تنزيه إبراهيم عليه السلام

الصفحة 39   

تنزيه إبراهيم (ع) عن الكفر والعصيان:

فإن قال قائل: فما معنى قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام:

(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الظالمين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون) (1) أوليس ظاهر هذه الآية يقتضي أنه عليه السلام كان يعتقد في وقت من الأوقات الإلهية للكواكب، وهذا مما قلتم إنه لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام.

(الجواب): قيل له في هذه الآية جوابان: أحدهما أن إبراهيم عليه السلام إنما قال ذلك في زمان مهلة النظر، وعند كمال عقله وحضور ما يوجب عليه النظر بقلبه وتحريك الدواعي على الفكر والتأمل له، لأن إبراهيم (ع) لم يخلق عارفا بالله تعالى، وإنما اكتسب المعرفة لما أكمل الله تعالى عقله وخوفه من ترك النظر بالخواطر والدواعي، فلما رأى الكواكب:

وقد روي في التفسير أنه رأى الزهرة وأعظمه ما رآها عليه من النور

____________

(1) الأنعام الآيات 76 - 78.

الصفحة 40   

وعجيب الخلق، وقد كان قومه يعبدون الكواكب ويزعمون أنها آلهة. قال هذا ربي على سبيل الفكر والتأمل لذلك، فلما غابت وأفلت وعلم أن الأفول لا يجوز على الإله، علم أنها محدثة متغيرة منتقلة. وكذلك كانت حالته في رؤية القمر والشمس، وأنه لما رأى أن أفولهما قطع على حدوثهما واستحالة الهيتهما، وقال في آخر الكلام: " يا قوم إني برئ مما تشركون، إني وجهت وجي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين ". وكان هذا القول منه عقيب معرفته بالله تعالى، وعلمه بأن صفات المحدثين لا يجوز عليه تعالى.

فإن قيل: كيف يجوز أن يقول عليه السلام هذا ربي، مخبرا، وهو غير عالم بما يخبر به، والإخبار بما لا يأمن المخبر أن يكون كاذبا فيه قبيح.

وفي حال كمال عقله ولزوم النظر لا بد من أن يلزمه التحرز من الكذب، وما جرى مجراه من القبح.

قلنا عن هذا جوابان: أحدهما: أنه لم يقل ذلك مخبرا، وإنما قال فارضا ومقدرا على سبيل الفكر والتأمل، ألا ترى أنه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظرا في شئ ومتأملا بين كونه على إحدى صفتيه، أن يفرضه على إحداهما لينظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد، ولا يكون بذلك مخبرا في الحقيقة. ولهذا يصح من أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام وقدمها إن يفرض كونها قديمة، ليتبين ما يؤدي إليه ذلك الفرض من الفساد.

والجواب الآخر: أنه أخبر عن ظنه، وقد يجوز أنه يظن المفكر والمتأمل في حال نظره وفكره ما لا أصل له، ثم يرجع عنه بالأدلة والعقل، ولا يكون ذلك منه قبيحا.

فإن قيل الآية تدل على أن إبراهيم عليه السلام ما كان رأى هذه الكواكب قبل ذلك، لأن تعجبه منها تعجب من لم يكن رآها، فكيف يجوز أن يكون إلى مدة كمال عقله لم يشاهد السماء وما فيها من النجوم؟ قلنا لا

الصفحة 41   

يمتنع أن يكون ما رأى السماء إلا في ذلك الوقت، لأنه على ما روي كان قد ولدته أمه في مغارة خوفا من أن يقتله النمرود، ومن يكون في المغارة لا يرى السماء فلما قارب البلوغ وبلغ حد التكليف خرج من المغارة ورأى السماء وفكر فيها، وقد يجوز أيضا أن يكون قد رأى السماء قبل ذلك إلا أنه لم يفكر في أعلامها، لأن الفكر لم يكن واجبا عليه. وحين كمل عقله وحركته الخواطر فكر في الشئ الذي كان يراه قبل ذلك ولم يكن مفكرا فيه.

والوجه الآخر في أصل المسألة: هو أن إبراهيم عليه السلام لم يقل ما تضمنته الآيات على طريق الشك، ولا في زمان مهلة النظر والفكر، بل كان في تلك الحال موقنا عالما بأن ربه تعالى لا يجوز أن يكون بصفة شئ من الكواكب، وإنما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه والتنبيه لهم على أن ما يغيب ويأفل لا يجوز أن يكون إلها معبودا، ويكون قوله: (هذا ربي) محمولا على أحد وجهين: أي هو كذلك عندكم وعلى مذاهبكم. كما يقول أحدنا للمشبه على سبيل الإنكار لقوله هذا ربه جسم يتحرك ويسكن.

والوجه الآخر:

أن يكون قال ذلك مستفهما، وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنه، وقد جاء في الشعر ذلك كثيرا:

قال الأخطل (1):

 

كذبتك عينك أم رأيت بواسط  غلس الظلام من الرباب خيالا

 

____________

(1) الأخطل: شاعر الأمويين (640 - 710 هـ) هو غياث التغلبي لقب بالأخطل لطول لسانه أو لارتخاء أذنيه له ديوان كبير أكثره في الشعر السياسي مدح فيه الأمويين وهجا أعداءهم.

 

 

الصفحة 42   

وقال الآخر:

 

لعمرك ما أدري وإن كنت داريا          بسبع رمين الجمر أم بثمان

 

وأنشدوا قول الهذلي:

 

وقوني وقالوا يا خويلد لم ترع  فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

 

يعني أهم هم؟

وقال ابن أبي ربيعة:

 

ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد الرمل والحصى والتراب

 

فإن قيل: حذف حرف الاستفهام إنما يحسن إذا كان في الكلام دلالة عليه وعوض عنه، وليس تستعمل مع فقد العوض. وما أنشدتموه فيه عوض عن حرف الاستفهام المتقدم. والآية ليس فيها ذلك.

قلنا قد يحذف حرف الاستفهام مع إثبات العوض عنه ومع فقده إذا زال اللبس في معنى الاستفهام، وبيت ابن أبي ربيعة خال من حرف الاستفهام ومن العوض عنه. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى:

(فلا اقتحم العقبة) (1) قال هو أفلا اقتحم العقبة. فألقيت ألف الاستفهام.

وبعد فإذا جاز أن يلقوا ألف الاستفهام لدلالة الخطاب عليها. فهلا جاز أن يلقوها لدلالة العقول عليها، لأن دلالة العقل أقوى من دلالة غيره.

تنزيه إبراهيم (ع) عن الكذب:

(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه السلام لما قال له قومه (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) (2) وإنما عنى بالكبير الصنم الكبير. وهذا

____________

(1) البلد الآية 11.

(2) الأنبياء الآية 62 - 63.

الصفحة 43   

كذب لا شك فيه، لأن إبراهيم (ع) هو الذي كسر الأصنام، فإضافته تكسيرها إلى غيره مما لا يجوز أن يفعل شيئا لا يكون إلا كذبا.

(الجواب): قيل له الخبر مشروط غير مطلق، لأنه قال إن كانوا ينطقون ومعلوم أن الأصنام لا تنطق، وأن النطق مستحيل عليها. فما علق بهذا المستحيل من الفعل أيضا مستحيل، وإنما أراد إبراهيم بهذا القول تنبيه القوم وتوبيخهم وتعنيفهم بعبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يقدر أن يخبر عن نفسه بشئ. فقال إن كانت هذه الأصنام تنطق فهي الفاعلة للتكسير، لأن من يجوز أن ينطق يجوز أن يفعل. وإذا علم استحالة النطق عليها علم استحالة الفعل عليها، وعلم باستحالة الأمرين أنها لا يجوز أن تكون آلهة معبودة، وأن من عبدها ضال مضل، ولا فرق بين قوله إنهم فعلوا ذلك إن كانوا ينطقون، وبين قوله إنهم ما فعلوا ذلك ولا غيره لأنهم لا ينطقون ولا يقدرون.

وأما قوله (ع) فاسألوهم إن كانوا ينطقون، فإنما هو أمر بسؤالهم أيضا على شرط، والنطق منهم شرط في الأمرين، فكأنه قال: إن كانوا ينطقون فاسألوهم، فإنه لا يمتنع أن يكونوا فعلوه. وهذا يجري مجرى قول أحدنا لغيره: من فعل هذا الفعل؟ فيقول زيد. إن كان فعل كذا وكذا. ويشير إلى فعل يضيفه السائل إلى زيد، وليس في الحقيقة من فعله. ويكون غرض المسؤول نفي الأمرين جميعا عن زيد، وتنبيه السائل على خطئه في إضافة ما أضافه إلى زيد، وقد قرأ بعض القراء وهو محمد بن علي السهيفع اليماني: فعله كبيرهم بتشديد اللام، والمعنى فلعله، أي فلعل فاعل ذلك كبيرهم. وقد جرت عادة العرب بحذف اللام الأولى من لعل فيقولون عل، قال الشاعر:

 

عل صروف الدهر أو دولاتها    تديلنا اللمة من لماتها

فتستريح النفس من زفراتها

 

الصفحة 44   

أي لعل صروف الدهر.

وقال الآخر:

 

يا أبتا علك أو عساكا    يسقيني الماء الذي سقاكا

 

فإن قيل:

فأي فايدة في أن يستفهم عن أمر يعلم استحالته، وأي فرق في المعنى بين القراءتين؟.

قلنا: لم يستفهم ولا شك في الحقيقة، وإنما نبههم بهذا القول على خطيئتهم في عبادة الأصنام. فكأنه قال لهم إن كانت هذه الأصنام تضر وتنفع وتعطي وتمنع، فلعلها هي الفاعلة لذلك التكسير، لأن من جاز منه ضرب من الأفعال جاز منه ضرب آخر، وإذا كان ذلك الفعل الذي هو التكسير لا يجوز على الأصنام عند القوم، فما هو أعظم منه أولى بأن لا يجوز عليها وأن لا يضاف إليها، والفرق بين القراءتين ظاهر، لأن القراءة الأولى لها ظاهر الخبر، فاحتجنا إلى تعليقه بالشرط ليخرج من أن يكون كذبا. والقراءة الثانية تتضمن حرف الشك والاستفهام، فهما مختلفان على ما ترى.

فإن قيل: أليس قد روى بشر بن مفضل عن عوف عن الحسن قال:

" بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال إن إبراهيم عليه السلام ما كذب متعمدا قط إلا ثلاث مرات كلهن يجادل بهن عن دينه قوله إني سقيم، وإنما تمارض عليهم لأن القوم خرجوا من قريتهم لعيدهم وتخلف هو ليفعل بآلهتهم ما فعل. وقوله بل فعله كبيرهم، وقوله لسارة إنها أختي لجبار من الجبابرة لما أراد أخذها ".

قلنا: قد بينا بالأدلة العقلية التي لا يجوز فيها الاحتمال ولا خلاف الظاهر، أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكذب. فما ورد بخلاف ذلك من الأخبار لا يلتفت إليه، ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلا

الصفحة 45   

صحيحا لايقا بأدلة العقل، فإن احتمل تأويلا يطابقها تأولناه ووفقنا بينه وبينها. وهكذا نفعل فيما يروى من الأخبار التي تتضمن ظواهرها الجبر والتشبيه.

فأما قوله (ع) إني سقيم، فسنبين بعد هذه المسألة بلا فصل وجه ذلك، وأنه ليس بكذب. وقوله بل فعله كبيرهم قد بينا معناه وأوضحنا عنه.

وأما قوله (ع) لسارة أنها أختي، فإن صح فمعناه أنها أختي في الدين، ولم يرد أخوة النسب. وأما ادعائهم على النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ما كذب إبراهيم (ع) إلا ثلاث مرات، فالأولى أن يكون كذبا عليه (ع) لأنه صلى الله عليه وآله كان أعرف بما يجوز على الأنبياء (ع) وما لا يجوز عليهم، ويحتمل إن كان صحيحا أن يريد ما أخبر بما ظاهره الكذب إلا ثلاث دفعات، فأطلق عليه اسم الكذب لأجل الظاهر، وإن لم يكن على الحقيقة كذلك.

تنزيه إبراهيم عن الشك في الله:

(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه السلام: (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) (1) والسؤال عليكم في هذه الآية من وجهين: أحدهما أنه حكي عن نبيه النظر في النجوم، وعندكم أن الذي يفعله المنجمون من ذلك ضلال، والآخر قوله (ع) إني سقيم.

وذلك كذب.

(الجواب): قيل له في هذه الآية وجوه (منها): أن إبراهيم (ع) كانت به علة تأتيه في أوقات مخصوصة، فلما دعوه إلى الخروج معهم نظر إلى

____________

(1) الصافات الآية 88 - 89.

الصفحة 46   

النجوم ليعرف منها قرب نوبة علته فقال: إني سقيم. وأراد أنه قد حضر وقت العلة وزمان نوبتها وشارف الدخول فيها. وقد تسمي العرب المشارف للشئ باسم الداخل فيه، ولهذا يقولون فيمن أدنفه المرض وخيف عليه الموت هو ميت. وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله: (إنك ميت وإنهم ميتون) (1) فإن قيل: فلو أراد ما ذكرتموه لقال: فنظر نظرة إلى النجوم ولم يقل في النجوم، لأن لفظة في لا تستعمل إلا فيمن ينظر كما ينظر المنجم.

قلنا ليس يمتنع أن يريد بقوله في النجوم، أنه نظر إليها لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، قال الله تعالى: (ولأصلبنكم في جذوع النخل) (2) وإنما أراد على جذوعها، وقال الشاعر:

 

إسهري ما سهرت أم حكيم     واقعدي مرة لذاك وقومي

وافتحي الباب وانظري في النجوم       كم علينا من قطع ليل بهيم

 

وإنما أراد انظري إليها لتعرفي الوقت.

(ومنها): أنه يجوز أن يكون الله تعالى أعلمه بالوحي أنه سيمتحنه بالمرض في وقت مستقبل، وإن لم يكن قد جرت بذلك المرض عادته، وجعل تعالى العلامة على ذلك ظاهرة له من قبل النجوم، إما بطلوع نجم على وجه مخصوص أو أفول نجم على وجه مخصوص أو اقترانه بآخر على وجه مخصوص. فلما نظر إبراهيم في الأمارة التي نصبت له من النجوم قال إني سقيم، تصديقا بما أخبره الله تعالى.

(ومنها): ما قال قوم في ذلك من أن كان آخر أمره الموت فهو سقيم، وهذا حسن، لأن تشبيه الحياة المفضية إلى الموت بالسقم من أحسن التشبيه.

____________

(1) الزمر الآية 30.

(2) طه الآية 71.

الصفحة 47   

(ومنها): أن يكون قوله إني سقيم القلب والرأي، حزنا من إصرار قومه على عبادة الأصنام. وهي لا تسمع ولا تبصر. ويكون قوله فنظر نظرة في النجوم على هذا المعنى، معناه أنه نظر وفكر في أنها محدثة مدبرة مصرفة مخلوقة. وعجب كيف يذهب على العقلاء ذلك من حالها حتى يعبدوها.

ويجوز أيضا أن يكون قوله تعالى: فنظر نظرة في النجوم، معناه أنه شخص ببصره إلى السماء كما يفعل المفكر المتأمل، فإنه ربما أطرق إلى الأرض وربما نظر إلى السماء استعانة في فكره. وقد قيل إن النجوم هاهنا هي نجوم النبت، لأنه يقال لكل ما خرج من الأرض وغيرها وطلع، انه نجم ناجم، وقد نجم، ويقال للجميع نجوم، ويقولون نجم قرن الظبي، ونجم ثدي المرأة، وعلى هذا الوجه يكون إنما نظر في حال الفكر والاطراق إلى الأرض، فرأى ما نجم منها، وقيل أيضا إنه أراد بالنجوم ما نجم له من رأيه وظهر له بعد أن لم يكن ظاهرا. وهذا وإن كان يحتمله الكلام، فالظاهر بخلافه، لأن الإطلاق من قول القائل: نجوم. لا يفهم من ظاهره إلا نجوم السماء دون نجوم الأرض، ونجوم الرأي، وليس كلما قيل فيه إنه نجم، وهو ناجم على الحقيقة، يصلح أن يقال فيه نجوم بالاطلاق والمرجع في هذا إلى تعارف أهل اللسان. وقد قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني:

إن معنى قوله تعالى: فنظر نظرة في النجوم. أراد في القمر والشمس، لما ظن أنهما آلهة في حال مهلة النظر على ما قصه الله تعالى في قصته في سورة الأنعام. ولما استدل بأفولهما وغروبهما على أنهما محدثان غير قديمين، ولا إلهين. وأراد بقوله إني سقيم. إني لست على يقين من الأمر ولا شفاء من العلم، وقد يسمى الشك بأنه سقيم كما يسمى العلم بأنه شفاء. قال وإنما زال عنه هذا السقم عند زوال الشك وكمال المعرفة. وهذا الوجه يضعف من جهة أن القصة التي حكاها عن إبراهيم فيها هذا الكلام يشهد ظاهره بأنها غير

الصفحة 48   

القصة المذكورة في سورة الأنعام، وأن القصة مختلفة لأن الله تعالى قال:

(وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون. فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) (1) فبين تعالى كما ترى أنه جاء ربه بقلب سليم، وإنما أراد أنه كان سليما من الشك وخالصا للمعرفة واليقين. ثم ذكر أنه عاتب قومه على عبادة الأصنام، فقال ماذا تعبدون؟ وسمى عبادتهم بأنها إفك وباطل. ثم قال فما ظنكم برب العالمين؟ وهذا قول عارف بالله تعالى مثبت له على صفاته غير ناظر ممثل ولا شاك، فكيف يجوز أن يكون قوله من بعد ذلك. فنظر نظرة في النجوم، أنه ظنها أربابا وآلهة وكيف يكون قوله إني سقيم؟ أي لست على يقين ولا شفاء، والمعتمد في تأويل ذلك ما قدمناه.

تنزيه إبراهيم (ع) عن العجز:

(مسألة): فإن قال قائل فما قولكم في قوله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) (2) وهذا يدل على انقطاع إبراهيم (ع) وعجزه عن نصرة دليله الأول ولهذا انتقل إلى حجة أخرى، وليس ينتقل المحتج من شئ إلى غيره إلا على وجه القصور عن نصرته.

(الجواب): قلنا ليس هذا بانقطاع من إبراهيم عليه السلام ولا عجز عن نصرة حجته الأولى، وقد كان إبراهيم (ع) قادرا لما قال له الجبار الكافر أنا أحيي وأميت في جواب قوله ربي الذي يحيي ويميت، ويقال إنه دعا رجلين فقتل أحدهما واستحيى الآخر، فقال عند ذلك أنا أحيي وأميت. وموه

____________

(1) الصافات الآيات 83 - 89.

(2) البقرة الآية 258.

الصفحة 49   

بذلك على من بحضرته على أن يقول له: ما أردت بقولي إن ربي الذي يحيي ويميت ما ظننته من استبقاء حي. وإنما أردت به أنه يحيي الميت الذي لا حياة فيه. إلا أن إبراهيم (ع) علم أنه إن أورد ذلك عليه التبس الأمر على الحاضرين وقويت الشبهة، لأجل اشتراك الاسم، فعدل إلى ما هو أوضح، واكشف وأبين وأبعد من الشبهة، فقال: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر ولم يبق عنده شبهة.

ومن كان قصده البيان والايضاح فله أن يعدل من طريق إلى آخر لوضوحه وبعده عن الشبهة، وإن كان كلا الطريقين يفضي إلى الحق. على أنه بالكلام الثاني ناصر للحجة الأولى وغير خارج عن سنن نصرتها، لأنه لما قال ربي الذي يحيي ويميت، فقال له في الجواب أنا أحيي وأميت، فقال له إبراهيم: من شأن هذا الذي يحيي ويميت أن يقدر على أن يأتي بالشمس من المشرق ويصرفها كيف يشاء. فإن ادعيت أنت القادر على ما يقدر الرب عليه فائت بالشمس من المغرب كما يأتي هو بها من المشرق، فإذا عجزت عن ذلك علمنا أنك عاجز عن الحياة والموت ومدع فيهما ما لا أصل له، فإن قيل: فلو قال له في جواب هذا الكلام: وربك لا يقدر أن يأتي بالشمس من المغرب، فكيف تلزمني أن آتي بها من المغرب؟

قلنا: لو قال له ذلك لكان إبراهيم (ع) يدعو الله أن يأتي بالشمس من المغرب فيجيبه إلى ذلك، وإن كان معجزا خارقا للعادة. ولعل الخصم إنما عدل عن أن يقول له ذلك علما بأنه إذا سأل الله تعالى فيه أجابه إليه.

تنزيه إبراهيم عن الشك في قدرة الله:

(مسألة): فإن قال قائل: فما معنى قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم:

(رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن (1)

____________

(1) البقرة الآية 260.

أنظر قصص الأنبياء ص 96 و 97 الطبعة الثالثة - دار إحياء التراث العربي - بيروت.

الصفحة 50   

قلبي). أوليس هذا الكلام والطلب من إبراهيم (ع) يدلان على أنه لم يكن موقنا بأن الله تعالى يحيي الموتى؟ وكيف يكون نبيا من يشك في ذلك؟

أوليس قد روى المفسرون أن إبراهيم (ع) مر بحوت نصفه في البر ونصفه في البحر، ودواب البر والبحر تأكل منه، فأخطر الشيطان بباله استبعاد رجوع ذلك حيا مؤلفا، مع تفرق أجزائه وانقسام أعضائه في بطون حيوان البر والبحر؟ فشك فسأل الله تعالى ما تضمنته الآية، وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم (ع).

(الجواب): قيل له ليس في الآية دلالة على شك إبراهيم في إحياء الموتى، وقد يجوز أن يكون (ع) إنما سأل الله تعالى ذلك ليعلمه على وجه يبعد عن الشبهة، ولا يعترض فيه شك ولا ارتياب. وإن كان من قبل قد علمه على وجه للشبهة فيه مجال، ونحن نعلم أن في مشاهدة ما شاهده إبراهيم من كون الطير حيا ثم تفرقه وتقطعه وتباين أجزائه ثم رجوعه حيا كما كان في الحال الأولى، من الوضوح وقوة العلم ونفي الشبهة ما ليس لغيره من وجوه الاستدلالات، وللنبي (ع) أن يسأل ربه تخفيف محنته وتسهيل تكليفه.

والذي يبين صحة ما ذكرناه قوله تعالى: (أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي). فقد أجاب إبراهيم بمعنى جوابنا بعينه، لأنه بين أنه لم يسأل ذلك لشك فيه وفقد إيمان به، وإنما أراد الطمأنينة، وهي ما أشرنا إليه من سكون النفس وانتفاء الخواطر والوساوس والبعد عن اعتراض الشبهة.

ووجه آخر: وهو أنه قد قيل إن الله تعالى لما بشر إبراهيم عليه السلام بخلته واصطفائه واجتبائه، سأل الله تعالى أن يريه إحياء الموتى ليطمئن قلبه بالخلة، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يعلمون صحة ما تضمنه الوحي إلا بالاستدلال. فسأل إحياء الموتى لهذا الوجه لا للشك في قدرة الله تعالى على ذلك.

الصفحة 51   

ووجه آخر: وهو أن نمرود بن كنعان (1) لما قال لإبراهيم عليه السلام:

إنك تزعم أن ربك يحيي الموتى، وأنه قد قال: أرسلك إلي لتدعوني إلى عبادته، فاسأله أن يحيي لنا ميتا إن كان على ذلك قادرا، فإن لم يفعل قتلتك. قال إبراهيم (ع): (رب أرني كيف تحيي الموتى) فيكون معنى قوله: (ولكن ليطمئن قلبي) على هذا الوجه، أي لآمن من القتل ويطمئن قلبي بزوال الروع والخوف. وهذا الوجه الذي ذكرناه وإن لم يكن مرويا على هذا الوجه فهو مجوز، وإن أجاز صلح أن يكون وجها في تأويل الآية مستأنفا متابعا.

ووجه آخر: وهو أنه يجوز أن يكون إبراهيم إنما سأل إحياء الموتى لقومه ليزول شكهم في ذلك وشبهتهم. ويجري مجرى سؤال موسى (ع) الرؤية لقومه، ليصدر منه تعالى الجواب على وجه يزيل منه شبهتهم في جواز الرؤية عليه تعالى. ويكون قوله ليطمئن قلبي على هذا الوجه، معناه أن نفسي تسكن إلى زوال شكهم وشبهتهم، أو ليطمئن قلبي إلى إجابتك إياي فيما أسألك فيه. وكل هذا جائز، وليس في الظاهر ما يمنع منه، لأن قوله:

(ولكن ليطمئن قلبي) ما تعلق في ظاهر الآية بأمر لا يسوغ العدول عنه مع التمسك بالظاهر، وما تعلقت هذه الطمأنينة به غير مصرح بذكره، قلنا إن تعلقه بكل أمر يجوز أن يتعلق به.

فإن قيل: فما معنى قوله تعالى أولم تؤمن؟ وهذا اللفظ استقبال.

وعندكم أنه كان مؤمنا فيما مضى. قلنا معنى ذلك أو لم تكن قد آمنت؟

والعرب تأتي بهذا اللفظ، وإن كان في ظاهره الاستقبال، وتريد به الماضي.

فيقول أحدهم لصاحبه: أولم تعاهدني على كذا وكذا، وتعاقدني على أن لا تفعل كذا وكذا؟ وإنما يريد الماضي دون المستقبل.

____________

(1) هو ابن كوش بن حام ضرب به المثل بالجبروت.

الصفحة 52   

فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم أدعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم) (1)، قلنا قد اختلف أهل العلم في معنى قوله تعالى (فصرهن إليك)، فقال قوم: معنى قوله فصرهن: أدنهن وأملهن.

قال الشاعر في وصف الإبل:

 

تظل معقلات السوق خرصا     تصور أنوفها ريح الجنوب

 

أراد أن ريح الجنوب تميل أنوفها وتعطفها.

وقال الطرماح (2):

 

عفايف أذيال أوان يصرها        هوى والهوى للعاشقين صؤر

 

ويقول القائل لغيره: صر وجهك إلي، أي أقبل به علي.

ومن حمل الآية على هذا الوجه لا بد أن يقدر محذوفا في الكلام يدل عليه سياق اللفظ، ويكون تقدير الكلام: خذ أربعة من الطير فأملهن إليك ثم قطعهن ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا.

وقال قوم إن معنى صرهن أي قطعهن وفرقهن، واستشهدوا بقول توبة بن الحمير (3):

 

فلما جذبت الحبل لطت نسوعه          بأطراف عيدان شديد أسورها

فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها

 

وقال الآخر:

 

يقولون أن الشام يقتل أهله      فمن لي أن لم آته بخلود

تغرب آبائي فهلا صراهم        من الموت أن لم يذهبوا وجدودي

 

____________

(1) البقرة الآية 260.

(2) الطرماح بن حكيم الطائي: من شعراء صدر الاسلام، اعتنق مذهب الخوارج وصار من كبار شعرائهم.

(3) من عشاق العرب المشهورين، اشتهر بحبه لليلى الأخيلية وقوله الشعر فيها.

الصفحة 53   

أراد: قطعهم. والأصل صرى يصري صريا، من قولهم يأت يصري في حوضه إذا استسقى ثم قطع، والأصل صرى، فقدمت اللام وأخرت العين.

هذا قول الكوفيين، وأما البصريون فإنهم يقولون إن صار يصير، ويصور بمعنى واحد، أي قطع. ويستشهدون بالأبيات التي تقدمت، وبقول الخنساء: " فظلت الشم منها وهي تنصار " وعلى هذا الوجه لا بد في الكلام من تقديم وتأخير، ويكون التقدير: فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن أي قطعهن. فإليك من صلة خذلان التقطيع لا يعدى بإلى.

فإن قيل فما معنى قوله تعالى: (ثم أدعهن يأتينك سعيا) وهل أمره بدعائهن وهن أحياء أو أموات؟ وعلى كل حال فدعاؤهن قبيح، لأن أمر البهائم التي لا تعقل ولا تفهم قبيح. وكذلك أمرهن وهن أعضاء متفرقة أظهر في القبح.

قلنا لم يرد ذلك إلا حال الحياة دون التفرق والتمزق. فأراد بالدعاء الإشارة إلى تلك الطيور. فإن الانسان قد يشير إلى البهيمة بالمجئ أو الذهاب فتفهم عنه. ويجوز أن يسمي ذلك دعاء. إما على الحقيقة أو على المجاز. وقد قال أبو جعفر الطبري أن ذلك ليس بأمر ولا دعاء، ولكنه عبارة عن تكوين الشئ ووجوده، كما قال تعالى في الذين مسخهم: (كونوا قردة خاسئين) (1) وإنما أخبر عن تكوينهم كذلك من غير أمر ولاء دعاء، فيكون المعنى على هذا التأويل. ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا، فإن الله تعالى يؤلف تلك الأجزاء ويعيد الحياة فيها، فيأتينك سعيا، وهذا وجه قريب فإن قيل على الوجه الأول: كيف يصح أن يدعوها وهي أحياء؟ وظاهر الآية يشهد بخلاف ذلك، لأنه تعالى قال: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا). وقال عقيب هذا الكلام من غير فصل: (ثم أدعهن يأتينك

____________

(1) البقرة الآية 65 والأعراف الآية 166.

الصفحة 54   

سعيا }. فدل ذلك على أن الدعاء توجه إليهن وهن أجزاء متفرقة. قلنا ليس الأمر على ما ذكر في السؤال، لأن قوله: { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } لا بد من تقدير محذوف بعده، وهو: (فإن الله يؤلفهن ويحييهن ثم أدعهن يأتينك سعيا }. ولا بد لمن حمل الدعاء لهن في حال التفرق وانتفاء الحياة من تقدير محذوف في الكلام عقيب قوله: { ثم أدعهن } لأنا نعلم أن تلك الأجزاء والأعضاء لا تأتي عقيب الدعاء بلا فصل، ولا بد من أن يقدر في الكلام عقيب قوله ثم أدعهن، فإن الله تعالى يؤلفهن ويحييهن فيأتينك سعيا.

فأما أبو مسلم الأصفهاني فإنه فرارا من هذا السؤال حمل الكلام على وجه ظاهر الفساد. لأنه قال إن الله تعالى أمر إبراهيم (ع) بأن يأخذ أربعة من الطيور، ويجعل على كل جبل طيرا، وعبر بالجزء عن الواحد من الأربعة، ثم أمره بأن يدعوهن وهن أحياء من غير إماتة تقدمت ولا تفرق من الأعضاء، ويمرنهن على الاستجابة لدعائه، والمجئ إليه في كل وقت يدعوها فيه.

ونبه ذلك على أنه تعالى إذا أراد إحياء الموتى وحشرهم أتوه من الجهات كلها مستجيبين غير ممتنعين كما تأتي هذه الطيور بالتمرين والتعويد. وهذا الجواب ليس بشئ لأن إبراهيم عليه السلام إنما سأل الله أن يريه كيف يحيي الموتى، وليس في مجئ الطيور وهن أحياء بالعادة والتمرين، دلالة على ما سئل عنه ولا حجة فيه. وإنما يكون في ذلك بيانا لمسألته إذا كان على الوجه الذي ذكرناه.

فإن قيل إذا كان إنما أمره بدعائهن بعد حال التأليف والحياة، فأي فايدة في الدعاء وهو قد علم لما رآها تتألف أعضاءها من بعد وتتركب أنها قد عادت إلى حال الحياة؟ فلا معنى في الدعاء إلا أن يكون متناولا لها وهي متفرقة.

قلنا للدعاء فائدة بينة، لأنه لا يتحقق من بعد رجوع الحياة إلى الطيور وإن شاهدها متألفة، وإنما يتحقق ذلك بأن تسعى إليه وتقرب منه.

الصفحة 55   

 

تنزيه إبراهيم عن الاستغفار للكفار:

(مسألة): فإن قال قائل: فما معنى قوله تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) (1) وكيف يجوز أن يستغفر لكافر أو أن يعده بالاستغفار؟.

(الجواب): قلنا: معنى هذه الآية إن أباه كان وعده بأن يؤمن وأظهر له الإيمان على سبيل النفاق، حتى ظن أنه الخير، فاستغفر له الله تعالى على هذا الظن. فلما تبين له أنه مقيم على كفره رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه (2) على ما نطق به القرآن. فكيف يجوز أن يجعل ذلك ذنبا لإبراهيم (ع) وقد عذره الله تعالى في أن استغفاره إنما كان لأجل موعده، وبأنه تبرأ منه لما تبين له منه المقام على عداوة الله تعالى.

فإن قيل: فإن لم تكن هذه الآية دالة على إضافة الذنب إليه، فالآية التي في صورة الممتحنة تدل على ذلك لأنه تعالى قال: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لاستغفرن لك) (3) فأمر بالتأسي والاقتداء به، إلا في هذا الفعل. وهذا يقتضي أنه قبيح.

قلنا: ليس يجب ما ذكر في السؤال، بل وجه استثناء إبراهيم عليه السلام لأبيه عن جملة ما أمر الله تعالى بالتأسي به فيه، أنه لو أطلق الكلام لأوهم الأمر بالتأسي به في ظاهر الاستغفار من غير علم بوجهه، والموعدة السابقة من أبيه له بالإيمان، وأدى ذلك إلى حسن الاستغفار للكفار. فاستثنى الاستغفار من جملة الكلام لهذا الوجه، ولأنه لم يكن ما أظهره أبوه من الإيمان ووعده به

____________

(1) التوبة الآية 114.

(2) قصص الأنبياء ص 83 - الطبعة الثالثة - دار إحياء التراث العربي - بيروت.

(3) سورة الممتحنة الآية 4.

الصفحة 56   

معلوما لكل أحد، فيزول الإشكال في أنه استغفر لكافر مصر على كفره.

ويمكن أيضا أن يكون قوله تعالى: (إلا قول إبراهيم لأبيه) استثناء من غير التأسي، بل من الجملة الثانية التي تعقبها. هذا القول بلا فصل وهي قوله (إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم) إلى قوله (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) أبدا، لأنه لما كان استغفار إبراهيم (ع) لأبيه مخالفا لما تضمنته هذه الجملة، وجب استثناءه. ولا نوهم بظاهر الكلام أنه عامل أباه من العداوة والبراءة بما عامل به غيره من الناس.

فأما قوله تعالى: (إلا عن موعدة وعدها إياه) فقد قيل إن الموعدة إنما كانت من الأب بالإيمان للابن، وهو الذي قدمناه. وقيل إنها كانت من الابن بالاستغفار للأب في قوله: لاستغفرن لك. والأولى أن تكون الموعدة هي من الأب بالإيمان للابن، لأنا إن حملناه على الوجه الثاني كانت المسألة قائمة. ولقائل أن يقول: ولم أراد أن يعده بالاستغفار وهو كافر؟ وعند ذلك لا بد أن يقال إنه أظهر له الإيمان حتى ظنه به. فيعود إلى معنى الجواب الأول.

فإن قيل: فما تنكرون من ذلك، ولعل الوعد كان من الابن للأب بالاستغفار، وإنما وعده به لأنه أظهر له الإيمان؟

قلنا ظاهر الآية منع من ذلك، لأنه تعالى قال: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) فعلل حسن الاستغفار بالموعدة، ولا يكون الموعدة مؤثرة في حسن الاستغفار إلا بأن يكون من الأب للابن بالإيمان، لأنها إذا كانت من الابن لم يحسن له لها الاستغفار، لأنه إن قيل إنما وعده الاستغفار لإظهاره له الإيمان، فالمؤثر في حسن الاستغفار هو إظهار الإيمان لا الموعدة.

فإن قيل: أفليس إسقاط عقاب الكفر والغفران لمرتكبه كانا جائزين من طريق العقل، وإنما منع منه السمع، وإلا جاز أن يكون إبراهيم عليه السلام

الصفحة 57   

إنما استغفر لأبيه لأن السمع لم يقطع له على عقاب الكفار. وكان باقيا على حكم العقل، وليس يمكن أن يدعي أن ما في شرعنا من القطع على عقاب الكفار كان في شرعه لأن هذا لا سبيل إليه؟.

قلنا: هذا الوجه كان جائزا لولا ما نطق به القرآن من خلافه، لأنه تعالى لما قال: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) (1) قال عاطفا على ذلك: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) فصرح بعلة حسن استغفاره، وأنها الموعدة.

وكان الوجه في حسن الاستغفار على ما تضمنه السؤال، لوجب أن يعلل استغفاره لأبيه بأنه لم يعلم أنه من أهل النار لا محالة، ولم يقطع في شرعه على عقاب الكفار. والكلام يقتضي خلاف هذا، ويوجب أنه ليس لإبراهيم (ع) من ذلك ما ليس لنا، وأن عذره فيه هو الموعدة دون غيرها.

 

وقد قال أبو علي بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي في تأويل الآية التي في التوبة، ما نحن ذاكروه ومنبهون على خلافه. قال بعد أن ذكر أن الاستغفار إنما كان لأجل الموعدة من الأب بالإيمان: إن الله تعالى إنما ذكر قصة إبراهيم (ع) بعد قوله (ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين) لئلا يتوهم أحد أن الله عز وجل كان جعل لإبراهيم عليه السلام من ذلك ما لم يجعله للنبي صلى الله عليه وآله، لأن هذا الذي لم يجعله للنبي صلى الله عليه وآله لا يجوز أن يجعله لأحد، لأنه ترك الرضا بأفعال الله تعالى وأحكامه.

وهذا الذي ذكره غير صحيح على ظاهره، لأنه يجوز أن يجعل لغير نبينا صلى الله عليه وآله ممن لم يقطع له، على أن الكفار معاقبون لا محالة، أن يستغفر

____________

(1) التوبة الآية 113.

 

 

الصفحة 58   

للكفار، لأن العقل لا يمنع من ذلك. وإنما يمنع السمع الذي فرضنا ارتفاعه.

فإن قال: أردت أنه ليس لأحد ذلك مع القطع على العقاب، قلنا:

ليس هكذا يقتضي ظاهر كلامك. وقد كان يجب إذا أردت هذا المعنى أن تبينه وتزيل الابهام عنه، وإنما لم يجز أن يستغفر للكفار مع ورود الوعيد القاطع على عقابهم، زايدا على ما ذكره أبو علي من أنه ترك الرضا بأحكام الله، أن فيه سؤالا له تعالى أن يكذب في أخباره، وأن يفعل القبيح من حيث أخبر بأنه لا يغفر للكفار مع الاصرار.

تكريم إبراهيم باستجابة دعائه:

(مسألة): فإن قال: إذا كان من مذهبكم إن دعاء الأنبياء (ع) لا يكون إلا مستجابا، وقد دعا إبراهيم عليه السلام ربه فقال: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام). وقد عبد كثير من بنيه الأصنام وكذلك السؤال عليكم في قوله: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) (1).

(الجواب): قيل له أما المفسرون فإنهم حملوا هذا الدعاء على الخصوص وجعلوه متناولا لمن أعلمه الله تعالى أنه يؤمن ولا يعبد الأصنام حتى يكون الدعاء مستجابا، وبينوا إن العدول عن ظاهره المقتضي للعموم إلى الخصوص بالدلالة واجب، وهذا الجواب صحيح، ويمكن في الآية وجه آخر: وهو أن يريد بقوله: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) أي افعل بي وبهم من الألطاف ما يباعدنا عن عبادة الأصنام ويصرف دواعينا عنها. وقد يقال فيمن حذر من الشئ ورغب في تركه وقويت صوارفه عن فعله: أنه قد جنبه. ألا ترى أن الوالد قد يقول لولده إذا كان قد حذره من بعض الأفعال

____________

(1) إبراهيم الآية 40.

الصفحة 59   

وبين له قبحه وما فيه من الضرر، وزين له تركه وكشف له عما فيه من النفع:

إنني قد جنبتك كذا وكذا ومنعتك منه. وإنما يريد ما ذكرناه. وليس لأحد أن يقول كيف يدعو إبراهيم (ع) بذلك وهو يعلم أن الله تعالى لا بد أن يفعل هذا اللطف المقوى لدواعي الإيمان، لأن هذا السؤال أولا يتوجه على الجوابين جميعا، لأنه تعالى لا بد أن يفعل هذا للطف الذي يقع الطاعة عنده لا محالة. كما لا بد أن يفعل ما يقوي الداعي إلى الطاعات.

والجواب عن هذه الشبهة أن النبي صلى الله عليه وآله لا يمتنع أن يدعو بما يعلم أن الله تعالى سيفعله على كل حال، على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والتذلل له والتعبد. فأما قوله (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) فالشبهة تقل فيه، لأن ظاهر الكلام يقتضي الخصوص في ذريته الكثير ممن أقام الصلاة.

تنزيه إبراهيم عن المجادلة:

(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام) (1) فما لبث أن جاء بعجل حنيذ، وكيف يحضر إبراهيم عليه السلام للملائكة الطعام وهو يعلم أنها لا تطعم؟

ومن أي شئ كانت مخافته منهم لما امتنعوا من تناول الطعام؟ وكيف يجوز أن يجادل ربه فيما قضاه وأمر به؟.

(الجواب): قلنا أما وجه تقديم الطعام فلأنه (ع) لم يعلم في الحال أنهم ملائكة لأنهم كانوا في صورة البشر فظنهم أضيافا، وكان من عادته (ع) أقراء الضيف، فدعاهم إلى الطعام ليستأنسوا به وينبسطوا، فلما امتنعوا أنكر ذلك منهم، وظن أن الامتناع لسوء يريدونه، حتى خبروه بأنهم رسل الله تعالى أنفذهم لإهلاك قوم لوط عليه السلام (2).

____________

(1) هود الآية 69.

(2) قصص الأنبياء ص - 112 - 113 ط 3 - دار إحياء التراث العربي - بيروت.

الصفحة 60   

وأما الحنيذ: فهو المشوي بالأحجار. وقيل إن الحنيذ الذي يقطر ماؤه ودسمه. وقد قيل إن الحنيذ هو النضيج.

وأنشد أبو العباس:

 

إذا ما اختبطنا اللحم للطالب القرى       حنذناه حتى يمكن اللحم آكله

 

فإن قيل: فكيف صدقهم في دعواهم أنهم ملائكة؟.

قلنا: لا بد من أن يقترن بهذه الدعوى علم يقتضي التصديق. ويقال إنهم دعوا الله بإحياء العجل الذي كان ذبحه وشواه لهم، فصار حيا يرعى.

وأما قوله: يجادلنا، فقيل معناه يجادل رسلنا، وعلق المجادلة به تعالى من حيث كانت لرسله، وإنما جادلهم مستفهما منهم هل العذاب نازل على سبيل الاستيصال أو على سبيل التخويف؟ وهل هو عام للقوم أو خاص؟

وعن طريق نجاة لوط (ع) وأهله المؤمنين بما لحق القوم؟ وسمى ذلك جدالا لما كانت فيه من المراجعة والاستثبات على سبيل المجاز، وقيل إن معنى قوله يجادلنا في قوم لوط (ع): يسائلنا أن تؤخر عذابهم رجاء أن يؤمنوا أو أن يستأنفوا الصلاح. فخبره الله تعالى بأن المصلحة في إهلاكهم، وأن كلمة العذاب قد حقت عليهم، وسمى المسألة جدالا على سبيل المجاز.

فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) (1) فأتى بفعل مستقبل بعد لما، ومن شأن ما يأتي بعدها أن يكون ماضيا.

قلنا عن ذلك جوابان.

أحدهما أن في الكلام محذوفا، والمعنى: أقبل يجادلنا أو جعل يجادلنا، وإنما حذفه لدلالة الكلام عليه واقتضائه له.

____________

(1) هود الآية 74.

الصفحة 61   

والجواب الآخر: أن لفظه (لما) يطلب في جوابها الماضي، كطلب لفظه (إن) في جوابها المستقبل. فلما استحسنوا أن يأتوا في جواب (إن) بالماضي، ومعناه الاستقبال، لدلالة (أن) عليه، استحسنوا أن يأتوا بعد (لما) الاستقبال تعويلا على أن اللفظة تدل على مضيه. فكما قالوا إن زرتني زرتك، وهم يريدون إن تزرني أزرك. قالوا ولما تزرني أزرك، وهم يريدون لما زرتني زرتك. وأنشدوا في دخول الماضي في جواب إن قول الشاعر.

 

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا مني وما سمعوا من صالح دفنوا

 

وفي قول الآخر في دخول المستقبل جوابا بالماضي:

 

وميعاد قوم إن أرادوا لقاءنا      بجمع منى إن كان للناس مجمع

يروا خارجيا لم ير الناس مثله   تشير لهم عين إليه وإصبع

 

ويمكن في هذا جواب آخر، هو أن يجعل (يجادلنا) حالا لا جوابا للفظة لما. ويكون المعنى أن البشرى جاءته في حال الجدال للرسل.

فإن قيل: فأين جواب (لما) على هذا الوجه؟.

قلنا يمكن أن نقدره في أحد موضعين: إما في قوله تعالى: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) ويكون التقدير: قلنا إن إبراهيم كذلك.

والموضع الآخر أن يكون أراد تعالى (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) ناديناه يا إبراهيم. فجواب (لما) هو ناديناه، وإن كان محذوفا ودل عليه لفظة النداء. وكل هذا جايز.

تنزيه إبراهيم عن القول بخلق الله للأفعال:

(مسألة): فإن قيل أليس قد حكى الله تعالى عن إبراهيم (ع) قوله إذ قال لقومه: (أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) (1) وظاهر هذا

____________

(1) الصافات الآية 95 - 96.

الصفحة 62   

القول يقتضي أنه تعالى خلق أعمال العباد، فما الوجه فيما وما عذر إبراهيم عليه السلام في إطلاقه؟.

(الجواب): قلنا من تأمل هذه الآية حق التأمل، علم أن معناها بخلاف ما يظنه المجبرة، لأن قوله تعالى خبر عن إبراهيم (ع) بأنه غير قومه بعبادة الأصنام واتخاذها آلهة من دون الله تعالى، بقوله: (أتعبدون ما تنحتون)، وإنما أراد منحوت وما حمله النحت دون عملهم الذي هو النحت، لأن القوم لم يكونوا يعبدون النحت الذي هو فعلهم في الأجسام، وإنما كانوا يعبدون الأجسام أنفسها. ثم قال: (والله خلقكم وما تعملون).

وهذا الكلام لا بد من أن يكون متعلقا بالأول ومتضمنا لما يقتضي المنع من عبادة الأصنام، ولا يكون بهذه الصفة إلا والمراد بقوله: وما تعملون الأصنام التي كانوا ينحتونها. فكأنه تعالى قال: كيف تعبدون ما خلقه الله تعالى كما خلقكم. وليس لهم أن يقولوا إن الكلام الثاني قد يتعلق بالكلام الأول على خلاف ما قدرتموه، لأنه إذا أراد أن الله خلقكم وخلق أعمالكم، فقد تعلق الثاني بالأول، لأن من خلقه الله لا يجوز أن يعبد غيره. وذلك أنه لو أراد ما ظنوه، لكفى أن يقول الله تعالى: والله خلقكم. ويصير ما ضمنه إلى ذلك من قوله: (وما تعملون) لغوا ولا فائدة فيه، ولا تعلق له بالأول ولا تأثير له في المنع من عبادة الأصنام. فصح أنه أراد ما ذكرناه من المعمول فيه، ليطابق قوله: (أتعبدون ما تنحتون).

فإن قالوا هذا عدول عن الظاهر، لقوله تعالى: (وما تعملون) لأن هذه اللفظة لا تستعمل على سبيل الحقيقة إلا في العمل دون المعمول فيه.

ولهذا يقولون: أعجبني ما تعمل وما تفعل، مكان قولهم: أعجبني عملك وفعلك.

قيل لهم: ليس نسلم لكم إن الظاهر ما ادعيتموه، لأن هذه اللفظة قد تستعمل في المعمول فيه، والعمل على حد واحد. بل استعمالها في

الصفحة 63   

المعمول فيه أظهر وأكثر. ألا ترى أنه تعالى قال في العصا (تلقف ما يأفكون) (1) وفي آية أخرى: (وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا) (2).

ومعلوم أنه لم يرد أنها تلقف أعمالهم التي هي الحركات واعتمادات، وإنما أراد أنها تلقف الحبال وغيرها مما حله الإفك. وقد قال الله تعالى:

(يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) (3) فسمى المعمول فيه عملا.

ويقول القائل في الباب أنه عمل النجار، ومما يعمل النجار، وكذلك في الناسج والصايغ. وههنا مواضع لا يستعمل فيها (ما) مع الفعل إلا والمراد بها الأجسام دون الأعراض التي هي فعلنا. لأن القائل إذا قال:

أعجبني ما تأكل وما تشرب وما تلبس، لم يجز حمله إلا على المأكول والمشروب والملبوس دون الأكل والشرب واللبس. فصح أن لفظة (ما) فيما ذكرناه أشبه بأن تكون حقيقة، وفيما ذكروه أشبه بأن تكون مجازا. ولو لم يثبت فيها إلا أنها مشتركة بين الأمرين، وحقيقة فيهما، لكان كافيا في إخراج الظاهر من أيديهم، وإبطال ما تعلقوا به. وليس لهم أن يقولوا أن كل موضع استعملت فيه لفظة (ما) مع الفعل، وأريد بها المفعول فيه، إنما علم بدليل، والظاهر بخلافه. وذلك أنه لا فرق بينهم في هذه الدعوى وبين من عكسها، فادعى أن لفظة (ما) إذا استعملت مع الفعل وأريد بها المصدر دون المفعول فيه كانت محمولة على ذلك بالدليل، وعلى سبيل المجاز.

والظاهر بخلافه، على أن التعليل وتعلق الكلام الثاني بالأول على ما بيناه أيضا ظاهر، فيجب أن يكون مراعى. وقد بينا أيضا أنه متى حمل الكلام على ما ظنوه لم يكن الثاني متعلقا بالأول ولا تعليلا فيه، والظاهر يقتضي ذلك.

____________

(1) الشعراء الآية 45 والأعراف الآية 117.

(2) طه الآية 69.

(3) سبأ الآية 13.

الصفحة 64   

فقد صار فيما ادعوه عدول عن الظاهر الذي ذكرناه في معنى الآية، فلو سلم ما ادعوه من الظاهر في معنى اللفظة معه لتعارضتا، فكيف وقد بينا أنه غير سليم ولا صحيح؟.

وبعد: فإن قوله: (وما تعملون) لا يستقل بالفائدة بنفسه، ولا بد من أن يقدر محذوف، ويرجع إلى (ما) التي بمعنى (الذي)، وليس لهم أن يقدروا الهاء ليسلم ما ادعوه بأولى منا إذا قدرنا لفظة فيه، لأن كلا الأمرين محذوف، وليس تقدير أحدهما بأولى من الآخر، إلا بدليل هذا.

على أنا قد بينا أن مع تقدير الهاء يكون الكلام محتملا لما ذكرناه، كاحتماله لما ذكروه. ومع تقديرنا الذي بيناه يكون الكلام مختصا غير مشترك، فصرنا بالظاهر أولى منهم، وصار للمعنى الذي ذهبنا إليه الرجحان على معناهم. على أن معنى الآية والمقصود منها يدلان على ما ذكرناه، حتى أنا لو قدرنا ما ظنه المخالف لكان ناقضا للغرض في الآية ومبطلا لفايدتها، لأنه تعالى خبر عن إبراهيم (ع) بأنه قرعهم ووبخهم بعبادة الأصنام، واحتج عليهم بما يقتضي العدول عن عبادته. ولو كان مراده بالآية ما ظنوه من أنه تعالى خلقهم وخلق أعمالهم، وقد علمنا أن عبادتهم للأصنام من جملة أعمالهم، فكأنه قال الله تعالى: والله خلقكم وخلق عبادة أصنامكم. لوجب أن يكون عاذرا لهم ومزيلا للوم عنهم، لأن الانسان لا يذم على ما خلق فيه ولا يعاتب ولا يوبخ.

وبعد فلو حملنا الآية على ما توهموه، لكان الكلام متناقضا من وجه آخر، لأنه قد أضاف العمل إليهم بقوله (وما تعملون). وذلك يمنع من كونه خلقا لله تعالى، لأن العامل للشئ هو من أحدثه وأخرجه من العدم إلى الوجود. والخلق في هذا الوجه لا يفيد إلا هذا المعنى، فكيف يكون خالقا ومحدثا لما أحدثه غيره وعمله؟ على أن الخلق إذا كان هو التقدير في اللغة، فقد يكون الخالق خالقا لفعل غيره إذا كان مقدرا له ومدبرا. ولهذا يقولون

الصفحة 65   

خلق الأديم فيمن قدره ودبره، وإن كان ما أحدث الأديم نفسه. فلو حملنا قوله: (وما تعملون) على أفعالهم دون ما فعلوا فيه من الأجسام، لكان الكلام على هذا الوجه صحيحا. ويكون المعنى: والله دبركم ودبر أعمالكم. وإن لم يكن محدثا لها وفاعلا. وكل هذه الوجوه واضح لا إشكال فيه بحمد الله تعالى ومنه.