الماتريدية

الماتريدية

    قد تعرّفت على جذور الاختلاف في عصر الرّسالة وبعدها ، كما تعرّفت على حوافز الاختلاف ودوافعه في عصر الخلفاء ، وخرجنا بالنّتيجة التالية وهي: أنّ أهل البحث والنّقاش من المسلمين قد تفرّقوا على فرقتين مختلفتين في كثير من المبادئ والاُصول وإن اشتركتا في كثير منها أيضاً:

    1 ـ فرقة أهل الحديث الّتي يعبّر عنها بالحشويّة تارة ، والحنابلة اُخرى ، والسلفيّة ثالثة وكانوا يتّسمون بسمة الاقتفاء لكتاب الله ، وسنّة رسوله ، ولا يقيمون للعقل والبرهان وزناً ، كما لا يتفحّصون عن مصادر الحديث تفحّصاً يكشف عن صحته ، بل ويقبلون كلّ حديث وصل إليهم عن كل من هبّ ودبّ ، ويجعلون في حزمتهم كلّ رطب ويابس ، ولأجل هذا التّساهل ظهرت فيهم آراء وعقائد تشبه آراء أهل الكتاب ، كالتشبيه ، والتجسيم ، والجبر ، وسيادة القضاء والقدر على الإنسان كإله حاكم ، لا يُغيّر ولا يُبدّل ، ولا يقدر الإنسان على تغيير مصيره إلى غير ذلك من البدع ولا يقصر عمّا ذكرناه القول بالرؤية تبعاً للعهدين ، وكون القرآن قديماً غير مخلوق ، مضاهياً لقول اليهود بقدم التّوراة ، أو النّصارى بقدم المسيح ، وقد أوضحنا الحال في هذه المباحث في الجزأين الماضيين.

    2 ـ فرقة المعتزلة التي تعتمد على العقل أكثر مما يستحقّه ، وتزعم أنّ ظواهر بعض

 

________________________________________

(8)

    النّصوص الواردة في الكتاب والسنّة ، مخالفة لما يوحي إليهم عقلهم وفكرتهم ، فيبادرون إلى تأويلها تأويلاً واهياً يسلب عن الكلام بلاغته ، فينحطّ من ذروته إلى الحضيض ، وهؤلاء هم المعروفون بالمعتزلة ، وفي ألسن خصومهم بالقدريّة ).

    وقد كان الجدال بين الطّائفتين قائماً على قدم وساق بغلبة الاُولى على الثّانية تارة ، وانتصار الثانية على الاُولى اُخرى ، وقد كان لأصحاب السّياسة والبلاط دور واضح في إشعال نار الإختلاف بإعلاء إحداهما ، وحطّ الاُخرى ، حسب مصالحهم الوقتية ، والغايات المنشودة لهم.

 

الداعيان إلى منهج أهل الحديث متعاصران

    كان النزاع يعلو تارة ، وينخفض اُخرى ، إلى أن دخل القرن الرابع الهجري ، فأعلن الشيخ أبو الحسن الأشعري ، في أوائل ذلك القرن ، رجوعه عن الاعتزال الذي عاش عليه أربعين سنة ، وجنح إلى أهل الحديث ، وفي مقدّمتهم منهج إمام الحنابلة « أحمد بن حنبل » ، لكن لا بمعنى اقتفاء منهجه حرفيّاً بلا تصرّف ولا تعديل فيه ، بل قبوله لكن بتعديل فيه على وجه يجعله مقبولاً لكلّ من يريد الجمع بين النّقل والعقل ، والحديث والبرهان ، وقد أسّس في ضوء هذا منهجاً معتدلاً بين المنهجين وتصرّف في المذهب الاُمّ ، تصرّفاً جوهرياً وقد أسعفه حسن الحظّ ونصره رجال في الأجيال المتأخرة ، حيث نضّجوا منهجه ، حتى صار مذهباً عامّاً لأهل السنّة في الاُصول ، كما صارت المذاهب الأربعة مذاهب رسمية في الفروع.

    وفي الوقت الّذي ظهر مذهب الأشعري بطابع الفرعية لمذهب أهل الحديث ، ظهر مذهب آخر بهذا اللون والشكل لغاية نصرة السنّة وأهلها ، وإقصاء المعتزلة عن السّاحة الإسلاميّة.

    كلّ ذلك بالتصرف في المذهب وتعديله ، وذلك المذهب الآخر هو مذهب

 

________________________________________

(9)

    الماتريديّة للامام محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي السمرقندي ( المتوفّى عام 333 هـ ) أي بعد ثلاثة أو تسعة (1) أعوام من وفاة الإمام الأشعري.

    والداعيان كانا في عصر واحد ، ويعملان على صعيد واحد ، ولم تكن بينهما أيّة صلة ، فهذا يكافح الاعتزال ويناصر السنّة في العراق متقلّداً مذهب الشافعي في الفقه ، وذاك يناضل المعتزلة في شرق المحيط الإسلامي ( ما وراءالنّهر ) ، متقلّداً مذهب الإمام أبي حنيفة في الفقه ، وكانت المناظرات والتيّارات الكلامية رائجة في كلا القطرين. فكانت البصرة ـ يوم ذاك ـ بندر الأهواء والعقائد ، ومعقلها ، كما كانت أرض خراسان مأوى أهل الحديث ومهبطهم ، وكانت منبتَ الكرّامية وغيرهم أيضاً ، نعم كانت المعتزلة بعيدة عن شرق المحيط الإسلامي ، ولكن وصلت أمواج منهجهم الى تلك الديار عن طريق اختلاف العلماء بين العراق وخراسان.

    ولأجل انتماء الداعيين إلى المذهبين المختلفين نرى اهتمام الشافعية بترجمة الأشعري في طبقاتهم ، واهتمام علماء الأحناف ـ أعني المتكلّمين منهم ـ بالماتريدي وإن قصروا في ترجمته في طبقاتهم ، ولم يؤدّوا حقّه في كتبهم.

    نعم انتماء الماتريدي للإمام أبي حنيفة في الفقهين ( الأكبر والأصغر ) (2) أمر واضح ، فإنّه حنفيّ ، كلاماً وفقهاً ، وأكثر من نصره ، بل جميعهم ، من الأحناف ، مثل فخر الاسلام أبي اليسر محمد بن عبد الكريم البزدوي ( المتوفّى عام 493 هـ ) والإمام النّسفي ( المتوفّى عام 573 هـ ) وسعد الدّين التّفتازاني ( المتوفّى عام 791 هـ ) وغيرهم كإبن الهمام والبياضي كما سيوافيك في تراجمهم ، بخلاف انتماء الأشعري للامام الشافعي فإنّه ليس بهذا الحدّ من الوضوح.

________________________________________

    1 ـ على اختلاف في تاريخ وفاته بين كونه في 330 أو 324.

    2 ـ سمّى أبو حنيفة الكلام بالفقه الأكبر ، وعلم الشريعة بالفقه الأصغر ، وقد سمّى بعض رسائله بهذين الاسمين كما سيوافيك.

________________________________________

(10)

منهج الماتريدي موروث من أبي حنيفة

    المنهج الذي اختاره الماتريدي ، وأرسى قواعده ، وأوضح براهينه ، هو المنهج الموروث من أبي حنيفة ( م 150 هـ ) في العقائد ، والكلام ، والفقه ومبادئه ، والتاريخ يحدّثنا عن كون أبي حنيفة صاحب حلقة في الكلام قبل تفرّغه لعلم الفقه ، وقبل اتّصاله بحماد بن أبي سليمان الذي أخذ عنه الفقه.

    وليس الماتريدي نسيج وحده في هذا الأمر ، بل معاصره أبو جعفر الطّحاوي صاحب « العقيدة الطحاوية » ( م 321 هـ ) مقتف أثر أبي حنيفة حتّى عنون وصدّر رسالته المعروفة بالعقيدة الطّحاوية بقوله « بيان عقيدة فقهاء الملّة: أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّدبن الحسن » (1).

    ويذكر عبد القاهر البغدادي صاحب كتاب « الفَرْق بين الفِرَقِ » في كتابه الآخر « اُصول الدين » أنّ أبا حنيفة له كتاب في الرد على القدرية سمّاه « الفقه الأكبر » ، وله رسالة أملاها في نصرة قول أهل السنّة: أنّ الاستطاعة مع الفعل... وعلى هذا قوم من أصحابنا (2) ، والرسائل الموروثة من أبي حنيفة أكثر ممّا ذكره البغدادي (3).

    ولمّا كانت المسائل الكلامية في ثنايا هذه الرسائل ، غير مرتّبة قام أحد الماتريديّة في القرن الحادي عشر ، أعني به كمال الدين أحمد البياضي الحنفي ، باخراج المسائل الكلامية عن هذه الرسائل من غير تصرّف في عبارات أبي حنيفة وأسماه « إشارات المرام من عبارات الامام » ويقول فيه: « جمعتها من نصوص كتبه التي أملاها على أصحابه من الفقه الأكبر ، والرسالة ، والفقه الأبسط ، وكتاب العالم والمتعلّم ، والوصيّة ، برواية من الإمام حمّاد بن أبي حنيفة ، وأبي يوسف الأنصاري ، وأبي مطيع الحكم بن عبد الله

________________________________________

    1 ـ شرح العقيدة الطحاوية: ص 25 ، والشرح للشيخ عبد الغني الميداني الدمشقي ( المتوفى سنة 1298 هـ ).

    2 ـ اُصول الدين: ص 308.

    3 ـ وسيوافيك فهرس الرسائل الموروثة من أبي حنيفة ، وقد طبع قسم كبير منها.

(11)

     البلخي ، وأبي مقاتل حفص بن مسلم السمرقندي.

    وروى عن هؤلاء ، إسماعيل بن حمّاد ، ومحمّد بن مقاتل الرازي ، ومحمد بن سماعة التميمي ، ونصير بن يحيى البلخي ، وشداد بن الحكيم البلخي ، وغيرهم.

    ثمّ قال: إنّ الامام أبا منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي روى عن الطّبقة الثانية ، أعني نصير بن يحيى ، ومحمّد بن مقاتل الرازي ، وحقّق تلك الاُصول في كتبه بقواطع الأدلّة ، وأتقن التّفاريع بلوامع البراهين اليقينيّة » (1).

    هذه جذور منهجه واُسس مدرسته الكلامية.

 

لمحة عن حياة الماتريدي

    من المؤسف جدّاً إهمال كثير من المؤرخين ، وكتب التراجم ، ذكر الامام الماتريدي ، وتبيين خصوصيات حياته ، بل ربّما أهملوا الإشارة إليه عندما يجب ذكره أو الإشارة إليه ، فإنّ الرجل من أئمة المتكلّمين ، وأقطاب التفسير في عصره فكان الإلمام بحياته عند ذكر طبقات المتكلّمين والمفسرين لازماً ، وهذا خلاف ما نجده من العناية المؤكّدة بذكر الأشعري ، وتبيين حياته ، والإشارة إلى خصوصياتها ، حتّى رُؤاه ، وأحلامه ، وغلّة ضيعته ، ولعلّ إحدى الدوافع إلى هذا ، هي أنّ الأشعري استوطن في مركز العالم الاسلامي ( العراق ) ، وشهر سيف بيانه وقلمه على الاعتزال في مركز قدرتهم ، وموضع سلطتهم ، فصار ذلك سبباً لأن تمدّ إليه الأعين ، وتشرئب (2) نحوه الأعناق ، فيذكره الصديق والعدو في كتبهم بمناسبات شتّى ، وأمّا عديله وقرينه فكان بعيداً عنه ، مستوطناً في نقطة يغلب فيها أهل الحديث وفكرتهم ، وكانت السلطة في مجالي العلم والعمل لهم ، فجهل قدره ، ولم تعلم قيمة نضاله مع خصومهم ، فقلّت العناية به ،

________________________________________

    1 ـ إشارات المرام من عبارات الامام للبياضي: ص 21 ـ 22 ، وهذا الكتاب من المصادر الموثقة في تبيين المنهج الماتريدى بعد كتابيه « التوحيد » و « التفسير ». ومثله كتاب « أصول الدين » للامام البزدوي.

    2 ـ إشْرَأبّ إليه وله: مدّ عنقه أو ارتفع لينظر إليه.

________________________________________

(12)

     وبعلومه ، وأفكاره ، والإشارة إليه.

    ولأجل ذلك نرى ابن النديم ( م 389 ) لم يترجمه في فهرسته ، وفي الوقت نفسه ترجم الشيخَ الأشعري ( م 33هـ ) ، والامام الطحاوي شيخ الأحناف في مصر ( م 321 هـ ) مؤلّف « عقائد الطحاوي » المسمى ببيان السنّة والجماعة الذي اعتنى به عدّة من الأعلام بالشرح والتعليق.

    هذا وقد أهمله جمع من المتأخّرين ، فلم يترجمه أحمد بن محمد بن خلكان ( م 681 هـ ) في « وفيات الأعيان » مع أنّه ترجم للطحاوي ، ولا صلاح الدين الصفدي ( م 764 هـ ) في « الوافي بالوفيات » ، ولا محمد بن شاكر الكتبي ( م 764هـ ) في « فوات الوفيات » ، ولا تقي الدين محمد بن رافع السّلامي ( م 774 هـ ) في « الوفيات » ، ولم يذكره ابن خلدون ( م 808 ) في مقدمته في الفصل الذي خصّه بعلم الكلام ، ولا جلال الدين السيوطي ( م 911 هـ ) في « طبقات المفسرين » مع كونه أحد المفسرين في أوائل القرن الرابع ، إلى غير ذلك من المعنيّين بتراجم الأعيان والشخصيات ، ولم تصل أيديهم إليه ، وإلى كتبه ، ونشاطاته العلمية ، ونضالاته مع خصوم أهل السنّة.

    حتى إنّ من ذكره وعنونه ، لم يذكر سوى عدة كليات في حقه ، لا تلقي ضوءاً على حياته ، ولا تبيّن شيئاً من خصوصياته ، هذا والمعلومات التي وصلت إلينا بعد الفحص عن مظانّها عبارة عن الاُمور التالية:

1 ـ ميلاده:

    اتّفق المترجمون له على أنّه توفّي عام ( م 333هـ ) ، ولم يعيّنوا ميلاده ، ولكن نتمكّن من تعيينه على وجه التقريب من جانب مشايخه الّذين تخرّج عليهم في الحديث ، والفقه ، والكلام ، فإنّ أحد مشايخه كما سيوافيك ، هو نصير بن يحيى البلخي ( المتوفّى عام 268هـ ) فلو تلقّى عنه العلم وهو ابن عشرين يكون هو من مواليد عام ( 248هـ ) ، أو ما يقاربه ، فيكون أكبر سنّاً من الأشعري بسنين تزيد على عشر.

 

________________________________________

(13)

2 ـ موطنه:

    قد اشتهر الامام ، بالماتريدي ( بضم التاء ) و « ماتريد » قرية من قرى سمرقند في بلاد ما وراء النّهر ( جيحون ) (1).

    ويوصف بالماتريدي تارة ، والسمرقندي اُخرى ، ويلقب ب ـ « علم الهدى » لكونه في خطّ الدفاع عن السنّة.

3 ـ نسبه

    ينتهي نسبه إلى أبي أيّوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري ، مضيف النّبي الأكرمصلَّى الله عليه و آله و سلَّم في دار الهجرة ، وقد وصفه بذلك البياضي في « إشارات المرام » (2).

4 ـ مشايخه وأساتذته:

    قد أخذ العلم عن عدّة من المشايخ هم:

    1 ـ أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني.

    2 ـ أبو نصر أحمد بن العياضي.

    3 ـ نصير بن يحيى ، تلميذ حفص بن سالم ( أبي مقاتل ).

    4 ـ محمد بن مقاتل الرازي (3).

    قال الزبيدي: تخرّج الماتريدي على الإمام أبي نصر العياضي.. ومن شيوخه الامام أبو بكر أحمد بن إسحاق بن صالح الجوزجاني صاحب الفرق ، والتمييز.. ومن مشايخه محمّد ابن مقاتل الرازي قاضي الريّ.

________________________________________

    1 ـ أحد الأنهار الكبيرة المعروفة كالنيل ودجلة والفرات.

    2 ـ اشارات المرام: ص 23.

    3 ـ المصدر نفسه.

________________________________________

(14)

    والأوّلان من تلاميذ أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني ، وهو من تلاميذ أبي يوسف ، ومحمّد بن الحسن الشيباني.

    وأمّا شيخه الرابع أعني محمّد بن مقاتل ، فقد تخرّج على تلميذ أبي حنيفة مباشرة ، وعلى ذلك فالماتريدي يتّصل بإمامه تارة بثلاث وسائط ، واُخرى بواسطتين. فعن طريق الأوّلين بوسائط ثلاث ، وعن طريق الثالث ( بن مقاتل ) بواسطتين (1).

5 ـ ثقافته:

    إنّ ثقافته و آراءه في الفقهين ، الأكبر والأصغر ، ينتهي إلى إمام مذهبه « أبي حنيفة ». فإنّ مشايخه الّذين أخذ عنهم العلم ، عكفوا على رواية الكتب المنسوبة إليه ودراستها ، وقد نقل الشيخ الكوثري أسانيد الكتب المرويّة عن أبي حنيفة عن النسخ الخطّيّة الموجودة في دار الكتب المصرية وغيرها ، وفيها مشايخ الماتريدي. قال:

     « ومن الكتب المتوارثة عن أبي حنيفة ، كتاب الفقه الأكبر رواية عليّ بن أحمد الفارسي ، عن نصير بن يحيى ، عن أبي مقاتل ( حفص بن سالم ) ، وعن عصام بن يوسف ، عن حمّاد بن أبي حنيفة ، عن أبيه ، وتمام السند في النسخة المحفوظة ضمن المجموعة الرقم ( 226 ) بمكتبة شيخ الاسلام بالمدينة المنوّرة.

    ونصير بن يحيى أحد مشايخ الماتريدي كما عرفت.

    ومن هذه الكتب « الفقه الأبسط » رواية أبي زكريا يحيى بن مطرف بطريق « نصير بن يحيى » عن أبي مطيع ، عن أبي حنيفة ، وتمام السند في المجموعتين ( 24 و 215 م ) بدار الكتب المصريّة.

    ومن هذه الكتب « العالم والمتعلّم » رواية أبي الفضل أحمد بن علي البيكندي الحافظ ، عن حاتم بن عقيل ، عن الفتح بن أبي علوان ، ومحمّد بن يزيد ، عن الحسن بن

________________________________________

    1 ـ لاحظ: اتحاف السادة المتقين ، ج 2 ص 5.

________________________________________

(15)

     صالح ، عن أبي مقاتل حفص بن سالم السمرقندي ، عن أبي حنيفة ، ويرويه أبو منصور الماتريدي عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني عن محمد بن مقاتل الرازي ، عن أبي مقاتل ، عنه ، وتمام الأسانيد في مناقب الموفّق والتّأنيب ( 73 و 85 ).

    ومن تلك الرسائل رسالة أبي حنيفة إلى البتّي ، رواية نصير بن يحيى ، عن محمّد بن مقاتل الرازي ، عن أبي مقاتل ، عنه ، وتمام الأسانيد في مناقب الموفق والتّأنيب ( 73 و 85 ).

    ومن تلك الرسائل رسالة أبي حنيفة إلى البتّي رواية نصير بن يحيى ، عن محمّد بن سماعة ، عن أبي يوسف ، عن أبي حنيفة ، وبهذا السند رواية الوصيّة أيضاً ، وتمام الأسانيد في نسخ دار الكتب المصرية ـ إلى أن قال: فبنور تلك الرسائل سعى أصحاب أبي حنيفة وأصحاب أصحابه في إبانة الحقّ في المعتقد.. إلى أن جاء إمام السنّة في ماوراء النهر ، أبو منصور محمّد بن محمّد الماتريدي المعروف ب ـ ( امام الهدى ) فتفرّغ لتحقيق مسائلها ، وتدقيق دلائلها ، فأرضى بمؤلّفاته جانبي العقل والنقل في آن واحد » ، ثمّ ذكر مؤلفاته (1).

    ترى أنّ أسناد هذه الكتب والرسائل تنتهي إلى أحد مشايخ الماتريدي وقد طبع منها: « الفقه الأكبر ، الرسالة ، العالم والمتعلّم ، والوصيّة » في مطبعة حيدرآباد عام ( 1321هـ ).

    وهذه المؤلّفات لا تتجاوز عن كونها بياناً للعقيدة وما يصحّ الإعتقاد به ، من دون أن تقترن بالدليل والبرهان ، ولكنّها تحوّلت من عقيدة إلى علم ، على يد ( الماتريدي ) فهو قد حقّق الاُصول في كتبه ، فكان هو متكلّم مدرسة أبي حنيفة ورئيس أهل السنّة في بلاد ماوراء النّهر ، ولذلك سمّيت المدرسة باسمه ، وأصبح المتكلّمون على مذهب الإمام أبي حنيفة في بلاد ماوراء النّهر ، يسمّون بالماتريديّين ، واقتصر إطلاق اسم أبي حنيفة على

________________________________________

    1 ـ مقدمة اشارات المرام: ص 5 ـ 6.

________________________________________

(16)

    الأحناف المتخصّصين في مذهبه الفقهي (1).

    وفي ( مفتاح السعادة ) : « إنّ رئيس أهل السنّة والجماعة في علم الكلام رجلان: أحدهما حنفيّ ، والآخر شافعي ، أمّا الحنفي: فهو أبو منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي ، وأمّا الآخر الشافعي: فهو شيخ السنّة أبوالحسن الأشعري البصري » (2).

    وفي حاشية الكستلي (3) على شرح العقائد النسفية (4) للتفتازاني: « المشهور من أهل السنّة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار ، هم الأشاعرة ، وفي ديار ماوراءالنهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي ، تلميذ أبي بكر الجرجاني ، تلميذ محمّد بن الحسن الشيباني من أصحاب الإمام أبي حنيفة » (5).

    ويقول الزبيدي: « إذا اُطلق أهل السنّة والجماعة ، فالمراد هم الأشاعرة والماتريدية » (6).

6 ـ المتخرّجون عليه:

    تخرّج عليه عدّة من العلماء منهم:

    أ ـ أبو القاسم إسحاق بن محمّد بن إسماعيل الشهير بالحكيم السمرقندي ( ت 340 هـ )

________________________________________

    1 ـ مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 5 بقلم الدكتور فتح اللّه خليفة ـ ط 1392 هـ ـ ، وهو المراد من « التوحيد » كلما اطلق في هذا الفصل.

    2 ـ مفتاح السعادة ومصباح السيادة: ج 2 ص 22 ـ 23 طبعة حيدر آباد على ما في مقدمة محقق كتاب التوحيد للماتريدي.

    3 ـ هو مصلح الدين مصطفى القسطلاني ( م 902 ).

    4 ـ وهذا الكتاب محور الدراسة في الأزهر وغيره ، وما زال كذلك إلى يومنا هذا ، وهو بمنزلة « شرح الباب الحادي عشر » عند الامامية ، يعرض عقائد أهل السنة على مذهب الامام « الماتريدي » بشكل واضح.

    5 ـ بهامش شرح العقائد النسفية: ص 17.

    6 ـ اتحاف السادة المتقين بشرح أسرار احياء علوم الدين:تأليف محمد بن محمد بن الحسيني ، طبع القاهرة ج 2 ص 8.

________________________________________

(17)

    ب ـ الإمام أبواللّيث البخاري.

    ج ـ الامام أبومحمّد عبد الكريم بن موسى البزدوي ، جدّ محمّد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم البزدوي مؤلّف ( اُصول الدين ).

    يقول حفيده: « ووجدت للشيخ الامام الزاهد « أبي منصور الماتريدي السمرقندي » كتاباً في علم التوحيد على مذهب أهل السنّة ، وكان من رؤساء أهل السنّة. حكى لي الشيخ الامام والدي ـ رحمه الله ـ عن جده الشيخ الامام الزاهد « عبد الكريم بن موسى » ـ رحمه الله ـ كراماته. فإنّ جدّنا كان أخذ معاني كتب أصحابنا ، وكتاب التوحيد ، وكتاب التأويلات من خلق (1) عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي ـ رحمه الله ـ إلا أنّ في كتاب التوحيد الذي صنّفه الشيخ أبو منصور قليل انغلاق و تطويل ، و في ترتيبه نوع تعسير لولا ذلك لاكتفينا به (2).

7 ـ أنصار مذهبه في الأجيال اللاحقة:

    إنّ للمنهج الكلاميّ الموروث من أبي منصور الماتريدي ، أنصاراً وأعواناً قاموا بإنضاج المذهب ونصرته ، ونشره وإشاعته ، وإن لم يصل إلى ما وصل إليه مذهب الأشعري من الانتشار وكثرة الإقتفاء ، وإليك ذكر بعض أنصاره:

    1 ـ القاضي الإمام أبو اليسر محمّد بن محمّد بن الحسين عبد الكريم البزدوي ( المولود عام 421 هـ ، والمتوفّى في « بخارى » عام 478 هـ ) وقد عرفت كلامه في حقّ الماتريدي ، وسيوافيك بعض كلامه عند البحث عن فوارق المنهجين ، وقد ألّف كتاب اُصول الدين على غرار هذا المنهج ، وسيوافيك الإيعاز إليه.

    2 ـ أبوالمعين النسفي ( م 502 هـ ) وهو من أعاظم أنصار ذلك المذهب فهو

________________________________________

    1 ـ ( كذا في النسخة ).

    2 ـ اُصول الدين للبزدوي: ص 3 و 155 ـ 158.

________________________________________

(18)

    عند الماتريديّة كالباقلاّني بين الأشاعرة ، مؤلّف كتاب « تبصرة الأدلّة » الذي مازال مخطوطاً حتّى الآن ، ويعدّ الينبوع الثاني بعد كتاب « التوحيد » للماتريدية الّذين جاءوا بعده (1).

    3 ـ الشيخ نجم الدّين أبو حفص عمر بن محمّد ( م 537 هـ ) مؤلف « عقائد النّسفي » ويقال إنّه بمنزلة الفهرس لكتاب « تبصرة الأدلّة » ومع ذلك ما زال هذا الكتاب محور الدّراسة في الأزهر ، وغيره ، إلى يومنا هذا ، كما تقدّم.

    4 ـ الشيخ مسعود بن عمر التفتازاني أحد المتضلّعين في العلوم العربيّة ، والمنطق ، والكلام ، وهو شارح « عقائد النسفي » الّذي أُلّف على منهاج الإمام الماتريدي ، ولكن لم يتحقّق لي كونه ماتريديّاً ، بل الظاهر من شرح مقاصده كونه أشعريّاً. خصوصاً في مسألة خلق الأعمال ، وكونه سبحانه خالقاً ، والعبد كاسباً.

    5 ـ الشيخ كمال الدين محمد بن همام الدين الشهير بابن الهمام ( المتوفّى عام 861 هـ ) صاحب كتاب « المسايرة » في علم الكلام. نشره وشرحه محمّد محيي الدين عبد الحميد وطبع بالقاهرة.

    6 ـ العلامة كمال الدين أحمد البياضي الحنفي مؤلف كتاب « إشارات المرام من عبارات الإمام » أحد العلماء في القرن الحادي عشر وكتابه هذا أحد المصادر للماتريديّة.

    7 ـ وأخيراً الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري المصري وكيل المشيخة الإسلاميّة في الخلافة العثمانيّة ، أحد الخبراء في الحديث ، والتاريخ ، والملل ، والنحل. له خدمات صادقة في نشر الثقافة الإسلاميّة ومكافحة الحشوية والوهابيّة ، ولكنّ الحنابلة يبغضونه وما هذا إلاّ لأنّ عقليّته لا تخضع لقبول كلّ ما ينقل باسم الحديث ولا سيّما فيما يرجع إلى الصفات الخبرية لله سبحانه الذي لا يفترق عن القول بالتشبيه والتجسيم قدر شعرة.

________________________________________

    1 ـ مقدمة التوحيد: ص 5.

________________________________________

(19)

8 ـ مؤلّفاته و آثاره العلميّة:

    سجّل المترجمون للماتريدي كتباً له تعرب عن ولعه بالكتابة والتدوين والامعان والتّحقيق ، غير أنّ الحوادث لعبت بها ، ولم يبق منها إلاّ ثلاثة ، وقد طبع منها اثنان:

    1 ـ « كتاب التوحيد » وهو المصدر الأوّل لطلاّب المدرسة الماتريدية وشيوخها الّذين جاءوا بعد الماتريدي ، واعتنقوا مذهبه ، وهو يستمدّ في دعم آرائه من الكتاب ، والسنّة ، والعقل ، ويعطي للعقل سلطاناً أكبر من النقل ، وقد قام بتحقيق نصوصه ونشره الدكتور فتح اللّه خليف ( عام 1970 م ، 1390 هـ ) وطبع الكتاب في مطابع بيروت مع فهارسه في ( 412 ) صفحة وقد عرفت من البزدوي مؤلف « اُصول الدين » أنّ الكتاب لا يخلو من انغلاق في التّعبير ، وهو لائح منه لمن سبره.

    2 ـ « تأويلات أهل السنّة » في تفسير القرآن الكريم ، وهو تفسير في نطاق العقيدة السنيّة ، وقد مزجه بآرائه الفقهية والاُصولية وآراء اُستاذه الإمام أبي حنيفة ، فصار بذلك تفسيراً عقيدياً فقهيّاً ، وهو تفسير عامّ لجميع السور ، والجزء الأخير منه يفسّر سورة المنافقين ، إلى آخر القرآن ، وقد وقفنا من المطبوع منه على الجزء الأوّل وينتهي إلى تفسير الآية ( 114 ) من سورة البقرة. حقّقه الدكتور إبراهيم عوضين والسيد عوضين ، وطبع في القاهرة عام ( 390 هـ ) ، والمقارنة بين الكتابين تعرب عن وحدتهما في المنبع ، والتعبير ، والتركيب ، فمثلاً ما ذكره في تفسير قوله: ( رَبِّ أَرِني أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) من الاستدلال على جواز الرؤية ، هو نفس ما ذكره في كتاب التوحيد ، إلى غير ذلك من المواضيع المشتركة بين الكتابين ، ولكنّ التفسير أسهل تناولاً ، وأوضح تعبيراً.

    وأمّا كتبه الاُخر فإليك بيانها:

    3 ـ المقالات: حكى محقّق كتاب ( التوحيد ) وجود نسخة مخطوطة منه في المكتبات الغربيّة.

    4 ـ مأخذ الشرايع ، 5 ـ الجدل في اُصول الفقه ، 6 ـ بيان وهم المعتزلة ، 7 ـ ردّ كتاب

 

________________________________________

(20)

     الاُصول الخمسة للباهلي ، 8 ـ كتاب ردّ الإمامة لبعض الروافض ، 9 ـ الردّ على اُصول القرامطة ، 10 ـ كتاب ردّ تهذيب الجدل للكعبي ، 11 ـ رد وعيد الفسّاق للكعبي أيضاً ، 12 ـ رد أوائل الأدلّة له أيضاً.

9 ـ الفرق بين المنهجين: الأشعرية والماتريدية:

    لا شكّ أنّ الإمامين ، الأشعري والماتريدي كانا يتحرّكان في فلك واحد وكانت الغاية هي الدفاع عن عقيدة أهل السنّة ، والوقوف في وجه المعتزلة و ـ مع ذلك ـ لايمكن أن يتّفقا في جميع المسائل الرئيسية ، فضلاً عن التّفاريع ، وذلك لأنّ الأشعري اختار منهج الإمام أحمد ، وطابع منهجه هو الجمود على الظّواهر ، وقلّة العناية بالعقل والبرهان ، والشيخ الأشعري وإن تصرّف فيه وعدّله ، ولكن لمّا كان رائده هو الفكرة الحنبليّة فقد عرقلت نطاق عقله عن التوسّع ، ولو تجاوز عنها فإنّما يتجاوز مع التحفّظ على اُصولها.

    وأمّا الماتريديّ فقد تربّى في منهج تلامذة الإمام أبي حنيفة ، ويعلو على ذلك المنهج ، الطّابع العقلي والإستدلال ، كيف ومن اُسس منهجه الفقهي ، هوالعمل بالمقاييس والاستحسانات ، وعلى ضوء هذا فلا يمكن أن يكون التلميذان متوافقين في الاُصول ، فضلاً عن الفروع ، وأن يقع الحافر على الحافر في جميع المجالات ، وقد أشغل هذا الموضوع بالَ المحقّقين ، وحاولوا تبيين أنّ أيّاً من الداعيين أعطى للعقل سلطاناً أكبر ، وتفرّقوا في ذلك إلى أقوال نذكرها:

    1 ـ قال أحمد أمين المصري: « لقد اتّفق الماتريدي والأشعري على كثير من المسائل الأساسية ، وقد أُلِّفت كتب كثيرة وملخّصات ، بعضها يشرح مذهب الماتريدي ك ـ ( العقائد النسفية ) لنجم الدين النسفي ، وبعضها يشرح عقيدة الأشعري ك ـ ( السنوسية ) و ( الجوهرة ) ، وقد أُلِّفت كتب في حصر المسائل الّتي اختلف فيها الماتريدي والأشعري ، ربّما أوصلها بعضهم إلى أربعين مسألة ـ ثمّ قال: إنّ لون الإعتزال

(21)

     أظهر في الأشعريّة بحكم تتلمذ الأشعري للمعتزلة عهداً طويلاً ، واستشهد على ذلك بأنّ الأشعري يقول بوجوب المعرفة عقلاً قبل بعث الأنبياء دون الماتريدي » (1).

    والظّاهر أنّ ما ذكره الكاتب من هفو القلم وسهوالفكر ، إذ مضافاً إلى أنّ كتابي الماتريدي « التوحيد والتفسير » و آراء تلاميذه تشهد على خلاف ما ذكر. إنّ ما استشهد به على ما تبنّاه خلاف الواقع ، فالأشعري يقول بوجوب المعرفة سمعاً لا عقلاً ، والماتريدي على العكس كما ستوافيك نصوص القوم عند عرض المذهب ، والعجب أنّه قد سجّل نظرية الإمامين قبيل هذا ، على خلاف ما ذكره هنا وقال: يقول الماتريدية: إنّه تعالى لو لم يبعث للناس رسولاً لوجب عليهم بعقولهم معرفته تعالى ، ومعرفة وحدانيّته ، واتّصافه بما يليق ، وكونه محدثاً للعالم ، كما روي ذلك عن أبي حنيفة ، وذهب مشايخ الأشاعرة إلى أنّه لا يجب إيمان ، ولا يحرم كفر قبل البعث.

    فإذا (2) كان أحمد أمين قائلاً بغلبة لون الإعتزال على الأشعري ، فهناك من ذهب إلى خلافه ، وإليك البيان:

    2 ـ قال أبو زهرة: « إنّ منهاج الماتريدية للعقل سلطان كبير فيه من غير أيّ شطط أو إسراف ، والأشاعرة يتقيّدون بالنّقل ويؤيِّدونه بالعقل ، حتّى إنّه يكاد الباحث يقرّر أنّ الأشاعرة في خطّ بين الإعتزال وأهل الفقه والحديث ، والماتريديّة في خطّ بين المعتزلة والأشاعرة ، فإذا كان الميدان الّذي تسير فيه هذه الفرق الإسلاميّة الأربع ، والّتي لا خلاف بين المسلمين في أنّها جميعاً من أهل الإيمان ، ذا أقسام أربعة ، فعلى طرف منه المعتزلة ، وعلى الطرف الآخر أهل الحديث ، وفي الربع الّذي يلي المعتزلة ، الماتريديّة ، وفي الربع الّذي يلي المحدّثين ، الأشاعرة » (3).

    يلاحظ عليه: أنّه كيف جعل أبو زهرة هؤلاء كلّهم من أهل الايمان ، مع أنّ بين

________________________________________

    1 ـ ظهر الاسلام: ج 4 ص 91 ـ 95.

    2 ـ المصدر نفسه.

    3 ـ تاريخ المذاهب الاسلاميّة: ج 1 ص 199.

________________________________________

(22)

     أهل الحديث طوائف المشبِّهة ، والمجسِّمة ، والقائلين بالجبر المستلزم للغوية التكليف وبعث الأنبياء ، فهل يصحّ أن يعدّ من يصوّر بعث الأنبياء لغواً ، وإنزال الكتب عبثاً ، من أهل الإيمان؟ والحال أنّه لا تقصر عقيدة هؤلاء عن عقيدة أهل الجاهليّة الاُولى الّذين وصفهم الإمام علي ( عليه السلام ) في خطبة بقوله « وأهل الأرض يومئذ ( يوم بعث النّبي الأكرم ) ملل متفرِّقة ، وأهواء منتشرة ، وطوائف متشتّتة ، بين مشبِّه للّه بخلقه ، أو ملحد في اسمه ، أو مشير به إلى غيره » (1).

    ويا للعجب! إذا قسّم أبو زهرة ساحة الإيمان كلّها لهذه الطوائف الأربع ، فأين يقع مكان أئمّة أهل البيت في هذه الساحة وليس لأحد إنكار فضيلتهم ، لأنّهم الّذين أوجب الله سبحانه مودّتهم في القرآن وجعلها أجر رسالته وقال: ( قُلْ لا أسألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَودَّةَ في القُرْبى ). ( الشورى / 23 ) ؟!! وعرّفهم رسول اللّهصلَّى الله عليه و آله و سلَّم بأنّهم أعدال الكتاب وقرناؤه ، وقال: « إنّي تارك فيكم الثّقلين: كتاب الله وعترتي » (2).

    وقد عرف الأبكم والأصمّ ـ فضلاً عن غيرهما ـ أنّ أئمّة أهل البيت لم يكونوا في أحد هذه المذاهب ، ولا كانوا مقتفين لأحد هذه المناهج ، بل كان لهم منهج خاصّ لا يفترق عن الكتاب ، والسنّة ، والعقل السليم ، فما معنى هذا التقسيم؟ « ما هكذا تورد يا سعد الإبل » و « تلك إذاً قسمة ضيزى » ، « أهم يقسمون رحمة ربّك... ».

    3 ـ قال الشّيخ محمّد زاهد الكوثري: « الماتريديّة هم الوسط بين الأشاعرة والمعتزلة ، وقلّما يوجد بينهم متصوّف ، فالأشعريّ والماتريدي هما إماما أهل السنّة والجماعة في مشارق الأرض ومغاربها ، لهم كتب لا تحصى ، وغالب ما وقع بين هذين الإمامين من الخلاف من قبيل اللّفظي » (3).

    يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من أنّ الماتريديّة بين الأشاعرة والمعتزلة وإن كان متيناً ،

________________________________________

    1 ـ نهج البلاغة: الخطّبة 1 طبعة عبده ص 25.

    2 ـ حديث متفق عليه رواه الفريقان.

    3 ـ مقدمة تبيين كذب المفتري: ص 19.

________________________________________

(23)

     كما سيأتي عند عرض مذهبهم ، لكن كون الخلاف بين الإمامين لفظيّاً واضح البطلان ، إذ كيف يكون النّزاع في التحسين والتقبيح العقليّين ، أمراً لفظيّاً ، مع أنّه تترتّب على الإثبات والإنكار مسائل كلاميّة كثيرة؟ أو كيف يكون الاختلاف في كون فعل الانسان فعلاً له حقيقة أو مجازاً من الاختلاف اللّفظي؟.

    4 ـ قال محقّق كتاب « التّوحيد » للماتريدي ، في مقدّمته: « إنّ شيخيّ السنّة يلتقيان على منهج واحد ومذهب واحد ، في أهمّ مسائل علم الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق المتكلّمين » (1).

    ولعلّه لا يرى الخلاف في التّحسين والتّقبيح ، وكون فعل الانسان فعلاً له حقيقة ، أو مجازاً ، اختلافاً جوهريّاً ، كما لا يرى الاختلاف في كون صفاته عين ذاته ، أو زائدة عليه ، أو جواز التّكليف بما لايطاق ، وعدمه كذلك. فاللازم عرض مذهبه عن طريق نصوصه الواردة في توحيده ، وتفسيره ، وكتب أنصاره ، حتى يعلم مدى اتّفاق الداعيين ، واختلافهما.

    وقبل ذلك نختم البحث بكلمة الامام البزدوي ، أحد أنصار الماتريديّة في القرن الخامس ، وكان جدّ والده أحد تلاميذه. قال:

     « وأبو الحسن الأشعري و جميع توابعه يقولون إنّهم من أهل السنّة والجماعة ، وعلى مذهب الأشعري عامّة أصحاب الشافعي ، وليس بيننا وبينهم خلاف إلاّ في مسائل معدودة قد أخطأوا فيها » (2) وذكر بعد ذلك ، تلك المسائل المعدودة وهي لا تتجاوز عن ثلاث ، وسيوافيك نصّه! ولأجل وجود الإختلاف الجوهري بين المذهبين قام جماعة من المعنيّين بتبيين الفروق الموجودة فيهما ، بين موجز في الكلام ، ومسهب فيه ، وربّما ألّفوا كتباً ورسائل ، وإليك ما وقفنا عليه في هذا المجال:

    أ ـ اُصول الدين للامام البزدوي ، قال فيه تحت عنوان « ما خالف أبو الحسن

________________________________________

    1 ـ مقدمة التوحيد ، بقلم محققه الدكتور فتح اللّه خليف: ص 18.

    2 ـ اُصول الدين للامام محمد بن محمد بن عبد الكريم البزدوي: ص 242.

________________________________________

(24)

    الأشعري عامّة أهل السنّة والجماعة ».

    1 ـ قال أهل السنّة والجماعة: إنّ للّه تعالى أفعالاً ، وهي الخلق ، والرزق ، والرحمة ، واللّه تعالى قديم بأفعاله كلّها ، وأفعال اللّه ليست بحادثة ، ولامحدثة ، ولا ذات الله ، ولا غير الله تعالى ، كسائر الصِّفات.

    وأبوالحسن الأشعري أنكر أن يكون للّه تعالى فعل ، وقال: الفعل والمفعول واحد ، ووافق في هذا القدريّة والجهميّة ، وعليه عامّة أصحابه ، وهو خطأ محض (1).

    2 ـ وقال أهل السنّة والجماعة: المعاصي والكفر ليست برضى اللّه ، ولا محبّته ، و إنّما هي بمشيئة اللّه تعالى.

    وأبوالحسن قال: إنّ اللّه تعالى يرضى بالكفر والمعاصي ، ويحبّها ، وهو خطأ محض أيضاً.

    3 ـ وقال أهل السنّة والجماعة: إنّ الايمان هو التّصديق والإعتقاد بالقلب ، والإقرار باللّسان ، وقال أبو الحسن: إنّ الايمان هو التّصديق بالقلب ، والإقرار بالّلسان فرض من الفروض ، وهو خطأ أيضاً. وشرّ مسائله مسألة الأفعال.

    وذكر أبوالحسن في كتاب « المقالات » مذهب أهل الحديث ، ثمّ قال: وبه نأخذ ، ومذهب أهل الحديث في هذه المسائل الثّلاث مثل مذهب أهل السنّة والجماعة. فهذا القول يدلّ على أنّه كان يقول مثل ما قال أهل السنّة والجماعة في هذه المسائل ، ولكن ذكر في الموجز الكبير كما ذكرنا هنا ، فكان حبّه (2) في هذه المسائل قولان ، فكأنّه رجع عن هذه المسائل الثّلاث.

    وكان يقول: كلّ مجتهد مصيب في الفروع ، وعامّة أهل السنّة والجماعة قالت: يخطىء ويصيب (3).

________________________________________

    1 ـ سيوافيك عند عرض مذهب الماتريديّة توضيح مرامهم.

    2 ـ كذا في الأصل وضبطه المحقق بضم الباء.

    3 ـ اُصول الدين للبزدوي: ص 245 ـ 246.

________________________________________

(25)

    ب ـ « إشارات المرام من عبارات الامام » تأليف كمال الدين البياضي الحنفيّ من علماء القرن الحادي عشر ، فقد طرح النّقاط الخلافيّة بين الإمامين فبلغ إلى خمسين مسألة (1).

    ج: نظم الفرائد وجمع الفوائد في بيان المسائل الّتي وقع فيها الاختلاف بين الماتريديّة والأشعريّة تأليف عبد الرحيم بن علي المعروف ب ـ « شيخ زاده » طبع في القاهرة ( عام 1317 هـ ).

    د: الروضة البهيّة في ما بين الأشعريّة والماتريديّة تأليف أبي عذبة ، طبع في حيدرآباد ( عام 1332 هـ ).

    هـ : خلافيّات الحكماء مع المتكلّمين ، وخلافيّات الأشاعرة مع الماتريديّة ، تأليف عبدالله بن عثمان بن موسى مخطوطة دار الكتب المصريّة ( بالرقم 3441ج ) (2).

    و: قصيدة في الخلاف بين الأشعريّة والماتريديّة تأليف تاج الدين السبكي ، مؤلّف ( طبقات الشافعيّة الكبرى ) المطبوعة بمصر ( عام 1324 هـ ) مخطوطة الجامعة العربيّة الرقم ( 202 ) المصوّرة عن مخطوطة جامع الشيخ بالاسكندرية (3).

    وهذه العناية المؤكّدة في طول الأجيال تعرب عن كون الفرق أو الفوارق جوهريّاً ، لا لفظيّاً ، وإلاّ فلا وجه لتأليف الكتب والرسائل لبيان الفوارق اللّفظية أو الجزئيّة ، الموجودة بين المنهجين ، وسيظهر الحقّ في البحث التالي.

 

10 ـ عرض مذهب الماتريدي:

    ولا نهدف في هذا الفصل إلى عرض كلّ ما يعتقد به الماتريدي في مجال العقائد والاُصول ، فإنّ قسماً من عقائده هو عين عقيدة أهل الحديث والأشعري ، وقد عرضنا

________________________________________

    1 ـ اشارات المرام: ص 53 ـ 56.

    2 ـ انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 25.

    3 ـ انظر مقدمة كتاب التوحيد للماتريدي: ص 25.

________________________________________

(26)

     عقائدهم في الجزء الأول من هذه السلسلة ، وإنّما نقوم ببيان الاُصول المهمّة الّتي افترق فيها عن الأشعري ، مع الاعتراف بأنّ الماتريدي يتدرّع في بعض الموارد بنفس ما يتدرّع به الأشعري ، ومن هذا الباب تصحيح القول بالرؤية ، فإنّ القول برؤيته في النشأة الآخرة ملازم لكونه سبحانه محاطاً وواقعاً في جهة ومكان ، ومن أجل ذلك قام العلمان في دفع الإشكال على نمط واحد ، وهو أنّ الرؤية تقع « بلا كيف » أو ما يفيد ذلك ، حتّى يُرضيا بذلك أهل النقل والعقل.

    قال ابن عساكر: « قالت الحشويّة المشبِّهة: إنّ اللّه سبحانه وتعالى يرى مكيّفاً محدوداً كسائر المرئيات ، وقالت المعتزلة والجهمية والنجارية: إنّه سبحانه لا يرى بحال من الأحوال فسلك الأشعري طريقاً بينهما فقال: يرى من غير حلول ، ولا حدود ، ولا تكييف ، كما يرانا هو سبحانه وتعالى ، وهو غير محدود ، ولا مكيّف » (1).

    وقد نقلنا نصوص نفس الأشعري في موضع الرؤية عند عرض عقائده (2).

    وقال الماتريدي في ذلك البحث: « فإن قيل: كيف يرى؟ قيل: بلا كيف ، إذ الكيفيّة تكون لذي صورة ، بل يرى بلا وصف قيام وقعود ، واتّكاء وتعلّق ، واتّصال وانفصال ، ومقابلة ومدابرة ، وقصير وطويل ، ونور وظلمة ، وساكن ومتحرِّك ، ومماسّ ومباين ، وخارج وداخل ، ولا معنى يأخذه الوهم ، أو يقدره العقل ، لتعاليه عن ذلك » (3).

    يلاحظ عليه: أنّ الرؤية بهذه الخصوصيّات إنكار لها ، وأشبه بالأسد بلا ذنب ، ولارأس.

    والّذي تبيّن لي بعد التأمّل في آرائه في كثير من المسائل الكلاميّة ، أنّ منهجه كان يتمتّع بسمات ثلاث:

    1 ـ الماتريدي أعطى للعقل سلطاناً أكبر ، ومجالاً أوسع ، وذلك هو الحجر الأساس

________________________________________

    1 ـ تبيين كذب المفتري لابن عساكر: ص 149 ـ 150.

    2 ـ لاحظ الجزء الثاني: ص 201.

    3 ـ التوحيد للماتريدي: ص 85.

________________________________________

(27)

     للسمتين الأخيرتين.

    2 ـ إنّ منهج الماتريدي أبعد من التّشبيه والتّجسيم من الأشعري ، وأقرب إلى التّنزيه.

    3 ـ إنّه وإن كان يحمل حملة عنيفة على المعتزلة ، ولكنّه إلى منهجهم أقرب من الإمام الأشعري.

    وتظهر حقيقة هذا الأمر إذا عرض مذهبه في مختلف المسائل ، ولمعرفة جملة من مواضع الاختلاف ودراسة نقاط القوّة والضّعف ، نذكر موارد عشرة ونترك الباقي روماً للإختصار.

 

1 ـ استيلاؤه على العرش:

    اتّفق الداعيان على أنّه يجب الإيمان بما جاء في القرآن من الصِّفات للّه تبارك وتعالى ، ومنها استيلاؤه على العرش ، والأشعري يفسّره على نحو الإثبات ويؤمن بظاهره بلا تفويض ولا تأويل ، وأنّ الله حقيقةً مستو على العرش لكن استيلاءً مناسباً له ، ويقول: « إنّ الله مستو على العرش الّذي فوق السّماوات » ولأجل دفع توهّم التجسيم يقول: « يستوي على عرشه كما قال ، يليق به من غير طول الإستقرار » ويستشهد بما روي عن رسول الله: إذا بقي ثلث الليل ينزل اللّه تبارك وتعالى ، فيقول: من ذا الّذي يدعوني فأستجيب له (1).

    وعلى ضوء هذا فالأشعري ممّن يثبت الصفات الخبريّة للّه بلا تفويض معناها إليه ، غاية الأمر يتدرّع بلفظة « على نحو يليق به » أو « بلا كيف » كما في الموارد الاُخر ، ولكنّ الماتريدي مع توصيفه سبحانه بالصفات الخبريّة ، يفوِّض مفاد الآية إليه سبحانه ، فهو يفارق الأشعري في التّفويض وعدمه ، ويخالف المعتزلة في التّأويل وعدمه ، فالأشعري من المثبتة بلا تفويض وتأويل ، وهو من المثبتة مع التّفويض ، كما أنّ المعتزلة

________________________________________

    1 ـ الابانة: ص 85.

________________________________________

(28)

     من المؤوِّلة ، وبذلك يتّضح كونه بين الأشعري والمعتزليّ ، وإليك نصّه في مورد استوائه على العرش:

    قال: « وأمّا الأصل عندنا في ذلك أنّ اللّه تعالى قال ليس كمثله شيء » فنفى عن نفسه شبه خلقه ، وقد بيّنا أنّه في فعله وصفته متعال عن الأشباه ، فيجب القول ب ـ ( الرّحمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى ) على ما جاء به التنزيل ، وثبت ذلك في العقل ، ثمّ لا نقطع تأويله على شيء ، لاحتماله غيره مما ذكرنا ، واحتماله أيضاً ما لم يبلغنا ممّا يعلم أنّه غير محتمل شبه الخلق ، ونؤمن بما أراد اللّه به ، وكذلك في كلّ أمر ثبت التنزيل فيه ، نحو الرؤية وغير ذلك ، يجب نفي الشبه عنه ، والإيمان بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء ، واللّه الموفِّق » (1).

 

2 ـ معرفته سبحانه واجبة عقلاً:

    اتّفق الداعيان على وجوب معرفة الله ، واختلفا في طريق ثبوت هذا الوجوب ، فالأشعري وأتباعه على أنّه سمعيّ ، والمعتزلة على أنّه عقليّ ، قال العضدي في المواقف: النّظر إلى معرفة اللّه واجب إجماعاً ، واختلف في طريق ثبوته ، فهو عند أصحابنا السمع ، وعند المعتزلة العقل. أمّا أصحابنا فلهم مسلكان:

    الأوّل: الاستدلال بالظّواهر مثل قوله تعالى: ( قُلِ انْظُرُوا مَاذا فِي السَّمواتِ وَالأَرْضِ ) إلى آخره (2).

    ولا يخفى وهن النّظرية ، لاستلزامها الدور ، لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معرفة الموجِب ، فإنّ من لا نعرفه بوجه من الوجوه ، كيف نعرف أنّه أوجب؟ فلو استفيدت معرفة الموجِب من معرفة الإيجاب ، لزم الدور.

    وأيضاً: لو كانت المعرفة تجب بالأمر ، فهو إمّا متوجّه إلى العارف باللّه أو غيره ،

________________________________________

    1 ـ التوحيد للماتريدي: ص 74.

    2 ـ المواقف: ص 28 وشرحها ج 1 ص 124و الآية 101 من سورة يونس..

 

________________________________________

(29)

     فالأوّل تحصيل للحاصل ، وأمّا الثاني ، فهو باطل ، لاستحالة خطاب الغافل ، إذ كيف يصحّ الأمر بالغافل المطلق بأنّ الله قد أمره بالنّظر والمعرفة ، وأنّ امتثال أمره واجب إلاّ إذا خصّ الوجوب بالشّاك.

    هذا ما عليه الأشاعرة ، وأمّا الماتريديّة فتقول بوجوبها عقلاً مثل المعتزلة. قال البياضي: « ويجب بمجرّد العقل في مدة الاستدلال ، معرفة وجوده ، ووحدته ، وعلمه ، وقدرته ، وكلامه ، وإرادته ، وحدوث العالم ، ودلالة المعجزة على صدق الرّسول ، ويجب تصديقه ، ويحرم الكفر ، والتّكذيب به ، لا من البعثة وبلوغ الدعوة » (1).

    القول بوجوب هذه الاُمور من جانب العقل من قبل أن يجيء الشرع دفعاً لمحذور الدور يعرب عن كون الداعي ، أعطى للعقل سلطاناً أكبر مما أعطاه الأشعري له.

 

3 ـ الاعتراف بالتحسين والتقبيح العقليين:

    إنّ لمسألة التحسين والتقبيح العقليين دوراً مؤثّراً في المسائل الكلامية ، فالأشاعرة على إنكارهما زاعمين أنّ القول باستطاعة العقل على دركهما ، يستلزم نفي حرّية المشيئة الإلهيّة والتزامها بقيد وشرط ، وقد أوضحنا حال هذه النّظرية عند عرض عقائد الأشاعرة (2). وأمّا المعتزلة فهم على جانب مخالف ، وأمّا الماتريديّة فيعترفون بالتحسين والتقبيح ببعض مراتبهما.

    قال البياضي: والحسن بمعنى استحقاق المدح والثّواب ، والقبح بمعنى استحقاق الذمّ والعقاب على التكذيب عنده ( أبي منصور الماتريدي ) إجمالاً عقلي ، أي يعلم به حكم الصانع في مدّة الاستدلال في هذه العشرة (3). كما في التوضيح وغيره ، لا بإيجاب العقل للحسن والقبح ، ولا مطلقاً كما زعمته المعتزلة ، أمّا كيفيّة الثّواب وكونه

________________________________________

    1 ـ اشارات المرام: فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشعرية ص 53.

    2 ـ لاحظ الجزء الثاني: ص 310 ـ 332.

    3 ـ اشارة إلى ما ذكره من المسائل العشر خلال البحث في وجوب المعرفة عقلاً.

________________________________________

(30)

     بالجنّة ، وكيفيّة العقاب وكونه بالنّار ، فشرعي ، واختار ذلك الامام القفّال الشاشي ، والصيرفي ، وأبو بكر الفارسي ، والقاضي أبو حامد ، وكثير من متقدّميهم ، كما في القواطع للامام أبي المظفّر السمعاني الشافعي والكشف الكبير ، وهو مختار الامام القلانسي ومن تبعه كما في ( التبصرة البغدادية ). ولا يجوز نسخ مالا يقبل حسنه أو قبحه السقوط كوجوب الايمان ، وحرمة الكفر واختاره المذكورون ـ إلى أن قال: ـ ويستحيل عقلاً اتّصافه تعالى بالجور وما لا ينبغي ، فلا يجوز تعذيب المطيع ، ولا العفو عن الكفر ، عقلاً ، لمنافاته للحكمة ، فيجزم العقل بعدم جوازه ، كما في التنزيهات (1).

    وغير خفيّ على النابه أنّ الشيخ الماتريدي قد اعترف بما هو المهمّ في باب التحسين والتقبيح العقليين وإليك الاشارة إليه:

    1 ـ استقلال العقل بالمدح والذمّ في بعض الأفعال ، وهذا هو محلّ النزاع في بابهما بأن يجد العقل من صميم ذاته أنّ هنا فعلين مختلفين يستحقّ فاعل أحدهما المدحَ ، وفاعل الآخر الذمَّ ، سواء أكان الفاعل بشراً ، أم انساناً ، أم ملكاً ، أم غيرهما ، وتبتنى عليه اُصول كثيرة كلاميّة أوعزنا إليها عند عرض عقائد الأشعري و آرائه.

    2 ـ استقلال العقل بكونه سبحانه عادلاً ، فلا يجوز عليه تعذيب المطيع ، وأين هو ممّا يقول به الأشعري من أنّه يجوز للّه سبحانه أن يؤلم الأطفال في الآخرة وهو عادل إن فعله (2).

    3 ـ نعم أنكر الشيخ إيجاب العقل للحسن والقبح ، ولكنّه لو كان واقفاً على مغزى إيجاب العقل لم يعترض عليه ، إذ لا يوجد في أديم الأرض إنسان عاقل عارف بمقام الربّ والخلق ، يجعل العقل موجِباً ومكلِّفاً ـ بالكسر ـ واللّه سبحانه موجَباً ومكلَّفاً ـ بالفتح ـ ، لأنّ شأن العقل هو الادراك ، ومعنى إيجابه القيام بالحسن ، والاجتناب عن ضدّه ، هو استكشافه لزوم القيام بالأوّل وامتناع القيام بالثّاني بالنّظر إلى

________________________________________

    1 ـ اشارات المرام: فصل الخلافيات بين الماترديّة والأشاعرة ، ص 54.

    2 ـ اللمع: ص 116.

(31)

     المبادىء الموجودة في الفاعل الحكيم ، فالمتّصف بكلّ الكمال ، والمبرّأ عن كلّ سوء ، لايصدر منه إلاّ الحسن لوجود الصارف عن غيره ، ويمتنع صدور غيره عنه ، وليس هذا الامتناع امتناعاً ذاتيّاً بمعنى تحديد قدرته ومشيئته ، بل قدرته ومشيئته مطلقتان بالذّات غير محدودتين ، فهو سبحانه قادر على كلا القسمين من الفعل أعني الحسن والقبح ، لكن بالنّظر إلى أنّه عالم واقف على قبح الأفعال ، وغنىُّ عن فعل القبح ، يترك القبيح ولا يفعله ، واللّه الحكيم كتب على نفسه أن لا يخلّ بالحسن ولا يفعل القبيح ، وليس دور العقل إلاّ دور الكشف والتبيين ، والتعبير بالإيجاب بملاك الوقوف على المبادئ الكماليّة الموجودة في المبدأ كقولك: يجب أن تكون زوايا المثلّث متساوية مع زاويتين قائمتين ، فإنّ الخصوصيّة التكوينيّة الكامنة فيه مبدأ ذلك الإيجاب ، والعقل كاشفه ، ومع ذلك ربّما يعبّر عن ذلك بالإيجاب.

    4 ـ اختار الماتريدي قصور العقل عن تعيين كيفيّة الثواب وكونه بالجنّة ، وكيفيّة العقاب وكونه بالنار وهو الحقّ ، فإنّ أقصى ما يستقلّ به العقل هو لزوم مثوبة المطيع ومجازاة العاصي ، وأمّا الكيفيّة فلا يستقلّ العقل بشيء منها ( على فرض كون الثّواب بالاستحقاق ). نعم ما ذكره من أنّه ليس للّه العفو عن الكفر عقلاً ، فالظّاهر أنّه تحديد رحمته وقد سبقت غضبه ، والتّعذيب حقُّ له ، وله الإعمال وله العفو كعصيان المؤمن الفاسق. نعم أخبر المولى سبحانه بأنّه لا يغفر الشرك ، ويغفر ما دون ذلك.

 

4 ـ التكليف بما لا يطاق غير جائز:

    ذهب الأشعري إلى جواز التكليف بما لايطاق وقال: « والدليل على جواز تكليف ما لا يطاق من القرآن قوله تعالى للملائكة: ( أَنْبِؤُني بِأسْماءِ هؤلاءِ ) ( البقرة / 31 ) يعني أسماء الخلق ، وهم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.... إلى غير ذلك من الآيات الّتي عرفت مفادها في محلّها (1).

________________________________________

    1 ـ لاحظ الجزء الثاني من هذا الكتاب: 185.

________________________________________

(32)

    والماتريدي مخالف صنوه الداعي ويقول: « ولا يجوز التكليف بما لا يطاق لعدم القدرة أو الشرط ، واختاره الاُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني كما في ( التبصرة ) وأبوحامد الاسفرائيني كما في شرح السبكي لعقيدة أبي منصور » (1).

    هذا ما نقله البياضي عن الماتريديّة ، وأمّا نفس أبي منصور فقد فصّل في كتابه « التوحيد » بين مضيِّع القدرة فيجوز تكليفه ، وبين غيره فلا يجوز. قال: « إنّ تكليف من مُنع عن الطاقة فاسد في العقل ، وأمّا من ضيّع القوّة فهو حقّ أن يكلّف مثله ، ولو كان لا يكلّف مثله لكان لا يكلّف إلاّ من يطيع » (2).

يلاحظ عليه:

    1 ـ أنّ من الاُصول المسلّمة عند العقل ، كون الامتناع بالإختيار غير مناف للإختيار ، فمن ألقى نفسه من شاهق عن اختيار فقد قتل نفسه اختياراً ، فالقتل بعد الإلقاء وإن كان خارجاً عن الاختيار ، ولكنّه لمّا كان الإلقاء ـ الّذي يُعدّ من مبادئ القتل ـ في اختياره ، يعدّ القتل فعلاً اختياريّاً لا اضطراريّاً.

    2 ـ أنّ من فقد القدرة ، وعجز عن القيام بالعمل ، سواء أكان بعامل اختياريّ أم غيره ، لا يصحّ تكليفه به عن جدّ ، لأنّ فاقد القدرة والجماد في هذه الجهة سواسية ، فلا تظهر الارادة الجدّية في صقع الذهن ، ولو خوطب العاجز فإنّما يخاطب بملاكات أُخر من التقريع ، والتنديد ، وغيرهما.

    وفي ضوء هذين الأمرين يستنتج أنّ من ضيّع قدرته يُعذَّب ، لما تقرّر من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ولكن لا يصحّ تكليفه بعد الضياع ، للغويّة الخطاب واستهجانه ، وبذلك يظهر وهن برهان المفصّل من أنّه لو لم يصحّ تكليف المضيِّع للقدرة لاختصّ التكليف بالمطيع ، لما عرفت من أنّ سقوط التكليف والخطاب

________________________________________

    1 ـ اشارات المرام: ص 54 في فصل الخلافيات بين جمهور الماتريدية والأشعرية.

    2 ـ التوحيد: ص 266.

________________________________________

(33)

     بالتضييع ، لايستلزم سقوط العقاب والمؤاخذة ، وقد اشتهر بين القوم أنّ الامتناع بالاختيار ، لاينافي الاختيار عقاباً لا خطاباً ، ولو كان الماتريدي واقفاً على أنّ القائلين بامتناع التكليف بما لايطاق ، قائلون بصحّة عقوبة من ضيّع القدرة ، وجعل نفسه في عداد العجزة ، لما فصّل بين من مُنع منه الطّاقة ، ومن ضيّعها ، ولما ضرب الجميع بسهم واحد.

 

5 ـ أفعال اللّه سبحانه معلّلة بالغايات:

    ذهبت الأشاعرة إلى أنّ أفعاله سبحانه ليست معلّلة بالأغراض ، وأنّه لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح عليه شيء ، واستدلّوا على ذلك بما يلي:

    1 ـ لو كان فعله تعالى لغرض ، لكان ناقصاً لذاته ، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض ، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه ، وهو معنى الكمال (1).

    وقالت الماتريديّة: أفعاله تعالى معلّلة بالمصالح والحكم تفضّلاً على العباد ، فلا يلزم الاستكمال ولا وجوب الأصلح واختاره صاحب المقاصد (2).

هل الغاية ، غاية للفاعل أو للفعل؟

    إنّ الأشعري خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل ، والغرض الراجع إلى فعله ، فالاستكمال موجود في الأوّل دون الثاني ، والقائل بكون أفعاله معلّلة بالأغراض ، والغايات ، والدواعي ، والمصالح ، إنّما يعني بها الثاني دون الأوّل ، والغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنيّاً بالذات ، وغنيّاً في الصِّفات ، وغنيّاً في الأفعال ، والغرض بالمعنى الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثاً ولغواً ، وكونه سبحانه عابثاً ولاغياً ، فالجمع بين كونه غنيّاً غير محتاج إلى شيء ، وكونه حكيماً منزّهاً عن العبث واللّغو ، يتحقّق بالقول باشتمال أفعاله على مصالح وحِكم ترجع إلى العباد والنظام ، لا إلى وجوده وذاته ، كما لا يخفى.

________________________________________

    1 ـ المواقف: ص 331.

    2 ـ اشارات المرام: ص 54.

________________________________________

(34)

تفسير العلة الغائية:

    العلّة الغائيّة الّتي هي إحدى أجزاء العلّة التامّة ، يراد منها في مصطلح الحكماء ، ما تُخرج الفاعلَ من القوّة إلى الفعل ، ومن الامكان إلى الوجوب ، ويكون مقدّمة صورة وذهناً ، ومؤخّرة وجوداً وتحققاً ، فهي السبب لخروج الفاعل عن كونه فاعلاً بالقوّة إلى كونه فاعلاً بالفعل ، مثلاً النجّار لا يقوم بصنع الكرسيّ إلاّ لغاية مطلوبة مترتّبة عليه ، ولولا تصوّر تلك الغاية لما خرج عن كونه فاعلاً بالقوّة ، إلى ساحة كونه فاعلاً بالفعل ، وعلى هذا فللعلّة الغائيّة دور في تحقّق المعلول ، وخروجه من الإمكان إلى الفعليّة ، لأجل تحريك الفاعل نحو الفعل ، وسوقه إلى العمل.

    ولا نتصوّر العلّة الغائيّة بهذا المعنى في ساحته سبحانه لغناه المطلق في مقام الذات ، والوصف ، والفعل ، فكما أنّه تامّ في مقام الوجود ، تامّ في مقام الفعل ، فلا يحتاج في الإيجاد إلى شيء وراء ذاته ، وإلاّ فلو كانت فاعليّة الحقّ كفاعليّة الانسان ، الذي لايقوم بالايجاد والخلق ، إلاّ لأجل الغاية المترتّبة عليه ، لكان ناقصاً في مقام الفاعليّة ، مستكملاً بشيء وراء ذاته وهو لا يجتمع مع غناه المطلق.

    هذا ما ذكره الحكماء ، وهو حقّ لا غبار عليه ، وقد استغلّته الأشاعرة في غير موضعه واتّخذوه حجّة لتوصيف فعله عارياً عن أيّة غاية وغرض ، وجعلوا فعله كفعل العابثين واللاعبين ، يفعل ( العياذ باللّه ) بلا غاية ، ويعمل بلا غرض ، ولكنّ الاحتجاج بما ذكره الحكماء لإثبات ما رامته الأشاعرة واضح البطلان ، لأنّ إنكار العلّة الغائيّة بهذا المعنى ، لا يلازم أن لا يترتّب على فعله مصالح وحكم ينتفع بها العباد ، وينتظم بها النظام ، وإن لم تكن مؤثّرة في فاعليّة الحقّ وعليّته ، وذلك لأنّه سبحانه فاعل حكيم ، والفاعل الحكيم لا يختار من الأفعال الممكنة إلاّ ما يناسب ذلك ، ولا يصدر منه ما يضادّه ويخالفه.

 

________________________________________

(35)

    وبعبارة ثانية ، لا نعني من ذلك أنّه قادر لواحد من الفعلين دون الآخر وأنّه في مقام الفاعليّة يستكمل بالغاية ، فيقوم بهذا دون ذاك ، بل هو سبحانه قادر على كلا الأمرين ، لا يختار منهما إلاّ ما يوافق شأنه ، ويناسب حكمته ، وهذا كالقول بأنّه سبحانه يعدل ولا يجور ، فليس يعنى من ذلك أنّه تامّ الفاعليّة بالنسبة إلى العدل دون الجور ، بل يعنى أنّه تام القادريّة لكلا العملين ، لكن عدله ، وحكمته ، ورأفته ، ورحمته ، تقتضي أن يختار هذا دون ذلك مع سعة قدرته لكليهما.

    هذا هي حقيقة القول بأنّ أفعال اللّه لا تعلّل بالأغراض والغايات المصطلحة ، مع كون أفعاله غير خالية عن المصالح والحكم من دون أن يكون هناك استكمال.

دليل ثان للأشاعرة:

    ثمّ إنّ أئمّة الأشاعرة لمّا وقفوا على منطق العدليّة في المقام ، وأنّ المصالح والحكم ليست غايات للفاعل بل غايات للفعل ، وأنّها غير راجعة إلى الفاعل ، بل إلى العباد والنّظام ، طرحوه على بساط البحث فأجابوا عنه وإليك نصّ كلامهم:

    1 ـ « فان قيل: لانسلّم الملازمة ، فإنّما الغرض قد يكون عائداً إلى غيره.

    قيل له: نفع غيره والاحسان إليه إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه ، جاء الالزام ، لأنّه تعالى يستفيد حينئذ بذلك النّفع والاحسان ما هو أولى به وأصلح ، وإن لم يكن أولى بل كان مساوياً ، أو مرجوحاً ، لم يصلح أن يكون غرضاً له » (1).

    وقد جاء بنفس هذا البيان « الفضل بن روزبهان » في ردّه على « نهج الحقّ » للعلاّمة الحلّي وقال:

     « إنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه ، وذلك لأنّ ما يستوي وجوده وعدمه بالنّظر إلى الفاعل ، أو كان وجوده مرجوحاً بالقياس إليه ، لا يكون باعثاً

________________________________________

    1 ـ المواقف: ص 332.

________________________________________

(36)

     على الفعل ، وسبباً لإقدامه عليه بالضّرورة ، فكلّ ما يكون غرضاً وجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل ، وأليق به من عدمه ، فهو معنى الكمال ، فإذن يكون الفاعل مستكملاً بوجوده ، ناقصاً بدونه » (1).

    يلاحظ عليه: أنّ المراد من الأصلح والأولى به ، ما يناسب شؤونه ، فالحكيم لايقوم إلاّ بما يناسب شأنه ، كما أنّ كلّ فاعل غيره يقوم بما يناسب المبادئ الموجودة فيه ، فتفسير الأصلح والأولى بما يفيده ويكمِّله ، تفسير في غير موضعه.

    ومعنى أنّه لا يختار إلاّ الأصلح والأولى ، ليس أنّ هناك عاملاً خارجاً عن ذاته ، يحدِّد قدرته ومشيئته ويفرض عليه إيجاد الأصلح والأولى ، بل مقتضى كماله وحكمته ، هو أن لا يخلق إلاّ الأصلح والأولى ، ويترك اللّغو والعبث ، فهو سبحانه لمّا كان جامعاً للصّفات الكماليّة ومن أبرزها كونه حكيماً ، صار مقتضى ذلك الوصف ، إيجاد ما يناسبه وترك ما يضادّه ، فأين هو من حديث الاستكمال ، والاستفادة ، والالزام ، والافراض ، كلّ ذلك يعرب عن أنّ المسائل الكلاميّة طرحت في جوّ غير هادئ وأنّ الخصم لم يقف على منطق الطّرف الآخر.

    والحاصل ، أنّ ذاته سبحانه تامة الفاعليّة بالنسبة إلى كلا الفعلين: الفعل المقترن مع الحكمة ، والخالي عنها ، وذلك لعموم قدرته سبحانه للحسن والقبيح ، ولكن كونه حكيماً يصدّه عن ايجاد الثاني ويخصّ فعله بالأوّل ، وهذا صادق في كلّ فعل له قسمان: حسن وقبيح. مثلاً ، اللّه سبحانه قادر على إنعام المؤمن وتعذيبه ، وتامّ الفاعليّة بالنّسبة إلى الكلّ ، ولكن لا يصدر منه إلاّ القسم الحسن منهما لا القبيح ، فكما لا يستلزم القول بصدور خصوص الحسن دون القبيح ( على القول بهما ) كونه ناقصاً في الفاعليّة ، فهكذا القول بصدور الفعل المقترن بالمصلحة دون المجرّد عنها ، وإنعام المؤمن ليس مرجوحاً ولا مساوياً مع تعذيبه بل أولى به وأصلح ، لكن معنى صلاحه وأولويّته لا يهدف إلى استكماله أو استفادته منه ، بل يهدف إلى أنّه المناسب لذاته الجامعة للصفات الكماليّة ،

________________________________________

    1 ـ دلائل الصدق: ج 1 ص 233.

________________________________________

(37)

     المنزهة عن خلافها ، فجماله وكماله ، وترفّعه عن ارتكاب القبيح ، يطلب الفعل المناسب له ، وهو المقارن للحكمة ، والتجنّب عن مخالفتها.

    والحاصل أنّ الله سبحانه فعل أم لم يفعل فهو كامل بلانهاية ، لكن لو فعل لاختار المناسب للحكمة و أين هو من الاستكمال.

دليل ثالث للأشاعرة:

    وهناك دليل ثالث لهم حاصله: أنّ غرض الفعل خارج عنه ، يحصل تبعاً له وبتوسّطه ، وبما أنّه تعالى فاعل لجميع الأشياء ابتداءً ، فلا يكون شيء من الكائنات إلاّ فعلاً له ، لا غرضاً لفعل آخر لا يحصل إلاّ به ، ليصلح غرضاً لذلك الفعل ، وليس جعل البعض غرضاً أولى من البعض (1).

    وكان عليه أن يقرّر الدليل بصورة كاملة ويقول: لو كان البعض غاية للبعض فإمّا أن ينتهي إلى فعل لا غاية له فقد ثبت المطلوب ، أو لا فيتسلسل وهو محال.

    يلاحظ عليه: ـ أنّه لايشكّ من أطلّ بنظره إلى الكون ، أنّ بعض الأشياء بما فيها من الآثار خلق لأشياء اُخر ، فالغاية من ايجاد الموجودات الدانية كونها في خدمة العالية منها ، وأمّا الغاية في خلق العالية هي إبلاغها إلى حدّ تكون مظاهر ومجالي لصفات ربِّه ، وكمال بارئه.

    إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي نرى هناك أوائل الأفعال ، وثوانيها ، وثوالثها و... فيقع الداني في خدمة العالي ، ويكون الغرض من إيجاد العالي إيصاله إلى كماله الممكن الّذي هو أمر جميل بالذات ، ولا يطلب إيجاد الجميل بالذات غاية سوى وجوده لأنّ الغاية منطوية في وجوده.

    هذا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر التجزيئي. وأمّا إذا نظرنا إلى الكون بالنظر

________________________________________

    1 ـ المواقف: ص 322.

________________________________________

(38)

    الجملي ، فالغاية للنّظام الجملي ليس أمراً خارجاً عن وجود النظام حتّى يسأل عنها بالنحو الوارد في الدليل ، بل هي عبارة عن الخصوصيّات الموجودة فيه وهي بلوغ النظام بأبعاضه وأجزائه إلى الكمال الممكن ، والكمال الممكن المتوخّى من الإيجاد خصوصيّة موجودة في نفس النظام ، ويعدّ صورة فعليّة له ، فالله سبحانه خلق النظام ، وأوجد فعله المطلق ، حتّى يبلغ ما يصدق عليه فعله كلاًّ أو بعضاً إلى الكمال الّذي يمكن أن يصل إليه. فليست الغاية شيئاً مفصولاً عن النظام ، حتّى يقال ما هي الغاية لهذه الغاية حتّى تتسلسل ، أو تصل إلى موجود لا غاية له.

    وبما أنّ إيصال كلّ ممكن إلى كماله ، غاية ذاتيّة ، لأنّه عمل جميل بالذات ، فيسقط السؤال عن أنّه لماذا قام بهذا ، لأنّه حين أوصل كلّ موجود إلى كماله الممكن ، فالسؤال يسقط إذا انتهى إلى السؤال عن الأمر الجميل بالذات.

    فلو سئلنا عن الغاية لأصل الايجاد وإبداع النظام ، لقلنا: بأنّ الغرض من الإيجاد عبارة عن إيصال كلّ ممكن إلى كماله الممكن. ثمّ إذا طرح السؤال عن الهدف من إيصال كلِّ ممكن إلى كماله الممكن ، لكان السؤال جزافياً ساقطاً ، لأنّ العمل الحسن بالذات ، يليق أن يفعل ، والغاية نفس وجوده.

    فالايجاد فيض من الواجب إلى الممكن ، وإبلاغه إلى كماله فيض آخر ، يتمّ به الفيض الأوّل ، فالمجموع فيض من الفيّاض تعالى إلى الفقير المحتاج ، ولا ينقص من خزائنه شيء ، فأيّ كمال أحسن وأبدع من هذا؟ وأىُّ غاية أظهر من ذلك ، حتّى تحتاج إلى غاية اُخرى؟ وهذا بمثابة أن يسأل لماذا يفعل اللّه الأفعال الحسنة بالذات؟ فإنّ الجواب ، مستتر في نفس السؤال وهو أنّه فعله لأنّه حسن بالذات ، وما هو حسن بالذات نفسه الغاية ، ولا يحتاج إلى غاية اُخرى.

    ولأجل تقريب الأمر إلى الذهن نأتي بمثال: إذا سألنا الشابّ الساعي في التّحصيل وقلنا له: لماذا تبذل الجهود في طريق تحصيلك؟ فيجيب: لنيل الشهادة العلمية. فإذا أعدنا السؤال عليه وقلنا: ما هي الغاية من تحصيلها؟ يجيبنا: للاشتغال في

 

________________________________________

(39)

     إحدى المراكز الصناعية ، أو العلميّة ، أو الاداريّة. فإذا أعدنا السؤال عليه وقلنا: ماهي الغاية من الاشتغال فيها؟ يقول: لتأمين وسائل العيش مع الأهل والعيال. فلو سألناه بعدها عن الغاية من طلب الرفاه وتأمين سبل العيش ، لوجدنا السؤال جزافياً. لأنّ ما تقدّم من الغايات وأجاب عنها ، غايات عرضية لهذه الغاية المطلوبة بالذات ، فإذا وصل الكلام إلى الأخيرة يسقط السؤال.

    القرآن وأفعاله سبحانه الحكيمة:

    والعجب عن غفلة الأشاعرة من النصوص الصريحة في هذا المجال. يقول سبحانه ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) ( المؤمنون / 115 ) وقال عزّ من قائل: ( وما خَلَقْنَا السَّمواتِ والأرضَ وما بَيْنَهُما لاعِبين ) ( الدخان / 38 ).

    وقال سبحانه: ( وَ مَا خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الأرضَ وَ مَا بَيْنَهُما بَاطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ ) ( ص / 27 ) وقال سبحانه: ( وَ مَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإِنسَ إلاّ لِيَعْبُدُون ) ( الذاريات / 56 ) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تنفي العبث عن فعله ، وتصرّح باقترانها بالحكمة والغرض.

    وأهل الحديث وبعدهم الأشاعرة الّذين اشتهروا بالتعبّد بظواهر النصوص تعبّداً حرفيّاً غير مفوّضين معانيها إلى الله سبحانه ولا مؤوّليها ، لا مناص لهم إلاّ تناسي الآيات الماضية ، أو تأويلها ، وهم يفرّون منه ، وينسبونه إلى مخالفيهم.

عطف مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة:

    ومن الخطأ الواضح ، عطف مذهب الحكماء على مذهب الأشاعرة ، وتصوير أنّ الطّائفتين يقولون بأنّ أفعال اللّه سبحانه غير معلّلة بالأغراض ، وهو خطأ محض. كيف وهذا صدر المتألهين يخطِّئ الأشاعرة ويقول: « إنّ من المعطِّلة قوماً جعلوا فعل اللّه تعالى خالياً عن الحكمة والمصلحة ، مع أنّك قد علمت أنّ للطّبيعة غايات » (1) وقال أيضاً:

________________________________________

    1 ـ الأسفار: ج 2 ، ص 59.

________________________________________

(40)

     « إنّ الحكماء ما نفوا الغاية والغرض عن شيء من أفعاله مطلقاً ، بل إنّما نفوا عن فعله المطلق ( إذا لوحظ الوجود الإمكاني جملة واحدة ) وفي فعله الأوّل غرضاً زائداً على ذاته تعالى ، وأمّا ثواني الأفعال والأفعال المخصوصة ، والمقيّدة ، فأثبتوا لكلّ منها غاية مخصوصة. كيف وكتبهم مشحونة بالبحث عن غايات الموجودات ومنافعها كما يعلم من مباحث الفلكيّات ، ومباحث الأمزجة ، والمركّبات ، وعلم التشريح ، وعلم الأدوية ، وغيرها » (1).

    وعلى ذلك فنظريّة الحكماء تتلخّص في أمرين:

    1 ـ إنّ أفعاله سبحانه غير متّصفة بالعبث واللّغو ، وإنّ هنا مصالح وحِكَماً تترتّب على فعله ، يستفيد بها العباد ، ويقوم بها النّظام.

    2 ـ إذا لوحظ الوجود الإمكاني على وجه الإطلاق ، فليس لفعله غرض خارج عن ذاته ، لأنّ المفروض ملاحظة الوجود الإمكاني جملة واحدة ، والغرض الخارج عن الذّات لو كان أمراً موجوداً فهو داخل في الوجود الإمكاني ، وليس شيء وراءه ، وعند ذاك فليس الغرض شيئاً خارجاً عن الذات وإنّما الغرض نفس ذاته ، لئلاّ يكون ناقص الفاعليّة ، لأنّ الحاجة إلى شيء خارج عن ذاته في القيام بالفعل ، آية كونه ناقصاً في الفاعليّة ، والمفروض أنّه سبحانه تامّ في فاعليّته ، غنيّ في ذاته وفعله عن كل شيء سوى ذاته.

    ثمّ إنّ لهم بياناً فلسفيّاً ممزوجاً بالدليل العرفاني ، يهدف إلى كون الغرض من الخلق هو ذاته سبحانه ، وبه فسّروا قوله سبحانه: ( وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَ الإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ ) وقوله في الحديث القدسي: « كنت كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرفَ ، فخلقت الخلقَ لكي أُعرف » والله سبحانه هو غاية الغايات ، ومن أراد الوقوف على برهانهم فليرجع إلى أسفارهم (2).

________________________________________

    1 ـ الأسفار: ج 7 ، ص 84.

    2 ـ الأسفار: ج 2 ص 263.

(41)

6 ـ الماتريدية والصفات الخبرية:

    إنّ تفسير الصفات الخبرية أوجد اختلافاً عميقاً بين المتكلّمين وجعلهم فرقاً متضادّة ، وبما أنّ أهل الحديث والأشاعرة من المثبتين لها ، اشتهروا بالصفاتيّة في مقابل المعتزلة الّذين يؤوِّلونها ولا يثبتونها بما يتبادر منها من ظواهرها ، ولأجل أن نقف على نظريّة الماتريديّة في هذا المقام ، ننقل كلام الامامين الأشعري والماتريدي ليعلم مدى الاختلاف بين المدرستين ، وإليك كلام الأشعري أوّلاً ، ثمّ كلام الماتريدي ثانياً:

أ ـ كلام الامام الأشعري:

    إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إنّ الله عزّ وجلّ يستوي على عرشه كما قال ، يليق به من غير طول الاستقرار كما قال: ( الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ) ( طه / 5 ) وقد قال اللّه عزّ وجلّ: ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمَ الطَّيِّبُ ) ( فاطر / 10 ) وقال ( بَلْ رَفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ ) ( النساء / 158 ) وقال عزّ وجلّ: ( يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيهِ ) ( السجدة / 5 ). وقال حكايةً عن فرعون: ( يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمواتِ فَأَطَّلِعُ إِلَى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِباً ) ( غافر / 36 ـ 37 ) فكذّب فرعون نبيّ الله موسى ( عليه السلام ) في قوله « إنّ الله عَزّ وجلّ فوق السماوات والأرض » وقال عزّ وجلّ: ( ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يخسِفَ بِكُمُ الأَرضَ ) ( الملك / 16 ) فالسماوات فوقها العرش ، فلمّا كان العرش فوق السماوات قال: ( ءأمنتم من في السماء ) لأنّه مستو على العرش الّذي فوق السّماوات ، وكلّ ما علا فهو سماء ، فالعرش أعلى السماوات. وليس إذا قال: ( ءأمنتم من في السماء ) يعني جميع السماوات ، وإنّما أراد العرش الّذي هو أعلى السماوات. ألاترى أنّ الله عزّ وجلّ ذكر السماوات فقال: ( وجعل القمر فيهنّ نوراً ) ( نوح / 16 ) ولم يرد أنّ القمر يملأهنّ جميعاً ، وأنّه فيهنّ جميعاً ، ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السّماء لأنّ الله مستو على

 

________________________________________

(42)

     العرش الّذي هو فوق السماوات. فلولا أنّ الله عزّ وجلّ على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطّونها إذا دعوا إلى الأرض (1).

    ومن تأمّل في ظواهر كلماته ودلائله لا يشكّ في أنّ الشيخ يعتقد بكونه سبحانه على العرش فوق السّماوات ، وأيّ كلام أصرح من قوله « فلولا أنّ الله عزّ وجلّ على العرش » فلو صحّت نسبة النسخة من ( الابانة ) إلى الشّيخ ، وكانت مصونة عن دسّ الحشويّة والحنابلة (2) ، فهو من المشبّهة قطعاً ، غير أنّه لدفع عار التشبيه والتجسيم عن نفسه ، يتدرّع بلفظة « بلا كيف أو « على نحو يليق به » أو « من غير طول الاستقرار » وقد أوضحنا حال هذه الألفاظ في الجزء الثاني.

    والعجب أنّ الشيخ يفسّر الرفع الوارد في الآيات تصريحاً ، أو تلويحاً ، بالرفع الحسّي. مع أنّ في نفس الآيات ـ لدى التدبّر ـ قرائن تدلّ على كون الرفع ، هو الرفع المعنوي لا الحسّي والصعود المادّي.

    وأعجب منه أنّه نسب إلى الكليم ـ عليه السلام ـ أنّه قال لفرعون: إنّ الله سبحانه فوق السماوات ، فصار فرعون بصدد تكذيبه إذ قال لهامان: « ابن لي صرحاً لعلّي أطّلع إلى إله موسى » مع أنّه أشبه بالرجم بالغيب ، إذ من الممكن أن يكون المصدر لاعتقاده بكون إله موسى في السماء ، هو اجتهاده الشخصي الخاطئ ، بأنّه إذا لم يكن إله موسى في الأرض كسائر الآلهة ، فلا محالة هو في السماء ، ولأجل ذلك طلب من هامان بناء

________________________________________

    1 ـ الابانة: ص 85 ـ 86.

    2 ـ إنّ الشيخ محمد زاهد الكوثري الماتريدي لا يرى للكتب المطبوعة باسم الأشعري أصالة لأنّها بحرفيتها نفس عقائد الحشوية مع أنّ المعروف أنّهم أعداء له.

يقول: وطبع كتاب ( الابانة ) لم يكن من أصل وثيق ، وفي ( المقالات ) المنشور باسمه وقفة ، لأنّ جميع النسخ الموجودة اليوم من أصل وحيد كان في حيازة أحد كبار الحشوية ممن لا يؤتمن لا على الاسم ، ولا على المسمّى ، بل لو صحّ الكتابان عنه على وضعهما الحاضر ، لما بقي وجه لمناصبة الحشوية العداء له على الوجه المعروف ، على أنّه لا تخلو آراؤه من بعض ابتعاد عن النّقل مرّة ، وعن العقل مرة اُخرى ، في حسبان بعض النظار كقوله في التحسين والتعليل ، وفيما يفيده الدليل النقلي ( مقدمة اشارات المرام: ص 7 ). أقول: إنّ الاعتزال عن العقل ، وإعلان الالتحاق بأهل الحديث الّذين أعدموا العقل ، والإلتجاء إلى كل ما سمي حديثاً لا ينتج إلاّ ما جاء في الكتابين ، فلا وجه للتشكيك في مضامينهما.

________________________________________

(43)

     الصرح.

    ثمّ إنّ نقد كلام الشّيخ وتفسير الآيات الّتي استدلّ بها على كونه سبحانه في العرش ، يحتاج إلى بسط في الكلام ، وسوف نقوم بها عند عرض عقائد المعتزلة إن شاء الله.

    إنّ الصفات المتشابهة الواردة في الكتاب والسنّة ، لا تتجاوز عن سبع عشرة ، منها اليمين ، والساق ، والأعين ، والجنب ، والإستواء ، والغضب ، والرضى ، والنور ، على ما ورد في الآيات ، والكفّ والاصبعان ، والقدم ، والنزول ، والضحك ، وصورة الرحمان ، على ما ورد في الأحاديث الّتي لم تثبت صحّة أسنادها ، وقد أرسلتها الحشويّة والحنابلة إرسال المسلّمات ، وعلى أيّ حال فنظريّة الأشاعرة في هذه الصفات هي الإثبات متدرعّة بلفظة « بلا كيف » ، أو « بلا تشبيه » أو ما يقرب ذلك.

ب ـ كلام الماتريدي :

    ما ذكره أبو منصور في ( توحيده ) يعرب بوضوح عن كون منهجه هو التنزيه ظاهراً وباطناً ، فهو بعدما نقل الآراء المختلفة صار بصدد تفسير الآية ( الرَّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ) فقال: إنّ الله سبحانه كان ولا مكان ، وجائز ارتفاع الأمكنة ، وبقاؤه على ما كان ، فهو على ما كان ، وكان على ما عليه الآن. جلّ عن التغيّر والزوال ، والاستحالة والبطلان ، إذ ذلك أمارات الحدث الّتي بها عرف حدث العالم.

    ثمّ ردّ على القائلين بكونه سبحانه على العرش ، بأنّه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من مكان للجلوس أو القيام شرف ولا علوّ ، ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح والجبال أنّه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر ، فلا يجوز صرف تأويل الآية إليه مع ما فيها ذكر العظمة والجلال ، إذ ذكر في قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَ الأرْضَ ) ( الأعراف / 54 ) فدلّك على تعظيم العرش (1).

________________________________________

    1 ـ التوحيد: ص 69 و 70.

________________________________________

(44)

    ولأجل اختلاف المفسّرين في مفاد الآية ، التجأ هو إلى « تفويض معناها إلى الله » ، وقال: « وأمّا الأصل عندنا في ذلك أنّ الله تعالى قال: ( ليس كمثله شيء ) فنفى عن نفسه ، شبه خلقه ، وقد بيّنا أنّه في فعله وصفته متعال عن الأشباه ، فيجب القول بأنّ الرحمن على العرش استوى على ما جاء به التنزيل ، وثبت ذلك في العقل. ثمّ لا نقطع تأويله على شيء لاحتمال غيره ممّا ذكرنا » (1).

    فالماتريدي ينفي بتاتاً كونه سبحانه على العرش ، حتّى على النّحو اللائق به الّذي ملأ كتب الأشاعرة وينزّهه عن تلك الوصمة ، ولكن لّما كانت المعاني الأُخرى متساوية عنده ، لم يجزم بشيء منه ، وفوّض المراد إليه سبحانه ، ولأجل ذلك لخّص البياضي نظريّة الامام الماتريدي وقال: « ولا يؤوّل المتشابهات ويفوِّض علمها إلى الله مع التنزيه عن إرادة ظواهرها » (2). ومراده من « المتشابهات » هوالصفات الخبريّة الواردة في الكتاب والسنّة.

    وأمّا البزدوي ـ أحد أئمّة الماتريدية في القرن الخامس ـ فيظهر منه الجنوح إلى إمكان الوقوف على مقاصد الكتاب في هذه الصفات. قال في مسألة « أنّ الله لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء »: فإن قالوا قد وجد دلائل الاجسام فإنّه يوصف بالاتيان قال الله تعالى ( هَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَل مِنَ الغَمَامِ ) ( البقرة / 210 ) وقال ( وَ جَاءَ رَبُّكَ وَ المَلِكُ صَفّاً صَفّاً ) ( الفجر / 22 ) ويوصف بالاستواء على العرش قال الله تعالى ( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ ) ( يونس / 3 ). والاتيان والاستواء على المكان من صفات الجسم ، وكذلك يوصف بأنّ له أيدياً وأعيناً ، قال الله تعالى ( ممّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعَاما ) ( يس / 71 ) ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) ( الطور / 48 ) وهذا من أمارات الأجسام.

    ثمّ أجاب عن كلّ واحد بأنّا نصفه بذلك كما وصف اللّه تعالى به نفسه وهو

________________________________________

    1 ـ التوحيد: ص 69 و 74.

    2 ـ اشارات المرام: ص 54.

________________________________________

(45)

    الصحيح من مذهب السنّة ، فلا بدّ من الوصف بما وصف اللّه نفسه به ، ولكن هذه الصِّفات ليست من صفات الأجسام ، فإنّ الاتيان يذكر ويراد منه الظُّهور. قال الله تعالى: ( فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَواعِدِ ) ( النحل / 26 ) وقال ( فَأتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَم يَحتَسِبُوا ) ( الحشر / 2 ) معناهـ واللّه أعلم ـ ظهرت آثار سخطه في بنيانهم ، وظهرت آثار قدرته وقهره فيهم ـ إلى أن قال: ـ وكذا الاستواء ليس من صفات الأجسام فإنّ الاستواء هو الاستيلاء على الشّيء والقهر عليه. قال اللّه تعالى: ( ولمّا بَلَغَ أشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وعِلْماً ) ( القصص / 14 ) معناهـ والله أعلم ـ تقوّى حاله بتمام البِنية. واستوى أمر فلان: إذا تناهى ، ومنه المستوي على الكرسي وهو القاعد عليه ، عبارة عن الاستيلاء. فإنّه ( لا ) يقال: استوى على الكرسي ما لم يجلس مستقرّاً عليه ، فالمستقرّ على العرش مستو ، فكان معنى قوله: ( ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرشِ الرَّحمن ) ( الفرقان / 59 ) ـ والله أعلم ـ أى استوى عليه بعد خلقه ، والله تعالى مستول على جميع العالم ، إلاّ أنّه خصّ العرش بالذّكر لأنّه أعظم الأشياء وأشرفها ، ثمّ ذكر تفسير سائر الصفات الخبرية من اليد والعين (1).

    وكلّ من كلامي الاُستاذ والتّلميذ يعربان بوضوح عن اختلاف منهجهما مع منهج الامام الأشعري ، فهو يثبت جميع هذه الصِّفات الخبريّة الظاهرة من كونه سبحانه جسماً وذا أعضاء ، ولا يتحرّج من الإثبات ، غاية الأمر يتدرّع بما عرفت ، وهذا بخلاف الدّاعي الآخر وتلاميذ منهجه ، فإنّهم لايخرجون من خطّ التنزيه ، لكن بين مفوِّض غير قاطع بمراد الآية ، أو مفسِّر لها مثل تفسير العدليّة الّذين سمّتهم الأشاعرة بالمؤوِّلة.

    ثمّ إنّ الشيخ البزدوي أفاض الكلام في نقد ما استدلّ به الأشعري من كونه سبحانه على العرش من الآيات والرِّوايات في كتابه ، ومن أراد الوقوف فليرجع إلى المسألة ( 14 ) من كتابه (2).

________________________________________

    1 ـ اُصول الدين: ص 25 ـ 28.

    2 ـ اُصول الدين: ص 28 ـ 31.

________________________________________

(46)

    وفي خاتمة المطاف نلفت نظر القارئ إلى ما ذكره الكاتب المصري ( أحمد أمين ) حول عقيدة الأشاعرة في الصِّفات الخبرية ، قال: « وأمّا الأشاعرة فقالوا إنّها مجازات عن معان ظاهرة ، فاليد مجاز عن القدرة ، والوجه عن الوجود ، والعين عن البصر ، والاستواء عن الاستيلاء ، واليدان عن كمال القدرة ، والنّزول عن البرد والعطاء ، والضحك عن عفوه » (1).

    وما ذكره هو نفس عقيدة المعتزلة لا الأشاعرة ولا الماتريديّة. فالمعتزلة هم المؤوّلة ، يؤوّلون الصِّفات بما ذكره ، والأشاعرة من المثبتة لكن بقيد « بلا كيف » والماتريديّة هم المفوِّضة ، يفوِّضون معانيها إلى قائلها.

    وكم لهذا الكاتب المصري من هفوات في بيان الطّوائف الاسلاميّة. فقد كتب عقيدة الشيعة في كتابيه: « فجر الاسلام » و « ضحى الاسلام » وبين التقريرين في الكتابين بون بعيد. واللّه الحاكم. والعجب أنّه لم يعتمد على مصدر شيعيّ فيهما ، وأعجب منه أنّه لم يشر إلى واحد من النّقود الّتي وجّهها علماء الشيعة إلى كتابه « فجر الاسلام » ، مع أنّ بعضها طبع في نفس القاهرة عاصمة مصر ك ـ « أصل الشيعة واُصولها ». حيّا اللّه الحريّة في القضاء ، والأمانة في النّقل.

 

7 ـ الاستطاعة قبل الفعل أو بعده:

    اتّفق الإلهيّون على أنّ استطاعة الواجب سبحانه متقدّمة على الفعل ، فهو سبحانه يوصف بالقدرة قبل إيجاد الأشياء ، كما يوصف بها معه وبعده.

    إنّما الكلام في استطاعة الإنسان على الفعل ، فذهب الأشعريّ إلى كونها مقارنة للفعل ببيان عقليّ ذكره في اللّمع (2).

    والماتريدي يفصِّل في المسألة بين العلّة النّاقصة الّتي يعبّر عنها باستطاعة

________________________________________

    1 ـ ظهر الإسلام: ج 4 ص 94 ، الطبعة الثالثة عام 1964.

    2 ـ اللمع: ص 93 ـ 94.

________________________________________

(47)

    الأسباب والآلات ، وبين العلّة التامّة الّتي يعبّر عنها باستطاعة الفعل ، وإليك نصّ عبارته في « التّوحيد »:

     « الأصل عندنا في المسمّى باسم القدرة أنّها على قسمين: أحدهما: « سلامة الأسباب وصحّة الآلات » وهي تتقدّم الأفعال ، وحقيقتها ليست بمجعولة للأفعال ، وإن كانت الأفعال لا تقوم إلاّ بها ، لكنّها نعم من الله أكرم بها من شاء ، والثاني: معنى لا يقدر على تبيّن حدِّه بشيء يصار إليه ، سوى أنّه ليس إلاّ للفعل لا يجوز وجوده بحال إلاّ ويقع به الفعل عندما يقع معه ».

    ثمّ حاول تفسير كثير من الآيات الّتي استدلّوا بها على تقدّم الاستطاعة على الفعل ، بأنّ الاستطاعة الواردة فيها ، هي استطاعة الأسباب والأحوال لا استطاعة الفعل (1).

 

8 ـ القدرة صالحة للضدّين:

    القدرة في مقابل « الايجاب ». فالثّاني لايصلح إلاّ للتعلّق بشيء واحد ، كالنّار بالنسبة إلى الإحراق ، وهذا بخلاف قدرة الانسان فإنّها يصحّ أن تتعلّق بالجلوس تارة ، والقيام اُخرى.

    وما ذكره من التفصيل في تقدّم الاستطاعة على الفعل ، أو كونها معه ، يأتي في المقام أيضاً. فالقدرة الناقصة الّتي يعبّر عنها بقابليّة الفاعل واستعداده ، والّتي يعبِّر عنها الماتريدي بصحّة الأسباب والآلات ، صالحة للضدّين.

    وأمّا إذا وصل إلى حدّ وجب معه الفعل ، فحينئذ تكون القدرة أحديّة التعلّق ، لاتصلح إلاّ بشيء واحد. وقد نقل شارح ( المواقف ) كلاماً عن الرازي يعرب عن كون النزاع بين الطرفين لفظيّا (2). وهو خيرة الماتريدي أيضاً حيث قال : « ثمّ اختلف أهل

________________________________________

    1 ـ التوحيد: ص 256 ـ 257.

    2 ـ شرح المواقف: ج 8 ص 154.

________________________________________

(48)

     هذا القول في قوّة الطّاعة ، أهي تصلح للمعصية أم لا؟ قال جماعة: هي تصلح للأمرين جميعاً وهو قول أبي حنيفة وجماعته ، وهذا القول أثبته جميع أهل الاعتزال ». واستدلّ على ذلك بقوله « وأصل هذا أنّه لما كان سبب من أسباب القول يصلح للشيء وضدّه ، فكذلك القدرة ، مع ما في نفي أن يصلح للأمرين ، فوت القدرة على فعل ضدّ الّذي جاء به ، وقد يؤمر به وينهى عنه في وقته ، فيلزم القول بالقدرة على الشّيء وضدِّه ليكون الأمر والنّهي على الوسع والقوّة » (1).

    وقال البياضي: « والاستطاعة صالحة للضدّين على البدل ، واختاره الإمام القلانسي ، وابن شريح البغدادي كما في « التبصرة » لعبد القاهر البغدادي ، وكثير منهم كما في ( شرح المواقف » (2).

 

9 ـ الماتريدي وأفعال العباد:

    اتّفق المسلمون على أنّه لا خالق إلاّ اللّه واختلفوا في تفسيره في أفعال العباد و آثار الموجودات فذهب أهل السنّة إلى أنّه لا صلة بين الطبائع وآثارها. والطبائع وآثارها من صنع الخالق مباشرة من دون دخالة للطّبيعة ولو بنحو الشرط ، والمعدّ في سطوعها على الطبيعة وقد اشتهر بين الأزهريّين قول القائل:

ومن يقل بالطّبع أو بالعلّة                  فذاك كفر عند أهل الملّة

    هذا كلّه في غير أفعال العباد ، وأمّا فيها فذهبت الجهميّة أتباع جهم بن صفوان إلى أنّ العبد لا يقدر على إحداث شيء ، ولا على كسب شيء ، وهذه النظرية هي نظرية الجبريّة الخالصة ، ولازم ذلك لغويّة بعث الرسل ، وإنزال الكتب ، وإغلاق باب المناهج التربويّة في العالم.

________________________________________

    1 ـ التوحيد: ص 263.

    2 ـ اشارات المرام: ص 55.

________________________________________

(49)

    وأهل الدقّة من أهل السنّة حاولوا الجمع بين حصر الخلق في اللّه سبحانه ، وصحّة تكليف العباد ، فقالوا إنّ الله هو الخالق ، والعبد هو الكاسب ، والتكليف ، والأمر ، والنهي ، والثواب ، والعقاب ، بالملاك الثّاني دون الأوّل ، وقد أخذوا مصطلح الكسب من الذّكر الحكيم. قال سبحانه ( لهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا ما اكْتسبَتْ ) ( البقرة / 286 ) لكنّهم اختلفوا في تفسير حقيقة الكسب إلى حدّ صارت النظرية إحدى الألغاز إلاّ ما نقل عن الماتريدي وإمام الحرمين من الأشاعرة ، فقد استطاعوا من توضيحها إلى حدّ معقول ومقبول.

    ولا يعلم مدى الاختلاف بين المدرستين في تفسير الكسب إلاّ بنقل نصوصهما في هذا المجال.

معنى الكسب عند الأشعري:

    قال الفاضل القوشجي وهو من أئمّة الأشاعرة: « المراد بكسبه إيّاه ، مقارنته لقدرته وإرادته ، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاله » (1). وحاصله أنّه ليس للعبد دور في خلق الفعل وإيجاده ، غير كونه ظرفاً ومحلا لخلق اللّه وإيجاده ، غاية الأمر إنّ شرط إيجاده سبحانه هو قصد العبد وعزمه ، فإذا قصد وعزم وحدثت فيه القدرة غير المؤثِّرة ، خلق الله الفعل وأوجده ، من دون أن يكون لقدرة العبد دور وتأثير ، وهذه النظرية قد شغلت بال أئمّة الأشاعرة طوال قرون ، وقد بذلوا الجهود لتبيينها فما أتوا بشيء يسكن إليه القلب.

    إذ لقائل أن يسأل ويقول:

    1 ـ إذا كان الخالق للفعل هو اللّه سبحانه مباشرة ، ولم يكن لقدرة العبد دور فيه ، فلماذا صار الإنسان هو المسؤول عن فعله دون الله سبحانه ، مع أنّ الفعل فعله ، لا فعل الإنسان.

________________________________________

    1 ـ شرح التجريد للقوشجي: ص 444 ـ 445.

________________________________________

(50)

    2 ـ إذا كانت القدرة الحادثة في العبد ، غير مؤثِّرة في الإيجاد والتكوين ، فما هو الغاية في إحداثها في العبد ، وإقداره على العمل ، أليس هذا عملاً لغواً غير مناسب لساحة الفاعل الحكيم؟

    3 ـ إذا كان قصد العبد وعزمه شرطاً لإيجاده سبحانه الفعل بعده ، فيسأل عن نفس ذاك القصد فمن خالقه؟ فهل هو مخلوق للقاصد ، أو للّه سبحانه؟ فعلى الأوّل تنتقض القاعدة « لا خالق إلاّ اللّه » ويثبت في صحيفة الكون ، فعل مخلوق للعبد دونه سبحانه ، وعلى الثاني تتّحد النظرية مع نظريّة الجهميّة الّتي عرّفوها بالجبريّة الخالصة ، فإذا كان وجود العبد وقصده وقدرته غير المؤثرة فعلاً مخلوقاً للّه سبحانه فبأيّ ذنب يدخل العاصي النّار؟ وبأيّ عمل حسن ، يثاب المطيع ويدخل الجنّة.؟

    والحاصل ، إنّ تفسير الكسب بإيجاده سبحانه فعل العبد عند عزمه وقصده ، يدور أمره بين نقض القاعدة ، أو ثبوت الجبر الخالص.

    ولو تدبّر القوم في آيات الذّكر الحكيم خصوصاً في الآيات الناصّة على أنّه لا خالق إلاّ الله ، لوقفوا على المعنى الصحيح من الآيات والمراد منها ، وذلك لأنّ المراد من حصر الخالقيّة هو حصرها بالمعنى المناسب لشأنه سبحانه ، وليس اللاّئق بشأنه إلاّ القيام بالايجاد مستقلاً من دون استعانة من أحد ، وعليه فلا مانع من حصر الخالقيّة في اللّه سبحانه ، وفي الوقت نفسه أن يكون العبد موجداً لفعله ، بقدرة مكتسبة من اللّه وإذن منه سبحانه ، وحصر الخالقيّة المستقلّة ، غير المعتمدة على غيره ، في اللّه سبحانه ، لا ينافي نسبة الخالقيّة إلى بعض الممكنات ، لكن خالقيّة مستندة إلى القدرة المكتسبة والمعتمدة إليه ، وبالوقوف على اختلاف الخالقيّة المنسوبة إلى اللّه ، مع الخالقيّة المنسوبة إلى عبده ، يتحرّر المفسِّر من مشكلة الجبر وعقدته ، وقد أوضحنا الحال في الجزء الثاني عند عرض عقائد الأشعري (1).

________________________________________

    1 ـ الجزء الثاني ، ص 128 ـ 158.

(51)

نظريّة أبي حنيفة ( شيخ الماتريدي ) في الكسب:

    إذا كان هذا معنى الكسب لدى الشّيخ الأشعري فما معناه لدى الماتريدي؟!

    أقول: يعلم مذهبه في هذا المجال مما روى عن شيخه أبي حنيفة ، كيف وهو مؤسِّس منهجه واُستاذ مدرسته. قال في الفقه الأكبر: « لم يجبر أحداً من خلقه على الكفر ولا على الايمان ، ولا خلقه مؤمناً ولا كافراً ولكن خلقهم أشخاصاً ، والايمان والكفر فعل العباد ، وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون ، كسبهم على الحقيقة ، واللّه خالقها » (1).

    وقال في الفقه الأبسط ( على ما في بعض نسخه ) : « والعبد معاقب في صرف الاستطاعة الّتي أحدثها اللّه فيه ، وأمر بأن يستعملها في الطاعة دون المعصية في المعصية » (2).

    ولو صحّت هذه الكلمات من شيخ الماتريدي ، فالكسب عنده هو صرف العبد القدرة في طريق الطاعة والمعصية عن اختيار ، وهو نفس قول العدليّة جمعاء وأين هو من الكسب عند الأشاعرة المفسّر بإيجاد الفعل من اللّه سبحانه مباشرة ، من دون أن يكون للعبد وقدرته الحادثة فيه دور في تحقّق الفعل غير كونه ظرفاً ومحلاًّ ، وكون ظهور القصد في ضميره شرطاً لإيجاده سبحانه.

كلام الماتريدي في أفعال العباد:

    هذا كلام أبي حنيفة شيخ الماتريدي ، وإليك كلام الماتريدي نفسه في هذا المجال. قال: اختلف منتحلو الاسلام في أفعال العباد ، فمنهم من جعلها لهم مجازاً وحقيقتها للّه لوجوه:

    1 ـ وجوب إضافتها إلى اللّه ، على ما أُضيف إليه خلق كل شيء في الجملة ، فلم

________________________________________

    1 ـ اشارات المرام: ص 254.

    2 ـ المصدر نفسه.

________________________________________

(52)

     يجز أن تكون الإضافة إلى اللّه مجازاً.

    2 ـ إنّ بتحقيق الفعل لغيره تشابهاً في الفعل ، وقد نفى الله ذلك بقوله: ( أَمْ جَعَلُوا للّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِم ) ( الرعد / 16 ).

    قال الشيخ ( الماتريدي نفسه ) : وعندنا لازم تحقيق الفعل لهم ( العباد ) بالسمع والعقل والضرورة الّتي يصير دافع ذلك مكابراً. فأمّا السمع فله وجهان: الأمر به والنهي عنه ، والثاني الوعيد فيه والوعد له. على تسمية ذلك في كلّ هذا فعلاً ، من نحو قوله: ( وَاعْمَلُوا ما شِئْتُم ) ( فصّلت / 40 ) وقوله: ( افعَلُوا الخَيرَ ) ( الحج / 77 ) وفي الجزاء ( يُرِيهِمُ اللهُ أعْمالَهمْ حَسَرات عَلَيهِمْ ) ( البقرة / 167 ) وقوله: ( جزاءً بما كانوا يَعمَلون ) ( الواقعة / 24 ) وقوله: ( فَمَن يَعمَلْ مِثقالَ ذَرّة ) ( الزلزلة / 7 ) وغير ذلك مما أثبت لهم أسماء العمّال ، ولفعلهم أسماء الفعل بالأمر والنهي والوعد والوعيد ، وليس في الإضافة إلى الله سبحانه نفي ذلك ، بل هي للّه ، بأن خلقها على ما هي عليه ، وأوجدها بعد أن لم تكن ، وللخلق على ما كسبوها وفعلوها. على أنّ الله تعالى إذا أمر ونهى ، ومحال الأمر بما لا فعل للمأمور أو المنهي. قال اللّه تعالى: ( إنّ اللّهَ يأْمُرُ بِالعَدلِ والإحْسان ) ولو جاز الأمر بذلك بلا معنى الفعل في الحقيقة ، لجاز اليوم الأمر بشيء يكون لأمس ، أو للعام الأول أو بإنشاء الخلائق ، وإن كان لا معنى لذلك في أمر الخلق. ثمّ في العقل قبيح إن انضاف إلى اللّه الطاعة والمعصية ، وارتكاب الفواحش والمناكير وأنّه المأمور ، والمنهى ، والمثاب ، والمعاقب ، فبطل أن يكون الفعل من هذه الوجوه له ، ولا قوّة إلا باللّه.

    وأيضاً إنّ الله تعالى إنّما وعد الثّواب لمن أطاعه في الدُّنيا ، والعقاب لمن عصاه ، فإذا كان الأمران فعله فإذاً هو المُجزَى بما ذكر ، وإذا كان الثّواب والعقاب حقيقة ، فالائتمار والانتهاء كذلك ، ولا قوّة إلاّ باللّه.

    وكذلك في أنّه محال أن يأمر أحد نفسه ، أو يطيعها ، أو يعصيها ، ومحال تسمية الله عبداً ، ذليلاً ، مطيعاً ، عاصياً ، سفيهاً ، جائراً ، وقد سمّى اللهُ تعالى بهذا كلِّه اُولئك الّذين أمرهم ونهاهم ، فإذا صارت هذه الأسماء في التحقيق له ، فيكون هو الربّ ، وهو

 

________________________________________

(53)

     العبد ، وهو الخالق والمخلوق ، ولا غير ثمّة ، وذلك مدفوع في السمع والعقل ، ولا قوّة إلاّ باللّه.

    وأيضاً إنّ كلّ أحد يعلم من نفسه أنّه مختار لما يفعله ، وأنّه فاعل كاسب ـ إلى آخر ما أفاده.. (1).

    هذا كلام الماتريدي ، ولا أظنُّ أحداً يتأمّل في أطراف كلامه ، فيتصوّره موافقاً مع الشيخ الأشعري ، بل هما يتحرّكان في فلكين مختلفين ، كيف ومن جاء بعده من الماتريديّة جعل كلامه في مقابل كلام الأشعري. هذا الإمام البزدوي جعل قول أهل السنّة والجماعة ( يعني الماتريديّة المتّصلة إلى الامام أبي حنيفة ) في مقابل قول الأشعري (2). وهو يترجم مذهبه بما يلي: « قال أهل السنّة والجماعة: أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى ومفعوله ، واللّه هو موجدها ومحدثها ، ومنشئها ، والعبد فاعل على الحقيقة ، وهو ما يحصل منه باختيار وقدرة حادثين ، وهذا هو فعل العبد ، وفعله غير فعل اللّه تعالى » ثمّ يعرض عقائد سائر الطّوائف من المجبِّرة ، والجهميّة ، والقدريّة ، والأشعريّة ، ويستدلّ على مختاره بالنصوص القرآنيّة ويقول: « فدلّتنا هذه النصوص على أنّ الأفعال منّا بقدرة حديثة منّا ، وهي مخلوقة الله تعالى ، فكانت هذه النّصوص حجّة على الخصوم أجمع ( حتّى الأشعرية ). واللّه تعالى أضاف الأفعال إلينا في كتابه في مواضع كثيرة. قال الله تعالى: ( جَزاءً بما كانُوا يَعْمَلُون ) ( السجدة / 17 ) ( وَإذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها ) ( البقرة / 72 ) وقال: ( إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ ) ( المائدة / 6 ). وكذلك نهانا عن أفعال كثيرة وأمرنا بأفعال كثيرة ، فلا بدّ أن يكون لنا فعل ، ويجب أن يكون ذلك بهدايته ، ومشيئته ، وارادته » (3).

    ولقد رسّم البياضي الماتريدي عقيدة شيخه في كتاب « إشارات المرام » وبيّنه على نحو يتّحد مع ما يعتقده الإماميّة من أنّه لا جبر ولا قدر ( تفويض ) بل أمر بين الأمرين ،

________________________________________

    1 ـ التوحيد: ص 225 ـ 226.

    2 ـ اُصول الدين: ص 101.

    3 ـ اُصول الدين ص 99 و 104 ـ 105.

________________________________________

(54)

     فقال: « وقال قوم من العلماء: إنّ المؤثّر مجموع القدرة وقدرة العبد ، وهذا المذهب وسط بين الجبر والقدر ، وهو أقرب إلى الحقّ وإليه أشار ( أبوحنيفة ) بقوله كسبهم على الحقيقة والله خالقها » (1).

    ويقول في فصل الخلافيّات بين جمهور الماتريديّة والأشاعرة: « واختيار العبد مؤثّر في الاتّصاف دون الإيجاد ، فالقدرتان المؤثِّرتان في محلّين وهو الكسب لا مقارنة الاختيار بلا تأثير أصلاً ، واختاره الباقلاّني كما في ( المواقف ، ) وهو مذهب السلف كما في الطريقة للمحقّق البركوي ، واختاره الاُستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني وإمام الحرمين في قوله الأخير: إنّ اختياره مؤثّر في الإيجاد بمعاونة قدرة اللّه تعالى ، فلا تجتمع القدرتان المؤثِّرتان بالاستقلال ، ولا يلزم تماثل القدرتين » (2).

 

10 ـ صفاته عين ذاته:

    اتّفق المسلمون على إثبات صفات ذاتيّة للّه سبحانه مثل العلم ، والقدرة ، والحياة. ولكن اختلفوا في كيفيّة الإثبات ، فالإماميّة من العدليّة على أنّ صفاته سبحانه ليست زائدة على ذاته ، لا بمعنى سلبها عن ذاته ، كما هو القول المنسوب إلى الزّنادقة ، ولا بمعنى نيابة الذّات مناب الصِّفات ، ولم تكن واقعيّاتها متحقّقة في الذات ، بل بمعنى أنّها نفس العلم ، والقدرة ، والحياة ، لا أنّ لها العلم ، والقدرة ، والحياة ، فالصفات على القول الأوّل نفس الذّات وأنّه بلغ من الكمال والجمال رتبة صارت الذات نفس الانكشاف والاستطاعة ، كما أنّها على الثاني اُمور زائدة على الذّات قائمة معها ، قديمة كقدمها.

    فالشيخ الأشعري يصرّ على النظريّة الثانية ، ويستدلّ عليها بوجوه طرحناها على

________________________________________

    1 ـ اشارات المرام: ص 256 و 257. لاحظ بقية كلامه ، فهو ينقل عن الامام الباقر ( عليه السلام ) قوله: لا جبر ولاتفويض الخ.

    2 ـ اشارات المرام: ص 55.

________________________________________

(55)

     بساط البحث في محلّه ، ولكنّ الظاهر من الماتريدي حسبما ينقله النسفي هو القول بالعينيّة. يقول النّسفي: « ثمّ اعلم إنّ عبارة متكلّمي أهل الحديث في هذه المسألة أن يقال: إنّ اللّه تعالى عالم بعلم ، وكذا فيما وراء ذلك من الصّفات ، وأكثر مشايخنا امتنعوا عن هذه العبارة احترازاً عما توهّم أنّ العلم آلة وأداة فيقولون: إنّ اللّه تعالى ، عالم ، وله علم ، وكذا فيما وراء ذلك من الصِّفات. والشيخ أبو منصور الماتريدي ـ رحمه الله ـ يقول: إنّ اللّه عالم بذاته ، حيّ بذاته ، قادر بذاته ، ولا يريد منه نفي الصِّفات ، لأنّه أثبت الصّفات في جميع مصنّفاته ، وأتى بالدّلائل لإثباتها ، ودفع شبهاتهم على وجه لا محيص للخصوم عن ذلك ، غير أنّه أراد بذلك دفع وهم المغايرة ، وأنّ ذاته يستحيل أن لايكون عالماً (1).

حصيلة البحث:

    هذه المسائل العشر الّتي اختلف فيها الماتريدي والأشعري تميط السّتر عن وجه المنهجين ، وتوقفنا على الاختلاف الهائل السائد عليهما ، وتكشف عن أنّ منهج الماتريدي منهج يعلو عليه سلطان العقل ، وعلى ضوء هذا لا يصحّ لمحقّق كتاب « التّوحيد » للماتريدي أن يقول: « إنّ توسّط الماتريدي ( بين أهل الحديث والمعتزلة ) هو بعينه توسّط الأشعري ، وإنّ شيخي السنّة يلتقيان على منهج واحد ، ومذهب واحد ، في أهمّ مسائل الكلام الّتي وقع فيها الخلاف بين فرق المتكلّمين » (2).

    لا شكّ أنّ الشيخين يلتقيان في عدّة من المسائل ، كجواز رؤيته سبحانه في الآخرة ، وأنّه متكلّم بالكلام النّفسي الّذي هو صفة له قديمة بذاته ، وهو ليس من جنس الحروف والأصوات ، إلى غير ذلك من الاُصول.

    لكنّ الاتّفاق فيهما ، وفي بعض الاُصول الاُخر الّتي اتّفق عليها أكثر المسلمين ، لا يضفي لون الوحدة للمنهجين.

________________________________________

    1 ـ العقائد النسفية: ص 76.

    2 ـ مقدمة التوحيد: ص 17 ـ 18.

________________________________________

(56)

    نعم هناك مسائل اختلف الداعيان فيها ، ولا يعدّ الاختلاف فيها جذريّاً ، ونحن نشير إلى قسم منها:

1 ـ الوجود نفس الماهية أو غيرها؟

    نقل البياضي في « إشارات المرام » أنّ المختار لدى الماتريديّة هو المغايرة ، ولدى الأشعري هو الوحدة.

    والظّاهر كون الاختلاف لفظياً ، والمراد هو الوحدة في عالم العين والتحقّق ، والمغايرة في عالم التصور والذهن (1).

2 ـ البقاء هو الوجود المستمر أو وصف زائد؟

    البقاء لدى الماتريدي نفس الوجود المستمرّ وليس شيئاً زائداً على وجود الذات في الزمان الثّاني ، خلافاً للأشعري حيث إنّ البقاء عنده صفة زائدة على الذّات مثل سائر الصفات حتّى في البارئ عزّ اسمه (2).

    يلاحَظ عليه: أنّ البقاء وصف انتزاعيّ من استمرار وجود الشيء الزّماني: وليست له واقعيّة وراء استمراره.

    وأمّا الوجود الخارج عن إطار الزّمان كالمجرّدات ، فإطلاق الباقي عليه بملاك آخر ، ليس هنا محلّ بيانه.

3 ـ القدرة غير التكوين ، والتكوين غير المكوِّن:

    وممّا اختلف فيه الدّاعيان ، هو أنّ القدرة نفس التّكوين كما عليه الأشاعرة ، أو غيره كما عليه الماتريديّة.

________________________________________

    1 ـ اشارات المرام: ص 53 و 94.

    2 ـ لاحظ شرح المنظومة بحث اصالة الوجود ص 13.

________________________________________

(57)

    قالت الأشاعرة: إنّ الشأنيّ من الاستطاعة ( إن شاء فعل ) هو القدرة ، والفعليّ منها ( إذا شاء فعل ) هو التّكوين ، فليست هنا صفتان مختلفتان ، بل وصف واحد بمعنى القدرة ، له حالتان تحصلان باقتران المشيئة وعدمها ، فالقدرة قديمة ، والتّكوين حادث ، وأمّا الماتريديّة فتتلقّاهما وصفين ذاتيّين مختلفين ، والصفات الفعليّة من الخلق ، والرّزق ، والرّحمة ، والمغفرة ، تجتمع تحت وصف التكوين دون القدرة.

    وعلى أيّ تقدير فهما يختلفان في مسألة اُخرى أيضاً ، وهو كون التكوين بالمعنى المصدر ، هل هو نفس المكوَّن ( اسم المصدر ) كما عليه الأشاعرة ، أو غيره كما عليه الماتريديّة ، فهناك فعل بمعنى الخلق والتكوين ، وهناك مخلوق ومكوّن في الخارج ، والمسألتان واردتان في كلام البزدوي وغيره.

    قال البزدوي: قال أهل السنّة والجماعة: إنّ التكوين والإيجاد صفة الله تعالى غير حادث ، بل هو أزلي كالعلم والقدرة ( المسألة الاُولى ) والمكوّن والموجود غير التكوين ، وكذا التخليق والخلق صفة الله تعالى غير حادث بل أزليّ وهو غير المخلوق ( المسألة الثّانية ) وكذا الرحمة والإحسان وكذا الرزق والمغفرة ، وجميع صفات الفعل للّه.

    وقالت الأشعرية: إنّ هذه الصفات ليست بصفات الله تعالى ، والفعل والمفعول واحد ، وقالوا في صفات الذّات كالعلم والحياة مثل قولنا (1).

    وقال البياضي: وصفات الأفعال راجعة إلى صفة ذاتيّة هي التكوين ، أي مبدأ الإخراج من العدم إلى الوجود (2) ، وليس بمعنى المكوّن (3).

    والإمعان في هذه العبارات وأمثالها ، يدلّ على أنّ صفات الفعل كالاحسان والرزق و.. عند الماتريديّة يجمعها وصف التكوين ، فالكلّ واقع تحته ، لا تحت القدرة ، لأنّه يكفي فيها صحّة التعليق ( إن شاء فعل ) وإن لم يفعل ، وهذا بخلاف وصف التكوين ،

________________________________________

    1 ـ اُصول الدين للبزدوي ص 69. لاحظ « إشارات المرام » ص 69.

    2 ـ اسارة إلى المسألة الاُولى.

    3 ـ اسارة إلى المسألة الثانية ص 53.

 

________________________________________

(58)

     وهو لا يصدق إلاّ مع وجود الفعل ، وبما أنّ التكوين غير المكوّن ، والأوّل قائم بذاته ، بخلاف المكوّن والمخلوق إذ هو موجود منفصل عنه سبحانه ، يكون التكوين أو الخلق وصفاً أزليّاً ، بخلاف المكوّن والمخلوق فإنّهما حادثان بحدوث الموجودات.

يلاحظ عليه:

    1 ـ أنّ التكوين والخلق ليس إلاّ إعمال القدرة عند تحقّق المشيئة ، فلا يكون وصفاً وراء ظهورها وشأنيّة التعلّق في القدرة ، وفعليّته في التكوين ، لا تجعلانهما شيئين مختلفين ، بل أقصى الأمر وحدتهما جوهراً ، واختلافهما مرتبة.

    وعلى ذلك فتكون جميع الصفات الفعليّة مجتمعة تحت القدرة إذا انضمّت إليها المشيئة والإرادة.

    2 ـ لو كان التكوين وصفاً ذاتيّاً أزليّاً ، لاستلزمت أزليّته ، أزليةَ بعض المكوّنات وقدمتها ، إذ لا يفارق وصف التكوين وجوداً عن وجود المكوّن ، وهو ينافي اُصول التوحيد ، ولو فسّر بشأنية التكوين ، يكون بمعنى القدرة لا شيئاً غيرها ، وهو بصدد تصوير المغايرة.

    وقد تفطّن البزدوي لهذا الإشكال ، ونقله عن بعض مخالفيه وقال: « ربّما يقال: إنّ الايجاد بلا موجود مستحيل ، كالكسر بلا مكسور ، والضرب بلا مضروب ، فلو قلنا بقدم الايجاد ( التكوين ) صرنا قائلين بقدم الموجودات ، وذلك مناف للتّوحيد فلم يمكن القول بقدم الإيجاد ».

    لكنّه تخلّص عنه بقوله: « انّ للّه تعالى فعلاً واحداً غير حادث ، بذلك الفعل يوجِد الأشياء في أوقاتها ، كما أنّ لله تعالى قدرة واحدة ، بتلك القدرة يقدر على إيجاد الأشياء في أوقاتها » (1).

________________________________________

    1 ـ اُصول الدين ص 73.

________________________________________

(59)

    يلاحظ عليه: أنّ الالتزام بقدم فعل الله سبحانه ولو واحداً ، يخالف التوحيد ويضادّه ، لأنّ قدم الشيء يلازم استغناءه عن الفاعل والموجد ، والمستغنى عن العلّة واجب ، كذات الواجب ، وهل هذا إلاّ الشّرك الصّريح.

    وأنا أجلّ البزدوي عن الاعتقاد بما ذكره ، وإلاّ فأيّ فرق بين ذاك القول والثنويّة ، ولكنّ الإصرار على تصحيح المنهج ، والرأي المسبق ، أقحمه في مهالك الضلال. قال الامام علي عليه السلام: « ألا وإنّ الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلها ، وخُلعَت لجمها ، فتقحّمت بهم في النّار » (1).

    3 ـ جعل التكوين غير المكوّن ، والخلق غير المخلوق مبنيّ على التغاير الجوهريّ بين المصدر واسمه ، فالايجاد هو المصدر ، والموجود هو نتيجته ، ولا أظنّ أن يقول به الماتريدي في سائر الموارد. فإذا ضرب زيد عمراً ، فالصّادر من زيد ، يسمّى بالمصدر ، والواقع على عمرو يسمى باسمه ، فهل يصحّ لنا أن نعتقد أنّ هنا أمرين ، أمر قائم بالفاعل ، وأمر قائم بالمفعول وهكذا غيره ، أو أنّ هنا شيئاً واحداً إذا نسب إلى الفاعل يسمّى مصدرا.ً وإذا نسب إلى المفعول يصير اسم المصدر ، وهذا هو الفرق بين الايجاد والموجود أيضاً.

4 ـ الكلام النفسي لا يسمع:

    الكلام النّفسي الّذي هو غير الحروف والأصوات لا يسمع خلافاً للأشعري. قال في « اشارات المرام »: « ولا يسمع الكلام النّفسي بل الدالّ عليه ، واختاره الاُستاذ ومن تبعه كما في « التبصرة » للامام أبي المعين النسفي » (2).

    وقد استند الأشعري في جواز السماع على الدّليل الّذي استند عليه في جواز

________________________________________

    1 ـ نهج البلاغة الخطبة 15 ص 44.

    2 ـ إشارات المرام ص 55.

________________________________________

(60)

     رؤيته سبحانه ، وجعل الملاك للسماع هو الوجود ، كما جعل الملاك لوقوع الرؤية هو كون الشيء موجوداً.

    وقد عرفت في الجزء الثاني عند عرض عقيدة الأشعري أنّ الكلام النفسي ليس شيئاً وراء العلم في الإخبار ، وليس وراء الإرادة والكراهة في الإنشاء ، والقائل به يريد أن يثبت وصفاً مغايراً للعلم والارادة.

    كما عرفت بطلان كون المصحِّح للرؤية هو كون الشيء موجوداً ، وأنّ كلّ موجود يرى. هذا ، وإنّ ملاك السّماع ليس هو الوجود حتّى يستنتج منه أنّ كلّ موجود يسمع ، وهذا واضح لمن له أدنى إلمام بالعلوم الطّبيعيّة.

    هذا هو عرض إجمالي لمذهب الامام الماتريدي ، وقد وقفت على مشخِّصات المنهج ، وعرفت الاُصول الّتي اختلف فيها الداعيان ، والاُصول الّتي اتّفقا فيها.

    والتأمّل فيما ذكرناه من النصوص من نفس الماتريدي وتلاميذ منهاجه ، يدفع الإنسان إلى القول بأنّ الشيخين الأشعري والماتريدي كانا في سبيل واحد من الدّعوة ، وهو نصرة السنّة ومكافحة الاعتزال ، ومع ذلك كلّه فلكلّ واحد اُسلوب خاصّ ، والقول بوحدة المنهاجين وكون الاختلاف جزئيّاً ، وأنّه في حلبة الدعوة إلى السنّة يقع الحافر على الحافر ، مداهنة جدّاً وإخفاء للحقيقة ، وإسدال الستر على وجهها.

 

أنصاره وأتباعه في الأجيال المتأخِّرة:

    قد انتشر مذهب الأشعري في كثير من الحواضر الاسلاميّة لأنّه ظهر في مركز العالم الاسلامي ، وكثرت أنصاره وأعوانه ، بين مبيِّن مقاصده ، إلى ذابّ عن براهينه ودلائله ، إلى مكمِّل لاُصوله وقواعده ، وأمّا مذهب الماتريدي فقد نبت في نقطة بعيدة عن الحواضر ، فقلّت العناية بنقله وشرحه.

    وهناك وجه آخر لقلّة انتشاره ، وهو أنّ لمذهب الماتريدي مع كونه بصدد نصر

(61)

     السنّة ، طابع التعقّل ، وقد كثرت الدعاية في عصر ظهوره ، على ضدّ أهل التعقّل والتفكّر ، وصار العكوف على النقل المحض ، وترك التعقّل والبرهنة آية القداسة ، والإمام بما أنّه أعطى للعقل سلطاناً أكبر ممّا أعطاه الأشعري ، ووافق في عدّة من الاُصول ، منهاج المعتزلة ، فصار هذا وذاك سببين لقلّة انتشاره ، وندرة أنصاره.

    ومع ذلك فقد شاع مذهبه بين علماء ماوراءالنهر فقاموا بنشر دعوته ومعاضدته ، فألّفوا حول منهاجه ، كتباً ورسائل منشورة وغير منشورة.

    ولأجل ايقاف القارئ على أعلام الماتريديّين نأتي بترجمة عدّة منهم:

 

1 ـ أبواليسر محمّد البزدوي ( 421 ـ 493 هـ )

    إنّ أرباب المعاجم من الأحناف وغيرهم قد قصّروا ولم يؤدّوا حقّ الماتريدي في كتبهم ، فإذا كان هذا حال الاُستاذ فما ظنّك بحال التلامذة والأتباع ، ولأجل ذلك نجد أنفسنا أمام ظلام دامس يلفّ حياة البزدوي ، وأحسن مرجع للوقوف على حياته هو نفس كتابه « اُصول الدّين » الّذي حقّقه وقدّم له الدكتور « هانز بيتر لنس » ونشرته عام ( 1383هـ ) دار إحياء الكتب العربية في القاهرة ، ونقل محقّق الكتاب أنّه وجد عن طريق المصادفة في هامش كتاب خطّي لابن قطلوبغة « طبقات الحنفيّة » بجانب مَلْزَمة عن حياة البزدوي: روى السمعاني أنّهـ أي البزدوي ـ ولد في عام ( 421 هـ ).

    ويظهر من غير واحد من مواضع كتابه أنّه تلقّى العلوم على يد أبيه. يقول في مسألة: « هل الايمان مخلوق أو غير مخلوق ، ولا يجوز الاطلاق بأنّ الإيمان مخلوق » ونحن نختار هذا القول ، فإنّ هذا مذهب أبي حنيفة ، وهو ما رواه نوح بن أبي مريم الجامع ، عن « أبي حنيفة » روى لنا والدنا الشيخ الامام أبوالحسن محمّد بن الحسين بن عبد الكريم ـ رحمة الله عليهـ هذا الحديث عن نوح بن أبي مريم (1).

________________________________________

    1 ـ اُصول الدين ص 155 ـ 158.

________________________________________

(62)

    وقال في مسألة أنّ البعث حق: « وقد روى لنا الشيخ الامام محمد بن الحسين بن عبد الكريم حديثاً متّصلاً إلى رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم » (1).

    ولم يكتف في تلقّي العلم بوالده ، ويظهر من موضع من كتابه أنّه أخذ العلم عن غير واحد من أعلام عصره ، ومنهم أبوالخطّاب. قال في مسألة ( 75 ) : هكذا سمعت الشيخ أبا الخطّاب (2).

ثقافته:

    ينتسب البزدوي إلى مدرسة الإمام أبي حنيفة ، وهو يعترف بالصّراحة بانتمائه إلى المذهب الحنفي ، كما ينتسب في العقيدة إلى مدرسة الماتريدي ، وهو اُستاذ جدّ أبيه « عبد الكريم » (3) الّذي تلقّى العلوم بدوره عن الماتريدي.

    ويظهر من مقدّمة كتاب اُصول الدّين أنّه قرأ أكثر الكتب المؤلّفة في ذلك العصر في الفلسفة والكلام ، لا سيّما للمعتزلة والأشاعرة. قال: « نظرت في الكتب الّتي صنّفها المتقدّمون في علم التوحيد فوجدت بعضها للفلاسفة مثل « إسحاق الكندي » و « الاسفزاري » وأمثالهما ، وذلك كلّه خارج عن الطريق المستقيم ، زائغ عن الدّين القويم.

    ووجدت أيضاً تصانيف كثيرة في هذا الفن من العلم « للمعتزلة » مثل « عبد الجبّار الرازي » و « الجبّائي » و « الكعبي » و « النظّام » وغيرهم.

    وكذلك « المجسّمة » صنّفوا كتباً في هذا الفنّ مثل « محمّد بن هيصم » وأمثاله ، ولا يحلّ النّظر في تلك الكتب ، وقد وجدت لأبي الحسن الأشعري كتباً وغيره ( غيرها ظ ) في هذا الفنّ من العلم ، وهي قريب من مائتي كتاب ، والموجز الكبير يأتي على عامّة ما في

________________________________________

    1 ـ اُصول الدين ص 156.

    2 ـ اُصول الدين ص 28.

    3 ـ نسبه هكذا: محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم.

________________________________________

(63)

     جميع كتبه ، وقد صنّف الأشعري كتباً كثيرة لتصحيح مذهب « المعتزلة » ، فإنّه كان يعتقد مذهب الاعتزال في الابتداء ، ثمّ إنّ اللّه تعالى بيّن له ضلالة « المعتزلة » فتاب عمّا اعتقد من مذاهبهم ، وصنّف كتاباً ناقضاً لما صنّف للمعتزلة. وقد أخذ علمه أصحاب الشافعي بما استقرّ عليه « أبو الحسن الأشعري » وقد صنّف أصحاب الشافعي كتباً كثيرة على وفق ما ذهب إليه الأشعري إلاّ أنّ أصحابنا من أهل السنّة والجماعة خطّأوا أبا الحسن في بعض المسائل مثل قوله: « التكوين والمكوّن واحد » ونحوه على ما نبيّن في خلال المسائل إن شاءالله فمن وقف على المسائل الّتي أخطأ فيها أبوالحسن الأشعري ، وعرف خطأه ، فلا بأس بالنّظر في كتبه وإمساكها ، وقد أمسك كتبه كثير من أصحابنا ونظروا فيها ، الّذين هم رؤساء أهل السنّة والجماعة.

    وقد صنّف أبومحمّد عبدالله بن سعيد بن كلاب القطّان (1) ، كتباً كثيرة في هذا النّوع من العلم وهو أقدم من أبي الحسن الأشعري ، فلم يقع في يدي شيء من كتبه ، وعامّة أقاويله توافق أقاويل أهل السنّة والجماعة إلاّ مسائل قلائل لاتبلغ عشرة مسائل ، فإنّه خالف فيها أهل السنّة والجماعة ، وقد أخطأ فيها على ما نبيّن في خلال المسائل إن شاء الله تعالى فلا بأس من إمساك كتبه ، والنظر فيها لمن وقف على ما أخطأ من المسائل.

    وقد وجدت للشيخ الامام الزاهد « أبي منصور الماتريدي السمرقندي » كتاباً في علم التوحيد على مذهب أهل السنّة والجماعة ، وكان من رؤساء أهل السنّة والجماعة (2).

    وهذا يعرب عن عكوفه على دراسة الكتب للفرق الكلاميّة وعرضها على الاُصول الّتي تلقّاها أنّها اُصول السنّة والجماعة.

تلاميذه:

    قد تلقّى عنه عدّة من أكابر علماء الحنفيّة أشهرهم نجم الدين عمر بن محمّد

________________________________________

    1 ـ توفي عبد الله بن سعيد عام 245 هـ.

    2 ـ اُصول الدين 1 ـ 3 وقد عرفت ذيل كلامه في ما سبق.

________________________________________

(64)

     النسفي ( 460 ـ 537 هـ ) وهو يقول في حقّ اُستاذه: « كان أبواليسر شيخ أقراننا في بلاد ماوراءالنهر ، وكان إمام الأئمّة ، وكان يفد عليه الناس من كل فجّ وقد ملأ الشرق والغرب بمؤلفاته في الاُصول والفروع » (1).

مؤلفاته:

    له مؤلفات منها:

    1 ـ تعليقة على كتاب الجامع الصغير للشيباني.

    2 ـ الواقعات.

    3 ـ المبسوط في بعض الفروع (2).

    4 ـ اصول الدين المطبوع.

2 ـ النسفي ميمون بن محمّد ( 418 ـ 508 هـ )

    ميمون بن محمّد بن معبد بن مكحول ، أبو المعين النسفي الحنفي ، أحد المتكلّمين البارعين على منهاج الماتريدي كان بسمرقند سكن « بخارى ».

    تآليفه: « بحر الكلام » وهو مطبوع ، و « تبصرة الأدلة » مخطوط ويقال إنّه الأصل للعقائد النسفية لأبي حفص النسفي ، توجد نسخة منه في القاهرة وغيرهما من الكتب.

    وقد ترجم في الجواهر المضيئة ج 2: 189 ، وفي الأعلام لخير الدين الزركلي ج 7: 341 ، و ريحانة الأدب للمدرسي ج 6 ص 174 ، وذكر تآليفه الكاتب الجلبي في كشف الظنون.

________________________________________

    1 ـ مقدمة اُصول الدين نقلاً من طبقات الحنفية لابن قطوبغة ، المخطوطة.

    2 ـ نفس المصدر.

________________________________________

(65)

3 ـ النسفي عمر بن محمّد ( 460 ـ 537 هـ ) :

    عمر بن محمّد بن أحمد بن إسماعيل ، أبو حفص المعروف ب ـ « نجم الدين النسفي » ، ولد ب ـ « نسف » وتوفّي بسمرقند ، وكتابه المعروف « عقائد النسفي » من الكتب المشهورة الّتي يدور عليه رحى الدراسة منذ قرون إلى يومنا هذا. ولأجل ذلك كتبت عليه الشروح والتعليقات ، وهو على منهاج الماتريدي. وشرحه التفتازاني ، وله ترجمة في « الفوائد البهية في تراجم الحنفية » لمحمّد بن عبد الحي ، ص: 149 طبع في القاهرة عام 1324هـ. والجواهر المضيئة ج 1: ص 394 ، ولسان الميزان ج 4: ص 327 ، والأعلام لخير الدين الزركلي ج 5: ص 60 و ريحانة الأدب للمدرسي ، ج 6:ص 173 ، وقد تقدّم تتلمذه على البزدويّ.

4 ـ ابن الهمام: محمد بن عبد الواحد ( 790 ـ 816 هـ ) :

    محمّد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود السيواسي ثمّ الاسكندري ، كمال الدين المعروف بابن الهمام ، متكلّم حنفي ، له تآليف في الكلام والفقه ، وقد ألّف « المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة » ، في الكلام ، وهو مطبوع. حقّقه محمّد محي الدين عبد الحميد. ومن كتبه « فتح القدير » في شرح الهداية ، ثمانية مجلّدات في فقه الحنفية ، كما ألّف « التحرير » في اُصول الفقه وقد طبعا. له ترجمة في الفوائد البهية ص: 18 ، والجواهر المضيئة ، ج 2:ص 86 ، وشذرات الذهب ج 7 : ص 289 والأعلام للزركلي ج 2:ص 255 ، وغيرها.

5 ـ البياضي: كمال الدين أحمد بن حسن الرومي الحنفي ـ ( القرن 11 ) :

    هو من بيت قضاء ، وفقه ، وعلم ، أخذ العلم ببلاده عن والده ، والعلامة يحيى المنقاري ، وغيرهما من أفاضلهم ، وقد أُسند إليه منصب القضاء بحاضرة حلب الشهباء سنة 1077هـ ، كما تولّى قضاء مكّة عام 1083هـ ، ومن تآليفه « إشارات المرام من

 

________________________________________

(66)

     عبارات الامام » الّذي طبع بتقديم محمّد زاهد بن الحسن الكوثري ، الذي هو من دعاة الماتريديّة في العصر الحاضر وبتحقيق يوسف عبد الرزاق سنة 1368هـ ، وقد وقفت على خصوصيات الكتاب في خلال الأبحاث السابقة.

    هذا خلاصة القول في الفرقة الماتريدية الّتي انحسرت دعوتها عن الجامعات الإسلاميّة ، وقلّت الدعاة إليها ، ومنهاجها منهاج مزيج من منهاج أهل الحديث والمعتزلة ، بل قلّ الاهتمام بهم ودراسة منهاجهم ، والحقّ أنّها مدرسة فكريّة نبتت في المحيط الشرقي وترعرعت زمناً ، ثمّ تراجعت إلى حدّ لا نجد داعياً إليها في العصر الحاضر ، غير الشيخ الكوثري وأترابه ، ولا مناص لطلاّب الحريّة من شباب أهل السنّة من دراستها واعتناق اُصولها ، لكونها منهاجاً وسطاً بين العقليّة المحضة ، والنّقلية الخاصّة.

    إنّ الظروف والشرائط المفروضة عليهم ، وإن كانت لا تسمح لهم الاجتهاد المطلق في الاُصول والعقائد ، ودراسة كلّ أصل في جوّ هادئ من دون أن يتقلّدوا رأي انسان غير معصوم من سنّة أو شيعة ، لكن في وسعهم الإجتهاد في المذاهب المنسوبة إلى أهل السنّة والجماعة ، فعلى طلاب الحريّة ، السعي والإجتهاد ، للتعرّف على الحقّ ، وإزهاق الباطل ، ولو في إطار المذاهب العقيديّة الرسميّة.

 

بيان لقادة الفكر في الأمة:

    إنّ الغزو الفكري الّذي يشنّه أعداء الإسلام كلّ يوم من المعسكرين: الشرق والغرب ، لاجتياح العقيدة الاسلاميّة وإقصاء الشباب عن ساحة الإيمان ، وبالتّالي إفساد عقيدتهم وإحلالهم عن الدين ، وعن التفاني دونهـ إنّ هذا الغزو ـ يفرض علينا الخروج عن إطار الجمود في تحليل العقائد وتقييمها ، وعدم الاقتصار على الروايات المنقولة عن « كعب الأحبار » ، و « تميم الداري » وأضرابهما ، وفتح باب التفكر بمصراعيه في وجه الناشئ وتدريبه وتمرينه بالبرهنة والاستدلال ، على مايعتنقه من العقائد ، لأنّه يضفي

 

________________________________________

(67)

     لاُصول الاسلام ثباتاً ودواماً وللشباب صموداً أمام الهجمات العنيفة ، الّتي توجّه إليهم كلّ يوم من المدارس الفكرية المادية المهزوزة وغيرها ، فإنّ في حرمان المسلم المستعدّ عن التفكر الصحيح ، مظنة جعله فريسة للمناهج الضالّة ، المتدرّعة بالسلاح العلمي المادي الفاتك.

    ولا نهدف بذلك إلى دمج الدّين بالفلسفة اليونانيّة أو الغربيّة بل الغرض هو استخدام العقل السليم الفطري ـ الذي به عرفنا ربّنا ودعا إليه كتابهـ لدرك الدين والدفاع عنه في المجالات الّتي للعقل إليها سبيل.

    ولا شكّ أنّ بعض المشايخ لا يعرفون التوسّط في الحياة ، ولا الاعتدال في الرأي ، فهم بين غارق في العقليّات ، غير مقيم للنّقل وزناً في مجال العقيدة ، وبين متزمّت لا يعرف في أوضح الواضحات سوى رواية أحمد عن فلان ، وإن كان على خلاف الحسّ والعقل.

    هذا وذاك كلاهما مرفوضان جدّاً ، وإنّما المأمول هو تقدير التعقّل ، واحترام حريّة الفكر ، وهذا أمر يجب علينا أن نروّض أنفسنا عليه.

    ثمّ إنّ هنا كلاماً لبعض قادة الفكر ، يلقي ضوءاً على ما نتوخّاه ونطلبه بحماس من حاملي لواء الفكر الاسلامي ، ونخصُّ بالذكر أساتذة الجامعات الإسلاميّة حيث يقول:

     « ممّا لا نرتاب فيه إنّ الحياة الانسانيّة حياة فكريّة لا تتمّ له إلاّ بالادراك الّذي نسمّيه فكراً ، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر ، إنّ الفكر كلّما كان أصحّ وأتمّ ، كانت الحياة أقوم ، فالحياة القيّمة ـ بأيّة سنّة من السنن أخذ الإنسان ، وفي أيّ طريق من الطرق المسلوكة وغير المسلوكة سلك الإنسان ـ ترتبط بالفكر القيّم وتبتني عليه ، وبقدر حظّها منه يكون حظّها من الاستقامة.

    وقد ذكره اللّه سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوّعة كقوله: ( أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في النّاس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ( الأنعام / 122 ). وقوله: ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا

 

 

________________________________________

(68)

يَعْلَمُونَ ) ( الزمر / 9 ) وقوله: ( يَرْفَعُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ دَرَجَات ) ( المجادلة 11 ) وقوله: ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ اُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللّهُ وَ اُولئِكَ هُمُ اُولُوا الألْبَاب ) ( الزمر / 17 و 18 ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي لا تحتاج إلى العرض ، فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح ، وترويج طريق العلم ، ممّا لا ريب فيه.

    ولم يعيّن في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيّم الذّي يندب إليه ، إلاّ أنّه أحال فيه إلى مايعرفه الناس بحسب عقولهم الفطريّة ، وإدراكهم المركوز في نفوسهم.

    إنّك لو تتبّعت الكتاب الإلهي ، ثمّ تدبّرت في آياته ، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكر والتذكر والتعقّل ، وتلقين النّبي ـ صلىّ الله عليه وآله ـ الحجّة لإثبات حقّ ، أو لإبطال باطل ، كقوله: ( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيئاً إنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ اُمَّهُ ) ( المائدة / 17 ) أو تحكي الحجّة عن أنبيائه وأوليائه ، كنوح وإبراهيم وموسى ، وسائر الأنبياء العظام ، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما عليهم السلام كقوله: ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمواتِ وَالأرْضِ ) ( إبراهيم / 10 ) وقوله: ( وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) ( لقمان / 13 ) وقوله: ( وَ قَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللّهُ وَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) ( غافر / 28 ) وقوله حكاية عن سحرة فرعون: ( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض إِنَّمَا تَقْضِي هذِهِ الحَيَاءَ الدُّنْيَا ) ( طه / 72 ) إلى آخر ما احتجّوا به.

    ولم يأمر اللّه تعالى عباده في كتابه ، ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به ، أو بشيء ممّا هو من عنده ، أو يسلكوا سبيلاً على العمياء ، وهم لا يشعرون ، حتّى إنّه علّل الشرايع والأحكام الّتي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله: ( إِنَّ الصَّلوةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَ المُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّهِ أَكْبَر ) ( العنكبوت / 45 ) وقوله: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ

 

________________________________________

(69)

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة / 183 ) وقوله في آية الوضوء: ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نَعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ( المائدة / 6 ) إلى غير ذلك من الآيات (1).

 

يا اُمّه اثكليه (2):

    قد بلغ إقصاء العقل عن ساحة العقائد ، والاكتفاء بالمرويّات الضعاف إلى حدّ استطاع أحد الشيوخ من الحنابلة أن يصعد منبر التوحيد ، وهو يرى أنّ لله نزولاً كنزول الإنسان ، وحركة وسكوناً كحركته وسكونه.

    يعزّ على الاسلام أن يسمع قائلاً متسنّماً منصّة القيادة الروحية ، في جامع دمشق يهتف: أنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ـ ثمّ نزل درجة من درج المنبر ـ وإن كنت في شكّ مما نقول فاستمع إلى ما ينقل الرحالة ابن بطوطة فهو ينقل في رحلته ويقول: « وكان بدمشق من كبار الفقهاء تقي بن تيمية كبير الشام يتكلّم في الفنون إلاّ أنّ في عقله شيئاً.. فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكِّرهم ، فكان من جملة كلامه: إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ، ونزل درجة من درج المنبر ، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء. وأنكر ما تكلّم به ، فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتّى سقطت عمامته (3).

    اُنظر إلى الوهابيّة كيف اتّخذت هذا القائل شيخاً لإسلامهم وسنداً لمذهبهم ، ومعلّماً لتوحيدهم ، وإليه يرحلون ، وعن فتياه يصدرون ، وكأنّه صار صنماً يُعبد ، ويدور الحقّ مداره ، وهؤلاء لا يجوِّزون لأنفسهم الخروج عن خطوطه قدر شعرة ، كأنّه تدرّع بالعصمة والمصونيّة عن الخطأ والزّلل.

________________________________________

    1 ـ الميزان ج 5 ص 273 ـ 275.

    2 ـ مثل يضرب عند الدعاء على الانسان. لاحظ مجمع الأمثال ج 2 ص 426 حرف الياء.

    3 ـ رحلة ابن بطوطة ط دار صادر ، بيروت ص 95.

________________________________________

(70)

    بالله عليكم أيّها السادة! يا قادة الفكر في الاُمّة! يا أصحاب رسالة هداية الشباب في العصر الحاضر! إذا كان الشابّ المسلم الجامعي لا يملك من العقيدة الاسلاميّة إلاّ ما تعلّمه من نظريّات ابن تيميّة ، فهل يستطيع أن يرفع رأسه ويدافع عن عقيدته ، وكيان نحلته ، في وجه هجمات الفلسفة الماديّة الخدّاعة الّتي رفعت عقيرتها بأنّ اُصولها مستمدّة من النظريات العلميّة الّتي فرضها العلم وأثبتتها التجربة.

    فإذا دار الأمر في تفسير الكون وتبيين خلق العالم ، بين ما يثيره أبناء الحنابلة وأصحاب الحديث في انتهاء العوالم الوجوديّة إلى موجود كائن في العرش عال على السماوات والأرض ، لا ينفكّ عن الحركة والسكون ، وعن الجهة والمكان وغير ذلك من لوازم الجسم والجسمانيات ، وبين القول بقدم المادّة وانطوائها تحت سنن وقوانين نابعة عن ذاتها ، إمّا عن طريق الصدفة أو عن طريق آخر ، فهل يمكن لمفكّر أن يرجّح الأول على الثاني؟ أو أنّ العقول النيّرة الممارسة للعلوم الطبيعية والحسية لا ينظرون إلى الأول إلاّ بنظر الاستهزاء والسخرية؟

 

    وليس ابن تيميّة أوّل بادئ بهذه المهزلة المحزنة ، بل سبقه أبناء لهذا المذهب كما لحقه أنصار.

    ولأجل ايقاف القارئ على تطرّف الحنابلة في أقوالهم وآرائهم تطرّفاً أدّى بهم إلى التجسيم والتشبيه نأتي بأبيات لأحد شعرائهم في هذا المجال:

فإن كان تجسيماً ثبوت استوائهوإن كان تشبيهاً ثبوت صفاتهوإن كان تنزيهاً جحود استوائهفعن ذلك التنزيه نزّهت ربّنا           على عرشه إنّي إذاً لمجسِّمفمن ذلك التشبيه لا أتكتّموأوصافه أو كونه يتكلّمبتوفيقه والله أعلى وأعظم (1)

________________________________________

    1 ـ الصواعق المرسلة ج 1 ص 170 كما في المعتزلة ص 252.

(71)

    وليس هذا الشاعر وحيداً في هذا المجال. بل الحنابلة يتشدّقون بالتجسيم ويفتخرون به بلا مبالاة وإليك القصيدة التالية الّتي نظمها حنبلي آخر أيّام محنة ابن حنبل في السجن:

علا في السماوات العلى فوق عرشهيداه بنا مبسوطتان كلاهمانهينا عن التفتيش والبحث رحمةولم نر كالتسليم حرزاً وموئلاوإنّ وليّ الله في دار خلدهولم يحمد الله الجدال وأهلهوسنّتنا ترك الكلام وأهله            إلى خلقه في البرّ والبحر ينظريسحّان والأيدي من الخلق تقترلنا وطريق البحث يردي ويخسرلمن كان يرجو أن يثاب ويحذرإلى ربِّه ذي الكبرياء سينظروكان رسول الله عن ذاك يزجرومن دينه تشديقه والتقعّر (1)

    ومن أراد أن يقف على كلمات هؤلاء حول التجسيم والتشبيه فعليه بمراجعة كتاب « علاقة الاثبات والتفويض » تأليف رضا بن نعسان معطى بتقديم عبد العزيز بن باز.

    فقد حشا فيه كلمات أبناء الحنابلة وغيرهم في مجال الصفات ، وادّعى أنّهم يقولون بكونه سبحانه فوق السماوات. وهؤلاء لغاية دفع عار التجسيم يتدرّعون بكلمة بلا كيف وتشبيه ، وهو بلا شبهة واجهة اتّخذتها أبناء التجسيم لستر ما يعاب بهم.

    وهذه التوالي وليدة إقصاء العقل عن ساحة العقائد ، وإحلال النقل على وجه الاطلاق مكانه ، وإلاّ فالنقل الصحيح لا يكافح العقل أبداً.

تم الكلام في الماتريدية

والحمد لله ربّ العالمين.

________________________________________

    1 ـ مناقب الإمام أحمد بن حنبل لأبي الفرج ابن الجوزي ص 425 ـ 426 ط مصر ، الطبعة الأولى.