عقائد ابن تيمية 2

ابن تيمية والتوسل بالأنبياء والصالحين

    إنّ التوسل بالأنبياء والصالحين في حال حياتهم أو بعد التحاقهم بالرفيق الأعلى من الأُمور الرائجة بين الموحدين في جميع الأجيال والقرون ، وقد أثارت فتوى ابن تيمية فيها بالحرمة ضجّة كبرى بين المسلمين ، فالمسلمون كانوا إلى عصر ابن تيمية على جواز التوسل بشروطه المسوغة ، إلى أن جاء ابن تيمية فأفتى بالحرمة ، وتبعه الوهابيون ، فأقصى ما جاز عندهم من التوسل هو التوسل بدعاء النبي في حال حياته ، غير أنّ الشبه والظنون الّتي اعتمدوا عليها في منع التوسل كانت تقتضي منع هذا القسم أيضاً ، لأنّه توسل بالمخلوق لا محالة في مقام العبادة ، لكنّهم لم يجدوا منتدحاً عن القول بجوازه لتصريح القرآن به ، حيث حثّ المسلمين على المجىء إلى النبي وطلب الاستغفار منه ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أنّهُم إذْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحيماً ) (1) ، وقال سبحانه : ( وَإذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا يَسْتَغْفِرْ لَكُم رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُؤوُسَهُم وَرَأيْتَهُم يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) (2) وقال سبحانه ناقلا عن أبناء يعقوب ( يَا أبَانا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنّا كُنّا خَاطِئِينَ ) (3).

________________________________________

1 ـ سورة النساء : الآية 64.

2 ـ سورة المنافقون : الآية 5.

3 ـ سورة يوسف : الآية 97.

________________________________________

(226)

    ولأجل الحط من شأن النبي وكرامته يجعلون النبي مساوياً للمؤمنين ويقولون : « إنّ التوسل الجائز هو التوسل بدعاء المؤمن حال حياته ، ولو جاز التوسل بدعاء النبي فليس هذا إلاّ لكونه أحد المؤمنين ، ويجوز التوسل بدعاء كل أخ مؤمن من غير فرق بين النبي وغيره ، وأمّا غير ذلك فكله ممنوع ».

    وستوافيك أقسامه وكلماتهم فيها ، وبما أنّ الوهابيين مازالوا يستدلون ضد المتوسلين ببعض الآيات ، نقدم البحث عنها ونقول :

 

آيتان على طاولة التفسير

( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُم وَلاَ تَحْويلا * أُولئِكَ الّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِم الوَسِيلَةَ أيُّهُمْ أقْرَبُ ، وَيَرجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُوراً ) (1).

    يقول محمد نسيب الرفاعي مؤسس الدعوة السلفية وخادمها في الرياض : إنّك ترى أنّ اللّه تعالى يلفت أنظار المؤمنين إلى أنّ عمل المشركين بالتزلّف إلى اللّه بأشخاص المخلوقين لا يفيدهم شيئاً ، لأنهم لا يملكون كشف الضرّ عنهم ولا تحويلا ، فدعاؤهم بالذوات أو التوسل بهم لا يقدّم ولا يؤخّر ، ولا يوصلهم ، لأنهم أخطأوا الطريق إلى اللّه.

    إنّ هاتين الآيتين في سورة الإسراء نزلتا في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم الجنّيون ، أمّا الإنس الذين كانوا يعبدونهم فلم يشعروا بإسلامهم ، فأخبرهم اللّه بوحيه المنزل على عبده ورسوله محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : إنّ هؤلاء الذين يزعم المشركون أنهم يقرّبونهم إلى اللّه زلفى ، يتسابقون ويتنافسون فيما بينهم بالتقرّب إلى الله تعالى ، ويرجون رحمته و يخشون عذابه ، فكيف أيها المشركون تدعونهم لكشف الضر عنكم وتوسّطونهم ، فما الّذي تؤملون منهم وهم على أشدّ ما يكونون حاجة إلى اللّه تعالى ، فالذي لا يملك شيئاً ، لا يعطي شيئاً (2).

________________________________________

1 ـ سورة الإسراء : الآية 56 ـ 57.

2 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل ص 12 ـ 13.

________________________________________

(227)

    إنّ الاستدلال بهاتين الآيتين على رد التوسل الشائع بين المسلمين من عجيب الأُمور ، فإنّ التوبيخ فيهما متوجّه إلى المشركين الذين كانوا معتقدين بألوهية معبوداتهم ، وأنهم يملكون كشف الضر وتحويل السوء عن الدعاة ، واللّه سبحانه يرد عليهم بأنّ المدعوين في أشد الحاجة إلى طلب التقرب إلى اللّه سبحانه ، فكيف يمكن لهم كشف الضر عنهم؟ وأيّة صلة بين أولئك المشركين المعتقدين بألوهية المدعوين ، والموحدين الذين يعتقدون بأنّه لا يملك كشف الضر إلاّ اللّه ، ولكنّهم يوسّطون بينهم وبين ربّهم أحد عباد اللّه الصالحين ، الّذي له مكانة عند اللّه ، لعلّه سبحانه يجيب دعوته لأجله وحرمته ومقامه ، وليس ذلك ببدعة ، فقد أمر بتوسيط دعاء النبي في طلب المغفرة من اللّه ، وأمر العصاة أن يطلبوا منه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) الاستغفار على ما عرفت.

    والقسمان يشتركان في توسيط المخلوق ، سواء أكان ذاته القدسية أمْ دعاءَهُ المستجاب.

    ثم إنّه في ذيل كلامه يقول : « إنّ الذين كان العرب يوسطونهم في توسلاتهم كانوا يتقربون إلى اللّه بأعمالهم الصالحة ، فما بال المسلمين المتوسلين لا يقتدون بهم ، ولم لا يفعلون ما يفعلون ما داموا بهم وبصلاحهم واثقين » ؟.

    وللملاحظة والتدبّر في كلامه مجال واسع :

    أمّا أولا ـ فمن أين علم أنّ هؤلاء الذين كان العرب يوسطونهم كانوا يتقربون إلى اللّه بأعمالهم الصالحة؟ فليس في الآية شيء يدل على ذلك.

    وثانياً ـ لو صحّ ذلك فمعنى كلامه أنّ التوسل منحصر في ذلك ، مع أنّه من المجوزين لتوسل المسلم بدعاء النبي في حال حياته ، بل بدعاء أخيه المسلم ، فلماذا صار التخلف هيهنا عن هديهم ومذهبهم جائزاً مع أنهم لم يكونوا متقربين إلاّ بأعمالهم فقط.

    والحق أنّ الكاتب اتّخذ موقفاً مسبقاً في مجال التوسل ، وهو إحياء ما بذره ابن تيمية ، فلذلك ترى أنّه يقفو في كتابه أثر شيخه ، بلا تخلّف عنه قيد شعرة ، مع أنه يتظاهر في بدء كتابه بأنه يريد أن يعالج الموضوع علاجاً محايداً

 

________________________________________

(228)

عن كلّ تحيّز (1).

 

أقسام التوسل : المشروع والممنوع عند الوهابيين

    ثم إنّ الرفاعي لغاية التظاهر بالحياد في الكتابة عن التوسل ، يقسمه إلى مشروع وممنوع ويقول : وينقسم التوسل المشروع إلى ثلاثة أقسام :

    1 ـ توسل المؤمن إلى اللّه تعالى بذاته العلية ، وبأسمائه الحسنى ، وبصفاته العلى.

    2 ـ توسل المؤمن إلى اللّه تعالى بأعماله الصالحة.

    3 ـ توسل المؤمن إلى الّه تعالى بدعاء أخيه المؤمن له.

    ثم إنّه يقدم الكتابة في الموضوعات الثلاثة فيما يقرب من مائة وسبعين صفحة ، مع أنّ هذه الموضوعات من المسائل البديهية لدى الأُمم جمعاء ، فضلا عن المسلمين ، ولكنّه جاء يصرف القلم والحبر والورق في هذه الموضوعات لغاية التظاهر بأنه ليس مانعاً من التوسل ، لكن التوسل المشروع هو هذه.

    ثم إنّه خصّ الشطر الآخر من كتابه التوسل الممنوع ، وجعله ثلاثة :

    1 ـ التوسل إلى اللّه بذوات النبيين والصالحين ، وبالأمكنة الفاضلة كالكعبة والمشعر الحرام ، وبالأزمنة المباركة كشهر رمضان وليلة القدر وأشهر الحج والأشهر الحرم.

    2 ـ التوسل إلى اللّه بجاه فلان أو حرمته أو ما أشبه ذلك.

    3 ـ الإقسام على اللّه تعالى بالمتوسل به.

    ثم إنّه بدأ في البحث عن أحكام هذه التوسلات الثلاثة ، وخرج بالمآل بحرمتها إمّا بالطعن في أسناد الأحاديث ، أو بنقد مضامينها ، مع أنّ المأثورات الواردة في ذلك المقام مستفيضة أو متواترة بالمعنى ، فمن العجيب المناقشة في أسناد المستفيض أو المتواتر. نعم إنّ الشيخ الرفاعي تنازل عن توصيف هذه

________________________________________

1 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل ص 9.

________________________________________

(229)

التوسلات بالشرك ، وأفتى بحرمتها ، مع أنّ المعروف من ابن تيمية وأذنابه هو توصيفها بالشرك ، أو كونها ذريعة له.

    يقول ابن تيمية في بيان مراتب التوسل :

    أحدها : إنَّ الدعاء لغير اللّه سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً ، وسواء أكان من الأنبياء ( عليهم السَّلام ) أمْ غيرهم ، فيقال : يا سيدي أغثني ، وأنا مستجير بك وغير ذلك ، فهذا هو الشرك باللّه.

    الثاني : أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء الصالحين : ادع اللّه وادع لنا ربك ونحو ذلك ، فهذا مما لا يستريب عالم في أنه غير جائز.

    الثالث : أن يقول : أسالك بجاه فلان عندك وحرمته ونحو ذلك (1).

    ترى أنّه وصف الصورة الأُولى بالشرك والثانية والثالثة بعدم الجواز ، فقد فرغنا من تبيين معيار التوحيد والشرك فلا نعيد ، وإنّما نتكلم في الجواز وعدمه ، ولنبحث عن الصور الثلاث الّتي جاءت في كلام الرفاعي ، وزعم أنها ممنوعة ، فنقول :

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 22 ـ 23.

(231)

اقسام التوسل :

(1)

التوسل بالأنبياء والصالحين أنفسهم

    احتج الشيخ السلفي المعاصر على التحريم بوجوه واهية مدحوضة ، وإليك بيانها :

    1 ـ لو كان هذا النوع من التوسل مشروعاً حقيقة لذكره الشارع في زمرة ما ذكره وحثّ كذلك الناس عليه ، وليس معقولا أن يهمله اللّه تعالى ولا يبلّغه رسوله.

    2 ـ إنّ اللّه عاب في الآية المتقدمة ( آية الإسراء ) محاولتهم القربى والزلفى إليه تعالى بالأشخاص والعباد المخلوقين ، فكلا الأمرين في الآية عيب وذنب.

    3 ـ إن أرادوا بالواسطة في جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة في رزق العباد فهو من أعظم الشرك (1).

    يلاحظ على الوجه الأول : أنّ القائلين بالتوسل بالأشخاص يدّعون أنّ النبي ذكره في كلامه ، وقد نقل هو في نفس الكتاب ستة وعشرين دليلا عنهم ، وهو بين حديث مروي عن النبي ، وأثر منقول عن الصحابة في ذلك المجال ، وهو وإن ناقش في أسنادها غالباً ، لكنّه غفل ـ بعد تسليم ما ناقشه ـ عن أنّ هذا العدد الهائل من الأخبار ، أخبار متواترة بالمعنى ، ولا وجه للمناقشة في

________________________________________

1 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل 177 ـ 180.

________________________________________

(232)

المتواتر ، ولو صحّ النقاش في المتواتر فربما تكون جميع الأسناد زائفة باطلة.

    ويلاحظ على الوجه الثاني : أنّ اللّه تعالى عاب عليهم بعبادتهم الوسائل الّتي يوسّطونها بينهم وبين اللّه ، لا لتوسلهم بالأشخاص والعباد. قال سبحانه نقلا عنهم : ( مَا نَعْبُدُهُم إلاّ لِيُقَرّبُونَا إلى اللّهِ زُلْفَى ) (1) فكم فرق بين أن يعيب سبحانه توسيط الصالحين في دعائه سبحانه ، وأن يعيب عبادتهم الصالحين ليتوسطوا بينهم وبين اللّه ، والآية تهدف إلى الثاني دون الأول ، وما هذا الاعوجاج في الفهم لو لم يكن عناداً؟.

    يلاحظ على الوجه الثالث : أنّه فرية واضحة لا تصدر عن مسلم ، بل يريدون منهم الدعاء والطلب من اللّه مثل حال حياتهم ، أو يطلبون من اللّه سبحانه قضاء حاجتهم ، لأجل حرمة الوسائط الذين كرمهم اللّه في الدنيا والآخرة ، فالمدعو الحقيقي هو اللّه سبحانه ، وهو الكعبة المقصودة مآلا.

    إذا وقفت على دلائله الداحضة. هلمّ نقرر أدلة القائلين بجواز هذا النوع من التوسل ، وهي أدلة مشرقة لا تبقي لأحد شكاً ، وإليك البيان :

 

1 ـ توسل الضرير بالنبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم )

    عن عثمان بن حنيف أنه قال :

    إنّ رجلا ضريراً أتى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فقال :

    ادع اللّه أن يعافيني.

    فقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت وهو خير.

    قال : فادعه! فأمره ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أن يتوضّأ فيحسن وضوءه ، ويصلي ركعتين. ويدعو بهذا الدعاء :

     « أللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة ، يا محمد إنى أتوجه

________________________________________

1 ـ سورة الزمر : الآية 3.

________________________________________

(233)

بك إلى ربي في حاجتي لتقضى ، أللّهمّ شفّعه فيّ » قال ابن حنيف :

    واللّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث ، حتّى دخل علينا كأن لم يكن به ضر.

 

كلمات حول سند الحديث

    قال ابن تيمية : وقد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أنه علّم رجلا أن يدعو فيقول :

     « أللّهمّ إنّي أسألك وأتوسل بنبيك ... وروى النسائي نحو هذا الدعاء (1).

    وقال الترمذي : هذا حديث حق حسن صحيح.

    وقال ابن ماجة : هذا حديث صحيح.

    وقال الرفاعي : لا شكّ أنّ هذا الحديث صحيح ومشهور ... (2).

    نعم حاول السيد محمد رشيد رضا ، مؤلف المنار ، الّذي علق على كتاب مجموعة الرسائل والمسائل ، تأليف ابن تيمية ، أن يضعف الحديث بحجة أنه ورد في سنده أبو جعفر ، وأنه غير أبي جعفر الخطمي (3).

    ولكن المحاولة فاشلة ، فإنّ إمام مذهبه أحمد في مسنده وصفه بالخطمي ، ونقل الرفاعي عن نفس ابن تيمية أنّه جزم بأنّه هو أبو جعفر الخطمي ، وهو ثقة (4) ووصفه الحافظ سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه بـ ( الخطمي المدني ) .

    ولأجل أن يقف القارىء على مظانّ الحديث في الصحاح نذكره مصادره :

    1 ـ سنن ابن ماجة ، الجزء الأول ، ص 441 رقم الحديث 1385

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 13.

2 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل ص 158.

3 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ص 13 قسم التعليقة.

4 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل ص 228.

________________________________________

(234)

تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، نشر دار إحياء الكتاب العربي ، وقد عرفت تنصيصه بأنه حديث صحيح.

    2 ـ مسند أحمد ، ج 4 ص 138 عن مسند عثمان بن حنيف ، طبع المكتب الإسلامي مؤسسة دار صادر ، وقد روي هذا الحديث عن ثلاثة طرق.

    3 ـ صحيح الترمذي ج 5 ، كتاب الدعوات ، الباب 119 ، الحديث برقم 3578 ، وقد عرفت كلمته في حق الحديث.

    4 ـ مستدرك الصحيحين للحاكم النيسابوري ، الجزء الأول ص 313 طبع حيدر آباد الهند.

    قال بعد ذكر الحديث : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه.

    5 ـ المعجم الكبير للطبراني : الجزء التاسع باب ( ما أسند إلى عثمان بن حنيف ) ص 17 برقم 8311 ، قال المعلق في ذيل الصفحة : ورواه في الصغير 1/183 ـ 184 وقال : لم يروه عن روح بن أبي القاسم إلاّ شبيب بن سعيد المكي ، وهو ثقة ، وهو الّذي يحدث يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي ، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي ـ واسمه عمير بن يزيد ـ وهو ثقة ، تفرد به عثمان بن عمر بن فارس بن شعبة ، والحديث صحيح.

    وبعد هذا كله لا مجال للمناقشة في سند الحديث أو الطعن فيه ، كيف والخصم الّذي يحاول أن يضعف كل صحيح ، فشلت محاولته في حقه ، فسلم سنده ، ولكن مضى يناقش في دلالته ، وسيوافيك أنها أيضاً محاوله فاشلة.

 

دلالة الحديث

    إنّ الحديث يدلّ بوضوح على أنّ الأعمى توسل بذات النبي بتعليم منه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فهو وإن طلب الدعاء من النبي الأكرم في بدء الأمر ، ولكنّ النبي علّمه دعاء تضمّن التوسل بذات النبي ، وهذا هو المهم في تبيين معنى الحديث.

 

________________________________________

(235)

    وبعبارة ثانية : الّذي لا ينكر عند الإمعان في الحديث أمران :

    الأول : إنّ الراوي طلب من النبي الدعاء ، ولم يظهر منه توسل بذات النبي.

    الثاني : إنّ الدعاء الّذي علّمه النبي تضمّن التوسل بذات النبي بالصراحة التامة ، فيكون دليلا على جواز التوسل بالذات ، وإليك الجمل الّتي هي صريحة في المقصود :

    1 ـ اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيك.

    إنّ كلمة « بنبيك » متعلقة بفعلين : « أسالك » و « أتوجه إليك » والمراد من النبي نفسه المقدسة وشخصه الكريم ، لا دعاؤه.

    إنّ من يقدّر كلمة « دعاء » قبل لفظ « بنبيك » ويصوّر أنّ المراد : أسألك بدعاء نبيك ، أو أتوجه إليك بدعاء نبيك ، فهو يتحكم بلا دليل ، ويؤوّل بلا جهة ، ولو أنّ محدثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجهمية والقدرية.

    2 ـ « محمد نبي الرحمة ».

    لكن يتضح أنّ المقصود هو السؤال من اللّه بواسطة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وشخصيته جاءت بعد كلمة ( نبيك ) جملة « محمد نبي الرحمة » لكن يتضح الهدف بأكثر ما يمكن.

    3 ـ إنّ جملة « يا محمد إني أتوجه إلى ربي » تدل على أنّ الرجل ـ حسب تعليم الرسول ـ اتخذ النبي نفسه وسيلة لدعائه ، أي أنه توسل بذات النبي لا بدعائة.

    4 ـ إنّ قوله : « وشفّعه فىّ » : معناه يا ربّ اجعل النبي شفيعي وتقبّل شفاعته في حقي ، وليس معناه تقبّل دعاءه في حقي.

    5 ـ فإنَّه لم يرد في الحديث أنّ النبي دعا بنفسه حتّى يكون معناه : استجب دعاءه في حقي ، ولو كان هناك دعاء من النبي لذكره الراوي ، إذ

 

________________________________________

(236)

ليس دعاؤه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) من الأُمور غير المهمة حتّى يتسامح الراوي في حقه.

    نعم ، إنّ الراوي طلب الدعاء من النبي ، والنبي وعده بالدعاء حيث قال : إن شئت دعوت ، ولكن النبي لمّا علّمه دعاء مؤثراً في قضاء حاجته ، وسكت عن دعاء نفسه ، صار هذا قرينة على أنّ وعده بالدعاء ، كان أعم من الدعاء المباشري أو التسبيبي. فالدعاء الّذي وعد به النبي هو نفس الدعاء الّذي علمه الضرير ، فكان دعاء له ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) بالتسبيب كما كان دعاء للضرير بالمباشرة.

    فالنقطة المركزية في هذا التوسل هي شخص رسول اللّه وشخصيته الكريمة ، لا دعاؤه ، وإن كان دعاؤه ـ في سائر المواضع ـ أيضاً مؤثراً مثل التوسل بشخصيته ، ومن تأمل في ما ذكرنا من القرائن يجزم بأنّ المتوسل به بعد تعليم النبي ، هو نفس الرسول و شخصيته.

    6 ـ ولنفترض أنّ معنى قوله : « وشفّعه فىّ » : استجب دعاءه في حقي ، ونفترض أنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ـ مضافاً إلى ما علّمه من الدعاء ـ قام بنفسه أيضاً بالدعاء ، ودعا الباري سبحانه أن يرد إليه بصره ، ولكن أيّة منافاة بين الدعاءين حتّى يكون أحدهما قرينة على التصرف في الآخر.

    فهناك كان دعاء من النبي ولم يذكر لفظه ، ودعاء آخر علمه الرسول للضرير وقد تضمّن هذا الدعاء التوسل بذات النبي وشخصه ، وليس بين الدعاءين أي تزاحم وتعارض حتّى نجعل أحدهما قرينة على الآخر.

 

تشكيك الرفاعي في دلالة الحديث

    إنّ الخصم قد عجز عن الدفاع عن مذهبه وهو يواجه هذه الرواية ، فإنها بصراحتها تقاومه وتكافحهه ، فعاد يكرر ما ذكره شيخه في رسائله ، غير أنّ شيخه : نقله بصورة الاحتمال ، ولكن الرفاعي ذكره بحماس.

    قال ابن تيمية : « ومن الناس من يقول : هذا يقتضي جواز التوسل بذاته مطلقاً ، حياً وميتاً ، ومنهم من يقول : هذه قضية عين وليس فيها إلاّ

 

________________________________________

(237)

التوسل بدعائه وشفاعته ، لا التوسل بذاته » (1).

    ترى أنّ شيخ الرفاعي ينسبه إلى الغير عن تردد وشك ، ولكن الرفاعي عاد يكرر هذا المطلب بثوب جديد ، ويدّعي أنّ السائل لم يقصد التوسل بذات الرسول بل بدعائه المستجاب ، ويستدل على ذلك بالعبارات التالية :

    1 ـ قول الأعمى لرسول اللّه : ادع اللّه أن يعافيني.

    2 ـ جواب الرسول له : إن شئت دعوت وإن شئت صبرت.

    3 ـ إصرار الأعمى على طلب الدعاء منه بقوله : فادعه.

    4 ـ قول الأعمى في آخر دعائه الّذي علمه إياه رسول اللّه : اللّهمّ شفّعه فىّ. فاستنتج من ذلك كله أنّ المتوسل به هو دعاؤه.

    ولقد عزب عن المسكين أن الوجوه الثلاثة الأُولى لا تمت إلى مقصوده بصلة ، لما عرفت من أنّ الأعمى في محاورته مع الرسول لم يكن يخطر بباله إلاّ طلب الدعاء ، ولأجل ذلك طلب منه الدعاء ، وأنّ الرسول لما خيره بين الدعاء والصبر على الأذى ، اختار الدعاء ورفض الصبر ، غير أنّ النقطة المركزية للاستدلال ليست هذه المحاورة ، وإنّما هو الدعاء الّذي علّمه رسول اللّه الضرير ، فإنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) علمه دعاء يتضمن التوسل بذات النبي : وبعبارة ثانية : كانت هناك حالتان :

    الأُولى : المحاورة الابتدائية الّتي وقعت بين النبي والضرير ، فكان الموضوع هناك دعاء الرسول بلا شك.

    الثاني : الدعاء الّذي علمه الرسول ، فإنه تضمن التوسل بذات النبي ، فالتصرف في هذا النص بحجة أن الموضوع في المحاورة الأُولى هو الدعاء ، تصرف عجيب ، فإنّ الأعمى وإن لم يتردد في خلده سوى دعاء الرسول المستجاب ، ولكن الرسول علمه دعاء جاء فيه التوسل بذاته. ونحن نفترض أنه كان من الرسول ، دعاء غير ما علمه للضرير ، ولكن أية ضرورة تقضي بأن نؤوّل ما ورد في العبارة التي علّمها للسائل؟

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 13.

________________________________________

(238)

فما هذه الشبه والظنون الّتي يتمسك بها الرفاعي في سبيل دعم مذهبه؟

    باللّه عليك أيها الكاتب الوهابي الّذي يعيش عيشاً رغداً في الرياض في ظل الثروة الطائلة للسلطة ، لولا أنّك من القائلين بمنع التوسل بذات النبي ، هل كان يخلد ببالك أن المراد من الدعاء الّذي علمه للضرير ، هو التوسل بدعاء النبي لا ذاته؟ ولولا أنك قد أخذت موقفاً مسبقاً في الموضوع ، هل كان يتردد في ذهنك تأويل ذلك النص؟ وأنت وأشياخك ونظراؤك تصبّون القارعات على الذين يؤوّلون الصفات الخبرية كاليد والاستواء والوجه ، وتصفونهم بالجهمية والمؤوّلة وغير ذلك من الألفاظ الركيكة ، فكيف تسوّغون تأويل هذا النص الّذي لا يرتاب فيه إلاّ من اتخذ رأياً مسبقاً؟

    وأمّا قوله : « وشفّعه فيّ » فقد قلنا إنّ المراد : اجعله شفيعاً لي ، وليس معناه استجب دعاءه في حقي ، وإلاّ لما عدل عن اللفظ الصريح إلى هذا اللفظ الّذي ليس بواضح في ما يريدون.

    والعجب أنّ الرفاعي يتمسك بالطحلب ويقول :

     « لو كان قصده التوسل بشخص الرسول أو بحقه أو بجاهه لكان يكفيه أن يبقى في بيته ، ويدعوا اللّه قائلا مثلا : اللّهمّ ردّ بصري بجاه نبيك ، دون أن يحضر ويتجشم عناء المشي ...

    ولكن ليس هذا بعجيب ممن اتّخذ رأياً مسبقاً في الموضوع ، وذلك لأنّ الضرير لم يكن متذكراً هذا النوع من التوسل حتّى يجلس في بيته ويتوسل به ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وإنّما علّمه النبي الأكرم ، وما معنى هذا الترقب من الرجل؟.

    ثمّ إنّ الكاتب يدّعي أن لفظ الحديث ومفاهيم اللغة العربية وقواعدها كلها تشهد بأنّ معناه هو التوسل بدعاء النبي ، ماذا يريد من لفظ الحديث؟ هل يريد المحاورة الأولى الّتي لا تمتّ إلى مركز الاستدلال وموضعه بصلة ، أو يريد الدعاء الّذي علمه الرسول؟ فهو يشهد بخلافه؟

 

________________________________________

(239)

    وماذا يريد من مفاهيم اللغة العربية وقواعدها ، وأيّة قاعدة عربية تمنع الأخذ بظاهر الدعاء؟

    (ما هكذا تورد يا سعد الإبل! ) .

    إنّك إذا قرأت ما جاء به الكاتب من صخب وهياج في ذيل كلامه ، لتعجبت من عباراته الفارغة وكلماته الجوفاء ، الّتي هي بالخطابة أشبه منها بالبرهان.

 

2 ـ التوسل بالنبي بتعليم من الصحابي الجليل

    روى الطبراني عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف : أنّ رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان ( رضي اللّه عنه ) في حاجة له ، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته ، فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه ، فقال له عثمان بن حنيف : ائت الميضأة ، فتوضأ ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل : « أللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) نبىّ الرحمة يا محمد! إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي لي حاجتي ، فتذكر حاجتك ، ورح حتّى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع ما قال له ، ثم أتى باب عثمان بن عفان ( رضي اللّه عنه ) فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفتان ( رضي اللّه عنه ) فأجلسه معه على الطنفسة ، فقال : حاجتك؟ فذكر حاجته وقضاها له ، ثم قال له : ما ذكرت حاجتك حتّى كان الساعة؟ وقال : ما كانت لك من حاجة فاذكرها ، ثم إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف ، فقال له : جزاك اللّه خيراً ، ما كان ينظر في حاجتي ، ولا يلتفت إلىّ حتّى كلّمته فىّ ، فقال عثمان بن حنيف : واللّه ما كلمته ، ولكن شهدت رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال له النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : فتصبر! فقال يا رسول اللّه. ليس لي قائد فقد شقّ علي. فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ائت الميضأة فتوضأ ، ثم صل ركعتين ، ثم ادع بهذه الدعوات ...

    قال ابن حنيف : فواللّه ما تفرقنا وطال بنا الحديث ، حتّى دخل علينا

 

________________________________________

(240)

الرجل كأنه لم يكن به ضرّ قط (1).

    ورواه في المعجم الصغير فقال : لم يروه عن روح بن القاسم إلاّ شبيب بن سعيد ، أبو سعيد المكي ، وهو ثقة ، وهو الّذي يحدث عنه أحمد ( ابن أحمد ) ابن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي ، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير بن يزيد ، وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة ، والحديث صحيح ، وروى هذا الحديث عون بن عمارة عن روح بن القاسم ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ( رضي اللّه عنه ) وهو فيه عون بن عمار ، والصواب شبيب بن سعيد (2).

    إنّ دلالة الحديث على جواز التوسل بالنبي أظهر من الشمس وأبين من الأمس ، ولكن الكاتب الوهابي أخذ يناقش في الحديث من جوانب أُخرى. فقال : « إنّ هذا الحديث تتجلى فيه آثار الصنع ، ويدل عليه أُمور :

    1 ـ إنّ ما ذكره لا يوافق سيرة عثمان بن عفان لما اشتهر عنه من الرقة واللين.

    2 ـ إنّ معنى التوسل عند الصحابة هو دعاء الشخص المتوسل به إلى اللّه تعالى بقضاء حاجة المتوسل ، لا كما يعرفه القوم في زماننا هذا من التوسل بذات المتوسل به.

    3 ـ لو كان دعاء الأعمى الّذي علّمه رسول اللّه دعاء ينفع لكل زمان ومكان ، لما رأينا أىّ أعمى على وجه البسيطة ».

    يلاحظ عليه : أنّ كل واحد من هذه الوجوه ساقط جداً لا يمكن أن يستدل به على جعل [وضع] الحديث.

    أمّا الأول : فلأنّ المعروف من الخليفة هو تكريم الأقربين والإحسان إليهم ، خصوصاً بني أبيه ، لا تعميمه إلى الجميع. هذا هو التاريخ ضبط عطاءه

________________________________________

1 ـ المعجم الكبير ، للحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني المتوفي سنة 360 هـ ، ج 9 ص 16 ـ 17 ، باب ما أسند إلى عثمان بن حنيف برقم 8310.

2 ـ المعجم الصغير للطبراني ج 1 ص 183 ـ 184 ، طبع دار الفكر.

(241)

لمروان بن الحكم خمس غنائم افريقية ، والحارث بن الحكم ثلاثمائة ألف درهم ، وقضى ما استقرضه الوليد بن عقبة من عبد اللّه بن مسعود الّذي كان أمين بيت المال في عصر ولاية الوليد على الكوفة ، إلى غير ذلك من عطاياه إلى بني أبيه وأقربائه (1) وفي الوقت نفسه كان أبو ذر يعيش في الربذة ويعاني من جوع أليم ، ويليه في الفقر وبساطة الحياة عبد اللّه بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، فلا يمكن أن يقال إنّ الخليفة كان ينظر إلى الجميع بعين واحدة ، وقد كان عمله هذا هو الّذي أجهز عليه وانتكث عليه فتله. هذا هو الإمام علىّ ( عليه السَّلام ) يصف ذلك العصر بقوله :

     « إلى أنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ نافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أبِيهِ يَخْضمُونَ مَالَ اللّه خِضْمَةَ الإبلِ نَبْتَةَ الرّبيعِ » (2).

    وفي رسالته إلى عثمان بن حنيف عامله على البصرة يقول :

     ( أوْ أبيتَ مِبْطاناً وَحَولي بُطُونٌ غَرْثَى وأكْبادٌ حَرّى ، أو أكُونَ كَمَا قَالَ القَائِلُ :

وَحَسْبُكَ دَاءً أنْ تَبِيتَ بِبِطْنَة                             وَحَوْلَكَ أكْبَادٌ تَحِنُّ إلى القِدّ (3)

    وهو يشير بذلك إلى الأوضاع السائدة في عصره وعصر من تقدمه.

    وأمّا الثاني فهو من : غرائب الكلام ، فقد جعل مذهبه دليلا على ضعف الرواية ، وهو أنّ معنى التوسل عند الصحابة ـ هو التوسل بدعاء الشخص لا بذاته ـ فمن أين يدّعي أن هذا مذهب الصحابة ، وما هو المصدر لذاك الحصر؟ مع أنّ الحديثين المرويين من طريق ذلك الصحابي الجليل ، يدلان على خلافه.

________________________________________

1 ـ لاحظ في ذلك تاريخ أبي الفداء ج 1 ص 168 ، والمعارف لابن قتيبة ، ص 84 ، والأنساب للبلاذري ج 5 ص 52 ولاحظ الغدير ج 8 ص 286 ، تجد فيه قائمة من عطايا الخليفة الهائلة لنبي أبيه.

2 ـ نهج البلاغة الخطبة 3.

3 ـ نهج البلاغة قسم الكتب رقم 45.

________________________________________

(242)

    وأمّا الثالث فهو إطاحة بالوحي وازدراء به ، ولو صحّ فلقائل أن يقول : لو صحّ قوله سبحانه : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُوني أسْتَجِب لَكُمْ ) (1) يجب أن لا يبقى على وجه البسيطة ذو حاجة.

    ولو صحّ قوله : ( أمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء ... ) (2) يجب أن لا يبقى على وجه البسيطة مضطرّ أو فقير ، مع أنّ البسيطة مليئة بالمضطر والمحتاج.

    نعم ، إنّ الدعاء سبب لنزول الرحمة ودفع الكربة ، ولكن ليس تمام السبب لإنجاح المقصود ، بل له شروط ومعدات ، وله موانع وعوائق ، ولأجل ذلك نرى أنّ كثيراً من الأدعية لا تستجاب مع أنّه سبحانه يحث عباده على الدعاء ، وأنّه يستجيب إذا دعاه ويقول : ( وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم ) .

    هذا كله حول مناقشاته في متن الرواية ومضمونه.. هلمّ معي نستمع مناقشته في السند :

    يقول : إنّ في سند هذا الحديث رجلا اسمه ( روح بن صلاح ) وقد ضعّفه الجمهور ، وابن عدىّ ، وقال ابن يونس : يروي أحاديث منكرة.

    يلاحظ عليه : أنّ الطبراني نقل الرواية بهذا السند :

     « حدثنا طاهر بن عيسى بن قريش المصري المقري ، ثنا أصبغ بن الفرح ، ثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي ، عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر الخطمي المدني ، عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان بن حنيف » (3).

    كما نقله بهذا السند في المعجم باختلاف يسير لا يضرّ بوحدة السند.

________________________________________

1 ـ سورة غافر : الآية 60.

2 ـ سورة النمل : الآية 62.

3 ـ المعجم الكبير للطبراني ج 9 ص 17 وفي المعجم الصغير أصبغ بن الفرج مكان ( الفرح ) .

________________________________________

(243)

    ورواه البيهقي بالسند التالي :

     « أخبرنا أبو سعيد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد ـ رحمه اللّه ـ أنبأنا الإمام أبوبكر محمد بن علي بن إسماعيل الشاشي القفال ، قال : أنبأنا أبو عروبة ، حدثنا العباس بن الفرج ، حدثنا إسماعيل بن شبيب ، حدثنا أبي عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر المديني ... ( إلى آخر السند ) (1).

    وأنت ترى أنه ليس في طريق الرواية « روح بن صلاح » بل الموجود هو روح بن القاسم ، والكاتب صرّح بأن الرواية رواها الطبراني والبيهقي ، وهذا يعرب عن أنّ الكاتب لم يرجع إلى المصادر وإنّما اعتمد على تقوّل الآخرين.

    نحن نفترض أنه ورد في سند الرواية روح بن صلاح ، ولكن ما ذكره من أنّ الجمهور ضعّفوه أمر لا تصدقه المعاجم الموجودة فيما بأيدينا ، وإنما ضعّفه ابن عدي ، وفي الوقت نفسه وثّقه ابن حبان والحاكم. وسيوافيك الكلام في حقه في حديث فاطمة بنت أسد ، فانتظر. أهكذا أدب نقد الرواية يا شيخ؟ هداك اللّه إلى النهج القويم.

    وفي الختام نقول : إنّ السبكي نقل الرواية عن المعجم الكبير للطبراني بنفس السند الّذي نقلناه ، وهذا يكشف عن صحة المطبوع (2).

 

4 ـ توسل الخليفة بعم النبي

    قبل أن نذكر نص توسل الخليفة عمر بعم النبي : ننبّه على أمر وهو :

    إنّ سيرة المسلمين في حياة النبي وبعد وفاته تعرب عن أنهم كانوا يتوسلون بأولياء اللّه ، من دون أن يتردد في خلد واحد منهم بأنه أمر حرام أو شرك أبو بدعة ، بل كانوا يرون التوسل بدعاء النبي والصالحين رمزاً إلى التوسل بالنبي ومنزلته وشخصيته ، فإنه لو كان لدعائه أثر ، فإنما هو لأجل قداسة نفسه

________________________________________

1 ـ دلائل النبوة ج 6 ص 168.

2 ـ لاحظ : شفاء السقام ص 139 ـ 140.

________________________________________

(244)

وطهارة ذاته ، ولولاها لما استجيبت دعوته ، فما معنى الفرق بين التوسل بدعاء النبي والتوسل بشخصه وذاته؟ حتّى يكون الأول نفس التوحيد ، والآخر عين الشرك أو ذريعة إليه؟

    لم يكن التوسل بالصالحين والطيبين والمعصومين والمخلصين من عباد اللّه أمراً جديداً بين الصحابة ، بل كان ذلك امتداداً للسيرة الموجودة قبل الإسلام ، فقد تضافرت الروايات التاريخية على ذلك ، وإليك البيان :

 

استسقاء عبدالمطلب بالنبي وهو رضيع

    إنّ عبد المطلب استسقى بالنبي الأكرم وهو طفل صغير ، حتّى قال ابن حجر : إنّ أبا طالب يشير بقوله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه                         ثمال اليتامى عصمة للأرامل

    إلى ما وقع في زمن عبدالمطلب حيث استسقى لقريش والنبي معه غلام (1).

 

استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام

    أخرج ابن عساكر عن أبي عرفة ، قال : قدمت مكة وهم في قحط ، فقالت قريش : يا أبا طالب أقحط الوادي ، وأجدب العيال ، فهلم فاستسق ، فخرج أبو طالب ومعه غلام يعني النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) كأنه شمس دجى تجلت عن سحابة قتماء ، وحوله أغيلمة ، فأخذ النبي أبوطالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ إلى الغلام وما في السماء قزعة ، فأقبل السحاب من هاهنا وها هنا وأغدق واغدودق ، وانفجر له الوادي ، وأخصب النادي ، والبادي ، وفي ذلك يقول أبوطالب :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه                         ثمال اليتامى عصمة للأرامل (2)

    وقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام ، بل استسقاء عبدالمطلب

________________________________________

1 ـ فتح الباري ج 2 ص 398 ودلائل النبوة ج 2 ص 126.

2 ـ فتح الباري ج 2 ص 494 والسيرة الحلبية ج 1 ص 116.

________________________________________

(245)

به وهو صبي أمراً معروفاً بين العرب ، وكان شعر أبي طالب في هذه الواقعة مما يحفظه أكثر الناس.

    ويظهر من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) كان موضع رضا منه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فإنه بعد ما بعث للرسالة استسقى للناس فجاءالمطر وأخصب الوادي فقال النبي : لو كان أبو طالب حياً لقرّت عيناه ، ومن ينشدنا قوله؟ فقام علىّ ( عليه السَّلام ) وقال : يا رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) كأنك أردت قوله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه                         ثمال اليتامى عصمة للأرامل (1)

    إنّ التوسل بالأطفال في الاستسقاء أمر ندب إليه الشارع; هذا هو الإمام الشافعي يقول في آداب صلاة الاستسقاء : « وأحب أن يخرج الصبيان ، و يتنظفوا للاستسقاء ، وكبار النساء ، ومن لا هيبة منهن; ولا أحب خروج ذات الهيبة ، ولا آمر بإخراج البهائم (2). ما هو الهدف من إخراج الصبيان والنساء الطاعنات في السن ، إلاّ استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم؟ كل ذلك يعرب عن أن التوسل بالأبرياء والصلحاء والمعصومين مفتاح الستنزال الرحمة وكأن المتوسل يقول : ربي وسيدي ، الصغير معصوم من الذنب ، والكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك ، وكلتا الطائفتين أحق بالرحمة والمرحمة. فلأجلهم أنزل رحمتك علينا ، حتّى تعمّنا في ظلّهم.

    إنّ الساقي ربما يسقي مساحة كبيرة لأجل شجرة واحدة ، وفي ظلها تسقى الأعشاب وسائر الخضراوات غير المفيدة.

    وعلى ضوء ذلك تقدر على تفسير توسل الخليفة بعمّ الرسول : العباس بن عبدالمطلب ، الّذي سنتلوه عليك ، وأنه كان توسلا بشخصه وقداسته وصلته بالرسول ، وأنه كان امتداداً للسيرة المستمرة قبل هذا ، ولا

________________________________________

1 ـ إرشاد الساري ج 2 ص 338.

2 ـ الأم ج 1 ص 230.

________________________________________

(246)

يمت إلى التوسل بدعاء العباس بصلة ، وإنما هو شيء اخترعه الوهابيون لحفظ موقفهم المسبق في هذه المباحث.

 

التوسل بعم النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم )

    ما تعرفت عليه سابقاً كان تقدمة لدراسة هذا الحديث الّذي يرويه البخاري في صحيحه ويقول : « كان عمر بن الخطاب إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبدالمطلب ( رضي اللّه عنه ) وقال : أللّهمّ إنّا كنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا. قال : فيسقون » (1).

    هذا نص البخاري ، وهو يدل على أنّ عمر بن الخطاب عند دعائه واستسقائه توسل بعم النبي وشخصه وشخصيته ، وقداسته وقرابته من النبي ، لا بدعائه ، ويدل على ذلك أُمور :

    1 ـ قول الخليفة عند الدعاء.. قال : « أللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا ». وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بالدعاء في مقام الاستسقاء ، وتوسل بعم الرسول في دعائه ، ولو كان المقصود هو التوسل بدعائه ، كان عليه أن يقول : يا عم رسول اللّه كنّا نطلب الدعاء من الرسول فيسقينا اللّه ، والآن نطلب منك الدعاء فادع لنا.

    2 ـ روى ابن الأثير كيفية الاستسقاء فقال : استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة لما اشتدّ القحط ، فسقاهم اللّه تعالى به ، وأخصبت الأرض ، فقال عمر : هذا واللّه الوسيلة إلى اللّه والمكان منه. وقال حسان :

سأل الإمام وقد تتابع جدبناعمّ النبي وصنو والده الذيأَحَيى الإله به البلاد فأصبحت                         فسقى الغمام بغرة العباسورث النبي بذاك دون الناسمخضرة الأجناب بعد إلياس

    ولما سقي الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون : هنيئاً لك ساقي الحرمين (2).

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري ، باب صلاة الإستسقاء ج 2 ص 32.

2 ـ الجزري : أُسد الغابة ج 3 ص 111 طبع مصر.

________________________________________

(247)

    أمعن النظر في قول الخليفة : هذا واللّه الوسيلة.

    3 ـ ويظهر من شعر حسان أنّ المستسقي كان هو نفس الخليفة وهو الداعي حيث قال : « سأل الإمام ... » وكان العباس وسيلته لاستجابة الدعاء.

    وأظنّ أنّ هذه الروايات الصحيحة لا تبقي شكاً ولا ريباً في خلد أحد في جواز التوسل بالصالحين.

 

تشكيك الرفاعي في دلالة الحديث

    يقول الرفاعي : « لا ريب في أنّ هذا الحديث صحيح ، وما ظنك بحديث يرويه الإمام البخاري » ولكنه بصلافة خاصة به يدَّعي أنه من قبيل توسل المؤمن بدعاء أخيه المؤمن ، ويقول : إنّ الحديث يخبرنا أنّ أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي اللّه عنه ) كلّف العباس أن يستسقي للمسلمين ويدعو اللّه تعالى أن يستسقيهم الغيث; وبيّن الأسباب الموجبة لتكليف العباس ، فقال : أللّهمّ إنّا كُنّا نتوسل إليك بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسل إليك بعم نبيّنا فاسقنا (1).

    ثم أضاف : أنّه لو كان قصده ذات العباس لكانت ذات النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أفضل وأعظم وأقرب إلى اللّه من ذات العباس بلا شك ولا ريب ، فثبت أن القصد كان الدعاء ولم تكن ذات الرسول مقصودة عندما كان حياً (2).

    لا أظن أنّ أحداً يحمل شيئاً من الإنصاف تجاه الحقيقة يسوغ لنفسه أن يفسر الحديث بما ذكره ، فمن أين يقول : إنّ عمر بن الخطاب كلّف العباس أن يستسقي للمسلمين ، بل الخليفة قام بنفسه بالاستسقاء متوسلا بعم النبي

________________________________________

1 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل ص 253.

2 ـ التوسل إلى حقيقة التوسل ، ص 253 و 256 وقد أخذه من ابن تيمية حيث قال : « وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به ، ويقولوا في دعائهم في الصحراء : نسألك ونقسم عليك بأنبيائك أو نبيك أو بجاههم ، مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 12.

________________________________________

(248)

العباس حيث قال : « أللّهمّ إنّا نتوسل .. » فإنّ الاستسقاء وظيفة الإمام ، وكان الإمام هو الخليفة نفسه لا العباس وقد عقد البخاري باباً وقال : ( باب إذا استشفعوا إلى الإمام يستسقي لهم لم يردهم ) (1).

    ويؤيد أنّ المستسقي هو الامام ومن كان معه في المصلى ، ما رواه المؤرخ الكبير ابن الأثير فقال : استسقى عمر بن الخطاب بالعباس ، عام الرمادة ، لما اشتد القحط ، فسقاهم اللّه تعالى به وأخصبت الأرض ، فقال عمر : هذا واللّه الوسيلة إلى اللّه والمكان منه. وقال حسان :

سأل الإمام وقد تتابع جدبناعم النبي وصنو والده الذيأحيى الإله به البلاد فأصبحت                         فسقى الغمام بغرة العباسورث النبي بذاك دون الناسمخضرة الأجناب بعد الياس

    ولما سقي الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون : هنيئاً لك ساقي الحرمين (2).

    يقول القسطلاني : إنّ عمر لما استسقى بالعباس قال : أيها الناسن إنّ رسول اللّه يرى للعباس ما يرى الولد للوالد ، فاقتدو به في عمه ، واتخذوه وسيلة إلى اللّه تعالى.

    ثم إنّ الاستسقاء وإن كان يتم بصرف الدعاء ، ولكن أفضله هو الاستسقاء بركعتين من الصلاة. وروى البخاري أنّ النبي استسقى فصلى ركعتين ، وقلب رداءه.

    وروى أيضاً أنّ النبي خرج إلى المصلّى يصلّي ، وأنّه لمّا دعا أو أراد أن يدعو استقبل القبلة وحوّل رداءه (3).

    ولو كان الاستسقاء بإقامة الصلاة ، فكانت الإمامة للخليفة ، والإئتمام للباقين.

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري ج 2 ص 20.

2 ـ أسد الغابة في معرفة الصحابة ج 3 ص 111 طبع مصر.

3 ـ صحيح البخاري ج 2 ص 31 ، أبواب الإستسقاء.

________________________________________

(249)

    ولو تحقق بصورة الدعاء ، فكان الدعاء من الخليفة ، و المرافقة بالتأمين من غيره. ولا ينافي ذلك أن يكون لكل من المأمومين دعاء على حدة ، وراء الدعاء الّذي يدعو به الإمام ، وقد ضبط متن الدعاء الّذي دعا به العباس ، وقد نقلوا أنه كان من دعائه :

    أللّهمّ لم ينزل بلاء إلاّ بذنب ، ولم يكشف إلاّ بتوبة ، وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة ، فاسقنا الغيث (1).

    ولقد ورد في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت استحباب إخراج الصغار الرضّع ، والكبار الركّع إلى المصلى ، ليكون الحال أنسب لنزول الرحمة الإلهية ، فإنّ الصغير معصوم من الذنب ، والكبير الطاعن في السن أسير اللّه في أرضه ، وكلتا الطائفتين ، أحق بالرحمة والمرحمة ، فببركتهم تنزل الرحمة وتعم غيرهم ، وبذلك يظهر الجواب عما ذكره الرفاعي من أنّه لو كان قصد الخليفة ذات العباس لكان النبي أولى وأقرب إلى اللّه من ذات العباس ـ لما عرفت ـ من أنّ الهدف من إخراج عم النبي إلى المصلى وضمه إلى الناس ، هو استنزال الرحمة ، قائلين بأننا لو لم نكن مستحقين لنزول الرحمة لكن عمّ النبي لها ، فأنزل رحمتك إليه لتريحهُ من أزمة القحط والغلاء وبالتالي تعم غيره; ومن المعلوم أن هذا لا يتحقق إلاّ بالتوسل بإنسان حي يكون شريكاً مع الجماعة في المصير ، وفي عناء العيش ورغده ، لا مثل النبي الراحل الخارج عن الدنيا و النازل دار الآخرة ، ولو توسل به أيضاً ، فإنما هو بملاك آخر ، ولم يكن مطروحاً في المقام.

 

4 ـ توسل الأعرابي بالنبي نفسه

    روى جمع من المحدثين أنّ أعرابياً دخل على رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وقال : لقد أتيناك وما لنا بعير يئط ، ولا صبي يغط ، ثم أنشأ يقول :

________________________________________

1 ـ إرشاد الساري ، للقسطلاني ، ج 2 ص 338.

________________________________________

(250)

أتيناك والعذراء تدمى لبانهاولا شيء مما يأكل الناس عندناوليس لنا إلاّ اليك فرارنا                        وقد شغلت أُم الصبي عن الطفلسوى الحنظل العامي والعلهز الفسلوأين فرار الناس إلاّ إلى الرسل؟

    فقام رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) يجر رداءه حتّى صعد المنبر ، فرفع يديه وقال : أللّهمّ اسقنا غيثاً مغيثاً ... فما رد النبي يديه حتّى ألقت السماء ... ثم قال : للّه در أبي طالب ، لو كان حياً لقرت عيناه. من ينشدنا قوله؟

    فقام علىّ بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) وقال : كأنّك تريد يا رسول اللّه قوله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجههيطوف به الهُلاّك من آل هاشم                   ثمال اليتامى عصمة للأراملفهم عنده في نعمة وفواضل

    فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : أجل.

    فأنشد علىّ ( عليه السَّلام ) أبياتاً من القصيدة ، والرسول يستغفر لأبي طالب على المنبر ، ثم قام رجل من كنانة وأنشد يقول :

لك الحمد والحمد ممن شكر                          سقينا بوجه النبي المطر (1)

 

دلالة الحديث

    إنّ الإمعان في مجموع الرواية يعرب عن أنّ الأعرابي توسل بشخص النبي وطلب منه قضاء حاجته ، والدليل على ذلك الأُمور التالية :

    أ ـ أتيناك وما لنا بعير يئط.

    ب ـ أتيناك والعذراء تدمى لبانها.

    ج ـ وليس لنا إلاّ إليك فرارنا.

________________________________________

1 ـ السيرة الحلبية ج 1 ص 116 ، لاحظ فتح الباري ج 2 ص 494 والقصيدة مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام ج 1 ص 272 ـ 280.

(251)

    د ـ واين فرار الناس إلاّ إلى الرسل؟

    هـ ـ إنشاء علىّ بن أبي طالب شعر والده ، وهو يتضمن قوله : « وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ».

    روى ابن عساكر عن أبي عرفة قال : قدمت مكة وهم في قحط ، فقالت قريش : يا ابا طالب! أقحط الوادي وأجدب ، فهلم واستسق ، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجى ، فأخذه ابو طالب فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ بأصبعه الغلام وما في السماء قزعة ، فأقبل السحاب من هيهنا وهيهنا وأغدق واغدودق ، انفجر له الوادي ، وأخصب البادي والنادي ، وإلى تلك الحادثة يشير أبوطالب في شعره :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه                         ثمال اليتامى عصمة للأرامل (1)

    فمماثلة الحادثتين تحكم بأنّ التوسل كان بذات النبي ، كما كان توسل أبي طالب بنفس النبي.

    و ـ قول رجل من كنانة في شعره ، « سقينا بوجه النبي المطر ».

    كل ذلك يعرب عن أنّ التوسل كان من الأعرابي وغيره بنفس النبي.

    نعم إنّ النبي الأكرم قام بالدعاء ، فلا يكون دعاء النبي قرينة على أنّ الأعرابي توسل بدعائه ، إذ لا منافاة بين أن يكون توسله بشخص النبي وكرامته وفضيلته ، وبين أن يقوم النبي بقضاء حاجته ( استنزال المطر ) بطلبه من اللّه سبحانه.

    فمن يريد أن يؤوّل هذه النصوص ويجعلها من قبيل التوسل بالدعاء ، فهو إنما يحاول دعم رأيه المسبق.

 

نقد ما ذكره الرفاعي

    إنّ الشيخ الرفاعي لكونه قد اتخذ موقفاً مسبقاً خاصاً في التوسل بالأنبياء

________________________________________

1 ـ مر المصدر.

________________________________________

(252)

والصالحين ، تجشّم عناء تأويل نصوص الأحاديث بما يتبناه ، ولما كان الحديث صريحاً في التوسل بنفس النبي صار يعترض على هذه الدلالة قائلا بأنّ الأعرابي جاء إلى النبي لأن يدعوا اللّه لهم بأن يستسقيهم الغيث ، وإلاّ لبقي الأعرابي في منزله ، واكتفى أن يقول وهو في بيته : اللّهمّ اسقنا الغيث بجاه نبيك ، أو بذات نبيك ، ولما تجشّم المجيء من أهله وبيته إلى النبي في المدينة (1).

    يلاحظ عليه : أنَّه لا منافاة بين الأمرين حتّى يكون أحدهما قرينة على الأُخرى ، حتّى يتصرّف في النصوص بتفسيرها الخاص بالتوسل إلى الدعاء ، فالأعرابي توسل بذات النبي ، ولا يهمّه سوى قضاء حاجته من اي طريق كان ، سواء أتحقق بدعاء النبي أم بإعجازه و كرامته ، وأمّا أنه لماذا تجشم عناء المجي من أهله وبيته إلى النبي ولم يكتف بالتوسل نفسه فلأنه كان يرى للمثول أمامه فضيلة وكرامة ، أو أنّ توسله بشخصه إذا انضمّ إليه دعاء النبي يوجب قضاء حاجته ولا يتحقق إلاّ بالحضور لديه ، فلأجل ذلك جاء إلى النبي وتوسل بشخصه وشخصيته ، فصار ذلك سبباً لقيام النبي ، ولا يعني هذا أنه توسل بدعائه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) إذ لا منافاة بين أن يتوسل الأعرابي بشخصه ، وبين أن يكون هذا داعياً للنبي أن يقوم بالدعاء ، فلا يكون دعاؤه قرينة على كيفية التوسل.

    وأخيراً يؤاخذ الرفاعي بأنه ذكر متن الحديث بصورة مختصرة ، فترك ما ذكرناه من القرائن ، ولم يشر إلى المصادر الكثيرة الّتي نقلت هذا الحديث.

 

المناقشة في سند الحديث

    جاء الرفاعي يناقش في سند هذا الحديث بأنّ في سنده ( مسلم الملائي ) ، ونقل عن علماء الرجال أنه متروك ، وقال أحمد : لا يكتب حديثه. وقال يحيى : ليس بثقة ، وقال البخاري : يتكلمون فيه ، وقال يحيى أيضاً : زعموا أنه اختلط ، وقال النسائي وغيره : متروك ، وقال الذهبي : إنّه روى

________________________________________

1 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل ص 291 وقد أخذه من شيخه ابن تيمية. لاحظ مجموعة الرسائل والمسائل ج 1 ص 13.

________________________________________

(253)

حديث الطير الّذي أهدته أُم أيمن لرسول اللّه ، وحديث الطائر موضوع عند أهل الحديث.

    أقول : إنّ ذيل العبارة يكشف عن الدافع الّذي دفع هؤلاء إلى تضعيف الرجل ، وهو ليس إلاّ كونه ناقلا لفضيلة ساطعة للإمام علىّ بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) .

    روى أحمد بن حنبل بسنده عن سفينة مولى رسول اللّه قال : أهدت امرأة من الأنصار إلى رسول اللّه طيرين بين رغيفين ، فقدمت إليه الطيرين ، فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : أللّهمّ ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك ، فجاء علىّ ( عليه السَّلام ) فرفع صوته ، فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : من هذا؟ قلت : علىّ ، قال : فافتح له ، ففتحت له فأكل من الطير مع النبي حتّى فنيا (1).

    وعلى ضوء هذا لا تقام لهذا التضعيف قيمة.

 

5 ـ توسل المنصور بالنبي بتعليم مالك

    إنّ المنصور الدوانيقي سأل مالك بن أنس ، إمام المالكية ، عن كيفية زيارة رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) والتوسل به ، فقال لمالك :

    يا أبا عبداللّه ، أستقبل القبلة وأدعو. أَم أَستقبل رسول اللّه؟

    فقال مالك في جوابه :

    لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى اللّه يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به فيشفعه اللّه ، قال اللّه تعالى : ( ولَو أنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنفُسَهُم جاءُوكَ فَاستَغْفَروا اللّهَ واستغفرَ لَهُم الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ) (2).

________________________________________

1 ـ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج 2 ص 560 ورواه غيره لاحظ العمدة لابن البطريق ص 242 ـ 253.

2 ـ وفاء الوفاء ج 2 ص 253 ، النساء : 64.

________________________________________

(254)

    وقد نقل ابن حجر الهيثمي عن الإمام الشافعي هذين البيتين :

آل النبي ذريعتيأرجو بهم أُعطى غداً                   وهمُ إليه وسيلتيبيدي اليمين صحيفتي (1)

    هذه النقول و النصوص من أئمة الأمة و مشاهير تكشف عن أمرين :

    1 ـ إنّ التوسل بالصالحين ـ وفي الطليعة الأنبياء العظام ـ كان أمراً رائجاً بين المسلمين ، ولم يخطر ببال أحد أنّه شرك ، كما لم يخطر ببالهم التفريق بين التوسل باشخاصهم وذواتهم ، ولم يصنع هذا التفريق سوى الوهابيين الذين يسعون في الحط من منزلة الصالحين ومكانتهم ، ويجعلون التوسل بدعائهم كالتوسل بدعاء الأخ المؤمن ، وإنّه لا فرق بين هذا وذاك ، وهم وإن كانوا لا يصرحون بهذه التسوية ، لكنهم يكنون ذلك ويضمرونه.

    2 ـ إنّ هذه النصوص تفسّر لنا قوله تعالى : ( يَا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الوَسيلَةَ وَجَاهِدوا في سَبيلِهِ لَعِلَّكُم تُفْلِحُونَ ) (2).

    فإنّ الوسيلة سواء أفسّرت بمعنى القرابة والمنزلة والدرجة ، كما عليه أكثر المفسرين مأخوذاً من قولهم توسلت إليه ، أي تقرّبت.

    قال عنترة بن شداد :

إن الرجال لهم إليك وسيلة                               أن يأخذوك تلجلجي وتحصني

    ويقال : وسل إليه ، أي : تقرّب. قال لبيد :

    بلى كل ذي رأي إلى اللّه واسل.

    وعليه فمعنى الوسيلة : الوصلة والقربة.

    أم فسرت بما يتقرب به إلى الغير ويجمع على الوسائل والوسل ، كما عليه أهل اللغة ، قال الجوهري في صحاحه : الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير ، والجمع الوسل والوسائل ، وتوسل إليه بوسيلة أي : تقرُّب إليه بعمل.

    وفي القاموس : الوسيلة والواسلة : المنزلة عند الملك والدرجة والقربة.

________________________________________

1 ـ الصواعق المحرقة ص 178.

2 ـ سورة المائدة : الآية 35.

________________________________________

(255)

    وفي المصباح : وسلت إلى اللّه بالعمل : رغبت وتقربت ، ومنه اشتقاق الوسيلة ، وهي ما يتقرب به إلى اللّه ، والجمع الوسائل ، وعلى أي تقدير :

    فالتوسل بالصالحين بما لهم من مكانة ومنزلة عند اللّه ، إمّا أنّه بذاته تقرب إلى اللّه تعالى ، لأنّ إظهار المودة لمن يحبه اللّه محبوب وعمل صالح ، أو وسيلة يتقرب به الإنسان إلى اللّه سبحانه ، فهذه النقول تعرب عن مصداق للوسيلة في عرض سائر المصاديق من الأعمال الصالحة والعبادات ، خصوصاً الجهاد ضد العدو الداخلي والخارجي الّذي جاء في ذيل الآية ، فتخصيص الوسيلة بالعبادات والاستغفار تخصيص بلا جهة.

    إلى هنا تم الكلام حول التوسل بالصالحين أنفسهم وذواتهم ، وبقي الكلام في التوسل بمنزلتهم وكرامتهم وحقهم ، وإليك البيان :

     ( وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُم وَمَا يُعْلِنُونَ ) (1).

________________________________________

1 ـ سورة القصص : الآية 69.

________________________________________

(256)

أقسام التوسل :

(2)

التوسل إلى اللّه بحق النبي وحرمته ومنزلته

    إنّ من التوسلات الرائجة بين المسلمين منذ وقعوا في إطار التعليم الإسلامي ، التوسل بمنازل الصالحين وحقوقهم على اللّه.

    وليس معنى ذلك أنّ للعباد أو لبعضهم على اللّه سبحانه حقّاً ذاتياً يلزم عليه سبحانه [عدم] الخروج عنه ، بل للّه سبحانه الحق كلّه ، فله على الناس حقّ العبادة والطاعة إلى غير ذلك ، بل المراد المقام والمنزلة الّتي منحها سبحانه عباده تكريماً لهم ، وليس لأحد على اللّه حقّ إلاّ ما جعله اللّه سبحانه حقّاً على ذمّته لهم تفضّلا وتكريماً ، قال سبحانه : ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ المُؤمِنِينَ ) (1).

    وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن أحلاف اللّه سبحانه بحق المخلوق ، فانتظر.

    إنّ هذا النوع من التوسل لا يفترق عن التوسل بذات النبىّ وشخصه ، فإنّ المنزلة والمقام مرآة لشخصه وذاته ، فإنّ حرمة الشخص وكرامته ومنزلته نابعة من كرامة ذاته وفضيلتها ، فلو صحّ التوسل بالأوّل كما تعرفت عليه من الأحاديث ، يصحّ الثاني من دون إشكال أو إبهام.

    ويدلّ عليه من الأحاديث ما نذكره :

________________________________________

1 ـ سورة الروم : الآية 47.

________________________________________

(257)

أ ـ التوسل بحق السائلين

    روى عطية بن العوفي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) قال : « من خرج من بيته إلى الصلاة فقال : اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك ، وأسألك بحقّ ممشاي هذا ، فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة ، خرجت اتّقاء سخطك وابتغاء مرضاتك ، أن تعيذني من النار وأن تغفر ذنوبي إنّه لايغفر الذنوب إلاّ أنت. إلاّ اقبل اللّه عليه بوجهه ، واستغفر له سبعون ألف ملك » (1).

    فالحديث واضح مضموناً ، ويدل على أن للإنسان أن يتوسل إلى اللّه بحرمة أوليائه الصالحين ومنزلتهم وجاههم ، فيجعلها وسيلة لقضاء حاجته.

    إنّ الكاتب الوهابي الرفاعي ، حيث لم يجد ضعفاً في الدلالة ، أخذ يضعف سند الحديث ، قائلا بأنّ « في سنده عطية العوفي وهو ضعيف » (2).

    أقول : إنّ الدافع الوحيد لتضعيف عطية ، ذلك التابعي الشهير ، كما وصفه به الذهبي في ميزان الاعتدال هو تشيّعه وولاؤه لعلي وآله ( عليهم السَّلام ) ، ولأجل ذلك نرى أنّ الذهبي ينقل عن سالم المرادي : « كان عطية يتشيّع » ، وإنّ التشيّع أحد وجوه التضعيف لدى القوم ، ومع ذلك قال أبو حاتم : يكتب حديثه ، ضعيف ، وقال ابن معين : صالح.

    وقال ابن حجر في تقريب التهذيب : « عطية بن سعد بن جناده العوفي الجدلي الكوفي أبوالحسن صدوق يخطئ كثيراً ، كان شيعياً مدلساً » (3)

    وقال في تهذيب التهذيب : قال ابن عدي : قد روى عن جماعة من الثقات ، ولعطية عن أبي سعيد أحاديث عدة ، وعن غير أبي سعيد ، وهو مع ضعفه يكتب حديثه ، وكان يعدّ من شيعة أهل الكوفة. قال الحضرمي : توفي سنة إحدى عشرة ومائة.

________________________________________

1 ـ سنن ابن ماجة ، ج 1 ص 256 ، الحديث برقم 778 ومسند الإمام أحمد ، ج 3 ، ص 21.

2 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل ، ص 212.

3 ـ تقريب التهذيب ، ج 2 ص 24 ، برقم 216.

________________________________________

(258)

    وقال ابن سعد : خرج عطية مع ابن الأشعث فكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم أن يعرض عليه سبّ علىّ ـ إلى أن قال ـ وكان ثقة إن شاء اللّه ، وله أحاديث صالحة. كان أبو بكر البزار يعده في التشيع ، روى عن جلّة الناس. وقال الساجي : ليس بحجة ، وكان يقدّم عليّاً على الكل (1).

    وهذه النصوص تعرب عن تضارب الأقوال في حقه ، كما تكشف عن أنّ الدافع المهم لتضعيفه ، تشيّعه وحبّه وولاؤه وتقديمه علياً ، وهل هذا ذنب؟.

    إنّ لوضع الحديث دوافع خاصة يوجد أكثرها في أبواب المناقب والمثالب وخصائص البلدان والقبائل ، أو فيما يرجع إلى مجال العقائد ، كالبدع الموروثة من اليهود والنصارى في أبواب التجسيم والجهة والجنة والنار ، وأمّا مثل هذا الحديث الّذي يعرب بوضوح عن أنه كلام إنسان خائف من اللّه سبحانه ، ترتعد فرائصه من سماع عذابه ، فبعيد عن الوضع والجعل.

 

ب ـ توسل النبي بحقه و حق من سبقه من الأنبياء

    روى الطبراني بسنده عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه ، أنه لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُم علي ـ رضي اللّه عنهما ـ دخل عليها رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فجلس عند رأسها ، فقال : رحمك اللّه يا أُمي. كنت أُمي بعد أُمي ، تجوعين وتشبعينني ، وتعرين وتكسينني ، وتمنعين نفساً طيباً وتطعمينني ، تريدين بذلك وجه اللّه والدار الآخرة ، ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً ، فلما بلغ الماء الّذي فيه الكافور ، سكبه رسول اللّه بيده ، ثم خلع رسول اللّه قميصه فألبسها إياه ، وكفّنها ببرد فوقها ، ثم دعا رسول اللّه أُسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري ، وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون ، فحفروا قبرها ، فلمّا بلغوا اللحد ، حفره رسول اللّه بيده ، وأخرج ترابه بيده ، فلمّا فرغ دخل رسول اللّه فاضطجع فيه وقال : « اللّه الّذي يحيي ويميت وهو حىّ لا يموت ، اغفر لأُمي فاطمة بنت أسد ، ولقّنها حجتها ، ووسّع عليها مدخلها بحق نبيك

________________________________________

1 ـ تهذيب التهذيب ، ج 7 ص 227 ، برقم 413.

________________________________________

(259)

والأنبياء الذين من قبلي ، فإنك أرحم الراحمين » ، وكبّر عليها أربعاً ، وأدخلها اللحد هو والعباس وأبوبكر.

    رواه الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ( 260 ـ 360 هـ ) .

    والاستدلال به مبني على تمامية الرواية سنداً و مضموناً ، وإليك البحث فيهما معاً :

    1 ـ رواه الطبراني في المعجم الأوسط ، ص 356 ـ 357 ، وقال : لم يروه عن عاصم إلاّ سفيان الثوري ، تفرّد به « روح بن صلاح ».

    2 ـ ورواه أبو نعيم من طريق الطبراني في حلية الأولياء : 3/121.

    3 ـ رواه الحاكم في مستدركه ، ج 3 ، ص 108 ، وهو لا يروي في هذا الكتاب إلاّ الصحيح على شرط الشيخين ( البخاري و مسلم ) .

    4 ـ رواه ابن عبد البر في الإستيعاب. لاحظ هامش الإصابة ، ج 4 ، ص 382.

    5 ـ نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء ، ج 2 ، ص 118 ـ برقم 17.

    6 ـ ورواه الحافظ نور الدين الهيثمي المتوفى سنة 708 هـ في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ، ج 9 ص 256 ـ 257.

    وقد جمع فيه زوائد مسند الإمام أحمد ، وأبي يعلى الموصلي أبي بكر البزاز ، ومعاجم الطبراني الثلاثة ، وقال : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ، وفيه روح بن صلاح وثقَّه ابن حبان والحاكم ، وفيه ضعف ، وبقية رجاله رجال الصحيح.

    7 ـ رواه المتقي الهندي في كنز العمال ، ج 13 ، ص 636 ، برقم 37608.

    هؤلاء الحفاظ نقلوا الحديث في جوامعهم ، وصرّحوا بأنّ رجال السند رجال الصحيح ، وأنه لو كان هناك ففي روح بن صلاح ، وقد وثَّقهُ العلمان : ابن حبان والحاكم.

 

________________________________________

(260)

    وقال الذهبي : روح بن صلاح المصري ، يقال له ابن سيابة ، ضعّفه إبن عدي ، يكنّى أبا الحارث ، وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الحاكم : ثقة مأمون (1).

    ولكن الكاتب الوهابي المعاصر يقول في سند الحديث : إنّ هذا الحديث غير صحيح لأنّ في سنده رجلا هو روح بن صلاح وقد ضعّفه الجمهور ، وقد روى أحاديث منكرة ، كما صرح بذلك ابن يونس وابن عدي (2).

    وأنت خبير بأنّه إنما ضعّفه ( ابن عدي ) وأين هذا من قوله : وقد ضعّفه الجمهور ، أليس ابن حبان من أعلام الحديث ورجاله؟ أو ليس الحاكم هو الحافظ الكبير الّذي استدرك على صحيحي الشيخين بما تركاه؟

    إنّ الإنسان إذا اتّخذ موقفاً مسبقاً في الموضوع ، يحاول أن يضعف الصحيح والقوي ، ويقوي ويصحح الضعيف ، وعلى كل تقدير فليس لنا ترك هذا الحديث وعدم العمل به بمجرد تضعيف ابن عدي لتوثيق غيره.

    وأظن ـ وظن الألمعي صواب ـ أنّ الدافع إلى تضعيف نظراء روح بن صلاح هو ولاؤه ومودته لأهل بيت النبوة ، حيث نقل هذه الدرة الباهرة في حق أُم سيد الأوصياء.

    هذا كله حول السند ، وأمّا الدلالة فلا أظن أنّ من يملك شيئاً من الإنصاف يشك في دلالة الحديث على توسل النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) بحقه وحق أنبيائه.

 

ج ـ توسل آدم بحق النبي

    روى البيهقي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : لمّا اقترف آدم الخطيئة قال : ربي أسألك بحق محمد لما غفرت لي ، فقال اللّه عزّوجلّ : يا آدم. كيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال : لأنك يا

________________________________________

1 ـ ميزان الاعتدال ، ج 2 ، ص 85 ، رقم 2801.

2 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل ، ص 227.

(261)

رب لمّا خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً : لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه ، فعلمت أنّك لم تضف إلى إسمك إلاّ أحب الخلق إليك ، فقال اللّه ـ عزّوجلّ ـ : صدقت يا آدم. إنه لأحب الخلق إلىَّ وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك. ولو لا محمد ما خلقتك.

    قال البيهقي : تفرد به عبدالرحمن بن زيد بن أسلم ، من هذا الوجه عنه ، وهو ضعيف ( واللّه أعلم ) (1).

    إنّ الشيخ الرفاعي لما رأى صراحة الحديث في التوسل بحق النبي أخذ يناقش في الحديث من جهات أُخرى ، وإليك بيانه :

    1 ـ إنّ الحديث تضمّن الإقسام على اللّه بمخلوقاته ، وهو أمر خطير يقرب من الشرك ، إن لم يكن هو ذاته ، فالإقسام على اللّه بمحمد وهو مخلوق بل وأشرف المخلوقين لا يجوز ، لأنّ الحلف بمخلوق على مخلوق حرام ، وإنه شرك لأنه حلف بغير اللّه ، فالحلف على اللّه بمخلوقاته من باب أولى.

    يلاحظ عليه : أنّه سيوافيك جواز الحلف بالمخلوق ، سواء حلف بمخلوق على مخلوق أو بمخلوق على اللّه ، وأن القرآن مليء بالإقسام بالمخلوقات ، فلو كان أمراً حراماً أو ذريعة إلى الشرك أو الشرك نفسه لما حلف سبحانه بمخلوقاته ، وسيوافيك توضيحه ، ولا يلازم الحلف بالمخلوق جعله في مرتبة الخالق ، بحجة « إنّا نحلف باللّه فلو حلفنا بمخلوقه يلزم من ذلك جعله في مرتبة الخالق » ، كيف ونحن نطيع اللّه سبحانه ونطيع رسوله ، أفهل يتصور من ذلك أنّا جعلنا الرسول في مرتبة الخالق؟ قال سبحانه : ( أَطيعوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسولَ وأُولي الأمْرِ مِنْكُم ... ) (2) ، قال سبحانه : (أَنِ اشْكُرْ لي وَلِوالِدَيكَ إلَىَّ المَصيرُ ) (3) ، أفيلزم من ذلك أن يكون الوالدان في رتبة الخالق

________________________________________

1 ـ دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة ، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ( ت 384 ـ م 458 هـ ) طبع دار الكتب العلمية ـ بيروت ، ج 5 ، ص 489.

2 ـ سورة النساء : الآية 59.

3 ـ سورة لقمان : الآية 14.

________________________________________

(262)

لأنّه سبحانه أمر بشكر نفسه وشكر الوالدين.

    إنّ الحلف لا يستلزم أزيد من كون المحلوف به أمراً عظيماً عزيزاً لائقاً بالحلف به ، وأمّا كونه في درجة الخالق فزعم عجيب واستدلال غريب.

    وأمّا كونه شركاً فقد عرفت أنّ المقصود هو الشرك في العبادة ، والعنصر المقوم لتحققها هو الاعتقاد بكونها إلهاً أو ربّاً أو مفوضاً إليه فعله سبحانه ، والمفروض عدمه.

    ترى أنّ الكاتب يجعل معتقده دليلا على بطلان الحديث وضعفه ، أهكذا أدب النقد؟.

    2 ـ إنّ الحوار الوارد في الحديث كان بعد اقتراب الخطيئة ، ولكنّه قبل أن يخطىء ، علّمه اللّه الأسماء كلها ، ومن جملة الأسماء كلها اسم محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وعلم أنه نبي ورسول ، وأنه خير الخلق أجمعين ، فكان أحرى أن يقول آدم : ربي إنك أعلمتني به أنه كذلك ، لمّا علمتني الأسماء كلها.

    يلاحظ عليه : أنَّ المسكين زعم أن المراد من الأسماء أسماء الموجودات ، وغفل عن أن المراد هو العلم بحقائق الكون وقوانينه وسننه ورموزه بقرينة قوله سبحانه : « ثم عرضهم على الملائكة » فلو كان المراد الأسماء لكان الأنسب أن يقول : ثم عرضها ، على أنّه لا فضيلة رابية في تعلّم أسماء الموجودات وألفاظها.

    سلمنا أن المراد ما ذكره ، لكن الظاهر من الحديث أنه وقف على ذلك بعد الخلقة ونفخ الروح فيه ، قبل أن يحظى بتعلّم الأسماء كلها ، حيث قال : لمّا خلقتني بيدك ونفخت فىَّ من روحك ، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش ...

    والمتبادر من العبارة أن هذا العلم كان علماً خاصاً جزئياً وقف عليه بعد فتح عينيه على الحياة في الجنة ، قبل تعلمه جميع الأسماء ، وأمّا هو فقد كان مرحلة أُخرى أوسع من هذا العلم ، بل لا يقاس عليه.

    وبالجملة : إنّ الحديث لا غبار عليه من حيث الدلالة. نعم يقع الكلام

 

________________________________________

(263)

في السند. فقد ورد فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقد ضعّفه الذهبي اعتماداً على تضعيف أحمد وغيره (1).

    ولكن الحاكم النيسابوري أورده في مستدركه ، قائلا بصحته (2).

    وعلى ذلك فليس الخبر على حد يحكم عليه بالوضع والجعل ، كما يصر عليه الرفاعي بل هو كسائر الأحاديث الّتي اختلف العلماء في تصحيحها ، فلو لم يكن دليلا على المدعى يكون مؤيداً له ، كيف وقد رواه جلال الدين السيوطي في تفسيره (3).

    وهناك نكتتان ننبه عليهما :

    الأُولى : إنّ أحاديث التوسل وإن كانت تتراوح بين الصحيح والحسن والضعيف ، لكن المجموع يعرب عن تضافر المضمون وتواتره ، فعند ذلك تسقط المناقشة في أسنادها بعد ملاحظة ورود كمية كبيرة من الأحاديث في هذا المجال ، وأنت إذا لاحظت ما مضى من الروايات ، وما يوافيك ، تذعن بتضافر المضمون أو تواتره.

    الثانية : نحن نفترض أنّ الحديث الراهن مجعول موضوع ، ولكنه يعرب عن أنّ التوسل بالمخلوق والإقسام على اللّه بمخلوقاته ليس شركاً ولا ذريعة إليه ، بل ولا حراماً.

    وذلك لأنّه لو كان شركاً وذريعة إليه أو حراماً ، لما رواه الرواة الثقات واحد عن واحد ، وهم أعرف بموازين الشرك ومعاييره ، ولما أورده الأكابر من العلماء في المعاجم الحديثية ، كالبيهقي في دلائل النبوة ، والحاكم في مستدركه ، والسيوطي في تفسيره ، والطبراني في المعجم الصغير ، وأكابر

________________________________________

1 ـ ميزان الاعتدال ، ج 2 ص 564.

2 ـ المستدرك على الصحيحين ، ج 2 ص 615.

3 ـ الدر المنثور ، ج 1 ص 59 ، ونقله كثير من المفسرين عند تفسير الآية.

________________________________________

(264)

المفسرين في القرون الغابرة ، لأنّ الشرك أمر بيّن الغىّ ، فلا معنى ولا مسوّغ لنقله بحجة أنه رواية.

    فكل ذلك يعرب عن الفكرة الخاطئة في توصيف الحلف على اللّه بمخلوقاته شركاً (1).

    ( فَبِأَىِّ حَدِيث بَعْدَهُ يُؤمِنونَ ) (2).

________________________________________

1 ـ قد تركنا البحث عن التوسل بجاه النبي الوارد في كلام الرفاعي لأنه ليس قسماً ثالثاً ، بل داخلا في القسم الثاني ، أي التوسل بحقه.

2 ـ سورة المرسلات : الآية 50.

________________________________________

(265)

أقسام التوسل :

(3)

التوسل بدعاء النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم )

    قد تعرفت في صدر البحث على أنّ ابن تيمية وأتباعه يجوّزون التوسل بدعاء النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في حال حياته ، ويجعلونه من التوسلات الجائزة الداخلة في إطار « التوسل بدعاء الأخ المؤمن » ولكنهم يخصّونه بحال حياته ، ويحرّمونه بعد رحلته ، قال ابن تيمية :

     « أجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به حال حياته ويتوسلون بحضرته ، وأمّا في مغيبه أو بعد موته فلم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين ، بل عمر بن الخطاب ومعاوية ومن كان يحضرهما من الصحابة والتابعين لما أجدبوا استسقوا بمن كان حياً كالعباس ويزيد بن الأسود ، ولم ينقل عنهم أنهم في هذه الحالة استشفعوا بالنبي عند قبره ولا غيره ، بل عدلوا إلى خيارهم ... ثم إنّ المسلمين بعد موته إنما توسلوا بغيره من الأحياء بدلا عنه ، فلو كان التوسل به ـ حياً وميتاً ـ مشروعاً لم يميلوا عنه وهو افضل الخلق وأكرمهم على ربه ، إلى غيره ممن ليس مثله. فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون ، وهم أعلم منّا برسوله وبحقوق اللّه ورسوله ، وما يشرع من الدعاء وما ينفع ، وما لا يشرع ولا ينفع ، وما يكون أنفع من غيره ، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات ، وتيسير العسير ، وإنزال الغيث بكل طريق ، دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه ، ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه ، وذلك أنّ التوسل به حياً هو الطلب لدعائه وشفاعته ، وهو من جنس مسألته أن يدعو ، فما زال المسلمون

 

________________________________________

(266)

يسألونه ليدعو لهم في حياته ، وأمّا بعد موته فلم يسأل الصحابة منه ذلك ، لا عند قبره ولا عند غيره كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصحالين (1).

    وقد علق السيد محمد رشيد رضا مؤلف المنار على هذا الموضوع بقوله :

     « يزعم بعض الناس في زماننا أنّه لا فرق في طلب الدعاء والشفاعة منه بين هذه الحياة و الممات ، لأنّه حي في قبره وكأنهم يدعون أنهم أعلم من الصحابة وسائر أئمة السلف بذلك ، فالصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ فرقوا بين الحالين ، وإن شئت قلت بين الحياتين ، والأُمور التعبّدية لا تشرع بالعقل ولا بالقياس (2).

    يلاحظ عليه : أنّ المعروف أنّ السنّة عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره ، فالحجة عبارة عن أحد هذه الأمور ، ونحن نفترض أن الصحابة بأجمعهم من المعصومين. فإنّ أقصى ما يمكن أن يحتج به هو أنّ فعل الصحابة دليل على جواز الفعل ، وأمّا أنّ تركهم دليل على حرمته ، وعدم جوازه ، فمن عجائب الأُمور وغرائبها ، ولم يعهد هذا الاستدلال من أهل الفتوى والدليل.

    وأمّا عدول الصحابة عن التوسل بدعاء النبي في حال مماته ، إلى التوسل ببعض أهل بيته فقد ذكرنا وجهه ، وهو : أنّ التوسل بالإنسان الصالح الحي لأجل إظهار أن ذلك الفرد يتّحد مع المتوسلين في المصير ، وأنه لولا نزول الرحمة لعمَّهُ الهلاك والدمار مثلهم ، وبما أنه صالح لنزول الرحمة عليه ، فلتنزل رحمتك عليه يا رب فإنه أهل لذلك ، وإن كنا غير مستحقين لها.

    ومن المعلوم أنّ ترسيم هذا ، الّذي هو أحد الأسباب لاستنزال الرحمة ، إنما يتحقق بالصالح الحي دون غيره ، لأنّ غير الحي ليس متحداً في المصير مع الأحياء ، ولأجل ذلك نرى الصحابة يتوسلون بالحي دون غيره ، وما هذا إلاّ

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل ، ج 1 ص 14.

2 ـ المصدر نفسه.

________________________________________

(267)

لأجل ذلك. وقد أشار إلى ذلك « السبكي » وقال : ليس في توسله بالعباس إنكار للتوسل بالنبي أو بالقبر ، ولعل توسل عمر بالعباس لأمرين :

    أحدهما : ليدعو كما حكينا من دعائه.

    الثاني : إنَّه من جملة من يستسقي وينتفع بالسقيا وهو محتاج إليه ، بخلاف النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في هذه الحالة فإنه مستغن عنها ، فاجتمع في العباس الحاجة وقربه من النبي وشيبه ، واللّه يستحيي من ذي الشيبة المسلم ، فكيف من عم نبيه ، ويجيب دعاء المضطر فلذلك استسقى عمر بشيبته (1).

    هذا ويصرح الذكر الحكيم بأنه ما نفع إيمان قوم بعد إشراف العذاب عليهم ، إلاّ قوم يونس ، قال سبحانه :

     ( فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إيمَانُها اِلاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ في الحَيَاةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِين ) (2).

    ذكر المفسرون : إنّ قوم يونس لما عاينوا العذاب ، أشار إليهم العالم الموجود فيهم بقوله : افزعوا إلى اللّه فلعلّه يرحمكم ويرد العذاب عنكم ، فاخرجوا إلى المفازة وفرّقوا بين النساء والأولاد وبين سائر الحيوان وأولادها ، ثم ابكوا وادعوا. ففعلوا فصرف عنهم العذاب (3).

    ولم يكن هذا العمل إلاّ لأجل استنزال الرحمة على النحو الّذي عرفت.

    نعم ، ما ذكره في آخر كلامه من أنه أمر عبادىّ يحتاج إلى الدليل فهو كلام متقن ، ولكنّه ليس معناه أن يكون الدليل المطلوب دليلا بالخصوص ، بل لو كان هناك عام أو إطلاق حول التوسل بدعاء النبي فيؤخذ بإطلاقه ، سواء أكان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في دار التكليف أم في البرزخ ، وإليك البيان :

________________________________________

1 ـ شفاء السقام : ص 143 ـ 144.

2 ـ سورة يونس : الآية 98.

3 ـ مجمع البيان : ج 3 ص 135.

________________________________________

(268)

    وهو يتوقف على بيان أُمور :

 

1 ـ بقاء الروح بعد الموت

    دلّت الآيات القرآنية على بقاء الروح بعد الموت ، وأنّ الموت ليس بمعنى فناء الإنسان ، بل هو عبارة عن انخلاع الروح عن البدن ، وبقائه مستقلا عنه ، من غير فرق بين المسلم وغيره ، والمقتول في سبيل اللّه وغيره ، والآيات في ذلك متضافرة.

    قال سبحانه : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْياءٌ ولَكِنْ لا تَشْعُرونَ ) (1) ، وهناك آيات نشير إلى مواردها ، ومن أراد التوسع في الموضوع : فليرجع إليها (2).

 

2 ـ الحقيقة الإنسانية هي الروح

    إنّ الإنسان وإن كان بحسب التحليل الظاهري يتركب من شيئين : المادة والمعنى ، والجسم والروح ، ولكن الحقيقة الإنسانية عبارة عن نفس الإنسان وروحه ، ولأجل ذلك يردّ الوحي الإلهي على من زعم أنّ البدن الإنساني يضل في العالم بعد الموت ، حيث حكى عنهم قولهم : ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْق جَديد ) فردّ عليهم بقوله :

     ( قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (3).

    ومعنى التوفّي في الآية هو الأخذ ، ومعنى الآية أنّ تناثر أجزاء البدن في أجواء العالم وثناياه ، لا يضر بالمعاد ، فإنّ الحقيقة الإنسانية وواقعيتها محفوظة عند اللّه ، وأنّ ملك الموت يأخذكم ، وليس المأخوذ إلاّ الروح.

________________________________________

1 ـ سورة البقرة : الآية 154.

2 ـ لاحظ : سورة آل عمران : الآية 169 ـ 171 ، سورة يس : الآية 25 ـ 26 ، سورة غافر الآية 46 .

3 ـ سورة السجدة : الآية 10 ـ 11.

________________________________________

(269)

3 ـ إمكان الاتصال بالأرواح

    إنّ الذكر الحكيم يصدق صحة اتصال الإنسان العائش في الدنيا بالأرواح المتواجدة في عالم البرزخ ، ويصرّح بأنّ بعض الأنبياء كصالح وشعيب كلّموا أرواح أُممهم الهالكة ، ويظهر ذلك بالإمعان في الآيات التالية :

    يقول في حق أُمة شعيب :

     ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحوا في دَارِهِمْ جاثِمينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوا فِيها ، الَّذينَ كَذَّبوا شُعَيباً كانُوا هُمُ الخَاسِرينَ * فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقَالَ يا قَوْمِ لَقَد أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلَى قَوْم كافِرينَ ) (1) .

    ترى أنّ قوله : « فتولّى عنهم » جاء بعد الإخبار بدمارهم وهلاكهم كما هو صريح سياق الآيات ، وعندئذ خاطب الهالكين بقوله : « يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ... ».

    ويقول في حق أُمة صالح :

     ( فَعَقَروا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرسَلينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبِحُوا في دَارِهِمْ جَاثِمينَ * فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحينَ ) (2) .

    وكيفية الاستدلال واضحة بعد التدبّر في ما ذكرناه ، فإنّ المخاطبة والمحاورة وقعت بعد هلاكهم ، فلا يمكن لنا رفض سياق الآية والقول بأنه كلمهم في حال حياتهم.

    إنّ الذكر الحكيم يأمر النبي بسؤال المرسلين ويقول : ( وَاسْأَلْ مَنْ

________________________________________

1 ـ سورة الأعراف : الآية 91 ـ 93.

2 ـ سورة الأعراف : الآية 77 ـ 79.

________________________________________

(270)

أرْسَلنا مِنْ قَبْلِكِ مِنْ رُسُلِنَا أجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) (1) .

    وتأويل الآية بإرجاعها إلى سؤال علماء أهل الكتاب تأويل بلا دليل ، ولا منافاة بينهما حتّى يرجع أحدهما إلى الآخر.

    إنّ المسلمين جميعاً يخاطبون النبي بالسلام في حال التشهد ، ويقولون : « السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته » وقد اتفق الفقهاء على كونه جزءاً من التشهّد (2).

    وفي ضوء هذه الأُمور الثلاثة تثبت إمكانية التوسل بالأرواح المقدسة ، فالأولياء والأنبياء من جانب أحياء يرزقون ، من جانب آخر ، إنّ حقيقة الإنسان هى النفس الباقية بعد الموت أيضاً ، ومن جانب ثالث ، إِنَّ الأنبياء كلّموا أرواح أُممهم الماضية. كل ذلك يدل على إمكانية الاتصال بهم ووقوعه ، وأنهم يسمعون كلامنا وسلامنا ومحاورتنا.

    بقي الكلام في جواز التوسل شرعاً ، حتّى يكون تعبداً مع الدليل.

    إنّ الذكر الحكيم يحثّ المذنبين على المجيء إلى النبي وطلب الاستغفار منه يقول : ( وَلَو أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم جَاُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (3) والمتبادر إلى أذهاننا في هذا الزمان اختصاص الآية بحال حياة النبي ، ولكن الصحابة فهموا منه الأعم من حال الحياة والارتحال إلى الرفيق الأعلى ، ويدل على ذلك ما نذكر :

    1 ـ روى البيهقي عن مالك قال : أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطاب فجاء رجل إلى قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا رسول اللّه. استسق اللّه لأُمتك فإنهم قد هلكوا ، فأتاه رسول اللّه في المنام وقال : ائت عمر

________________________________________

1 ـ سورة الزخرف : الآية : 45.

2 ـ الخلاف ، للشيخ الطوسي ، ج 1 ص 47 ، وقد نقل صوراً مختلفة للتشهد عن أئمة المذاهب والكل يشتمل على خطاب النبي بالسلام.

3 ـ سورة النساء : الآية 64.

(271)

فاقرئه السلام وأخبره أنهم مسقون (1).

    فالحديث يعرب عن أنّ التوسل بدعاء النبي بعد رحلته كان رائجاً ، ولو كان عملا محرّماً أو بدعة فلماذا توسل هذا الرجل بدعائه؟ ولماذا بكى الخليفة بعد سماع كلامه ، كما هو في ذيل الحديث ؟

    يقول السمهودي بعد نقل الحديث : ومحل الاستشهاد طلب الاستسقاء منه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وهو في البرزخ ، ودعاؤه لربه في هذه الحالة غير ممتنع ، وعلمه بسؤال من يسأله قد ورد ، فلا مانع من سؤال الاستسقاء وغيره منه كما كان في الدنيا (2).

    2 ـ روى ابن عساكر في تاريخه ، وابن الجوزي في « مثير الغرام الساكن » وغيرهما بأسانيدهم إلى محمد بن حرب الهلالي قال : دخلت المدينة فأتيت قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فزرته وجلست بحذائه ، وجاء أعرابي فزاره ثم قال : يا خير الرسل! إنّ اللّه أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه : ( ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم ـ إلى قوله : ـ رحيماً ) وإني جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي متشفعاً بك ، وفي رواية : « وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي » ثم بكى وأنشأ يقول :

ياخير من دفنت بالقاع أعظمهنفسي الفداء لقبر أنت ساكنه                       فطاب من طيبهن القاع والأكمفيه العفاف وفيه الجود والكرم

    ثم استغفر وانصرف.

    3 ـ وقال السمهودي : قال الحافظ أبو عبداللّه محمد بن موسى بن النعمان في كتابه « مصباح الظلام » : إنّ الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علىّ بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفنّا رسول اللّه بثلاثة أيام ، فرمى بنفسه على قبر النبي وحثا من ترابه على

________________________________________

1 ـ دلائل النبوة ، ج 7 باب ما جاء في رؤية النبي في المنام ، ص 47.

2 ـ وفاء الوفاء : ج 4 ص 1371.

________________________________________

(272)

رأسه وقال : يا رسول اللّه. قلت قسمعنا قولك ، ووعيت من اللّه سبحانه منا وعينا عنك ، وكان فيما أنزل عليك : ( ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوكَ فاستغفروا اللّه ... ) وقد ظلمت وجئتك تستغفر لي (1).

 

شبهات للكاتب الوهابي

    إنّ للكاتب الوهابي ، الرفاعي صخباً وهياجاً حول الحديث ، فقد أشكل عليه بوجوه ستة لا يهمنا ذكرها والإجابة عن جميعها ، لأنه غفل عن كيفية الاستدلال بهذه النقول ، وسنشير إليها. نعم ، يهمنا أن نذكر بعض اعتراضاته :

    1 ـ يقول : إنّ التوسل بدعاء النبي بعد موته رهن أن يسمع الرسول أو يتكلم ، أو يصدر عنه أي عمل بعد موته ، مع أنه قد انقطع عمله نهائياً كما قال هو( عليه السَّلام ) : « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ عن ثلاث : صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له » ولا شك أنّ رسول اللّه يشمله هذا الحديث.

    عزب عن المسكين مفاد الحديث ، فإنه بصدد بيان انقطاع ابن آدم عن العمل الّذي يترتب عليه الثواب ، بقرينة استثناء الأُمور الثلاثة ، وقال أميرالمؤمنين في هذا المجال : « وإنّ اليوم عمل ولا حسابن ، وغداً حساب ولا عمل » (2).

    وقال أيضاً : « الا وإنّ اليوم المضمار ، وغداً السباق ، والسبقة الجنة ، والغاية النار ، أفلا تائب عن خطيئة قبل منيته ، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه؟ » (3).

    فكيف يمكن القول بانقطاع عمل الميت نهائياً مع أنّ الشهداء في سبيل

________________________________________

1 ـ وفاء الوفاء : ج 4 ص 1361.

2 ـ نهج البلاغة; الخطبة 42.

3 ـ نهج البلاغة; الخطبة 28.

________________________________________

(273)

    اللّه يقومون بأعمال ينوّه بها الذكر الحكيم ويقول : ( فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِم أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة مِنَ اللّهِ وَفَضْل وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤمِنينَ ) (1).

    أو ليس الفرح بما أوتوا من فضله سبحانه ، والاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم ، والاستشعار بعدم الخوف والحزن ، والاستبشار بنعم اللّه سبحانه ، أفعالا للراحلين إلى دار الآخرة؟ مضافاً إلى ما ورد من أنهم يرزقون عند ربهم (2).

    2 ـ يقول : إنّ الحياة البرزخية حياة لا يعلمها إلاّ اللّه ، فهي حياة مستقلة نؤمن بها ولا نعلم ماهيتها ، وإنّ بين الأحياء والأموات حاجزاً يمنع الاتصال فيما بينهم قطعياً ، وعلى هذا فيستحيل الاتصال بينهم ، لا ذاتاً ولا صفاتاً واللّه سبحانه يقول : ( وَمِنْ وَرائِهمْ بَرْزَخٌ إلى يَومِ يُبْعَثُونَ ) (3).

    عجيب واللّه أمر هذا الرجل ، إنه يأتي بالشُّبه والأوهام بصورة البرهان ، ويجتهد في مقابل النص ، وقد تعرفت على الآيات الّتي تحدثت عن محاورة الأنبياء أرواح أممهم الهالكة ، وقد تعرفت على أنه سبحانه أمر النبي بالسؤال عن الأنبياء. فما هذا الاجتهاد في مقابل النص؟

    لقد تناسى الرجل حديث تكلم النبي مع أصحاب القليب المقتولين من كفرة قريش ، وقد ذكره أصحاب الحديث والتاريخ ، وإليك نص صحيح البخاري في ذلك : وقف النبي على قليب بدر وخاطب الذين قُتلوا وأُلقيت أجسادهم في القليب :

    لقد كنتم جيران سوء لرسول اللّه ، أخرجتموه من منزله وطردتموه ، ثم اجتمعتم عليه فحاربتموه ، وقد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً.

________________________________________

1 ـ سورة آل عمران : الآية 170 ـ 171.

2 ـ سورة آل عمران : 169.

3 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل : ص 267 ، سورة المؤمنون : الآية 100.

________________________________________

(274)

    فقال له رجل : يا رسول اللّه ما خطاب لِهام سديت؟

    فقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : واللّه ما أنت بأسمع منهم ، وما بينهم وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع من حديد إلاّ أن أعرض بوجهي ـ هكذا ـ عنهم (1).

    وروى ابن هشام عن أنس بن مالك ، قال : لما سمع أصحاب رسول اللّه كلام رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) من جوف الليل وهو يقول : يا أهل القليب ، وياعتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ، ويا أُمية بن خلف ، ويا أبا جهل بن هشام ـ فعدّد من كان منهم في القليب ـ هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فقال المسلمون : يا رسول اللّه. أتنادي قوماً قد جيفوا؟ (2) قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني (3).

    لما وقعت الفتنة بالبصرة ، خرج كعب بن سور ، وكان قاضي البصرة لحرب خليفة رسول اللّه وإمام زمانه ، ولما كان النصر حليفاً له ( عليه السَّلام ) مرّ على جسد كعب بن سور ، فقال لمن حوله : أجلسوا كعب بن سور ، فأجلسوه بين شخصين يمسكانه ، فقال ( عليه السَّلام ) : يا كعب بن سور قد وجدت ما وعدني ربي حقاً ، فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟ ثم قال : أضجعوه ، وسار قليلا حتّى مرّ بطلحة بن عبيد اللّه ، فقال : أجلسوا طلحة ، فكلّمه بمثل ما كلّم كعب بن سور ، فقال له رجل : يا أميرالمؤمنين ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك؟ فقال ( عليه السَّلام ) : يا رجل واللّه لقد سمعا كلامي ، كما سمع أهل القليب كلام رسول اللّه (4).

    3 ـ يقول إنّ القرآن يخبر بأنّ النبي لا يستطيع إسماع الموتى ويقول : ( إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى ) (5) ، وقال ( وَمَا أَنْتَ بَمُسمِع مَنْ فِي

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري : ج 5 ، باب قتل أبي جهل ، ص 76 ـ 77.

2 ـ قد جيفوا : أي قد صاروا جيفة.

3 ـ السيرة النبوية لابن هشام ، ج 2 ص 294 ، طبع دار إحياء التراث العربي ـ بيروت.

4 ـ الجمل ، للشيخ المفيد ، ص 210 ط النجف ، حق اليقين للسيد شبر ، ج 2 ، ص 73.

5 ـ سورة النمل : الآية 80.

________________________________________

(275)

القُبُورِ ) (1) ، والرسول بعد أن توفّاه اللّه هو من الموتى ومن أهل القبور ، فثبت انه لا يسمع دعاء أحد من أهل الدنيا (2).

    ولكنّه غفل عن أنّ طرف المحاورة ليس الأجساد الخالية عن الأرواح ، بل أرواح هذه الأبدان ، فإنّ لها عيشة برزخية مقترنة مع بدن برزخي. وأمّا الوقوف على القبر ـ مع أنّ التكلّم مع أرواحهم لا مع أجسادهم ـ فإنما هو لأجل تحصيل حالة نفسانية يستطيع معها الإنسان التوجه إلى أرواحهم ، والالتفات إليهم حتّى يكلمهم بما يقصد.

    ومن عجيب الأمر أنه يقول : إنّ قوله سبحانه : ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ... ) يختص بالمنافقين ، فعلى ما ذكره يكون المنافق أعز عند اللّه من المؤمن ، حيث يجوز للأول ، طلب الاستغفار منه دون المؤمن ، فهو أشمل لرحمة اللّه من الثاني « فاقض ما أنت قاض » مع أنّ مورد الآية لا يخصّص إطلاقها ، بل الآية عامة لكل من ظلم نفسه سواء أكان منافقاً أم غيره.

    هذا عمدة ما استدل به الكاتب على عدم صحة الاحتجاج بالرواية ، وأمّا الإشكال على سنده ، أو اشتمال متنه على الشذوذ فلا يضر أبداً ، فلنفترض نحن أنّ السند ضعيف ، وأنّ في المتن بعض الإشكال ، لكن لو كان التوسل بدعاء النبي بعد رحلته شركاً يوجب الخروج عن الدين ، أو أمراً محرّماً يجب أن يتوب عنه المسلم ، فلماذا قامت جموع كثيرة من المحدثين بنقله والاحتجاج به ، أوَ ليس عاراً على محدّث إسلامي أن ينقل في جامعه وكتابه أثراً يشتمل على الشرك والأمر المحرّم الواضح ، ولا يعود عليه بشيء.

    ولنفترض أنّ الراوي وضع هذا الحديث ولم يكن له حقيقة ، ولكن الواضع إنما يضع الحديث لأجل إلفات الناس إليه ، فلو كان ذلك الأمر موجباً للشرك أو ما يقارنه ، فالدواعي تكون عن وضعه مصروفة. كل ذلك يعرب

________________________________________

1 ـ سورة فاطر : الآية 22.

2 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل ، ص 268.

________________________________________

(276)

عن أنّ هذا العمل كان أمراً مباحاً فجاء هذا الراوي ينقل هذا الأمر على عفو الخاطر.

    والاستدلال بهذه الرواية وما يأتي بعده بهذا الوجه ، ولأجل ذلك لم نحاول أن نصحح السند.

    4 ـ روى السمهودي عن الإمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابه « مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام » عن محمد بن المنكدر : أودع رجل أبي ثمانين ديناراً وخرج للجهاد ، وقال لأبي : إنّ احتجت أنفقها إلى أن أعود. وأصاب الناس جهد من الغلاء ، فأنفق أبي الدنانير ، فقدم الرجل وطلب ماله ، فقال أبي : عد إلىَّ غداً ، وبات بالمسجد يلوذ بقبر النبي مرة وبمنبره مرة ، حتّى كاد أن يصبح يستغيث بقبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فبينما هو كذلك فإذا بشخص في الظلام يقول :

    دونكها يا أبا محمد. فمدّ أبي يده ، فإذا بصرّة فيها ثمانون ديناراً ، فلمّا أصبح جاء الرجل فدفعها إليه (1).

    وقد نقل السمهودي في هذا الفصل قصصاً كثيرة عن شخصيات إسلامية ، فمن أراد فليرجع إليه (2).

    وقد تعرّفت أنّ كيفية الاستدلال بهذه القصص ليس على أساس صحة إسنادها أو خلو متونها عن الشذوذ ، وإنما هو على أساس أنه لو كان هذا الأمر شركاً أو أمراً محرماً لما اهتم المحدثون والمؤرخون بنقلها ، بل ولما قام الوضّاعون بوضعها ، فإن الغرض من وضع الحديث هو بثّه بين المحدثين الواعين ، ومن المعلوم أنه إذا كان التوسل بدعاء النبي بعد رحلته شركاً وبدعة على ما تدعيه الوهابية ، لكانت الدواعي عن وضعها ونقلها مصروفة جداً ، وهذا يعرب عن ان العمل كان مشروعاً وسائغاً بين المسلمين ، فلأجل ذلك قام هؤلاء بنقل

________________________________________

1 ـ وفاء الوفاء : ج 4 ص 1380.

2 ـ نفس المصدر : ج 4 ص 1380 ـ 1387.

________________________________________

(277)

هذه الأحاديث ، وقام المتوسلون ـ على فرض الصحة ـ بهذا العمل ، أو قام الوضاعون على احتمال ، بوضعها.

    إلى هنا تبيّنت أحكام التوسل بأقسامه الثلاثة :

    * التوسل بذوات الصالحين وأنفسهم.

    * التوسل بحقهم ومنزلتهم ومكانتهم.

    * التوسل بدعائهم بعد رحلتهم ووفاتهم.

    وأرى أن بسط الكلام في هذه المواضع أزيد من ذلك ضياع للوقت ، ومن أراد الحق فيكفيه ما حررناه ، فطوبى لمن يستمع القول ويتبع أحسنه ، وتبّاً لقوم « نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم كانهم لا يعلمون ».

     ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إلَيهِ الوَسيلةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (1).

________________________________________

1 ـ سورة المائدة : الآية 35.

________________________________________

(278)

________________________________________

(279)

(8)

إبن تيمية وطلب الشفاعة ممن ثبت كونه شفيعاً

    إتفق المسلمون عامة على شفاعة النبي الأكرم يوم القيامة ، وإن اختلفوا في معنى الشفاعة بين كونها سبباً لغفران الذنوب كما عليه الأشاعرة والإمامية وأهل الحديث ، أو لترفيع الدرجة كما عليه المعتزلة. إنما الكلام في طلب الشفاعة من النبي في حال حياته ومماته ، فالمسلمون إلى عهد ابن تيمية اتفقوا على جوازه حياً وميتاً ، وهو من فروع طلب الدعاء من المشفوع له ، إلى أن جاء ابن تيمية في القرن الثامن الهجري ورفع راية الخلاف بين المسلمين ، وقال : « لا يجوز طلب الشفاعة من النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فهو يسلم بأن نبي الإسلام وسائر الأنبياء لهم حق الشفاعة في الآخرة ، ولكن يقول : لا يطلب الشفاعة إلاّ من اللّه ، يقول ابن تيمية :

     « قد ذكر العلماء وأئمة الدين الأدعية المشروعة وأعرضوا عن الأدعية المبتدعة ، ثم بيّن مراتب الأدعية المبتدعة على النحو التالي » :

    1 ـ الدعاء لغير اللّه سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً ، وسواء أكان من الأنبياء( عليهم السَّلام ) أم غيرهم فيقال : يا سيدي فلان أغثني ، وأنا مستجيرك ونحو ذلك ، فهذا هو الشرك باللّه ...

    2 ـ أن يقول للميت أو الغائب من الأنبياء : ادع اللّه لي ، أو ادع لنا ربك ونحو ذلك ، فهذا لا يستريب عالمٌ أنه غير جائز ...

    3 ـ أن يقول : أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته ونحو ذلك ، فهو

 

________________________________________

(280)

الّذي تقدم عن أبي محمد أنه أفتى بأنه لا يجوز في غير النبي ، وأفتى أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما أنه لا يجوز في حق أحد من الأنبياء ، فكيف بغيرهم ... ؟ (1)

 

يلاحظ على مجموع ما ذكره :

    أمّا القسم الأول ، فإنّ عدّه شركاً ، عجيب جداً ، هذا هو القرآن الكريم يذكر عن شيعة موسى قوله : ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَُدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيهِ ) (2) ، ومعه كيف يقول : إنّ قول القائل « يا سيدي فلان أغثني » شرك سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً ، أوَ لم يكن موسى حياً حين استغاثه الّذي من شيعته؟ ولو خصّ الشرك بصورة كون المدعو ميتاً ـ فمع أنه مخالف لصريح كلامه ـ لا يكون سبباً للشرك ، إذ لا معنى لكون خطاب في حال ، عين التوحيد ، وفي أُخرى نفس الشرك ، نعم ، الموت والحياة يؤثران في الجدوائية وعدمها.

    وأمّا القسم الثالث ، أعني قول القائل : أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته ، فهو داخل في القسم الثاني من التوسل الّذي قدمنا الكلام فيه ، وذكرنا هناك توسل شخص النبي بحقه وحق الأنبياء.

    نعم ، الكلام في القسم الثاني ، وهو أن يخاطب الأنبياء والصالحين بقوله : « ادع اللّه لي ، أو ادع لنا ربك » وهذا هو الّذي ذكر في حقه « أنه لا يستريب عالم في أنه غير جائز » مع أنّ طلب الشفاعة هو طلب الدعاء من الشافعين في حال حياتهم ومماتهم.

    ثم إنّ لأتباع محيي مسلك ابن تيمية في القرن الثاني عشر ، أعني محمد بن عبدالوهاب ، تعبيراً واضحاً في ذلك المجال يقول :

     « إنّ طلب الشفاعة يجب أن يكون من اللّه لا من الشفعاء بأن يقول :

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل : ج 1 ص 22.

2 ـ سورة القصص : الآية 15.

(281)

اللّهمّ شفّع نبيّنا محمداً فينا يوم القيامة ، أو اللّهمّ شفّع فينا عبادك الصالحين ، أو ملائكتك أو نحو ذلك مما يطلب من اللّه لا منهم ، فلا يقال : يا رسول اللّه أو يا ولي اللّه أسألك الشفاعة أو غيرها مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه ، فإذا طلبت ذلك في أيام البرزخ كان ذلك من أقسام الشرك (1).

    هكذا نرى أنّ الاتهام بالشرك أرخص وأوفر شيء في كتب الوهابية وشيخها ابن تيمية ، ولتحقيق الحال نركّز على أمرين يبتني عليهما جواز طلب الشفاعة عن الأنبياء والصالحين في هذه الدنيا وهما :

    1 ـ إنّ طلب الشفاعة هو طلب الدعاء.

    2 ـ إنّ طلب الدعاء من الصالحين أمر مستحب في الاسلام ، وقد جوّزته الوهابية إذا كان المدعو حياً ، وإليك بيانهما :

 

أ ـ طلب الشفاعة هو طلب الدعاء

    إنّ شفاعة النبي وسائر الشفعاء هي الدعاء إلى اللّه وطلب المغفرة منه سبحانه للمذنبين ، واللّه سبحانه أذن لهم في الدعاء في ظروف خاصة ، فيستجاب فيما أذن ، وهم لا يدعون في غير ما أذن اللّه لهم.

    نعم ، نحن لا نحيط بكنه الشفاعة في يوم القيامة ، ولعلّ لها في ذلك اليوم مرتبة أُخرى ، ولكن الدعاء إلى اللّه من مراتبها ومن أوضح مصاديقها ، فقول القائل مقابل قبر النبي « يا وجيهاً عند اللّه اشفع لنا عند اللّه » لا يقصد إلاّ هذا المعنى. هذا هو المفسر المعروف النيسابوري يذكر عن مقاتل في تفسير قوله تعالى : ( مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصيبٌ مَنْهَا ، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ) (2) : ... الشفاعة إلى اللّه إنما هي دعوة اللّه لمسلم (3).

________________________________________

1 ـ الهدية السنية ، الرسالة الثانية : ص 42 والرسالة لأحد أتباعه.

2 ـ سورة النساء : الآية 85.

3 ـ تفسير النيسابوري : ج 5 ص 118 بهامش تفسير الطبري.

________________________________________

(282)

    وهذا هو الإمام الرازي يفسر الشفاعة بالدعاء والتوسل إلى اللّه ، فقد قال في تفسير قوله سبحانه : ( وَيَسْتَغْفِرون لِلَّذينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَىء رَحْمَة ) هذه الآية تدل على حصول الشفاعة من الملائكة للمذنبين ، وإذا ثبت هذا في حق الملائكة فكذلك في حق الأنبياء ، لا نعقاد الإجماع على أنه لا فرق (1).

    وقال أيضاً قال تعالى لمحمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : ( وَاسْتَغْفِرْ لَذَنبِكَ وَلِلمُؤمِنينَ وَالْمُؤمِنَات ) فأمر محمداً أن يذكر أوّلا الاستغفار لنفسه ، ثم بعده يذكر الاستغفار لغيره ، وحكى عن نوح ( عليه السَّلام ) أنه قال : ( رَبِّ اغْفِرْلي وَلِوالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بِيتِيَ مُؤمِناً وَلِلْمُؤمِنينَ وَالمُؤمِنات )(2).

    وعلى هذا فالشفاعة هي دعاء الشفيع للمذنب ، وطلب الشفاعة منه هو طلب الدعاء منه ، وقد سمي في الأحاديث : دعاء المسلم لأخيه المسلم شفاعة له ، روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس عن النبي أنه قال : ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لايشركون باللّه إلاّ شفّعهم اللّه فيه (3).

    فلو أنّ رجلا أوصى في حال حياته أربعين رجلا من أصدقائه الأوفياء على أن يقوموا بالدعاء له بعد موته وفوته ، فقد طلب الشفاعة منهم.

    وقد أفرد البخاري في صحيحه باباً بعنوان « إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم » وأفرد باباً آخر بعنوان « إذ استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط » (4).

    كل ذلك يدل على أنّ الشفاعة بمعنى الدعاء إلى اللّه ، وطلبها هو طلب الدعاء.

________________________________________

1 ـ مفاتيح الغيب : ج 7 ص 286 ـ طبع مصر ، سورة غافر : الآية 7.

2 ـ مفاتيح الغيب : ج 8 ص 220 ، سورة محمد : الآية 19 و سورة نوح : الآية 28.

3 ـ صحيح مسلم : ج 3 ص 54.

4 ـ صحيح البخاري ج 2 ص 29 ـ أبواب الاستسقاء.

________________________________________

(283)

ب ـ طلب الدعاء من المؤمن ليس شركاً ولا حراماً

    لا يتصور أن يكون طلب الدعاء من المؤمن أو الصالح أو الأنبياء العظام شركاً سواء أكانوا أحياءً أمْ أمواتاً ، أمّا الأحياء فقد صرح القرآن الكريم بجوازه ، وأمر الظالمين بالمجيء إلى النبي وطلب الاستغفار منه. قال سبحانه :

     ( وَلَو أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرو اللّهَ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدوا اللّهَ تواباً رحيماً ) (1). وحكى عن ولد يعقوب أنهم قالوا لأبيهم ( يَا أبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوفَ أسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ) (2) .

    كما أنه لا يكون شركاً ، لا يكون حراماً أيضاً ، ونحن ننقل مجموعة من الأحاديث مما ورد فيه طلب الشفاعة :

    1 ـ هذا هو الترمذي يروي في صحيحه عن أنس أنه قال : سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة فقال : أنا فاعل. قلت : فأين أطلبك؟ قال : على الصراط (3).

    والعجب من الشيخ الرفاعي الّذي يأتي بكل ما ذكره ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب حرفاً بحرف ، لكن بثوب جديد وصبغة جديدة ، استشكل على الاستدلال بهذا الحديث بقوله :

    2 ـ إنّه ليس من قبيل التوسل بالمخلوق ، بل من قبيل التوسل إلى ربه بدعاء أخيه المؤمن له.

    3 ـ طلب أنس من الرسول أن يشفع له يوم القيامة ، يفيد أن أَنَساً

________________________________________

1 ـ سورة النساء : الآية 64.

2 ـ سورة يوسف : الآية 97 ـ 98.

3 ـ سنن الترمذي : ج 4 ص 42 ، باب ما جاء في شأن الصراط.

________________________________________

(284)

يقصد أن يدعو له اللّه تعالى أن يشفّعه به يوم القيامة ، أي يجعله في جملة الحد الّذي يحده له فيشفع فيهم (1).

    يلاحظ عليه : أنّ الهدف من الاستدلال بالحديث هو إثبات جواز طلب الشفاعة من المخلوق ، لا التوسل بذوات المخلوقين ، فإنه بحث آخر ، وله حجج أُخرى قدمناها. هذا حول الإشكال الأول.

    وأمّا الثاني فهو تأويل لظاهر الحديث دعماً للمذهب الّذي تبناه ، فإنّ المتبادر من قوله : « سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة » أي قلت له يا رسول اللّه اشفع لي يوم القيامة ، وأين هو من التأويل الّذي يذكره الرفاعي من أنه قصد أن يدعو اللّه تعالى أن يشفّعه به يوم القيامة؟ ولو كان المقصود هذا فإنّ أنساً من العرب العرباء ، كان له أن يفصح عن مراده ويقول : يا رسول اللّه ادع اللّه تعالى أن يشفعك فىّ ، يوم القيامة.

    وليس هذا التاويل وأمثاله الّذي ارتكبه ذلك الكاتب إلاّ تحريفاً للكلم ليروج متاعه.

    ثمّ إنه استشكل على الحديث بضعف السند ، فقال : « إنّ في سنده أبا الخطاب حرب بن ميمون وهو ضعّف ووثّق » وإليك ما ذكره الذهبي في حقه : حرب بن ميمون ، ابو الخطاب الأنصاري ، بصري صدوق يخطىء ، قال أبو زرعة : ليّن ، وقال يحيى بن معين : صالح وثّقه علي بن المديني وغيره.

    وأمّا البخاري فذكره في الضعفاء (2).

    وقال ابن حجر : « قال الخطيب في المتفق والمفترق : كان ثقة.

    وقال الساجي في حرب بن ميمون : الأصغر ، ضعيف عنده مناكير ، والأكبر ثقة ، والوارد في سند الرواية هو الأكبر ، وقال ابن حبان : في الثقات ، يخطىء.

________________________________________

1 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل : ص 320.

2 ـ ميزان الإعتدال : ج 1 ص 470 ، رقم 1773.

________________________________________

(285)

    وقرأت بخط الذهبي : وثّقه ابن المديني ومات في حدود الستين والمائة » (1).

    ترى أنّ الأكثرية الغالبة وثّقته غير البخاري ، وهو ذكره في الضعفاء ، ومن المعلوم أنه لا يمكن ترك حديثه بمجرد ذكر البخاري إياه في الضعفاء ، ولم يعلم وجه كونه ضعيفاً عنده ، ولعله لأجل كونه قدرياً كما يظهر من ابن حجر في تهذيب التهذيب ، أي قائلا بالاختيار الّذي هو على طرف النقيض من القول بالجبر ، وهو موجب لقوّته لا لضعفه ، فالرواية حجة بلا إشكال.

    كيف لا يجوز طلب الشفاعة من الصالحين وهذا هو الطبراني روى في المعجم الكبير أنّ سواد بن قارب ـ رضي اللّه عنه ـ أنشد قصيدته :

وأشهد أنّ اللّه لا ربّ غيرهوأنّك أدنى المرسلين وسيلةفمرنا بما يأتيك يا خير مرسلوكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة                               وأنّك مأمون على كل غائبإلى اللّه يابن الأكرمين الأطائبوإن كان فيما فيه شيب الذوائببمغن فتيلا عن سواد بن قارب (2)

    والشاهد هو البيت الأخير حيث طلب الشفاعة من النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) .

    إنّ الكاتب الوهابي الرفاعي لم يجد بداً عن التسليم لما يفيده البيت الأخير وقال :

     « إنّ سواد بن قارب يخاطب رسول اللّه ويرجوه أن يدعو اللّه تعالى أن يكون له شفيعاً يوم القيامة ، والخطاب هذا لا شك كان في حياته ، وطلب الشفاعة منه في حياته لا بأس به ، لأنه طلب لدعائه لأن يكون سواد في جملة من

________________________________________

1 ـ تهذيب التهذيب : ج 2 ص 225 ـ 226 ، رقم 418.

2 ـ دلائل النبوة : ج 2 ص 248 ونقله الطبراني فى المعجم الكبير ، ج 7 ص 109 ـ 111 ورواه الحاكم في مستدركه ، وابن كثير في تاريخه ج 1 ص 344 والهيثمي في مجمع الزوائد ج 8 ص 250.

________________________________________

(286)

يشفعه فيهم يوم القيامة (1).

    أقول : الّذي اعتذر به الرفاعي هو الّذي وصفه بالشرك شيخ منهجه أحمد بن تيمية ، قال : الدعاء لغير اللّه سواء أكان المدعو حياً أم ميتاً ... فهذا هو الشرك باللّه (2).

    فما هذا التناقض بين كلامه وكلام شيخه ، فالذي يجيزه ، هو الّذي يصفه شيخه بالشرك ، أبهذه المناقضات تكفّرون المسلمين وتدعون الناس إلى نهج الحق ومعين التوحيد؟

    ثم إنّه نقل عن بعض الوهابيين أعني إسماعيل الأنصاري أنه ضعّف سند الحديث ، وذكر وجوهاً للضعف ، وقد سبقه معلق مجمع الزوائد ، غير أنه غفل عن وجه الاستدلال و هو ما ذكرناه فيما سبق :

    إِنَّ هذا الحديث ونظائره على فرض الصدق وعدمه حجة على ما في مدلوله ، إذ لو كان صادقاً فهو وإن كان مجعولا فلماذا ذكره المحدّثون الكبار في جوامعهم كالطبراني في معجم الكبير ، والبيهقي في دلائل النبوة وغيرهما؟ ولا يعني من هذا أنهم لا يذكرون الأحاديث الضعاف في جوامعهم حتّى يقال إنّ المحدثين بين ملتزم بنقل الصحيح وغيره ، بل المقصود أنّه إذا كان طب الشفاعة شركاً على ما ذكره أحمد بن تيمية ، أو مما لا يستريب عالم في أنه غير جائز ، فلماذا نقلوا الحديث الباطل من دون أن يناقشوا في مضمونه ومتنه؟ إذ لا يصحّ لهؤلاء أن يمروا على خرافة شركية في كتبهم ، أو أمر محرّم لا يستريب فيه عالم ، مرور الكرام.

    كل ذلك يعرب عن أنّ المضمون ليس عليه غبار ، وأمّا ضعف السند فلا يكون دليلا على كذبه ، فإليك السند الّذي رواه الطبراني به ، فقد ورد فيه هؤلاء :

________________________________________

1 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل : ص 399.

2 ـ مجموعة الرسائل والمسائل : ج 1 ص 22.

________________________________________

(287)

    حدثنا محمد بن محمد التمارة البصري ، ثنا : بشر بن حجر الشامي ، ثنا علي بن منصور ، عن الأنباري ، عن عثمان بن عبدالرحمن الوقاصي ، عن محمد بن كعب القرظي.

    3 ـ كيف يكون شركاً وقد جاء في التاريخ أنّ رجلا اسمه « تبع » قد بلغه أنّ نبي آخر الزمان سوف يظهر من مكة ويهاجر إلى المدينة ، فكتب كتاباً ودفعه إلى بعض أقربائه كي يسلّموه إلى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وذكر فيه إسلامه وإيمانه ، وأنّه من أُمة رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) و مما جاء في هذه الرسالة : « فإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني » ومات الرجل ، وكان الكتاب ينتقل من واحد إلى آخر ، فلما قدم النبي المدينة دفعوا إليه الكتاب فقال : مرحباً بالأخ الصالح » (1).

    فهل يصحّ للنبي أن يصف المشرك بالأخ الصالح؟ أو أن تقراً عليه الرسالة ويقف على ما طلبه منه من الأمر المحرم دون أن يرد عليه؟

    كل ذلك يعرب عن أنّ طلب الدعاء وطلب الشفاعة من الصالحين والأنبياء ليس شركاً في العبادة ، ولا أمراً محرماً ، ما هذا الجمود في فهم الإسلام؟ وما هذه الظنون والشبه الّتي تعتمدون عليها؟ فإنّ الإسلام دين حنيف سهل.

    نعم لهم اعتراض على ما ذكرناه من الأدلة ، بأنها ترجع إلى طلب الشفاعة من الأحياء ، وأن البحث إنما هو في طلبه من غيرهم ، والجواب من وجهين :

     الأوّل : قد عرفت في البحث السابق بوجوه قيمة من أنّ الطلب متوجه إلى الأرواح المقدسة الّتي لم تنقطع صلتها بنا ، وقد جرت السنة على ذلك ، وقد عرفت الأدلة على جواز التكلم مع الأرواح المؤمنة والمشركة ، كما عرفت أنّ الأنبياء العظام كصالح وشعيب ، والنبي الأكرم كلّموا قومهم بعد هلاكهم ودمارهم ، غير أنّه تكميلا للبحث نذكر بعض ما ورد من الأثر في ذلك

________________________________________

1 ـ المناقب ، لابن شهر آشوب : ج 1 ص 16.

________________________________________

(288)

المجال ، أي طلب الدعاء بعد الالتحاق إلى رحمة اللّه.

    هذا ابن عباس يقول : لما فرغ أميرالمؤمنين ( عليه السَّلام ) من تغسيل النبي ، قال :

     « بأبي أنت وأُمي ، اذكرنا عند ربك واجعلنا من بالك » (1).

    ويروي أهل السنة أنه لما توفّي رسول اللّه جاء أبوبكر من سلع ، ووقف على فوته وكشف عن وجهه وقبله وقال : بأبي أنت وأُمي طبت حياً وميتاً واذكرنا عند ربك » (2).

    فما معنى المعارضة مع هذه النصوص ومعاكستها؟

     ( فَبِأَيِّ حَدِيث بَعْدَهُ يُؤمِنُونَ ) (3).

 

أدلة الوهابيين على حرمة طلب الشفاعة

    لقد تعرّفت فيما مضى على أنّ طلب الشفاعة يساوق طلب الدعاء ، ولا يتصوّر أن يكون من أقسام الشرك في العبادة ، أو يكون طلبه من المخلوق عبادة له ، إلاّ أن يكون طلب الدعاء من مخلوق شركاً وعبادة ، وهو مما لم يقل به أحد حتّى الوهابيون.

    نعم لهم شبهة ربما يغتر بها البسطاء ، وهي أنّ المشركين كانوا يطلبونها من أصنامهم ، فسمّاه اللّه عبادة لهم وقال : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُم وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤلاءِ شُفَعَاؤنَا عِنْدَ اللّه قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمواتِ وَلاَ فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (4).

    والشاهد في قوله : « ويعبدون من دون اللّه » مع ملاحظة ما في ذيل

________________________________________

1 ـ نهج البلاغة : الخطبة رقم 235 ونقل السيد الأمين في كشف الإرتياب ، ص 265 أنه قال : بأبي أنت وأمي اذكرنا عند ربك واجعلنا من همك ، نقلا عن مجالس المفيد.

2 ـ السيرة الحلبية : ج 3 ص 392.

3 ـ سورة الأعراف : الآية 185.

4 ـ سورة يونس : الآية 18.

________________________________________

(289)

الآية : « ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه » وكان وجه عبادتهم لهم هو قولهم : « هؤلاء شفعاؤنا » (1).

    إنّ الاستدلال بالآية على كون طلب الشفاعة شركاً من غرائب الاستدلال وعجائبه ، فإنّ الآية لو لم تدل على أنّ طلب الشفاعة يغاير عبادتهم لها ، لا تدل على أنّ طلب الشفاعة عبادة للمدعو ، وذلك أنه ورد في الآية جملتان نسبتهما إلى المشركين :

    1 ـ ويعبدون من دون اللّه ما لا يضرّهم ولا ينفعهم.

    2 ـ ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه.

    والعطف يدل على المغايرة ، وأنّ هنا عبادة ، وأنّ هناك أمراً آخر وهو طلب الشفاعة ، وما هذا الخلط؟

    ولنفترض أنّ طلب شفاعتهم كان عبادة لمعبوداتهم ، وأنّ الجملة الثانية من قبيل عطف العام على الخاص ولكن أين طلب شفاعة المسلم الموحّد من سيد الموحدين ، من طلب شفاعة عبدة الأصنام والأوثان ، فالمشركون كانوا يعتبرون الأوثان مالكة للشفاعة والمغفرة ، فكان اللّه في معزل عنهما تماماً ، ولا شك أنّ طلب الشفاعة من أىّ موجود مقروناً بهذا الاعتقاد يعد شركاً ، لأنّ هذا الطلب مقرون بألوهية المدعو وربوبيته ، في حين أنّ الإنسان المسلم يطلب الشفاعة والدعاء من الشفيع باعتباره عبداً مقرباً إلى اللّه ، وإنساناً وجيهاً عنده ، أذن اللّه تعالى له في شفاعة المجرمين ، وادّخرها النبي لأهل الكبائر من أُمته ، كما ورد عن النبي الأكرم ، ورواه الفريقان.

    والمصدر لهذه التهمة هو أنّ القوم لم يضعوا حداً منطقياً جامعاً ومانعاً للعبادة حتّى يميزوا به الدعاء العبادي عن غيره ، فجعلوا يخبطون خبط عشواء لا يميزون بين الصحيح والسقيم.

    نعم ، إنّ الشفاعة حق خاص باللّه دل عليه الذكر الحكيم وقال : ( أَمِ

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل : ج 1 ص 15.

________________________________________

(290)

اتَّخَذُوا مِنْ دونِ اللّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيئاً وَلاَ يَعْقَلُونَ * قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (1).

    ولأجل كونه حقاً مختصاً باللّه ، لا يشفع النبي الأكرم ولا الشفعاء الأُخر لأحد إلاّ بإذنه سبحانه ، ولكن قوله « للّه الشفاعة جميعاً » ليس معناه أنه سبحانه هو الشفيع دون غيره ، لبداهة أنّ اللّه لا يشفع لأحد عند أحد ، بل معناه أنه مالكٌ لمقام الشفاعة ، لا يملكه غيره ولا يشفع إلاّ بإذنه.

    هذا وإنّ المشركين كانوا على خلاف ذلك كما يعرب عنه قوله سبحانه : « قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ».

    وفي الختام نذكر النقطة الأخيرة من كلامهم ، وهي أنّ النبي الأكرم بعد التحاقة بالرفيق الأعلى لا يسمع بدليل قوله سبحانه ( إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا وَلَّوْا مُدْبِرينَ ) (2).

    وقوله : ( إنَّ اللّه يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِع مِنْ في القُبُورِ ) (3) ، ولكنّك عرفت أنّ الآيتين لا تمتّان إلى طلب الشفاعة عن الأنبياء بصلة ، فإنّ الأجساد الراقدة تحت التراب ، غير قادرة على الإدراك والسماع ، ولكن المخاطب هو الروح الطاهرة والحية الّتي تعيش بالجسد البرزخي في عالم البرزخ ، والخطاب لتلك الأرواح النورانية والشفاعة تطلب منها ، وأمّا السعي إلى الحضور في مقابرهم ومراقدهم فلأجل أنّ الحضور فيها يهيّىء أنفسنا للاتصال بأرواحهم المقدسة ، وعند ذلك نجد في أنفسنا دافعاً إلى التحدّث معهم وهم يستمعون إلينا.

    هذا هو الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) أحد الأئمة يعلّم شيعته كيفية زيارة أئمة أهل البيت بقوله :

________________________________________

1 ـ سورة الزمر : الآية 43 ـ 44.

2 ـ سورة النمل : الآية 80.

3 ـ سورة فاطر : الآية 22.

(291)

     « عالماً أنّك تسمع كلامي وترد سلامي ... فكن لي إلى اللّه شفيعاً ، فما لي وسيلة أوفى من قصدي إليك وتوسّلي بك إلى اللّه » (1).

    وجاء في كلام آخر له ( عليه السَّلام ) : « اللّهمّ ... وأعلم أنّ رسولك وخلفاءك ( عليهم السَّلام ) أحياء عندك يرزقون ، يرون مقامي ويسمعون كلامي ويردون سلامي ، وأنك حجبت عن سمعي كلامهم ، وفتحت باب فهمي بلذيذ مناجاتهم » (2).

    هذا وقد قال ابن تيمية : وفي سنن أبي داود عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : ما من رجل مسلم سلّم علىّ إلاّ ردّ اللّه علىّ روحي حتّى أردّ عليه السلام ، وفي موطأ الإمام مالك أنّ عبداللّه بن عمر ـ رضي اللّه تعالى عنهما ـ كان يقول : السلام عليك يا رسول اللّه ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبه ، ثم ينصرف ، وكذلك أنس بن مالك وغيره من الصحابة رضي اللّه عنهم ، نقل عنهم السلام على النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) (3).

    فأىّ فرق بين التسليم على الميت وبين طلب الدعاء منه؟ وإذا كان قادراً على رد السلام ، يكون قادراً على الدعاء إلى اللّه ، والشفاعة للداعي ، ولو فرضنا أنّه قادر على شيء واحد وهو رد السلام ، وليس قادراً على الدعاء ، يكون طلبه عندئذ لغواً ، لا شركاً ولا محرماً ، ويكون أشبه باعتقاد أثر في نبات مع كونه خطأ. أو كون شخص قادراً على إنجاز عمل ولم يكن كذلك. ولم يقل أحد بكون هذا النوع من الاعتقاد شركاً.

________________________________________

1 ـ بحارالأنوار : ج 97 ، ص 295.

2 ـ عدة الداعي لابن فهد الحلي ، 841.

3 ـ مجموعة الرسائل والمسائل : ج 1 ص 23.

________________________________________

(292)

(9)

ابن تيمية والنذر لأهل القبور

    قال ابن تيمية : وإذا كان الطلب من الموتى ـ ولو كانوا أنبياء ـ ممنوعاً خشية الشرك ، فالنذر للقبور أو لسكان القبور نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان.

    ويقول : ومن اعتقد أنّ في النذر للقبور نفعاً أو أجراً فهو ضالّ جاهل ، ثم يقرر : إنّ ذلك نذر في معصية ، وإنّ من يعتقد أنها باب الحوائج إلى اللّه ، وأنها تكشف الضر وتفتح الرزق وتحفظ العمر ، فهو كافر مشرك يجب قتله (1).

    أقول : إنّه قد ذيل كلامه بشيء لا يعتقد به أحد من المسلمين ، حتّى يجعل ذلك ذريعة لقبول صدر كلامه. فأىّ مسلم يعتقد أن النبي يكشف الضرر ويفتح الرزق ويحفظ العمر؟ بل معتقَدُ جماهير المسلمين هو أنّ كل الأُمور بيده سبحانه ، وأنّ الناس هم الفقراء واللّه هو الغني الحميد ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَراءُ إلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (2).

    ولو اعتقد أحد من المسلمين أن الأنبياء والصالحين ربما يقومون بأُمور خارجة عن السنن العادية فهو نفس الاعتقاد بأنهم أصحاب المعاجز والكرامات ، وقد تواترت النصوص على ذلك وأنهم يبرئون الأكمه والأبرص

________________________________________

1 ـ قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ، ص 103.

2 ـ سورة فاطر : الآية 15.

________________________________________

(293)

ويحيون الموتى بإذن اللّه (1).

    ومن يصف أحداً من الصالحين بباب الحوائج فإنما يصفه بهذا المعنى ، يعني أنه سبحانه يستجيب دعاءه إذا دعاه ، أو أنّه سبحانه أعطاه مقدرة كبيرة مثل ما أعطى لمن كان عنده علم من الكتاب (2).

    فإذا صحّ ما في القرآن من أنّ أُناساً من الأنبياء وغيرهم كانوا أصحاب مقدرة كبيرة يقومون بخوارق العادات وعجائب الأعمال بإذن اللّه ، لصحّ التصديق في غيرهم ممن لم يجىء عنهم ذكر في القرآن ، فما معنى الإيمان ببعض والكفر ببعض؟

    وأمّا النذر للأموات ، فتحقيقه يتوقف على بيان مقدمة :

    النذر معناه أن يلزم الإنسان نفسه بأداء شيء معيّن إذا تحقق هدفه وقضيت حاجته ، فيقول : للّه علىَّ أن أفعل كذا ، إذا كان كذا. مثلا يقول : للّه علىَّ أن اختم القرآن إذا نجحت في الامتحانات الدراسية.

    هذا هو النذر الشرعي ، ويجب أن يكون للّه ، فإذا قال الناذر : نذرت لفلان ، ففي قوله مجاز لغاية الاختصار ، والمعنى نذرت للّه على أن أفعل شيئاً يكون ثوابه لفلان ، وثواب النذر يقع على ثلاثة أقسام :

    1 ـ أن يكون الثواب لنفس الإنسان الناذر.

    2 ـ أن يكون لشخص ميت.

    3 ـ أن يكون لشخص حي.

    وهذه الأقسام الثلاثة كلها جائزة ، ويجب على الناذر الوفاء بنذره إذا قضيت حاجته ، وقد مدح اللّه سبحانه أهل البيت ، لأجل الوفاء بالنذر. قال

________________________________________

1 ـ سورة آل عمران : الآية 49 وسورة المائدة : الآية 110.

2 ـ قال سبحانه : ( قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الجنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ... قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدّ إلَيكَ طَرفُكَ ) سورة النمل : الآية 39 ـ 40.

________________________________________

(294)

تعالى : ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطيراً ) (1) ، هذا هو النذر.

    وقد تعارف بين المسلمين أنّ النذر للّه وإهداء ثوابه لأحد أولياء اللّه وعباده الصالحين ، وكانت عليه السيرة بين المسلمين ، إلى أن جاء الدهر بابن تيمية فحرّم ذلك كما عرفت من عبارته ، وقد نقل عنه أيضاً العبارة التالية ، وقال : « من نذر شيئاً للنبي أو غيره من النبيين والأولياء من أهل القبور ، أو ذبح ذبيحة ، كان كالمشركين الذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها ، فهو عابد لغير اللّه ، فيكون بذلك كافراً » (2).

    عجيب جداً حكم ابن تيمية وتكفيره المسلمين بحجة أنّ عمل الناذر يشبه عمل المشركين ، أيصحّ في ميزان النصفة الحكم بتكفير المسلمين الذين أرسوا قواعد التوحيد ، وحملوه جيلا بعد جيل إلى عصر ابن تيمية ، بمجرد أنّ عمل الذابح والناذر يشبه عمل المشركين.

    فلو كان هذا ملاكاً للتكفير فابن تيمية والوهابيون وحماة هذه البدع من أعظم المشركين! فإنّ كثيراً من مناسك الحج و فرائضه ( الّتي يقوم بها المسلمون من غير فرق بين الوهابي وغيره ) تشبه في ظاهرها أعمال عبدة الأصنام ، فقد كانوا يطوفون حول أصنامهم ويقبّلونها ، ونحن أيضاً نطوف حول الكعبة المشرفة ونقبّل الحجر الأسود ، ونذبح الذبائح ونقرّب القرابين في منى يوم عيد الأضحى ، كما كانوا يذبحون لأصنامهم ، أفيصح تكفير الجميع لأجل هذه المماثلة؟

    أو المقياس هو النية القلبية ، وأنّ المعيار هو النية والضمائر دون المشابهة والظواهر ، وقد قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : إنما الأعمال بالنيات (3).

________________________________________

1 ـ سورة الإنسان : الآية 7.

2 ـ نقله عنه شهاب الدين ابن حجر الهيثمي في كتاب « الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم » كما في فرقان القرآن للعزامي القضاعي ، ص 132.

3 ـ صحيح البخاري : ج 1 ، كتاب الإيمان ص 16.

________________________________________

(295)

    ولا يصحّ التسرّع في الحكم بمجرد المماثلة ، لأنّ كل من ينذر لأحد من الأولياء فإنما يقصد النذر للّه ، وإهداء الثواب للولي الصالح ليس إلاّ ، ولا تجد في أديم الأرض من يسجّل اسمه في ديوان المسلمين إلاّ وينوي ذلك ، نعم شذّ عنهم ابن تيمية ومن أحيى مسلكه حيث اتّهموا المسلمين بغير ذلك.

    يقول الشيخ الخالدي رداً على ابن تيمية :

     « إنّ المسألة تدور مدار نيات الناذرين ، وإنما الأعمال بالنيات ، فإن كان قصد الناذر الميت نفسه ، والتقرّب إليه بذلك ، لم يجز ـ قولا واحداً ـ وإن كان قصده وجه اللّه تعالى وانتفاع الأحياء بوجه من الوجوه به ، وإهداء ثوابه لذلك المنذور له ، وسواء عيّن وجهاً من وجوه الإنتفاع ، أو أطلق القول فيه ، وكان هناك ما يطرد الصرف فيه في عرف الناس ، أو أقرباء الميت ، أو نحو ذلك ، ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالنذور » (1).

    قال العزامي :

     « ... ومن استخبر حال من يفعل ذلك من المسلمين ، وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للأموات ـ من الأنبياء والأولياء ـ إلاّ الصدقة عنهم ، وجعل ثواباها لهم ، وقد علموا أنّ إجماع أهل السنة منعقد على أن صدقة الأحياء نافعة للأموات ، واصلة إليهم ، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة.

    فمنها : ما صحّ عن سعد أنّه سأل النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) قال : يا نبىّ اللّه إنّ اُمّي قد افتلتت ، وأعلم أنها لو عاشت لتصدّقت أفإن تصدّقتُ عنها أينفعها ذلك؟

    قال ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : نعم. فسأل النبي : أىّ الصدقة انفع يا رسول اللّه؟

    قال : الماء.

________________________________________

1 ـ صلح الأخوان : للخالدي ، ص 102 وما بعده.

________________________________________

(296)

    فحفر بئراً وقال : هذه لأُم سعد (1).

    وقد أخطأ محمد بن عبدالوهاب فادّعى أن المسلم إذا قال : « هذه الصدقة للنبي أو للولي : فاللام بنفسها هي اللام الموجودة في قولنا : « نذرت للّه » يراد منها الغاية ».

    بل العمل للّه ، بينما لو قال : للنبي ، يريد بها الجهة التي يصرف فيها الصدقة من مصالح النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في حياته ومماته.

    وفي هذا الصدد يقول العزامي ـ بعد ذكر قصة سعد ـ :

     « اللام في هذه لأُم سعد » ، هي الام الداخلة على الجهة الّتي وجهت إليها الصدقة لا على المعبود المتقرب إليه ، وهي كذلك في كلام المسلمين ، فهم سعديون لا وثنيون ، وهي كاللام في قوله تعالى : ( إنّما الصّدقات للفرقاء ) لا كاللام في قوله سبحانه : ( رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا في بَطْني مُحرَّراً) (2) أو في قول القائل : صلّيت للّه ونذرت للّه ، فإذا ذبح للنبي أو الولي أو نذر الشيء له فهو لا يقصد إلاّ أن يتصدق بذلك عنه ، ويجعل ثوابه إليه ، فيكون من هدايا الأحياء للأموات ، المشروعة ، المثاب على إهدائها ، والمسألة محرّرة في كتب الفقه وفي كتب الردّ على الرجل ومن شايعه » (3).

    وهكذا ظهر لك ـ أيها القارىء ـ جواز النذر للأنبياء والأولياء من دون أن تكون فيه شائبة شرك ، فيثاب به الناذر إن كان للّه وذبح المنذور باسم اللّه : فقول القائل « ذبحت للنبي » لا يريد أنه ذبحه للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) بل يريد أن الثواب له ، كقول القائل : ذبحت للضيف ، بمعنى أن النفع له والفائدة له ، فهو السبب في حصول الذبح.

    ويوضح ذلك ما روي عن ثابت بن الضحاك قال :

________________________________________

1 ـ لاحظ : فرقان القران ص 133.

2 ـ سورة آل عمران : الآية 35.

3 ـ فرقان الفرقان : ص 133.

________________________________________

(297)

     « نذر رجل عهد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أن ينحر إبلا بـ « بوانة » فأتى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فأخبره ، فقال النبي :

    هل كان فيها من يعبد من أوثان الجاهلية؟

    قالوا : لا.

    قال : فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟

    قالوا : لا.

    قال ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) للسائل : أوف بنذرك ، فإنّه لا وفاء في معصية اللّه ، ولا فيما لا يملك ابن آدم » (1).

    وروي أيضاً :

     « إنّ امرأة أتت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فقالت : يا رسول اللّه ... إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا ، كان يذبح فيه أهل الجاهلية.

    فقال النبي : الصنم؟

    قالت : لا.

    قال : الوثن؟

    قالت : لا.

    قال : في بنذرك » (2).

    وعن ميمونة بنت كردم أنّ أباها قال لرسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : يا رسول اللّه إني نذرت إن ولد لي ذكر ، أن أنحر على رأس بوانة « في عقبة من الثنايا » عدة من الغنم..

    قال « الراوي عنها » : لا أعلم إلاّ أنها قالت : خمسين.

________________________________________

1 ـ سنن أبي داود : ج 2 ص 80.

2 ـ سنن أبي داود : ج 2 ص 81.

________________________________________

(298)

    فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : هل من الأوثان شيء.

    قالت : لا.

    قال : فأوف بما نذرت به لله ... » (1).

    أرأيت أيّها القارىء ـ كيف يكرر النبي ـ ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) السؤال عن جود الأصنام في المكان الّذي تذبح فيه الذبائح؟

    إنّ هذا دليل على أنّ النذر الحرام هو النذر للأصنام ، حيث كان ذلك عادة أهل الجاهلية ، كما قال تعالى :

     ( وَمَا ذُبحَ عَلَى النُّصُبِ ... ذَلِكُمْ فِسْقٌ ) (2) .

    ومن اطّلع على أحوال الزائرين للعتبات المقدسة ومراقد أولياء اللّه الصالحين يعلم جيداً أنهم ينذرون لله تعالى ولرضاه ، ويذبحون الذبائح باسمه عزّوجلّ ، بهدف انتفاع صاحب القبر بثوابها ، وانتفاع الفقراء بلحومها ، وبذلك تعرف سقوط كلمة محمد بن عبدالوهاب في اتّهام المسلمين بأنهم ينحرون للنبي ، وِزانَ النحر لله سبحانه ، حيث يلقِّن أتباعه الحجة ويقول : « فقل : فإذا عملت بقول اللّه تعالى : « فصل لربك » وأطعت اللّه ونحرت له هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول : نعم ، فقل له : فإن نحرت لمخلوق : نبي أو أجنبي أو غيرهما ، هل أشركت في هذه العبادة غير اللّه؟ فلابد أن يقرّ ويقول : نعم » (3).

    والمسلمين تخيّل أنّ اللام في « هذا للنبي » نفس اللام في « نذرت لله » وقد عرفت أن إحداهما للغاية ، والأُخرى للإنتفاع.

    وختاماً لهذا الفصل نذكر كلمة للخالدي ـ بعد أن ذكر ما رواه أبو داود في سننه ـ قال :

________________________________________

1 ـ سنن أبي داود : ج 2 ص 81.

2 ـ سورة المائدة : الآية 3.

3 ـ صلح الإخوان للخالدي ، ص 109.

________________________________________

(299)

     « وأمّا استدلال الخوارج بهذا الحديث على عدم جواز النذر في اماكن الأنبياء والصالحين. زاعمين بأنّ الأنبياء والصالحين أوثان ـ والعياذ باللّه ـ وأعياد من أعياد الجاهلية ، فهو من ضلالاتهم وخرافاتهم وتجاسرهم على أنبياء اللّه وأوليائه ، حتّى سمّوهم أوثاناً ، وهذا غاية التحقير لهم ، خصوصاً الأنبياء ، فإنّ من انتقصهم ولو بالكناية ـ يكفر ولا تقبل توبته ـ في بعض الأقوال ـ وهؤلاء المخذولون بجهلهم ، يسمّون التوسل بهم عبادة ، ويسمونهم أوثاناً ، فلا عبرة بجالهة هؤلاء وضلالاتهم ، واللّه أعلم » (1).

     ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمَاً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسكينَاً وَيَتيمَاً وَأَسيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً ) (2).

________________________________________

1 ـ كشف الشبهات ، ص 8 .

2 ـ سورة الإنسان : الآية 7 ـ 9.

________________________________________

(300)

(10)

    ابن تيمية والحلف بغير اللّه تعالى

    إنّ من المسائل المهمة عند الوهابيين هو الحلف بغير اللّه ، وذهب ابن تيمية إلى كونه شركاً ، اعتماداً على ما رواه الترمذي : « من حلف بغير اللّه فقد أشرك » وتحقيق الحق يتوقف على توضيح الأُمور التالية :

    1 ـ هل اليمين الفاصل في الدعاوي هو الحلف باللّه ، أو يعمه وغيره؟

    2 ـ هل ينعقد اليمين بالحلف بالنبي مثلا ، بحيث لو حنث لزمته الكفارة أو لا؟

    3 ـ هل يجوز الحلف بغير اللّه سبحانه أولا؟

    وإليك نقل أقوال أئمة المذاهب الفقهية في المجالات المتقدمة :

 

أ ـ ما هو الحلف الفاصل في الخصومات؟

    أمّا فقهاء الشيعة فقد اتفقت كلمتهم على أن اليمين الفاصل في الخصومات هو الحلف باللّه وأسمائه. قال المحقق الحلي : لا يستحلف أحد إلاّ باللّه ولو كان كافراً ، فلا يجوز الإحلاف بغير أسماء اللّه سبحانه ، كالكتب المنزلة ، والرسل المعظمة ، والأماكن المشرفة (1) وأمّا السنّة فلم أجد لهم نصاً في خصوص هذه المسألة في الكتب الفقهية ، نعم يعلم حكمها مما سنذكره عنهم في المسألتين التاليتين.

________________________________________

1 ـ جواهر الكلام ، في شرح شرائع الإسلام ، ج 40 ص 225.

(301)

ب ـ هل ينعقد الحلف بغيره سبحانه؟

    قال ابن تيمية : وقد اتفق العلماء على أنّه لا ينعقد اليمين بغير اللّه ، ولو حلف بالكعبة أو بالملائكة أو بالأنبياء ( عليهم السَّلام ) لم تنعقد يمينه ، ولم يقل أحد إنه ينعقد اليمين بأحد من الأنبياء ، فإنّ عن أحمد في انعقاد اليمين بالنبي روايتين ، لكن الّذي عليه الجمهور كمالك والشافعي ، وأبي حنيفة أنه لا ينعقد اليمين به ، كإحدى الروايتين عن أحمد ، وهذا هو الصحيح (1).

    وقال ابن قدامة في المغني : ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات ، ولا تجب الكفارة بالحلف فيها ... وهو قول أكثر الفقهاء ، وقال أصحابنا : الحلف برسول اللّه يمين موجبة للكفارة ، وروي عن أحمد أنه قال : إذا حلف بحق رسول اللّه وحنث فعليه الكفارة. قال أصحابنا : لأنه أحد شرطي الشهادة ، فالحلف به موجب للكفارة ، كالحلف باسم اللّه (2).

    وبالإمعان في كلام ابن قدامة يظهر عدم صحة ما ذكره ابن تيمية من أنه « اتفق العلماء على أنه لا ينعقد اليمين بغير اللّه » وأين هو من قول ابن قدامة : « قال أصحابنا : الحلف برسول اللّه يمين موجبة للكفارة؟ وهو وابن قدامة كلاهما حنبليان ، وبما أن المسألة فقهية لا نستعرضها أزيد من ذلك ، وإنما نركز البحث على المسألة الثالثة.

 

ج ـ هل يجوز الحلف بغير اللّه أو لا؟

    هذه المسألة هي الّتي عقدنا الفصل لبيان حكمها. قال ابن تيمية : « لا يشرع ذلك بل ينهى عنه إمّا نهي تحريم وإمّا نهي تنزيه ، وإنّ للعلماء في ذلك قولين ، والصحيح أنه نهي تحريم ، وفي الصحيح عنه ( صلى اللّه عليه وآله ) أنه قال : من كان حالفاً فليحلف باللّه أو ليصمت ، وفي الترمذي أنه قال : من

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل : ج 1 ص 209.

2 ـ المغني لابن قدامة : ج 11 ص 17.

________________________________________

(302)

حلف بغير اللّه فقد أشرك (1).

    وقال الصنعاني : إنّ الحلف بغير اللّه شرك صغير (2) ، وقال ابن قدامة : ولا يجوز الحلف بغير اللّه وصفاته ، نحو أن يحلف بأبيه أو الكعبة أو صحابي أو إمام. قال الشافعي : أخشى أن يكون معصية. قال ابن عبد البر : وهذا أصل مجمع عليه ، وقيل; يجوز ذلك لأنّ اللّه تعالى أقسم بمخلوقاته فقال : « والصّافّات صفّاً ، والمرسلات عرفاً ، والنازعات غرقاً » ، وقال النبي للأعرابي السائل عن الصلاة : « أفلح وأبيه إن صدق » وفي حديث أبي الشعراء : « وأبيك لو طعنت في فخذها لأجزاك » ثم إن لم يكن الحلف بغير اللّه محرّماً فهو مكروه ، فإن حلف فليستغفر اللّه تعالى ، أو ليذكر اللّه تعالى ، كما قال النبي : من حلف باللاّت والعزّى فليقل : لا إله إلاّ اللّه (3).

    أنت ترى أنّ ابن تيمية وتلميذ منهجه الشيخ الصنعاني أفتيا بالحرمة ، ولكن الظاهر من عبارة ابن قدامة أن المسألة مما اختلف فيه الفقهاء ، فهم بين محرّم ومجوّز ، حتّى أنّ الشافعي قال : أخشى أن يكون معصية ، وإذ كانت المسألة على هذا المستوى من الاختلاف ، فهل يجوز تكفير الحالف بمثل هذه المسألة؟ مع أنّ أكثر الفقهاء قائلون بالجواز.

    قال في الفقه على المذاهب الأربعة : « إذا قصد الحالف إشراك غير اللّه معه في التعظيم ففيه تفصيل في المذاهب ، ثم ذكر التفصيل بالنحو الآتي » :

     « الحلف بالطلاق نحو : علىّ الطلاق : إن فعلت كذا ، جائز بدون كراهة ، ويلزمه الطلاق إذا كان الغرض منه الوثيقة ، أي وثوق الخصم بصدق الحالف ، جاز بدون كراهة. وإذا لم يكن الغرض منه ذلك ، أو كان حلفاً على الماضي فإنه يكره ، وكذلك الحلف ( بنحو وأبيك ولعمرك ) .

    وقالت الشافعية : يكره الحلف بغير اللّه إذا لم يقصد شيئاً مما ذكر في أعلى الصحيفة ، ويكره الحلف بالطلاق.

________________________________________

1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل : ج 1 ص 17.

2 ـ تطهير الاعتقاد ، ص 14.

3 ـ المغني لابن قدامة : ج 11 ص 163 ( كتاب الأيمان ) طبع دارالكتاب العربي ـ بيروت.

________________________________________

(303)

    وقالت الحنابلة : يحرم الحلف بغير اللّه وصفاته ، ولو بنبي أو ولي ، ويكره الحلف بالطلاق والعتاق والمشهور الحرمة » (1).

    فعلى ضوء هذا فقد أفتى الحنابلة من بين المذاهب الأربعة بالحرمة ، وذهبت الحنفية والشافعية إلى الجواز وللمالكية قولان.

    هذه هي الأقوال في المسألة ، وإليك تحليلها فقهياً واجتهاداً :

 

عرض المسألة على القرآن

    إنّ القرآن الكريم هو الثقل الأكبر والقدوة العليا والمثل الحي لكل مسلم ، نرى فيه الحلف بغير اللّه في غير واحد من السور ، فقد أقسم تعالى في سورة الشمس وحدها بغير ذاته وصفاته ، أعني الشمس وضحاها ، والقمر والنهار والليل ، والسماء والأِض ، والنفس الإنسانية ، وأقسم سبحانه في سورة النازعات بأمرين : المرسلات والناشرات ، كذلك ورد الحلف بغير اللّه في سورة « الطارق » و « القلم » و « العصر » و « البلد » وغيرها.

    وإليك نماذج من آيات الحلف بغير اللّه سبحانه الواردة في غير هذه السور :

     ( وَالتِّينِ وَالزَّيتُونِ * وَطُورِ سِينيِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأمينِ ) (2) .

    ( وَالليلِ إذَا يَغْشَى * وَالنَّهارِ إذَا تَجَلّى ) (3) .

    ( وَالفَجْرِ * ولَيال عَشْر * والشَّفْعِ وَالوَتْرِ * وَالليلِ إذَا يَسْرِ ) (4).

    ( وَالطُّورِ * وَكِتاب مَسْطُور * فِي رَقٍّ مَنْشور * وَالبَيتِ المَعْمُورِ * والسَّقْفِ المَرفُوعِ * وَالبَحْرِ المَسجُورِ ) (5).

________________________________________

1 ـ الفقه على المذاهب الأربعة ، ج 2 ( كتاب اليمين ) ، ص 75.

2 ـ سورة التين : الآية 1 ـ 3.

3 ـ سورة الليل : الآية 1 ـ 2.

4 ـ سورة الفجر : الآية 1 ـ 4.

5 ـ سورة الطور : الآية 1 ـ 6.

________________________________________

(304)

    إذا كان القرآن كتاب هداية للبشر والناس يتخذونه قدوة وأُسوة ، فلو كان هذا النوع من الحلف حراماً على العباد ، وأمراً خاصاً باللّه سبحانه ، لكان المفروض أن يحذّر منه القرآن ، ويذكر بأن هذا من خصائصه سبحانه.

    ومن هنا يعلم أنّ توصيف الحلف بغير اللّه بكونه شركاً صغيراً يستلزم نسبة الشرك إلى اللّه سبحانه ، وإذا كانت ماهية الحلف بغير اللّه ماهية شركية فلا يفرق بينه وبين عباده ، فإذا كانت ماهية الشيء ظلماً وتجاوزاً على البريء ، فاللّه وعباده فيه سيان ، قال تعالى : ( قُلْ إنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لا تَعْلَمونَ ) (1).

    إنّ الحلف بهذه العظائم كما يتضمن الدعوة إلى التدبّر والدقة في صنعها ، والنواميس السائدة عليها ، واللطائف الموجودة فيها ، وبالتالي يحتج بها على صانع لها عالم وقادر وحي و ... ، كذلك يتضمن جواز الحلف بها إذا كان موجوداً مقدساً ، كما حلف سبحانه بحياة النبي وقال :

     ( لَعَمْرُكَ إنَّهُم لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمِهُونَ ) (2).

 

عرض المسألة على الأحاديث

    هذا بالنسبة إلى القرآن ، وإليك عرض المسألة على سنة النبي الأكرم ، أعني قوله وفعله وتقريره ، فقد حلف بغير اللّه في موارد عديدة منها :

    1 ـ روى مسلم في صحيحه :

     « جاء رجل إلى النبي فقال : يا رسول اللّه أىّ الصدقة أعظم أجراً؟ فقال : أما وأبيك فننبئنّك : أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل البقاء » (3).

    2 ـ روى مسلم أيضاً :

________________________________________

1 ـ سورة الأعراف : الآية 28.

2 ـ سورة الحجر : الآية 72.

3 ـ صحيح مسلم ، ج 3 ، كتاب الزكاة ـ باب أفضل الصدقة ، ص 94.

________________________________________

(305)

     « وجاء رجل إلى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ـ من نجد ـ يسأل عن الإسلام ، فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : خمس صلوات في اليوم والليل.

    فقال : هل علىّ غيرهن؟

    قال : لا ... إلاّ أن تطّوّع ، وصيام شهر رمضان.

    فقال : هل علىّ غيره؟

    قال : لا ... إلاّ أن تطّوّع ، وذكر له رسول اللّه الزكاة.

    فقال الرجل : هل علىَّ غيرها؟

    قال : لا ... إلاّ أن تطّوّع.

    فأدبر الرجل وهو يقول : لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.

    فقال رسول اللّه : أفلح وأبيه (1) إن صدق.

    أو قال : دخل الجنة ـ وأبيه ـ إن صدق » (2).

    3 ـ وروي الحديث في مسند أحمد بن حنبل ، وفي نهايته : أنّ النبي قال له :

     « ... فلعمري لئن تتكلم (3) بمعروف و تنهى عن منكر ، خير من أن تسكت » (4).

    وهناك أحاديث أُخرى لا يسع الكتاب ذكرها (5).

    وقد أقسم الإمام علىّ ( عليه السَّلام ) ـ ذلك النموذج البارع في التربية

________________________________________

1 ـ أي حلفاً بأبيه ، فالواو واو القسم.

2 ـ صحيح مسلم ، ج 1 باب ما هو الإسلام ، ص 32.

3 ـ أي تتكلم ـ للمخاطب ـ كما في قوله تعالى : « فأنت له تصدى » « أي تتصدى ».

4 ـ مسند أحمد ، ج 5 ص 225.

5 ـ راجع مسند أحمد : ج 5 ص 212 ، وسنن ابن ماجة : ج 1 ص 255 وج 4 ص 595.

________________________________________

(306)

الإسلامية والقيم العالية ـ بنفسه الشريفة مرات في خطبه ورسائله وكلماته (1).

    وهذا أبوبكر بن أبي قحافة يقول للسارق الّذي سرق حلي ابنته ، فقال : « وأبيك ما ليلك بليل سارق » (2).

    ولا أرى البحث أكثر من هذا إلاّ تطويلا بلا طائل ، وبما أنّ الوهابيين يتمسكون ببعض الأحاديث فلا بأس بدراستها :

    1 ـ إنّ رسول اللّه سمع عمر و هو يقول : وأبي ، فقال : إنّ اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، ومن كان حالفاً فليحلف باللّه أو يسكت (3).

    يلاحظ على الاستدلال : بأنّ وجه النهي عن الحلف بالآباء ، أنّ أباءهم في الغالب كانوا مشركين وعبدة الأصنام ، فلم تكن لهم حرمة ولا كرامة حتّى يحلف أحد بهم ، ويؤيد ذلك ما روي عن النبي أنه قال : « ولا تحلفوا بآبائكم ولا بأُمهاتكم ولا بالأنداد » (4) وروي أيضاً : « لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت » (5).

    على أنّه يحتمل أن يكون النهي عن الحلف بالأب في مقام فصل الخصومات و حسم الخلافات ، وقد عرفت أنّ الفاصل في هذا المجال هو الحلف باللّه وصفاته.

    وأكثر ما يمكن أن يقال : إنّ النهي تنزيهي لا تحريمي بشهادة ما سبق من الحلف بغير اللّه في حديث الرجل النجدي.

    2 ـ جاء ابن عمر رجل فقال : أحلف بالكعبة؟ قال له : لا ، ولكن احلف برب الكعبة ، فإنّ عمر كان يحلف بأبيه ، فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ

________________________________________

1 ـ نهج البلاغة : تعليق محمد عبده : الخطبة رقم 22 و25 و56 و85 و161 و168 و182 و183 و187 والرسالة رقم 6 و9 و54. 2. الموطأ ، أخرجه في باب الحدود برقم 29.

3 ـ سنن ابن ماجة : ج 1 ص 277 ، سنن الترمذي : ج 4 ص 109 وغيرهما.

4 ـ سنن النسائي ج 7 ص 9.

5 ـ سنن النسائي : ج 7 ص 7 ، سنن ابن ماجة : ج 1 ص 278 ـ والطواغيت هي الأصنام.

________________________________________

(307)

لا تحلف بأبيك فإنّ من حلف بغير اللّه فقد أشرك (1).

    يلاحظ على الاستدلال : أنّ الحديث يتألف من أُمور ثلاثة :

    1 ـ إِنَّ رجلا جاء إلى ابن عمر فقال : أحلف بالكعبة؟ فأجابه بقوله : لا ، ولكن احلف برب الكعبة.

    2 ـ إِنَّ عمر بن الخطاب كان يحلف بأبيه ، فنهاه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عن ذلك.

    3 ـ إِنَّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) علل ذلك بقوله : « من حلف بغير اللّه فقد أشرك ».

    والمتبادر من كلام الرسول حيث وقع تعليلا لنهي عمر عن الحلف بوالده ـ الكافر ـ ما إذا كان المحلوف به شيئاً غير مقدس كالكافر والصنم ، وأما إذا كان المحلوف به مقدساً وذا فضيلة وكرامة كالكعبة ، فكلام الرسول منصرف عنه ، وإنما اجتهد ابن عمر حيث حمل كلام الرسول حتّى على الحلف بالمقدس ، كالكعبة ، واجتهاده حجة على نفسه لا على غيره.

    وهناك جواب آخر ، وهو أنه يحتمل وقوع التحريف في الخبر ، وأن قوله فقال : « رسول اللّه » مصحّف قوله : وقال رسول اللّه ، وعندئذ يكون كلام الرسول مستقلا ، لا تعليلا بشيء حتّى النهي عن الحلف بالكافر ، وعلى هذا فالحديث مركب من أُمور ثلاثة جمعها ابن عمر في حديث واحد.

    والّذي يعرب عن أنّ كلام الرسول كان كلاماً مستقلا غير واقع في ذيل النهي عن الحلف بالأب ، ما رواه إمام الحنابلة عن ابن عمر ، قال :

     « كان يحلف أبي ، فنهاه النبي وقال : من حلف بشيء دون اللّه فقد أشرك » (2) فلو كان كلام الرسول مصدّراً بنهي عمر عن الحلف بأبيه كان اللازم أن يقول : « فقال » مكان « قال » وعلى فرض استقلاله ووروده بدون

________________________________________

1 ـ السنن للبيهقي : ج 1 ص 29 ، وقريب منه في مسند أحمد : ج 2 ص 69.

2 ـ مسند أحمد : ج 2 ص 34.

________________________________________

(308)

« الفاء » يكون القدر المتيقن منه الحلف بالأصنام.

    ويشهد على ذلك ما رواه النسائي : أن النبىَّ ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) قال : « من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلاّ اللّه » (1).

    والحديث يعرب عن أن رواسب الجاهلية كانت باقية في بعض النفوس ، فكانوا يحلفون بأصنامهم المعبودة ، فأمرهم النبي أن يقولوا بعد الحلف : « لا إله إلاّ اللّه » ليقضي على تلك الرواسب الجاهلية.

    وحصيلة الجوابين : إنَّ قول النبي : « من حلف بغير اللّه فقد أشرك » إمّا مختص بغير المقدسات كالحلف باللات والعزى والكافر ، أو مختص بالأصنام والأوثان فقط ، ولا يعم الكافر فضلا عن المقدسات.

________________________________________

1 ـ سنن النسائي : ج 7 ص 8.

________________________________________

(309)

(11)

    ابن تيمية والحلف على اللّه بحق الأولياء

    إنّ من نقاط الاختلاف بين جماهير المسلمين والوهابيين هي مسألة الحلف على اللّه بحق الأولياء.

    قال ابن تيمية : التوسل في لغة الصحابة : أن يطلب من النبي الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين و متوجهين بدعائه وشفاعته ، ودعاؤه وشفاعته من أعظم الوسائل عند اللّه ، وأمّا في لغة كثير من الناس : أن يسأل بذلك ، ويقسم عليه بذلك ، واللّه تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات ، بل لا يقسم بها بحال ، فلا يقال أقسمت عليك يا رب بملائكتك ، ونحو ذلك ، بل إنما يقسم باللّه وأسمائه وصفاته ... وأمّا أن يسأل اللّه ويقسم عليه بمخلوقاته ، فهذا لا أصل له في الإسلام.

    وقال : وقوله : « اللّهمّ إنّي أسألك بمعاقد العز من عرشك ، ومنتهى الرحمة من كتابك ، وباسمك وجدك الأعلى وكلماتك التامة » مع أنّ في جواز الدعاء به قولين للعلماء : فجوّزه أبو يوسف وغيره ، ومنع منه أبو حنيفة وأمثاله ، فينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية المشروعة الّتي جاء بها الكتاب والسنة (1).

    ترى أنّ ابن تيمية يفتي بالحرمة من دون أن يذكر لها مصدراً ، بل يفتي على خلاف النص كما ستعرفه.

________________________________________

    1 ـ مجموعة الرسائل والمسائل : ج 1 ص 21.

________________________________________

(310)

    وجاء الرفاعي يتفلسف في تبيين حرمة الحلف على اللّه بمخلوقه ، ويقول :

    إنّ الإقسام على اللّه بمخلوقاته أمر خطير يقرب من الشرك ، إن لم يكن هو ذاته ، فالإقسام على اللّه بمحمد وهو مخلوق بل وأشرف المخلوقين لا يجوز ، لأنّ الحلف بمخلوق على مخلوق حرام ، وإنّه شرك لأنّه حلف بغير اللّه ، فالحلف على اللّه ، بمخلوقاته من باب أولى ، أي جعلنا المخلوق بمرتبة الخالق ، والخالق بمرتبة المخلوق ، لأنّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه ، ولذلك كان الحلف بالشيء دليلا على عظمته ، وأنّه أعظم شيء عند المحلوف عليه (1).

    ومن هنا كان الحلف بالمخلوق على اللّه شركاً باللّه ، لأننا خصصنا هذه المكانة العليا بالمخلوق ، مع أنها هي بالخالق أولى (2).

    يلاحظ عليه : أنّ كلامه يشتمل على أمرين :

    1 ـ إنَّ الحلف بغير اللّه شرك.

    2 ـ إنَّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه ، فلازم الحلف بالمخلوق على اللّه كونه أعظم من اللّه.

    وكلتا الدعويين باطلتان ، أمّا الأُولى فقد عرفت في البحث السابق أن الحلف بغير اللّه ليس بحرام ، بل هو سنة متبعة بين المسلمين ، فقد حلف رسوله ووصيه بغير اللّه ، وأن الكتاب قدوة وأسوة ، فقد حلف بعمر النبي وحلف بالقرآن الكريم وقال : « يس والقرآن الحكيم » فما هذا الإفتاء به دليل ، والتشريع بلا برهان؟

     ( قُلْ ُآللّه أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرونَ ) (3).

________________________________________

1 ـ تلاحظ أن هذا لا ينسجم مع ما سبق منه : « إنّ المحلوف به أعظم من المحلوف عليه » وفي النسخة بعد لفظة « عليه » لفظة « به ».

2 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل : ص 217 ـ 218.

3 ـ سورة يونس : الآية 59.

(311)

    و أمّا الثانية فالمصيبة فيها أعظم ، فإن لازم الحلف بشيء على اللّه ، أن يكون المحلوف به محترماً عند اللّه و مقبول الشفاعة والدعاء ، لا كونه أعظم من المحلوف عليه ، فالرجل لم يفرق بين كونه أكرم عند الّه وبين كونه أعظم من اللّه ، والحاصل أنّ هذه التفلسفات لا تكون مدركاً للتشريع والإفتاء بالحرمة ، فيجب اتّباع النص وتعليل المسألة في ضوء القواعد الفقهية ، فها هنا مقامان :

    1 ـ هل الحلف بمخلوق على اللّه شرك؟

    2 ـ هل هناك ما يدل على حكم هذا الحلف؟

    أمّا الشرك فقد حددناه ووضعنا له حداً منطقياً ، وهو الخضوع عن اعتقاد بألوهية المخضوع له وربوبيته ، أو كونه قائماً بفعله سبحانه ، وهل ينطبق هذا الحد على الحلف بالمخلوق على اللّه؟

    إنّ الذكر الحكيم يصف بعض عباد اللّه ويقول :

     ( الصَّابِرينَ والصَّادِقينَ والقَانَتِينَ والمُنْفِقِينَ وَالمُسْتَغْفِرينَ بِالأسْحَارِ ) (1).

    فلو أنّ إنساناً قام في هزيع من الليل وصلّى لربه ركعات ، ثم تضرع إلى اللّه قائلا :

     « اللّهمّ إنّي أسألك بحق المستغفرين في الأسحار ، اغفرلي ذنبي » فهل يصحّ لنا أن نعده مشكركاً ، وأنه أشرك الغير في عبادة اللّه ، مع أنه رفع يديه إلى اللّه سبحانه ودعاه بالضراوة؟

    إنّ القرآن الحكيم ذكر مقياساً للتمييز بين المشرك والموحّد فقال :

     ( إِنَّهُم كَانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إلاّ اللّه يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقولُونَ أَئِنّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنا لِشَاعِر مَجْنُون ) (2).

________________________________________

1 ـ سورة آل عمران : الآية 17.

2 ـ سورة الصافات : الآية 35 ـ 36.

________________________________________

(312)

    وقال : ( وَإذَا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإذَا ذُكِرَ الَّذينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (1) وقال سبحانه : ( ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُم ، وَإنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤمِنُوا فَالحُكْمُ لَلّهِ العَلِىِّ الكَبير ) (2).

    فهل ينطبق هذا المقياس المركز عليه في الذكر الحكيم على من أحلف اللّه بحبيب من أحبائه ، أو شهيد من شهداء دينه؟ فهل هو من الذين إذا دعي اللّه وحده كفر ، وإن أشرك به آمن؟

    كلاّ وألف كلاّ.

    إنّ أرخص شيء وأوفره في سوق الوهابيين هو البذاءة في اللسان ، وتكفير المسلمين واتهامهم بالشرك ، فكأنهم لا يوجد في علبتهم إلاّ السب والكلام البذيء والاتهام بالشرك ، معرضين عن قوله سبحانه :

    ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤمِناً ) (3)

    وكأنه سبحانه خوّل تفسير الشرك إلى الوهابيين ليفسروه كيف يشاؤون ، فيعتبروا جماعة مشكرين وأُخرى موحدين.

    أمّا المقام الثاني ، أعني استخراج حكم المسألة من الكتاب والسنة ، فيكفي في ذلك :

    1 ـ ما رواه أبو سعيد الخدري قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ما خرج رجل من بيته إلى الصلاة فقال : اللّهمّ إنّي أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي ... (4).

    2 ـ ما رواه البيهقي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) :

________________________________________

1 ـ سورة الزمر : الآية 45.

2 ـ سورة غافر : الآية 12.

3 ـ سورة النساء : الآية 94.

4 ـ لاحظ ص 257 ، 261 ، 232 ، 258 من هذا الجزء.

________________________________________

(313)

لما اقترف آدم الخطيئة قال : يا رب أسألك بحق محمد إلاّ غفرت لي.. » (1).

    3 ـ وما رواه عثمان بن حنيف عن رسول اللّه من دعاء الرسول للضرير وفيه « اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمد نبىّ الرحمة ... » (2).

    4 ـ وما روي من دعاء النبي عند دفن فاطمة بنت أسد ، قال : اغفر لفاطمة بنت أسد ووسّع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي » (3).

    إنّ هذه الأحاديث وإن خلت من لفظ القسم بعينه ، لكن مضمونه موجود لمكان الباء فيها ، والمعنى : أقسم عليك بحقّهم.

    هذا ما روي عن النبي الأكرم ، وإليك ما روي عن أئمة أهل البيت( عليهم السَّلام ) .

    5 ـ هذا إمام المتقين أميرالمؤمنين علي ( عليه السَّلام ) يقول في دعائه بعد صلاة الليل : « اللّهمّ إني أسألك بحرمة من عاذ بك منك ، ولجأ إلى عزّك ، واستظلّ بفيئك ، واعتصم بحبلك ، ولم يثق إلاّ بك » (4).

    6 ـ ويقول في دعاء علّمه لأحد أصحابه ... « وبحق السائلين عليك ، والراغبين إليك ، والمتعوذين بك ، والمتضرعين إليك ، وبحق كل عبد متعبّد لك في كل برّ أو بحر أو سهل أو جبل ، أدعوك دعاء من اشتدّت فاقته » (5).

    7 ـ وهذا أبو الشهداء الإمام الحسين بن علىّ ( عليهما السَّلام ) يقول في دعائه :

     « اللّهمّ إني أسالك بكلماتك ، ومعاقد عزك ، وسكان سماواتك وأرضك ، وأنبيائك ورسلك أن تستجيب لي ، فقد رهقني من أمري عسر ،

________________________________________

     ( 1 ، 2 ، 3 ) المصدر السابق.

    (4 ، 5 ) الصحيفة العلوية : ص 370.

________________________________________

(314)

فأسألك أن تصلي على محمد وآل محمد ، وأن تجعل من أمري يسراً ».

    8 ـ وهذا هو الإمام زين العابدين يقول في دعائه يوم عرفة وهو يناجي ربّه :

     « بحقّ من انتخبت من خلقك ، بمن اصطفيته لنفسك ، بحقّ من اخترت من بريّتك ، ومن اجتبيت لشأنك ، بحقّ من وصلت طاعته بطاعتك ، ومن نيطت معاداته بمعاداتك » (1).

    وهذا هو الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) يقول عندما زار مرقد جده الإمام أميرالمؤمنين ( عليه السَّلام ) :

     « اللّهمّ استجب دعائي ، واقبل ثنائي ، واجمع بيني وبين أوليائي بحق محمد وعلىّ وفاطمة والحسن والحسين » (2).

    ولعلّ القارىء يسأل : هل للوهابيين على تحريم هذا النوع من الحلف دليل؟

    والجواب : نعم ، إنّ لهم شُبهاً وظنوناً فحسب ، وإليك البيان :

    1 ـ إنّ الإقسام على اللّه بمخلوق منهي عنه باتفاق العلماء (3).

    إنّ معنى الإجماع على حكم هو اتفاق علماء الإسلام في جميع الأعصار ، أو في عصر واحد على حكم.

    وأيضاً نسأل من أين وقف هذا الناقل للإجماع على اتفاق علماء الإسلام على التحريم؟ ونحن نسامحه ونقول : هل أفتى خصوص أئمة المذاهب الأربعة بالحرمة؟ فأين هذه الفتاوى؟ دلونا على محلها ومصادرها وكتبها!.

    ثم ما قيمة هذه الفتاوى المدّعاة تجاه النصوص والأحاديث الصحيحة

________________________________________

1 ـ الصحيفة السجادية : الدعاء 47.

2 ـ مصباح المتهجد : ص 681.

3 ـ الهدية السنية ، المنسوب إلى عبدالعزيز بن محمد بن مسعود كما في كشف الارتياب ، ص 329.

________________________________________

(315)

والآثار المروية عن أئمة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) ، أو ليسوا من السلف الصالح والقادة الأعلين؟.

    2 ـ إنّ المسألة بحق المخلوقين لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.

    إنّ هذا الاستدلال عجيب جداً. هذه هي الآيات القرآنية تثبت حقوقاً على اللّه سبحانه لعباد اللّه الصالحين ، وكذلك الأحاديث الشريفة :

     ( وَكَانَ حَقَّاً عَلَينَا نَصْرُ المُؤمِنِينَ ) (1).

    ( وَعْداً عَلَيهِ حَقّاً فِي التَّوراةِ وَالإنجيلِ ) (2).

    ( كَذَلِكَ حَقّاً عَلَينَا نُنْجِ المُؤمِنينِ ) (3).

    وبالإضافة إلى ما سبق من الآيات الكريمة ... هناك مجموعة كبرى من الأحاديث الشريفة في هذا المجال ، وإليك نماذج منها :

    ألف ـ قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « حقٌّ على اللّه عون من نكح التماس العفاف مما حرم اللّه » (4).

    ب ـ « ثلاثة حق على اللّه عونهم : الغازي في سبيل اللّه ، والمكاتب الّذي يريد الأداء ، والناكح الّذي يريد التعفف » (5).

    ج ـ « أتدري ما حق العباد على اللّه ... » (6).

    نعم إنّ من الواضح أنه ليس لأحد بذاته حق على اللّه ، فعندئذ ، ربما يُسأل عن معنى هذا الحق؟

________________________________________

1 ـ سورة الروم : الآية 47.

2 ـ سورة التوبة : الآية 111.

3 ـ سورة يونس : الآية 103.

4 ـ الجامع الصغير ، للسيوطي : ج 2 ص 33.

5 ـ سنن ابن ماجة : ج 2 ص 841.

6 ـ النهاية لابن الأثير ، مادة حق.

________________________________________

(316)

    الجواب : إنّ المقصود من الحق هو المنزلة الّتي يمنحها اللّه تعالى لعباده مقابل طاعتهم وانقيادهم له ، وهو مزيد من التفضل والعناية منه تعالى حقاً ، فهذا هو الحق الّذي نقسم به على اللّه ، حق جعله اللّه ومنحه لعبده ، لا أنّ للعبد حقاً على اللّه ذاتاً ، وهذا مثل القرض الّذي يستقرضه سبحانه من عباده ويقول :

     ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرضاً حَسَناً ) (1).

    وهذا النوع من التعبير لطف من اللّه سبحانه وعناية فائقة بعباده ، حيث يعتبر نفسه المقدسة مدينة وعباده دُيّاناً ، فلما أعظم لطفه ، مع أنّه سبحانه هو المالك ، والعباد خلفاؤه.

    قال : ( آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنفِقُوا مَمّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ، فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (2).

    ترى أنّ مالك الملوك يستقرض من خلفائه ونوابه.

    3 ـ عن جندب بن عبداللّه قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : قال رجل : واللّه لا يغفر اللّه لفلان ، فقال اللّه عزّوجلّ :

     « من ذا الّذي يتألى علىّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك ».

    رواه مسلم :

    وقد استدل به الشيخ عبدالرَّحمان حفيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتابه « قرة عيون الموحدين » (3).

    ولم يذكر كيفية الاستدلال ، وذيّل كلامه بحديث أبي هريرة الّذي رواه أبو داود عنه قال : سمعت رسول اللّه يقول : كان رجلان في بني إسرائيل

________________________________________

1 ـ سورة البقرة : الآية 245.

2 ـ سورة الحديد : الآية 7.

3 ـ ص 333 ، طبع لاهور.

________________________________________

(317)

متواخيين ، فكان أحدهما يذنب ، والآخر مجتهد في العبادة ، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول : اقصر ، فوجده يوماً على ذنب فقال له : اقصر ، فقال : خلني وربي ، أبُعثت علىّ رقيباً؟ واللّه لا يغفر اللّه لك ولا يدخلك الجنة ، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكتب بي عالماً؟ أو على ما في لِدي قادراً؟ فقال للمذنب : أذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : إذهبوا به إلى النار (1).

    والحديث الثاني يفسر الحديث الأول ، وأنّ المراد من قوله : « يتألى علّي أن لا أغفر لفلان » هو الحلف بلا علم على اللّه ، كما ورد في الحديث الثاني : « أكنت بي عالماً ، أو على ما في يدي قادراً » ؟.

________________________________________

1 ـ قرة عيون الموحدين : ص 233 ، والحديث في التعليقة وفي المتن إشارة إليه.

________________________________________

(318)

(12)

ابن تيمية وتكريم مواليد أولياء اللّه ووفياتهم

    إنّ من المنكرات والبدع عند ابن تيمية وابن عبدالوهاب هو تكريم مولد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) بالاحتفال وقراءة القرآن و إنشاد القصائد والأشعار ، والإحسان إلى المؤمنين بالإطعام ، إلى غير ذلك مما يعد مجلي لحب النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وتكريمه ورفعه ، كما رفعه اللّه سبحانه وقال : ( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَك ) (1).

    وقد عرفت في ترجمة ابن تيمية أنّ مسلكه يشتمل على أبعاد أربعة ، وأحد الأبعاد هو الحط من كرامة النبي وعظمته الّتي جاءت في الكتاب والسنة ، فجاء يحقق بغيته بتحريم الاحتفال بالمواليد والتأبين في الوفيات ، مع أنه لا يشك ذو مسكة أنّه ليس عبادة للنبي ، لما عرفت من أنّ العنصر المقوم للعبادة هو الاعتقاد بألوهية المعبود أو ربوبيته أو كونه مفوضاً إليه فعل الرب ، وليس في الاحتفال شيء من ذلك.

    وكما أنه ليس عبادة ، ليس بدعة ، لأنه تجسيد للأصل الوارد في الذكر الحكيم ، وهو حب النبي ومودته على وجه يكون النبي مقدماً على الإنسان ونفسه ونفيسه ، وقد قام به السلف طيلة قرون ، وإجماع العلماء في عصر حجة ، فكيف في قرون ، ومع ذلك فابن تيمية يظهر ما يضمره عن طريق تحريم هذه الاحتفالات ويقول :

________________________________________

1 ـ سورة الانشراح : الآية 4.

________________________________________

(319)

    إنّ اتخاذ هذا اليوم عيداً محدث لا أصل له ، فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم من اتخذ ذلك عيداً ، حتّى يحدث فيه أعمالا ، إذا الأعياد شريعة من الشرائع ، فيجب فيها الإتباع لا الإبتداع ، وللنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) خطب وعهود ، ووقائع في ايام متعددة ، يذكر فيها قواعد الدين ، ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعياداً ، وإنما يفعل مثل هذا ، النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى ( عليه السَّلام ) أعياداً ، أو اليهود ، وإنما العيد شريعة ، فما شرعه اللّه أتبع ، وإلاّ لم يحدث في الدين ما ليس منه.

    وكذلك ما يحدثه بعض الناس إمّا مضاهاةً للنصارى في ميلاد المسيح( عليه السَّلام ) ، وإمّا محبة للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وتعظيماً له ، واللّه قد يثيبهم على هذه المحبة ، والاجتهاد ، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عيداً مع اختلاف الناس في مولده ، فإنّ هذا لم يفعله السلف ، مع قيام المقتضي له ، وعدم المانع منه ، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف ـ رضي اللّه عنهم ـ أحق به منّا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وتعظيماً له منّا ، وهم على الخير أحرص (1).

    إنّ هذه البذرة الّتي بذرها ابن تيمية استغلّها تلميذه ابن القيم وبعده الوهابية ، وإليك بعض نصوصهم :

    قال ابن القيم : « نهى رسول اللّه عن اتّخاذ القبور مساجد ، وإيقاد السرج ، واشتد نهيه في ذلك حتّى لعن فاعله ، ونهى عن الصلاة إلى القبور ، ونهى أن يتخذوا عيداً » (2).

    وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ :

     « وقد أحدث هؤلاء المشركون أعياداً عند القبور الّتي تعبد من دون اللّه ، ويسمونها عيداً كمولد البدوي بمصر وغيره ، بل هي أعظم لما يوجد فيها

________________________________________

1 ـ اقتضاء الصراط المستقيم : ص 293 ـ 294.

2 ـ زاد المعاد في هدى خير العباد : ج 1 ص 179.

________________________________________

(320)

من الشرك والمعاصي العظيمة » (1).

    وقال محمد حامد الفقي : « والمواليد والذكريات الّتي ملأت البلاد باسم الأولياء ، هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم » (2).

    وقد استدلوا بما رواه أبو هريرة ، قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، ولا تجعلوا قبري عيداً ، وصلّوا علىَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنت » (3).

    وملاحظة هذه الكلمات تفيد أنهم يستدلون على التحريم بأُمور :

    الأول : إِنَّها عبادة للأولياء وأصحاب الذكريات.

    الثاني : إِنَّها بدعة ، وإِنَّها مما لم يشرعه الشارع الشريف.

    الثالث : لو كان هذا خيراً لأقامه السلف.

    الرابع : الاستدلال برواية أبي هريرة من النهي عن اتخاذ قبر النبي عيداً.

    هذه هي الوجوه المهمة الّتي يستدل بها ابن تيمية وأتباعه على تحريم تكريم المواليد ، ونحن ندرس كل واحد من هذه الأدلة واحداً بعد آخر :

 

أ ـ هل الاحتفال بالمواليد شرك؟

    قد عرفت أنّ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية أفتى بكونه شركاً ، وقال : هو نوع من العبادة للأولياء وتعظيمهم.

    ولكنّه كعامة الوهابيين لم يفرّق بين التكريم والعبادة ، ولذلك عطف التعظيم على العبادة ، وهذا هو الداء العياء في دعاية الوهابيين وكتبهم وخطبهم ، وأرخص شيء عندهم هو الشرك في العبادة ، فلا تميل يميناً ولا يساراً

________________________________________

1 ـ قرة العيون ، كما في فتح المجيد : ص 154.

2 ـ تعليق فتح المجيد : ص 154.

3 ـ مسند أحمد : ج 3 ص 248.

(321)

إلاّ وتسمع من الجماعة المتسمين بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يصرخون في وجهك « يا حاج! هذا شرك » وهم لم يحددوا للعبادة حداً منطقياً حتّى يميزوا في ضوئه العبادة عن التعظيم ، فعادوا يسمّون كل تعظيم شركاً ، ولو كان تعظيم وخضوع عبادة ، للزم كفر المملوك والزوجة ، والولد والخادم ، والأجير ، والرعية ، والجنود ، بإطاعتهم وخضوعهم للمولى والزوج والأب والمخدوم والمستأجر والملك والأمراء ، وجميع الخلق لإطاعتهم بعضهم بعضاً ، بل كفر الأنبياء لإطاعتهم آباءهم وخضوعهم لهم ، وقد أوجب اللّه طاعة أوامر الأبوين ، وخفض جناح الذل لهما ، وقال لرسوله : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَن اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤمِنِيِنَ ) (1) ، وأمر بتعزير (2) النبي وتوقيره ، وأمر بإِطاعة الزوجة لزوجها ، وأوجب إطاعة العبيد لمواليهم وسمّاهم عبيداً (3).

    وقد عرفناك على أنّ العنصر المقوم لكون التعظيم عبادة ، هو الاعتقاد بألوهية المعظَّم له ، أو ربوبيته ، أو كونه مالكاً لمصير المعظّم ، وأنّ بيده عاجله وآجله ، ومنافعه و مضارّه ، ولا اقل مغفرته وشفاعته ، وأمّا إذا خلا التعظيم عن هذه العناصر ، وقام بالاحتفال بذكرى رجل ضحّى بنفسه ونفيسه من أجل استقلال أُمته وإخراجها عن نير الاستعباد ، وهيّأ لهم أسباب الاستقلال ، فلا يعد ذلك عبادة له ، وإن كان هناك احتفال أو احتفالات ، وأُلقي فيها عشرات القصائد والخطب فلا صلة لهذابالعبادة. نعم يدور أمر كل ذلك بين الحلال والحرام ، وهل الشارع رخص ذلك أو لم يرخص ، وسيوافيك أنّ باذر هذه الشكوك ابن تمية ، يرى أن الأصل في العادات عدم الخطر ، إلا ما حظره اللّه (4). نعم ، الاحتفال بمولد النبي ليس من العادات ، ولا يقام بما أنه أمر عادي بل بما هو أمر قربي له أصل في الكتاب والسنة كما مرّ وسيأتي أيضاً.

________________________________________

1 ـ سورة الشعراء : الآية 215.

2 ـ إشارة إلى قوله سبحانه : ( فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوه النور الّذي أُنزل معه ) سورة الأعراف : الآية 157

3 ـ كشف الارتياب ، ص 103 وللكلام صلة مفيدة جداً فمن أراد فليرجع إليه.

4 ـ المجموع من فتاوى ابن تيمية : ج 4 ص 195.

________________________________________

(322)

ب ـ هل الاحتفال بالمواليد بدعة؟

    إنّ القوم يعدّون الاحتفال شركاً تارة ، وبدعة ثانياً ، وقد عرفت أنه ليس بشرك لفقدان العنصر المقوم للشرك فيه ، وأمّا كونه بدعة فقد عرفت بطلانه عند البحث عن أنه عبارة عن إحداث أمر باسم الدين ، وليس له فيه نصّ أو أصل ، والاحتفال ، وإن لم يكن فيه نص ، لكن له أصلا في الكتاب والسنة ، وهو حبّ النبي ومودته وإظهاره; فليست هذه الاحتفالات إلاّ تجسيداً للحب لا للعداء والنصب والبغضاء ، نعم ، المنع عنه إظهار للضغينة الكامنة في القلوب.

    هلمّ معنا ندرس دليلهم الثالث :

 

ج ـ لو كان خيراً لأقامة السلف

    هذا هو الدليل الثالث الّذي يركن إليه المانع ، وهو من أعجب الدلائل ، فكأنّ السلف مقياس الحق والباطل في الفعل والترك معاً ، فلو تركوا شيئاً دل ذلك على أنه باطل يجب تركه ، نحن نفترض أنّ السلف لم يقيموه ولم يحوموا حوله ، ولكن الخلف أبناء الدليل ، فلو كان له أصل في القرآن والسنة لا يعبأ بترك السلف. على أنّ هذا ما يقوله القائل ، ونحن إذا رجعنا إلى التاريخ نجد أنّ السلف أقامه عبر القرون والأجيال قبل أن يتولد باذر هذه الشكوك.

    هذا مؤلف تاريخ الخميس يقول : ولا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده ، ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ، يظهرون السرور ، ويزيدون في المبرّات ، يعتنون بقراءة مولده الشريف ، ويظهر عليهم من كراماته كل فضل عميم (1).

    وقال القسطلاني : ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده( عليه السَّلام ) ، ويعملون الولائم ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات ،

________________________________________

1 ـ تاريخ الخميس ، ج 1 ص 323 للديار بكري.

________________________________________

(323)

ويظهرون السرور ، ويزيدون في المبرات ويعتنون بقراءة مولده الكريم. ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم ... فرحم اللّه امرأً اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ليكون أشدّ علّةً على من في قلبه مرض وأعياه داء.

    ولقد أطنب ابن الحاج في « المدخل » في الإنكار على ما أحدثه الناس من البدع و الأهواء ، والغناء بالآلات المحرمة في العمل بالمولد الشريف ، واللّه تعالى يثيبه على قصده الجميل (1).

    وقال ابن عباد في رسائله الكبرى : « وأمّا المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين ، وموسم من مواسمهم ، وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك ... أمر مباح لا منكر » (2).

 

كلمة أخيرة

    إنّ المانعين عن الاحتفال بمولد النبي يقولون : إنّ أول من احتفل بمولد النبي هو الأمير أبو سعيد مظفر الدين الاربلي عام 630 هـ ، وربما يقال : أول من أحدثه بالقاهرة ، الخلفاء الفاطميون ، أولهم المعز لدين اللّه ، توجه من المغرب إلى مصر في شوال 361 هـ ، وقيل في ذلك غيره (3) وعلى أي تقدير فقد احتفل المسلمون حقباً وأعواماً من دون أن يعترض عليهم أىّ ابن أُنثى ، وعلى أىّ حال فقد تحقق الإجماع على جوازه وتسويغه واستحبابه قبل أن يتولد باذر هذه الشكوك ، فلماذا لم يكن هذا الإجماع حجة؟ مع أن اتّفاق الأُمة بنفسه أحد الأدلة ، وكانت السيرة على تبجيل مولد النبي إلى أن جاء ابن تيمية ، والعز بن عبد السلام ، وابن رجب ، والشاطبي فناقشوا فيه ووصفوه بالبدعة ، مع أنّ الإجماع انعقد قبل هؤلاء بقرون ، أو ليس انعقاد الإجماع في عصر من العصور حجة بنفسه ؟

________________________________________

1 ـ المواهب اللدنية : ج 1 ص 27.

2 ـ لاحظ المواسم والمراسم ، نقلا عن القول الفصل في الاحتفال بمولد خير الرسل ص 175.

3 ـ المواسم والمراسم : ص 20.

________________________________________

(324)

الدليل الأخير « لا تجعل قبري وثناً يعبد »

    آخر ما في كنانة القوم من نبال مرشوقة إلى المؤمنين المحتفلين بمولد النبي الأكرم ، ما روى أبو هريرة ، قال : قال رسول اللّه : « لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، ولا تجعلوا قبري عيداً ، وصلّوا علىّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم ».

    وفي الاستدلال بالحديث مجال للنظر :

    أولا : إنّ إمام الحنابلة رواه في مسنده عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة. عن النبي أنه قال : « اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً. لعن اللّه قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (1).

    ورواه في كنز العمال بالنحو التالي :

     « اللّهمّ لا تجعل قبري وثناً يصلّى إليه ، فإنّه اشتدّ غضب اللّه على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » (2).

    وفي الوقت نفسه رواه إمام الحنابلة عن أبي هريرة : قال رسول اللّه : « لا تتخذوا قبري عيداً ، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، وحيثما كنتم فصلّوا علّي فإنّ صلاتكم تبلغني » (3).

    وروى أبو داود في صحيحه عن أبي هريرة نفس هذا المتن (4).

    ومن المتحمل جداً طروء التصحيف على الرواية ، فبدل « وثناً » إلى « عيداً » ويؤيد ذلك ذيل الرواية ، أعني قوله : « ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً » فإنه يناسب قوله : « لا تجعل قبري وثناً ».

    وثانياً : إنّ العيد في اللغة هو الموسم ، وهو كل يوم فيه اجتماع أو تذكار

________________________________________

1 ـ مسند أحمد : ج 2 ص 246.

2 ـ كنز العمال : ج 2 برقم 3802.

3 ـ مسند أحمد : ج 2 ص 367.

4 ـ سنن أبي داود : ج 2 ص 218 ، طبع دار إحياء التراث العربي.

________________________________________

(325)

لذي فضل ، أو حادثة مهمة ، سمّي عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد.

    فعلى هذا لا يصحّ أن يقع خبراً لقوله : « قبراً » إذا لا معنى لجعل القبر عيداً ، فإنما يصحّ جعل موسم أو يوم مشخّص عيداً ، فهو يقع خبراً أو صفة للزمان لا للمكان ، ولو صحّ جعله صفة للمكان فإنما هو باعتبار اليوم الّذي يجتمع الناس فيه في ذلك المكان ، فالتعبير الوارد في الحديث لا يوافق الذوق العربي السليم ، فكيف يمكن نسبته إلى أشرف من نطق بالضاد ، ولو أُريد منه ما يحاول المستدل أن يثبته كان الأولى أن يقول : لا تتخذوا مولدي عيداً ، لا قبري عيداً ، أو يقول : لا تتخذوا مولدي حول قبري عيداً.

    وحصيلة الكلام أنّ يوم العيد هو يوم الفرح ويوم الزينة ، ولا يمكن تطبيق هذا المعنى على القبر ، إلاّ بارتكاب مجاز متكلف فيه.

    وثالثاً : إنّ الرواية لم يعمل بها الصحابة حيث جعلوا بيت النبي قبوراً ، إذ دفن فيه النبي الأكرم ، وبعده أبو بكر وعمر ، فصار بيته قبوراً.

    وأمّا الاعتذار بأنّ للأنبياء خصوصية ليست لغيرهم وهي أنهم يدفنون حيث يقبضون ، لا يدفع الإشكال ، إذ ليست هذه الخصوصية في غيرهم كصاحبيه « أبي بكر وعمر » فلماذا جعل بيت النبي قبوراً.

    ورابعاً : إنّ الحديث يحتمل معاني مختلفة وراء ما يرتئيه المستدل.

    1 ـ منها ما ذكره الحافظ المنذري من أنه يحتمل أن يكون المراد به الحث على كثرة زيارة قبر النبي ، وأن لا يهمل حتّى يكون بمثابة العيد (1).

    2 ـ ومنها ما ذكره السبكي حيث قال : « ويحتمل أن يكون المراد : لا تتخذوا وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلاّ فيه ، كماترى أنّ كثيراً من المشاهد ، لزيارته يوم معين كالعيد ، وزيارة قبره ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ليس لها يوم بعينه ، بل أي يوم كان (2)

________________________________________

1 ـ شفاء السقام : ص 67 ، نقلا عن زكي الدين المنذري ( أي : يزار بين المدة الطويلة كالعيد الّذي لا يكون في كل عام إلاّ يوماً واحداً أو يومين ) .

2 ـ المصدر نفسه.

________________________________________

(326)

    3 ـ ومنها ما ذكره أيضاً من أنه يحتمل أن يراد أن يجعل كالعيد في العكوف عليه ، وإظهار الزينة والاجتماع وغير ذلك مما يعمل في الأعياد ، بل لا يؤتى إلاّ للزيارة والسلام والدعاء ثم ينصرف عنه.

    وقال العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي : « يحتمل قوياً أن يكون المراد أنّ اجتماعهم عند قبره ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ينبغي أن يكون مصحوباً بالخشوع والتأمل والاعتبار ، حسبما يناسب حرمته واحترامه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فإنّ حرمته ميتاً كحرمته حياً ، فلا يكون ذلك مصحوباً باللهو واللعب والغفلة والمزاح وغير ذلك مما اعتادوه في أعيادهم ، ثم عقبه بقوله : ولعل هذا مراد السبكي » (1).

    وخامساً : إنّ الحديث بكلتا صورتيه ( وثناً ـ عيداً ) ضعيف.

    أمّا الصورة الأُولى فقد وقع في السند « سهيل بن أبي صالح » وهو ليس بالقوي في الحديث ، والحديث ليس بحجة; قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به ، وقد كان اعتلّ بعلّة فنسي بعض حديثه ، وقال ابن المديني : مات أخ لسهيل ووجد عليه فنسي كثيراً من الحديث ، وقال ابن أبي خيثمة : ابن معين يقول : لم يزل أصحاب الحديث يثقون بحديثه ، وقال مرة : ضعيف (2).

    وأمّا الصورة الثانية فقد وردت في مسند الإمام أحمد وأبي داود « عبداللّه بن نافع » قال البخاري : يعرف حفظه وينكر ، وقال أحمد بن حنبل : لم يكن صاحب حديث ، وكان ضعيفاً فيه ، ولم يكن في الحديث بذاك ، وقال أبو حاتم الرازي : ليس بالحافظ ، هو لين يعرف حفظه وينكر ، ووثّقه يحيى بن معين ، وقال أبو زرعة : لا بأس به ، وقال ابن عدي : روى عن مالك غرائب ، وهو في رواياته مستقيم الحديث (3).

    هذا هو حال الحديث الّذي يحتج به ابن تيمية ومن يلعق قصعته من

________________________________________

1 ـ المواسم والمراسم : ص 71.

2 ـ ميزان الاعتدال : ص 243 ـ 244 ، ونقل أقوال الآخرين في توثيقه ، فالرجل مختلف فيه جداً.

3 ـ شفاء السقام : ص 66.

________________________________________

(327)

الوهابية ، وبذلك أفتوا بحرمة الاحتفال بذكرى النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) .

    وهذه هي أدلة المانعين وشواهدهم ، وقد عرفت ضعفها وعدم دلالتها على ما يرتأون ، ولنختم البحث بذكر أُمور :

     الأول : إنّ الاحتفال بالمواليد يجب أن يكون بعنوان أنّه تطبيق للأصل القرآني من لزوم تكريم النبي وتوقيره وتعظيمه ، ولأجل ذلك يصحّ إيقاعه في كل شهر وأُسبوع ويوم ، وعند ما يقام الاحتفال بمولده فإنما يقام بما أنّه جزئي لذلك بالتكريم بالخصوص ، حتّى يكون الاحتفال تجسيداً لهذا الأمر ، فهو بدعة لا يصار إليها ، ولا أرى أحداً يدّعي أنّه ورد الأمر بالخصوص بمولده.

    الثاني : يجب أن يكون الاحتفال مطابقاً للسنن الإسلامية ، خالياً عما يستقبح فعله في الشريعة ، كعزف المعازف ، واتخاذ القيان ، واختلاط الرجال بالنساء ، فلو فرض أنه اقترنت بعض هذه الاحتفالات بالمحرمات ، فلا يكون دليلا على حرمة نفس الاحتفال ، ولا يكون سبباً للمنع عنه ، فالنّ بعض الفرائص ربما تكون ذريعة لما هو أعظم من هذه المحرمات.

    الثالث : ليست لإقامة الاحتفال كيفية خاصة ، بل ينبغي أن يكون الكل في إطار الشريعة الغراء ، ويكون في طريق تكريم النبي وتعظيمه ، وإظهار الحب ، وأحسن الطرق هو تلاوة الآيات الواردة في حقه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ثم الإيعاز إلى الجهود الّتي بذلها الرسول في طريق إنقاذ البشر ، وبلغ بهم إلى أعلى مراتب العز والعظمة ، ثم دعوة المسلمين عن طريق إلقاء الخطب بالتمسك بالكتاب والسنة ، والسعي لتطبيق وتجسيد مبادئها في الحياة ، ودعم الصحوة الإسلامية للنهوض والوقوف في وجه القوى الكبرى الّتي تتربص بهم الدوائر ، إلى غير ذلك من الاُمور الّتي فيها خير وسعادة المسلمين كافة ، في عاجلهم وآجلهم.

    يقول العالم الجليل السيد محمد علوي بن عباس المالكي المكي الحسني :

 

________________________________________

(328)

« إنّنا نرى أنّ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ليست له كيفية مخصوصة لا بد من الالتزام وإلزام الناس بها ، بل إنّ كل ما يدعو إلى الخير ويجمع الناس على الهدى ويرشدهم إلى ما فيه منفعتهم في دينهم ودنياهم ، يحصل به تحقيق المقصود من المولد النبوي ، ولذلك فلو اجتمعنا على شيء من المدائح الّتي فيها ذكر الحبيب ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وفضله ، وجهاده ، وخصائصه ، ولم نقرأ قصة المولد النبوي الّتي تعارف الناس على قراءتها ، واصطلحوا عليها حتّى ظن بعضهم أن المولد النبوي لا يتم إلاّ بها ، ثم استمعنا إلى ما يلقيه المتحدثون من مواعظ وإرشادات ، وإلى ما يتلوه القارىء من آيات; أقول : لو فعلناه فإنّ ذلك داخل تحت المولد النبوي الشريف ، ويتحقق به معنى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، وأظنّ أنّ هذا المعنى لا يختلف فيه اثنان ، ولا ينتطح فيه عنزان » انتهى (1).

    ومن المؤسف جداً أنّ الوهابية قامت بشن حملة شعواء على هذا الكتاب ، ولم تراع أدب الكتابة والمناظرة إلى حد اعتراف الكاتب بأسولبه القاسي في المحاورة ، وينتهي في خاتمة كتابه إلى قوله : « ونكرر أسفنا وتأثرنا من القسوة الّتي آثرنا أن يشتمل عليها أسلوبنا في رد ترهاته ، وأباطيله ، ويعلم اللّه أن الباعث لهذا الأسلوب القاسي ، الغيرة لحق اللّه (2).

    ويؤاخذ عليه أن الغيرة لحق اللّه يجب أن تكون في إطار الأدب الّذي ندب إليه الذكر الحكيم وقال : ( ادْعُ إلى سبِيلِ رَبِّكِ بِالحِكْمِةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِىَ أَحْسَنُ ) (3).

    وكان الإمام أميرالمؤمنين علىّ ( عليه السَّلام ) يؤدب أصحابه عند مقابلة الشاتمين من الشاميين ، من أصحاب معاوية القاسطين بقوله : إنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَن تَكُونُوا سَبَّبابِينَ ، وَلَكِنَّكُمْ لَو وَصَفْتُم أعْمَالَهُم وَذَكَرتُم حَالَهُمْ ، كَانَ أصْوَبَ في القَولِ ، وأبلَغَ فِي العُذْرِ ، وَقُلتُم مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ : اللّهُمّ احْقِن دِمَاءَنَا

________________________________________

1 ـ حوار مع المالكي ، تأليف عبداللّه بن سليمان بن منيع ، ص 168.

2 ـ حوار مع المالكي ، ص 190.

3 ـ سورة النحل : الآية 125.

________________________________________

(329)

وَدِمَاءَهُمْ ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِم وَاهْدِهِم مِنْ ضَلاَلَتِهِمْ حَتّى يَعْرِفَ الحَقُّ مَنْ جَهِلَهُ ، وَيَرعَوِيَ عَنِ الغَىِّ وَالعُدُوانِ مِن لهج به (1).

    الرابع : روى أهل السنة عن الإمام علىّ بن الحسين( عليه السَّلام ) أنّ رجلا كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ويصلّي عليه ، ويصنع من ذلك ما انتهره عليه علىّ بن الحسين ( عليه السَّلام ) فقال له : ما يحملك على هذا؟ قال : حبّ التسليم على النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال علىّ بن الحسين ( عليه السَّلام ) : هل لك أن أُحدّثك حديثاً عن أبي؟

    قال : نعم ، فقال له علىّ بن الحسين ( عليه السَّلام ) : أخبرني أبي عن جدي أنه قال : قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : لا تجعلوا قبري عيداً ، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، وصلّوا علىّ وسلّموا حيثما كنتم فسيبلغني سلامكم وصلاتكم (2).

    ولو صحّ الحديث فلعل انتهاره كان لأجل أنّ الرجل زاد في الحدّ وخرج عن الحد الأوسط ، ولا صلة له بنفي الزيارة بتاتاً ، كما لا صلة له بإقامة الاحتفال والذكريات.

    إنّ هذه الرواية ظاهرة في أنه عليه الصلاة والسلام قد لاحظ أنّ ذلك الرجل قد ألزم نفسه بأمر شاق ، وهو المجي ، يومياً للصلاة عليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وزيارته ، فأراد( عليه السَّلام ) التخفيف عنه وإفهامه أنّ بإمكانه الصلاة و التسليم عليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) حيثما كان ، فسيبلغه ذلك ، فلا داعي لإلزام نفسه بما فيه كلفة ومشقّة ، ولم ينهه عن الصلاة والدعاء عند قبره ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) (3)

________________________________________

1 ـ نهج البلاغه ، الخطبة : 206.

2 ـ رواه السبكي عن عبدالرزاق عن القاضي إسماعيل في كتاب فضل الصلاة على النبي ، بسنده إلى علي بن الحسين ( عليه السَّلام ) ورواه عبدالرزاق في مصنفه بسنده إلى الحسن بن علي; لاحظ شفاء السقام ، ص 280 ـ 281 .

3 ـ المواسم والمراسم : ص 73.