

قلت: من أين تعرفهم وقد أسرهم رسول الله صلی الله عليه و اله إلى حذيفة؟ قال: عمار بن ياسر

كان قائدا وحذيفة كان سائقا، فأمر حذيفة بالكتمان ولم يأمر بذلك عمارا. قلت:

تسميهم لي؟ قال: خمسة أصحاب الصحيفة، وخمسة أصحاب الشورى وعمرو بن العاص ومعاوية. (1)

عمار وحذيفة في فتنة السقيفة

قلت: أصلحك الله، كيف تردد عمار وحذيفة في أمرهم بعد رسول الله صلی الله عليه و اله حين رأياهم؟

قال: إنهم أظهروا التوبة والندامة بعد ذلك، وادعى عجلهم منزلة وشهد لهم

سامريهم والثلاثة معهم بأنهم سمعوا رسول الله صلی الله عليه و اله يقول ذلك، فقالوا: لعل هذا أمر حدث بعد الأول، فشكا فيمن شك منهم إلا أنهما تابا وعرفا وسلما.

____________

١- فهم: أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص. راجع الحديث 4 من هذا الكتاب.

الصفحة 273 

قال سليم بن قيس: فلقيت عمارا في خلافة عثمان بعد ما مات أبو ذر، فأخبرته بما

قال أبو ذر. فقال: صدق أخي أبو ذر، إنه لأبر وأصدق من أن يحدث عن عمار بما

لا يسمع منه.

فقلت: أصلحك الله، بما تصدق أبا ذر؟ قال: أشهد لقد سمعت رسول الله صلی الله عليه و اله يقول:

(ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ولا أبر). قلت:

يا نبي الله، ولا أهل بيتك؟ قال: إنما أعني غيرهم من الناس.

ثم لقيت حذيفة بالمدائن - رحلت إليه من الكوفة - فذكرت له ما قال أبو ذر. فقال:

سبحان الله، أبو ذر أصدق وأبر من أن يحدث عن رسول الله صلی الله عليه و اله بغير ما قال.

الصفحة 274 

21

شدة حب رسول الله صلی الله عليه و اله للإمامين الحسنين عليها السلام

استسقيا رسول الله صلی الله عليه و اله

أبان عن سليم قال: حدثني علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلمان وأبو ذر

والمقداد، وحدث أبو الحجاف داود بن أبي عوف العوفي (1) يروي عن أبي سعيد الخدري قال:

دخل رسول الله صلی الله عليه و اله على ابنته فاطمة عليها السلام وهي توقد تحت قدر لها تطبخ طعاما

لأهلها، وعلي عليه السلام في ناحية البيت نائم والحسن والحسين عليهما السلام نائمان إلى جنبه.

فقعد رسول الله صلی الله عليه و اله مع ابنته يحدثها وهي توقد تحت قدرها ليس لها خادم، إذ

استيقظ الحسن عليه السلام فأقبل على رسول الله صلی الله عليه و اله فقال: (يا أبت، اسقني). فأخذه

رسول الله صلی الله عليه و اله ثم قام إلى لقحة (2) كانت، فاحتلبها بيده، ثم جاء بالعلبة (3) - وعلى اللبن رغوة - ليناوله الحسن عليه السلام. فاستيقظ الحسين عليه السلام فقال: (يا أبت اسقني).

فقال النبي صلی الله عليه و اله: يا بني، أخوك، وهو أكبر منك وقد استسقاني قبلك. فقال

الحسين عليه السلام: (اسقني قبله) فجعل رسول الله صلی الله عليه و اله يرقبه ويلين له ويطلب إليه أن يدع أخاه يشرب قبله، والحسين عليه السلام يأبى.

____________

١- أبو الحجاف البرجمي الكوفي من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام، ثقة. وعلى هذا فقائل (حدث أبو الحجاف) هو أبان بن أبي عياش، لا سليم.

٢- اللقحة: الناقة الحلوي الغزيرة اللبن.

٣- العلبة: إناء ضخم من جلد أو خشب.

الصفحة 275 

فقالت فاطمة عليها السلام: يا أبت، كأن الحسن أحب إليك من الحسين؟ قال صلی الله عليه و اله: ما هو بأحبهما إلي وإنهما عندي لسواء، غير أن الحسن استسقاني أول مرة، وإني وإياك وإياهما وهذا الراقد في الجنة لفي منزل واحد ودرجة واحدة.

قال(1): وعلي عليه السلام نائم لا يدري بشئ من ذلك.

على منكب رسول الله صلی الله عليه و اله

قال: ومر بهما رسول الله صلی الله عليه و اله ذات يوم وهما يلعبان، فأخذهما رسول الله صلی الله عليه و اله فاحتملهما ووضع كل واحد منهما على عاتقه. فاستقبله رجل فقال: لنعم الراحلة أنت

فقال رسول الله صلی الله عليه و اله: ونعم الراكبان هما إن هذين الغلامين ريحانتاي من الدنيا.

اصطرعا عند رسول الله صلی الله عليه و اله

قال: فلما أتى بهما منزل فاطمة عليها السلام قال: (اصطرعا). فأقبلا يصطرعان، فجعل

رسول الله صلی الله عليه و اله يقول: (هي (2) يا حسن) فقالت فاطمة عليها السلام: يا رسول الله، أتقول (هي

يا حسن) وهو أكبر منه؟ فقال رسول الله صلی الله عليه و اله: هذا جبرئيل يقول: (هي يا حسين).

فصرع الحسين الحسن!

الرسول صلی الله عليه و اله يخاطبهما بالإمامة

قال: ونظر رسول الله صلی الله عليه و اله إليهما يوما وقد أقبلا، فقال: هذان والله سيدا شباب أهل

الجنة وأبوهما خير منهما. إن خير الناس عندي وأحبهم إلي وأكرمهم علي أبوكما ثم أمكما، وليس عند الله أحد أفضل مني وأخي ووزيري وخليفتي في أمتي وولي كل مؤمن بعدي علي بن أبي طالب. ألا إن أخي وخليلي ووزيري وصفيي وخليفتي من بعدي وولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي علي بن أبي طالب، فإذا هلك فابني الحسن من

____________

١- أي قال الراوي.

٢- (هي) كلمة استزادة، تقولها للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل.

الصفحة 276 

بعده، فإذا هلك فابني الحسين من بعده ثم الأئمة التسعة من عقب الحسين.

هم الهداة المهتدون، هم مع الحق والحق معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم إلى يوم

القيامة. هم زر الأرض الذين تسكن إليهم الأرض، وهم حبل الله المتين، وهم عروة الله الوثقى التي لا انفصام لها، وهم حجج الله في أرضه وشهداءه على خلقه وخزنة علمه ومعادن حكمته.

وهم بمنزلة سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تركها غرق، وهم بمنزلة باب حطة في

بني إسرائيل، من دخله كان مؤمنا ومن خرج منه كان كافرا. فرض الله في الكتاب طاعتهم وأمر فيه بولايتهم، من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله.

الحسين عليه السلام يعلو ظهر رسول الله صلی الله عليه و اله في السجدة

قال: وكان الحسين عليه السلام يجيئ إلى رسول الله صلی الله عليه و اله وهو ساجد، فيتخطى الصفوف

حتى يأتي النبي صلی الله عليه و اله فيركب ظهره، فيقوم رسول الله صلی الله عليه و اله وقد وضع يده على ظهر الحسين عليه السلام ويده الأخرى على ركبته حتى يفرغ من صلاته.

الحسن عليه السلام على عاتق رسول الله صلی الله عليه و اله في المنبر

وكان الحسن عليه السلام يأتيه وهو على المنبر يخطب، فيصعد إليه فيركب على عاتق

النبي صلی الله عليه و اله ويدلي رجليه على صدر النبي صلی الله عليه و اله حتى يرى بريق خلخاله، ورسول الله صلی الله عليه و اله يخطب، فيمسكه كذلك حتى يفرغ من خطبته.

الصفحة 277 

22

1

خطبة عمرو بن العاص في الشام ضد أمير المؤمنين عليه السلام

أبان عن سليم قال: بلغ أمير المؤمنين عليه السلام أن عمرو بن العاص خطب الناس بالشام

فقال:

بعثني رسول الله صلی الله عليه و اله على جيشه فيه أبو بكر وعمر، فظننت أنه إنما بعثني لكرامتي

عليه. فلما قدمت قلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ فقال: (عائشة). قلت:

ومن الرجال؟ قال: (أبوها).

أيها الناس، وهذا علي يطعن على أبي بكر وعمر وعثمان، وقد سمعت

رسول الله صلی الله عليه و اله يقول: (إن الله ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه) وقال في عثمان: (إن الملائكة لتستحي من عثمان) وقد سمعت عليا وإلا فصمتا - يعني أذنيه - يروي على عهد عمر: إن نبي الله نظر إلى أبي بكر وعمر مقبلين، فقال: (يا علي، هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ما خلا النبيين منهم والمرسلين، ولا تحدثهما بذلك فيهلكا)!!

الصفحة 278 

2

خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في البصرة بتكذيب ابن العاص

فقام علي عليه السلام فقال: العجب لطغاة أهل الشام حيث يقبلون قول عمرو ويصدقونه

وقد بلغ من حديثه وكذبه وقلة ورعه أن يكذب على رسول الله صلی الله عليه و اله، وقد لعنه سبعين لعنة ولعن صاحبه الذي يدعو إليه في غير موطن، وذلك أنه هجا رسول الله صلی الله عليه و اله بقصيدة سبعين بيتا، فقال رسول الله صلی الله عليه و اله: (اللهم إني لا أقول الشعر ولا أحله، فالعنه أنت وملائكتك بكل بيت لعنة تترى على عقبه إلى يوم القيامة). (1)

ثم لما مات إبراهيم بن رسول الله صلی الله عليه و اله قام فقال: إن محمدا قد صار أبتر لا عقب له، وإني لأشنأ الناس له وأقولهم فيه سوء فأنزل الله فيه: (إن شانئك هو الأبتر) (2)، يعني أبتر

من الإيمان ومن كل خير.

____________

١- روى العلامة الأميني في الغدير: ج 10 ص 139 عن تاريخ الطبري: أنه قد رآى رسول الله صلى الله عليه وآله أبا سفيان مقبلا على حمار ومعاوية يقود به ويزيد ابنه يسوق به. قال: لعن الله القائد والراكب والسائق.

وروى في ج 2 ص 135: أن الإمام الحسن عليه السلام قال لعمرو بن العاص: إنك هجوت رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين بيتا من الشعر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي. اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة.

وروي في البحار: ج 20 ص 76 ح 14: أن رسول الله صلى الله عليه وآله مر بعمرو بن العاص والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهما في حائط يشربان ويغنيان بهذا البيت في حمزة بن عبد المطلب حين قتل: (كم من حواري تلوح عظامه...)، فقال صلى الله عليه وآله: (اللهم العنهما واركسهما في الفتنة ركسا ودعهما إلى النار دعا).

٢- سورة الكوثر: الآية 3.

الصفحة 279 

ما لقيت من هذه الأمة من كذابيها ومنافقيها. لكأني بالقراء الضعفة المجتهدين

قد رووا حديثه وصدقوه فيه واحتجوا علينا أهل البيت بكذبه. إنا نقول: خير هذه الأمة

أبو بكر وعمر؟ (1) ولو شئت لسميت الثالث. والله ما أراد بقوله في عائشة وأبيها إلا رضا معاوية ولقد استرضاه بسخط الله.

وأما حديثه الذي يزعم أنه سمعه مني، فلا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ليعلم أنه

كذب علي يقينا وأن الله لم يسمعه مني سرا ولا جهرا.

اللهم العن عمرا والعن معاوية بصدهما عن سبيلك وكذبهما على كتابك ونبيك واستخفافهما بنبيك وكذبهما عليه وعلي.

3

كيف جمع معاوية أهل الشام على الأخذ بثار عثمان!!

قال سليم: ثم دعا معاوية قراء أهل الشام وقضاتهم فأعطاهم الأموال وبثهم في

نواحي الشام ومدائنها، يروون الروايات الكاذبة ويضعون لهم الأصول الباطلة، ويخبرونهم بأن عليا عليه السلام قتل عثمان ويتبرأ من أبي بكر وعمر، وإن معاوية يطلب بدم عثمان ومعه أبان بن عثمان وولد عثمان، حتى استمالوا أهل الشام واجتمعت كلمتهم.

ولم يزل معاوية على ذلك عشرين سنة، ذلك عمله في جميع أعماله حتى قدم عليه طغام الشام وأعوان الباطل المنزلون له بالطعام والشراب، يعطيهم الأموال ويقطعهم القطائع

____________

١- أي هل يمكن أن يصدر عن مثلنا هذا الكلام؟ فيريد عليه السلام أن عمرو بن العاص يكذب علينا إذا نسب إلينا القول بأن أبا بكر وعمر خير هذه الأمة.

الصفحة 280 

ويطعمهم الطعام والشراب، حتى نشأ عليه الصغير وهرم عليه الكبير وهاجر عليه

الأعرابي، وترك أهل الشام لعن الشيطان وقالوا: لعن علي وقاتل عثمان. فاستقر على

ذلك جهلة الأمة وأتباع أئمة الضلالة والدعاة إلى النار. فحسبنا الله ونعم الوكيل، ولو

شاء الله لجمعهم على الهدى ولكن الله يفعل ما يشاء.

الصفحة 281 

23

الرسالة السرية من معاوية إلى زياد بن أبيه

أبان عن سليم قال: كان لزياد بن سمية كاتب يتشيع وكان لي صديقا، فأقرأني كتابا

كتبه معاوية إلى زياد جواب كتابه إليه:

سيرة معاوية في قبايل العرب

أما بعد، فإنك كتبت إلي تسألني عن العرب، من أكرم منهم ومن أهين ومن أقرب

ومن أبعد، ومن آمن منهم ومن أحذر؟

وأنا - يا أخي - أعلم الناس بالعرب. انظر إلى هذا الحي من اليمن، فأكرمهم في

العلانية وأهنهم في الخلاء فإني كذلك أصنع بهم، أقرب مجالسهم وأريهم أنهم آثر عندي من غيرهم ويكون عطائي وفضلي على غيرهم سرا منهم لكثرة من يقاتلني

منهم مع هذا الرجل.

وانظر (ربيعة بن نزار)، فأكرم أشرافهم وأهن عامتهم، فإن عامتهم تبع لأشرافهم وساداتهم.

وانظر إلى (مضر) فاضرب بعضها ببعض فإن فيهم غلظة وكبرا وأبهة ونخوة

شديدة، وإنك إذا فعلت ذلك وضربت بعضهم ببعض كفاك بعضهم بعضا، ولا ترض بالقول منهم دون الفعل ولا بالظن دون اليقين.

الصفحة 282 

سيرة معاوية في إهانة العجم والموالي

وانظر إلى الموالي ومن أسلم من الأعاجم، فخذهم بسنة عمر بن الخطاب فإن في ذلك خزيهم وذلهم، أن تنكح العرب فيهم ولا ينكحوهم وأن ترثهم العرب ولا يرثوهم (1)

وأن تقصر بهم في عطائهم وأرزاقهم، وأن يقدموا في المغازي يصلحون الطريق ويقطعون الشجر، ولا يؤم أحد منهم العرب في صلاة ولا يتقدم أحد منهم في الصف الأول إذا حضرت العرب إلا أن يتموا الصف.

ولا تول أحدا منهم ثغرا من ثغور المسلمين ولا مصرا من أمصارهم، ولا يلي أحد

منهم قضاء المسلمين ولا أحكامهم فإن هذه سنة عمر فيهم وسيرته، جزاه الله عن أمة محمد وعن بني أمية خاصة أفضل الجزاء!!

كيف طمع معاوية في الخلافة وكيف نالها؟

فلعمري لولا ما صنع هو وصاحبه وقوتهما وصلابتهما في دين الله لكنا وجميع

هذه الأمة لبني هاشم الموالي، ولتوارثوا الخلافة واحدا بعد واحد كما يتوارث أهل كسرى وقيصر، ولكن الله أخرجها بأيديهما من بني هاشم وصيرها إلى بني تيم بن مرة، ثم خرجت إلى بني عدي بن كعب، وليس في قريش حيان أقل وأذل منهما ولا أنذل (2)، فأطمعانا فيها وكنا أحق منهما ومن عقبهما، لأن فينا الثروة والعز ونحن أقرب إلى

رسول الله في الرحم منهما. ثم نالها قبلنا صاحبنا عثمان بشورى ورضا من العامة بعد شورى ثلاثة أيام بين الستة، ونالها من نالها قبله بغير شورى. فلما قتل صاحبنا عثمان مظلوما نلناها به لأن من قتل مظلوما فقد جعل الله لوليه سلطانا!

____________

١- روي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 287 أن عمر أطلق تزويج قريش في سائر العرب والعجم وتزويج العرب في سائر العجم، ومنع العرب من التزويج في قريش ومنع العجم من التزويج في العرب. فأنزل العرب مع قريش والعجم مع العرب منزلة اليهود والنصارى.

وروي في البحار: ج 8 طبع قديم ص 288 وفي الغدير: ج 6 ص 187 عن موطأ مالك عن سعيد بن المسيب أنه قال: أبى عمر بن الخطاب أن يورث أحدا من الأعاجم إلا أحدا ولد في العرب.

٢- الأنذل: الأخس والأحقر والأسقط في الحسب.

الصفحة 283 

أمر معاوية بإهانة الأعاجم

ولعمري يا أخي، لو أن عمر سن دية المولى نصف دية العربي لكان أقرب إلى

التقوى، ولو وجدت السبيل إلى ذلك ورجوت أن تقبله العامة لفعلت ولكني قريب

عهد بحرب فأتخوف فرقة الناس واختلافهم علي. وبحسبك ما سنه عمر فيهم فهو خزي لهم وذل. فإذا جاءك كتابي هذا فأذل العجم وأهنهم وأقصهم ولا تستعن بأحد منهم

ولا تقض لهم حاجة.

معاوية يستلحق زيادا بأبي سفيان

فوالله إنك لابن أبي سفيان خرجت من صلبه، وما تناسب عبيدا نسبا دون آدم!(1)

____________

١- قال العلامة الأميني في الغدير: ج 10 ص 216 ما ملخصه:

كان من ضروريات الإسلام إلى سنة 44: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، ولكن سياسة معاوية المتهجمة تجاه الهتافات النبوية أصمته عن سماعها وجعلت للعاهر كل النصيب فوهب زيادا كله لأبي سفيان العاهر.

وقد كان زياد ولد على فراش عبيد مولى ثقيف وربي في شر حجر، فكان يقال له قبل الاستلحاق: (زياد بن عبيد الثقفي) وبعده: (زياد بن أبي سفيان) ومعاوية نفسه كتب إليه في أيام الإمام الحسن عليه السلام: (من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عبيد، أما بعد فإنك عبد قد كفرت النعمة... إنك لا أم لك، بل لا أب لك)!

ولما انقضت الدولة الأموية صار يقال له: (زياد بن أبيه) و (زياد بن أمه) و (زياد بن سمية). وأمه سمية كانت لدهقان من دهاقين الفرس بزندرود بكسكر، فمرض الدهقان فدعا الحارث بن الكلدة الطبيب الثقفي فعالجه فبرأ، فوهبه سمية وزوجها الحارث غلاما له روميا يقال له (عبيد)، فولدت زيادا على فراشه... وكانت أمه من البغايا المشهورة بالطائف ذات راية.

أمر عمر زيادا أن يخطب يوما فأحسن في خطبته وجود، وعند أصل المنبر أبو سفيان بن حرب وعلي بن أبي طالب عليه السلام. فقال أبو سفيان لعلي عليه السلام: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال: نعم. قال: أما إنه ابن عمك. قال: وكيف ذلك؟ قال: أنا قذفته في رحم أمه سمية...!

ولما بويع معاوية قدم زياد على معاوية فصالحه... ورآى معاوية أن يستميل زيادا واستصفى مودته باستلحاقه. فاتفقا على ذلك وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي، فقال له معاوية: بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أنا أشهد أن أبا سفيان حضر عندي وطلب مني بغيا، فقلت له: ليس عندي إلا سمية. فقال: ائتني بها على قذرها ووضرها. فأتيته بها فخلا معها ثم خرجت من عنده وإن اسكتيها ليقطران منيا. فقال له زياد: مهلا يا أبا مريم، إنما بعثت شاهدا ولم تبعث شاتما فاستلحقه معاوية.

الصفحة 284 

وقد كنت حدثتني - وأنت يا أخي عندي صدوق -: أنك قرأت كتاب عمر إلى

أبي موسى الأشعري بالبصرة وكنت يومئذ كاتبه وهو عامل بالبصرة وأنت أنذل الناس عنده، وأنت يومئذ ذليل النفس تحسب أنك مولى لثقيف، ولو كنت تعلم يومئذ يقينا - كيقينك اليوم - أنك ابن أبي سفيان لأعظمت نفسك وأنفت أن تكون كاتبا لدعي الأشعريين. وأنت تعلم ونحن يقينا أن أبا سفيان خرج معه جده أمية بن عبد شمس في بعض تجارته إلى الشام فمر بصفورية فاشترى قينا وابنه عبد الله(1) وأن أبا سفيان كان

يحذو حذو أمية عبد شمس.

سيرة عمر في إهانة الأعاجم وسبب ذلك

وحدثني ابن أبي معيط أنك أخبرته: إنك قرأت كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري وبعث إليه بحبل طوله خمسة أشبار، وقال له: (أعرض من قبلك من أهل البصرة. فمن وجدته من الموالي ومن أسلم من الأعاجم قد بلغ خمسة أشبار، فقدمه فاضرب

عنقه)(2) فشاورك أبو موسى في ذلك، فنهيته وأمرته أن يراجع عمر. فراجعه وذهبت

أنت بالكتاب إلى عمر، وإنما صنعت ما صنعت تعصبا للموالي وأنت يومئذ تحسب

أنك منهم وأنك ابن عبيد. فلم تزل بعمر حتى رددته عن رأيه وخوفته فرقة الناس

فرجع. وقلت له: (ما يؤمنك - وقد عاديت أهل هذا البيت - أن يثوروا إلى علي فينهض بهم فيزيل ملكك)، فكف عن ذلك.

____________

١- جاء في البحار: ج 19 ص 260 و ج 8 طبع قديم ص 302: أن عقيل قال لوليد بن العقبة بن أبي معيط:

يا بن أبي معيط، كأنك لا تدري من أنت وأنت علج من أهل صفورية، كان ذكر أن أباه كان يهودي منها.

و (صفورية) قرية في فلسطين شمال غربي الناصرة.

٢- راجع الحديث 14 من هذا الكتاب.

الصفحة 285 

وما أعلم يا أخي إنه ولد مولود من آل أبي سفيان أعظم شؤما عليهم منك حين

رددت عمر عن رأيه ونهيته عنه!

وخبرني أن الذي صرفت به عن رأيه في قتلهم أنك قلت: إنك سمعت علي بن

أبي طالب يقول: (لتضربنكم الأعاجم على هذا الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا)، وقال:

(ليملأن الله أيديكم من الأعاجم ثم ليصيرن أشداء لا يفرون، فليضربن أعناقكم وليغلبنكم على فيئكم). فقال لك عمر: (قد سمعت ذلك عن رسول الله، فذاك الذي حملني على

الكتاب إلى صاحبك في قتلهم، وقد كنت عزمت على أن أكتب إلى عمالي في سائر الأمصار بذلك). فقلت لعمر: (لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنك لن تأمنهم أن يدعوهم

علي إلى نصرته وهم كثير وقد علمت شجاعة علي وأهل بيته وعداوته لك

ولصاحبك)، فرددته عن ذلك. فأخبرتني أنك لم ترده عن ذلك إلا عصبية وأنك

لم ترجع عن رواية جبنا.

وحدثتني أنك ذكرت ذلك لعلي بن أبي طالب في إمارة عثمان فأخبرك (أن

أصحاب الرايات السود التي تقبل من خراسان هم الأعاجم، وأنهم الذين يغلبون

بني أمية على ملكهم ويقتلونهم تحت كل حجر وكوكب).

فلو كنت - يا أخي - لم ترد عمر عن رأيه لجرت سنة ولاستأصلهم الله وقطع أصلهم وإذا لاستنت به الخلفاء من بعده حتى لا يبقى منهم شعر ولا ظفر ولا نافخ نار، فإنهم

آفة الدين!

بدع عمر على لسان معاوية

فما أكثر ما قد سن عمر في هذه الأمة بخلاف سنة رسول الله، فتابعه الناس عليها وأخذوا بها، فتكون هذه مثل واحدة منهن.

فمنهن تحويله المقام من الموضع الذي وضعه فيه رسول الله، وصاع رسول الله

ومده حين غيره وزاد فيه، ونهيه الجنب عن التيمم، وأشياء كثيرة سنها (1) أكثر من ألف

____________

١- قد مر نماذج من بدع عمر في الأحاديث 11 و 14 و 18 من هذا الكتاب.

الصفحة 286 

باب، أعظمها وأحبها إلينا وأقر ها لأعيننا زيلة الخلافة عن بني هاشم وهم أهلها

ومعدنها، لأنها لا تصلح إلا لهم ولا تصلح الأرض إلا بهم.

سليم يستنسخ الرسالة السرية

فإذا قرأت كتابي هذا فاكتم ما فيه ومزقه. (1)

قال(2): فلما قرأ زياد الكتاب ضرب به الأرض، ثم أقبل علي فقال: (ويلي مما

خرجت وفيما دخلت كنت والله من شيعة آل محمد وحزبه، فخرجت منها ودخلت

في شيعة الشيطان وحزبه وفي شيعة من يكتب إلي مثل هذا الكتاب. إنما والله مثلي

كمثل إبليس أبى أن يسجد لآدم كبرا وكفرا وحسدا.

قال سليم: فلم أمس حتى نسخت كتابه. فلما كان الليل دعا زياد بالكتاب فمزقه

وقال: (لا يطلعن أحد من الناس على ما في هذا الكتاب)، ولم يعلم أني قد نسخته.

____________

١- هذا كلام معاوية في آخر كتابه يخاطب به زيادا.

٢- أي قال كاتب زياد لسليم.

الصفحة 287 

24

النبي صلی الله عليه و اله يقيم الحجة على عائشة في حق علي عليه السلام

أبان عن سليم، قال: سمعت سلمان وأبا ذر والمقداد، وسألت علي بن

أبي طالب عليه السلام عن ذلك فقال: صدقوا. قالوا:

دخل علي بن أبي طالب عليه السلام على رسول الله صلی الله عليه و اله وعائشة قاعدة خلفه وعليها كساء والبيت غاص بأهله فيهم الخمسة أصحاب الكتاب والخمسة أصحاب الشورى.

فلم يجد مكانا فأشار إليه رسول الله صلی الله عليه و اله: (هاهنا)، يعني خلفه.

فجاء علي عليه السلام فقعد بين رسول الله صلی الله عليه و اله وبين عائشة، وأقعى كما يقعي الأعرابي.

فدفعته عائشة وغضبت وقالت: أما وجدت لأستك موضعا غير حجري؟

فغضب رسول الله صلی الله عليه و اله وقال: مه يا حميراء، لا تؤذيني في أخي علي، فإنه

أمير المؤمنين وسيد المسلمين وصاحب لواء الحمد، وقائد الغر المحجلين يوم

القيامة. يجعله الله على الصراط فيقاسم النار، فيدخل أوليائه الجنة ويدخل أعدائه النار.

الصفحة 288 

25

رسائل بين أمير المؤمنين عليه السلام ومعاوية أثناء حرب بصفين

أبان عن سليم، وزعم أبو هارون العبدي (1) أنه سمعه من عمر بن أبي سلمة:

1

رسالة من معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام

إن معاوية دعا أبا الدرداء (2) ونحن مع أمير المؤمنين عليه السلام بصفين ودعا أبا هريرة فقال لهما: انطلقا إلى علي فاقرآه مني السلام وقولا له:

والله إني لأعلم أنك أولى الناس بالخلافة وأحق بها مني، لأنك من المهاجرين

الأولين وأنا من الطلقاء وليس لي مثل سابقتك في الإسلام وقرابتك من رسول الله

وعلمك بكتاب الله وسنة نبيه.

ولقد بايعك المهاجرون والأنصار بعد ما تشاوروا فيك قبل ثلاثة أيام. ثم أتوك

فبايعوك طائعين غير مكرهين. وكان أول من بايعك طلحة والزبير، ثم نكثا بيعتك

____________

١- هو عمارة بن جويرة (جوين)، مات سنة 134. فقوله (زعم أبو هارون...) من كلام أبان، لا سليم.

٢- أبو مسلم الخولاني. وكذا في سائر موارد الحديث جاء هذا الاسم مكان أبي الدرداء. وأبو الدرداء هو عويمر بن عامر بن زيد الخزرجي الأنصاري المدني الصحابي.

الصفحة 289 

وظلماك وطلبا ما ليس لهما، وأنا ابن عم عثمان والطالب بدمه. وبلغني أنك تعتذر من

قتل عثمان وتتبرأ من دمه، وتزعم أنه قتل وأنت قاعد في بيتك، وأنك قلت حين قتل

- واسترجعت -: (اللهم لم أرض ولم أمالئ)، وقلت يوم الجمل حين نادوا (يا لثارات عثمان) - حين ثار من حول الجمل - قلت: (كب قتلة عثمان اليوم لوجوههم إلى النار، أنحن قتلناه؟ وإنما قتله هما وصاحبتهما وأمروا بقتله وأنا قاعد في بيتي).

وأنا ابن عم عثمان ووليه والطالب بدمه، فإن كان الأمر كما قلت فأمكنا من قتلة

عثمان وادفعهم إلينا نقتلهم بابن عمنا، ونبايعك ونسلم إليك الأمر.

لعن أمير المؤمنين عليه السلام لأبي بكر وعمر وعثمان وبراءته منهم

هذه واحدة، وأما الثانية فقد أنبأتني عيوني وأتتني الكتب من أولياء عثمان - ممن

هو معك يقاتل وتحسب أنه على رأيك وراض بأمرك وهواه معنا وقلبه عندنا وجسده معك - أنك تظهر ولاية أبي بكر وعمر وتترحم عليهما، وتكف عن عثمان ولا تذكره ولا تترحم عليه ولا تلعنه.

وبلغني عنك: أنك إذا خلوت ببطانتك الخبيثة وشيعتك وخاصتك الضالة المغيرة

الكاذبة تبرأت عندهم من أبي بكر وعمر وعثمان ولعنتهم. وادعيت أنك خليفة رسول الله صلی الله عليه و اله في أمته ووصيه فيهم، وأن الله فرض على المؤمنين طاعتك وأمر بولايتك في كتابه

وسنة نبيه، وأن الله أمر محمدا أن يقوم بذلك في أمته، وأنه أنزل عليه: (يا أيها الرسول

بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (1)، فجمع أمته بغدير خم فبلغ ما أمر به فيك عن الله، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب،

وأخبرهم أنك أولى بهم من أنفسهم، وأنك منه بمنزلة هارون من موسى.

____________

١- سورة المائدة: الآية 67.

الصفحة 290 

غصب الخلافة على لسان معاوية

وبلغني عنك: أنك لا تخطب الناس خطبة إلا قلت قبل أن تنزل عن منبرك: (والله

إني لأولى الناس بالناس، وما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله).

لئن كان ما بلغني عنك من ذلك حقا فلظلم أبي بكر وعمر إياك أعظم من ظلم عثمان.

لقد قبض رسول الله صلی الله عليه و اله ونحن شهود، فانطلق عمر وبايع أبا بكر وما استأمرك

ولا شاورك، ولقد خاصم الرجلان بحقك وحجتك وقرابتك من رسول الله، ولو سلما

لك وبايعاك لكان عثمان أسرع الناس إلى ذلك لقرابتك منه وحقك عليه لأنه ابن عمك وابن عمتك. ثم عمد أبو بكر فردها إلى عمر عند موته ما شاورك ولا استأمرك حين استخلفه وبايع له.

ثم جعلك عمر في الشورى بين ستة منكم وأخرج منها جميع المهاجرين

والأنصار وغيرهم، فوليتم ابن عوف أمركم في اليوم الثالث حين رأيتم الناس

قد اجتمعوا واخترطوا سيوفهم وحلفوا بالله (لئن غابت الشمس ولم تختاروا أحدكم ليضربن أعناقكم ولينفذن فيكم أمر عمر ووصيته)، فوليتم أمركم ابن عوف، فبايع

عثمان فبايعتموه.

ثم حوصر عثمان فاستنصركم فلم تنصروه ودعاكم فلم تجيبوه، وبيعته في

أعناقكم وأنتم يا معاشر المهاجرين والأنصار حضور شهود. فخليتم عن أهل مصر

حتى قتلوه وأعانهم طوائف منكم على قتله وخذله عامتكم، فصرتم في أمره بين قاتل وآمر وخاذل.

ثم بايعك الناس وأنت أحق بهذا الأمر مني، فأمكني من قتلة عثمان حتى أقتلهم،

وأسلم الأمر لك وأبايعك أنا وجميع من قبلي من أهل الشام.

الصفحة 291 

2

رسالة من أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية

فلما قرأ علي عليه السلام كتاب معاوية وأبلغه أبو الدرداء وأبو هريرة رسالته ومقالته، قال

علي عليه السلام لأبي الدرداء: قد أبلغتماني ما أرسلكما به معاوية، فاسمعا مني ثم أبلغاه عني كما أبلغتماني عنه وقولا له:

إن عثمان بن عفان لا يعدو أن يكون أحد رجلين: إما إمام هدى حرام الدم واجب

النصرة لا تحل معصيته ولا يسع الأمة خذلانه، أو إمام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته ولا نصرته. فلا يخلو من إحدى الخصلتين.

والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل

- ضالا كان أو مهتديا، مظلوما كان أو ظالما، حلال الدم أو حرام الدم - أن لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثا ولا يقدموا يدا ولا رجلا ولا يبدءوا بشئ قبل أن يختاروا لأنفسهم

إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء والسنة، يجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ

للمظلوم من الظالم حقه ويحفظ أطرافهم ويجبي فيئهم ويقيم حجهم وجمعتهم

ويجبي صدقاتهم. ثم يحتكمون إليه في إمامهم المقتول ظلما ويحاكمون قتلته إليه ليحكم بينهم بالحق: فإن كان إمامهم قتل مظلوما حكم لأوليائه بدمه، وإن كان قتل

ظالما نظر كيف الحكم في ذلك.

هذا أول ما ينبغي أن يفعلوه: أن يختاروا إماما يجمع أمرهم - إن كانت الخيرة لهم - ويتابعوه ويطيعوه. وإن كانت الخيرة إلى الله عز وجل وإلى رسوله فإن الله قد كفاهم النظر في

الصفحة 292 

ذلك والاختيار، ورسول الله صلی الله عليه و اله قد رضي لهم إماما وأمرهم بطاعته واتباعه وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان، بايعني المهاجرون والأنصار بعد ما تشاوروا في ثلاثة أيام،

وهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وعقدوا إمامتهم، ولى ذلك أهل بدر والسابقة

من المهاجرين والأنصار، غير أنهم بايعوهم قبلي على غير مشورة من العامة وإن

بيعتي كانت بمشورة من العامة.

فإن كان الله جل اسمه قد جعل الاختيار إلى الأمة وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم، واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار الله ورسوله لهم، وكان

من اختاروه وبايعوه بيعته بيعة هدى وكان إماما واجبا على الناس طاعته ونصرته،

فقد تشاوروا في واختاروني بإجماع منهم، وإن كان الله عز وجل هو الذي يختار، له الخيرة فقد اختارني للأمة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة

نبيه صلی الله عليه و اله فذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي.

ولو أن عثمان قتل على عهد أبي بكر وعمر كان لمعاوية قتالهما والخروج عليهما للطلب؟

قال أبو هريرة وأبو الدرداء: لا.

قال علي عليه السلام: فكذلك أنا فإن قال معاوية: (نعم)، فقولا: إذا يجوز لكل من ظلم

بمظلمة أو قتل له قتيل أن يشق عصى المسلمين ويفرق جماعتهم ويدعو إلى نفسه،

مع أن ولد عثمان أولى بطلب دم أبيهم من معاوية.

قال: فسكت أبو الدرداء وأبو هريرة وقالا: لقد أنصفت من نفسك.

قال علي عليه السلام: ولعمري لقد أنصفني معاوية إن تم على قوله وصدق ما أعطاني،

فهؤلاء بنو عثمان رجال قد أدركوا ليسوا بأطفال ولا مولى عليهم، فليأتوا أجمع بينهم وبين قتلة أبيهم، فإن عجزوا عن حجتهم فليشهدوا لمعاوية بأنه وليهم ووكيلهم

وحربهم في خصومتهم.

الصفحة 293 

وليقعدوا هم وخصمائهم بين يدي مقعد الخصوم إلى الإمام والوالي الذي يقرون

بحكمه وينفذون قضائه، وأنظر في حجتهم وحجة خصمائهم. فإن كان أبوهم قتل

ظالما وكان حلال الدم أبطلت دمه، وإن كان مظلوما حرام الدم أقدتهم من قاتل أبيهم، فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا عفوا وإن شاءوا قبلوا الدية.

وهؤلاء قتلة عثمان في عسكري يقرون بقتله ويرضون بحكمي عليهم ولهم،

فليأتني ولد عثمان أو معاوية - إن كان وليهم ووكيلهم - فليخاصموا قتلته وليحاكموهم حتى أحكم بينهم وبينهم بكتاب الله وسنة نبيه صلی الله عليه و اله.

وإن كان معاوية إنما يتجني ويطلب الأعاليل والأباطيل فليتجن ما بدا له

فسوف يعين الله عليه. (1)

قال أبو الدرداء وأبو هريرة: قد والله أنصفت من نفسك وزدت على النصفة، وأزحت

علته وقطعت حجته، وجئت بحجة قوية صادقة ما عليها لوم.

ثم خرج أبو هريرة وأبو الدرداء، فإذا نحو من عشرين ألف رجل مقنعين بالحديد

فقالوا: (نحن قتلة عثمان ونحن مقرون راضون بحكم علي عليه السلام علينا ولنا، فليأتنا أولياء عثمان فليحاكمونا إلى أمير المؤمنين عليه السلام في دم أبيهم، فإن وجب علينا القود أو الدية اصطبرنا لحكمه وسلمنا).

فقالا: قد أنصفتم، ولا يحل لعلي عليه السلام دفعكم ولا قتلكم حتى يحاكموكم إليه فيحكم بينكم وبين صاحبكم بكتاب الله وسنة نبيه عليه السلام.

____________

١- يتجني أي يرمي بإثم لم نفعله.

الصفحة 294 

3

رد فعل معاوية على رسالة أمير المؤمنين عليه السلام

فانطلق أبو الدرداء وأبو هريرة حتى قدما على معاوية فأخبراه بما قال علي عليه السلام وما

قال قتلة عثمان وما قال أبو النعمان بن ضمان. (1)

فقال لهما معاوية: فما رد عليكما في ترحمه على أبي بكر وعمر وكفه عن الترحم

على عثمان وبرائته منه في السر وما يدعي من استخلاف رسول الله صلی الله عليه و اله إياه وأنه لم يزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلی الله عليه و اله؟

قالا: بلى، قد ترحم على أبي بكر وعمر وعثمان عندنا ونحن نسمع. ثم قال لنا فيما

يقول: إن كان الله جعل الخيار إلى الأمة فكانوا هم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم

- وكان اختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خيرا لهم وأرشد من اختيار الله واختيار

رسول الله صلی الله عليه و اله - فقد اختاروني وبايعوني، فبيعتي بيعة هدى وأنا إمام واجب على الناس طاعتي ونصرتي، لأنهم قد تشاوروا في واختاروني.

وإن كان اختيار الله واختيار رسول الله صلی الله عليه و اله خيرا لهم وأرشد من اختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها، فقد اختارني الله ورسوله للأمة واستخلفاني عليهم وأمراهم بنصرتي وطاعتي في كتاب

الله المنزل على لسان نبيه المرسل، وذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي.

____________

١- لم نعرف الرجل ولا وجه ذكره هنا. ولعله تكلم نيابة عن العشرين ألف المسمين أنفسهم بقتلة عثمان.