سليمان عليه السلام

الصفحة 133 

تنزيه سليمان عن المعصية:

(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى: (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق) (1) أوليس ظاهر هذه الآيات يدل على أن مشاهدة الخيل الهاه واشغله عن ذكر ربه، حتى روي أن الصلاة فاتته وقيل إنها صلاة العصر، ثم إنه عرقب الخيل وقطع سوقها وأعناقها غيظا عليها، وهذا كله فعل يقتضي ظاهره القبح.

(الجواب): قلنا أما ظاهر الآية فلا يدل على إضافة قبيح إلى النبي (ع) والرواية إذا كانت مخالفة لما تقتضيه الأدلة لا يلتفت إليها لو كانت قوية صحيحة ظاهرة، فكيف إذا كانت ضعيفة واهية؟ والذي يدل على ما ذكرناه على سبيل الجملة أن الله تعالى ابتدأ الآية بمدحه وتعريفه والثناء عليه، فقال: نعم العبد إنه أواب، وليس يجوز أن يثني عليه بهذا الثناء ثم يتبعه من غير فصل بإضافة القبيح إليه، وأنه تلهى بعرض الخيل عن فعل المفروض عليه من الصلاة والذي يقتضيه الظاهر أن حبه للخيل وشغفه بها

____________

(1) ص 30 - 33.

الصفحة 134 

كان بإذن ربه وبأمره وتذكيره إياه لأن الله تعالى قد أمرنا بارتباط الخيل وإعدادها لمحاربة الأعداء، فلا ينكر أن يكون سليمان عليه السلام مأمورا بمثل ذلك. فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي، ليعلم من حضره أن اشتغاله بها واستعداده لها لم يكن لهوا ولا لعبا، وإنما أتبع فيه أمر الله تعالى وآثر طاعته.

وأما قوله: أحببت حب الخير ففيه وجهان.

أحدهما: أنه أراد أني أحببت حبا ثم أضاف الحب إلى الخير.

والوجه الآخر: أنه أراد أحببت اتخاذ الخير. فجعل قوله بدل اتخاذ الخير حب الخير.

فأما قوله تعالى: (ردوها علي) فهو للخيل لا محالة على مذهب سائر أهل التفسير.

فأما قوله تعالى: (حتى توارت بالحجاب)، فإن أبا مسلم محمد بن بحر وحده قال إنه عائد إلى الخيل دون الشمس، لأن الشمس لم يجر لها ذكر في القصة. وقد جرى للخيل ذكر فرده إليها أولى إذا كانت له محتملة، وهذا التأويل يبرئ النبي (ع) عن المعصية.

فأما من قال إن قوله تعالى (حتى توارت بالحجاب) كناية عن الشمس، فليس في ظاهر القرآن أيضا على هذا الوجه ما يدل على أن التواري كان سببا لفوت الصلاة، ولا يمتنع أن يكون ذلك على سبيل الغاية لعرض الخيل عليه ثم استعادته لها.

فأما أبو علي الجبائي وغيره، فإنه ذهب إلى أن الشمس لما توارت بالحجاب وغابت كان ذلك سببا لترك عبادة كان يتعبد بها بالعشي، وصلاة نافلة كان يصليها فنسيها شغلا بهذه الخيل وإعجابا بتقليبها، فقال هذا القول

الصفحة 135 

على سبيل الاغتمام لما فاته من الطاعة، وهذا الوجه أيضا لا يقتضي إضافة قبيح إليه (ع) لأن ترك النافلة ليس بقبيح ولا معصية.

وأما قوله تعالى: فطفق مسحا بالسوق والأعناق فقد قيل فيه وجوه:

منها: أنه عرقبها ومسح أعناقها وسوقها بالسيف من حيث شغلته عن الطاعة، ولم يكن ذلك على سبيل العقوبة لها لكن حتى لا يتشاغل في المستقبل بها عن الطاعات، لأن للانسان أن يذبح فرسه لأكل لحمها، فكيف إذا انضاف إلى ذلك وجه آخر يحسنه. وقد قيل أنه يجوز أن يكون لما كانت الخيل أعز ما له عليه أراد أن يكفر عن تفريطه في النافلة فذبحها وتصدق بلحمها على المساكين. قالوا فلما رأى حسن الخيل راقته وأعجبته، أراد أن يقترب إلى الله تعالى بالمعجب له الرائق في عينه، ويشهد بصحة هذا المذهب قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) (1) فأما أبو مسلم فإنه ضعف هذا الوجه وقال: لم يجر للسيف ذكر فيضاف إليه المسح، ولا يسمى العرب الضرب بالسيف والقطع به مسحا، قال فإن ذهب ذاهب إلى قول الشاعر:

 

مدمن يجلو بأطراف الذرى      دنس الأسوق بالعضب الأفل

 

فإن هذا الشاعر يعني أنه عرقب الإبل للأضياف فمسح بأسنمتها ما صار على سيفه من دنس عراقبها وهو الدم الذي أصابه منها، وليس في الآية ما يوجب ذلك ولا ما يقاربه، وليس الذي أنكره أبو مسلم بمنكر لأن أكثر أهل التأويل وفيهم من يشار إليه في اللغة، روى أن المسح ههنا هو القطع وفي الاستعمال المعروف: مسحه بالسيف إذا قطعه وبتره. والعرب تقول مسح علاوتها أي ضربها.

ومنها: أن يكون معنى مسحها هو أنه أمر يده عليها صيانة لها وإكراما

____________

(1) آل عمران 92.

الصفحة 136 

لما رأى من حسنها. فمن عادة من عرضت عليه الخيل أن يمر يده على أعرافها وأعناقها وقوائمها.

ومنها: أن يكون معنى المسح ههنا هو الغسل، فإن العرب تسمي الغسل مسحا، فكأنه لما رأى حسنها أراد صيانتها وإكرامها فغسل قوائمها وأعناقها وكل هذا واضح.

تنزيه سليمان عن الفتنة:

(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) (1) أوليس قد روي في تفسير هذه الآية أن جنيا كان اسمه صخرا تمثل على صورته وجلس على سريره، وأنه أخذ خاتمه الذي فيه النبوة فألقاه في البحر، فذهبت نبوته وأنكره قومه حتى عاد إليه من بطن السمكة.

(الجواب): قلنا: أما ما رواه الجهال في القصص في هذا الباب فليس مما يذهب على عاقل بطلانه، وأن مثله لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام، وأن النبوة لا تكون في خاتم ولا يسلبها النبي (ع) ولا ينزع عنه، وأن الله تعالى لا يمكن الجني من التمثيل بصورة النبي (ع) ولا غير ذلك مما افتروا به على النبي (ع). وإنما الكلام على ما يقتضيه ظاهر القرآن، وليس في الظاهر أكثر من أن جسدا القي على كرسيه على سبيل الفتنة له وهي الاختبار والامتحان، مثل قوله تعالى: (آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) (2) والكلام في ذلك الجسد ما هو إنما يرجع فيه إلى الرواية الصحيحة التي لا تقتضي إضافة قبيح إليه تعالى، وقد قيل في ذلك

____________

(1) ص 34.

(2) العنكبوت 1 - 3.

الصفحة 137 

أشياء (منها): أن سليمان عليه السلام قال يوما في مجلسه وفيه جمع كثير:

" لأطوفن الليلة على مائة امرأة تلد كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله " وكان له فيما روي عدد كثير من السراري، فأخرج كلامه على سبيل المحبة بهذا الحال، فنزهه الله تعالى عن الكلام الذي ظاهره الحرص على الدنيا والتثبت بها لئلا يقتدى به في ذلك، فلم تحمل من نسائه إلا امرأة واحدة فألقت ولدا ميتا، فحمل حتى وضع على كرسيه جسدا بلا روح تنبيها له على أنه ما كان يجب بأن يظهر منه ما ظهر، فاستغفر ربه وفزع إلى الصلاة والدعاء.

وهذا الوجه إذا صح ليس يقتضي معصية صغيرة على ما ظنه بعضهم حتى نسب الاستغفار والإنابة إلى ذلك، وذلك لأن محبة الدنيا على الوجه المباح ليس بذنب وإن كان غيره أولى منه، والاستغفار عقيب هذه الحال لا يدل على وقوع ذنب في الحال ولا قبلها، بل يكون محمولا على ما ذكرناه آنفا في قصة داود عليه السلام من الانقطاع إلى الله تعالى وطلب ثوابه.

فأما قول بعضهم: إن ذنبه من حيث لم يستثن بمشيئة الله تعالى لما قال: تلد كل امرأة واحدة منهن غلاما. وهذا غلط لأنه (ع) وإن لم يستثن ذلك لفظا قد استثناه ضميرا أو اعتقادا. إذ لو كان قاطعا مطلقا للقول لكان كاذبا أو مطلقا لما لا يأمن أن يكون كذبا، وذلك لا يجوز عند من جوز الصغائر على الأنبياء عليهم السلام.

وأما قول بعضهم: إنه (ع) إنما عوتب واستغفر لأجل أن فريقين اختصما إليه، أحدهما من أهل جرادة امرأة له كان يحبها، فأحب أن يقع القضاء لأهلها فحكم بين الفريقين بالحق، وعوتب على محبة موافقة الحكم لأهل امرأته، فليس هذا أيضا بشئ لأن هذا المقدار الذي ذكروه ليس بذنب يقتضي عتابا إذا كان لم يرد القضاء بما يوافق امرأته على كل حال، بل مال طبعه إلى أن يكون الحق موافقا لقول فريقها، وأن يتفق أن يكون في جهتها

الصفحة 138 

من غير أن يقتضي ذلك ميلا منه إلى الحكم أو عدولا عن الواجب.

(ومنها): أنه روي عن الجن لما ولد لسليمان عليه السلام ولد قالوا لنلقين من ولده مثل ما لقينا من أبيه، فلما ولد له غلام أشفق عليه منهم فاسترضعه في المزن وهو السحاب فلم يشعر إلا وقد وضع على كرسيه ميتا تنبيها له على أن الحذر لا ينقطع مع القدر.

(ومنها): أنهم ذكروا أنه كان لسليمان (ع) ولد شاب ذكي وكان يحبه حبا شديدا فأماته الله تعالى على بساطه فجأة بلا مرض اختبارا من الله تعالى لسليمان (ع) وابتلاء لصبره في إماتة ولده، وألقى جسده على كرسيه، وقيل إن الله جل ثنائه أماته في حجره وهو على كرسيه فوضعه من حجره عليه.

ومنها: ما ذكره أبو مسلم، فإنه قال جايز أن يكون الجسد المذكور هو جسد سليمان (ع)، وأن يكون ذلك لمرض امتحنه تعالى به.

وتلخيص الكلام:

" ولقد فتنا سليمان وألقينا منه على كرسيه جسدا " وذلك لشدة المرض. والعرب تقول في الانسان إذا كان ضعيفا " إنه لحم على وضم ".

كما يقولون: " إنه جسد بلا روح " تغليظا للعلة ومبالغة في فرط الضعف.

(ثم أناب) أي رجع إلى حال الصحة واستشهد على الاختصار والحذف في الآية بقوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة إن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) (1) ولو أتي بالكلام على شرحه لقول الذين كفروا منهم أي من المجادلين. كما قال تعالى: (محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء

____________

(1) الأنعام 25.

الصفحة 139 

بينهم) إلى قوله: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) (1) وقال الأعشى في معنى الاختصار والحذف:

 

وكأن السموط علقها السلك     بعطفي جيداء أم غزال

 

ولو أتي بالشرح لقال علقها السلك منها.

وقال كعب بن زهير:

 

زالوا فما زال انعكاس ولا كشف         عند اللقاء ولا ميل معازيل

 

وإنما أراد فما زال منهم انعكاس ولا كشف وشواهد هذا المعنى كثيرة.

تنزيه سليمان عن الشح وعدم القناعة:

(مسألة): فإن قيل فما معنى قول سليمان عليه السلام: (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) (2) أوليس ظاهر هذا القول منه (ع) يقتضي الشح والظن والمنافة لأنه لم يقنع بمسألة الملك حتى أضاف إلى ذلك أن يمنع غيره منه؟.

(الجواب) قلنا: قد ثبت أن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون إلا ما يؤذن لهم في مسألته، لا سيما إذا كانت المسألة ظاهرة يعرفها قومهم. وجايز أن يكون الله تعالى أعلم سليمان (ع) أنه إن سأل ملكا لا يكون لغيره كان أصلح له في الدين والاستكثار من الطاعات، وأعلمه أن غيره لو سأل ذلك لم يجب إليه من حيث لا صلاح له فيه. ولو أن أحدنا صرح في دعائه بهذا الشرط حتى يقول اللهم اجعلني أيسر أهل زماني وارزقني مالا يساويني فيه غيري إذا علمت أن ذلك أصلح لي وأنه أدعى إلى ما تريده مني، لكان هذا

____________

(1) الفتح 29.

(2) ص 35.

الصفحة 140 

الدعاء منه حسنا جميلا وهو غير منسوب به إلى بخل ولا شح. وليس يمتنع أن يسأل النبي هذه المسألة من غير إذن إذا لم يكن شرط ذلك بحضرة قومه، بعد أن يكون هذا الشرط مرادا فيها، وإن لم يكن منطوقا به، وعلى هذا الجواب اعتمد أبو علي الجبائي.

ووجه آخر: وهو أن يكون عليه السلام إنما التمس أن يكون ملكه آية لنبوته ليتبين بها عن غيره ممن ليس نبيا. وقوله " لا ينبغي لأحد من بعدي " أراد به لا ينبغي لأحد غيري ممن أتى مبعوث إليه، ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيين (ع). ونظير ذلك أنك تقول للرجل أنا أطيعك ثم لا أطيع أحدا بعدك، تريد ولا أطيع أحدا سواك. ولا تريد بلفظة بعد المستقبل، وهذا وجه قريب.

وقد ذكر أيضا في هذه الآية ومما لا يذكر فيها مما يحتمله الكلام أن يكون (ع) إنما سأل ملك الآخرة وثواب الجنة التي لا يناله المستحق إلا بعد انقطاع التكليف وزوال المحنة، فمعنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي أي لا يستحقه بعد وصولي إليه أحد من حيث لا يصح أن يعمل ما يستحق به لانقطاع التكليف. ويقوي هذا الجواب قوله " رب اغفر لي " وهو من أحكام الآخرة. وليس لأحد أن يقول إن ظاهر الكلام بخلاف ما تأولتم، لأن لفظة بعدي لا يفهم منها بعد وصولي إلى الثواب. وذلك أن الظاهر غير مانع من التأويل الذي ذكرناه، ولا مناف له. لأنه لا بد من أن تعلق لفظة بعدي بشئ من أحواله المتعلقة به، وإذا علقناها بوصوله إلى الملك كان ذلك في الفايدة ومطابقة الكلام كغيره مما يذكر في هذا الباب. ألا ترى أنا إذا حملنا لفظة بعدي على نبوتي أو بعد مسألتي أو ملكي، كان ذلك كله في حصول الفايدة به، يجري مجرى أن تحملها إلى بعد وصولي إلى الملك. فإن ذلك مما يقال فيه أيضا بعدي. ألا ترى أن القائل يقول دخلت الدار بعدي ووصلت إلى كذا وكذا بعدي، وإنما يريد بعد دخولي وبعد وصولي وهذا واضح بحمد الله.