آراء ونظريات الأشاعرة 2

 

9. نظرية الشعراني

    ب : إنّ الشيخ الشعراني ـ و هو من أقطاب الحديث والكلام في القرن العاشر ـ أحد من وقف على أنّ العقيدة بالكسب لا تفارق الجبر قدر شعرة ، فلأجل ذلك يقول : « اعلم يا أخي أنّ هذه المسألة من أدق مسائل الأُصول وأغمضها ، ولا يزيل أشكالها إلاّ الكشف الصوفي ، أمّا أرباب العقول من الفرق فهم تائهون في إدراكها ، وآراؤهم فيها مضطربة. إذ كان أبو الحسن الأشعري يقول : ليس للقدرة الحادثة ( قدرة العبد ) أثر ، وإنّما تعلّقها بالمقدور مثل تعلّق العلم بالمعلوم في عدم التأثير.

    وقد اعترض عليه بأنّ القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها سواء ، فإنّ قدرة لا يقع بها المقدور ، بمثابة العجز. ولقوة هذا الاعتراض لجأ أصحاب الأشعري إلى القول بالجبر. وقال آخرون : إنّ لها تأثيراً ما ، وهو اختيار الباقلاني ، لكنّه لما سئل عن كيفية هذا التأثير في حين التزامه باستقلال القدرة القديمة في خلق الأفعال ، لم يجد جواباً. وقال : إنّا نلتزم بالكشف لأنّه ثابت بالدليل ، غير أنّي لا يمكنني الإفصاح عنه بعبارة. وتمثّل الشيخ أبو طاهر بقول الشاعر :

   

إذا لم يكن إلاّالأسنة              مركباً فلا رأي للمضطر إلاّ ركوبها

 

    ثمّ قال : ملخّص الأمر : أنّ من زعم أنّه لا عمل للعبد ، فقد عاند ، ومن زعم أنّه مستبد بالعمل ، فقد أشرك; فلابدّ أنّه مضطر على الاختيار. (1)

    هذا ، وقد أحسن الشيخ في نقد الكسب. ولكن الاجالة إلى الكشف الصوفي إحالة إلى المجهول. أو إحالة إلى إدراك شخصي لا يكون حجّة للغير.

 

10. نظرية مفتي الديار المصرية

    « الإنسان يقدر فعله ويصدرها بقدرته المتكسبة ».

    ج. الشيخ محمد عبده ( 1266 ـ 1323هـ ) قد خالف الرأي العام عند الأشاعرة ، وصرح بتأثير قدرة العبد في فعله ، ولم يبال في ذلك بأحد من معاصريه ، ولا بأحد من رجال الأزهر الذين كانوا يرددون في ألسنتهم قول القائل :

   

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة                  فذاك كفر عند أهل الملة

 

    أقول : إنّ الشيخ الأزهري« عبده » كان يعيش في عصر رفعت فيه المادية الغربية عقيرتها ضد الإلهيين عامة والإسلاميين خاصة ، وشنّت حملة شعواء على عقائدهم. وكانت أرض مصر أوّل نقطة من الأراضي الإسلامية عانت من بث سموم المادية القادمة من الغرب مع احتلال

________________________________________

1 ـ اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر : للشعراني : 139 ـ 141.

________________________________________

(145)

    الفرنسيين لها بقيادة نابليون.

    كانت العقيدة الإسلامية في مصر تتجلّى في المذهب الأشعري ، وكان إنكار العلية والمعلولية والرابطة الطبيعية بين الطبائع وآثارها من أبرز سمات ذاك المذهب ، وكان التفوّه بخلافه آية الإلحاد والكفر ، وقد شن الماديون على هذه العقيدة أُمور ملأوا بها صحفهم وكتبهم ، منها :

    1. أنّ الإلهيين لا يعترفون بناموس العلية والمعلولية ، وينكرون الروابط الطبيعية بين الأشياء وآثارها ، مع أنّ العلم ـ بأساليبه التجريبية المختلفة يثبت ذلك بوضوح.

    2. أنّ الإلهيين يعترفون بعلّة واحدة وهي الله تعالى ، وهم يقيمونه مقام جميع العلل ، وينسبون كلّ ظاهرة مادية إليه سبحانه ، وأحياناً إلى العوالم العلوية التي يعبر عنها بالملك والجن والروح.

    3. أنّ الإلهيين ـ بسبب قولهم بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ـ لا يعتقدون بدور للإنسان في حياته وعيشه ، فهو مجبور في السير على الخط الذي يرسمه له خالقه ، ومكتوف الأيدي أمام تلاطم أمواج الحوادث ، فلأجل ذلك لا يؤثر في الإنسان شيء من الأساليب التربوية ولا يغيّره إلى حال.

    إلى غير ذلك من الإشكالات والمضاعفات والتوالي الفاسدة ، التي لا تقف عند حد.

    وقد وقف الشيخ على خطورة الموقف ، وأنّه ممّا يستحقّ أن يشتري بنفسه

 

________________________________________

(146)

    اللوم والذم ، بل الأمر الأشد من ذلك ، في سبيل إظهاره الحقيقة ، حتى يدفع الهجمات الشعواء عن وجه الإسلام والمسلمين بقوة ورصانة.

    نعم ، قد أثر في تفكير الشيخ عبده وأوجد فيه هذا الحافز والاندفاع عاملان كبيران ، كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكرية والفلسفية والاجتماعية والسياسية ، وهما :

    1. اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ).

    2. اتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسد آبادي ( 1254 ـ 1316هـ ).

    فعلى ضوء هذين العاملين ، خالف الرأي العام في كثير من الموارد ، ومنها أفعال العباد ، فقال في رسالة التوحيد التي كتبها عام 1303هـ للتدريس في المدارس الإسلامية في بيروت سنة إقصائه من مصر إلى بيروت ـ :

    « يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنّه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه ، ولا معلم يرشده ، كذلك يشهد أنّه مدرك لأعماله الاختيارية ، يزن نتائجها بعقله ويقدرها بإرادته ، ثمّ يصدرها بقدرة ما فيه ، ويعدّ إنكار شيء من ذلك مساوياً لإنكار وجوده في مجافاته لبداهة العقل.

    كما يشهد ذلك في نفسه يشهده أيضاً في بني نوعه كافة ، متى كانوا مثله في سلامة العقل والحواس ... وعلى ذلك قامت الشرائع ، وبه استقامت التكاليف ، ومن أنكر شيئاً منه فقد أنكر مكان الإيمان من نفسه ، وهو عقله الذي شرّفه الله بالخطاب في أوامره ونواهيه.

    أمّا البحث في ما وراء ذلك من التوفيق بين ما قام عليه الدليل من إحاطة علم الله وإرادته ، و بين ما تشهد به البداهة من عمل المختار في ما وقع عليه الاختيار ، فهو من طلب سر القدر الذي نهينا عن الخوض فيه ، و الاشتغال بما لا تكاد تصل العقول إليه. وقد خاض فيه الغالون من كلّ ملة ، خصوصاًمن المسيحيين والمسلمين ، ثمّ لم يزالوا بعد طول الجدال وقوفاً حيث ابتدأوا ، وغاية ما فعلوه أن فرّقوا وشتّتوا ، فمنهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله

 

________________________________________

(147)

    واستقلاله المطلق ، وهو غرور ظاهر (1) ، ومنهم من قال بالجبر وصرح به. ومنهم من قالبه و تبرّأ من اسمه. (2) وهو هدم للشريعة ، ومحو للتكاليف ، وإبطال لحكم العقل البديهي ، وهوعماد الإيمان.

    ودعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله يؤدّي إلى الإشراك باللهـ و هو الظلم العظيم ـ دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنّة ، فالإشراك اعتقاد أنّ لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة ، وأنّ لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين ، وهو اعتقاد من يعظم سوى الله مستعيناً به في مالا يقدر العبد عليه ...

    جاءت الشريعة لتقرير أمرين عظيمين ، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية :

    الأوّل : أنّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته.

    والثاني : أنّ قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات ، وأنّ من آثارها ما يحول بين العبد وإنفاذ ما يريده ، وأن لا شيء سوى الله يمكنه أن يمد العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.

    وقد كلّفه سبحانه أن يرفع هّمته إلى استمداد العون منه وحده ، بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر وإجادة العمل. وهذا الذي قررناه قد اهتدى إليه سلف الأُمّة ، فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأُمم ، وعوّل عليه من متأخّري أهل النظر إمام الحرمين الجويني ( رحمه الله ) ، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه. (3)

    ثمّ إنّ الركب بعد لم يقف ، وإنّ هناك لفيفاً من المفكّرين أدركوا مرارة القول بالجبر ، وأنّ القول بالكسب لا يسمن ولا يغني من جوع ، فرجعوا إلى القول بالأمر بين الأمرين ، وإن لم يصرحوا باسمه ، ونأتي في المقام بنصّ عالمين كبيرين من شيوخ الأزهر وعلمائه :

________________________________________

1 ـ يريد المعتزلة.

2 ـ يريد الأشاعرة.

3 ـ رسالة التوحيد : 59 ـ 62 بتلخيص.

________________________________________

(148)

11. الزرقاني وأفعال العباد

    د. وممّن اعترف بالحق ، الشيخ عبد العظيم الزرقاني قال :

    ولنقف برهة بجانب هذا المثال ، مثال خلق الأفعال ، ليتضح الحال ، ولنقيس عليه النظائر والأشباه عند الاختلاف والاشتباه ، ولنعلم أنّ المتخالفين في ذلك ما زالوا مع خلافهم ، إخواناً مسلمين ، تظلّهم راية القرآن ، ويضمّهم لواء الإسلام.

    في القرآن الكريم والسنّة النبوية نصوص كثيرة على أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء ، وأنّ مرجع كلّ شيء إليه وحده ، وأنّ هداية الخلق وضلالهم بيده سبحانه ، مثل قوله عزّوجلّ : اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيء*هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ اللّه يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ* وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ* وَإِليهِ يَرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ* مَنْ يشأ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشأ يَجْعَلْهُ عَلى صِراط مُسْتَقيم*وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ *ولَو شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمّةً واحِدة* وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كلُّهُمْ جَميعاً* وَلَوْ أَنّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمهُمُ المَوتى وَحَشَرنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيء قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله* إِنّا جَعَلنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفي آذانِهِمْ وَقْرا *وَجَعَلنا مِنْ بَيْنِ أَيدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ* سَواءٌ عَلَيهِمْ أَ أَنْذَرتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ*كَذلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّة عَمَلَهُمْ* فَمَنْ يرِد الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإِسلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماء*لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيء* وَما رَمَيْتَ إِذ رَمَيْتَ وَلكِنّ الله رَمى

    وكذلك يقول النبي :

    « إن أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كذا كان كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل » .

    ويقول : « الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ».

    و يقول : « يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك » إلى غير ذلك.

 

________________________________________

(149)

    هذه النصوص وأمثالها ، إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلاّ أن يرد الأُمور كلّها إلى الله معتقداً أنّه الواحد الأحد ، لا شريك له في ملكه ولا في ناحية من ملكه ، وهي أفعال التكليف من عباده ، وكأنّ نسبة الأفعال إلى العباد هي الأُخرى محض فضل من الله ، على حدّ ما قال ابن عطاء الله : من فضله وكرمه عليك ، أن خلق العمل ونسبه إليك.

    ويظاهر هذه الأدلّة النقلية أدلّة أُخرى عقلية ، ناطقة بوحدانية الله في كلّ شيء وبأنّ العبد لا يعقل أن يكون خالقاً لما اختاره من أفعاله ، لأنّه لو كان خالقاً لها لكان عالماً بتفاصيلها ، ولكنّه يشعر من نفسه بأنّه تصدر عنه أشياء كثيرة جداً من عمله الاختياري دون أن يعرف تفاصيلها ، كخطوات المشي وحركات المضغ في الأكل ونحوها. وإذاً فليس العبد هو الخالق لهاأَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ؟

    بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضاً من الكتاب والسنّة ، تنسب أعمال العباد إليهم ، وتعلن رضوان الله وحبه للمحسنين فيها ، كما تعلن غضبه وبغضه للمسيئين منهم من ذلك قوله سبحانه : مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها* إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها* أَمْ حَسِبَ الَّذينَ يَعْمَلُونَ السَّيئاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواء مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ* إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّهَ غَنِيٌّ عَنْكُُمْ وَلا يَرضَى لِعِبادِهِ الكُفْرِ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرضَهُ لَكُمْ* وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لي عَمَلي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَريئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَريءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ* قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْأَلُ عَمّا تَعْمَلُون*قُلْ يا قَومِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنّي عامِلٌ فَسَوفَ تَعَلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّار إِنّه لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ *وَمَاكانَ رَبُّكَ لِيُهِلكَ القُرى بِظُلْم وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ *وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِم الغَيْبِ والشَّهادَةِ فَيُنَّبِئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *وَتِلْكَ الجَنّة الّتي أُورِثْتُمُوها بِماكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

    وكذلك نقرأ في السنة النبوية : « اعملوا فكلُّ مُيَسَّر لما خلق له. بادروا

 

________________________________________

(150)

    بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، يا عباس بن عبد المطلب ، اعمل لا أُغني عنك من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت محمد ، اعملي لا أغني عنك من الله شيئاً ، إلى غير ذلك.

    وهذه نصوص إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلاّ أن يرد أعمال العباد الاختيارية إليهم ، معتقداً أنّهم لا يستحقّون ثوابها إن أحسنوا ، وعقابها إن أساءوا. ويظاهر هذه الأدلّة النقليّة أدلّة عقليّة أيضاً شاهدة بعدالة الله وحكمته ، لأنّ العبد لو لم يكن موجداً لما اختار من أعماله ، لما كان ثمة وجه لاستحقاقه المثوبة أو العقوبة. وكيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له ولم يصدر منه.

غيري جنى وأنا المعذّب فيكم           فكأنّني سبابة المتندم

    أهل السنة بهرتهم النصوص الأُولى والأدلّة العقلية التي بجانبها ، فرجّحوها وقالوا :

    إنّ العبد لا يخلق أفعال نفسه الاختيارية ، إنّما هي خلق الله وحده. وإذا قيل لهم : كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو؟ وكيف يتفق هذا و ما هو مقرر من عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه؟ قالوا : إنّ العباد ـ و إن لم يكونوا خالقين لأعمالهم ـ كاسبون لها. وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب. وبه يتحقق عدل الله وحكمته فيما شرع للمكلّفين.

    وهكذا حملوا النصوص الأُولى على الخلق ، وحملوا الثانية على الكسب ، جمعاً بين الأدلّة. ثمّ إذا قيل لهم : ما هذا الكسب؟ اختلف الأشعري والماتريدي في تحديده ، أهو مقارنة القدرة القديمة للحادثة أم هو العزم المصمّم؟ولكلّ وجهة نظر ، يطول شرحها وتوجيهها.

    أمّا المعتزلة فقد بهرتهم النصوص الثانية وما يظاهرها من برهان العقل ، فرجّحوها وقالوا :

    إنّ العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية. وإذا قيل لهم : أليس الله خالق كلّ شيء ومنها أعمال العبد؟

    قالوا : بلى إنّه خالق كلّ شيء حتى أعمال عباده

(151)

    الاختيارية ، بيد أنّه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة ، وأعمال المكلّفين من القبيل الثاني ، خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه ، وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلّق بكلّ من الطرفين. وليس لنا من حول ولا قوة سوى أنّنا استعملناها على أحد وجهيها ، إمّا بحسن الاختيار وإمّا بسوء الاختيار. ثمّ لا مانع عندنا من القول بأنّه سبحانه خالق لأفعال عباده ، ولكن على سبيل المجاز ، باعتبار أنّه خالق أسبابها ووسائلها.

    وإذا قيل لهم : إنّ مذهبكم يستلزم أن يكون لله شركاء كثيرون في فعله ، وهم عباده المكلّفون ، وهذا يناقض عقيدة التوحيد وبرهان الوحدانية.

    قالوا : لا نسلّم هذا ولا نقول به ، فإنّ الوحدانية ليس معناها نفي وجود ذوات أو صفات أو أفعال لغيره ، إنّما معناها نفي أن يكون لغيره شبه به في ذاته أو صفاته أو أفعاله. وأنتم يا أهل السنّة لا تمنعون وجود ذوات لا تشبه ذاته ، ولا تمنعون وجود صفات لا تشبه صفاته ، فلم تمنعون وجود أفعال من العباد لا تشبه أفعاله؟ وهو ما نقول به في خلق العباد لأعمالهم ، فإنّها لا تشبه أفعال الله بحال.

    هكذا تجد لكلتا الطائفتين وجهة نظر قوية وتأويلاً سائغاً فيما تؤوِّله من النصوص المقابلة للنصوص التي بهرتها فرجّحتها ، ونجد أيضاً أنّ كلتا الطائفتين لا تلتزم المحظور التي تحاول الأُخرى أن تلزمها إيّاه في مقام الحجاج والجدال ، بل توجه رأيها توجيهاً ينأى بها عن الوقوع في المحظور. ثمّ نجد كلتا الطائفتين يتلاقيان أخيراً بعد طول المطاف عند نقطة الاعتقادالسديد بوحدانية الله وحكمة الله ، ولكن على الوجه الذي استبان لها وراج عندها.

    فكيف يرضى منصف إذاً بتجريح إحداهما ورميها بأشنع التهم من كفر أو شرك أو هوى؟ وماذا علينا أن نرجّح ما نرجح من غير تسفيه للجانب الآخر؟ بل ماذا علينا أن نلوذ بالصمت ونعتصم بالسكوت فلا نخوض في أمثال هذه الدقائق العويصة ، والمسالك الملتوية البعيدة؟ لا سيما أنّ الرحمن الرّحيم لم يكلّفنا بها ولم يفرضها علينا.

 

________________________________________

(152)

    وقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية الله وعدله. ويؤمنون بقدره وأمره. ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص ، ويؤمنون بأنّ العبد يعمل ما يعمل وأنّ الله خالق كلّ شيء ، ويؤمنون بأنّه تعالى تنزّه في قدره عن أن يكون مغلوباً أو عاجزاً ، وتنزّه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالماً أو عابثاً. ثمّ بعد ذلك يصمتون فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة الله ، ونصيبه من قدرة العبد. ولا يتعرضون لبيان مدى ما يبلغ فعل الله في قدره ، ولا لبيان مدى ما يبلغ فعل العبد في أمثال أمره ، ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه ، لأنّهم لم يكلّفوه ، وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلّفهم إياه ، لأنّه من أسرار القدر أو يكاد ، والعقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد. ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه « وما أُوتيتم من العلم إلاّقليلاً ».

   

لم يمتحنا بما تعيا العقول به              حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهم (1)

 

12. الشيخ شلتوت وأفعال العباد

    هـ . إنّ الشيخ شلتوت أحد المجتهدين الأحرار في القرن الماضي ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، فإذا شاهد الحقّ أجهر به ، ولا يطلب رضى أحد ، ولا يخاف غضب آخر ، فهو ممّن اعترف بحرية الإنسان في مجال العمل ، قال :

    وقد تناول علماء الكلام في القديم والحديث هذه المسألة ، وعرفت عندهم بمسألة الهدى والضلال ، أو بمسألة الجبر والاختيار ، أو بمسألة خلق الأفعال ، وكان لهم فيها آراء فرقوا بها كلمة المسلمين ، وزلزلوا بها عقائد الموحدين العاملين ، وصرفوا الناس بنقاشهم في المذاهب والآراء عن العمل الذي طلبه الله من عباده ، وأخذوا يتقاذفون فيما بينهم بالإلحاد والزندقة ، والتكفير والتفسيق ، وما كان اللهـ و آيات بيّنات واضحات ـ ليقيم لهم وزناً فيما وقفوا عنده ، وداروا حوله ، ودفعوا الناس إليه.

________________________________________

1 ـ مناهل العرفان في علوم القرآن ، للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني : 1/506 ـ 511 ، والشعر من قصيدة البوصيري في مدح النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).

________________________________________

(153)

    وهذا فريق منهم يرى : أنّ العبد لا اختيار له في فعل ما ، وهو مجبور ظاهراً وباطناً ، فالهداية تلحقه بخلق الله ، والضلال يلحقه بخلق الله ، دون أن يكون له دخل ما في هدايته أو ضلاله ، لا ابتداءً ولا جزاءً. وهذا رأي يناقض صريح ما جاء في القرآن من نسبة الأعمال إلى العباد ، ومن التصريح بأنّ الجزاء ثواباً أو عقاباً إنّما يكون بالأعمال الصادرة من العباد ، وهي أكثر من أن تحصى ، وهو بعد ذلك يصادم الشعور والوجدان الذي يجده كلّ إنسان من نفسه حينما يفكّر وحينما يتجه ويعزم ، وحينما يفعل ، وهو مع كلّ هذا ، ينقض قاعدة التكليف ، وهي اختبار المكلّف ، وقاعدة العدالة ، وهي السّيئة بالسّيئة ، والحسنة بالحسنة.

    وهذا فريق آخر يرى : أنّ الله يخلق الضلال في العبد ابتداءً واستمراراً ، وليس للعبد قدرة على فعل ما ، أو ليس لقدرته تأثير في فعل ما ، وحينما رأوا نتائج الرأي السابق تلزمهم ، انتحلوا للتخلص منها شيئاً سمّوه كسباً ، وصحّحوا به في نظرهم قاعدة التكليف ، وقاعدة العدالة ، ونسبة الأفعال ، وحاصل معنى هذا الكسب هو الاقتران العادي بين الفعل والقدرة الحادثة ، أي إنّ الله يخلق الفعل عند قدرة العبد لا بها ، كما يقولون ، وبهذه المقارنة نسب الفعل إلى العبد ، وكلّف بالفعل ، وسئل عنه ، وجوزي عليه. ولا ريب أنّ تفسير الكسب بهذا لا يتفق واللغة ، ولا يتفق واستعمال القرآن لكلمة « كسب » على أنّه بهذا المعنى الذي يريدون ، لا يصحح قاعدة التكليف ، ولا قاعدة العدالة والمسؤولية ، لأنّ هذه المقارنة الحاصلة بخلق الله للفعل عند قدرة العبد ، ليست من مقدور العبد ولا من فعله حتى ينسب الفعل بها إليه ، ويجازى عليه ، والفعل كما يقارن القدرة ، يقارن السمع والبصر والعلم ، فأيّ مزية للقدرة بهذه المقارنة في نسبة الأفعال إلى العبد؟

    وبذلك يكون العبد في واقع أمره مجبوراً لا اختيار له ، وقد قال بعض العلماء : إنّ كسب الأشعري وطفرة النظام ، وأحوال أبي هاشم ، ثلاثتها من محاولات الكلام.

    وهذا فريق ثالث يرى : أنّ العبد يفعل بإرادته وقدرته الّلتين منحهما الله ابتداءً واستمراراً في دائرة ابتلائه وتكليفه ، ويفصل آخرون بين الضلال ابتداء

 

________________________________________

(154)

    فينسبه إلى العبد ، والضلال استمراراً فينسبه إلى الله إضلالاً منه للعبد ، جزاءً على ضلاله ، فهناك في رأيهم زيغ من العبد باختياره ، ثمّ إزاغة من الله عقوبةً له على ذلك الزيغ ، هناك انصراف من العبد عن الحقّ ، ثمّ صرف من الله للعبد جزاء هذا الانصراف.

    والذي نراه كما قلنا أنّ للعبد قدرة وإرادة ولم يخلقهما الله فيه عبثاً ، بل خلقهما ليكونا مناط التكليف ومناط الجزاء وأساس نسبة الأفعال إلى العبد نسبة حقيقية ، والله يترك عبده وما يختار لنفسه ، فإن اختار الخير تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه ، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه; وإن اختار الشر ، تركه فيه يدعوه سابقه إلى لاحقه ، ولا يمنعه بقدرته الإلهية عن استمراره فيه ، والعبد وقدرته واختياره كلّ ذلك بمشيئة الله وقدرته وتحت قهره ، ولو شاء لسلب قوة الخير فكان العبد شراً بطبعه لا خير فيه ، ولو شاء لسلبه قوة الشر فكان خيراً بطبعه لا شر فيه ، ولكن حكمته الإلهية في التكليف والابتلاء ، قضت بما رسم ، وكان فضل الله على الناس عظيماً.

    ومن هنا يتبيّن أنّ العبد ليس مجبوراً ، لا ظاهراً ولا باطناً ، ولا مجزياً على ضلاله بإضلال الله إيّاه ، فإنّ هذا أمر تأباه حكمة الحكيم وعدل العادل ، وتمنع تصوّره.

 

________________________________________

(155)

القضاء والقدر ليس معناهما الإلزام

    وبهذا يكون المؤمنون عمليّين ، لا يعتذر الواحد منهم عن تقصير في واجب بالقضاء والقدر ، فليس في القضاء والقدر إلاّ العدل المطلق ، والحكمة الشاملة العامة ، ليس فيهما إلاّ الحكم والترتيب ، وربط الأسباب بالمسبّبات على سنّة دائمة مطّردة ، هي أصل الخلق كلّه ، وهي أساس الشرائع كلّها ، وهي أساس الحساب والجزاء عند الله ، وليس فيهما شيء من معاني الإكراه والإلزام. وإنّما معناهما الحكم والترتيب ، فقضى : حكم وأمر ، وقدر : رتب ونظم ، وعلم الله بما سيكون من العبد باختياره وطوعهـ شأن المحيط علمه بكلّ شيء ـ ليس فيه معنى إلزام العبد بما علم الله أنّه سيكون منه ، وإنّما هو

    العلم الكامل الذي لا يقصر عن شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا فيما كان و ما يكون. (1)

    ثمّ إنّ القول بالقدر السالب للاختيار من الإنسان والسائد على قدرته ومشيئته سبحانه ممّا جعل ذريعة للطعن على الشريعة ، وقد جاء الطعن لبعض المعتزلة في ما أنشأه و قال :

   

أيا علماءَ الدين ذِمِّيُّ دينكمإذا ما قضى ربي بكفري بزعمكمدعاني و سد الباب عني فهل إلىقضى بضلالي ثمّ قال أرض بالقضافإن كنت بالمقضيّ يا قوم راضياًوهل لي رضى ما ليس يرضاه سيدي؟إذا شاء ربّي الكفر مني مشيئةوهل لي اختيار أن أخالف حكمه                  تحيّر ، دلّوه بأوضح حجةولم يرض منّي فما وجه حيلتي؟دخولي سبيل بيّنوا لي قضيتيفها أنا راض بالذي فيه شقوتي!فربي لا يرضى لشؤم بليتيوقد جرت دلّوني على كشف حيرتيفها أنا راض باتّباع المشيئةفبالله فاشفعوا بالبراهين حجّتي (2)

    وقد مال يميناً و شمالاً كلّ من فسر القضاء والقدر بسلب الاختيار حتى يجيبوا عن شبهة هذا المتظاهر بالذمية ، وقد أجاب عنه علاء الدين الباجي بنظمه و قال :

   

فكن راضياً نفس القضاء ولا تكن                 بمقضي كفر راضياً ذا خطيئة

    وحاصل هذا الجواب ، أنّ الواجب الرضا بالتقدير لا بالمقدر ، وكلّ تقدير يرضى به لكونه من قبيل الحقّ ، ثمّ المقدور وينقسم إلى ما يجب الرضى به كالإيمان ، وإلى ما يحرم الرضى به كالكفر ، إلى غير ذلك.

    وأنت خبير بأنّ هذا الجواب لا يسمن ولا يغني من جوع ، إذ أي معنى للتفريق بين القدر و المقدر؟! فإنّ التقدير لو كان سالباً للاختيار فالرضى بالتقدير رضى بالمقدر أيضاً.

________________________________________

1 ـ تفسير القرآن الكريم ، للأُستاذ الشيخ شلتوت : 240 ـ 242.

2 ـ طبقات الشافعية : 10/352 ، والقائل أنشأ الشعر من جانب الذمّي لئلاّ يؤخذ به ، ويقتل بسيف القضاء.

________________________________________

(156)

    وقد كان الشيخ محمد عبده يعاني من القشريّين المتعبّدين بظواهر الكلم والجمل ، الذين عطّلوا عقولهم وفتحوا عيونهم على ظواهر الكتاب والسنّة فهؤلاء كانوا ألدّ الأعداء لرجال الإصلاح والنهضة العلمية في مصر ، وفيهم يقول الشيخ محمد عبده في أُخريات عمره :

   

ولست أُبالي أن يقال محمّدولكنّ ديناً قد أردت صلاحهفيا رب إن قدرت رجعي سريعةًفبارك على الإسلام وارزقه مرشداً                   أبل أم التظت عليه الم آتمأحاذر أن يقضي عليه العمائمإلى عالم الأرواح وانفض خاتمرشيداً يضيء النهج والليل قاتم

خاتمة المطاف

    إنّ شيخ الشيعة الحسن بن المطهر المعروف بالعلاّمة الحلّي ( 648 ـ 726هـ ) ردّ على القول بأنّ العبد لا تأثير له في أفعاله ، بأنّه يستلزم أشياء شنيعة ، ولما وقف ابن تيمية على كتابه ، ورأى إتقان الاستدلال ، رد عليه بأنّ جمهور أهل السنّة المثبتين للقدر ، لا يقولون بما ذكره ، بل جمهورهم يقولون بأنّ العبد فاعل حقيقة ، وأنّ له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية ، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دلّ عليه العقل من أنّ الله تعالى يخلق السحاب بالرياح ، وينزل الماء بالسحاب وينبت النبات بالماء ، ولا يقولون بأنّ قوى الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها ، بل يقرّون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعنى.

    ولكن هذا القول الذي حكاه هو ( العلاّمة الحلّي ) قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى الطبائع ويقولون : إنّ الله فعل عندها لا بها ، ويقولون : إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل ، وأبلغ من ذلك قول الأشعري بأنّ الله فاعل فعل العبد ، وأنّ عمل العبد ليس فعلاً للعبد ، بل كسب له ، وإنّما هو فعل الله ، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف على خلاف ذلك ، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة. (1)

________________________________________

1 ـ منهاج السنّة : 1/266.

________________________________________

(157)

    أقول : إنّ الإمام في العقائد لدى أهل السنّة ، وهو الإمام أحمد ، وبعده الإمام الأشعري ، والمفروض أنّهم لا يقولون بعدم تأثير قدرة العبد في فعله ، ومعه : كيف يمكن أن ينسب إلى أهل السنّة غيره؟!

    والحقّ أنّ ابن تيمية من رماة القول على عواهنه فيقضي ويبرم وينقض بلا مصدر صحيح ، وسيوافيك نبذ من جزافاته في الجزء الرابع من هذه الموسوعة ، عند البحث عن عقائد الوهابية.

 

نظرية الكسب بين مراحل التفسير والتطور والإنكار

    لقد وقفت على نصوص أعلام الأشاعرة حول نظرية الكسب ، وحتى نصّ الأشعري فيها. والتدبر فيما نقلناه يعرب عن أنّ هذه النظرية ـ لأجل إحاطة الإبهام بها ووجود الغموض فيها ـ مضت عليها مراحل ثلاث :

    1. مرحلة التبيين والتفسير.

    2. مرحلة التطور والتكامل.

    3. مرحلة الإنكار والإبطال.

    وهذه المراحل وإن لم تتكون حسب الترتيب الزمني ، ولكنّها تكونت طيلة قرون تنوف على عشرة.

    أمّا المرحلة الأُولى فقد تكونت بفكرة الغزالي أوّلاً ، والتفتازاني ثانياً. فقام الأوّل بتفسيرها ب ـ « صدور الفعل من الله عند إيجاد القدرة في العبد » ، كما أنّ الثاني فسرها ب ـ « توجه قدرة العبد صوب الفعل عند صدوره من الله ».

    فهذان التفسيران لم يزيدا في بناء النظرية شيئاً إلاّ إلقاء الضوء عليها ، وتصويرها بشكل قابل للتصوّر.

    أمّا المرحلة الثانية ـ أعني : مرحلة التطوّر ـ فقد حصلت باعتراف القاضي الباقلاني بتأثير قدرة العبد في ترتب العناوين على الفعل ، من الطاعة والعصيان

 

________________________________________

(158)

    وغيرهما ، بعد ما لم يكن الأشعري ومن قبله أو بعده معترفين بأي تأثير لها في فعله.

    ولم يكن التطوير خاصاً به ، بل يشاركه فيه بنحو آخر ابن الهمام صاحب المسايرة ، حيث قام بتخصيص القاعدة بخروج العزم عنها ، وأنّه مخلوق لقدرة العبد وليس مخلوقاً لله سبحانه.

    ولا يقصر عنه في التطوير ، نظرية ابن الخطيب ، حيث اعترف بشأنية قدرة العبد وقابليته للتأثير لولا قدرة الله سبحانه العليا ، فلأجل ذلك صارت مغلوبة لقدرته.

    أمّا المرحلة الثالثة ـ أعني : مرحلة الإنكار والإبطال ـ فقد عرفتها من الفحل المقدام إمام الحرمين في القرن الخامس ، والمصلح المصري الشيخ محمد عبده ، والزرقاني ، والشيخ شلتوت ، ولعلّ هنا من جهر بالحقّ وأصحر به ولم نقف عليه.

 

القرآن وخلق الأفعال

    استدلّ الشيخ الأشعري على ما يتبنّاه من كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه بالأدلّة العقلية تارة ، والنقلية أُخرى.

    أمّا الأُولى فقد مضت مع ما علّقنا عليها من الملاحظات ، وأمّا الثانية فقد استدلّ عليها في كتاب « الإبانة » بآيتين :

    الأُولى : قوله سبحانه : أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَالله خَلَقَكُمْ وَماتَعْمَلُونَ. (1)

    الثانية : قوله سبحانه : هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ . (2)

________________________________________

1 ـ الصافات : 95 ـ 96.

2 ـ فاطر : 3.

________________________________________

(159)

    يلاحظ على الاستدلال بالآية الأُولى بأُمور :

    أوّلا : أنّ الاستدلال مبني على كون « ما » في قوله سبحانه وما تعملونمصدرية ، وأنّ معنى الآية : والله خلقكم وعملكم ، وليست بموصولة حتى يكون معنى الآية والله خلقكم وخلق الذي تعملونه من الأصنام ، كقوله سبحانه : بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمواتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ. (1)

    ولكن الظاهر من الآية هو الثاني لا الأوّل ، بقرينة قوله : أَتعبُدون ماتَنحِتُونوهي فيها موصولة بلا إشكال ، فتكون قرينة على المراد في الآية الثانية ، إذ ليس « ماتعملون »إلاّ ترجمة لقوله « ما تنحتون » ولا يصار إلى التفكيك إلاّ بدليل قاطع.

    وإنّما ذهب من ذهب إلى أنّ « ما » مصدرية ، وأنّ المراد « عملكم » لأجل رأي مسبق ومحاولة يطلب الدليل عليها ، ولولاها لما قال به.

    فعلى المختار يكون معنى الآية : أتعبدون الأصنام التي تنحتونها والله خلقكم أيّها العبدة والأصنام التي تعملونها ، وبذلك يكون الربط بين الآيتين محفوظاً ، بخلافه على القول الآخر.

    إذ عليه تفقد الآية الثانية صلتها بالأُولى ، ويكون مفاد الآيتين : أتعبدون الأصنام التي تنحتون ، والله خلقكم وأعمالكم وأفعالكم ، وإن لم يكن للعمل صلة بعبادة ما ينحتوته.

    ثانياً : إنّ الخليل ( عليه السَّلام ) عندما أدلى بمفاد الآيتين كان في مقام الاحتجاج على عبدة الأصنام ، ولا يصحّ الاحتجاج إلاّ باتّخاذ« ما » موصولة كناية عن الأصنام المنحوتة ، فكأنّه قال : « إنّ العابد والمعبود مخلوقان لله ، فكيف يعبد المخلوق مخلوقاً مثله؟ » على أنّ العابد هو الذي عمل صورته وشكله ، ولولاه لما قدر أن يصوّر نفسه ويشكلها. ولكن لو كان مفاد الآية : « والله خلقكم وخلق عملكم » لم يصحّ الاحتجاج به على العبدة ولم ينطبق على المقام.

________________________________________

1 ـ الأنبياء : 56.

________________________________________

(160)

    ثالثاً : لو كانت مصدرية لتمّت الحجة صالح الخليل ولانقلبت عليه. إذا عندئذ ينفتح لهم باب العذر ، بحجّة أنّه لو كان هو الخالق لأعمالنا فلا جهة للتوبيخ والتنديد.

    كلّ هذه الوجوه توضح أنّ المراد : أنّ الله خلق الإنسان وخلق الأصنام التي يعملها الإنسان ، أي يصوّرها ويشكلها. وعندئذ لا صلة له بما يدّعيه الأشعري.

    أمّا الآية الثانية فلا شكّ أنّها صريحة في حصر الخالقية بالله سبحانه وكم لها من نظير في القرآن. قال سبحانه : قُلِ الله خالِقُ كُلُّ شَيء وَهُوَ الواحِدُ القَهّار ) (1)وقال عزّ من قائل : اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْء وَكيل (2) وقال تعالى : ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيء لا إِلهَ إِلاّ هُوَ (3) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في قصر الخالقية على الله. (4)

    غير أنّ الذي يهم القارئ الكريم هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات ، فإنّ لهذا القسم من الآيات احتمالين لا يتعيّن أي منهما إلاّ باعتضاده بالآيات الأُخرى ، ودونك الاحتمالين :

    الأوّل : حصر الخلق والإيجاد على الإطلاق بالله سبحانه ، وأنّه ليس في صفحة الوجود مؤثر وموجد وخالق إلاّ الله سبحانه ، وأمّا غيره فليس بمؤثر ولا خالق ، لا على وجه الاستقلال ولا على وجه التبعية ، وعلى ذلك فما ترى من الآثار للظواهر الطبيعية فكلّها مفاضة منه سبحانه مباشرة ، من دون أن يكون هناك رابطة بين الظاهرة المادية وآثارها ، فالنار بمعنى أنّه جرت سنّة الله سبحانه على أن يوجد الحرارة عند وجود النار مباشرة ، من دون أن يكون هناك رابطة سببية ومسببية بينها و بين أثرها ، وكذلك الشمس مضيئة والقمر منير ، بمعنى أنّه جرت عادة الله سبحانه على إيجاد الضوء والنور مباشرة ، عقيب وجود الشمس

________________________________________

1 ـ الرعد : 16.

2 ـ الزمر : 62.

3 ـ غافر : 62.

4 ـ لاحظ : الأنعام101 ـ 102; الحشر : 24; الأعراف : 54.

(161)

    والقمر ، من دون أن يكون هناك نظام وقانون تكويني باسم العلية والمعلولية ، ويكون صلتهما بالشمس والقمر كصلتهما بغيرهما. وعلى ذلك فليس في صفحة الكون إلاّ علّة واحدة ومؤثر فارد يؤثر بقدرته وسلطانه في كلّ الأشياء ، من دون أن يجري قدرته ويظهر سلطانه عن طريق الأسباب والمسببات. فهو سبحانه بنفسه ، قائم مقام جميع العلل والأسباب التي كشف عنها العلم طيلة قرون.

    هذا ما يتبنّاه الأشعري وأتباعه ناسبين إيّاه إلى أهل السنّة والجماعة عامّة ، وكانت الأكثرية الساحقة من المسلمين لا يقيمون للعلل الطبيعية والأبحاث العلمية وزناً. فعامل الحمى في المريض هو الله سبحانه ، وليس للجراثيم دور في ظهورها فيه. ومثله سائر الظواهر الطبيعية من نمو الأشجار ، وتفتح الأزهار ، وغناء الطيور ، وجريان السيول ، وحركة الرياح ، وهطول الأمطار ، وغير ذلك. فالكلّ مخلوق له سبحانه بلا واسطةوبلا تسبيب من الأسباب.

    ولكن هذا المعنى محجوج بنفس القرآن الكريم ، مضافاً إلى أنّ الأدلة العقلية والعلمية لا توافقه أبداً ، ونكتفي بالقليل من الكثير من الآيات الكافية لإبطال هذه النظرية.

    إنّ الآيات القرآنية تعترف بوضوح بقانون العلية والمعلولية بين الظواهر الطبيعية ، وتسند الآثار إلى موضوعاتها ـ و في الوقت نفسه تسندها إلى الله سبحانه ـ حتى لا يغتر القارئ بأنّ آثار الموضوعات متحقّقة من تلقاء نفسها.

    قال سبحانه : وَأَنزَلَ مِنَ السَّماءِماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزقاً لَكُمْ. (1)

    وقال عزّ من قائل : أَوَ لَمْ يَرَوا أَنّا نَسُوقُ الماءَ إِلى الأَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بهِِ زَرعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ . (2)

    فالكتاب العزيز يصرّح في هاتين الآيتين بجلاء بتأثير الماء في الزرع ، إذ إنّ الباء في « به » في الموردين بمعنى السببية ، وأوضح منهما قوله سبحانه : وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْناب وَزَرْعٌ وَنَخيلٌ صِنْوانٌ

________________________________________

1 ـ البقرة : 22.

2 ـ السجدة : 27.

________________________________________

(162)

وَغَيْرُ صِنْوان يُسقَى بِماء واحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَها على بَعْض في الأُكُلِ إِنَّ في ذلِكَ لآيات لِقَوم يَعْقِلُونَ (1). فإنّ جملة يسقى بماء واحد كاشفة عن دور الماء وتأثيره في إنبات النباتات ونمو الأشجار ، ومع ذلك يتفضّل بعض الثمار على بعض.

    ومن أمعن النظر في القرآن الكريم يقف على أنّه كيف يبيّن المقدّمات الطبيعية لنزول الثلج والمطر من السماء ، من قبل أن يعرفها العلم الحديث ، ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدّماتها ، يتضح ذلك بدراسة الآيتين التاليتين :

    1. اللّهُ الّذي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فِإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. (2)

    فقوله سبحانه : فتثير سحاباً صريح في أنّ الرياح تحرّك السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر ، والإمعان في مجموع جمل الآية يهدينا إلى نظرية القرآن في تأثير العلل الطبيعية بإذن الله تعالى. فقد جاء في هذه الآية الأُمور التالية ناسباً بعض الأُمور إلى الظواهر الطبيعية ، وبعضها الآخر إلى الله سبحانه :

    1. تأثير الرياح في نزول المطر.

    2.تأثير الرياح في تحريك السحب.

    3. الله سبحانه يبسط السحاب في السماء.

    4. تجمع السحب بعد هذه الأُمور على شكلّ قطع متراكمة مقدمة لنزول المطر من خلالها.

    فالناظر في هذه الآية ، والآية الثانية يذعن بأنّ نزول المطر من السماء إلى

________________________________________

1 ـ الرعد : 4.

2 ـ الروم : 48.

________________________________________

(163 )

    الأرض رهن بأسباب وعلل ومؤثرات بإذن الله سبحانه ، فلهذه العلل دور في حدوث الظاهرة ( المطر ) كما أنّه له سبحانه و تعالى دوراً وراء هذه الأسباب وهي جنوده والأسباب التي خلقها وأعطى لها السببية ، مظاهر قدرته ومجالي إرادته.

    2.أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزجي سَحاباً ثُمَّ يُؤلّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَترى الوَدْقَ يَخرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبال فِيها مِنْ بَرَد فَيُصيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأَبْصارِ. (1)

    فالآية الأُولى تسند حركة السحاب إلى الرياح وتقول : فتثير سحاباوهذه الآية تسندها إلى الله سبحانه وتقول : أنّ الله يزجي سحابا وما هذا إلاّ لأنّ الرياح جند من جنوده ، وسبب من أسبابه التي تعلقّت مشيئته على إنزال الفيض عن طريقها ، وفعلها فعله ، والكلّ قائم به قيام الممكن بالواجب ، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي.

    وليست الآيات الدالة على توسيط الأسباب والعلل في تكون الأشياء وتحقّقها منحصرة بما ذكرناه. بل هناك آيات كثيرة نأتي بالنزر اليسير من الكثير المتوفر.

    3. وَتَرَى الأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوج بَهيج . (2)

    فالآية تصرح بتأثير الماء في اهتزاز الأرض وربوتها ، ثمّ تصرح بأنّ الأرض تنبت من كلّ زوج بهيج.

    وبعبارة أُخرى : الآية تصرح بوجود الرابطة الطبيعية بين نزول الماء على الأرض واهتزازها وربوتهاوانتفاخها ، ولولا تلك الرابطة لما صحّ جعل الاهتزاز والربوة جزاءً لنزول الماء. وحمل قوله تعالى « وأنبتت » على المجاز ، وجعل الأرض ظرفاً للإنبات فقط قائلاً بأنّ الله هو المنبت بلا توسيط الأسباب ، تأويل بلا وجه ولا يساعده ظاهر اللفظ ، بل هو ظاهر في أنّ الإنبات فعل للأرض

________________________________________

1 ـ النور : 43.

2 ـ الحج : 5.

________________________________________

(164)

    بضميمة عوامل وأسباب شتى ، والكل يعمل لا استقلالاً بل بإذنه ومشيئته سبحانه.

    4. مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيل اللّهِ كَمَثَلِ حَبّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَة مائة حَبّة وَاللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللّه واسِعٌ عَليمٌ . (1)

    فالآية تسند إلى الحب ، إنبات سبع سنابل ، و حمله على المجاز ـ بتصور أنّ الحبّ ظرف ، ومحل لفعله سبحانه ـ تأويل لأجل رأي مسبق من غير دليل.

    فالله سبحانه يسند الإنبات في هذه الآيات إلى الأرض والحبة ، ولكنّهـ في الوقت نفسهـ يسند نفس ذلك الفعل إلى ذاته و يقول : وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنَا بهِِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَة ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ءَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ بَلْ هُمْ قَومٌ يَعْدِلُونَ. (2)

    ويقول سبحانه : وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوج كَريم . (3)

    ولا تعارض ولا اختلاف بين الآيات في جميع هذه المجالات ، إذ الفعل فعل الله سبحانه بما أنّه منشىء الكون وموجده ومسبب الأسباب ومكوّنها ، كما هو فعل السبب لصلة بينه و بين آثاره. والأسباب والعلل على مراتبها مخلوقات لله مؤثرات بإذنه.

    5. خَلَقَ السَّمواتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَونَها وَأَلْقى فِي الأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَميدَ بِكُمْ (4).أي جعل على ظهر الأرض ثوابت الجبال لئلا تضطرب بكم. فقد نسب صيانة الإنسان عن الاضطراب إلى نفسه ، حيث قال : وَأَلقى وإلى سببه حيث قال : رواسي أن تميد والكل يهدف إلى أمر واحد ، وهو الذي ورد في الآية التالية ويقول : هذا خَلْقُ الله فَأَرُوني ما ذا خَلَقَ الَّذينَ مِنْ

________________________________________

1 ـ البقرة : 261.

2 ـ النمل : 60.

3 ـ لقمان : 10.

4 ـ لقمان : 10.

________________________________________

(165)

دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ في ضَلال مُبين ) (1) ، أي هذا الذي تشاهدونه في السماء والأرض وما بينهما من الأسباب والمسببات جميعه مخلوق لله ، والأسباب جنوده ، والآثار آثار للسبب والمسبب ( بالكسر ) ، كلّ على جهة خاصة.

    فمن وقف على مجموعة كبيرة من الآيات في هذا المجال لم يشك في أنّ القرآن يعترف بقانون السببية بين الأشياء وآثارها ، وإنهاء كلّ الكون إلى ذاته تبارك و تعالى. فلا يصحّ عندئذ حصرُ الخالقية والعلّية المطلقة ، الأعم من الأصلي والتبعي في الله سبحانه ، وتصوير غيره من الأسباب أُموراً عاطلة غير مفيدة لشيء يتوقّع منها.

    إلى هنا تبيّن عدم صحّة ما عليه الأشاعرة وأهل الحديث من حصر الخالقية في الله بالمعنى الذي يتبنّونه.

    نعم هناك معنى آخر لحصر الخالقية في الله سبحانه و نفيه عن غيره بالمعنى الذي يناسب شأنه ، وهذا هو الذي يثبته العقل ، ويصرح به القرآن ، وتؤيّده الأبحاث العلمية في جميع الحضارات ، وهذا هو الذي نبيّنه في المعنى الثاني لحصر الخالقية.

    الثاني (2) : إنّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات ، غير المعتمدة على شيء منحصرة بالله سبحانه ، ولكن غيره يقوم بأمر الخلق والإيجاد بتقديرة وقضائه ، وتسبيبه ومشيئته ، ويعدّ الكلّ جنوداً لله سبحانه يعملون بأمره ، وإليك توضيح ذلك :

    لا يشكّ المتأمل في الذكر الحكيم في أنّه كثيراً ما يسند آثاراً إلى الموضوعات الخارجية والأشياء الواقعة في دار الوجود ، كالسماء وكواكبها ونجومها ، والأرض وجبالها ، وبحرها وبرها ، وعناصرها ومعادنها ، والسحب والرعد والبرق والصواعق ، والماء والنجم والشجر ، والحيوان والإنسان ، إلى غير ذلك من الأشياء الواردة في القرآن الكريم. فمن أنكر

________________________________________

1 ـ لقمان : 11.

2 ـ تقدّم المعنى الأوّل في ص 160.

________________________________________

(166)

    إسناد القرآن آثار هذه الأشياء إلى نفسها ، فإنّما ينكره باللسان وقلبه معتقد بخلافه ، وقد ذكرنا نزراً يسيراً من هذه الآيات ، خصوصاً ما يرجع منها إلى نزول المطر من السماء إلى الأرض ، فلا يصحّ لأحد أن ينكر دور تفاعلات المادة وانفعالاتها في الجو في نزوله. هذا من جانب.

    ومن جانب آخر ، إنّ القرآن يسند إلى الإنسان أفعالاً لا تقوم إلاّ به ، ولا يصحّ إسناده إلى الله سبحانه بلا واسطة ، وبلا مباشرة الإنسان ، كأكله وشربه ومشيه وقعوده ونموه وفهمه ، وشعوره وسروره. فهذه أفعال قائمة بالإنسان مستندة إليه ، فهو الذي يأكل ويشرب ، وينمو ويفهم.

    ومن جانب ثالث : إنّ الله سبحانه يأمره أمر إلزام ، وينهاه نهي تحريم ، فيجزيه بالطاعة ، ويعاقبه بالمعصية ، فلولا أنّ للإنسان دوراً في ذلك المجال وتأثيراً في الطاعة والعصيان ، فما هي الغاية من الأمر والنهي ، وما معنى الجزاء والعقوبة;!

    فهذه الآيات إذا قورنت إلى قوله سبحانه : قُلِ الله خالِقُ كُلّ شَيْء وَهُوَ الْواحِدُ القَهّار ) (1) الذي يدلّ على بسط فاعليته وعلّيته على كلّ شيء ، يستنتج منه أنّ النظام الإمكاني على اختلاف هوياته وأنواعه ، فعّال بأفعاله ، مؤثر في آثاره بتنفيذ من الله سبحانه ، وتقدير منه ، وهو القائل سبحانه :الّذي أَعْطى كُلّ شَيْء خَلَقَهُ ثُمَّ هَدى ) (2) وقال تعالى : وَالّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3)وفي الوقت نفسه تنتهي وجودات هذه الأشياء وأعمالها وآثارها وحركاتها وسكناتها إلى قضائه وتقديره وهدايته.

    فعلى هذا ، فالأشياء في جواهرها وذواتها ، وحدود وجودها وخصوصياتها تنتهي إلى الخلقة الإلهية ، كما أنّ أفعالها التي تصدر عنها في ظل الخصوصيات ، تنتهي إليه أيضاً ، وليس العالم ومجموع الكون إلاّ مجموعة متوحدة يتصل بعضها ببعض ، ويتلاءم بعضها مع بعض ، ويؤثر بعضها في بعض ، والله سبحانه وراء

________________________________________

1 ـ الرعد : 16.

2 ـ طه : 50.

3 ـ الأعلى : 3.

________________________________________

(167)

    هذا النظام ومعه وبعده ، لا خالق ولا مدبر حقيقة وبالأصالة إلاّ هو ، كما لا حول ولا قوّة إلاّ بالله.

اختلاف الأشياء في قبول الوجود

    يقول صدر المتألّهين : « إنّ الأشياء في قبول الوجود من المبدأ متفاوتة ، فبعضها لا يقبل الوجود إلاّ بعد وجود الآخر ، كالعرض الذي لا يمكن وجوده إلاّ بعد وجود الجوهر ، فقدرته على غاية الكمال ، يفيض الوجود على الممكنات على ترتيب ونظام ، بعضها صادرة عنه بلا سبب ، وبعضها بسبب واحد أو أسباب كثيرة ، فلا يدخل مثل ذلك في الوجود إلاّ بعد سبق أُمور هي أسباب وجوده ، وهو مسبب الأسباب من غير سبب ، وليس ذلك لنقصان في القدرة ، بل لنقصان في القابلية ، وعدم قبوله الوجود إلاّ في طريق الأسباب ، وإذا أردت التمثيل وتبيين نسبة أفعالنا إلى الله سبحانه فعليك بالكتاب النفسي ، والتأمّل في الأفعال الصادرة عن قواها ، فقد خلقها الله تعالى مثالاً ذاتاً وصفة وفعلاً ، لذاته وصفاته وأفعاله ، واتل قوله تعالى : وَفي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (1) وقول رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » فإنّ فعل كلّ حاسة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة ، هو فعل النفس أيضاً ، إذ الإبصار مثلاً فعل الباصرة. لأنّه إحضار الصورة المبصرة أو انفعال البصر بها ، وكذلك السماع مثل السمع لأنّه إحضار الهيئة المسموعة ، أو انفعال السمع بها ، فلا يمكن شيء منهما إلاّ بانفعال جسماني ، وفي الوقت نفسه هما فعل النفس بلا شكّ لأنّها السميعة البصيرة بالحقيقة ، وذلك لا بمعنى أنّ النفس تستخدم القوى كما يستخدم كاتب أو نقاش ، فإنّ مستخدم البناء لا يلزم أن يكون بناءً ، ومستخدم الكاتب لا يلزم كونه كاتباً ، مع أنّا إذا راجعنا وجداننا نجد نفوسنا ، هي بعينها المدركة والبصيرة والسميعةوهكذا الا (2)مر في سائر القوى ».

________________________________________

1 ـ الذاريات : 21.

2 ـ الأسفار : 6/377 ـ 378.

________________________________________

(168)

    وإلى ذلك يشير في الحديث القدسي : « يابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ، وبقوتي أدّيت إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعاً بصيراً قوياً ». (1)

________________________________________

1 ـ البحار : 5/57.

________________________________________

(169)

(11)

الاستطاعة مع الفعل لا قبله

    الاستطاعة غير الإنسان أوّلاً ، ويستحيل تقدّمها على الفعل ثانياً ، فله هاهنا دعويان يصرح بهما في العبارة التالية :

    إن قال قائل : لم قلتم إنّ الإنسان يستطيع باستطاعة هي غيره؟

    قيل له : لأنّه يكون تارة مستطيعاً ، وتارة عاجزاً ، كما يكون تارة عالماً ، وتارة غير عالم ، وتارة متحركاً وتارة غير متحرك ، فوجب أن يكون مستطيعاً بمعنى هو غيره ، كما وجب أن يكون عالماً بمعنى هو غيره ، وكما وجب أن يكون متحركاً بمعنى هو غيره ، لأنّه لو كان مستطيعاً بنفسه ، أو بمعنى يستحيل مفارقته له ، لم يوجد إلاّوهو مستطيع ، فلما وجد مرة مستطيعاً ، ومرة غير مستطيع ، صحّ وثبت أنّ استطاعته غيره.

    فإن قال قائل : فإذا أثبتم له استطاعة هي غيره ، فلم زعمتم أنّه يستحيل تقدّمه للفعل؟

    قيل له : زعمنا ذلك من قبل أنّ الفعل لا يخلو أن يكون حادثاً مع الاستطاعة في حال حدوثها أو بعدها ، فإن كان حادثاً معها في حال حدوثها ، فقد صحّ أنّها مع الفعل للفعل ، وإن كان حادثاً بعدها ـ و قد دلّت الدلالة على أنّها لا تبقى ـ وجب حدوث الفعل بقدرة معدومة ، ولو جاز ذلك فجاز أن يحدث العجز بعدها ، فيكون الفعل واقعاً بقدرة معدومة ، ولو جاز أن يفعل في حال هو فيها عاجز بقدرة معدومة ، فجاز أن يفعل مئة سنة ، من حال حدوث

 

________________________________________

(170)

    القدرة ، وإن كان عاجزاً في المائة سنة كلّها ، بقدرة عدمت من مائة سنة ، وهذا فاسد ، وأيضاً لو جاز حدوث الفعل مع عدم القدرة ، ووقع الفعل بقدرة معدومة ، لجاز وقوع الإحراق بحرارة نار معدومة ، وقد قلب الله النار برداً والقطع بحدّ سيف معدوم ، وقد قلب الله السيف قصباً ، والقطع(1) بجارحة معدومة وذلك معدوم ، فإذا استحال ذلك وجب أنّ الفعل يحدث مع الاستطاعة في حال حدوثها.

    فإن قالوا : ولم زعمتم أنّ القدرة لا تبقى؟

    قيل لهم : لأنّها لو بقيت لكانت لا تخلو أن تبقى لنفسها أو لبقاء تقوم به ، فإن كانت تبقى لنفسها وجب أن تكون نفسها بقاءً لها وأن لا توجد إلاّ باقية ، وفي هذا ما يوجب أن تكون باقية في حال حدوثها ، وإن كانت تبقى ببقاء يقوم بها والبقاء صفة ، فقد قامت الصفة بالصفة ، وذلك فاسد. ولو جاز أن تقوم الصفة بالصفة لجاز أن تقوم بالقدرة قدرة ، وبالحياة حياة ، وبالعلم علم ، وذلك فاسد. (2)

    أقول : إنّ الشيخ الأشعري قد تبنّى في العبارة المذكورة أُموراً ثلاثة : الأوّل والثاني منها ضروريان ، والثالث أمر نظري ، لم يأت عليه بدليل مقنع ، بل أجمل الكلام فيه إلى حد التعقيد.

    أمّا الأوّل : فلأنّ كون الاستطاعة مثل العلم غير الإنسان نفسه أمر بديهي لا يحتاج إلى البرهنة ، لأنّ كلّ إنسان يحس من بداية حياته أنّه تتجدد له القدرة والاستطاعة كسائر الكمالات النفسانية ، وأنّه ليس من أوّل يوم قادراً مستطيعاً على التكلم والمشي ، والكتابة والقراءة ، فلا يحتاج مثل هذاالأمر إلى التطويل.

    وأمّا الثاني : فإنّ الإنسان لا يقدر على الفعل بقدرة واستطاعة معدومة ، وهذا أيضاً أمر بديهي مرجعه إلى أنّ الممكن « ذاتاً كان أو فعلاً » لا يتحقق إلاّبعلة موجدة له ، من غير فرق بين القول بأنّ حاجة الممكن إلى العلّة أمر بديهي

________________________________________

1 ـ قال المعلّق على الكتاب : ولعلّ الأولى أن يقول : البطش.

2 ـ اللمع : 93 ـ 94.

(171)

    فطري ، كما هو الحقّ ، أو هو أمر تجريبي ، كما عليه بعض المناهج الفلسفية.

    وإنّما المهم في كلامه هو الأمر الثالث ، وهو لزوم مقارنة الاستطاعة مع الفعل واستحالة تقدّمها عليه ، وإليك توضيح برهانه.

    إنّ القدرة المتقدّمة على الفعل لا تخلو عن حالات ثلاث :

    1. أن تكون القدرة المتقدمة عليه منعدمة عند حدوث الفعل ، فيلزم عندئذ حدوث الفعل بلا قدرة ، وهو محال.

    2. أن تكون القدرة المتقدمة باقية ، وكان البقاء نفسها ، فيلزم عندئذ محذوران :

    أ. بما أنّ البقاء نفس القدرة وذاتها ، يلزم امتناع تطرق العدم إليها وهو خلف ، وإليه يشير بقوله : « وأن لا توجد إلاّ باقية ».

    ب. بما أنّ البقاء نفسها وذاتها ، وقد افترضنا أيضاً حدوثها يلزم أن تتصف بالبقاء في الوقت الذي تتصف بالحدوث ، وهو نظير اجتماع الضدين.

    3. أن لا يكون البقاء نفسها ، بل تبقى ببقاء يعرض لها ، وبما أنّ البقاء صفة يلزم قيام الصفة بالصفة ، ولو جاز لجاز أن تقوم القدرة بالقدرة والعلم بالعلم.

    أقول : إنّ القائل بالتقدّم يقول بالشقّ الثالث ، بتوضيح أنّ البقاء ليس نفس القدرة ولا ذاتها (1). بل هو أمر منتزع من استمرار وجود الشيء في الآنين والآنات وليس البقاء أمراً مغايراًلوجود القدرة بحيث يكون في القدرة ـ إذا بقيت بعد الحدوث ـ أمران :

    أحدهما : أصل القدرة ، والآخر بقاؤها ، وإنّما الموجود في الخارج شيء واحد وهو القدرة ، وينتزع منه باعتبارين أمران : الحدوث والبقاء.

    وإن شئت قلت : أصل القدرة ومفهومها الحدوث والبقاء وإن كانت

________________________________________

1 ـ المراد من الذاتي هنا ذاتي باب الإيساغوجي ، أي أن يكون البقاء جنساً أو فصلاً للقدرة ، لوضوح أنّ ما يفهم من القدرةوالاستطاعة غير ما يفهم من البقاء والدوام.

________________________________________

(172)

    مفاهيم مختلفة لكن ليس في الخارج بإزائها أُمور ثلاثة ، بل الموجود في الخارج شيء واحد وهو الاستطاعة ، لكن باعتبار أنّها تعطي للإنسان مقدرة تسمى قدرة واستطاعة ، وباعتبار سبق العدم عليها ينتزع منها الحدوث ، وباعتبار استمرار وجودها ينتزع منها البقاء ، فلا يلزم ـ لو قلنا ببقاء القدرة بعد حدوثها ـ أن يكون للقدرة عرض ووصف باسم البقاء يغايرها في العين والتحقّق.

    وبعبارة ثالثة : إنّ الأعراض على قسمين : قسم يعتبر في صحّة حمله على الموضوع ، اتصافه بصفة خارجية مصححة لحمل العرض على الموضوع ، كحمل الأبيض على الجسم ، حيث يعتبر فيها اتصاف الجسم بشيء كالبياض ، وهذا ما يسمى ب ـ « المحمول بالضميمة ».

    وقسم لا يعتبر في صحّة حمله على الشيء وجود حيثية خارجية في جانب الموضوع ، لكن الموضوع يكون على نحو يصحّ معه انتزاع ذلك لمفهوم العرضي منه ، كانتزاع الإمكان من الإنسان ، فلا يعتبر في حمله عليه تحقّق وصف وجودي ، بل يكفي واقعية وجوده لحمله عليه. وهذا ما يسمّى ب ـ « الخارج المحمول » وانتزاع البقاء من القدرة الحادثة من هذا القبيل فلها طوران من الوجود :

    أ. وجود حادث غير مستمر ومنقطع.

    ب. وجودحادث مستمر.

    فينتزع من الأوّل ، الزوال والانقضاء ، ومن الثاني البقاء والاستمرار ، فليس لهما وراء نحو وجود القدرة والاستطاعة ، مطابق خارجي.

    والنتيجة هي : أنّ بقاء القدرة في الآن الثاني ليس متوقفاً على انضمام وصف إليه باسم البقاء عارض للقدرة حتى يلزم منه بقاء الوصف بالوصف والعرض بالعرض.

    وما ذكره من أنّ دليل امتناع قيام الوصف يستلزم جواز قيام القدرة بالقدرة موهون جداً ، فإنّ عدم الصحّة في تلك الموارد إنّما هو لأجل أنّ قيام القدرة بالقدرة يستلزم اجتماع المثلين ، وهو محال ، سواء أقلنا بجواز قيام العرض بالعرض أم لا ، فإنّ القدرتين وصفان متماثلان ، والمتماثلان لا يجتمعان.

 

________________________________________

(173)

    إلى هنا تمّ ما يرومه الشيخ الأشعري في كتاب« اللمع ».

    فهلمّ معنا ندرس ما ذكره تلاميذ مدرسته تأييداً لمؤسسها ، لقد ذهب المحقّق التفتازاني في شرح المقاصد ، ونظام الدين القوشجي في شرح التجريد ، إلى ما ذهب إليه مؤسس المنهج ، واستدلاّ على لزوم مقارنة القدرة مع الفعل بوجوه نشير إليها :

    1.إنّ القدرة عرض ، والعرض لا يبقى في زمانين ، فلو كانت قبل الفعل لانعدمت حال الفعل ، فيلزم وجود المقدور بدون القدرة ، والمعلول بدون العلة ، وهو محال (1). (2)

    ولا يخفى أنّ هذا البرهان إن صحّ فهو غير ما ذكره الشيخ الأشعري في « اللمع » ، والعجب أنّ الدكتور عبد الرحمن بدوي قد فسر عبارة « اللمع » بما جاء في « شرح المقاصد » (3) ، وهو غير صحيح.

    أقول : الظاهر أنّ المستدل لم يصل إلى كنه القول بعدم بقاء الأعراض ، فزعم أنّ المقصود من تجدّد الأمثال في الأعراض وتصرمها وعدم بقائها في آنين ، هو أنّ العرض في الآن الثاني ، غيره في الآن الأوّل ماهية ووجوداً وتشخيصاً ، بحيث يرد على الثلج والقطن بياضات مفصولة وألوان متجزئة ، حسب تصرّم الآنات وتقضّيها ، ولكنّه فاسد ، فإنّ المراد أنّ البياض الموجود في الآن الأوّل ، ليس أمراً ثابتاً وجامداً لا يتطرق إليه التغيّر والتبّدل ، بل هو مع حفظ وحدته وتشخصه واقع في إطار التغيّر والتبدّل ، ومثل ذلك يعني أنّ الشيء الواحد مع حفظ وحدته الشخصية ، له وجود سيال في عمود الزمان ، فالعرض باق في عين تغيّره ، ومحفوظ في عين تبدّله ، فلا يضرّالتغيّر بوحدته ولا الحركة بتشخّصه.

________________________________________

1 ـ شرح المقاصد : 1/240 ، وقد عبر بنفس تلك العبارة الفاضل القوشجي. لاحظ شرح التجريد المطبوع قديماً : 362.

2 ـ المسألة مبنية على كون القدرة عرضاً ، وامتناع بقاء الأعراض ، وكلاهما أمران نظريان يحتاجان إلى البرهنة ، وقد افترضهما المستدل أمرين ثابتين. لاحظ نقد المحصل للمحقّق الطوسي : 165.

3 ـ مذاهب الإسلاميين : 563.

________________________________________

(174)

    وبعبارة أُخرى : إنّ هناك منهجين : منهج الكون والفساد ، ومنهج الحركة والتكامل.

    فالأوّل يهدف إلى انقطاع صلة الموجود في الآن الثاني عن الموجود في الآن الأوّل ، ويتخيّل أنّ تبدّل النار إلى الرماد والماء إلى البخار ، من هذا القبيل ، فيبطل كون ويحصل كون آخر ، أو يفسد وجود ويصلح وجود ثان.

    والثاني يهدف إلى حفظ الصلة والرابطة بين الموجودين في جميع الآنات من غير فرق بين تبدّل الأكوان وتجدّد الأعراض ، ويعني من تجدد الأمثال في الأعراض ـ بل سريان الحركة في جميع عوالم الموجود المادي ـ أنّ الأشياء بجوهرها وأعراضها مع حفظ وحدتها وتشخّصها تنحو نحو التغيّر والتبدّل مرّة ، وإلى الكمال مرّة ثانية ، وليس الموجود في الآن الثاني منقطع الرابطة والصلة عن الموجود في الآن الأوّل.

    وإن شئت قلت : إنّ للسواد باشتداده ، والبياض عند اكتماله فرداً شخصياً زمانياً مستمراً متصلاً بين المبدأ والمنتهى ، محتفظاً بوحدته الشخصية ، ومثله سائر الحركات في الأعراض ، وعلى ذلك فمع القول بتبادل الأعراض وتجدّد أمثالها ، يظهر أنّ للمتجدّدات والمتصرّمات المتلاحقة ، نحو وحدة ونحو بقاء ، فلا يعدّ اللاحق مغايراً للسابق ، بل صورة بقاء له ، وكيفية وجود لما حدث أوّلاً.

    وعلى ذلك فالقدرة وإن كانت كيفية نفسانية قائمة بالنفس ، لكن تغيّرها وتبدّلها وحركتها وتكاملها ، لا يوجب أن يكون الموجود منها في الآن الثاني مغايراً من جميع الجهات للموجود في الآن الأوّل. بل التغيّر والتبدّل والحركة والتكامل تتحقّق مع حفظ الوحدة الشخصية بين ما دثر وما بقي.

    وإن شئت فلاحظ وجود الحركة في المقولات العرضية ، فإنّ في حركة التفاحة في كيفها وكمّها لوناً سيّالاً بعرضها العريض ، وكمّاًسيّالاً كذلك ، فمجموع ما يتوارد عليها من الألوان والكمّيات شيء واحد سيّال متفاوت الدرجات ، باق في عين التغيّر ومحفوظ في عين التبدّل.

    2. إنّ الفعل حال عدمه ممتنع لاستحالة اجتماع الوجود والعدم ، ولا

 

________________________________________

(175)

    شيء من الممتنع بمقدور. (1)

    والجواب عنه واضح; فإن أُريد من كون الفعل ممتنعاً حال العدم امتناعاً بالذات فهو باطل ، إذ الممكنات في حال العدم ممكنات بالذات ، كما أنّ الممتنعات بالذات كذلك. ولا يلزم من كون الشيء معدوماً كونه ممتنعاً بالذات ، وإلاّ يلزم أن لا يصحّ الإيجاد والتكوين; وإن أُريد أنّه ممتنع بالغير فنمنع عدم كونه مقدوراً بل الممتنعات بالغير مقدورات أيضاً ، بحجّة أنّه كلما تعلقت بها إرادة الفاعل ومشيئته تتحقّق في الخارج.

    وقد استدلّ أصحاب منهج الشيخ الأشعري ببرهان ثالث وهو من الوهن بمكان لا يصحّ أن يذكر أو يسطر. (2)

حصيلة البحث ضمن أُمور

    1. البحث عن تقدّم القدرة على الفعل أو مقارنتها معه ، لا يرجع إلى محصل ، وهو بحث قليل الفائدة أو عديمها ، ويشبه أن يكون البحث لفظياً ، فهو يريد من القدرة أحد الأمرين :

    الأوّل : صحّة الفعل والترك ، وإن شئت قلت : كون الفاعل في ذاته بحيث إن شاء فعل و إن لم يشأ لم يفعل ، فلا شكّ أنّ القدرة بهذا المعنى مقدمة على الفعل فطرةً ووجداناً ، فإنّ القاعد قادر على القيام حال القعود بهذا المعنى ، والساكت قادر على التكلم في زمن سكوته لكن بالمعنى المزبور.

    الثاني : ما يكون الفعل معه ضروري الوجود ( أي اجتماع جميع ما يتوقّف وجود الفعل عليه ) فالقدرة بهذا المعنى ( لو صحّ إطلاق القدرة عليه ، ولن يصحّ ) مقارنة مع الفعل غير منفكة عنه ، وهذا مفاد القاعدة التالية : « الشيء ما لم يجب لم يوجد » وعلى ذلك (3) فلو أُريد المعنى الأوّل فهذا

________________________________________

1 ـ المقاصد : 1/259 ، شرح التجريد للقوشجي : 362.

2 ـ لاحظ المواقف : 6/88 قول الماتن : القدرة مع الفعل ولا توجد قبله إذ قبل الفعل لا يمكن الفعل ، وإلاّفلنفرض وجوده فيه الخ.

3 ـ وقد صرّح الأشعري بأنّ مراده من القدرة المعنى الثاني في « اللمع » عند الاستدلال ببعض الآيات القرآنية على مذهبه حيث قال : وهذا بيان أنّ ما لم تكن استطاعة لم يكن الفعل وأنّها إذا كانت كان لامحالة ، فهذا صريح في أنّ القدرة إذا تحقّقت تحقّق الفعل لا محالة. اللمع : 155.

________________________________________

(176)

    متقدّم ، ولو أُريد المعنى الثاني فهو مقارن زماناً متقدّم رتبة. وسيوافيك ما يفيدك عن الإمام الرازي ، في هذا المجال.

    2. إنّ الشيخ الأشعري مع تركيزه على مقارنة القدرة مع الفعل يعترف بتقدّمها في واجب الوجود على الفعل ، وإلاّ فلو قلنا هناك بالمقارنة يلزم إمّاحدوث قدرته سبحانه مقارناً لحدوث الأفعال ، أو قدم فعله سبحانه ، وكلاهما باطلان. وعندئذ يسأل صاحب المنهج : كيف فرّق بين القدرتين مع أنّ الملاك واحد؟ وكيف اعترف بالتقدّم في الخالق ونفى إمكانه في المخلوق ، مع أنّ ما أقام من البرهان ، أو أقامه أشياعه من البراهين على الامتناع ، جار في الواجب سبحانه حرفاً بحرف.

    ثمّ إنّ أتباع الشيخ تصدّوا للدفاع عن هذا النقد الصارم بوجوه موهونة جدّاً وقالوا :

    أ. نمنع الملازمة وإنّما تتم هذه الملازمة لو كانت القدرة القديمة والحادثة متماثلتين ، فلا يلزم من كون الثانية مع الفعل لا قبله ، كون الأولى كذلك أيضاً.

    ب. إنّ قدرة الله تعالى قديمة ، ولها تعلّقات حادثة ، مقارنة للأفعال الصادرة ، والكلام في تعلّق القدرة ، والأزلي إنّما هو نفس القدرة ، وكونها سابقة قديمة لا ينافي كون تعلّقها مقارناً حادثاً ، فلا يلزم من كون تعلّق القدرة القديمة مع الفعل ، قدم الحادث أو حدوث القديم. (1)

    ولا يخفى أنّ كلاً من هذين الجوابين غير مجد.

    أمّا الأوّل : فلأنّ كون قدرة الواجب قديمةوغير حادثة لا يكون فارقاً في المسألة ، فإنّ البراهين التي أُقيمت من جانب الأشاعرة على امتناع تقدّم

________________________________________

1 ـ المقاصد : 2/241 ، وشرح التجريد للقوشجي : 362.

________________________________________

(177)

    القدرة على الفعل ، مشتركة بين كلتا القدرتين.

    وإن شئت فلاحظ البرهان الثاني الذي نقلناه عن المقاصد وشرح التجريد. وقالوا : « إنّ الفعل حال عدمه ممتنع ، لاستحالة اجتماع الوجود والعدم ، ولا شيء من الممتنع بمقدور » فلو كان الشيء في حال العدم ممتنعاً فهو موصوف بالامتناع ، تجاه القدرة الواجبة أو القدرة الممكنة معاً ، من غير فرق بينهما.

    نعم ، ما نقلناه عن « لمع » الأشعري من البرهان على الامتناع ربما لا يجري فيه سبحانه ، لأنّ صلب البرهان هنا كون القدرة عرضاً قائماً بالنفس وقدرته سبحانه ليست عرضاً ولا جوهراً ، اللّهمّ إلاّ أن تكون القدرة الواجبة عنده عرضاً قائماً بذاته ، كما هو غير بعيد من قوله بالصفات القديمة الزائدة على الذات.

    أمّا الثاني : فمحصله أنّ نفس القدرة القديمة ، والحادث أعمالها ، ولكن لو صحّ ذلك لصحّ في الإنسان وغيره ، بأن يقال أصل القدرة متقدمة والأعمال متأخّرة.

    3. إنّ من الأُصول المسلّمة عند الأشعري; حصر الخالقية على الإطلاق في الله سبحانه وأنّه لا خالق ولا مؤثر لا بالذات ولا بالطبع إلاّ هو ، والأسباب والعلل كلّها علامات وإشارات إلى تعلّق إرادته سبحانه ، بإيجاد الشيء بعدها ، وعلى هذا الأصل أنكر مسألة العلية والمعلولية ، والسببية والمسببية في عوالم الوجود ، وحصرها في ذاته تعالى ، و قد تواتر عن الأشاعرة قولهم : « جرت عادة الله على خلق هذا بعد ذلك » و على هذا الأصل قام سبحانه مكان جميع العلل المجردة والمادية.

    وقال شاعرهم نافياً لأصل العلية بأي معنى فسرت في غيره سبحانه :

   

ومن يقل بالطبع أو بالعلّة                  فذاك كفر عند أهل الملّة

    أقول : لو صحّ هذا الأصل ( ولن يصحّ أبداً لمخالفته لصريح الآيات ، وصرورة العقل والفطرة ) لكان البحث عن تقدّم القدرة على الفعل أو مقارنته معها ، فضولاً في الكلام وإضاعة للوقت ، فإنّه يسلم أنّ القدرة فيه سبحانه

 

________________________________________

(178)

    متقدمة على الفعل ، وأمّا في غيره فليس هناك تأثير وسببية ، ولا اقتدار ، بل الفواعل كلّها تكون كآلات النجار والحدّاد ، بل أنزل من ذلك ، لأنّها مؤثرات غير اختيارية عندنا ، وليس العباد عندهم حتى بمنزلتها.

    ولما كان القول بهذا الأصل ساقطاً عند العقل والعقلاء ، ومضاداً للفطرة السليمة ، حاول الأشعري تصحيحه بإضافة نظرية الكسب على خالقية الرب ، قائلاً بأنّ الله هو الخالق ، والعبد هو الكاسب ، وأنّ الأفعال واقعة بقدرة الله وكسب العبد ، بمعنى أنّ الله أجرى عادته بأنّ العبد إذاعقد العزم على الطاعة مثلاً ، يخلق سبحانه فعل الطاعة ، وربما يمثلون لتفهيمه بمن يحمل شيئاً ثقيلاً على كاهله ويذهب به ويجعل شخص آخر يده تحت ذلك الحمل من غير أن يكون شيء من وزره وثقله على يده.

    ولا يخفى أنّ إضافة الكسب لا تحلّ المشكل ، إذ على هذا الأصل أيضاً يكون الخالق والقادر هو الله سبحانه ، وليس لعبد شأن في الفعل ، وإنّما شأن العبد ينحصر في عقد العزم على الطاعة أو المعصية ، فعندئذ يجب أن يكون فعل العبد منحصراً في العزم على الطاعة والمعصية ، وعندئذ يجب أن يكون فعل العبد منحصراً في العزم على الطاعة والمعصية ، وعندئذ يبحث هل القدرة على العزم مقترنة به أو متقدمة عليه؟ ومثل هذا لا يليق بهذا البحث المبسوط ، ولا يشكّ أحد في تقدّم القدرة على العزم على نفسه.

    ونعم ما قال علاّمة الشيعة في « نهج الحق » : إنّ القدرة حسب مذهب الأشاعرة غير مؤثرة ألبتة ، لأنّ المؤثر في الموجودات هو الله تعالى ، فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول لأنّه خلاف مذهبهم. (1)

    والعجب من الفضل بن روزبهان الأشعري ، حيث إنّه مع تصريحه بأنّ قدرة العبد غير مؤثرة في الفعل ، أجاب عن الإشكال بأنّه لا يلزم من عدم كون القدرة مؤثرة فيه ، الاستغناء عنها في جميع الوجوه كاتصاف الفعل باختيار ، ولا يلزم أن يكون البحث عنها فضولاً.

    يلاحظ عليه : أنّه لو كانت القدرة غير مؤثرة في فعل الإنسان يكون

________________________________________

1 ـ دلائل الصدق : 1/324.

________________________________________

(179 )

    البحث عن تقدّم القدرة أو تقارنها لغواً ، وإن كانت لقدرة العبد عند خلق الأفعال من جانبه سبحانه فوائد وثمرات أُخرى فهي لا تمت إلى المقام بصلة.

    4. الحقّ أن يقال : إنّ المسألة بديهية للغاية ، وما أُثير حولها من الشبهات ـ خصوصاً ما ذكره في « اللمع » ـ أشبه بالشبهات السوفسطائية ، إذ كلّ إنسان يحس من فطرته أنّه قادر على القيام قبل أن يقوم ، فالخلط حصل بين القدرة بمعنى الاستعداد لصدور الفعل ، والقدرة بمعنى ما لا ينفكّ عنه الفعل ويقترن به ، وكفى في ثبوت المسألة ، الفطرة الإنسانية أوّلاً ، وتقدّم قدرته سبحانه على فعله ثانياً.

    وبذلك يظهر أنّ ما أقامه المعتزلة من البراهين على تقدّمها على الفعل تنبيهات على المسألة ، ولنعم ما قال المحقّق اللاهيجي : إنّ الدعوى ضرورية ، وهذه الوجوه تنبيهات عليها ، كيف والقطع حاصل بقدرة القاعد في وقت قعوده على القيام ، والقائم في حال قيامه على القعود بالوجدان. (1)

    5. ثمّ إنّه ينبغي البحث عن الحافز أو الحوافز التي دعت الشيخ الأشعري إلى اختيار ذلك المذهب ، فإنّ القول بتقدّم القدرة على الفعل أو مقارنتها له ، لا يمس كرامة الدين والشريعة ولا النصوص الواردة فيها ، فما هو الداعي إلى اختيار القول بالتقارن ، بل التركيز عليه؟

    ويحتمل أن يكون الداعي هو قوله : « إنّ أفعال العبد مخلوقة لله سبحانه لا للعباد ، لا أصالة ولا تبعاً ». والمناسب لتلك العقيدة حينئذ رفض القدرة المتقدمة للعبد على الفعل ، والاكتفاء بالمقارن لأجل تحقّق عنوان الطاعة والعصيان بالعزم عليهما.

    وإلى ما ذكرنا أشار القاضي عبد الجبار فقال : ولعلّهم بنوا ذلك للّهعلى أنّ أحدنا لا يجوز أن يكون محدثاً لتصرّفه ، وأنّهم لما أثبتوا أنّ الله تعالى محدث على الحقيقة ، قالوا : إنّ قدرته متقدمة لمقدورها غير مقارنة له. (2)

________________________________________

1 ـ الشوارق : 441.

2 ـ شرح الأُصول الخمسة : 396.

________________________________________

(180)

    وكأنّ الشيخ يتصوّر أنّ القدرة المتقدّمة للفعل تزاحم قدرة الله عليه ، فلأجل ذلك وجد في نفسه حافزاً نفسياً إلى البرهنة على بطلان التقدّم وإثبات التقارن.

    وما ذكرنا من الوجه يلائم عقيدة الشيخ في خلق الأعمال ، ولكن القول ببطلان التقدّم و لزوم التقارن لا يختص بالشيخ ، بل اختاره عدّة من المعتزلة ، والمتقدّمين على الشيخ عصراً ، يقول شارح المواقف : قد وافق الشيخ ـ في أنّ القدرة حادثة مع الفعل ـ كثير من المعتزلة كالنجار ومحمد بن عيسى وابن الراوندي وابن عيسى الورّاق وغيرهم. (1)

 

القدرة صالحة للضدين

    ثمّ إنّ هناك مسألة تتفرّع على المسألة الأُولى ، وهي أنّ القدرة صالحة للضدين ، وهذا ما يعطيه مفهوم القدرة ، فالقادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل ، وإذا شاء أن يترك ترك ، فلو فرضنا صلاحية القدرة لأحد الضدين فقط ، لم يكن الآخر مقدوراً ، فلا يصدق على الفاعل كونه قادراً ولا على عمله أعمال القدرة ، وقد خالف في ذلك الأشاعرة فالقدرة الواحدة عندهم لا تتعلّق بالضدّين ، بل لا يتعلّق إلاّ بمقدور واحد ، سواء أكان المقدور الآخر ضداً أم لا.

    و بما ذكرنا من التحقيق في المسألة الأُولى ، وأنّ النزاع هناك في أمر واضح يتضح حال هذه المسألة ، فإنّه لو أُريد من القدرة قابلية الفاعل واستعداده لأن يفعل فلا شكّ أنّها تتعلّق بالضدّين ، كما تتعلّق بالمتماثلين والمتخالفين ، وإن أُريد القوة الموجبة للفعل بحيث تجعل الفعل واجب التحقّق ، والفاعل واجب الفاعلية فلا شكّ أنّها لا تتعلّق إلاّ بمقدور واحد.

    وإن شئت قلت : القدرة بمعنى العلّة الناقصة لصدور الفعل متقدمة على الفعل صالحة للتعلّق بالضدين ، وأمّا إذا كانت بمعنى العلّة التامّة غير المنفكة

________________________________________

1 ـ شرح المواقف : 6/92.

(181)

    عن الفعل فهي متقارنة مع الفعل ، غير متعلّقة إلاّ بمقدور واحد. والأشاعرة لما اختارت تبعاً لمؤسس المنهج كون القدرة مع الفعل ، نفت صلاحية تعلّقها بمقدورين ، فضلاً عن الضدّين ، وبما أنّك عرفت أنّ النزاع في المسألة السابقة أشبه باللفظي ، يكون النزاع هنا أيضاً مثله.

    قال الإمام الرازي : قد تطلق القدرة على القوة العضلية ، التي هي مبدأ الآثار المختلفة في الحيوان ، بحيث لو انضم إليها إرادة كلّ واحد من الضدّين حصل دون الآخر ، ولا شكّ أنّ نسبتها إلى الضدّين على السواء. وقد تطلق على القوة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولا شكّ في امتناع تعلّقها بالضدّين ، وإلاّ اجتمعا في الوجود ، بل هي بالنسبة إلى كلّ مقدور ، غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر ، لاختلاف الظروف بحسب كلّ مقدور. فلعلّ الأشعري أراد بالقدرة ، المعنى الثاني ، فحكم بأنّها لا تتعلّق بالضدّين ، ولا هي قبل الفعل ، والمعتزلة أرادت بها المعنى الأوّل ، فذهبوا إلى أنّها تتعلّق بالضدّين وأنّها قبل الفعل. (1)

    ثمّ إنّ أبا الحسن الأشعري لماّ اختار لزوم مقارنة القدرة مع الفعل وامتناع تقدّمها عليه ، وقع في تكليف الكفّار بالإيمان في زمان كفرهم في حيرة ، كما قام بتأويل كثير من الآيات الصريحة في تقدّم القدرة على الفعل ، وإليك نماذج منها :

    1. إنّ الكفّار مكلّفون بالإيمان كما هو صريح الكتاب ، فلو كانت القدرة موجودة مع الفعل لكان تكليفهم بالإيمان في حال الكفر تكليفاً بالمحال ، وهذا من النقوض الواضحة التي سعى الشيخ الأشعري وتلاميذ منهجه في حلّها ولم يأتوا بشيء مقنع.

    2. قال سبحانه : أَيّاماً مَعْدُودات فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَو عَلى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّام أُخَرَ وَعَلى الَّذِينَ يُطيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكين . (2)

    اتّفق مشاهير المفسرين على أنّ الضمير في « يطيقونه » يرجع إلى الصيام ،

________________________________________

1 ـ شرح المواقف : 6/154.

2 ـ البقرة : 184.

________________________________________

(182)

    والمراد أنّ الذين يقدرون على الصيام لكن بعسر وشدة يجوز لهم الإفطار ، والفدية لكلّ يوم بطعام مسكين. فالآية نصّ في تقدّم الاستطاعة على العمل. قال في المنار : إنّ الذين لا يستطيعون الصوم إلاّ بمشقة شديدة ، عليهم فدية طعام مسكين في كلّ يوم يفطرون فيه. (1)

    والشيخ الأشعري تكلّف بإرجاع الضمير إلى الإطعام ، والمعنى : وعلى الذين يطيقون الإطعام ويعجزون عن الصيام ، عليهم الفدية.

    يلاحظ عليه : أنّ مرجع الضمير غير مذكور على تفسيره أوّلاً ، والعجز عن الصيام الذي هو المهم لم يذكر في الآية لا تصريحاً ولا تلويحاً ، الإطعام واجب مطلقاً للعاجز وغيره ثانياً.

    3. قال سبحانه : وَللّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِليهِ سَبيلاً (2) فالآية صريحة في أنّ المستطيع بالفعل يجب عليه الحجّ في المستقبل.

    وقد تكلّف الشيخ في تفسير الاستطاعة بالمال ، ويعني الزاد والراحلة وقال : ولم يرد استطاعة البدن التي في كونها كون مقدورها.

    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ تفسير الاستطاعة بخصوص ما ذكره لا دليل عليه ، مع أنّ استطاعة البدن ركن مثل المال ، وثانياً : أنّه لو انضم إليه البدن لما كان في كونه ، كون مقدوره ، أعني : نفس عمل الحجّ ، لأنّ للزمان وشهور الحجّ دخلاً في تحقّق المقدور.

    4. قوله تعالى : وَسَيَحْلِفُونَ باللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَالله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ . (3)

    ترى أنّ المنافقين يحلفون بعدم الاستطاعة على الخروج إلى الجهاد والله يكذبهم ويقول : إنّهم مستطيعون ولا يريدون الخروج ، قال سبحانه : وَلَوْ

________________________________________

1 ـ المنار : 2/156.

2 ـ آل عمران : 98.

3 ـ التوبة : 42.

________________________________________

(183)

أَرادُوا الخُروجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة . (1)

    وقد فسر الشيخ الإستطاعة بالمال ، وقال : إنّهم كانوا يجدون المال ، وكانت المحاورة بينهم و بين النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في الجدة ، وإذا كان كذلك فنحن لا ننكر تقدّم المال للفعل ، وإنّما أنكرنا تقدّم استطاعة السلوك للفعل. (2)

    يلاحظ عليه : أنّ هؤلاء الواجدين للمال لم يكونوا خارجين عن حالتين : الصحّة والسلامة ، المرض والضعف.

    فعلى الأوّل كانت الاستطاعة بعامة أجزائها موجودة قبل الفعل ، أعني : الخروج إلى الجهاد ، وعلى الثاني لم يكونوا مخاطبين بالخروج إلى الجهاد لقوله سبحانه : وَلاَ عَلى المَريضِ حَرَجٌ . (3)

    إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي هي ظاهرة في تقدّم الاستطاعة على الفعل ، وقد أتعب الشيخ نفسه في تأويل هذه الآيات بما لا يرضى به من له إلمام بتفسير الآيات وتوضيحها.

    والعجب أنّ الشيخ يتهجّم على المعتزلة تبعاً لأهل الحديث ، لتأويلهم الآيات والروايات الظاهرة في أنّ لله يداً ووجهاً ورجلاً ، مع أنّه يتكلّف التأويل في هذا الباب عند تفسير كثير من الآيات الظاهرة في خلاف ما تبنّاه.

    وإن كنت في شكّ ممّا ذكرنا فلاحظ تأويله قوله سبحانه ، في قصة سليمان حكاية عن عفريت من الجن : قالَ يا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِيني بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُوني مُسْلِمينَ* قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنَا آتيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَليهِ لَقَويٌّ أَمينٌ . (4)

    فانظر صراحة الآية في أنّ العفريت يصف نفسه بالقوة والاستطاعة قبل أن يفعل.

________________________________________

1 ـ التوبة : 46.

2 ـ اللمع : 106.

3 ـ النور : 61.

4 ـ النمل : 38 ـ 39.

________________________________________

(184)

    وبعد ذلك فانظر إلى تكلّف الشيخ في تفسير الآية حيث يقول : عنى العفريت بقوله : َ وَإِنِّي عَليهِ لَقَويٌّ أَمينٌ ) إن استطعت ذلك وتكلفته وأردته ، أو عنى منه : إن شاء الله ، أو عنى منه : إن قوّاني الله تعالى عليه.

    والعجب أنّه يتنبّأ ويقول : « ولو لم يعلم سليمان أنّ العفريت أضمر شيئاً من ذلك لكذّبه و رّد عليه قوله » أو ليس هذا تخرصاً على الغير؟!

    ونحن لا نعلّق على التأويل الذي أتى به الشيخ ، ولا على التنبّؤ الذي نسبه إلى سليمان شيئاً ، بل نرجع القضاء في ذلك إلى وجدان القارئ الحر ، ونقول : هكذا يتلاعب الإنسان بالآيات القرآنية بسبب أفكاره المسبقة. (1)

 

التكليف بما لا يطاق

    إنّ الوجدان السليم والعقل الفطري يحكم بامتناع تكليف ما لا يطاق ، أمّا إذاكان الآمر إنساناً فلأنّه بعد وقوفه على أنّ المأمور غير مستطيع لإيجاد الفعل ، وغير قادر عليه ، فلا تنقدح الإرادة في لوح نفسه وضمير روحه ، ولا يبلغ تصوّر الفعل والتصديق بفائدته إلى مرحلة العزم والجزم بطلبه من المأمور ، وبعثه من صميم القلب نحو الشيء المطلوب ، إذ كيف يمكن أن يطلب شيئاً بطلب جدي ممّن يعلم أنّه عاجز ، وهل يمكن لإنسان أن يطلب الثمرة من الشجرة اليابسة ، أو المطر من الأحجار والأتربة الجامدة ، ولأجل ذلك يقول المحقّقون : إنّ مرجع التكليف بما لا يطاق إلى كون نفس التكليف محالاً ، وإنّ الإرادة الجدية لا تنقدح في ضمير الأمر هذا كلّه إذا كان الآمر إنساناً ، وأمّا إذا كان الآمر هو الله سبحانه ، فالأمر فيه واضح من جهتين :

    1. إنّ التكليف بمالا يطاق أمر قبيح عقلاً ، فيستحيل عليه سبحانه من حيث الحكمة أن يكلّف العبد مالا قدرة له عليه ولا طاقة له به ، ويطلب منه فعل ما يعجز عنه ويمتنع منه ، فلا يجوز له أن يكلّف الزمن ، الطيران إلى السماء ، ولا الجمع بين الضدين ، ولا إدخال الجمل في خرم الإبرة ، إلى غير ذلك من المحالات الممتنعة.

________________________________________

1 ـ راجع في ما نقلناه عن الشيخ الأشعري حول الآيات ، اللمع : 99 ـ 109.

________________________________________

(185)

    2. الآيات الصريحة في أنّه سبحانه لا يكلّف الإنسان إلاّ بمقدار قدرته وطاقته ، قال سبحانه : لا يُكَلّفُ الله نَفساً إِلاّ وُسْعَها. (1)

    وقال تعالى : وَما رَبُّكَ بِظَلاّم لِلْعَبيدِ. (2)

    وقال عزّ من قائل : ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحدا . (3)

    والظلم هو الإضرار بغير المستحق ، وأيّ إضرار أعظم من هذا ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

    ومع هذه البراهين المشرقة سلك الأشعري غير هذا الصراط السوي ، وجوز التكليف بمالا يطاق ، واستدلّ عليه بالآيات التالية :

    1. أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزينَ فِي الأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَولياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (4) وقد أُمروا أن يسمعوا الحقّ وكلّفوه ، فدلّ ذلك على جواز تكليف مالا يطاق ، وأنّ من لم يقبل الحقّ ولم يسمعه على طريق القبول لم يكن مستطيعاً.

    2.وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَها عَلى المَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسماءِ هؤلاءِإِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ. (5) قال : الآية تدل على جواز تكليف ما لا يطاق ، فقد أُمروا بإعلام وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.

    3. يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساق وَيُدْعَونَ إِلى السُّجُود فَلا يَسْتَطيعُونَ* خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَونَ إِلى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (6) قال : فإذا جاز تكليفه إيّاهم في الآخرة مالا يطيقون ، جاز ذلك في الدنيا.

________________________________________

1 ـ البقرة : 286.

2 ـ فصلت : 46.

3 ـ الكهف : 49.

4 ـ هود : 20.

5 ـ البقرة : 31.

6 ـ القلم : 42 ـ 43.

________________________________________

(186)

    4.وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَو حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ الْمَيلِ فَتَذرُوها كالمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحيماً. (1) قال : وقد أمر اللّه تعالى بالعدل ، ومع ذلك أخبر عن عدم الاستطاعة على أن يعدل. (2)

    يلاحظ عليه :

    أمّا الآية الأُولى : فيظهر ضعف الاستدلال بها بتفسير مجموع جملها : أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزينَ فِي الأَرْضِ : إنّهم لم يكونوا معجزين لله سبحانه في حياتهم الأرضية وإن خرجوا عن زي العبودية وافتروا على الله الكذب ، ولكن ماغلبت قدرتهم قدرة الله. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَولياءَ : إنّهم وإن اتّخذوا أصنامهم أولياء ولكنّها ليست أولياء حقيقة ، وليس لهم من دون الله تعالى. يُضاعَفُ لَهُمُ العَذابُ : يجازون بما أتوا به من الغي والظلم والأعمال السيّئة ». ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ هذه الجملة في مقام التعليل يريد أنّهم لم يكفروا ولم يعصوا أمر الله ، لأجل غلبة إرادتهم على إرادة الله ، ولا لأنّ لهم أولياء من دون الله ، بل لأنّهم ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا ما يأتيهم من إنذار وتبشير ، أو يذكر لهم من البعث والزجر من قبله سبحانه ، وما كانوا يبصرون آياته ، حتى يؤمنوا بها ، ولكن كلّ ذلك لا لأجل أنّهم كانوا غير مستطيعين أن يسمعوا ويبصروا من بداية الأمر ، بل لأنّهم أنفسهم سلبوا هذه النعم بالذنوب فصارت وسيلة لكونهم ذوي قلوب لا يفقهون بها ، وذوي أعين لا يبصرون بها ، وذوي آذان لا يسمعون بها ، فصاروا كالأنعام بل أضلّ منها. (3)

________________________________________

1 ـ النساء : 129.

2 ـ لاحظ اللمع : 99 ، 113 ، 114.

3 ـ اقتباس من قوله سبحانه : ( لهم قلوب لا يفقهون بها ... ) الأعراف : 179.

________________________________________

(187)

    إنّ الآيات الكريمة صريحة في أنّ عمل الإنسان وتماديه في الغي ينتهي إلى صيرورة الإنسان أعمى وأصم وأبكم ، قال سبحانه : فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ الله قُلُوبَهُمْ. (1)

    وقال سبحانه : وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الفاسِقينَ . (2)

    وعلى ذلك فالآية التي استدلّ بها الشيخ ، نظير قوله سبحانه : خَتَمَ الله عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِم وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (3) و قوله سبحانه : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوّل مَرَّة . (4)

    ولكن كل ذلك في نهاية حياتهم بعد تماديهم في الغي.وأمّا في ابتداء حياتهم فقد أعطى للجميع قدرة الإبصار والاستماع والتفكّر والتعقّل. قال سبحانه : وَاللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (5) ولكن الإنسان ربما يبلغ به الغي إلى درجة ينادي فيها ويقول : لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا في أَصْحابِ السَّ عيرِ*فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصحابِ السَّعيرِ. (6)

    وباختصار ، الآية تحكي عن عدم استطاعتهم السمع ، ولكن السبب في حصول هذه الحالة لهم ، هو أنفسهم باختيارهم ، وهذا لا ينافي وجود الاستطاعة قبل التمادي في الغي ، وما يتوقّف عليه التكليف هو القدرة الموجودة قبل سلبها عن أنفسهم.

    ومن القواعد المسلّمة في علم الكلام قولهم : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ».

________________________________________

1 ـ الصف : 5.

2 ـ البقرة : 26.

3 ـ البقرة : 7.

4 ـ الأنعام : 110.

5 ـ النحل : 78.

6 ـ الملك : 10 ـ 11.

________________________________________

(188)

    إلى هنا تعرفت على مفاد الآية ، ووقفت على أنّها لا تمت إلى ما يدّعيه الشيخ بصلة ، وهلم معي ندرس الآيات الباقية :

    وأمّا الآية الثانية ، أعني قوله سبحانه : أَنْبِئُوني بِأَسماءِ هؤلاءِ فليس الأمر فيها للتكليف والبعث نحو المأمور به ، بل للتعجيز ، مثل قوله سبحانه : وَإِنْ كُنْتُمْ في رَيْب مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ . (1)

    إنّ لصيغة الأمر معنى واحداً وهو إنشاء الطلب ، لكن الغايات من الإنشاء تختلف حسب اختلاف المقامات ، فتارة تكون الغاية من الإنشاء ، هي بعث المكلف نحو الفعل جداً ، وهذا هو الأمر الحقيقي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، ويشترط فيه القدرة الاستطاعة ، وأُخرى تكون الغاية أُموراً غيره ، وعند ذلك لا ينتزع منه التكليف الجدي ، وذلك كالتعجيز في الآية السابقة ، وكالتسخير في قوله سبحانه : كُونُوا قِرَدَةً خاسِئينَ (2) والإهانة ، مثل قوله : ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الكَريمُ ) (3) ، أو التمنّي ، مثل قول امرئ القيس في معلّقته :

   

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي            بصبح وما الإصباح منك بأمثل

    إلى غير ذلك من الغايات والحوافز التي تدعو المتكلّم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الأمر ، وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.

    وأمّا الآية الثالثة فليست الدعوة إلى السجود فيها عن جد وإرادة حقيقية ، بل الغاية من الدعوة إيجاده الحسرة في المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا. والآية تريد أن تبين أنّهم في أوقات السلامة رفضوا الإطاعة والامتثال ، وعند العجز ـ بعد ما كشف الغطاء عن أعينهم ورأوا العذاب ـ همّوا بالسجود ، ولكن أنّى لهم ذلك ، وإليك تفسير جمل الآية.

________________________________________

1 ـ البقرة : 23.

2 ـ البقرة : 65.

3 ـ الدخان : 49.

________________________________________

(189)

يوم يكشف عن ساق الجملة كناية عن اشتداد الأمر وتفاقمه ، وإن لم يكن هناك كشف ولا ساق ، وذلك لأنّ الإنسان عند الشدة يكشف عن ساقيه ، ويخوض غمار الحوادث. وهذا كما يقال للأقطع الشحيح : يده مغلولة ، وإن لم يكن هناك يد ولا غل. ويدعون إلى السجود : لا طلباً ولا تكليفاً جدّياً ، كما زعمه الشيخ أبو الحسن ، بل لازدياد الحسرة على تركهم السجود في الدنيا مع سلامتهم. فلا يستطيعون : لسلب السلامة منهم (1) أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم ، واليوم تبلى السرائر. (2) خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة : تكون أبصارهم خاشعة ويغشاهم في ذلك اليوم ذلّة. وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون : إنّهم لماّ دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا عنه مع صحتهم وصحّة أبدانهم ، يدعون إلى السجود في الآخرة ولكن لا يستطيعون ، وذلك لتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا حين دعوا إليه في الدنيا وهم سالمون أصحاء.

    ومجموع جمل الآية تعرب بوضوح عن أنّ الدعوة فيها لا تكون عن تكليف جدي ، بل لغايات أُخرى لا يشترط فيها القدرة.

    وأمّا الآية الرابعة ، فلا شكّ أنّ الله سبحانه أمر بالعدالة من يتزوج أكثر من واحدة قال سبحانه : وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةٌ (3) وفي الوقت نفسه أخبر في آية أُخرى عن عدماستطاعة المتزوّجين أكثر من واحدة على أن يعدلوا. ولكن نهى عن التعلّق التام بالمحبوبة منهن ، والإعراض عن الأُخرى رأساً ، حتى تصير كالمعلّقة لا متزوّجة ولا مطلّقة ، قال سبحانه : ( وَلَنْ )

________________________________________

1 ـ الكشاف : 3/261.

2 ـ الميزان : 20/46 ، والمعنى الأوّل الذي قال به صاحب الكشاف أظهر لما في الآية التالية من قوله : ( وهم سالمون ).

3 ـ النساء : 3.

________________________________________

(190)

تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كَالمُعَلَّقةِ وَأَنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. (1)

    وبالتأمّل في جمل الآية ، يظهر أنّ العدالة التي أمر بها ، غير العدالة التي أخبر عن عدم استطاعة المتزوج القيام بها. فالمستطاع منها هو الذي يقدر عليه كلّ متزوج بأكثر من واحدة ، وهو العدالة في الملبس و المأكل والمسكن ، وغيرها من الحقوق الزوجية التي يقوم بها الزوج بجوارحه ، ولا صلة لها بباطنه.

    وأمّا غير المستطاع منها فهو المساواة في إقبال النفس والبشاشة والأنس ، لأنّ الباعث عليها الوجدان النفسي والميل القلبي ، وهو ممّا لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره.

    والآية بصدد التنبيه على أنّ العدل الكامل بين النساء غير مستطاع ، ولا يتعلّق به التكليف ، ومهما حرص الإنسان على أن يجعل المرأتين كالغرارتين المتساويتين في الوزن لا يستطيعه ، وهذا هو العدل الحقيقي التام. (2)

    وباختصار : إنّ المنفي هو العدل الحقيقي الواقعي من غير تطرّف أصلاً ، وهو ليس محلاً للتكليف ، والمثبت المشروع الذي أمر به هو العدل التقريبي الذي هو في وسع كلّ متزوج بأكثر من واحدة. (3)

________________________________________

1 ـ النساء : 129.

2 ـ المنار : 5/448.

3 ـ الميزان : 5/106.

(191)

(12)

رؤية الله بالأبصار

    إنّ رؤية الله تعالى في الآخرة ممّا اهتم الأشعري بإثباته اهتماماً بالغاً في كتابيه : « الإبانة » و « اللمع » وركز عليها في الأوّل من ناحية السمع ، وفي الثاني من ناحية العقل.

    قال في « الإبانة » : و ندين بأنّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون ، كما جاءت الروايات عن رسول الله. (1)

    وقال في « اللمع » : إن قال قائل : لم قلتم إنّ رؤية الله بالأبصار جائزة من باب القياس؟

    قيل له : قلنا ذلك لأنّ ما لا يجوز أن يوصف به الله تعالى ويستحيل عليه ، لا يلزم في القول بجوازالرؤية. (2)

    ولإيقاف القارئ على حقيقة الحال نبحث عن الأُمور التالية :

    1.سرد الأقوال وتعيين محلّ النزاع.

    2. دليل القائلين بجواز الرؤية من العقل.

    3. دليل القائلين بالجواز من القرآن.

    4. دليل القائلين بالجواز من السنّة.

________________________________________

1 ـ الإبانة : 21.

2 ـ اللمع : 61 بلتخيص.

________________________________________

(192)

    5. استدلال المنكرين بالعقل.

    6. استدلال المنكرين بالسمع.

الأمر الأوّل : في نقل الآراء حول الرؤية

    المشهور بين أهل الحديث ، وصرح به إمامهم أحمد بن حنبل ، هو القول بجواز الرؤية في الآخرة ، قال : والأحاديث في أيدي أهل العلم عن النبي : أنّ أهل الجنّة يرون ربّهم ، لا يختلف فيها أهل العلم فينظرون إلى الله. (1)

    وقال الأشعري في بيان عقائد أهل الحديث والسنّة : يقولون إنّ الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كما يُرى القمر ليلة البدر ، يراه المؤمنون ، لا يراه الكافرون لأنّهم عن الله محجوبون ، قال الله تعالى : كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَومَئِذ لَمَحْجُوبُون وإنّ موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا ، وإنّ الله سبحانه تجلّى للجبل فجعله دكّاً ، فأعلمه بذلك أنّه لا يراه في الدنيا ، بل يراه في الآخرة. (2)

    ولكن الظاهر من الآمدي أنّ القائلين بالجواز لا يخصونه بالآخرة بل يقولون بجوازها في الدنيا أيضاً ، وإنّما اختلفوا في أنّه هل ورد دليل سمعي على جوازها في الدنيا أو لاً ، بعد ما اتّفقوا على وروده في الآخرة ، قال : « اجتمعت الأئمة من أصحابنا على رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلاً ، واختلفوا في جوازها سمعاً ، فأثبته بعضهم ونفاه آخرون ». (3)

    وعلى كلّ تقدير فقد نقل الأشعري في مقالات الإسلاميين أقوالاً كثيرة حول الرؤية لا يستحقّ أكثرها أن يذكر ، ونشير إلى بعضها إجمالاً :

    إنّ جماعة يقولون : يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا ، ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات.

________________________________________

1 ـ الرد على الزنادقة : 29.

2 ـ مقالات الإسلاميين : 322.

3 ـ شرح المواقف : 8/115.

________________________________________

(193)

    وأجاز عليه بعضهم في الأجسام ، وأصحاب الحلول إذا رأوا إنساناً يستحسنونه لم يدروا لعلّ آلهتهم فيه.

    وأجاز كثير ممّن جوّز رؤيته في الدنيا ، مصافحته وملامسته ومزاورته إيّاه ، وقالوا إنّ المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك ، حكي ذلك عن بعض أصحاب « مظهر » و « كهمس ».

    وقال « ضرار » و « حفص الفرد » : إنّ الله لا يُرى بالأبصار ، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة ، غير حواسنا فندركه بها. (1)

    يقول ابن حزم : إنّ الرؤية السعيدة ليست بالقوة الموضوعة في العين ، بل بقوة أُخرى موهوبة من الله. (2)

    هذه هي بعض الأقوال المطروحة في المسألة من جانب بعض أهل الحديث ، وليس ذلك بعجيب من أهل التجسيم ، وإنّما العجب ممّن يتجنب التجسيم ويعد نفسه من أهل التنزيه والبراءة من التشبيه ، ويقول ـ مع ذلك ـ بالرؤية ، كالأشاعرة عامة.

    ولأجل ذلك ذهبت المعتزلة والإمامية والزيدية إلى امتناع رؤيته سبحانه في الدنيا والآخرة ، وقالوا بأنّ القول لا يفارق التجسيم والتشبيه ، كما ستقف عليه عند سرد براهينهم إن شاء الله.

 

أهل الكتاب ومسألة الرؤية

    وقد يدين بالرؤية أهل الكتاب قبل أهل الحديث والأشاعرة ، ووردت رؤيته في العهد القديم ، وإليك مقتطفات منها :

    1. « رأيت السيد جالساً على كرسي عال. فقلت : ويل لي لأنّ عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود » ( أشعيا ج6 ص 1 ـ 6 ). والمقصود من السيد هو الله جلّ ذكره.

________________________________________

1 ـ مقالات الإسلامين : 261 ـ 265و 314.

2 ـ الفصل : 3/2.

________________________________________

(194)

    2.« كنت أرى أنّه وضعت عروش وجلس القديم الأيام ، لباسه أبيض كالثلج ، وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار » ( دانيال 7 : 9 ).

    3. « أما أنا فبالبر أنظر وجهك » ( مزامير داود : 17 : 15 ).

    4. « فقال منوح لامرأته : نموت موتاً لأنّنا قد رأينا الله » ( القضاة 13 : 23 ).

    5. « فغضب الرب على سليمان ، لأنّ قلبه مال عن الرب ، إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين » ( الملوك الأوّل 11 : 9 ).

    6.« وقد رأيت الرب جالساً على كرسيه وكلّ جند البحار وقوف لديه » ( الملوك الأوّل 22 : 19 ).

    7. « كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر وأنا بين المسبيين عند نهر خابور ، أنّ السماوات انفتحت فرأيت رؤى اللهـ إلى أن قال : ـ هذا منظر شبه مجد الرب ، ولما رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلم » ( حزقيال1 : 1و28 ).

    والقائلون بالرؤية من المسلمين ، وإن استندوا إلى الكتاب والسنّة ودليل العقل ، لكن غالب الظن أنّ القول بالرؤية ، تسرب إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان ، وربما صاروا مصدراً لبعض الأحاديث في المقام ، وصار ذلك سبباً لجرأة طوائف من المسلمين على جوازها ، واستدعاء الأدلّة عليها من النقل والعقل.

ما هو محلّ النزاع؟

    إنّ محلّ النزاع هو رؤية الله سبحانه بالأبصار رؤية حقيقية ، ولكن المجسمة يقولون بها بلا تنزيه ، والأشاعرة يقولون بها مع التنزيه ، أي بدون استلزام ما يمتنع عليه سبحانه ، من المكان والجهة.

    وأمّا الرؤية القلبية ، ومشاهدة الواجب من غير الطرق الحسية فخارج

 

________________________________________

(195)

    عن مصب البحث ، إذ لم يقل أحد بامتناعها.

    والقائلون بالرؤية مع التنزيه على فرقتين : فرقة تعتمد على الأدلة العقلية دون السمعية ، وفرقة أُخرى على العكس.

    فمن الأُولى : سيف الدين الآمدي ، أحد مشايخ الأشاعرة في القرن السابع ( 551 ـ 631 هـ ) ، يقول : لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي الذي أوضحناه ، إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعية ، وهي ممّا يتقاصر عن إفادة القطع واليقين ، فلا يذكر إلاّ على سبيل التقريب.(1)

    ومن الثانية : الرازي في عديد من كتبه كمعالم الدين ص 67 والأربعين ص 198 ، والمحصل ص 138 ، فقال : إنّ العمدة في جوازالرؤية ووقوعها هو السمع ، وعليه الشهرستاني في « نهاية الأقدام » ص 369.

    هذه هي الأقوال الدارجة حول الرؤية ، وقد عرفت ما هو محلّ النزاع.

 

الأمر الثاني : الأدلّة العقلية على جواز الرؤية

    قد عرفت أنّ طرف النزاع في المقام هو الأشاعرة ، وفي مقدّمهم الشيخ الأشعري ، وهم من أهل التنزيه ، فلأجل ذلك يطرحون المسألة بشكل يناسب مذهبهم.

    يقول التفتازاني : ذهب أهل السنة إلى أنّ الله تعالى يجوز أن يرى وأنّ المؤمنين في الجنّة يرونه منزّهاً عن المقابلة والجهة والمكان. (2)

    وهذه القيود التي ذكرها التفتازاني ، وإن كانت غير واردة في كلام صاحب المنهج ، ولكن الفكرة بهذه الصورة قد نضجت في طوال قرون متمادية ، إنّما الكلام في إمكان وقوع هذه الرؤية ، أي أن تتحقّق الرؤية بالأبصار ، ولكن

________________________________________

1 ـ غاية المرام في علم الكلام : 174.

2 ـ شرح المقاصد : 2/111.

________________________________________

(196)

    مجرّدة عن المقابلة والجهة والمكان ، وهذا ما يصعب تصوّره للإنسان. فتحقّق الرؤية ـ سواء قلنا بأنّها تتحقّق بانطباع صورة المرئي في العين كما عليه العلم الحديث ، أو بخروج الشعاع كما عليه بعض القدماء ـ في غير هذه الظروف أشبه بترسيم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل; ولأجل ذلك يحاول التفتازاني أن يصحّح هذا النوع من الرؤية ويقول :

    إنّا إذا عرفنا الشمس مثلاً بحدّ أو رسم ، كان نوعاً من المعرفة ، ثمّ إذا أبصرناها وغمضنا العين ، كان نوعاً آخر فوق الأوّل ، ثمّ إذا فتحنا العين حصل نوع آخر من الإدراك فوق الأوّلين نسميه الرؤية ، ولا تتعلّق في الدنيا إلاّبما هو في جهة ومكان ، فمثل هذه الحالة الإدراكية ، هل تصحّ أن تقع بدون المقابلة والجهة ، وأن تتعلّق بذات الله تعالى منزهاً عن الجهة والمكان ، أو لا؟. (1)

    يلاحظ عليه :

    أوّلاً : أنّ الرؤية الأُولى أيضاً قبل الغمض ، تصدق عليها الرؤية ، وليس الاختلاف بين الرؤيتين إلاّ في الوضوح والخفاء والقصر والطول ، ولكنّه إنّما خصّ النزاع بالرؤية الثانية لأجل ما ورد في الروايات ، من أنّ المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة كفلق البدر.

    ثانياً : أنّ الرؤية قائمة بأُمور ثمانية : 1. سلامة الحاسة 2. المقابلة أو حكمها كما في رؤية الصور المنطبعة في المرآة 3. عدم القرب المفرط 4. عدم البعد كذلك5. عدم الحجاب بين الرائي والمرئي6. عدم الشفافية ، فإنّ ما لا لون له كالهواء لا يرى 7. قصد الرؤية 8. وقوع الضوء على المرئي وانعكاسه منه إلى العين.

    فلو قلنا بأنّ هذه الشرائط ليست إلزامية بل هي تابعة لظروف خاصة ، ولكن قسماً منها يعد مقوماً للرؤية بالأبصار ، وهو كون المرئي في حيز خاص ،

________________________________________

1 ـ شرح المقاصد : 2/111.

________________________________________

(197)

    وتحقّق نوع مقابلة بين الرائي والمرئي وعند ذلك كيف يمكن أن تتحقّق الرؤية بلا بعض هذه الشرائط.

    ثمّ إنّ بعض المثقفين من الأشاعرة لما وقعوا في مخمصة إزاء هذه الإشكالات ، التجأوا إلى أمر آخر ، وهو القول بأنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا. وهذا الكلام وإن كانت عليه مسحة من الحقّ ، لكن لا يعنى به أنّ حقيقة الأشياء في الآخرة تباين حقيقتها في الدنيا ، وهذا مثل أن يقال : إنّ حقيقة المربع والمثلث في الآخرة غيرهما في الدنيا ، أو إنّ نتيجة « 2*2 » تصير في الآخرة خمسة ، بحجّة أنّ كلّ شيء في الآخرة غيره في الدنيا ، وإنّما المراد من القاعدة هو أنّ كلّ ما يوجد من الأشياء في الآخرة يكون بأكمل الوجود وأمثله ، لا أنّه يباينه على وجه الإطلاق. يقول سبحانه :كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَة رِزْقاً قالُوا هذا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً. (1)

    ثمّ إنّ الأشعري وبعده تلاميذ منهجه استدلّوا على الجواز بوجهين : أحدهما يرجع إلى الجانب السلبي ، وأنّه لا يترتب على القول بالرؤية شيء محال ، والآخر إلى الجانب الإيجابي ، وأنّ مصحح الرؤية في الأشياء هو الوجود ، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق.

    ثمّ أكّدوا الأدلّة العقلية بالأدلة السمعية ، وعلى ذلك فيقع الكلام في تحرير أدلّتهم في مقامين : الأدلّة العقلية ، والأدلة السمعية. ونقدّم العقلية :

الدليل العقلي الأوّل لجواز الرؤية

    إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم شيئاً ممّا يستحيل عليه سبحانه ، فلا يلزم كونه حادثاً أو إثبات حدوث معنى فيه ، أو تشبيهه أو تجنيسه ، أو قلبه عن حقيقته ، أو تجويره أو تظليمه ، أو تكذيبه. ثمّ أخذ الأشعري في شرح نفي هذه اللوازم على وجه مبسوط ، ونحن نقتطف منه جملتين :

    1. « ليس في جواز الرؤية إثبات حدث ، لأنّ المرئي لم يكن مرئياً لأنّه

________________________________________

1 ـ البقرة : 25.

________________________________________

(198)

    محدث ، ولو كان مرئياً لذلك للزم أن يرى كلّ محدث ، وذلك باطل ».

    2. « ليس في إثبات الرؤية لله تعالى تشبيه ». (1)

    يلاحظ على الفقرة الأُولى : أنّ الملازمة ممنوعة ، إذ لقائل أن يقول : إنّ الحدوث ليس شرطاً كافياً في الرؤية حتى يلزم رؤية كلّ محدث ، بل هو شرط لازم يتوقف على انضمام سائر الشروط ، وبما أنّ بعضها غير متوفّر في المجردات المحدثات ، لا تقع عليه الرؤية.

    ويلاحظ على الفقرة الثانية : أنّه اكتفى بمجرّد ذكر الدعوى ، ولم يعززها بالدليل ، مع أنّ مشكلة البحث هي التشبيه الذي أشار إليه ، فإنّ حقيقة الرؤية قائمة بالمقابلة ولو بالمعنى الوسيع ، ولولاها لا تتحقّق ، والمقابلة لا تنفك عن كون المرئي في جهة ومكان ، وهذا يستلزم كونه سبحانه ذا جهة ومكان ، وهو نفس التشبيه والتجسيم. وكيف يقول إنّ تجويز الرؤية لا يستلزم التشبيه؟! « ما هكذا تورد يا سعد الإبل »!

    وهناك إشكال آخر التفت إليه الشيخ ، فعرضه وأجاب عنه ، ونحن نعرض الإشكال والجواب بنصّهما ، قال :

    فإن عارضونا بأنّ اللمس والذوق والشم ، ليس فيه إثبات الحدث ، ولا حدوث معنى في الباري تعالى ، قيل لهم : قد قال بعض أصحابنا إنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات ، وكذلك الذوق وهو اتصال اللسان و اللهوات بالجسم الذي له الطعم ، وإنّ الشمّ هو اتصال الخيشوم بالمشموم الذي يكون عنده الإدراك له ، وإنّ المتماسين إنّما يتماسان بحدوث مماسين فيهما ، وإنّ في إثبات ذلك إثبات حدوث معنى في الباري.

    يلاحظ عليه : أنّ التفريق بين الأبصار وسائر الإدراكات الحسية تفريق بلا جهة ، وما ذكره من أنّ المتماسّين إنّما يتماسّان بحدوث مماسّين فيهما ... مجمل جداً ، وذلك لأنّه إن أراد أنّ اللمس يوجب حدوث نفس المماسين وذاتهما فهو ممنوع ، لأنّ ذاتهما كانتا موجودتين قبل تحقّق اللمس ، وإن أراد حدوث

________________________________________

1 ـ اللمع : 61 ـ 62.

________________________________________

(199)

    وصف مادي ورابطة جسمانية ، وهي التي عبر عنها بقوله : « إنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات » فتلك الحالة أيضاً حادثة عند الإبصار ، غاية الأمر أنّ اللمس ضرب من ضروب المماسات ، والإبصار ضرب من ضروب المقابلات ، وبإعمال كلّ واحد من الحواس تتحقّق إضافة بين الحاسة والمحسوس ، وفي ظلها يتحقّق الإبصار واللمس والشمّ والذوق.

    وأضف إلى ذلك ما نقله عن بعض أصحابه في نقد السؤال الماضي وحاصله :

    إنّ لمسنا أو ذوقنا أو شمنا إياه سبحانه ، يتصور على صورتين :

    1. أن يحدث الله تعالى للذائق أو الشام أو اللامس إدراكاً من غير أن يحدث في الباري تعالى معنى.

    2. تلك الصورة لكن يحدث فيه سبحانه معنى ، فالثاني غير جائز ، والأوّل جائز ، ولكن الأمر في التسمية إلى الله ، إن أمرنا أن نسمّيه لمساً وذوقاً وشماً سمّيناه ، وإن منعنا امتنعنا. (1)

    يلاحظ عليه :

    أوّلاً : أنّ معنى ذلك أن يكون سبحانه مشموماً ملموساً ، مذوقاً ، إذا لم يحدث فيه معنى بشمنا ، وذوقنا ، ولمسنا ، وهذا في نهاية الضعف لا تجترئ عليه المجسّمة ، فكيف بالمنزّهة؟!

    وثانياً : أنّ إيجاده سبحانه في جوارحنا إدراكاً ، حتى يتحقّق في ظله لمسه وذوقه ، وشمّه ، بلا حدوث معنى فيه ، أشبه بترسيم الأسد على عضد البطل ، من غير رأس ولا ذنب ، لأنّ واقعية أعمال هذه الحواس لا تنفك عن تحقّق إضافة ورابطة بينها و بين المحسوس من غير فرق بين الإبصار وغيره ، وهذه الإضافة إضافة مقولية قائمة بالطرفين. وقد التزم المجيب بامتناع هذا القسم ، وإنّما سوغ قسماً آخر ، غير معقول ولا متصوّر.

________________________________________

1 ـ اللمع : 62.

________________________________________

(200)

    وباختصار : إنّ الدليل السلبي الذي اعتمد عليه الشيخ الأشعري غير كاف ، لأنّ الرؤية تستلزم التشبيه ، أي ما يستحيل عليه سبحانه من كونه طرف الإضافة المقولية الحاصلة بينه و بين الحواس.

الدليل العقلي الثاني لجواز الرؤية

    إنّ الوجود هو المصحح للرؤية ، وهو مشترك بين الواجب وغيره وقد نسبه في المواقف إلى الشيخ الأشعري والقاضي وأكثر أئمّة الأشاعرة. (1)

    وحاصله : أنّ الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، ولابدّ للرؤية المشتركة من علّة واحدة وهي إمّا الوجود أو الحدوث ، والحدوث لا يصلح للعلية ، لأنّه أمر عدمي ، فتعيّن الوجود ، والوجود مشترك بين الواجب والممكن ، فينتج أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الواجب والممكن.

    وقد اعترض على ذلك البرهان في الكتب الكلامية ، حتى من جانب نفس الأشاعرة (2) ، بكثير ولكنّا نعتمد في نقض هذا البرهان على ما يبطله من أساسه ، فنقول :

    إنّ الحصر في كلامه غير حاصر ، فمن أين علم أنّ مصحّح الرؤية هو الوجود؟ إذ من المحتمل أن يكون الوجود شرطاً لازماً ، لا شرطاً كافياً ، ويكون الملاك هو الوجود الممكن ، وليس المراد من الممكن في قولنا « الوجود الممكن » الإمكان الذاتي ، الذي يقع وصفاً للماهية ، حتى يقال بأنّ الماهية ووصفها « الإمكان » من الأُمور العدمية والاعتبارية لا تصلح أن تكون جزء العلّة ، بل المراد هو الإمكان الذي يقع وصفاً للوجود ، ومعناه كون الوجود متعلقاً بالغير قائماً به ، كقيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، وليس الإمكان بهذا المعنى شيئاً غير حقيقة الوجود الإمكاني ، كما أنّ الوجوب ليس وراء نفس حقيقة

________________________________________

1 ـ شرح المواقف : 8/115.

2 ـ تلخيص المحصل : 317 ، غاية المرام : 160 ، شرح التجريد للقوشجي : 431 وغيره.

(201)

    الوجود في الواجب شيئاً طارئاً عليه ، ومع قيام هذا الاحتمال لا يصحّ للمستدلّ أن يجعل مصحّح الرؤية نفس الوجود ، ثمّ يدّعي اشتراكه بين الواجب وغيره.

    بل هناك احتمال ثالث ، هو أن يكون الملاك ومصحّح الرؤية هو الوجود الإمكاني المادي ، الذي يقع في إطار شرائط خاصة لتحقّقها ، وهي عبارة عن المقابلة وكونه طرف الإضافة المقولية بين البصر والمبصر ، بضميمة وجود الضوء بينهما ، فادّعاء كون الملاك أمراً وسيعاً ( الوجود ) ، يحتاج إلى دليل.

    ولو أردنا أن نقف على ما هو الملاك ـ من زاوية العلوم الطبيعية ـ فإنّ الإبصار حسب هذه العلوم رهن ظروف خاصة ، ولا تعدو عن كون المبصر موجوداً ممكناً مادياً ، يقع في أُفق الحس حيث يوجد هناك ضوء ، وادّعاء إمكان الإبصار في غير هذه الظروف يحتاج إلى دليل ، وليس الاحتمال كافياً في مقام البرهان.

    والعجب أنّه يدّعي أنّ مصحّح الرؤية هو الوجود ، وعليه أن يعترف بصحّة رؤية الأفكار والعقائد ، والروحيات والنفسانيات من القدرة والإرادة ، إلى غير ذلك من الموجودات التي لا يشكّ أحد في امتناع رؤيتها.

    ولكن الشيخ حسب نقل شارح المواقف أجاب عن هذا النقض بقوله : إنّنا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرتموها لجريان العادة من الله بعدم الرؤية ، فإنّه أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولكن لا يمتنع أن يخلق فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها. (1)

    ولا يخفى أنّ كلامه يتضمن المصادرة على المطلوب ، إذ من أين وقف على إمكان رؤيتها حتى يصحّ تعليل عدم وقوعها بقوله : « أجرى عادته بعدم خلق رؤيتها فينا مع إمكانها » فإنّ الكلام في نفس الإمكان ، والخصم يدّعي الامتناع وهو يدّعي خلافه.

    أضف إلى ذلك أنّ اللجوء إلى عادة الله في كلمات الشيخ الأشعري

________________________________________

1 ـ شرح المواقف : 8/123.

________________________________________

(202)

    وأتباعه ، يرجع لبه إلى إنكار السببية والمسببية بين عوالم الوجود ودرجات العالم ، وأنّ كلّ حادثة طارئة تستند إليه سبحانه مباشرة ، وأنّه هو المحرق والمبرد ، وما يتبادر إلى الأذهان والحواس من كون النار محرقة ليس إلاّ جريان عادة الله على إيجاد الحرارة بعد وجود النار ، ولا صلة بين النار والحرارة.

    وهذا الأصل الذي يعتمد عليه الأشاعرة في كثير من المواضع يضاد الكتاب العزيز والبرهان القويم. كيف و قد صرّح سبحانه في الذكر الحكيم بتأثير العلل الطبيعية في معلولاتها بإذن منه سبحانه ، ونكتفي من الآيات الكثيرة بآية واحدة : الّذي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَبِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (1). أنظر إلى قوله سبحانهفَأخرج بهأي بسبب الماء ، فللماء سببية وتأثير في خروج الثمرات. (2)

 

الأمر الثالث : دليل القائلين بالجواز من القرآن

    استدل القائلون بجواز الرؤية بآيات كثيرة نذكر المهم منها :

    الأُية الأُولى

    قوله سبحانه : كَلاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ* وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ* وُجُوهٌ يَومَئِذ ناضِرَةٌ *إِلى رَبِّها ناظِرَة* وَوُجُوهٌ يَومَئِذ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ . (3)

    تمسّكت الأشاعرة لجواز رؤية الله بهذا الدليل السمعي ، قائلين بأنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار ، يستعمل بغير صلة ، ويقال انتظرته ، وإذا كان بمعنى التفكر يستعمل بلفظة « في » ، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل باللام ، وإذا كان بمعنى الرؤية يستعمل ب ـ « إلى » و النظر في الآية استعمل بلفظ « إلى » ، فيحمل

________________________________________

1 ـ البقرة : 22.

2 ـ تقدّم الكلام فيه.لاحظ : ص 161.

3 ـ القيامة : 20 ـ 25.

________________________________________

(203)

    على الرؤية. (1)

    قال الشيخ أبو الحسن : والدليل على أنّ الله تعالى يُرى بالأبصار قوله تعالى : وُجُوهٌ يَومَئِد ناضِرَة* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (2) ولا يجوز أن يكون معنى قوله إِلى ربّها ناظرةمعتبرة ، كقوله تعالى : أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) (3). لأنّ الآخرة ليست بداراعتبار ، ولا يجوز أن يعني متعطفة راحمة كما قال : « ولا ينظر إليهم » أي لا يرحمهم ولا يتعطف عليهم ، لأنّ الباري لا يجوز أن يتعطف عليه (4). ولا يجوز أن يعني منتظرة ، لأنّ النظر إذا قرن النظر بذكر القلب لم يكن معناه نظر العين ، لأنّ القائل إذا قال : أنظر بقلبك في هذا الأمر ، كان معناه نظر القلب ، وكذلك إذا قرن النظر بالوجه لم يكن معناه إلاّ نظر الوجه.

    والنظر بالوجه هو نظر الرؤية الذي يكون بالعين التي في الوجه ، فصحّ أنّ معنى قوله تعالى : إِلى رَبِّها ناظرةٌ رائية. إذا لم يجز أن يعني شيئاً من وجوه النظر الأُخرى. (5)

    قال أيضاً حول دلالة الآية على الرؤية :

    إنّ النظر في هذه الآية لا يمكن أن يكون نظر الانتظار ، لأنّ الانتظار معه تنقيص وتكدير ، وذلك لا يكون يوم القيامة ، لأنّ الجنّة دار نعيم وليست دار ثواب أو عقاب ، ولا يمكن أن يكون نظر الاعتبار ، لأنّ الآخرة ليست دار الاعتبار بل دار ثواب أو عقاب ، ولا يمكن أن يكون نظر القلب ، لأنّ الله تعالى ذكر النظر مع الوجه ، فاتضح أنّه نظر العينين ، وإذا بطلت هذه المعاني

________________________________________

1 ـ شرح التجريد للقوشجي : 334.

2 ـ القيامة : 22 ـ 23.

3 ـ الغاشية : 17.

4 ـ هذا سهو من قلمه ، لأنّ الآية تتضمن نفي نظره سبحانه إليهم بالرحمة والعطف ، لا نظرهم إليه بالعطف والحنان حتى يصح قوله : « لأنّ الباري لا يجوز أن يتعطف عليه » فلاحظ.

5 ـ اللمع : 64.

________________________________________

(204 )

    للنظر لم يبق إلاّ حالة واحدة وهي نظر الرؤية.

    يلاحظ عليه : من أين وقف الشيخ الأشعري على أنّ الآيات تحكي عن أحوال المؤمنين بعد دخول الجنّة والكافرين بعد الاقتحام في النار؟

    والظاهر بقرينة قوله : تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أنّ الآيات تحكي عن أحوالهم قبل دخولهم في مستقرهم ومأواهم ، فلا مانع من أن يكون انتظار من دون أن يكون هناك تكدير وتنقيص.

    قد شغلت هذه الآية بال الأشاعرة والمعتزلة ، فالفرقة الأُولى تصرُّ على أنّ النظر هنا بمعنى الرؤية ، والثانية تصر على أنّها بمعنى الانتظار لا الرؤية ، ويقولون : إنّ النظر إذا استعمل مع « إلى » يجيء بمعنى الانتظار أيضاً ، يقول الشاعر :

   

وجوه ناظرات يوم بدر           إلى الرحمن يأتي بالفلاح (1)

    أي منتظرة إتيانه تعالى بالنصرة والفلاح.

    إلى غير ذلك من الآيات والروايات والأشعار العربية ، الواردة فيها تلك اللفظة بمعنى الانتظار ، حتى فيما إذا كانت مقرونة بـ « إلى ».

    غير أنّ الحقّ أنّ الآية لا تدلّ على نظرية الأشاعرة ، حتى ولو قلنا إنّ النظر في الآية بمعنى الرؤية ، فإنّ الآية على كلا المعنيين تهدف إلى أمر آخر ، لا صلة له بمسألة الرؤية ، ويعرف مفاد الآيات بمقارنة بعضها ببعض ، وإليك بيانه :

    إنّ الآية الثالثة تقابل الآية الأُولى ، كما أنّ الرابعة تقابل الثانية ، وعند المقابلة يرفع إبهام الثانية بالآية الرابعة ، وإليك تنظيم الآيات حسب المقابلة :

    أ. وجوه يومئذ ناضرة ـ يقابلها قوله : وجوه يومئذ باسرة .

    ب. إلى ربّها ناظرة ـ يقابلها قوله : تظن أن يفعل بها فاقرة .

    وبما أنّ المقابل للآية الثانية واضح المعنى ، فيكون قرينة على المراد منها ،

________________________________________

1 ـ وفي رواية : تنتظر الخلاصا.

________________________________________

(205)

    فإذا كان المقصود من المقابل أنّ الطائفة العاصية تظن وتتوقع أن ينزل بها عذاب يكسر فقارها ، ويقصم ظهرها ، يكون المراد من عدله وقرينه عكسه وضدّه ، وليس هو إلاّ أنّ الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته ، ومتوقعة لفضله وكرمه ، لا النظر إلى جماله وذاته وهويته ، وإلاّ لخرج المقابلان عن التقابل وهو خلف.

    وبعبارة أُخرى : يجب أن يكون المقابلان ـ بحكم التقابل ـ متحدي المعنى والمفهوم ، ولا يكونا مختلفين في شيء سوى النفي والإثبات ، فلو كان المراد من المقابل الأو ، ّل أعني : إلى ربّها ناظرة ، هو رؤية جماله سبحانه وذاته ، فيجب أن يكون الجزاء في قرينه ، أعني : تظن أن يفعل بها فاقرةهو حرمان هؤلاء عن الرؤية ، أخذاً بحكم التقابل. وبما أنّ تلك الجملة ـ أعني : القرين الثاني ـ لا تحتمل ذلك المعنى ، أعني : الحرمان من الرؤية ، بل صريحة في انتظار العذاب الفاقر ، يكون ذلك قرينة على المراد من القرين الأوّل ، هو رجاء رحمته وانتظار فرجه وكرمه.

بيان آخر

    إنّ المراد من « ناظرة » سواء أفسرت بمعنى الانتظار أم النظر المرادف مع الرؤية ، هو توقّع المطيعين المتقين الرحمة الإلهية ، في مقابل توقع العصاة عذابه الفاقر ، فإذا كان هو المراد من الآية حسب التقابل ، فلو قلنا بأنّ لفظة « ناظرة » بمعنى الانتظار تسقط دلالة الآية على الرؤية ـ ولو كانت بمعنى النظر المرادف مع الرؤية ـ فهي كناية عن انتظار الرحمة ، مثلاً يقال : فلان ينظر إلى يد فلان ، يراد أنّه رجل معدم محتاج ليس عنده شيء ، وإنّما يتوقع أن يعطيه ذلك الشخص ، فما أعطاه ملكه ، وما منعه حرم منه ، وهذا ممّا درج عليه الناس في محاوراتهم العرفية ، إذ يقول إنسان في حقّ آخر« فلان ينظر إلى الله ثمّ إليك » فالنظر ، وإن كان هنا بمعنى الرؤية بلا شك ، لكنّه كناية عن انتظار فضله سبحانه وكرمه ، كانتظاره بعد الله فضل سيده ، ويفسره في « أقرب الموارد » بقوله« يتوقع فضل الله ثمّ كرمك » و الآية نظير قول القائل :

   

إنّي إليك لما وعدت لناظر               نظر الفقير إلى الغني الموسر

 

________________________________________

(206)

    فمحور البحث والمراد ، في أمثال المورد ، هو توقّع الرحمة وحصولها ، أو عدم توقّعها وشمولها ، فالطغاة يظنون شمول عذاب يفقرهم ويكسر ظهورهم ، والصالحون يظنّون عكسه وضدّه. وأمّا رؤية الله سبحانه ووقوع النظر إلى ذاته فخارج عن مدار البحث في هذه المواقع ، والأشعري وكلّ من استدلّ بهذه الآية على الرؤية خلط المعنى المكنّى به بالمعنى المكنّى عنه. فقد كنّى بالنظر إلى الله عن الانتظار لرحمته وشمول فضله وكرمه.

    ولذلك نظائر في الكتاب العزيز ، يقول سبحانه : إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيمانِهِمْ ثَمَناً قَليلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَليم (1). والمراد من قوله : « لا ينظر إليهم » هو المعنىالمكنّى عنه ، وهو طردهم عن ساحته ، وعدم شمول رحمته لهم ، وعدم تعطّفه عليهم ، وتدلّ على ذلك الآية المتقدّمة عليها ، حيث قال عزّ من قائل : بَلى مَنْ أَوفى بِعَهْدِهِ وَاتّقى فَإنَّ الله يُحِبُّ المُتَّقينَ . (2)

    فلو قمنا بالمقابلة يكون سياق الآيات بالشكل التالي : مَن أَوفى بِعَهدِهِ وَاتّقى يكون جزاؤه قوله : يحبّه الله فإنّ الله يحبّ المتقين.

    وإِنَّ الَّذينَ يَشترون بِعَهْدِ الله وَأَيمانِهِمْ ثَمَناً قَليلا يكون جزاؤهم قوله : لا يُكَلّمُهُمُ اللّهوَلا يَنْظُر إِليهِمْ يَومَ القِيامةِ .

    فالإبهام الموجود في الجزاء الثاني يرتفع بالمعنى المتبادر من الجزاء الأوّل ، فبما أنّ المراد منه هو عموم رحمته وشمول فضله يكون المراد من الجزاء الثاني هو قبض رحمته وعدم شموله لهم.

    وإن شئت قلت : إنّ المراد من « لا ينظر إليهم » ليس هو عدم رؤية الله وعدم مشاهدته إيّاهم ، لأنّ رؤيتهم أو عدم رؤيته ليس أمراً مطلوباً لهم حتى

________________________________________

1 ـ آل عمران : 77.2 ـ آل عمران : 76.

________________________________________

(207)

    يُهَدَّدوا بعدم النظر إليهم وإنّما النافع بحالهم هو وصول رحمته إليهم ، والمضر بحالهم عدم شمول لطفه لهم ، فيكون المراد عدم تعطّفه إليهم.

    هذا هو مفتاح حل المشكل المتوهم في الآية ، فتفسير الآية برؤية الله أخذاً بالمعنى المكنّى به غفلة عن محور البحث فيها.

    ويدلّ على أنّ المراد من النظر ـ حتى ولو كان بمعنى الرؤية ـ ليس هو الرؤية البصرية ، بل المقصود انتظار الرحمة ، تقديم المفعول ، أعني : « إلى ربّها » على الفعل والفاعل أعني : « ناظرة » ، فإنّ تقديمه يدلّ على معنى الاختصاص ، والاختصاص صحيح لو قلنا بأنّ المراد هو انتظار رؤيته ، لأنّ الإنسان في هذا الظرف الهائل لا يتوقع إلاّ رحمة الله وعنايته ولطفه فقط ، ولا يتوقع شيئاً سواها حتى يتخلص من أهوال القيامة ، وأمّا رؤية الله سبحانه فليست بهذه المنزلة في تلك الأحوال ، فليس الناس بحالة لا يطلبون فيها إلاّ النظر إليه وعدم النظر إلى غيره. وإن عمّهم العذاب بعد الرؤية ليصحّ وجه الحصر. لأنّ ما ينجيهم من الأهوال هو رحمته ، لا رؤية وجهه.

    يقول صاحب الكشاف : إنّ المؤمنين ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد. فاختصاصه سبحانه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه ، محال أو غير واقع ، فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص. والذي يصحّ معه أن يكون من قبيل قول الناس« أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي » يريد معنى التوقّع والرجاء ومن هذا القبيل قوله :

    وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دون ـ ك زدتني نعماً (1)

    إنّ هنا كلمة أُخرى للزمخشري في كشافه ، يقول :

    « وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم ، تقول : « عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم ».تقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها ، كما هو معنى قولهم : « أنا أنظر إلى الله ثمّ إليك » : « أتوقع فضل الله ثمّ فضلك ». (2)

________________________________________

1 ـ الكشاف : 4/662.

2 ـ الكشاف : 3/294 ، في تفسير قوله سبحانه : ( إلى ربّها ناظرة ).

________________________________________

(208 )

    فلو أنّ القوم تجرّدوا عن انتحال مسلك مسبق ، ونظروا إلى القرآن بعين التفهّم والاستفادة ، لما شكّ أحد في أنّ المراد من النظر إلى الله سبحانه في ذلك المشهد الرهيب هو رجاء رحمته وفضله وكرمه.

    وممّا ذكرنا تعرف أنّ ما أتعب به الشيخ نفسه لا يفيد شيئاً. فإنّ غاية ما أثبته هو أنّ النظر هنا بقرينة « وجوه » بمعنى الرؤية ، ولكنّه لم يستدلّ على أنّ الرؤية هل هي المقصود بالذات ، أو هي كناية عن معنى آخر وهو انتظار رحمته ، واليقين بفضله وكرمه؟ مع أنّ هنا فرقاً واضحاً بين قولنا : « عيون يومئذ ناظرة » و وجوه يومئذ ناظرة فلو كان الأوّل ظاهراً في الرؤية فليس الثاني كذلك. فهو في الانتظار أوضح وأبين. وليس الفاعل في قوله سبحانه : إِلى ربّها ناظرة هو العيون ، بل الوجوه المذكورة في الآية المتقدمة ، أعني قوله : وجوه يومئذ ناظرة فالنظر منسوب إلى الوجوه لا إلى العيون ، فافهم.

    وباختصار ، إنّا لا نقول بأنّ النظر هنا نظر القلب ، حتى يستدلّ الشيخ على عدم صحّته بأنّ النظر إذا قرن بالوجوه لم يكن معناه نظر القلب ، الذي هو انتظاره ، وإنّما نقول بأنّ المراد منه هو النظر بالعين ، ولكن هذا المعنى المطابقي كناية عن معنى التزامي. والمقصود في الكنايات هو المعنى الثاني لا المعنى الأوّل. فإذا قلت « فلان كثير الرماد » فصدقه يتوقّف على كثرة ضيوفه ووفرة من ينزل في بيته ، لا على وجود رماد في بيته.

    وعلى ذلك فالذي يجب التركيز عليه هو الوقوف على ما هو مقصود المتكلّم من قوله : إِلى ربّهاناظرة فهل هو يريد أنّ جزاء المطيعين ذوي الوجوه الناظرة هو النظر إلى ذات الله ورؤيته؟ أو أنّه كناية عن جزاء آخر ، هو انتظار رحمته وفضله وكرمه ، في مقابل الطغاة ذوي الوجوه الباسرة الظانين بنزول العذاب الفاقر.

    وهذه هي النكتة المهمة في فهم الآية وقد غفل عنها الأشعري وروّاد منهجه.

    الآية الثانية

    قوله سبحانه : وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبّهُ قالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ

 

________________________________________

(209)

إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَراني وَلكِنِ انْظُر إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوفَ تَراني فَلَمّا تَجلّى رَبُّهُ لِلْجَبَل جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوّلُ المُؤْمِنينَ (1). (2)

احتجت الأشاعرة بهذه الآية بوجهين :

    الوجه الأوّل : أنّ موسى سأل الرؤية ولو كانت ممتنعة لما سألها ، لأنّه إمّا يعلم امتناع الرؤية أو يجهله ، فإن علم فالعاقل لا يطلب المحال ، وإن جهله فهو لا يجوز في حقّ موسى ، فإنّ مثل هذا الشخص لا يستحقّ أن يكون نبيّاً.

    يلاحظ عليه : أنّ المستدلّ أخذ بآية واحدة ، وترك التدبّر في سائر الآيات الواردة حول الموضوع ، وتصور أنّ الكليم ابتدأ بالسؤال وأُجيب بالنفي ، وعلى ذلك بنى استدلاله بأنّه لو كان ممتنعاً لما سأله الكليم ، ولكن الحقيقة غير ذلك ، وإليك بيانه : إنّ الكليم لماأخبر قومه بأنّ الله كلّمه وقرّبه وناجاه ، قالوا لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه ، فخرج بهم إلى طور سيناء وسأله سبحانه أن يكلّمه ، فلمّا كلّمه الله ، وسمعوا كلامه ، قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظملهم وعتوهم واستكبارهم.

    وإلى هذه الواقعة تشير الآيات الثلاث التالية :

    1.وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ . (3)

    2.يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِم. (4)

    3. وَاخْتارَ مُوسى قَومَهُ سَبْعينَ رَجُلاً لِميقاتِنا فَلمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ

________________________________________

1 ـ الأعراف : 143.

2 ـ وقد استدلّت به الأشاعرة ولم يستدلّ به الشيخ أبو الحسن في لمعه وإنّما ذكرناه تتميماً للبحث.

3 ـ البقرة : 55.

4 ـ النساء : 153.

________________________________________

(210)

رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِر لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيرُ الغافِرين ). (1)

    إلى هذه اللحظة الحسّاسة لم يَحُمْ الكليم حول الرؤية ، ولم ينبس فيها ببنت شفة ، ولم يطلب شيئاً ، بل طلب منه سبحانه أن يحييهم ، حتى يدفع اعتراض قومه عن نفسه إذا رجع إليهم ، فلربما قالوا إنّك لما لم تكن صادقاً في قولك : إنّ الله يناجيك ، ذهبت بهم فقتلتهم ، فعند ذلك أحياهم الله وبعثهم معه. وهذا هو مقاله. يقول سبحانه عنهقال ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السُّفهاء منّا إن هي إلاّفتنتك .

    فلو كان هناك سؤال من موسى فإنّما كان بعد هذه المرحلة ، وبعد إصابة الصاعقة للسائلين وعودهم إلى الحياة بدعاء موسى.

    وعند ذلك يطرح السؤال الآتي :

    هل يصحّ أن ينسب إلى الكليم ـ بعد ما رأى بأُمّ عينه ما أصاب القوم من الصاعقة والدمار ، إثر سؤالهم الرؤية ـ أنّه قام بالسؤال لنفسه بلا داع وسبب مبرر أو بلا ضرورة؟ أو أنّه ما قام بالسؤال ثانياً إلاّ بعد إصرار قومه وإلحاحهم عليه أن يسأل الرؤية لا لهم بل لنفسه ، حتى تحصل رؤيته لله مكان رؤيتهم ، فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية؟

    لا شكّ أنّ الأوّل بعيد جداً لا تصحّ نسبته إلى من يملك شيئاً من العقل والفكر ، فضلاً عن نبي عظيم مثل الكليم. كيف وقد رأى جزاء من سأل الرؤية ، فالثاني هو المتعين ، وفي نفس الآية قرائن تدلّ على أنّ السؤال في المرة الثانية كان بإصرار القوم وإلحاحهم ، وكفى في القرينة قوله أَتُهلكنا بما فعل السُّفهاءحيث يعد السؤال من فعل السفهاء ، ومعه كيف يصحّ له الإقدام بلا ملزم و مبرر أو بلا ضرورة وإلجاء ، وبما أنّ الله سبحانه يعلم بأنّه لم يقدم إلى

________________________________________

1 ـ الأعراف : 155.

(211)

    السؤال إلاّ بإصرار قومه حتى يكبت هؤلاء ويسكتهم ، لم يوجّه إلى الكليم أي مؤاخذة ، بل خاطبه بقوله لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني.

    وهناك كلام للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) يعرب عن صحّة ما ذكرناه ، وأنّ سؤال الكليم لم يكن من جانب نفسه ، بل من جانب قومه. قال الإمام ( عليه السَّلام ) « إنّ كليم الله موسى بن عمران ( عليه السَّلام ) علم أنّ الله ، تعالى عن أن يرى بالأبصار ، ولكنّه لما كلّمه الله عزّوجلّ وقرّبه نجياً ، رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ الله عزّوجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت.

    وكان القوم سبعمائة ألف رجل ، فاختار منهم سبعين ألفاً ، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ، ثمّ اختار منهم سبعمائة ، ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه ، فخرج بهم إلى طور سيناء ، فأقامهم في سفح الجبل ، وصعد موسى ( عليه السَّلام ) إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلّمه ، ويسمعهم كلامه ، فكلّمه الله ، تعالى ذكره ، وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام. لأنّ الله عزّ وجلّ أحدثه في الشجرة ، ثمّ جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتَوا ، بعث الله عزّوجلّ عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا.

    فقال موسى : يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا : إنّك ذهبت به فقتلتهم ، لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادعيت من مناجاة الله إيّاك ، فأحياهم الله وبعثهم معه. فقالوا : إنّك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك ، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته ، فقال موسى ( عليه السَّلام ) : « يا قوم إنّ الله لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له ، وإنّما يُعرف بآياته ويُعلم بأعلامه.

    فقالوا لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى ( عليه السَّلام ) : يا ربّ قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى الله جلّ جلاله إليه : يا

 

________________________________________

(212)

    موسى اسألني ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى ( عليه السَّلام ) : ربّ أرني أنظر إليك. قال : لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه ( وهو يهوي ) فسوف تراني ، فلما تجلّى ربّه للجبل ( بآية من آياته ) جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً ، فلمّا أفاق قال : سبحانك تبت إليك ( يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي ) وأنا أوّل المؤمنين ( منهم بأنّك لا تُرى ) ، فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن. (1)

    ثمّ إنّ للعّلامة الزمخشري كلاماً حول تفسير الآية هو فصل الخطاب ، يقرب كلامه ممّا نقلناه عن الإمام الطاهر أبي الحسن الرضا ( عليه السَّلام ) ، فإلى القارىء نصه : « فإن قلت : كيف طلب موسى ( عليه السَّلام ) ذلك وهو من أعلم الناس بالله وصفاته و مايجوز عليه ومالا يجوز ، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس ، وذلك إنّما يصحّ فيما كان في جهة ، وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة.

    قلت : ما كان طلب الرؤية إلاّ ليبكِّت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضُلاّلاً ، وتبرأ من فعلهم ، وليلقمهم الحجر; وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم ، وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ ، فلجّوا وتمادوا في لجاجهم ، وقالوا : لابدّ ، ولن نؤمن حتى نرى الله جهرة. فأراد أن يسمعوا النصّ من عند الله باستحالة ذلك ، وهو قوله : « لن تراني » ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ، فلذلك قال : ربِّ أرني أَنظر إليك.

    فإن قلت : فهلاّ قال : أرهم ينظروا إليك؟ قلت : لأنّ الله سبحانه إنّما كلّم موسى ( عليه السَّلام ) وهم يسمعون ، فلمّا سمعوا كلام ربّ العزّة أرادوا أن يري موسى ذاته فيبصروه معه ، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه ، إرادة مبنية على قياس فاسد ، فلذلك قال موسى : أَرني أَنظر إليك ولأنّه إذا زجر عمّا طلب وأنكر عليه في نبوته واختصاصه وزلفته عند الله ، وقيل له : لن يكون ذلك ، كان غيره أولى بالإنكار ، ولأنّ الرسول إمام أُمّته فكان ما يخاطب به أو ما

________________________________________

1 ـ توحيد الصدوق : 121 ـ 122.

________________________________________

(213)

    يخاطب ، راجعاً إليهم ، وقوله : أَنظر إليك وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم ، دليل على أنّه ترجمة عن مقترحهم ، وحكاية لقولهم ، وجلّ صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه ، مقابلاً بحاسة النظر ، فكيف بمن هو أعرف في معرفة الله تعالى من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المتكلّمين.

    فإن قلت : ما معنى « لن »؟

    قلت : تأكيد النفي الذي تعطيه « لا » و ذلك أنّ « لا » تنفي المستقبل ، تقول : لا أفعل غداً ، فإذا أكدت نفيها قلت : لن أفعل غداً. والمعنى أنّ فعله ينافي حالي ، كقوله : لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلو اجْتَمعوا له ، فقوله : لا تُدركه الأَبصار نفي للرؤية فيما يستقبل و لن تراني تأكيد و بيان ، لأنّ النفي مناف لصفاته. (1)

    ذلك كلام الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ( عليه السَّلام ) ، أحد قرناء الكتاب وأعداله حسب تنصيص النبي الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم. (2) وهذا تحليل علاّمة المعتزلة ، ولو تأمل الإنسان المحايد فيما ذكر ، لعرف دلالة الآية على امتناع الرؤية.

    وبذلك يعلم أنّ الميقات الوارد في قوله تعالى : وَلَمّا جاءَمُوسى لِميقاتِنا وَكَلّمَهُ رَبّهُ قالَ رَبِّ أَرِني أَنْظُر إِليك نفس الميقات الوارد في الآية الأُخرى ، أعني قوله : وَاخْتارَمُوسى قومهُ سَبْعينَ رَجُلاً لِميقاتِنا فَلَمّا أَخَذتهُمُ الرّجْفَةولم يكن لموسى مع قومه أي ميقات غير هذا. غير أنّ الرجوع في سورة الأعراف إلى مسألة الميقات ثانياً بعد ذكره في بدء القصة ، لأجل العناية بهذه القطعة من القصة ، والقرآن ليس كتاب قصة ، وإنّما هو كتاب هداية يكرر من القصة ما يهمّه.

    وبعبارة أُخرى : إنّ موضوع طلب الرؤية ذكر في ثنايا القصة مرّة

________________________________________

1 ـ الكشاف : 1/573 ـ 574 ط مصر. كذا في المطبوع ، والصحيح : أنّ الرؤية منافية ، كما في جوامع الجامع.

2 ـ في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين ، قال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ».

________________________________________

(214)

     ( الأعراف : 143 ) لأجل حفظ تسلسل فصول القصة ، وذكر في نهايتها ثانياً ( الأعراف : 155 ) لأجل إبراز العناية ، وأنّه كان مسألة مهمة في حياة بني إسرائيل.

لقاء أو لقاءان؟

    قد استظهرنا أنّه لم يكن لموسى حول مسألة الرؤية إلاّ ميقات واحد ، ولم يكن هنا إلاّ طلب واحد لأجل إصرار قومه. وربما يحتمل تعدد اللقاءين ، وأنّ الأوّل منهما كان عند اصطفائه سبحانه لكلامه ، وتشريفه بإعطاء التوراة ، وإرساله إلى قومه; وكان الثاني بعد رجوعه من الميقات ومشاهدة اتخاذ قومه العجل إلهاً ، فعند ذاك اختار من قومه سبعين رجلاً وذهب بهم إلى الميقات ، فأصروا على أنّهم لا يؤمنون به إلاّ بعد رؤية الله جهرة. فالآية الأُولى وَلَمّاجاء مُوسى لميقاتناناظرة إلى اللقاء الأوّل والآية الثانية واختار موسى قومه إلى اللقاء الثاني. وكان في كلّ ، طلب وسؤال خاص.

    هذا هو المفترض ، ولكنّه بعيد جداً ، وعلى فرض ثبوته لا يدلّ على المطلوب المدّعى ثانياً.

    أمّا الأوّل : فلأنّه لو كان للكليم لقاءان ، وقد سأل في الأُولى منهما الرؤية لنفسه وحده وأُجيب بالنفي ، ولمّا شاهد اندكاك الجبل عند تجلي الرب صعق ووقع على الأرض ، كان عليه تذكير قومه بما وقع وتخويفهم من الطلب ، مع أنّه لم يذكر منه شيء في الآية الثانية. ولو نبّههم بذلك ـ و مع ذلك ألّحوا على الرؤية ـ لأشار إليه الذكر الحكيم إيعازاً إلى لجاجهم وعنادهم.

    وكلّ ذلك يعرب عن وحدة اللقاء ، وأنّ مجيئه لميقات ربّه لإخذ الألواح كان مع من اختارهم من قومه ، ولم يكن إلاّ طلب واحد في حضرة القوم.

تفسير الآية بوجه آخر

    وعلى فرض التعدّد فالرؤية التي طلبها موسى لنفسه وقال : أَرني أَنْظُر إِليك غير الرؤية التي طلبها قومه ، فالمراد من الثانية هو الرؤية البصرية

 

________________________________________

(215)

    المستحيلة ، وقد أعقب السؤال نزول الصاعقة وإهلاك القوم ، ولكن المراد من الأوّل هوحصول العلم الضروري ، وإنّما سمي بالرؤية للمبالغة في الظهور. وله نظائر في القرآن كقوله سبحانه : وَكَذلِكَ نُري إِبْراهيمَ مَلَكُوتَ السَّمواتِ وَالأَرْض ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنين (1)وقوله عزّ من قائل : كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقينِ *لَتَرَوُنَّ الجَحيم . (2)

    فالكليم أجلّ من أن يجهل امتناع الرؤية الحسية بالأبصار ، خصوصاً في الدنيا التي يسلّم الخصم امتناعه فيها. فهذا قرينة على أنّ مقصوده منها هو العلم الضروري من دون استعمال آلة حسية أو فكرية. فالله سبحانه لما اصطفاه برسالته وتكليمه وهو العلم بالله من جهة السمع ، رجا أن يزيده بالعلم من جهة الرؤية ، وهو كمال العلم الضروري ، فأُجيب بالنفي ، وأنّ الإنسان ما دام شاغلاً بتدبير بدنه ، لا ينال ذاك العلم.

    هذا ، والأصح هو الجواب الأوّل ، وأنّه لم يكن هنا إلاّ طلب واحد بإصرار من قومه.

إكمال

    بقي الكلام في ارتباط قوله سبحانه : وَلكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني بما قبله لن تراني وقد قيل في وجه ارتباطه وجهان ، والثاني هو المتعيّن ، وإليك بيانه :

    الأوّل ما ذكره صاحب الكشاف ، وحاصله ، أنّ اندكاك الجبل كان ردّ فعل لطلب الرؤية حتى يقف موسى على استعظام ما أقدم عليه من السؤال ، وإن كان بإلحاح قومه وإصرارهم ، وكأنّه عزّ وجلّ حقّق عند طلب الرؤية ما ذكره في مورد آخر ، أعني : نسبة الولد إليه ، أعني قوله : وتخرّ الجبال هداً* أن دعوا للرّحمن ولداً. (3)

________________________________________

1 ـ الأنعام : 75.

2 ـ التكاثر : 5 ـ 6.

3 ـ الكشاف : 1/575.

________________________________________

(216)

    يلاحظ عليه : أنّ سياق الآية ، سياق الهداية والبرهنة على أنّه لا يُرى ، وعلى ما ذكره يكون الكلام وارداً موضع العتاب الخفيف على موسى ، لأجل طلب الرؤية من جانب قومه ، ليقف على استعظام عمله وعظم أثره ، وهو اندكاك الجبل وانخراره وصيرورته تراباً ، وهذا لا ينطبق على ظاهر الآية وإن استحسنه الزمخشري وقال :

    « وهذا كلام وارد في أُسلوب عجيب ونمط بديع ، فقد تخلص من النظر إليه إلى النظر إلى الجبل بكلمة الاستدراك ».

    الثاني : أنّ الاستدراك بمنزلة التعليل لقوله : « لن تراني » والمقصود بيان ضعف الإنسان وعدم طاقته لرؤيته سبحانه ، وقد بين ذلك بتجلّيه على الجبل فصار دكاً ، وهوأقوى من الإنسان وأرسخ منه ، فإذا كان هذا حال الجبل فكيف حال الإنسان الذي يشاركه في كونه موجوداً مادياً خاضعاً للسنن الكونية ، وقد خلق الإنسان ضعيفا؟!

    وبذلك يحفظ على سياق الآية وارتباط أجزائها بعضها ببعض.

    وأمّا ما هو المقصود من تجلّيه سبحانه ، فالتجلّي هو الانكشاف والظهور بعد الخفاء ، قال سبحانه : وَاللّيلِ إِذا يَغْشى* وَالنَّهارِ إِذا تَجَلّى (1) فالليل يغشى النهار ويستره ، ثمّ يتجلّى النهار ويظهر بالتدريج. والمقصود من تجلّيه سبحانه هو تجلّيه بآثاره وأفعاله. وبما أنّ نتيجة التجلّي كانت اندكاك الجبل وصيرورته تراباً ، كان التجلّي بنزول الصاعقة على الجبل التي تقلع الأشجار ، وتهدم البيوت وتذيب الحديد ، وتحدث الحرائق ، وتقتل من تصيبه من الناس ، وليست هي إلاّ شرارة كهربائية تنتج من اتحاد كهربائية سحابة في الجو مع الكهربائية الأرضية ، فتكون نتيجة الاتحاد هي الصاعقة وبروز الشرارة ، وما يرى من نورها هو البرق ، وما يسمع هو الرعد ، وهو صوت الشرارة الكهربائية التي تخرق طبقات الهواء.

    فإذا كان الإنسان عاجزاً وفاقداً للطاقة في مقابل تجلّيه بفعله وأثره ، فأولى

________________________________________

1 ـ الليل : 1 ـ 2.

________________________________________

(217)

    أن يكون عاجزاً في مقابل تجلّيه بذاته ونفسه.

    وبذلك تتبيّن دلالة الآية على عدم إمكان رؤيته ، فضلاً عن دلالته على إمكانها.

    قد عرفت أنّ الأشاعرة استدلّت بهذه الآية بوجهين ، وقد ظهر مدى صحّة الوجه الأوّل ، وإليك بيان الوجه الثاني :

 

الوجه الثاني

    قالوا : إنّه تعالى علّق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو أمر ممكن في نفسه ، والمعلّق على الممكن ممكن ، لأنّ معنى التعليق أنّ المعلّق يقع على تقدير وقوع المعلّق عليه. والمحال في نفسه لا يقع على شيء من التقادير.

    يلاحظ عليه : أنّ الاستدلال مبني على أن يكون المراد من قوله سبحانه فإن استقر مكانه هو إمكان الاستقرار. ولا شكّ أنّه أمر ممكن ، ولكن الظاهر أنّ المراد هو استقراره بعد تجلّيه ، وهو بعد لم يستقر عليه ، بدليل قوله سبحانه : جعله دكاً وهذا نظير قولك : « أنا أعطيك هذا الكتاب إن صليت » والمراد قيام المخاطب بها بالفعل لا إمكان قيامه.

    وبذلك يظهر أنّ ما حكاه صاحب الانتصاف عن أحمد بن حنبل لا يفيد القائلين بالرؤية ، فقد نقل عنه أنّ من حيل القدرية في إحالة الرؤية ما يقولون إنّه سبحانه علّق الرؤية على شرط محال وهو استقرار الجبل حال دكّه. والمعلّق على المحال محال. وهذه حيلة باطلة ، فإنّ المعلّق عليه استقرار الجبل من حيث هو استقرار ، وذلك ممكن جائز ، وحينئذ نقول : استقرار الجبل ممكن وقد علّق عليه وقوع الرؤية ، والمعلّق على الممكن ممكن. (1)

    وغير خفي على النبيه أنّ المعلّق عليه ليس ما حكي عن المعتزلة ، وهو استقرار الجبل حال دكّه ، ولا ما ذهب إليه أحمد من إمكان الاستقرار ، بل

________________________________________

1 ـ الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للإمام ناصر الدين أحمد بن محمد الاسكندري المالكي بهامش الكشاف : 1/575.

________________________________________

(218)

    المعلّق عليه وجود الاستقرار وبقاؤه بعد تجلّي الرب سبحانه ، ولم يكن هذا واقعاً.

    وباختصار ، إنّ إمكان الرؤية ، علّق على وجود الاستقرار وتحقّقه بعد التجلّي ، وهو حسب الفرض لم يقع. وينتج أنّ الرؤية ليست أمراً ممكناً.

الآية الثالثة

    قوله سبحانه : إِذا تُتْلى عَليهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الأَوّلينَ* كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَمَحْجُوبونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الجَحيم . (1)

    قال الرازي : « احتج أصحابنا بقوله سبحانه : كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَومَئِذ لَمَحْجُوبُونعلى أنّ المؤمنين يرون سبحانه و تعالى. قال : ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة ، ثمّ قال : وفيه تقرير آخر ، وهو أنّه تعالى ذكر هذا الحجاب في معرض التهديد والوعيد للكفّار ، وما يكون وعيداً وتهديداً للكفّار لا يجوز حصوله في حقّ المؤمن ». (2)

    والاستدلال مبني على أنّ المراد هو كون الكفّار محجوبين عن رؤيته سبحانه مع أنّ المناسب لظاهر الآية كونهم محجوبين عن رحمة ربّهم بسبب الذنوب التي اقترفوها ، وبأي دليل حملها الرازي على الحرمان من الرؤية؟

    على أنّ المعرفة التامة به تعالى ، التي هي فوق الرؤية الحسية بالأبصار الظاهرة ، تكون حاصلة لكلّ الناس يوم القيامة ، إذ عندئذ ترتفع الحجب المتوسطة بينه تعالى و بين خلقه ، قال سبحانه : وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبينُ . (3)

    وقال سبحانه : لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَة مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ

________________________________________

1 ـ المطففين : 13 ـ 16.

2 ـ مفاتيح الغيب : 8/354 ، ط مصر.

3 ـ النور : 25.

________________________________________

(219)

فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَديد. (1)

الآية الرابعة

    قوله سبحانه : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ . (2)

    قالوا : إنّ المراد من « الحسنى » هو الجنة و من « زيادة » هو رؤية الله. قال الرازي : إنّ الحسنى لفظ مفرد دخل عليه حرف التعريف ، فانصرف إلى المعهود السابق وهو دار السلام المذكور في الآية المتقدمة : وَالله يَدعُو إِلى دار السَّلاموَإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من « زيادة » أمراً مغايراً لكلّ ما في الجنة من المنافع والتعظيم ، وإلاّ لزم التكرار ، وكلّ من قال بذلك قال : إنّما هي رؤية الله. (3)

    يلاحظ عليه : أنّه لا دليل على حمل اللام على العهد ، بل المراد الجنس ، والمراد أنّ الذين أحسنوا لهم المثوبة الحسنى مع زيادة على ما يستحقونه. قال سبحانه : ليوفّيهم أُجورهُمْ ويزيدهم من فَضله ويؤيده ذيل الآية التي تليهاوَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَة بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ الله مِنْ عاصِم كَأْنَّما أُغشيِتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. (4)

    وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقضي بأنّ المراد : إنّ للذين أحسنوا في الدنيا ، المثوبة الحسنى مع زيادة عمّا يستحقونه ، والّذين كسبوا السّيئات لا يجزون إلاّ بمثلها ، وليس في الآية إشعار برؤية الله ، فضلاً عن الدلالة.

    وبذلك يتبين مفاد آية أُخرى ، أعني قوله سبحانه : ادْْخُلُوها بِسَلام ذلِكَ

________________________________________

1 ـ ق : 22.

2 ـ يونس : 26.

3 ـ مفاتيح الغيب : 8/354.

4 ـ يونس : 27.

________________________________________

(220)

يَومُ الخُلُودِ* لَهُمْ ما يَشاءُونَ فِيها وَلَدَيْنا مَزيد (1) فالآيتان تشيران إلى ما يفيده قوله : فَأَمّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَدِّبُهُمْ عَذاباً أَليماً. (2)

    ولقد جرى الحقّ على قلم الرازي إذ قال : ويحتمل أن يكون المعنى : عندنا ما نزيده على ما يرجون وعلى ما يشتهون.

    الآية الخامسة

    قوله سبحانه : وَاسْتَعينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنّها لَكَبيرَةٌ إِلاّ عَلى الخاشِعينَ *الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِليهِ راجِعُونَ . (3)

    قالوا : « إنّ الملاقاة تستلزم الرؤية بحكم العقل ». (4)!

    يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ لقاء الربّ لو كان مستلزماً لرؤيته ، فهو عام للمؤمن والكافر ، قال سبحانه : يا أَيُّهَا الإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيه* فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ* فَسَوفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسيراً. (5) مع أنّ الأشاعرة يخصّون الرؤية بالمؤمن.

    وثانياً : أنّ المراد بلقاء الله وقوف العبد موقفاً لا حجاب بينه و بين ربّه ، كما هو الشأن يوم القيامة الذي هو ظرف ظهور الحقائق. قال الله تعالى : وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبينُ . (6)

    وقال سبحانه : لِمَنِ المُلْكِ اليَومَ للّهِ الواحِدِ القَهّارِ . (7)

    وقال سبحانه : لَقَدْ كُنْتَ في غَفْلَة مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ

________________________________________

1 ـ ق : 34 ـ 35.

2 ـ النساء : 173.

3 ـ البقرة : 45 ، 46.

4 ـ مفاتيح الغيب : 2/346 ، ط مصر.

5 ـ الإنشقاق : 6 ـ 8.

6 ـ النور : 25.

7 ـ غافر : 16.

(221)

غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَومَ حَديدُ . (1) والمراد من كشف الحجب هو وصول الإنسان في الإذعان والإيمان إلى حد لا يبقى معه أيّ شك وتردد.

    إنّ الإنسان في المشهد الأخروي يبلغ مبلغاً من الكمال ، يدرك حضوره عند خالقه وبارئه ، وذلك نفس حقيقةوجود الممكن وواقعيته ، إذ لا حقيقة للوجود الإمكاني إلاّ قوامه بعلّته ، و تعلّقه بموجده ، تعلّق المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، والإنسان في ذلك المشهد يجد نفسه حاضرة عند بارئها حضوراً حقيقياً كما يجد ذاته حاضرة لدى ذاته ، والعلم الحضوري لا يختصّ بالعلم بالذات ، بل يعم العلم بالموجد الذي هو قائم به.

    وباختصار : فرقٌ بين أن يتصوّر الإنسان تعلّقه ببارئه ، وبين أن يجد تلك الواقعة التعلقية بوجودها الخارجي. فذلك الحضور والشهود ، شهود بين القلب ، وحضور بتمام الوجود ، لا يصل الأوحدي في الدنيا ، كما يصل إليه الإنسان في المشهد الأُخروي.

    وإلى ذلك يشير ما روي عن أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) حين جاءه حبر وقال له : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويلك ، ما كنت أعبد ربّاً لم أره. قال : وكيف رأيته؟ قال : ويلك ، لا تدركه العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. (2)

    ونظيره ما روي عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) حيث سئل عن أيّ شيء يعبد؟ قال : « الله تعالى ». فقيل له : رأيته؟ قال : « لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يعرف بالقياس ، ولا يدرك بالحواس ، ولا يشبه بالناس ، موصوف بالآيات ، معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلاّ هو ». فخرج السائل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالته. (3)

________________________________________

1 ـ ق : 22.

2 ـ الكافي : 1 ، كتاب التوحيد ، باب في إبطال الرؤية ، الحديث 6.

3 ـ المصدر السابق ، الحديث5.

________________________________________

(222)

    ويحتمل أن يكون المراد من لقاء الله هو يوم البعث ، ويؤيده قوله سبحانه : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الله (1) فكنّى بلقاء الله عن يوم البعث ، لأنّ الكافرين ما كانوا يكذبون إلاّ بيوم البعث ، قال سبحانه : فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا. (2)

    وقال تعالى : يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرونَكُمْ لِقاءَ يَومِكُمْ هذا. (3)

    وقال عزّاسمه : وَقيلَ الْيَومَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَومِكُمْ هذا . (4)

    وإنّما كنّي عن لقاء يوم البعث بلقاء الله ، لأنّه سبحانه يتجلّى للإنسان بقدرته وسلطانه ، ووعده ووعيده ، ولطفه وكرمه ، وعزّه وجلاله ، وجنوده وملائكته ، إلى غير ذلك من شؤونه. فيصح أن يقال : إنّ هذا اليوم يوم لقاء الرب ، فإنّ لقاء الآثار والآيات الدالة على عظمة صاحبها ، نوع لقاء له.

    ويرشدك إلى ما ذكرنا قوله سبحانه : إِنَّ الّذِينَ لا يَرجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها ... (5) فجعل عدم رجاء لقاء الرب في مقابل الرضى بالحياة الدنيا ، يدل على أنّ المراد من لقاء الرب هو الحياة الأُخروية ، الملازمة لشهود آياته وآثاره العظيمة.

    وما أوردناه من الآيات هي من أهمّ ما استدل به الأشاعرة ، وبقيت هناك آيات ربما تمسكوا بها ولكنّها لا تمت إلى مقصودهم بصلة. ولأجل ذلك تركنا التعرض لها.

 

الاستدلال على الرؤية بالسنَّة

    استدلّ القائلون بالرؤية بالأدلّة السمعية ، منها الكتاب ، وقد عرفت المهم منها ، ومنها السنّة ، ونكتفي بالمهم منها أيضاً :

________________________________________

1 ـ لأنعام : 31.

2 ـ السجدة : 14.

3 ـ الزمر : 71.

4 ـ الجاثية : 24.

5 ـ يونس : 7.

________________________________________

(223)

    روى البخاري في باب « الصراط جسر جهنم » بسنده عن أبي هريرة قال : قال أُناس : يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال : هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : هل تضارّون في القمر ليلة البدر ليس دونها سحاب؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فإنّكم ترونه يوم القيامة ، كذلك يجمع الله الناس فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت ، وتبقى هذه الأُمّة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا ، فإذا أتانا ربّنا عرفناه ، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم ، فيقولون : أنت ربّنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم ... إلى أن يقول : و يبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول : يا ربّ قد قشبني ريحها ، وأحرقني ذكاؤها ، فاصرف وجهي عن النار ، فلا يزال يدعو الله فيقول : لعلّك إن أعطيتك أن تسألني غيره.

    فيقول : لا وعزّتك لا أسألك غيره ، فيصرف وجهه عن النار ، ثمّ يقول بعد ذلك : يا رب قرّبني إلى باب الجنة ، فيقول : أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك ، فلا يزال يدعو فيقول : لعلّك إن أعطيتك ذلك تسألني غيره ، فيقول : لا وعزّتك لا أسألك غيره ، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره ، فيقربه إلى باب الجنّة فإذا رأى ما فيها ، سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثمّ يقول : ربّي أدخلني الجنة ، ثمّ يقول : أو ليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ، ويلك يابن آدم ما أغدرك ، فيقول : يا ربّ لا تجعلني أشقى خلقك ، فلا يزال يدعو حتى يضحك ( الله ) ، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها ... الحديث. (1)

    ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مع اختلاف يسير. (2)

________________________________________

1 ـ البخاري : 8/117باب الصراط جسر جهنم.

2 ـ صحيح مسلم : 1/113 ، باب معرفة طريق الرؤية.

________________________________________

(224)

    ورواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه : حتى إذا لم يبق إلاّ من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، قال : فما تنتظرون تتبع كلّ أُمّة ما كانت تعبد ، قالوا : يا ربّنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربّكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئاً ، مرتين أو ثلاثاً حتى أنّ بعضهم ليكاد أن ينقلب ، فيقول : هل بينكم وبينَه آية فتعرفونه بها ، فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ، إلاّ أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتّقاءً ورياءً إلاّ جعل الله ظهره طبقة واحدة ، كلّما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ... الحديث. (1)

    وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص. ورواه أحمد في مسنده. (2)

تحليل الحديث

    إنّ هذا الحديث مهما كثرت رواته ، وتعددت نَقَلَتُه لا يصحّ الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه :

    1. إنّه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأُصول والعقائد ، وإن كان مفيداً في باب الفروع والأحكام ، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل ، وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أم لا ، بل يكفي قيام الحجّة على لزوم الإتيان به ، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشكّ عن وجه الشيء ، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الاثنين ، إلاّ إذا بلغ إلى حدّ يورث العلم والإذعان ، و هو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين.

________________________________________

1 ـ صحيح مسلم : 1/115 ، باب معرفة طريق الرؤية.

2 ـ مسند أحمد بن حنبل : 2/368.

________________________________________

(225)

    2. إنّ الحديث مخالف للقرآن الكريم ، حيث يثبت لله صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين ( رحمه الله ).

    3. ماذا يريد الراوي في قوله : « فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربّكم »؟ فكأنّ لله سبحانه صوراً متعدّدة يعرفون بعضها ، وينكرون البعض الآخر ، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها ، فهل كان ذلك منهم في الدنيا ، أو كان في البرزخ أم في الآخرة؟

    4. ماذا يريد الراوي من قوله : « فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ... »؟ فإنّ معناه أنّ المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه ، فكانت هي الآية الدالة عليه.

    5. كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلاّمة السيد شرف الدين ( رحمه الله ) حيث قال : إنّ الحديث ظاهر في أنّ لله تعالى جسماً ذا صورة مركبة تعرض عليها الحوادث من التحول والتغير ، وأنّه سبحانه ذو حركة وانتقال ، يأتي هذه الأُمّة يوم حشرها ، وفيها مؤمنوها ومنافقوها ، فيرونه بأجمعهم ماثلاً لهم في صورة غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل. فيقول لهم : أنا ربّكم ، فينكرونه متعوذين بالله منه ، ثمّ يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون. فيقول لهم : أنا ربّكم ، فيقول المؤمنون والمنافقون جميعاً : نعم ، أنت ربّنا وإنّما عرفوه بالساق ، إذ كشف لهم عنها ، فكانت هي آيته الدالة عليه ، فيتسنّى حينئذ السجود للمؤمنين منهم ، دون المنافقين ، وحين يرفعون رؤوسهم يرون الله ماثلاً فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارون فيه ، كما كانوا في الدنيا لا يمارون في الشمس والقمر ، ماثلَيْن فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب ، وإذ به ، بعد هذا يضحك ويعجب من غير معجب ، كما هو يأتي ويذهب ، إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان ممّا لا يجوز على الله تعالى ، ولا على رسوله ، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم. (1)

________________________________________

1 ـ كلمة حول الرؤية : 65 ، وهي رسالة قيمة في تلك المسألة ، وقد مشينا على ضوئها ـ رحم الله مؤلفها رحمة واسعة ـ .

________________________________________

(226)

    إنّ أحمد بن حنبل احتج في مجلس المعتصم بحديث جرير ، فقال المعتصم للقاضي أحمد بن أبي داود : « ما تقول في هذا؟ » فقال القاضي : إنّه يحتجّ بحديث جرير ، وإنّما رواه عنه قيس بن حازم ، وهو أعرابي بوّال على عقبيه. (1)