ابن تيمية

كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة

دعامتان للإسلام

    بُنىّ الإسلام على كلمتين هما دعامتاه المبدئيتان : كلمة التوحيد ، وتوحيد الكلمة; أمّا الأُولى فقد دعا إليها النبي الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، بل الأنبياء والمرسلون قاطبة ، ولم يكن لهم هدف سوى إرساء قاعدة التوحيد والقضاء على الوثنية ، وما سوى ذلك من التعاليم من فروع تلك الشجرة الطيبة وأغصانها وثمارها ، ولولا هذا الأصل لما قام للدين عمود ولا اخضرّ للإسلام عود. قال سبحانه : ( و لقد بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّة رَسُولا أنِ اعبُدُوا اللّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) . (1)

    وأمّا الثانية فهي الدعامة الثانية لإرساء صرح الإسلام ، بل هي الركن الركين لنشر تعاليمه وكبح جماح الجبابرة والطواغيت ، ولولا وحدة الكلمة لكان الإسلام في بدء طلوعه فريسة لمطامع الظالمين ، وقد دعا إليها الذكر الحكيم في غير مورد من آياته. قال سبحانه : ( وَ اعتَصِموا بِحَبْلِ اللّهِ جَميعاً وَ لا تَفَرَّقُوا واذكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُم إذْ كُنْتُم أعداءً فَألَّف بين قُلُوبِكُم فَأَصبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْواناً ) (2).

    وقد قام النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في دار هجرته بتجسيد مفهوم الاخوّة بين أصحابه ، قال سبحانه : ( إنَّما المؤْمنونَ إخوةٌ فأَصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُم ) (3) ،

________________________________________

1 ـ سورة النحل : الآية 36.

2 ـ سورة آل عمران : الآية 103.

3 ـ سورة الحجرات : الآية 10.

________________________________________

(8)

فآخى بين الأوس و الخزرج ، وبين المهاجرين والأنصار ، وآخى بين نفسه وصنوه وصهره عليّ صلوات اللّه عليه (1).

    ثمّ إنّ الرسول الأكرم ـ انطلاقاً من هذا المبدأ ـ شبّه المؤمنين مع كثرتهم ووفرتهم بالجسد الواحد وقال : « مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد ( الواحد ) إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » (2).

    ولقد كان النبي الأكرم يراقب أمر الأُمة ، لا يشقّ عصاها منازع جاهل أو عدوّ غاشم ، وكان يقودها إلى الأمام برعايته الحكيمة ، وكلّما واجه خلافاً أو شقاقاً ونزاعاً بادر إلى ترميم صدعها بحزم عظيم وتدبير وثيق ، ولقد شهد التاريخ له بمواقف في هذا المجال انتخبنا منها ما يلي :

    1 ـ انتصر المسلمون على قبيلة بني المصطلق وقتل من قتل من العدوّ وأُسر من أُسر منهم; فبينما رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) على مائهم ، نشب النزاع بين رجل من الأنصار ورجل من المهاجرين ، فصرخ الأنصاري فقال : يا معشر الأنصار ، وصرخ الآخر وقال : يا معشر المهاجرين ، فلما سمعها النبي ، قال : دعوها فإنّها منتنة.. يعني إنّها كلمة خبيثة ، لأنّها من دعوى الجاهلية ، واللّه سبحانه جعل المؤمنين إخوة وصيّرهم حزباً واحداً ، فينبغي أن تكون الدعوة في كل مكان وزمان لصالح الإسلام و المسلمين عامة ، لا لصالح قوم ضدّ الآخرين ، فمن دعا في الإسلام بدعوى الجاهلية يُعزّر (3).

    فالنبي الأكرم يصف كل دعوى تشقّ عصا المسلمين و تمزّق وحدتهم بأنّها دعوى منتنة ، فكيف لا يكون كذلك وهي توجب انهدام الدعامة للكيان الإسلامي ، وبالتالي انقضاض صرح الإسلام.

________________________________________

1 ـ راجع في الوقوف على مصادر الحديث كتاب الغدير. ج 3 ص 112 ـ 124.

2 ـ مسند أحمد ج 4 ص 270.

3 ـ السيرة النبويّة ، ج 3 ص 303 غزوة بني المصطلق ، ولا حظ التعليقة للسهبيلي ، وراجع مجمع البيان ، ج 5 ص 293 وغيره من التفاسير.

________________________________________

(9)

    2 ـ نزل النبي الأكرم دار هجرته والتفّت حوله القبيلتان : الأوس والخزرج ، فمرّ شأْس بن قيس ـ الّذي كان شيخاً عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول اللّه من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الّذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية. فقال : قد اجتمع ملأُ بني غيلة بهذه البلاد ، لا واللّه ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم من قرار ، فأمر فتىً شاباً من اليهود كان معهم فقال : اعمد اليهم فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بعاث ، يوم اقتتلت فيه الأوس و الخزرج ، وكان الظفر فيه يومئذ للأُوس على الخزرج ، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهري ، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي ، فقتلا جميعاً.

    دخل الشاب اليهودي مجمتع القوم فأخذ يذكر مقاتلتهم ومضاربتهم في عصر الجاهلية ، فأحيى فيهم حميتها حتّى استعدوا للنزاع والجدال بحجة أنّهم قتل بعضهم بعضاً في العصر الجاهلي يوم بعاث ، وأخذ الشاب يُؤجّج نار الفتنة ويصب الزيت على النار حتّى تواثب رجلان من الحيّين فتقاولا.

    فبلغ ذلك رسول اللّه فخرج ، إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين ، حتّى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين! اللّه ، اللّه ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، بعد أن هداكم اللّه بالإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم من الكفر وألّف به بين قلوبكم؟

    كانت كلمة النبي كالماء المصبوب على النار بشدة وقوة ، حيث عرف القوم أنّها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) مذعنين ، متسالمين ، مطيعين قد دفع اللّه عنهم كيد عدو اللّه شأْس بن قيس ، فأنزل اللّه تعالى في شأْس وما صنع (1) ..

________________________________________

1 ـ السيرة النبوية ج 2 ص 250.

________________________________________

(10)

    3 ـ كان لقضية الإفك في عصر الرسول دوىّ بين أعدائه ، فكان عدوّ اللّه « عبد اللّه بن أُبي » يشيع الفاحشة ويؤذي النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، فقام رسول اللّه في الناس يخطبهم ، فحمد اللّه وأثنى عليه ـ ثم قال : « أيّها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق ، واللّه ما علمت منهم إلاّ خيراً ، ويقولون ذلك الرجل ، واللّه ما علمت منه إلاّ خيراً ، وما يدخل بيتاً من بيوتي إلاّ وهو معي ـ و كان كبر ذلك الإفك عند عبد اللّه بن أُبي بن سلول في رجال من الخزرج.

    فلمّا قال رسول اللّه تلك المقالة ، قال « أسيد بن حضير » وكان أوسياً : يا رسول اللّه! إن يكونوا من الأوس نكفكهم ، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك ، فواللّه إنّهم لأهل أن تضرب أعناقهم ، فقال سعد بن عبادة ـ وكان خزرجياً ـ : كذبت لعمر اللّه لا تضرب أعناقهم ، أما واللّه ما قلت هذه المقالة إلاّ أنّك قد عرفت أنّهم من الخزرج ، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد : ولكنّك منافق تجادل عن المنافقين. و عندئذ تساور الناس حتّى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شرّ. وفي لفظ البخاري : فصار الحيّان الأوس والخزرج حتّى همُّوا أن يَقْتَتِلوا ورسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) قائم على المنبر ، فلم يزل يخفّضهم حتّى سكتوا وسكت (1).

    هذه نماذج من مواقف النبي الأعظم حيال الخلافات الّتي كانت تنشب أحياناً بين أُمّته وهو ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) كان يصنع من الخلاف وئاماً ومن النزاع وفاقاً ، ويدفع الشر بقيادته الحكيمة ، وما هذا إلاّ لأنّ صرح الإسلام قائم على كلمتين : كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة.

    وهذا صنو النبي الأكرم ووصيه وخليفته ـ إذ حرم من حقّه المشروع ، وبدلت الخلافة التنصيصية إلى تداول الخلافة بين تيم وعدي ، ثم إلى أُمّية ـ قد

________________________________________

1 ـ السيرة النبوية ج 3 ص 312 ـ 313 ، و صحيح البخاري ج 5 ص 119 باب غزوة بني المصطلق.

(11)

بقي حليف بيته وأليف كتاب اللّه ، وهو يرى المفضول يمارس الخلافة مع وجود الفاضل ، بل يرى تراثه نهباً ، ومع ذلك كله لم ينبس ببنت شفة إلاّ في موارد خاصة ، حفظاً للوفاق والوئام ، وهو ( عليه السَّلام ) يشرح لنا تلك الواقعة بقوله : « فواللّه ما كان يُلْقَى في رُوعي ، وَ لا يَخْطُرُ ببالي ، أنّ العَرَبَ تُزعِجُ هَذَا الأَمرَ مِنْ بَعْدِهِ ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) عَنْ أهْل بَيتِهِ ، وَ لا أنّهُمْ مُنَحُّوهُ عنّي مِنْ بَعْدِهِ ، فما رَاعَني إلاّ انثيالُ الناسِ على فُلان يُبَايِعُونَهُ فَأمْسَكْتُ يدي حتّى رأيتُ راجعة الناسِ قد رَجَعَتْ عن الإسلام يَدْعُونَ إلى مَحْقِ دينِ مُحَمّد فخَشيتُ إن لَمْ أنْصُرِ الإسلامَ و أهلَهُ أن أرَى فيه ثَلْماً أو هَدْماً تَكُونُ المُصيبَةُ بِهِ علىَّ أعْظمَ مِنْ فَوْتِ ولايَتِكُم ، الّتي إنّما هِىَ مَتاعُ أيّام قَلائِلَ ... » (1).

 

    وعندما تسنّم سدّة الخلافة ورجع الحق إلى مداره ، قام خطيباً فقال : « والزَمُوا السّوادَ الأعظَمَ ، فإنَّ يدَ اللّهِ مَعَ الجماعَةِ و إيّاكُمْ و الفُرْقَةَ فإنّ الشّاذَّ مِنَ الناسِ للشيطانِ كَمّا أنّ الشّاذّ مِنَ الغَنَمِ للذِّئْبِ. ألا مَنْ دَعَا إلى هذا الشّعارِ فَاقْتُلُوهُ وَ لَوْ كَانَ تحتَ عِمَامَتي هَذَهَ » (2).

    هذه هي سيرة النبي الاكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وسيرة وصيّه وتلميذه ، وهما تعربان عن أنّ حفظ الوحدة من أهمّ الواجبات وأوجب الفرائض ، ولكن يا للأسف لم تراع الأُمّة نصح النبي الأكرم عبر القرون والأجيال ، وهذه مأساة سقيفة بني ساعدة المسرحية وما تمخّض عنها. واقرأها بدقة وإمعان ترَ أنّ الجانبين المهاجرين والأنصار تشبّثوا بدعاوي منتنة تشبه دعوى الجاهلية ، فمندوب الأنصار يجرّ النار إلى قرصه بحجة أنّهم نصروا النبي الأكرم و آووه ، كما أنّ المتكلم عن جانب المهاجرين ( و لم يكن في السقيفة منهم آنذاك إلاّ خمسة أشخاص ) يراهم أحقّ بتداول الخلافة بحجة أنّهم عشيرة النبي الأكرم ، وفي الوقت نفسه لم نجد في كلامهما ما يشير إلى ما يخدم صالح الإسلام والمسلمين ، وأنّ المصالح الكبرى تكمن ضمانتها في تنصيب من توفّرت فيه شرائط وسمات وملامح القيادة الربّانية دون سائر أفراد الأُمّة.

________________________________________

1 ـ نهج البلاغة ، الرسالة 62.

2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 127.

________________________________________

(12)

 

    وقد توإلى الخلاف والشقّاق ، ودارت الدوائر على المسلمين بعد مقتل عثمان وانتخاب علي ( عليه السَّلام ) للزعامة باتفاق المهاجرين والأنصار ، إلاّ من شذّ ولا يتجاوز عددهم خمسة ، وعند ذلك ثقل على الأُمّة عدل علىّ وسيرته ، فثارت الضغائن البدرية ضدّه فوقع ما وقع ، وتوالت الوقائع والأحداث ، فجاءت وقعة الجمل الّتي أُريقت فيها دماء المسلمين ، لأجل إزالة الإمام وتنحيته عن حقّه ومقامه. وبعد ما انتصر الإمام على الناكثين وعاد الحق إلى مقره ، نجم قرن آخر تمثل في وقعة صفين الّتي ذهبت ضحيتها عشرات الآلاف من المسلمين ، إلى أن انتهى الأمر إلى وقعة النهروان الّتي شغلت بال الإمام واستنفدت طاقات المسلمين ، واستشهد الإمام ، والمسلمون بعد لم يندمل جرحهم ، وبويع ولده الإمام الحسن السبط للخلافة ، وأخذ بزمام الأمر أشهراً قلائل ، غير أنّ ابن ابي سفيان شنّ الغارة على العراق وشيعة الحسن ( عليه السَّلام ) ومبايعيه ، فانجرّ الأمر إلى التصالح ، وأُنيخ جمل الخلافة على باب بني أُميّة يتداول كرتها واحد بعد واحد ، حتّى انتكث عليهم فتلهم وأجهز عليهم عملهم بانتفاضة الأُمة ضدّهم ، إلى أن استولى العباسيون فصاروا خلفاء الأُمة وقادتها ، ولم يكونوا بأحسن من الأمويين.

يا ليت جور بني مروان دام لنا                          وليت عدل بني العباس في النار

    كان العباسيون يتوارثون الخلافة من الآباء إلى الأولاد ، و كان للإسلام صولة وللمسلمين هيبة ، ولم تكن تجترىء القوى الكافرة في العالم عبر قرون على غزو المسلمين ، وإن كانت الفتن والحروب الداخلية دائرة بينهم. غير أنّ تلك الحروب وضعف القيادة الإسلامية أتاحت فرصة صالحة للقوى الكافر ة المتربّصة بالمسلمين لشنّ الغارة على الوطن الإسلامي وضرب الإسلام والمسلمين ضربة قاضية في أوائل القرن السادس ، حيث أنشبت مخالبها في جسد الإسلام والمسلمين ، وانقضّت عليهما بالحملات الصليبية في أوائل ذلك القرن ، وكان منطلق شنّ تلك الحملات والغارات من جانب الغرب ، عن طريق البحر تارة على سواحل الشامات ، وأُخرى عن طريق البر عبر القسطنطنية.

    كانت تلك الحروب لا تزال طاحنة ومشتعلة ينتصر فيها المسلمون على

 

________________________________________

(13)

العدو في فترة بعد فترة ، إذ بدأت الحملات الاُُخرى من جانب الشرق على يد التتار والمغول ، فكان مختتم الحروب الصليبية مبدأ للحروب الوثنية بايدي عبدة الشمس والكواكب ، ولعلّ هذا يعرب عن اتفاق الصليب والصنم ، وبالتالي الصليبيين والصنميين على تدمير الحضارة الإسلامية ... ولسنا أول من تنبّه إلى اتفاق هاتين القوتين في ذلك العصر المظلم ، بل يظهر عن طريق الإمعان في ثنايا التاريخ أنّ ذلك كان أمراً مدبّراً ، ولو لم يكن هناك اتفاق في بدء الأمر لكن حصل الاتفاق بين الصليبي والوثني في أثناء تلك الحروب ، وفي كلام ابن الأثير المعاصر لهذه الحروب إشارة إلى ذلك حيث يقول : « وقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأُمم. منها هؤلاء التتار ـ قبحهم اللّه ـ أقبلوا من المشرق ففعلوا الأفعال الّتي يستعظمها كل من سمع بها ، ومنها خروج الإفرنج ـ لعنهم اللّه ـ من المغرب إلى الشام وقصدهم ديار مصر ، وملكهم ثغر دمياط منها ، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف اللّه تعالى ونصره عليهم » (1).

    ثم إنّ ابن الأثير يشير إلى ضعف القيادة الإسلامية في تلك العصور ، ويزيح النقاب عنها بقوله : « يسرّ اللّه للمسلمين و الإسلام من يحفظهم ويحوطهم ، فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم ، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه ... » (2).

    ولأجل إيقاف القارىء على مدى الخسائر الفادحة الواردة على الإسلام والمسلمين ، الناجمة عن هذه الحروب الصليبية والتترية ، نذكر لمحة خاطفة من هاتين الحربين كنموذج تمثيلي ، ليعلم بذلك داء المسلمين فيه ، ثم نبحث عن الدواء الّذي كان ينبغي لعلماء الإسلام أن يقدّموه إلى المجتمع الإسلامي ، والمصل الناجع ، ونقدّم الكلام عن الحروب الصليبية أوّلا ، ثم عن التترية ثانياً ، ثم تنامي رقعة الهجمات الصليبية في الوطن الإسلامي بهجومهم على الأندلس ثالثاً ، وقد استغرقت هذه الهجمات الصليبية والتترية قرنين ، من

________________________________________

1 ـ الكامل في التاريخ ج 12 ص 360.

2 ـ الكامل في التاريخ ج 12 ص 376.

________________________________________

(14)

أوائل القرن السادس إلى أواخر القرن السابع أو أزيد.

 

الحروب الصليبية ( 491 ـ 616 )

    كانت النصارى بالمرصاد للمسلمين ، وكان من أُمنياتهم الاستيلاء على بيت المقدس و سلبه من أيدي المسلمين بحجّة أنّه قبلة الأُمم المسيحية ومثوى ومنتجع عواطفهم الدينية ، فشنّوا الغارة على بلاد المسلمين حوالي سنة 491 إلى أواخر القرن السابع ، وكانت للحروب الصليبية مراحل ثمان أو تسع ، فكانوا ينتصرون في بعضها ، كما تلحقهم الهزيمة في بعضها الآخر ، ومن المراحل التي انتصروا فيها على المسلمين المرحلة المعروفة التي : « ساروا فيها إلى بيت المقدس ، فحاصروه ونصبوا عليه برجين ، وملكوه من الجانب الشمالي ، وسلّط على الناس السيف ، ولبث الإفرنج في البلد أُسبوعاً يقتلون فيه المسلمين ، وقتل بالمسجد ما يزيد على سبعين ألفاً ، وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء » (1).

    إنّ التواريخ الإسلامية تعرف السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ( م 589 هـ ) الفاتح الكبير والقائد الفذّ ، الّذي صمد في وجه ، الصليبيين حيث طرد الإفرنج عن الشامات ، غير أنّه لم يقض في فتوحاته على غائلة الحروب الصليبية بشكل نهائي ، بل امتدت هذه الحروب في الوطن الإسلامي بعده ايضاً. كيف وقد وقعت حرب ضروس في سنة 593 هـ بين الملك العادل ابي بكر بن ايوب وبين الإفرنج ، فأنقذ مدينة يافا من الساحل الشامي من يد الإفرنج (2) وقد ذكر ابن الأثير أيضاً في حوادث سنة 614 : « أن الإفرنج اقاموا بعكا إلى أن دخلت سنة 615 فساروا في البحر إلى دمياط ، فوصلوا في صفر ، فأرسلوا على بر الجيزة بينهم وبين دمياط النيل ... » (3).

 

زحف التتار إلى البلاد الإسلام

    قد ذكر المؤرخون بعض الدوافع لاشتعال هذه الحرب في أوائل القرن

________________________________________

1 ـ تاريخ مختصر الدول ، للملطي المعروف بابن العبري ، المتوفى 675 هـ.

2 ـ الكامل ج 12 ص 126 .

3 ـ الكامل ج 12 ص 323.

________________________________________

(15)

السابع بين الوثنيين والمسلمين قالوا : إنّ ملك التتار المعروف بـ « جنكيز خان » قد سيّر جماعة من التجار ومعهم شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما إلى ما وراء النهر ، سمرقند وبخارى ، ليشتروا به ثياباً للكسوة ، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمّى « أوترار » وهي آخر ولاية « خوارزم شاه » وكان له نائب هناك ، فلما وردت عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ، ويذكر له ما معهم من الأموال ، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال ، فقتلهم وسيّر ما معهم ، وكان شيئاً كثيراً ، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرّقه على تجار بخارى و سمرقند ، وأخذ ثمنه منهم ، فبلغ الخبر إلى جنكيزخان فأرسل رسولا إلى خوارزم شاه يقول : « تقتلون أصحابي و تجاري وتأخذون مالي منهم ، فاستعدوا للحرب فإنّي واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به » (1).

    ويظهر من بعض الآثار أنّ يد بعض الأساقفة كانت وراء تحريض ملك التتار على الزحف والحرب ، يقول ابن العبري : « عظم الأمر عند جنكيزخان وتأثر منه إلى الغاية وهجره النوم ، وصار يحدث نفسه ويفكر في ما يفعله ، ففي اليلة الثالثة رأى في منامه راهباً عليه السواد وبيده عكازة وهو قائم ، فذكر رؤياه للأسقف فقال الأسقف : يكون الخان قد رأى بعض قديسينا ، ومن ذلك الوقت صار يميل إلى النصارى ويحسن الظن بهم ويكرمهم ، ومن هذه السنة ( 616 ) قصد جنكيزخان البلاد الإسلامية » (2).

 

الداهية العظمى أو خروج التتار إلى بلاد الإسلام

    إنّ عظمة الداهية بلغت حداً لا يستطيع القلم واللسان تبيينها وترسيمها ولا يستطيع المسلم أن يسمع ذكراً منها أو يقرأ فصلا من فصولها ، حتّى أنّ ابن الأثير بقي عدة سنين معرضاً عن ذكر الحادثة استعظاماً لها ، كارهاً لذكرها ، فبقي يقدّم رجلا ويؤخّر أُخرى ، ثم علّل إعراضه عن تحرير هذه الواقعة

________________________________________

1 ـ الكامل ج 12 ص 361 ـ 362.

2 ـ تاريخ مختصر الدول ص 230.

________________________________________

(16)

بقوله : « ومن ذا الّذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ، ومن ذا الّذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أُمّي لم تلدني ، ويا ليتني متّ قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً ، إلاّ أنّه حثّني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف ، ثم رايت أنّ ترك ذلك لا يجدي نفعاً فنقول : هذا الفصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى الّتي عقمت الأيام والليالي عن مثلها ، عمّت الخلائق وخصّت المسلمين ، فلو قال قائل إنّ العالم مذ خلق اللّه سبحانه وتعالى آدم و إلى الآن لم يبتلوا بمثله لكان صادقاً ، فإنّ التواريخ لم تتضمّن ما يقاربها ولا ما يدانيها.

    ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل وتخريب بيت المقدس ، وما بيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد ، الّتي كل مدينة منها أضعاف بيت المقدس ، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا؟ فإنّ أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل ، ولعل الخلق لن يروا مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا ، إلاّ يأجوج ومأجوج.

    وأمّا الدجال فإنّه يبقي على من اتّبعه ويهلك من خالفه ، وهؤلاء لم يبقوا على أحد ، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال ، وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة ، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلي العظيم ، ولهذه الحادثة الّتي استطار شررها ، وعمّ ضررها ، وصارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح ، فإنّ قوماً خرجوا من أطراف الصين ، فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاسغون ، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر مثل سمرقند وبخارى وغيرهما ، فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره ، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكاً ، وتخريباً وقتلا ، ثم يتجاوزونها إلى الري ، وهمدان ، وبلد الجبل وما فيها من البلاد إلى حد العراق ، ثم يقصدون بلاد آذربيجان وأرانية يخربونها ويقتلون أكثر أهلها ومن ينجو إلاّ الشريد الفارّ ( فعلوا كل ذلك ) في أقل من سنة هذا ما لم يسمع بمثله.

    ثم لما فرغوا من آذربيجان وأرانية صاروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه

 

________________________________________

(17)

ولم يسلم غير القلعة الّتي بها ملكهم ، وعبروا عندها إلى بلد اللان واللكز ، ومن في ذلك الصقع من الأُمم المختلفة فأوسعوهم ، قتلا ، ونهباً ، وتخريباً ، ثم قصدوا بلاد قفجاق وهم من أكثر الترك عدداً ، فقتلوا كل من وقف لهم ، فهرب الباقون إلى الغياض ورؤوس الجبال ، وفارقوا بلادهم واستولى هؤلاء التتر عليها في أسرع زمان ، ولم يلبثوا إلاّ بمقدار مسيرهم لا غير.

    ومضت طائفة أُخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان ، ففعلوا فيها مثل ما فعل هؤلاء وأشد. وهذا ما لم يطرق الأسماع مثله. فإنّ الإسكندر الّذي اتفق المؤرخون على أنّه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة ، إنّما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحداً. وإنّما رضي من الناس بالطاعة ، وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه ، وأكثره عمارة وأهلا ، وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة في نحو سنة ، ولم يبق في البلاد الّتي لم يطرقوها إلاّ وهو خائف يتوقعهم ويترقب وصولهم إليه » (1).

    ثم إنّ ابن الأثير تتبّع مسير التتار وهجماتهم الوحشية ، فذكر الحوادث المفجعة سنة بعد سنة ، إلى أن وصول إلى حوادث ( 628 هـ ) وبعدها بقليل.

    و أظنّ أنّ فيما ذكره على وجه الإجمال غنى وكفاية ، ولا يحتاج إلى سرد التفاصيل الّتي جاءت بعد هذا الإجمال ، ولكنّه لم يدرك الهزيمة النكراء الّتي أصابت المسلمين عند سقوط بغداد ، ولكن المؤرخين الذين جاءوا بعده ذكروا سقوط العاصمة في أيدي أولئك الوحوش الضواري ، وقد ارتكبوا جرائم لا تغسل عن ساحة الذاكرة الإنسانية بماء المحيط ، فضلا عن البحر والنهر ، ولاجل إيقاف القارىء على مدى الخسائر الفادحة الروحية والجسدية الواردة على المسلمين ، نذكر من تلك الهجمات العديدة هجومهم على بغداد ، فإنّه يوقفنا على حقيقة ما جرى في غيرها ، معتمدين في ذلك على ما سطره ابن كثير في تاريخه.

________________________________________

1 ـ الكامل لابن الأثير ج 12 ص 358 ـ 361.

________________________________________

(18)

سقوط الخلافة العباسية بأيدي وحوش التتار

    لم تستهل هذه السنة إلاّ وجنود التتار قد أحاطت ببغداد بصحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار ، هولاكوخان ، وقد جاءت إليهم أمداد صابح الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه ، وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار ، ومصانعة لهم قبّحهم اللّه تعالى ، وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة الّتي لا ترد من قدر اللّه سبحانه وتعالى شيئاً ، كما ورد في الأثر « لن يغني حذر عن قدر » و كما قال تعالى : ( إنَّ أجَلَ اللّهِ إذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ) (1) وقال تعالى : ( إنَّ اللّهَ لا يُغيِّرُ ما بِقَوم حتّى يُغيِّروا ما بأنفُسِهم وَإذا أرادَ اللّهُ بِقوم سُوءاً فَلا مَردَّ لَهُ وَمَا لَهم مِن دُونِهِ مِن وَال ) (2). وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتّى أُصيبت جارية تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه ، وكانت من جملة خطاياه ، وكانت مولدة تسمى عرفة ، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة ، فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعاً شديداً ، وأحضر السهم الّذي اصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب : « إذا أراد اللّه إنفاذ قضائه وقدره أذهب عن ذوي العقول عقولهم » فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز ، وكثرت الستائر على دار الخلافة وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها ـ وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل ـ إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة.

    ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة ، ممن لا يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر ، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية ، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة ، لا يبلغون عشرة آلاف فارس ، وهم بقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتّى استعطى كثير منهم في الأسواق وعلى أبواب المساجد ، و أنشد فيهم الشعراء قصائد يرثونهم ويحزنون على الإسلام وأهله.

    ولما فتحوا البلد ، قتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء

________________________________________

1 ـ سورة نوح : الآية 4 .

2 ـ سورة الرعد : الآية 11.

________________________________________

(19)

والوالدان والمشايخ والكهول والشبان ، ودخل كثير من الناس في الآبار و أماكن الحوش ، وقني الوسخ ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون ، وكان الجماعة من الناس يجتمعون في الخانات ويغلقون عليهم الأبواب ، فتفتحها التتار إمّا بالكسر و إمّا بالنار ، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة ، فيقتلونهم بالأسطحة ، حتّى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة ، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون. وكذلك في المساجد والجوامع والربط ، ولم ينج منهم سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم ... وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً ، وبذلوا عليه أموالا جزيلة حتّى سلموا وسلمت أموالهم ، وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلّها ، كأنّها خراب ليس فيها إلاّ القليل من الناس ، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.

    وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد ، كما قصّ اللّه تعالى ، علينا ذلك في كتابه العزيز ، حيث يقول : ( وَ قَضَينا إلى بَني إسرائيلَ في الكتابَ لَتُفْسِدُُنَّ في الأرضِ مَرَّتَينِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كبيراً * فإذا جاءَ وَعدُ أولاهُما بَعَثْنا عَليكُم عَباداً لَنا أُولي بَأْس شَديد فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وَكَانَ وَعْداً مَفعولا ) (1).

    وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء ، وأسر جماعة من أولاد الأنبياء ، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معموراً بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء ، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء.

    وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة. فقيل ثمانمائة ألف ، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف ، وقيل بلغت القتلى ألفي نفس ، فإنّا للّه و إنّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه العلىّ العظيم ، وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم ، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً.

    ولما انقضى الأمر المقدور وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على

________________________________________

1 ـ سورة الإسراء : الآية 4 ـ 5.

________________________________________

(20)

عروشها ليس بها أحد إلاّ الشاذّ من الناس ، القتلى في الطرقات كأنّها التلول ، وقد سقط عليهم المطر فتغيّرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد ، وتغيّر الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد ، حتّى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام; فمات خلق كثير من تغيّر الجو وفساد الريح ، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والطعن والطاعون فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.

    ولما نودي ببغداد الأمان ، خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنّهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم ، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى ، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الّذي يعلم السرّ وأخفى اللّه لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى ، وكان رحيل السلطان المسلّط هولاكوخان عن بغداد في جمادي الأُولى من هذه السنة ( 666 هـ ) إلى مقر ملكه (1).

    ثم امتدّت الهجمات بعد سقوط بغداد حتّى وصل جيش العدو إلى عين جالوت وغزة في فلسطين ، وكانت الأُمنية الكبرى للعدو هي الاستيلاء على الشامات ثم مصر ، ولكن الزحف توقف بتدبير الملك الظاهر بيبرس ( 659 ـ 676 هـ ) ولكن العدو حاول الاستيلاء ثانياً على الشامات ... (2) .

    وهذا اليافعي يتتبّع مسير التتار وهجومهم ، فيقول في حوادث عام 700 هـ :

     « حصلت أراجيف بالتتار وجاء غازان بجيشه الفرات وقصد حلب فتشوشت الخواطر ... ».

    ويقول في حوادث عام 702 هـ : « طرق غازان الشام ولكن انهزم عند سور دمشق وتفرّقت جيوشه ، ثم جهّز غازان جيوشه فصاروا إلى مرج دمشق وتأخر المسلمون وبات أهل دمشق في بكاء واستغاثة وخطب شديد ، وقدم

________________________________________

1 ـ البداية والنهاية ، ج 13 ، ص 200 ـ 213.

2 ـ فيليب حتي. تاريخ العرب المترجم إلى الفارسية ، ج 2 ص 883 ، 851 ، 828.

(21)

السلطان وانضمّت إليه جيوشه ... » (1).

    هذا قليل من كثير مما جنت يد التتار على الإسلام والمسلمين ، وقد امتدّ الدمار والهلاك بعد هذه السنة حتّى تجاوز القرن السابع إلى أواخر القرن الثامن. فابتدأت الحروب التترية من عام 603 هـ وانتهت عام 807 هـ بموت تيمورلنك الّذي تظاهر هو بالإسلام وبعض من قبله ، ولكن لمن تزل القلوب مضطربة باستيلاء هؤلاء على المناطق الإسلامية.

 

إبادة المسلمين في الأندلس

    انتهت الحروب الصليبية والتترية في مختتم القرن الثامن ، ولكن نار الحرب بين المسلمين والمسيحيين كانت مشتعلة في الوطن الإسلامي « الأندلس » عن طريق إبادة المسلمين وإجلائهم عن وطنهم والتنكيل بهم.

    إنّ المسلمين بفضل المجاهدين الإسلاميين وصلوا إلى تلك البلدة الخصبة عام 92 هـ واستمرّوا في الفتح إلى أن وصلوا إلى قلب فرنسا عند مدينتي « تور » و « بواتييه » عام 112 هـ (2) وهناك توقفت الفتوحات بسبب ضعف القيادة الإسلامية في بغداد ، وقطع صلة الحكام بالأندلس عنها ، وعند ذلك طمع الصليبيون في سلب تلك البلدة من أيدي المسلمين ، فبدأوا بالحروب ضدهم ، وكانت الأندلس في نهاية القرن الخامس الهجري قد انقسمت إلى عدة ممالك صغيرة ، عرف حكامها بملوك الطوائف ، وكان نصارى الشمال يهددون هذه المنطقة » (3).

    إلى أن حلت الهزيمة بالمسلمين في موقعة العقاب في 15 صفر 609 هـ أي في نفس الوقت الّذي كان التتار قد بدأوا بشنّ الغارة على المسلمين من الشرق إلى الغرب وبالتالي زال سلطان « الموحدين » وسقطت هذه البلاد في يد

________________________________________

1 ـ مرآة الجنان ج 4 ص 234 ـ 235.

2 ـ دائرة المعارف الإسلامية ، مادة « أندلس ».

3 ـ تاريخ الإسلام ، تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن ، ج 4 ص 537.

________________________________________

(22)

« الإسبان » ولم يبق في أيدي المسلمين سوى منطقة جبلية في جنوب شرقي إسبانية حيث قامت مملكة « غرناطة » الإسلامية على أيدي بني نصر ( بني الأحمر ) الذين بايعوا الخليفة الحفصي أقوى حكام المغرب في ذلك الحين (1).

    ولكن العدو لم يرض بما اكتسب من الفتوح فشنّ الغارة عليهم حتّى أبادهم عام 898 هـ فصار الأندلس كله للإسبان.

    ثم إنّ التاريخ يحكي لنا تعامل الإفرنج مع المسلمين معاملة سوء ، حيث أجبروهم على التنصّر وعلى خروج النساء مكشوفات ، فهرب المسلمون إلى الجبال فصاروا يطاردونهم كما تطارد الفرائس. وقد عدّ بعض المؤرخين عدد العرب المطرودين في قرن واحد ( أي من عام 791 إلى عام 898 هـ ) نحواً من ثلاثة ملايين كانوا نخبة المسلمين وأعظمهم صناعة وعلماً.

    و أنت إذا قرأت التاريخ وقلبت صفحاته تقف على أنّ هذه القرون الأربعة أي من بداية 500 إلى 900 هـ شرّ القرون وأسوأها بالنسبة إلى المسلمين ، فقد حلت بهم عقوبات وضحايا لم يسجّل التاريخ لواحد من الأُمم مثلها ، وإليك مبدأ هذه الحروب ومختتمها :

    1 ـ الحروب الصليبية. بدأت من عام 489 هـ واستمرت إلى عام 660 هـ.

    2 ـ الحروب التترية ، ابتدأت من عام 603 وانتهت عام 807 هـ بموت تيمور لنك الّذي تظاهر بالإسلام.

    3 ـ إبادة المسلمين في الأندلس و إجلاؤهم بعد انحصار سلطانهم في منطقة صغيرة في غرناطة ، ابتدأت من عام 609 إلى 898 هـ.

 

حصيلة البحث

    نحن نستنتج من هذا البحث الضافي أنّ الخلافة العباسية وملوكها وسلاطينها بلغوا من الفساد والانحلال إلى حدّ غاب عنهم معه ما كان يجري

________________________________________

1 ـ المصدر نفسه ، ص 318.

________________________________________

(23)

خارج قصورهم ، فقد كانت القوى الكافرة محيطة بدار الخلافة ، والخليفة كان غافلا عمّا يجري خارج القصر ، وكانت تلعب بين يديه جاريته فلم يوقظه من الغفلة أو السكرة إلاّ إصابة نبل الخصم لجاريته ، فإذا كان هذا هو الإسلام وهذا خليفته ، وهذا شعوره وإحساسه ، فعلى الإسلام السلام ، وعلى تلك الخلافة العفاء.

    وقد عرفت أنّ ابن الأثير كان من المشاهدين للقضايا عن كثب ، ويعرف الخلفاء وسلاطينهم بأنّهم بلغوا من العقلية إلى درجة لا يهمّهم إلاّ ما يهمّ البهيمة من إشباع بطنها و إرضاء فرجها (1).

    ومن المعلوم أنّ الفساد لم يكن مقتصراً على بلاط الخلفاء ، بل الانحلال الخلقي والانحطاط المعنوي كان سائداً على الغالبية العظمى من المجتمع ، إذ الناس على دين ملوكهم ، ومن العجب أنّ المؤرخين الأباعد يحملون وزر سقوط الخلافة العباسية على عاتق الوزير الشيعي مؤيّد الدين ابن العلقمي ، الّذي يصفه ابن الكثير بقوله : « وكان عنده فضيلة في الإنشاء وليديه فضيلة في الأدب » ويضيف أيضاً : « إنّه أشار على الخليفة بأن يبعث إلى هولاكو بهدايا سنية ليكون ذلك مدارة له عمّا يريده من قصد بلادهم ، فخذّل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير « أيبك » وغيره ، وقالوا إنّ الوزير إنّما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الأموال ، وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير ، فأرسل شيئاً من الهدايا فاحتقرها هولاكوخان » (2).

    ومن الظلم إلقاء جريرة سقوط بغداد على عاتق هذا الوزير مع كون الخليفة على الحال الّتي سمعتها من ابن الكثير ، وكون الملوك والسلاطين لا يهمّهم إلاّ بطنهم وشهوتهم ، مع اشتعال نار الخلاف بين الرؤساء والقادة الشاغلين منصّة قيادة المجتمع الإسلامي ، فلا تنتج تلك المقدمات إلاّ هذا الوضع الوبيل ، إنّا للّه و إنّا إليه راجعون.

________________________________________

1 ـ الكامل في التاريخ ج 12 ص 375.

2 ـ البداية والنهاية ج 13 ص 214.

________________________________________

(24)

الحواضر الإسلامية آنذاك ، دواؤها وذواوها

    قد تعرّفت على الأوضاع المؤسفة السائدة في الحواضر الإسلامية ، وما آلت إليه من الدمار والهلاك والمذابح الفظيعة ، والمجازر الرهيبة الّتي تعرّض لها سكانها الأبرياء ، بسبب تلك الحملات العدوانية ، وعندئذ نسأل كل مسلم حر الضمير عن دواء هذا الداء الّذي ألمّ بالمسلمين ، وعلاج تلك المأساة الّتي وقع فيها الإسلام ؟

    ولا أشك في أنّ دواءها الوحيد كان هو إحياء التعاليم الإسلامية ـ آنذاك ـ في مجال الجهاد والمقاومة ، وإعادة الثقة إلى النفوس ، والعمل على تقوية المعنويات ورفع المستوى العسكري لدى المسلمين عملا بقوله تعالى : ( وَ أعِدُّوا لهم مَا استَطَعْتُم مِن قُوَّة وَمِن رِباطِ الخَيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَ عَدُوَّكُم ) (1).

    ثم السعي في توحيد ما تفرّق وتشتّت من صفوف المسلمين ، وحثّهم على تعمير ما تهدم من حضارة الإسلام ، وإحياء شتى مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ممّا انهارت تحت ضربات الأعداء من الشرق والغرب.

    ولا يكون ذلك إلا بإعادة العلم الناجع إلى الساحة ، وتناسي الخلافات الفرعية ، والدعوة إلى التمسّك بمبادىء الوحدة ، وتجسيد قوله سبحانه : ( إنَّما المُؤمنُونَ إخوةٌ ) (2) ورفض البحث عن الخلافات الّتي تثير النزاع ، وتوجد الفرقة وتمزق الصفوف.

    هذا ما يحكم به ضمير كل إنسان حر ، فلو وجدنا في مثل هذه الظروف العصيبة من يثير نار الخلافات الطائفية والمذهبية ، وبالتالي يضرب المسلم بالمسلم ويشغلهم بالبحث عن فروع ليس لها من الأهمية بالقياس إلى علاج الدمار الرهيب الّذي حلّ بالمسلمين ـ لو وجدنا رجلا بهذا الوصف والنعت ـ فلا نشك أنّ نعرته نعرة جاهلية ، وحركته حركة مشبوهة ، ودعوته دعوة منتنة

________________________________________

1 ـ سورة الانفال : الآية 60.

2 ـ سورة الحجرات : الآية 10.

________________________________________

(25)

حسب تعبير النبي ، ومن الظلم والجناية على الإسلام والمسلمين تلقيب هذا الداعي بـ « شيخ الإسلام » أو « محيي الشريعة » أو « محيي السنة » أو غير ذلك من ألفاظ الثناء الوافر الّذي يوصف به هذا الرجل في هذا القرن ، بترغيب وترهيب من أصحاب الثراء والسلطة ، بعد أن كان معروفاً بغيرها في القرون الغابرة ، كما ستوافيك كلمات معاصريه ومن جاء بعدهم إلى هذه الأعصار .

    إنّ طرح الخلافات الكلامية والفقهية ـ في العصر الّذي كانت القوارع تنصبّ فيه على رؤوس المسلمين من الشرق والغرب ، وتهدم الديار وتقتل النفوس البريئة ، وتشقّ بطون النساء والأطفال ، ويرفع الرجال على أعواد المشانق وتخضب الأراضي بدماء المسلمين ـ ما هو إلاّ من قبيل صب الزيت على النار ، وتعميق الجرح غير المندمل.

    إنّ طرح المسائل على ضوء العقل إذا كان لغاية التعرّف على الحقائق أمر يستحسنه العقل ويقبله الشرع في جميع الحالات ولكن طرح هذه المسائل على وجه يتضمن تكفير الفرق الإسلامية واتهامهم بالشرك ، وتجويز قتلهم وإهدار دمائهم ، في الوقت الّذي غمس العدو يده في دمائهم إلى مرفقه ، وقتل منهم الملايين ، لا يصحّ تفسيره إلاّ بأحد وجهين : إمّا أن يكون رجلا غبياً لا يعرف الداء ولا الدواء ، أو رجلا مُعقّداً مغرماً بالشهرة وحبّ العظمة.

    وما هذا الرجل إلاّ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ( ت 661 ـ م 728 هـ ) فقد ولد في شر القرون وعاش في أجوائها الصعبة على المسلمين ، ومات في ظروف الهزيمة الّتي حلت بالمسلمين ، لعلل تعرّفت عليها ، فقد أثار في تلك الظروف العصيبة مسائل خلافية لا تزيد في الطين إلاّ بلّة ولا في الجرح إلاّ تعميقاً ، فهو بدل أن يعيد إلى الساحة الإسلامية الأخلاق والعمل بالإسلام ، ويعظ الملوك والساسة بالقيام بالوظائف وفتح معسكرات لإعداد الشباب وتدريبهم ، وإيجاد روح الكفاح ، تجده يرفع عقيرته بالمسائل الّتي لا تعود على المسلمين في تلك الظروف العصيبة بشيء سوى تعميق الخلاف وتعكير الصفو ، وتشديد النزاعات المذهبية والطائفية.

    ورؤوس المسائل الّتي طرحها ابن تيمية وأصرّ عليها وخالف الرأي العام

 

________________________________________

(26)

للمسلمين ـ ولأجل ذلك اعتقل ونفي إلى مصر ـ هي الأُمور التالية :

    1 ـ يجب توصيفه سبحانه بالصفات الخبرية بنفس المعاني اللغوية من دون تصرّف ، كالاستواء على العرش ، و أن له يداً ووجهاً ، وأن له نزولا وصعوداً.

    2 ـ يحرم شدّ الرحال إلى زيارة النبي وتعظيمه بحجّة أنّها تؤدّي إلى الشرك.

    3 ـ يحرم التوسّل بالأولياء والصالحين.

    4 ـ تحرم الاستغاثة بالأولياء ودعوتهم.

    5 ـ يحرم بناء القبور وتعميرها.

    6 ـ لا يصح أكثر الفضائل المنقولة في الصحاح والسنن في حقّ علىّ وآله.

    إلى غير ذلك من المسائل الفرعية في أبواب الطلاق وغيرها كما ستقف عليها عند عرض آرائه. هب أيّها القارىء لما أنّ تبنّاه من الآراء مسحة من الحق ـ وليست آراء ساقطة تضاد القرآن الكريم والسنة النبوية وسيرة المسلمين ـ هب أنها آراء صحيحة ـ ولكنّها هل كانت مفيدة في تلك الظروف ، هل كانت دواءً لداء الأُمة الإسلامية؟ أو كانت أموراً غريبة عمّا يجب القيام به ، بل كانت مؤيدة لما يتوخاه العدو من تشتيت الشمل وتمزيق الصفوف؟!!

    إنّ من البداهة بمكان أنّ هذه المسائل لم تكن مما يخشاه العدو ، فإنّ هذا النوع من المسائل الجدلية لا تفضح نوايا العدو ولا تعرقل خططه ، لأنّها لا تعيد إلى المسلمين روح الوثبة والمقاومة والاستبسال ، بل من شأنها أن تستنفد طاقاتهم من دون جدوى ، و تفني قواهم من دون أثر يتّصل بالواقع.

    فلو كان ابن تيمية « شيخ الإسلام » حقاً لكان عليه أن يدع ما يلهي المسلمين عن مصيرهم ، بل ما يعمّق محنتهم ، ويتصدّى لمواجهة العدو بإعادة الروح الجهادية إلى نفوسهم ، وبث المعنويات في قلوبهم ، وتوجيه همم

 

________________________________________

(27)

المسلمين ، إلى إعادة بناء كيانهم العسكري والصناعي والعلوم الناجعة ، حتّى يستعيدوا بذلك مجدهم المندثر الّذي تألق في القرن الرابع الهجري.

    ويا للأسف إنّه بدل القيام بوظائف شيخوخة الإسلام الحقيقية انصرف إلى مسائل اجتهادية ليست ناجعة في ذلك العصر ولا بعده.

 

ابن تيمية لم يكن سلفياً

    إنّ الموالين لابن تيمية والمقتفين أثره يصفونه بالسلفية ، ويتقولون فيه بأنّه محيي مذهب السلف. هب أنّ السلفية مسلك ومذهب ، ولكن السلفي عبارة عمَّن لا يتخطّى عمّا سلكه السلف الصالح طيلة قرون سبعة ، ولكن أراءه وأفكاره على طرف النقيض من أراء السلف. إنّ المسلمين طيلة قرون كانوا يحترمون قبر النبي ويزورونه ، ولم تقع الزيارة في تلك العصور ولو مرة واحدة ذريعة إلى الشرك ، بل كان الداعي إلى زيارته في كل فترة من الفترات ، كونه نبىّ الإسلام نبىّ التوحيد ، ومكافح الشرك ومنابذه ، فيجب احترامه وتكريمه وحفظ آثاره وقبره ، وآثار أصحابه وزوجاته وأبنائه انطلاقاً من هذا المبدأ ( أي كونه نبىّ التوحيد ، مشيد بنائه الشامخ ) ولكنّا نرى أنّ ابن تيمية يخالف هذه السيرة الموروثة من الصحابة إلى زمانه ، ويحرّم شدّ الرحال إلى زيارته تمسكاً بحديث غير دال على ما يرتئيه ، كما سيوافيك.

    إنّ المسلمين طيلة القرون الغابرة إلى ميلاد ابن تيمية كانوا يتبرّكون بالنبي وآثاره ، ولا يرون ذلك شركاً ولا ذريعة إليه ، حتّى أنّ الشيخين أوصيا بمواراتهما في جوار النبي ، لما استقرّ في قرارة ضميرهما بأنّ للمكان شرافة ومكانة بالغين ، وأنّ المواراة في ساحة النبي لها كرامة ، ولم ينبس أحد من الصحابة ببنت شفة بأنّ ذلك ذريعة إلى الشرك ، إلى أن ألقى الشر بجرانه إلى الأرض بميلاد ابن تيمية وآرائه الساقطة ، فجعل ينكر هذا العمل ويخالف السلف.

    إنّ السلف الصالح في حياة النبي وبعده كانوا يستغيثون بالنبي لما له من كرامة عند اللّه ، لما أمرهم اللّه سبحانه بالمجيء إليه وطلب الاستغفار منه ، ولم يخطر ببال أحد أن الاستغاثة بالملخوق شرك أو ذريعة إلى الشرك ، وكان هذا

 

________________________________________

(28)

ديدن السلف في جميع القرون ، فجاء ابن تيمية ينكر الاستغاثة والتوسل ، ثم يصف نفسه سلفياً ، فما معنى هذه السلفية؟ ( ما هكذا تورد يا سعد الإبل ) .

 

تقييم إنجازات ابن تيمية

    إنّ قيمة كل امرىء بما يقدّمه إلى الأُمة من خدمات وخيرات ، فإمّا أن يشيد بناء ثقافتهم ويضمن تقدمهم في ميادين العلم والعمل ، ويرفع من مستوى أخلاقهم وسلوكهم الإنساني والإسلامي ، وإمّا أن يرفع مستوى معيشتهم و يسعى في ترفيههم بمشاريع البرّ و الإحسان ، من بناء المدارس ومراكز التعليم والمستشفيات والمستوصفات ، ودعم الكفاح بالتدريب العسكري وغيره مما يرجع إلى دعم البنية المادية للمجتمع.

    هلم معي نطرح إنجازات ابن تيمية على طاولة النقاش والمحاسبة ، فهل قام بأحد الأمرين؟

    أمّا من جانب المعنى فلم نر أنّه قدم إلى المجتمع ، دراسة نافعة في الحقوق والسياسة والاقتصاد أو الاجتماع ، أو ألف جامعاً حديثياً يكون هو المرجع للمسلمين كما قام بعض معاصريه بهذا الأمر ، فلم يبق منه إلاّ التركيز على المسائل الّتي قدمنا رؤوسها والّتي كفّر بها مخالفيه ، وبالتالي كفّر جمهور المسلمين الذين عاشوا طيلة سبعة قرون.

    هب أنّه قدم إلى المسلمين دراسات توحيدية ، ولكن ما كانت نتيجة تلك الدراسات ، فغاية ما أنجز وأتى ـ بعد ما تصوب وتصعد ـ أنّه يجب توصيفه سبحانه بنفس الصفات الخبرية بمعناها اللغوي ، فصار معناه هو التجسيم والتشبيه وإثبات الجهة والفوقية للّه سبحانه ، وقد فهم الكل هذا المعنى من دراساته. هب أنّه لم يقصد من إثبات هذه الصفات ما نسب إليه من الجسمية ، ولكنّه صبّ ما رآه في قوالب أذْعَنَ الكُلُّ ـ الداني منهم والنائي ـ بأنّه مُجسّم مشبّه مُثْبت للّه سبحانه الجهة والفوقية ، مع أنّه سبحانه ليس بجسم ولا جسماني ، و أنَّهُ ليس كمثله شيء.

    ما معنى هذه الدراسات العميقة الّتي لم تورث إلاّ هذه الأفكار الباطلة ،

 

________________________________________

(29)

وسوف يوافيك أنّ الرجل مجسّم وإن كان لا يتفوه به ، ولكن جُمَلَهُ وألفاظه وعباراته وما أصرّ عليه لا تنتج إلاّ ذلك.

    وقس عليه سائر إنجازاته من جانب المعنى ، فقد منع شدّ الرحيل إلى زيارة النبي الأكرم ، مع أنّ قبور الأنبياء لم تزار تزل من عصر النبي وقبله وبعده ، وليست الغاية من زيارتهم إلاّ التوقير والتكريم و عقد الميثاق مع ما جاءوا به من أُسس التوحيد ، فكيف يكون ذلك ذريعة إلى الشرك؟

    وحصيلة البحث هي أنّنا لم نجد في جميع إنجازاته شيئاً بديعاً يرفع به رأسه ويفتخر به على من سواه ، سوى ما في كلامه من الغلظة والأذى.

 

اللسان والقلم مرآتان للضمير

    إنّ اللسان والقلم مرآتان لضمير صاحبهما يعربان عن نفسيته الخبيثة أو الطيبة ، الشريرة أو الخيّرة ، فاللسان البذيء يكشف عن نفسيته المستهترة المريضة ، كما أنّ اللسان و مثله القلم النزيهين يكشفان عن ملكة فاضلة. ومن رجع إلى كتب ابن تيمية يعرف أنّه ما كان يملك لسانه وقلمه عن التقوّل على المسلمين والتهجّم عليهم فجاءت كتاباته مليئة بالقول البذيء و إساءة الأدب ، الّذي هو على طرف النقيض من الإسلام والعلم.

 

ابن تيمية في مرآة الرأي العام

    ولقد كانت ثورة الرأي العام الإسلامي عليه من جانب الفقهاء والحكام والمتكلمين والمحدثين أدلّ دليل على انحرافه عن الخط المستقيم والطريق المهيع ، فليس من القضاء الصحيح تخطئة جمهور المسلمين وتصويب رجل واحد ، فمنذ نشر الرجل رأيه حول الصفات الخبرية عام 698 هـ في « الرسالة الحموية » جاءت الاستنكارات تترى من جميع الطوائف ، وكلما تعرض الرجل للعقائد الإسلامية الّتي اطبقت عليها الأُمة في جميع القرون ، تعالى الاستنكار ، حتّى أُلقي عليه القبض ونفي من بلد إلى بلد ، وتعرض لاعتقال بعد اعتقال ، إلى أن منع من القرطاس والكتابة ، حتّى مات في السجن ممنوعاً من كل شيء.

    ولو كان الرجل شيخ الإسلام ورائده وناصحه ، لما ضاق عليه المجال من

 

________________________________________

(30)

جانب أبناء جلدته من قضاة وحكام : شوافع وأحناف .

    نعم الأسف كلّه على الناشئة الجدد الذين وقعوا فرائس في أحابيل الدعاية الوهابية الّتي يقودها النظام السعودي ويغذيها بثروته الواسعة ، ويدعمها الاستعمار الغاشم لغاية إضعاف المسلمين بالخلافات وإشغالهم بقضايا ومسائل لا تمتّ إلى الحياة بصلة.

    ولأجل ذلك نضع حياة الرجل وشخصيته أولا ، وآراء معاصريه ومن جاء بعده في القرون اللاحقة في حقه في ميزان النقد والقضاء ثانياً ، ثم نبحث عن آرائه و أفكاره ونعرضها على الكتاب والسنة ثالثاً ، حتّى يتبين الحق ويظهر ، ويزهق الباطل.

(31)

ابن تيمية : حياته والرأي العام فيه

    هو أحمد بن عبد الحليم الحراني الدمشقي ، ولد في العاشر من شهر ربيع الأول سنة 661 هـ ، بعد خمس سنوات من سقوط الخلافة الإسلامية في بغداد ، وانغمار المسلمين في مشاكل كثيرة.

    كان مولده بمدينة حران مهد الصابئة والصابئين من أقدم عصور الإسلام ، وقد نشأ النشأة الأُولى إلى أن بلغ السابعة من عمره ، فلما أغار عليها التتار ، فرّ سكانها منها ، وكان ممن هاجر أُسرة ابن تيمية ، حيث هاجرت إلى دمشق ، وقد اتّجه إلى العلم منذ صغره ، وكان يدرس الفقه الحنبلي ويتتبّع سير ذلك المذهب ، وكان أبوه من شيوخ هذا المذهب ، ففي المدارس الحنبلية تخرج ابن تيمية ، ودرس في كنف ابيه وتوجيهه ولم ير منه بادرة إلاّ بعد ما كتب رسالة في جواب سؤال أهل حماة ، سألوه بقولهم : « ما قول السادة العلماء أئمة الدين ـ أحسن اللّه إليهم أجمعين ـ في آيات الصفات ، كقوله تعالى : ( الرّحمنُ عَلىَ العَرْشِ اسْتَوى ) وقوله : ( ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماء ) إلى غير ذلك من الآيات وأحاديث الصفات ، وأيضاً كقوله ( صلى الله عليه و آله ) : « إنّ قلوب بني آدم بين اصبعين من أصابع الرحمن » وقوله : « يضع الجبّار قدمه في النار » إلى غير ذلك ، وما قالت العلماء فيه ، وليبسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء اللّه؟ » (1).

________________________________________

1 ـ الرسالة الحموية ، ص 425 ـ طبعت في ضمن مجموعة الرسائل الكبرى ج 1.

________________________________________

(32)

    فأجاب بما هو نصّ في التجسيم ، وإن ذيّل كلامه بشيء يريد به الستر على عاره ، ولكنّه لا يسمن ولا يغني من جوع ، وسيوافيك نصّه عند تبيين عقائده ، فاوجد الجواب ضجة كبرى ، وعرف بالشذوذ والانحراف ، وكان ذلك عام 698 هـ.

    يقول تلميذه « ابن كثير » في حوادث تلك السنة : « قام عليه جماعة من الفقهاء وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي « جلال الدين الحنفي » فلم يحضر ، فنودي في البلد في العقيدة الّتي كان قد سأله عنها أهل حماة ، المسماة بالحموية ... » (1).

    وقد كانت له محنة أُخرى في عام 705 هـ يذكره ابن كثير في حوادث تلك السنة ويقول : « وفي يوم الإثنين ثامن رجب حضر القضاء وفيهم « الشيخ تقي الدين ابن تيمية » عند نائب السلطنة بالقصر ، وقرأت عقيدة الشيخ تقي الدين ( الواسطية ) ، وحصل بحث في أماكن منها ، وأُخّرت مواضع إلى المجلس الثاني ، فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور ، وحضر الشيخ صفي الدين الهندي وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاماً كثيراً ، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخ كمال الدين الزملكاني هو الّذي يحاققه من غير مسامحة ، فتناظرا في ذلك وشكر الناس من فضائل الشيخ كمال الدين الزملكاني ، وجودة ذهنه ، وحسن بحثه ، حيث قاوم « ابن تيمية » في البحث وتكلم معه ...

    ثم عقد المجلس في يوم سابع شعبان بالقصر ، واجتمع الجماعة على الرضى ، إلى أن صدر القرار بنفي الشيخ إلى مصر إن لم يعزف عن بوادره وعقائده ، فأدى به الأمر إلى انتدابه في مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاة ، وانتدب للبحث معه شمس بن عدنان ، وادّعى عليه عند « ابن مخلوف » المالكي أنّه يقول : إنّ اللّه فوق العرش حقيقة ، وإنّ اللّه يتكلم بحرف وصوت ، فحكم عليه القاضي بالحبس في برج أياما ، ثم نقل منه إلى الحبس المعروف بالجب ، وكُتِبَ

________________________________________

1 ـ البداية والنهاية ج 14 ص 4 و 26.

________________________________________

(33)

كتاب نودي به في البلاد الشامية والمصرية ، وفيه الحط على الشيخ تقي الدين ، فانضمّ إلى صفّه جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء ، وجرت فتن كثيرة منتشرة ، وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة (1).

    بقي الشيخ في السجن بسبب عقيدته الّتي لا تجتمع مع عقيدة جمهور المسلمين حتّى مطلع سنة ( 706 هـ ) .

    يقول ابن كثير : وفي ليلة عيد الفطر من تلك السنة ، أحضر الأمير سيف الدين سلار نائب مصر ، القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء ، فالقضاة : الشافعي والمالكي والحنفي ، والفقهاء : الباجي ، والجزري ، والمنواري ، وتكلموا في إخراج الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الحبس ، فاشترط بعض الحاضرين عليه شروطاً في ذلك منها أنّه يلتزم بالرجوع عن بعض عقائده ، فأرسلوا إليه ليحضر ليتكلموا معه في ذلك ، فامتنع عن الحضور.

    استهلّت سنة ( 707 هـ ) والشيخ معتقل في قلعة الجبل بمصر ، إلى أن أُطلق سراحه يوم الجمعة 23 من ربيع الأول ، وخيّر بين الإقامة بمصر أو الروح إلى موطنه الشام ، وقد اختار هو الإقامة بمصر ، ولكنّه لم يبرح في غلوائه وأفكاره إلى أن واجهته محنة ثالثة ، وقد ذكرها ابن كثير ايضاً في تاريخه.

 

المحنة الثالثة

    وفي شوال عام 707 هـ ، شكي منه أيضاً ، فردّ الأمر إلى القاضي الشافعي ، فعقد له مجلس ، وادّعى له ابن عطاء بأشياء ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أنّ في آرائه قلة أدب بساحة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فحضرت رسالة إلى القاضي إلى أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة ، فتمّ الأمر بحسبه في سجن القضاة ، ودخل السجن ، وأُفرج عنه في مستهل سنة 708 هـ وبقي في القاهرة إلى أن توجّه منفياً إلى الإسكندرية في ليلة سلخ صفر في عام 709 هـ وأقام هناك ثمانية أشهر إلى أن تغيرت الظروف ، فعاد

________________________________________

    1 ـ المصدر نفسه.

________________________________________

(34)

الشيخ منها إلى القاهرة يوم عيد الفطر سنة 709 هـ فاقام بها إلى سنة 712 هـ ثم رجع إلى الشام (1).

    وشغل الشيخ منصة التدريس والإفتاء إلى سنة 718 هـ. وقد صدر منه فتاوى شاذة ، وكان مصرّاً عليها ، فعقد له يوم الخميس ثاني رجب من شهور سنة 820 هـ مجلس بدار السعادة ، فحضر نائب السلطنة ، وحضر القضاة والمعنيون من المذاهب ، وحضر الشيخ وعاتبوه ، ثم حبس في القلعة خمسة أشهر ، إلى أن ورد مرسوم من السلطان بإخراجه يوم الإثنين يوم عاشوراء ، سنة 721 هـ .

    وظل الشيخ بعد خروجه من الحبس مستمراً في التدريس إلى عام 726 هـ.

    يقول جمال الدين يوسف بن تغري الأتابكي : « ورد مرسوم شريف من السلطان في شعبان سنة 726 بأن يجعل في قلعة دمشق ، فاقام فيها مدة مشغولا بالتصنيف ، ثم بعد مدة منع من الكتابة والمطالعة ، وأخرجوا ما كان عنده من الكتب ، ولم يتركوا عنده دواتاً [دواةً] ولا قلماً ولا ورقاً »(2).

    وقال اليافعي : « مات بقلعة دمشق الشيخ الحافظ الكبير ، تقي الدين أحمد ، بن تيمية ، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر عن الدواة والورق » (3).

    هذا ، وقد لفظ الرجل نفسه ومات في قلعة دمشق عام 728 هـ وبذلك طويت صحيفة حياته ، وبقيت آثاره ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.

    إنّ ما تلوناه عليك من حياته يعرب :

     أولا : إنّه لم يكن رجلا موضوعياً يهمّه ما كان يعاني منه المسلمون في تلك الظروف العصيبة ، الّتي كانت الدعوة إلى الوحدة فيها أحوج ما يحتاج إليه

________________________________________

1 ـ البداية والنهاية ج 14 ص 52 ، وكانت إقامته بمصر سبع سنين.

2 ـ المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي ، ص 340.

3 ـ مرآة الجنان ج 4 ص 277.

________________________________________

(35)

الناس ، فكان يبثّ بذور الخلاف فترة بعد فترة ، ويشغل الحكومات والقضاة عن القيام بالواجب بنقل الشيخ من مقام إلى مقام.

     وثانياً : إنّ جماهير الفقهاء والقضاة كانوا يخالفونه فيما يبديه من الآراء الشاذة ، في مجال الأُصول والفروع ، وإنّ آراءه كانت مخالفة لما هو المشهور المجمع عليه بين العلماء.

    وثالثاً : إنّ الرجل كان معروفاً بالقول بالتجسيم والتشبيه والجهة ، وكان اعتقاله لأجل التفوّه بها ، فكلّ من أراد تنزيهه عن هذه التهمة ، خالف الرأي العام في حقّه وما عرف منه يوم حياته.

    نعم إنّ هناك أُناساً ترجموا للرجل ترجمة وافية ، فأثنوا عليه الثناء البالغ ، وذكروا ذكاءه وتوقّد ذهنه ، وإحاطته بالكتاب والسنّة ، كما ذكروا آثاره العلمية من كتب ورسائل ، ولكن يؤخذ عليهم بأنّه لماذا ركّزوا على جانب واحد من حياته ، ولم يشيروا إلى الجانب السلبي منها ، فإنّه لا يمكن لأحد تخطئة أولئك العلماء الذين ناظروه ، وباحثوه ، وأصدروا أرائهم فيه ، وهم كثيرون ، ولأجل ذلك نشير إلى المصادر الّتي أخذتها العصبية العمياء فجاءوا كأنّهم يعرفون رجلا أطبق علماء عصره على نزاهته وصفاء فكره ، فمن أراد أن يقف عليها فليرجع إلى المصادر التالية :

    1 ـ تذكرة الحفاظ للذهبي 4/ 1496 ، بالرقم 1175. وإن استدرك زلّته هذه ببعث رسالة مستقلة إلى ابن تيمية يستنكر فيها عليه أعماله وأقواله كما ستوافيك.

    2 ـ شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبي الفلاح عبد الحي بن عماد الحنبلي ( م 1098 ) 6/80.

    3 ـ طبقات الحفاظ ، لجلال الدين السيوطي ، ( ت 911 هـ ) ، ص 52.

    4 ـ الذيل على طبقات الحنابلة ، لابن رجب زين الدين ، أبي الفرج ، عبدالرحمن بن شهاب الدين أحمد البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي ، ( 736 ـ 795 هـ ) 2/ 387 ، بالرقم 495.

 

________________________________________

(36)

    5 ـ الوافي بالوفيات ، لصلاح الدين ، خليل بن أيبك الصفوي 7/15 ـ 33 بالرقم 2964.

    6 ـ طبقات المفسرين ، للحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أحمد الداودي ( م 945 هـ ) ، ص 45 ـ 49 بالرقم 42.

    7 ـ تاريخ الشيخ زين الدين عمر ، الوردي ، المعروف بتاريخ ابن الوردي ج 2 ص 406.

    8 ـ البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ، تاليف محمد بن علي الشوكاني ( ت 1250 هـ ) ، ج 1 ص 63 ـ 72 بالرقم 40 .

    9 ـ البداية والنهاية ، للحافظ عماد الدين ، أبي الفداء ، إسماعيل بن عمر بن كثير ، ( م 744 هـ ) ، ج 14 ، في حوادث سنة ( 698 هـ ) ، وغيرها. ولكنّه أشار في مواضع آخر إلى بعض زلاته ومخالفته للرأي العام في ذلك اليوم كما عرفت.

    10 ـ الأعلام للزركلي ، ج 1 ص 44.

    نعم هؤلاء هم الدين ركّزوا على الجانب الإيجابي وتناسوا الجانب السلبي ، مع أنّ التقييم لا يصحّ إلاّ بملاحظة كلا الجانبين ، ولكن هناك جماعة موضوعيين واقعيين ، لم تملأ عيونهم كتب الرجل ورسائله ، فجاءوا بتقييم آرائه فيما صار سبباً لاشتهاره ، وإليك نصوص هؤلاء حتّى لا نخرج في التقييم عن حد العدل.

 

آراء معصاريه ومقاربي عصره في حقه

    قد تعرّفت على حياة الشيخ وأنّه لم يزل ينتقل من معتقل إلى آخر ، ومن مصر إلى مصر ، وكان الرأي المتفق عليه بين القضاة والمعنيين من الحكام هو أنّه رجل يصدر عن عقائد وآراء في مجال العقائد والأحكام تخالف الرأي العام بين أهل السنة ، ولأجل ذلك كانوا يصدرون الحكم عليه بعد الحكم ، ويعاقبونه مرة بعد أُخرى; وقد علمت أنّه منع من الكتابة حتّى في نفس السجن ، فما حال من كان على طرف الخلاف من قضاة المذاهب وحكامهم و علمائهم؟

 

________________________________________

(37)

وبذلك تعرف أنّ الدعايات الأخيرة هي الّتي تريد أن تعرّفه بشيخ الإسلام و محيي السنة ، فما معنى هذه الشيوخة لأهل السنة مع أنّهم أجمعوا على ضَلاله وشذوذه؟

    ولأجل أن يقف القارىء على آراء معصاريه في حقه ومقاربي زمانه ، نقتطف من غضون التاريخ جملا تكشف عن إطباق العلماء ، على الرد عليه ونقد آرائه ، وستوافيك في أثناء البحث رسالة الذهبي إليه بنصها.

    وإليك قائمة الشخصيات الذين ردّوا عليه في عصره أو بعده بقليل :

 

1 ـ الشيخ صفي الدين الهندي الأرموي ( ت 715 هـ )

    عرّفه السبكي بقوله : « متكلم على مذهب الأشعري ، كان من أعلم الناس بمذهب الشيخ أبي الحسن وأدراهم بأسراره ، متضلّعاً بالأصلين ، ومن تصانيفه في علم الكلام « الزبدة » ، وفي أصول الفقه : « النهاية » ، وكل مصنفاته حسنة جامعة ، لاسيما « النهاية ».

    مولده ببلاد الهند سنة 644 هـ ثم قدم دمشق سنة 685 هـ واستوطنها وتوفي بها سنة 715 هـ ولما وقع من ابن تيمية في « المسألة الحموية » ما وقع ، وعقد له المجلس بدار السعادة (1) بين يدي الأمير « تنكز » وجمعت العلماء ، أشاروا بأنّ الشيخ الهندي يحضر ، فحضر ، وكان الهندي طويل النفس في التقرير ، إذا شرع في وجه يقرره لا يدع شبهة ولا اعتراضاً إلاّ اشار إليه في التقرير ، بحيث لا يتم التقرير إلاّ وقد بعد على المعترض مقاومته ، فلما شرع يقرّر ، أخذ ابن تيمية يعجّل عليه على عادته ، ويخرج من شيء إلى شيء.

    فقال له الهندي : ما أراك يا بن تيمية إلاّ كالعصفور حيث أردت أن أقبضه من مكان ، فرّ إلى مكان آخر.

    وكان الأمير تنكز يعظم الهندي ويعتقده ، وكان الهندي شيخ الحاضرين كلّهم ، فكلّهم صدر عن رأيه ، وحبس ابن تيمية بسبب تلك المسألة ، وهي

________________________________________

1 ـ قال المعلق : كان ذلك سنة ( 705 هـ ) ، راجع البداية والنهاية ج 14 ص 36 ـ 38.

________________________________________

(38)

الّتي تضمّنت قوله بالجهة ، ونودي عليه في البلاد وعلى أصحابه ، وعزلوا من وظائفهم (1).

 

2 ـ الشيخ شهاب الدين اببن جهبل الكلابي الحلبي ( ت 733 هـ )

    قال « السبكي » : « درس وأفتى وشغل بالعلم مدة بالقدس ودمشق.

    مات سنة 733 هـ ووقفت له على تصنيف صنفه في نفي الجهة رداً على ابن تيمية » وبما أنّ الرسالة مفصّلة نكتفي في المقام بذكر مقدمتها. يقول : « أمّا بعد فالذي دعا إلى تصدير هذه النبذة. ما وقع في هذه المدة ، مما علّقه بعضهم في إثبات الجهة واغترّ بها من لم يرسخ له في التعليم قدم ، ولم يتعلّق بأذيال المعرفة ، ولا كبحة لجام الفهم ولا استبصر بنور الحكمة فاحببت أن أذكر عقيدة أهل السنة وأهل الجماعة ثم أُبيّن فساد ما ذكره ، مع أنّه لم يدّع دعوى إلاّ نقضها ولا أطّد قاعدة إلاّ هدمها » (2).

 

3 ـ قاضي القضاة كمال الدين الزملكاني ( 667 ـ 733 هـ )

    عرّفه السبكي بقوله : « الإمام العلاّمة المناظر ، ولد في شوال سنة 667 هـ ودرس بالشامية البرانية ـ إلى أن قال ـ : ثم ولي قضاء حلب ، وصنفّ الرد على ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة (3).

 

4 ـ الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي ( ت 748 هـ )

    ترجمه في « تذكرة الحفاظ » غير أنّه لم يذكر مما ردّ عليه بشيء ، وهذا عجيب من الحافظ الذهبي ، ولكنّه نصحه في رسالة بعثها إليه ويذكر ما فيه ويقول :

     « الحمدللّه على ذلّتي ، يا ربّ ارحمني ، وأقلني عثرتي ، واحفظ علىّ

________________________________________

1 ـ طبقات الشافعية الكبرى ج 9 ص 162 ـ 164.

2 ـ تاج الدين ، أبونصر ، عبدالوهاب بن علي بن عبدالكافي السبكي ( ت 727 ـ م 771 ) طبقات الشافعية الكبرى ج 9 ص 34 ـ 35 ) .

3 ـ طبقات الشافعية الكبرى ج 9 ص 190 ـ 191.

 

________________________________________

(39)

إيماني ، واحزناه على قلة حزني ، واأسفاه على السنة وذهاب أهلها ، واشوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونوني على البكاء ، واحزناه على فقد أُناس كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى وكنوز الخيرات ، آه على وجود درهم حلال وأخ مؤنس ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، وتبّاً لمن شغله عيوب الناس عن عيبه.

    إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك؟ إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذمّ العلماء وتتبع عورات الناس؟ مع علمك بنهي الرسول( صلَّى الله عليه [وآله] ) : « لا تذكروا موتاكم إلاّ بخير ، فإنّهم قد أفضوا إلى ما قدموا » بل اعرف أنّك تقول لي لتنصر نفسك : إنّما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شمّوا رائحة الإسلام ، ولا عرفوا ما جاء به محمد ( صلَّى الله عليه [وآله] ) وهو جهاد ، بلى واللّه عرفوا أخيراً كثيراً مما إذا عمل به العبد فقد فاز ، وجهلوا شيئاً كثيراً مما لا يعنيهم ، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ، يا رجل! باللّه عليك كفّ عنّا ، فإنّك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام ، إياكم والغلوطات في الدين ، كره نبيك ( صلَّى الله عليه [وآله] ) المسائل وعابها ، ونهى عن كثرة السؤال وقال : « إنّ أخوف ما أخاف على أُمّتي كل منافق عليم اللسان » وكثرة الكلام بغير زلل ، تقسي القلب إذا كان في الحلال والحرام ، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات الّتي تعمي القلوب ، واللّه قد صرنا ضحكة في الوجود ، فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية؟.

    لنرد عليها بعقولنا ، يا رجل! قد بلعت « سموم » الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات ، وكثرة استعمال السموم يدمن عليه الجسم ، وتكمن واللّه في البدن ، واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبّر وخشية بتذكّر وصمت بتفكّر. واهاً لمجلس يذكر فيه الأبرار ، فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ، بل عند ذكر الصالحين يذكرون بالازدراء واللعنة ، كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما ، باللّه خلّونا من ذكر بدعة الخميس وأكل الحبوب ، وجدّوا في ذكر بدع كنّا نعدّها من أساس الضلال ، قد صارت هي محض السنة وأساس

 

________________________________________

(40)

التوحيد ، ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار ، ومن لم يكفر فهو أكفر من فرعون ، وتعدّ النصارى مثلنا ، واللّه في القلوب شكوك ، إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد ، يا خيبة من اتّبعك فإنّه معرض للزندقة والانحلال ، لاسيما إذا كان قليل العلم والدين باطولياً شهوانياً ، لكنّه ينفعك ويجاهد عنك بيده ولسانه ، وفي الباطن عدوّ لك بحاله وقلبه.

    فهل معظم أتباعك إلاّ قعيد مربوط خفيف العقل؟ أو عامي كذّاب بليد الذهن ، أو غريب واجم قوي المكر؟ أو ناشف صالح عديم الفهم؟ فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل ، يا مسلم اقدم حمار شهوتك لمدح نفسك ، إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار؟ إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار؟ إلى كم تعظمها وتصغر العباد؟ إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد؟ إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح ـ واللّه ـ بها أحاديث الصحيحين؟ يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك.

    بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف و الإهدار ، أو بالتأويل والإنكار ، أما آن لك أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب؟ أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل؟ بلى ـ واللّه ـ ما أذكر أنّك تذكر الموت ، بل تزدري بمن يذكر الموت. فما أظنك تقبل علي قولي ولا تصغي إلى وعظي ، بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات ، وتقطع لي أذناب الكلام ، ولا تزال تنتصر حتّى أقول البتة سكت ، فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد ، فكيف حالك عند أعدائك؟ وأعداؤك ـ واللّه ـ فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء ، عما أنّ أولياءك فيهم فجزة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر ، قد رضيت منك بأن تسبني علانية ، وتنتفع بمقالتي سراً ، فرحم اللّه امرأً أهدى إلىّ عيوبي ، فإنّي كثير العيوب ، غزير الذنوب ، الويل لي إن أنا لا أتوب ، وافضيحتي من علاّم الغيوب! ودوائي عفو اللّه ومسامحته وتوفيقه وهدايته ، والحمد للّه ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على سيدنا محمّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين » (1).

________________________________________

    1 ـ تكملة السيف الصقيل ، للمحقّق المعاصر الكوثري ، ص 190 ـ 192 كتبه من خط ابن قاضي : شهبة ، منقولا من خط قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة وكتبه ، هو من خط الشيخ الحافظ أبي سعيد العلائي المنسوخ من خط الذهبي ، وجاء شطر منه في « فرقان القرآن » تأليف الشيخ سلامة القضاعي العزامي الشافعي في مقدمة كتاب « الأسماء والصفات » للبيهقي ص 129. وقد طبعت صورة خط ابن قاضي شهبة في تكملة السيف الصقيل ص 187 ـ 189.

(41)

5 ـ الشيخ الإمام صدر الدين المرحل ( ت حوالي 750 هـ )

    عرّفه السبكي بقوله : « كان إماماً كبيراً ، بارعاً في المذهب والأصلين ، يضرب المثل باسمه ، فارساً في البحث ، نظاراً مفرط الذكاء ، عجيب الحافظة ـ إلى أن قال ـ : وله مع ابن تيمية ، المناظرات الحسنة ، وبها حصل عليه التعصّب من أتباع ابن تيمية ، قيل فيه ما هو بعيد عنه ، وكثر القائل فارتاب العاقل ، وكان الوالد يعظّم الشيخ صدر الدين ويحبّه ، ويثني عليه بالعلم وحسن العقيدة ومعرفة الكلام على مذهب الأشعري (1).

 

6 ـ الحافظ علي بن عبدالكافي السبكي ( ت 756 هـ )

    ترجمهُ ولده في طبقات الشافعية ، وهو أحد من ردّ على ابن تيمية ، وألّف فيه كتاباً أسماه « شفاء السقام في زيارة خير الأنام عليه الصلاة والسلام » وربما سمي « شنّ الغارة على من أنكر السفر للزيارة » (2) وهو يعرّف والده ويقول : « إمام ناضح عن رسول اللّه بنضاله ، وجاهد بجداله ، حمى جناب النبوة الشريف ، بقيامه في نصره ، وتسديد سهامه للذب عنه من كنانة مصره ... إلى أن قال : قام حين خلط على ابن تيمية الأمر ، وسول له قرينه الخوض في ضحضاح ذلك الجمر ، حين سد باب الوسيلة وأنكر شدّ الرجال لمجرّد الزيارة ، وما برح يدلج ويسير حتى نصر صاحب ذلك الحمى الّذي لا ينتهك ، وقد كادت تذود عنه قسراً صدور الركائب. وتجر قهراً أعنة القلوب بتلك الشبهة الّتي كادت شرارتها تعلق بحداد الأوهام ... كيف يزار المسجد ويخفى صاحبه ، أو يخفيه الإبهام؟ ولولاه ـ عليه السلام ـ لما عرف تفضيل ذلك المسجد ، ولولاه لما قدّس الوالي ، ولا أسس على التقوى مسجد في ذلك النادي

________________________________________

1 ـ طبقات الشافعية الكبرى ج 9 ص 253.

2 ـ طبقات الشافعية ج 10 ص 308.

________________________________________

(42)

شكر اللّه له ، قام في لزوم ما انعقد عليه الإجماع » (1).

    وكان لهذا الكتاب دوي في ذاك العصر ، حيث جابه السبكي ضوضاء الباطل بكتابه الهادي ، وصار مدار الدراسة والقراءة ، وهذا هو الشيخ صلاح الدين الصفدي قرأ الكتاب على المؤلف ، يقول السبكي ( ولد المؤلف ) : قرأ علي الشيخ الإمام ( المراد تقي الدين السبكي ) ـ رحمه الله ـ جميع كتاب « شفاء السقام في زيارة خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام » (2).

    وقال أيضاً في خطبة كتابه « الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية » ما هذا لفظه : « أمّا بعد فإنّه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أُصول العقائد ، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد ، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب والسنّة ، مظهراً أنّه داع إلى الحق ، هاد إلى الجنة ، فخرج عن الإتباع إلى الإبتداع ، وشذ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع ، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدسة ، وإنّ الإفتقار إلى الجزء ليس بمحال ، وقال بحلول الحوادث بذات اللّه تعالى ، وإنّ القرآن محدث تكلم اللّه به بعد أن لم يكن ، وإنّه يتكلم ويسكت ، ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات ، وتعدّى في ذلك إلى استلزام قدم العالم ، والتزم بالقول بأنّه لا أوّل للمخلوقات فقال بحوادث لا أوّل لها ، فأثبت الصفة القديمة حادثة ، والمخلوق الحادث قديماً ، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ، ولا نحلة من النحل ، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاث والسبعين الّتي افترقت عليها الأُمّة ، ولا وقفت به مع أُمّة من الأُمم همة. وكل ذلك و إن كان كفراً شنيعاً ، لكنّه تقل حملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع.

    ثم إنّ السبكي لما وقف على كتاب « منهاج السنة » في الرد على « منهاج الكرامة » للعلامة الحلي ، أنشأ قصيدة ، ومما جاء فيها ناقداً لابن تيمية قوله :

________________________________________

1 ـ طبقات الشافعية ج 10 ص 149 ـ 150 وللكلام صلة.

2 ـ المصدر نفسه ، ص 5.

________________________________________

(43)

ولابن تيمية رد عليه وفيلكنّه خلط الحق المبين بمايرى حوادث لا مبدا لأولهالو كان حياً يرى قولي ويفهمهكما رددت عليه بالطلاق وفي                   بمقصد الرد واستيفاء أضربهيشوبه كدراً في صفو مشربهفي اللّه سبحانه عما يظن بهرددت ما قال أقفو اثر سبسبهترك الزيارة ردّاً غير مشتبه (1)

    إنّ الشيخ الذهبي من الحنابلة الذين يتعصّبون للمذهب الحنبلي ، ومع ذلك نرى أنّه يصف تقي الدين السبكي الّذي ولي مشيخة دار الحديث وخطابة الجامع الأموي بدمشق بقوله :

لِيَهْنَ المنبرُ الأموىُّ لماشيوخ العصر أحفظهم جميعاً                               علاه الحاكمُ البحر التقىُّوأخطبهم « وأقضاهم علىُّ »

    فإذا كان هذا مقام السبكي عند الذهبي ، فليكن حجة على الحنابلة ممن يبغض السبكي لنقده نظرية ابن تيمية في الزيارة وغيرها (2).

 

7 ـ محمد بن شاكر الكتبي ( ت 764 هـ )

    قال في « فوات الوفيات » في ترجمته : « إنّه ألّف رسالة في فضل معاوية ، وفي أنّ ابنه يزيد لا يسب » (3).

    هذه الرسالة تعرب عن نزعته الأموية ، ويكفي القول في الوالد والوالد : « ووالد وما ولد » أنّه بدّل الحكومة الإسلامية إلى الملكية الوراثية ، ودعا عباد اللّه إلى ابنه يزيد ، المتكبّر ، الخميّر ، صاحب الديوك والفهود والقرود ، وأخذ البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والإخافة والتهديد والرهبة ، وهو يطلع على خبثه ورهقه ، ويعاين سكره وفجوره ، ولما استتبٌ الأمر ليزيد ، أوقع بأهل الحرة الوقيعة الّتي لم يكن في الإسلام أشنع منها ولا أفحش ، وظن أنّه قد انتقم من أولياء اللّه فقال مجاهراً بكفره :

________________________________________

1 ـ المصدر نفسه ج 10 ص 186 وتوفي السبكي تقي الدين والد تاج الدين عام ( 756 هـ ) وتوفي الولد عام ( 771 هـ ) .

2 ـ فرقان القرآن ص 129.

3 ـ فوات الوفيات ج 1 ص 77.

________________________________________

(44)

لعبت هاشم بالملك فلا                   خبر جاء ولا وحي نزل

    وهذا هو المروق من الدين ، وقول من لا يرجع إلى اللّه ولا إلى دينه ولا إلى كتابه ولا إلى رسوله ، ثم من أغلظ ما انتهك وأعظم مااخترم سفكه دم الحسين بن علىّ ، بن فاطمة بنت رسول اللّه ، مع موقعه من رسول اللّه ومكانه منه ، ومنزلته من الدين والفضل ، وشهادة رسول اللّه له ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنة ، اجتراءً على اللّه ، وكفراً بدينه ، وعداوة لرسوله ، ومجاهدة لعترته ، واستهانة بحرمته ، فكأنّما يقتل به وبأهل بيته ، قوماً من الكفار (1).

 

8 ـ أبو محمد المعروف باليافعي ( ت 768 هـ )

    قال في كتابه « مرآة الجنان » في ترجمة ابن تيمية : « مات بقلعة دمشق الشيخ الحافظ الكبير تقي الدين أحمد بن تيمية معتقلا ، ومنع قبل وفاته بخمسة أشهر عن الدواة والورق ، وسمع من جماعة وله مسائل غريبة ـ أنكر عليها وحبس بسببها ـ مباينة لمذهب أهل السنة ، ومن أقبحها نهيه عن زيارة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وطعنه مشايخ الصوفية ، وكذلك ما قد عرف من مذهبه كمسألة الطلاق وغيرها ، وكذلك عقيدته في الجهة ، وما نقل فيها من الأقوال الباطلة ، وغير ذلك ما هو معروف من مذهبه ، ولقد رأيت مناماً في وقت مبارك يتعلّق بعضه بعقيدته ، ويدل على خطئه فيها ، وقد قدمت ذكره في حوادث سنة 558 هـ في ترجمة صاحب « البيان ».

    وقال : كان ابن تيمية يقول : قوله : « إنّ اللّه على العرش استوى » ، استواء حقيقة ، وإنّه يتكلّم بحرف وصوت ، وقد نودي في دمشق وغيرها : من كان على عقيدة ابن تيمية حل ماله ودمه! (2) وقال في حوادث سنة 728 هـ : وله

________________________________________

1 ـ مأخوذ من كتاب ( المعتضد ) الّذي تلي على رؤوس الأشهاد في أيامه. نقله الطبري في تاريخه ج 11 ص 77.

2 ـ مرآة الجنان ج 4 ص 277 ، في حوادث سنة 728 هـ وص 240.

________________________________________

(45)

مسائل غريبة أنكر عليها وحبس بسببها مباينة لمذهب ( أهل السنة ) ثم ( عدّ له ) قبائح ، قال : ومن أقبحها نهيه عن زيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) .

 

9 ـ أبوبكر الحصني الدمشقي ( ت 829 هـ )

    يقول : « فاعلم أنّي نظرت في كلام هذا الخبيث الّذي في قلبه مرض الزيغ ، المتتبّع ما تشابه من الكتاب والسنّة ابتغاء الفتنة ، وتبعه على ذلك خلق من العوام وغيرهم ممن أراد اللّه عزّوجلّ إهلاكه ، فوجدت فيه ما لا أقدر على النطق به ، ولا لي أنامل تطاوعني على رسمه وتسطيره ، لما فيه من تكذيب ربّ العالمين ، في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين ، وكذا الازدراء بأصفيائه ، المنتخبين وخلفائهم الراشدين ، واتباعهم الموفقين ، فعدلت عن ذلك إلى ذكر ما ذكره الأئمّة المتّقون ، وما اتّفقوا عليه من تبعيده وإخراجه ببغضه من الدين (1).

 

10 ـ شيخ الإسلام ، شهاب الدين ، أحمد بن حجر ، العسقلاني ( ت 852 هـ )

    ترجمه ابن حجر في كتابه « الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة » وذكر حياته على وجه التفصيل وقال : « وأول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة 698 هـ قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية ، وبحثوا معه ، ومنع من الكلام » ثم ذكر معتقلاته وسجونه إلى أن أدركته المنيّة بما لا حاجة إلى ذكره ، ونقتبس مما ذكره الجمل التالية :

    أ ـ يقول : « حكم المالكي بحبسه فأُقيم من المجلس وحبس في برج ، ثم بلغ المالكي أنّ الناس يترددون عليه ، فقال : يجب التضييق عليه إن لم يقتل ، وإلاّ فقد ثبت كفره ، فنقلوه ليلة عيد الفطر إلى الجب ، وعاد القاضي الشافعي إلى ولايته ، ونودي بدمشق : من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله ، خصوصاً الحنابلة ، وقرأ المرسوم وقرأها ابن الشهاب محمود في الجامع ، ثم جمعوا الحنابلة من

________________________________________

1 ـ دفع شبهة من شبّه وتمرّد ، ص 216 ، طبع بمصر عام 1350 هـ.

________________________________________

(46)

الصالحية وغيرها وأشهدوا على أنفسهم أنّهم على معتقد الإمام الشافعي ».

    ب ـ نقل عن جمال الدين السرمري أنّه قال : وكان ابن تيمية يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث ، فيورد في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس : « ... ومن ثم نصب أصحابه إلى الغلوّ فيه ، واقتضى ذلك العجب بنفسه حتّى زها على أبناء جنسه ، واستشعر أنّه مجتهد يرد على صغير العلماء وكبيرهم ، قديمهم وحديثهم ، حتى انتهى إلى عمر فخطأه في شيء ، وقال في حق علي : أخطأ في سبعة عشر شيئاً ، ثم خالف فيها ، وكان لتعصبه لمذهب الحنابلة يقع في الأشاعرة ، حتّى أنّه سب الغزالي ، .. فعظم ذلك على الشيخ نصر المنبجي ، وأعانه عليه قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد المثيرة وقعت منه في مواعيده وفتاواه ، فذكروا أنّه ذكر حديث النزول ، فنزل عن المنبر درجتين فقال : كنزولي هذا (1) ، فنسب إلى التجسيم ، وردّه على من توسّل بالنبي ، فأشخص من دمشق في رمضان سنة ( 705 هـ ) .

    ثم يقول : إنّه اختلف الناس بعد إخراجه عن بعض معتقلاته ، فمنهم من نسبه إلى التجسيم ، لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك ، كقوله إنّ اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقية للّه ، وإنّه مستو على العرش بذاته ، فقيل له يلزم من ذلك التحيّز والإنقسام ، ومنهم من أنكر كون التحيّز والانقسام من خواص الأجسام (2).

    ومنهم من ينسبه إلى الزندقة ، لقوله : إنّ النبي لا يستغاث به ، وإنّ في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم النبي ، ومنهم من ينسبه إلى النفاق لقوله في علىّ

________________________________________

1 ـ سيوافيك نص ابن بطوطة السياح المعروف في ذلك ، وأنه سمعه بأذنه ورآه بعينه ، فانتظر.

2 ـ اقرأ واضحك على عقلية القائل.

________________________________________

(47)

ماتقدم ، ولقوله إنّه كان مخذولا حيثما توجّه ، وإنّه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها ، إنّما قاتل للرئاسة لا للديانة ، ولقوله إنّه كان يحب الرئاسة ، وإنّ عثمان كان يحبّ المال ، ولقوله أبوبكر أسلم شيخاً يدري ما يقول ، وعلىّ أسلم صبياً والصبي لا يصحّ إسلامه على قول (1).

 

11 ـ جمال الدين يوسف بن تغري الأتابكي ( 812 ـ 874 هـ )

    وقد ترجمه جمال الدين في كتابه : « المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي » ومما جاء فيه : قال القاضي كمال الدين الزملكاني : « ثم جرت له محن في مسألة الطلاق الثلاث ، وشدّ الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين ، وحبّب للناس القيام عليه ، وحبس مرات في القاهرة والإسكندرية ودمشق ، وعقد له مجالس بالقاهرة ودمشق ، إلى أن ورد مرسوم شريف من السلطان في شعبان سنة ( 726 هـ ) بأن يجعل في قلعة دمشق ، فاقام فيها مدة مشغولا بالتصنيف ، ثم بعد مدة منع من الكتابة والمطالعة ، وأخرجوا ما كان عنده من الكتب ، ولم يتركوا عنده دواتاً [دواةً] ولا قلماً ولا ورقة.

    ومما وقع له قبل حبسه أنّه ناظر بعض الفقهاء ، وكتب محضراً ، فإنّه قال. أنا أشعري ثم أخذ خطه بما نصه :

    أنا أعتقد أنّ القرآن معنى قائم بذات اللّه ، وهو صفة من صفات ذاته القديمة ، وهو غير مخلوق ، وليس بحرف ولا صوت ، وأنّ قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) ليس على ظاهره ، ولا أعلم كنه المراد به ، بل لا يعلمه إلاّ اللّه ، والقول في النزول كالقول في الاستواء ، وكتبه أحمد بن تيمية ، ثم أشهدوا عليه جماعة أنّه تاب مما ينافي ذلك مختاراً ، وشهد عليه بذلك جمع من العلماء وغيرهم » (2).

________________________________________

1 ـ الدرر الكامنة ج 1 ص 154 ـ 165.

2 ـ « المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي » ج 1 ص 336 ـ 340 ، والزملكاني هو كمال الدين محمد بن علي بن عبد الواحد الشافعي ، ولد سنة ( 667 هـ ) وتوفي سنة ( 733 هـ ) .

________________________________________

(48)

    وترجمه أيضاً في كتابه الآخر : « النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة » بنفس النص الوارد في « المنهل الصافي » (1).

 

12 ـ شهاب الدين ، ابن حجر ، الهيثمي ( ت 973 هـ )

    قال في ترجمة ابن تيمية : « ابن تيمية عبد خذله اللّه ، وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه ، بذلك صرّح الأئمة الذين بيّنوا فساد أحواله وكذب أقواله ، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد ، أبي الحسن السبكي وولده التاج والشيخ الإمام العزّ بن جماعة ، وأهل عصرهم وغيرهم من الشافعية والمالكية والحنفيةولم يقصر اعتراضه على متأخّري السلف الصوفية ، بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب وعلىّ بن ابي طالب رضي الله عنهما.

    والحاصل أنّه لا يقام لكلامه وزن ، بل يرمى في كل وعر وحزن ويعتقد فيه أنّه مبتدع ، ضالّ ، مضلّ ، غال ، عامله اللّه بعدله ، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله. آمين! إلى أن قال : إنّه قائل بالجهة ، وله في إثباتها جزء ، ويلزم أهل هذا المذهب الجسمية والمحاذاة والاستقرار. أي فلعلّه بعض الأحيان كان يصرّح بتلك اللوازم فنسبت إليه ، وممن نسب إليه ذلك من أئمة الإسلام المتفق على جلالته وإمامته وديانته ، وإنّه الثقة العدل المرتضى المحقق المدقق ، فلا يقول شيئاً إلاّ عن تثبت ، وتحقق ، ومزيد احتياط ، و تحر ، لا سيما إن نسب إلى مسلم ما يقتضي كفره ، وردّته ، وضلاله ، وإهدار دمه » (2).

    وقال أيضاً في كتابه : « الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم » : « فإن قلت : كيف تحكي الإجماع السابق على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها ، وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كله ، كما

________________________________________

1 ـ « النجوم الزاهرة ... » ج 2 ص 279.

2 ـ الفتاوى الحديثية ، ص 86. ونقله العلامة الشيخ محمد بخيت ( م 1354 هـ ) في كتابه « تطهير الفؤاد » ص 9 ط مصر.

________________________________________

(49)

رآه السبكي في خطه ، واطال ابن تيمية في الاستدلال بذلك بما تمجّه الأسماع وتنفر منه الطباع ، بل زعم حرمة السفر لها إجماعاً ، وأنّه لا تقصر فيه الصلاة ، وأنّ جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة ، وتبعه بعض من تأخّر عنه من أهل مذهبه!.

    قلت : من هو ابن تيمية حتّى ينظر إليه؟ أو يعوّل في شيء من أُمور الدين عليه؟ وهل هو إلاّ كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقّبوا كلماته الفاسدة ، و حججه الكاسدة ، حتّى أظهروا عوار سقطاته ، وقبائح أوهامه وغلطاته ، كالعز بن جماعة : عبد أذلّه اللّه وأغواه ، وألبسه رداء الخزي وبوّأَهُ من قوة الإفتراء والكذب ما أعقبه الهوان ، وأوجب له الحرمان ... » (1).

 

13 ـ ملاّ علي القارىء الحنفي ( ت 1016 هـ )

    وقال ملاّ علي القارىء الحنفي في شرحه على الشفاء (2) : « وقد أفرط ابن تيمية من الحنابلة حيث حرم السفر لزيارة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) كما أفرط غيره حيث قال : كون الزيارة قربة معلوم من الدين بالضرورة. وجاحده محكومع ليه بالكفر ، ولعلّ الثاني أقرب إلى الصواب ، لأنّ تحريم ما أجمع العلماء فيه على الاستحباب يكون كفراً ، لأنّه فوق تحريم المباح المتفق عليه في هذا الباب ».

 

14 ـ أبو العباس أحمد بن محمد المكناسي ، الشهير بابن القاضي ( 960 ـ 1025 هـ )

    وقد ترجمه ابن القاضي في ذيل وفيات الأعيان المسمى بـ « درة الحجال في أسماء الرجال » قال : « أحمد بن عبد الحليم مفتي الشام ومحدّثه وحافظه ، وكان يرتكب شواذ الفتاوى ، ويزعم أنّه مجتهد » (3).

________________________________________

1 ـ فرقان القرآن ، ص 132 ـ طبع في مقدمة كتاب الأسماء والصفات للبيهقي.

2 ـ « درة الحجال في أسماء الرجال » ج 1 ص 30.

3 ـ تأليف الحافظ أبي الفضل عياض بن موسى القاضي ( ت 544 هـ ) وأسماه : « الشفا في تعريف حقوق المصطفى » وله شروح كثيرة ذكره الكاتب الحلبي في كتابه.

________________________________________

(50)

15 ـ النبهاني ( ت 1350 هـ )

    قال النبهاني في تأليفه « شواهد الحق » بعد نقل أسماء عدة من الطاعنين به : « فقد ثبت وتحقّق وظهر ظهور الشمس في رابعة النهار أنّ علماء المذاهب الأربعة قد اتّفقوا على ردّ بدع ابن تيمية ، ومنهم من طعنوا بصحة نقله ، كما طعنوا بكمال عقله ، فضلا عن شدة تشنيعهم عليه في خطئه الفاحش في تلك المسائل الّتي شذّ بها في الدين ، وخالف بها إجماع المسلمين ، ولا سيما فيما يتعلّق بسيّد المرسلين ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ».

 

16 ـ المحقق الشيخ محمد الكوثري المصري ( ت 1371 هـ )

    إنّ الشيخ الكوثري هو أكثر الناس تتبّعاً لمكامن حياة ابن تيمية ، وقد شهره وفضحه ، بنشر كتاب « السيف الصقيل » للسبكي وجعل له تكملة ، نشرهما ، معاً فمن وقف على هذا الكتاب وما ذيّل به ، لعرف مواقع الرجل ، وإليك كلمة من الكوثري في حق الحشوية ، يقول في تقديمه لكتاب « الأسماء والصفات » للحافظ البيهقي ـ بعد ما يسرد أسماء عدة من كتب الحشوية كالاستقامة لخشيش بن أصرم ، والسنة لعبد اللّه بن أحمد « والنقض » لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسم ـ : « إنّ السجزي أول من اجترأ بالقول « إنّ اللّه لو شاء لا ستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ، فكيف على عرش عظيم » وتابعه الشيخ ابن تيمية الحراني في ذلك ، كما تجد نص كلامه في « غوث العباد » المطبوع سنة 1351 بمطبعة الحلبي » (1).

    وقال ايضاً في مقدمته على السيف الصقيل :

    جزى اللّه علماء أُصول الدين عن الإسلام خيراً ، فإنّ لهم فضلا جسيماً في صيانة عقائد المسلمين بادلّة ناهضة مدى القرون ، أمام كل فرقة زائفة ـ إلى أن قال ـ :

    ومن طالع من ألّفه بعض الرواة على طول القرون من كتب في التوحيد

________________________________________

1 ـ مقدمة الأسماء والصفات للبيهقي ، ص « ب ».

(51)

والصفات والسنة ، والردود على أهل النظر ، يشكر اللّه سبحانه على النور الّذي افاضه على عقله ، حتّى نبذ مثل تلك الطامات بأول نظرة.

    وقد استمرّت فتن المخدوعين من الرواة على طول القرون مجلبة لسخط اللّه تعالى ، ولاستسخاف العقلاء ، من غير أن يخطر ببال عاقل أن يناضل عن سخافات هؤلاء ، إلى أن نبغ في أواخر القرن السابع بدمشق ، حرّاني تجرّد للدعوة إلى مذهب هؤلاء الحشوية السخفاء ، متظاهراً بالجمع بين العقل والنقل على حسب فهمه من الكتب ، بدون أُستاذ يرشده في مواطن الزلل ، وحاشا العقل الناهض والنقل الصحيح أن يتضافرا في الدفاع عن تحريف السخفاء إلاّ إذا كان العقل عقل صابئي والنقل نقل صبي ، وكم انخدع بخزعبلاته أُناس ليسوا من التأهّل للجمع بين الرواية والدارية في شيء ، وله مع خلطائه هؤلاء ، موقف في يوم القيامة لا يغبط عليه.

    ومن درس حياته يجدها كلها فتناً لا يثيرها حافظ بعقله ، غير مصاب في دينه ، وأنّى يوجد نصّ صريح منقول أو برهان صحيح معقول يثبت الجهة والحركة والثقل والمكان ونحوها للّه سبحانه؟.

    وكل ما في الرجل أنّه كان له لسان طلق ، وقلم سيال ، وحافطة جيدة ، قلّب ـ بنفسه بدون أُستاذ رشيد ـ صفحات كتب كثيرة جداً من كتب النحل الّتي كانت دمشق امتلأت بها بواسطة الجوافل من استيلاء المغول على بلاد الشرق ، فاغترّبما فهمه من تلك الكتب من الوساوس والهواجس ، حتى طمحت نفسه إلى أن تكون قدوة في المعتقد والأحكام العملية ، ففاه في القبيلين بما لم يفه به أحد من العالمين ، مما هو وصمة عار وأمارة مروق في نظر الناظرين ، فانفضّ من حوله أُناس كانوا تعجّلوا في إطرائه ـ بادىء بدء ـ قبل تجريبه ، وتخلّوا عنه واحداً إثر واحد على تعاب فتنة المدونة في كتب التاريخ ، ولم يبقَ (1) معه إلاّ أهل مذهبه في الحشو من جهلة المقلدة ، ومن ظن أن علماء

________________________________________

1 ـ وقال في التعليق : وثناء بعض المتأخرين عليه لم يكن إلا عن جهل بمضلات الفتن في كلامه ، ووجوه الزيغ في مؤلفاته ، ومنهم من ظن أنه دام على توبته بعد ما استتيب فدام على الثناء ، ولا حجة في مثل تلك الأثنية ، وأقواله الماثلة أمامنا في كتبه لا يؤيدها إلاّ غاو غوى ، نسأل اللّه السلامة.

________________________________________

(52)

عصره صاروا كلهم إلباً واحداً ضدّه حسداً من عند أنفسهم ، فَلْيَتّهم عقله وإدراكه قبل اتّهام الآخرين ، بعد أن درس مبلغ بشاعة شواذه في الاعتقاد والعمل ، وهو لم يزل يستتاب استتابة إثر استتابة ، وينقل من سجن إلى سجن إلى أن افضى إلى ما عمل وهو مسجون فقير ، هو وأهواؤه في البابين ، بموته وبردود العلماء عليه ، وماهي ببعيدة عن متناول رواد الحقائق.

 

كلامه في حق تلميذه ابن القيم

    وكان ابن زفيل الزرعي المعروف بابن القيم يسايره في شواذه حياً وميتاً ، ويقلده فيها تقليداً أعمى في الحق والباطل ، وإن كان يتظاهر بمظهر الاستدلال ، لكن لم يكن استدلاله المصطنع سوى ترديد منه لتشغيب قدوته ، دائباً على إذاعة شواذ شيخه ، متوخياً ـ في غالب مؤلفاته ـ تلطيف لهجة أُستاذه في تلك الشواذ لتنطلي وتنفق على الضعفاء ، وعمله كله التلبيس والمخادعة والنضال عن تلك الأهواء المخزية ، حتى أفنى عمره بالدندنة حول مفردات الشيخ الحراني.

    تراه يثرثرفي كل واد ويخطب بكل ناد ، بكلام لا محصل له عند أهل التحصيل ، ولم يكن له حظ من المعقول ، وإن كان كثير السرد لآراء أهل النظر ، ويظهر مبلغ تهافته لمن طالع شفاء العليل له بتبصّر ، ونونيته (1) و عَزَوْه من الدلائل على أنّه لم يكن ممن له علم بالرجال ولا بنقد الحديث ، حيث أثنى فيهما على أُناس هلكى ، واستدل فيهما باخبار غير صحيحة على صفات اللّه سبحانه.

    وقد ذكره الذهبي في المعجم المختص بما فيه عبرة ، ولم يترجم له الحسيني

________________________________________

1 ـ وهي قصيدته البالغة خمسة آلاف بيت في العقائد ، وهي الّتي رد عليها السبكي بتاليف كتاب السيف الصقيل ، وأكمله محمد الكوثري وأسماه تكملة السيف الصقيل ، وها نحن ننقل هاتيك العبارات منها.

________________________________________

(53)

ولا ابن فهد ولا السيوطي في عداد الحفاظ في ذيولهم على طبقات الحفاظ ، وما يقع من القارىء بموقع الأعجاب من أبحاثه الحديثية في زاد المعاد وغيره ، فمختزل مأخوذ مما عنده عن كتب قيّمة لأهل العلم بالحديث ، كـ « المورد الهني في شرح سير عبدالغني » للقطب الحلبي ونحوه.

    ولو لا محلى ابن حزم « وأحكامه » و « مصنف » ابن أبي شيبه « وتمهيد » ابن عبدالبر لما تمكن من مغالطاته وتهويلاته في « أعلام الموقعين ».

    وكم استتيب وعذر مع شيخه وبعده على مخاز في الاعتقاد والعمل ، تستبين منها ما ينطوي عليه من المضي على صنوف الزيغ تقليداً لشيخه الزائغ ، وسيلقى جزاء عمله هذا في الآخرة ـ إن لم يكن ختم له بالتوبة والأمانة ـ كما لقي بعض ذلك في الدنيا.

 

كلام الحافظ الذهبي وغيره في حق ابن القيم

    قال الذهبي في المعجم المختص عن ابن القيم هذا : « عني بالحديث بمتونه وبعض رجاله وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره ، وفي النحو ويدريه ، وفي الأصلين. وقد حبس مدة لإنكاره على شد الرحل لزيارة قبر الخليل ( إبراهيم ( عليه السَّلام ) ) ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم ، لكنّه معجب برأيه جريء على الأُمور.

    قال ابن حجر في الدرر الكامنة : « غلب عليه حب ابن تيمية حتّى كان لا يخرج عن شيء من أقواله ، بل ينتصر له في جميع ذلك ، وهو الّذي هذب كتبه ونشر علمه ... واعتقل مع ابن تيمية بالقلة ، بعد أن أُهين وطيف به على جمل مضروباً بالدرة ، فلما مات أُفرج عنه ، وامتحن مرة أُخرى بسبب فتاوى ابن تيمية ، وكان ينال من علماء عصره وينالون منه ».

    قال ابن كثير : « كان يقصد للإفتاء بمسألة الطلاق ، حتى جرت له بسببها أُمور يطول بسطها مع ابن السبكي وغيره ... وكان جماعاً للكتب فحصّل منها ما لا يحصر ، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلا سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم.. وهو طويل النفس في مصنفاته ، يتعانى

 

________________________________________

(54)

الإيضاح جهده ، فيسهب جداً ، ومعظمها من كلام شيخه بتصرف في ذلك ، وله في ذلك ملكة قوية ، ولا يزال يدندن حول مفرداته وينصرها ويحتج لها.. وجرت له محن مع القضاة ، منها في ربيع الأول طلبه السبكي بسبب فتواه بجواز المسابقة بغير محلل فأنكر عليه ، وآل الأمر إلى أنّه رجع عما كان يفتي به من ذلك ».

 

كلام ابن الحصني في حقه

    وقال التقي الحصني : كان ابن تيمية ممن يعتقد ويفتي بأنّ شدّ الرحال إلى قبور الأنبياء حرام لا تقصر فيه الصلاة ، ويصرّح بقبر الخليل وقبر النبي ( صلى اللّه عليهما وسلم ) ، وكان على هذا الاعتقاد تلميذه ابن قيم الجوزية الزرعي ، وإسماعيل بن كثير الشركويني ، فاتّفق أنّ ابن قيم الجوزية سافر إلى القدس الشريف ، ورقي على منبر في الحرم ووعظ وقال في أثناء وعظه بعد أن ذكر المسألة : وها أنا راجع ولا أزور الخليل.

    ثم جاء إلى نابلس ، وعمل له مجلس وعظ ، وذكر المسألة بعينها حتى قال : فلا يزور قبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، فقام إليه الناس وأرادوا قتله ، فحماه منهم والي نابلس ، وكتب أهل القدس وأهل نابلس إلى دمشق يعرّفون صورة ما وقع منه ، فطلبه القاضي المالكي فتردد وصعد إلى الصالحية إلى القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي وأسلم على يديه ، فقبل توبته وحكم بإسلامه وحقن دمه ، ولم يعزّره لأجل ابن تيمية ... ثم أحضر ابن قيم الجوزية وادُّعي عليه بما قاله في القدس الشريف وفي نابلس فأنكر ، فقامت عليه البينة بما قاله ، فأُدّب وحُمل على جمل ، ثم أُعيد إلى السجن ، ثم أُحضر إلى مجلس شمس الدين المالكي وأرادوا ضرب عنقه ، فما كان جوابه إلاّ أن قال : إنّ القاضي الحنبلي حكم بحقن دمي وبإسلامي وقبول توبتي ، فأُعيد إلى الحبس إلى أن أُحضر الحنبلي فأخبر بما قاله ، فأُحضر وعزّر وضرب بالدرة ، وأُركب حماراً وطيف به في البلد والصالحية ، وردّوه إلى الحبس ـ وجرسوا ابن القيم وابن كثير ، وطيف بهما في البلد وعلى باب الجوزية لفتواهم في مسالة الطلاق.

 

________________________________________

(55)

    قال ابن رجب : قد امتحن و أوذي مرات ، وحبس مع الشيخ تقي الدين في المدة الأخيرة بالقلعة منفرداً ، لم يفرج عنه إلاّ بعد موت الشيخ.

    وقد سقت هنا نماذج من كلمات أصحابه و أضداده والمتحايدين في حقه ، ليعتبربها المغرورون به. على أنّ الخبر اليقين فيما يجده القارىء الكريم في حقه في هذا الكتاب ، وأرجو أن الحق لا يتعدى ما دللت عليه في حقه فيما كتبناه.

    وأحق الناس بالرثاء وأجدرهم بالترحّم من أفنى عمره في سبيل العلم منصاعاً لمبتدع يرديه من غير أن يتخيّر أُستاذاً رشيداً يهديه ، ومثله إذا دوّن أسفاراً لا يزداد بها إلاّ بسمعه ولا يبصر بعداً عن اللّه وأوزاراً ، وهو الّذي يصبح متفانياً في شيخه الزائغ بحيث لا يسمع إلاّ ببصره في جميع شؤونه ، ويبقى في أحط دركات الجهل من التقليد الأعمى ، ولو فكر قليلا لكان أدرك أنّ من السخف بمكان ، وضعه لشيخه في إحدى كفّتي الميزان ليوازن به جميع العلماء والفقهاء من هذه الأُمة في كفته الأُخرى فيزنهم ويغالبهم به فيغلبهم في علومهم!! وهذا ما لا يصدر من حافظ بعقله ، ولا سيما بعد التفكير في تلك المخازي من شواذه.

    نعم ، يمكن أن يكون عنده أو عند شيخه بعض تفوق في بعض العلوم على بعض مشايخ حارته ، أو أهل خطته أو قريته أو مضرب خيام عشيرته ، لكن لا يوجب هذا أن يصدق ظنه في حق نفسه أن جوّ هذه الأرض يضيق عن واسع فهومه ، وعرض هذه البحار لا يتّسع لزاخر علومه » (1).

 

17 ـ الشيخ سلامة القضا العزامي ( ت 1379 هـ )

    قال : « بدأ ابن تيمية حياته بطلب العلم على ذكاء وتصالح ، ورفق به أكابر العلماء لأنّ اباه كان رجلا هادئاً وكان من بيت علم ، فساندوه وشجعوه وأثنوا عليه خيراً ، حتّى إذا أقبل عليه الناس بدأ يظهر بالبدع ، وأبطرته الغرة ، فتمادى في التعصب لآرائه ، وما زال يتلاعب به الهوى حتّى كان مجموعة بدع

________________________________________

1 ـ تكملة السيف الصقيل ص 4 ـ 9.

________________________________________

(56)

شنعاء ، ودائرة جهالات وأباطيل شوهاء ، فتجده في مسائل من علم التوحيد حشوياً كرامياً ، يقول في اللّه بالأجزاء والجهة والمكان ، والنزول والصعود الحسيين ، وحلول الحوادث بذاته تعالى ، ومن ناحية أُخرى تجد فيه حضيضة الخوارج ، يكفّر أكابر الأُمة ويخطىء أعاظم الأئمة وقال : من نذر شيئاً للنبي أو غيره من النبيين والأولياء من أهل القبور ، أوذبح له ذبيحة كان كالمشركين الذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها ، فهو عابد لغير اللّه فيكون بذلك كافراً ، ويطيل في ذلك الكلام ، واغترّ بكلامه بعض من تأخّر عنه من العلماء ممن ابتلي بصحبته أو صحبة تلاميذه ، وهو منه تلبيس في الدين ، وصرف إلى معنى لا يريده مسلم من المسلمين ، ومن خبر حال من فعل ذلك من المسلمين وجدهم لا يقصدون بذبائحهم ونذورهم للمتقين من الأنبياء والأولياء إلاّ الصدقة عنهم ، وجعل ثوابها إليهم ، وقد علموا أنّ إجماع أهل السنة منعقدة على أنّ صدقة الأحياء نافعة للأموات واصلة إليهم.

    ولقد تعدّى هذا الرجل حتّى على الجناب المحمدي فقال : إنّ شد الرحال إلى زيارته معصية ، وإنّ من ناداه مستغيثاً به بعد وفاته فقد أشرك ، فتارة يجعله شركاً أصغر ، وأُخرى يجعله شركاً أكبر ، وإن كان المستغيث ممتلىء القلب بأنّه لا خالق ولا مؤثر إلاّ اللّه ، وأنّ النبي إنّما ترفع إليه الحوائج ويستغاث به ، على أنّ اللّه جعله منبع كل خير ، مقبول الشفاعة ، مستجاب الدعاء كما هي عقيدة جميع المسلمين مهما كانوا من العامة.

    وقد أوضح ذلك كل الإيضاح قبلنا أكابر جهابذة العلم لا سيما علَمُ أعلام هذا العصر ، حامل لواء الحكمة الإسلامية ، وأحد جماعة كبار العلماء بحق ، الشيخ يوسف الدجوي ، فيما كتبه في مجلة الأزهر ـ أدم اللّه تأييده بروح منه ، وجلله بالعافية من لدنه ـ.

    وهذه البدعة من مبتكراته قد اغتر بها ناس ، فقالوا بكفر من عداهم من جماهير المسلمين ، وسفكت في ذلك دماء لا تحصى ، وقد أُلفت الكتب الكثيرة في رد هذه البدعة وفروعها ، بين مطوّل قد جوّده صاحبه ، ومختصر أفاده مؤلفه وأجاد.

 

________________________________________

(57)

    ومن عجيب أمر هذا الرجل أنّه إذا ابتدع شيئاً حكى عليه إجماع الأولين والآخرين كذباً وزوراً ، وربما تجد تناقضه في الصفحة الواحدة ، فتجده في منهاجه مثلا يدّعي أنّه ما من حاديث إلاّ وقبله حادث إلى ما لا نهاية له في جانب الماضي ، ثم يقول : وعلى ذلك أجمع الصحابة والتابعون. وبعد قليل يحكي اختلافاً لحق الصحابة في أول مخلوق ما هو؟ أهو القلم أم الماء؟ وبينما تراه يتكلّم بلسان أهل الحق المنزهين ، إذا بك تراه قد انقلب جهوياً (1) وسمّى كل من لا يقول بذلك معطّلا ، وزنديقاً ، وكافراً ، وقد جمع تلميذه « ابن زفيل » سفاهاته ووساوسه في علم أصول الدين ، في قصيدته النونية ، وبينما تراه يسب جهماً والجهمية ، إذا بك تراه يأخذ بقوله في أنّ النار تفنى ، وأن أهلها ليسوا خالدين فيها أبداً ـ إلى أن قال ـ : وليس من غرضنا بسط الكلام في بدع هذا الرجل ، فقد كفانا العلماء ـ شكر اللّه سعيهم ـ من عصره إلى هذا العهد ، المؤنة بالتصانيف الممتعة في الرد عليها ، ولكن رفع الجهل رأسه في عصرنا هذا ، وانتدب ناس من شيعته لطبع الكثير من كتبه وكتب تلميذه ابن زفيل ، ففضحوا الرجل وشهّروا به عند المحققين من أهل الفقه في الدين ، وتبينت صحة نسبة ما كان يتورع العلماء عن نسبته إليه ، وإنّ نصيحتي الّتي أسديها لكن مسلم نصيحة للّه ولرسوله ولكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم ، هي لزوم جماعة المسلمين في أُصول الدين وفروعه ، ولولا أنّي اشفق على القارىء أن يملّ لتحدّثت إليه طويلا فيما أصاب الإسلام والمسلمين من عظائم هذا الرجل ، ولبسطت له ما قال أكابر العلماء فيه وفي شيعته ، ولكنّي أرجو أن يكون ما قدّمته كافياً لذوي النهى » (2).

 

18 ـ الشيخ محمد أبو زهرة ( 1316 ـ 1396 هـ )

    ألّف الشيخ محمد أبو زهرة ، كتاباً في حياة ابن تيمية وشخصيته ، ومع

________________________________________

1 ـ كذا في النسخة ولعل المراد : « جهمياً ».

    [أو لعل المراد : نسبته إلى من يقول في اللّه بالجهة] الناشر.

2 ـ فرقان القرآن ص 132 ـ 137 وقد فرغ المؤلف منه سنة 1358 هـ.

________________________________________

(58)

أنّه أغمض عن كثير من الجوانب السلبية في حياته ، وأخرج كتابه على وجه يلائم روح المحايدة في الكتابة ، ومع ذلك انتقد عليه في موارد ، ومنها : منعه التبرك بآثار النبي. يقول : « دفن النبي في حجرة عائشة لأنّ يكون قبره قريباً من المسجد ، وأن يكون قبره معروفاً غير مجهول ، فإنّه لو دفن بالبقيع في الصحراء ، فقد يجهل موضعه ، ويكون بعيداً عن مسجده ، وأمّا إذا دفن في حجرة عائشة فإنّه يكون قريباً من مهبط الوحي ومبعث الدعوة ومكان التنزيل ، وبعد فإنّا نخالف ابن تيمية منعه التبرك بزيارة قبر الرسول و المناجاة عنده ، وعدم الندب إليه ، وإنّ التبرك الّذي نريده ليس هو العبادة أو التقرب إلى اللّه بالمكان. إنّما التبرك هو التذكّر والاعتبار والاستبصار. وأىّ امرىء مسلم علم حياة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وسيرته ، وهدايته ، وغزواته وجهاده ، ثم يذهب إلى المدينة ولا يحس بأنّه في هذا المكان كان يسير الرسول ويدعو ويعمل ، ويدبّر ويجاهد ، أو لا يعتبر ـ ولا يستبصر ، أو لا يحس بروحانية الإسلام و عبقرية النبي الأمين ، أو لا تهزّ أعطافه محبة للّه ورسوله والأخذ بما أمر اللّه به ، والانتهاء عما نهى عنه إلاّ من أعرض عن ذكر اللّه ولم يكن من أولي الأبصار؟ إنّ الزيارة إلى قبر الرسول هي الذكرى والاعتبار ، والهدي والاستبصار والدعاء عند القبر دعاءً ، القلب خاشع ، العقل خاضع ، والنفس مخلصة ، والوجدان مستيقظ ، وإنّ ذلك أبرك الدعاء » (1).

    وهذه النصوص الرائعة من أئمة الحديث والتفسير والكلام في حق الرجل تغنينا عن إفاضة القول فيه ، وقد اكتفينا بهذا المقدار عن الكثير ، فإنّ الناقدين له أكثر مما ذكرنا. وقد نشر كتيب باسم « الوهابية في نظر المسلمين » (2) وذكر بعض من لم نذكره ، كما أنّه لم يذكر بعض ما ذكرنا من النصوص.

    والّذي يعرب عن أنّ الرأي العام يوم ذاك كان على ضدّه هو أنّ لفيفاً من العلماء من معاصريه والمتأخرين عنه ردّوا عليه بكتب ورسائل فندوا فيها.

________________________________________

1 ـ ابن تيمية حياته وشخصيته ص 228.

2 ـ تأليف : إحسان عبداللطيف البكري.

 

________________________________________

(59)

الرجل حول الصفات الخبرية أولا ، والزيارة والتوسل ثانياً ، إلى غير ذلك مما أثار عجاباً في السحاة الإسلامية ، وإليك الإيعاز بالردود الّتي كتبت على آرائه.

 

الناقضون والرادّون على ابن تيمية

    وإليك قائمة ممن ألف كتاباً أو رسالة حول آرائه :

    1 ـ شفاء السقام في زيارة خيرالأنام ، لتقي الدين السبكي.

    2 ـ الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية ، له أيضاً.

    3 ـ المقالة المرضية ، لقاضي قضاة المالكية تقي الدين أبي عبداللّه الأخنائي.

    4 ـ نجم المهتدي ورجم المقتدي ، للخفر ابن المعلم القرشي.

    5 ـ دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد ، لتقي الدين الإمام أبي بكر الحصني الدمشقي ( ت 729 هـ ) .

    6 ـ التحفة المختارة في الرد على منكري الزيارة ، لتاج الدين عمر بن علي اللخمي المالكي الفاكهاني ( ت 734 هـ ) .

    ومما جاء فيه قوله : أخبر جمال الدين عبداللّه بن محمد الأنصاري المحدث قال : رحلنا مع شيخنا تاج الدين الفاكهاني إلى دمشق ، فقصد زيارة نعل رسول اللّه الّتي بدار الحديث الأشرفية بدمشق ، وكنت معه ، فلما رأى النعل المكرمة ، حسر عن رأسه ، وجعل يقبله ويمرغ وجه عليه ودموعة تسيل وأنشد :

فلو قيل للمجنون : ليلى ووصلهالقال غبار من تراب نعالها                        تريد أم الدنيا وما في طواياهاأحب إلى نفسي وأشفى لبلواها (1)

    7 ـ اعتراضات على ابن تيمية ، لأحمد بن إبراهيم السروطي

________________________________________

1 ـ الغدير : ج 5 ص 155 نقلا عن الديباج المذهب.

________________________________________

(60)

الحنفي (1).

    8 ـ إكمال السنة في نقض منهاج السنة ، للسيد مهدي بن صالح الموسوي القزويني الكاظمي ( ت 1358 هـ ) (2).

    9 ـ الإنصاف والإنتصاف لأهل الحق من الإسراف ، في الرد على ابن تيمية الحنبلي الحراني ، فرغ منه مؤلفه سنة ( 757 هـ ) ، توجد نسخة منه في المكتبة الرضوية ـ مشهد ـ رقم 5643.

    10 ـ البراهين الجلية في ضلال ابن تيمية ، للسيد حسن الصدر الكاظمي ( ت 1354 هـ ) (3).

    11 ـ البراهين الساطعة ، للشيخ سلامة العزامي ( 1379 هـ ) (4).

    12 ـ جلاء العينين في محاكمة الأحمدين ( أحمد بن تيمية وأحمد بن حجر ) ، للشيخ نعمان بن محمود الألوسي (5) .

    13 ـ الدرة المضيّة في الرد على ابن تيمية ، لمحمد بن حميد الدين الحنفي الدمشقي كمال الدين المعروف بابن الزملكاني (6).

    14 ـ الرد على ابن تيمية في الاعتقاد ، لمحمد بن حميد الدين الحنفي الدمشقي (7).

 

الفتيا الّتي اصدرها الشاميّون في حق ابن تيمية

    وفي الختام نثبت في المقام صورة الفتيا الّتي أصدرها الشاميون ونقلها

________________________________________

1 ـ معجم المؤلفين : ج 1 ص 140.

2 ـ الذريعة ج 10 ص 176.

3 ـ الذريعة ج 3 ص 79 .

4 ـ ابن مرزوق : كتاب التوسل بالنبي ، ص 253.

5 ـ إيضاح المكنون : ج 1 ص 263 ، معجم المؤلفين ج 13 ص 107.

6 ـ كشف الظنون ج 1 ص 744 ، معجم المؤلفين ج 11 ص 22.

7 ـ معجم المؤلفين ج 8 ص 316.

(61)

الشيخ محمد زاهد الكوثري في تكملة السيف الصقيل ، وإليك ما ذكره :

     « وقد اصدر الشاميون فتياً وكتب عليها البرهان ابن الفركاح الفزاري نحو أربعين سطراً بأشياء ، إلى أن قال بتكفيره ، ووافقه على ذلك الشهاب بن جهبل ، وكتب تحت خطه ، كذلك المالكي ، ثم عرضت الفتيا لقاضي القضاة الشافعية بمصر : البدر بن جماعة ، فكتب على ظاهر الفتوى :

    الحمد للّه ، هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال عن قوله : إن زيارة الأنبياء والصالحين بدعة ، وما ذكره من نحو ذلك ، ومن أنّه لا يرخص بالسفر لزيارة الأنبياء ، باطل مردود عليه ، وقد نقل جماعة من العلماء أنّ زيارة النبي فضيلة وسنة مجمع عليها ، وهذا المفتي المذكور ـ يعني ابن تيمية ـ ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند الأئمة والعلماء ، ويمنع من الفتاوى الغريبة ، ويحبس إذا لم يمتنع من ذلك ، ويشهر أمره ليحتفظ الناس من الاقتداء به.

    وكتبه محمد بن إبراهيم بن سعد اللّه بن جماعة الشافعي.

    وكذلك يقول محمد بن الجريري الأنصاري ، الحنفي : لكن يحبس الآن جزماً مطلقاً ، وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي ، ويبالغ في زجره حسبما تندفع تلك المفسدة وغيرها من الفاسد.

    وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي :

    وهؤلاء الأربعة قضاة المذاهب الأربعة بمصر أيام تلك الفتنة في سنة ( 726 هـ ) (1).

    ولو أردنا أن نستقصي كل ما كتب رداًعلى ابن تيمية ، لخرجنا عمّا هو الهدف ، وكفى في ذلك ما نشر باسم « الوهابية في نظر المسلمين » (2).

    إلى هنا تمّ تبيين الرأي العام في ابن تيمية ، في حياته ومماته ، وقد عرفت

________________________________________

1 ـ راجع تكملة السيف الصيقل ، ص 155 ، ودفع الشبهة لتقي الدين الحصني ص 45 ـ 47.

2 ـ تأليف إحسان عبداللطيف البكري : الطبعة الرابعة ، ومجلة « تراثنا ».

________________________________________

(62)

فما هو الحق ، غير أن تقييم الرجل بنقل آراء الأكابر من العلماء وإن كان له قيمة ـ ولكنّه تقييم تقليدي لهم ـ ومن أراد تقييمه عن اجتهاد وإمعان فيجب أن يستعرض آراءه وأقواله من كتبه ورسائله ، ليعرف ما هو الحق في ذلك المجال ، وعندئذ يصدر القاضي عن اجتهاد وإمعان ، لا عن تقليد واقتداء بالغير ، ولأجل ذلك نخص الفصل الآتي بنقل آرائه في مواضع مختلفة ، ونكتفي ببعضها الّذي أوجد ضجة في الأيام الغابرة ، وقام العلماء في وجهه كصف واحد ، وزجروه وعاتبوه ونفوه وسجنوه ، إلى أن مات في سجن دمشق ، ولا ينافي كل ذلك ما للرجل من فضل وفضيلة في نواح من العلوم الإسلامية ، فإنه لولا تحلّيه بالذكاء والتوقّد ، أو بالعلم بالكتاب والسنة لما اكتسب مقاماً في الأوساط الإسلامية ، ولم يكن لآرائه قيمة ، فالمبدع لا يكون ناجحاً في بدعه وضلاله إلاّ إذا خلط الحق بالباطل ـ وإلاّ ـ فالباطل المطلق لا يكون له نجاح ونفوذ ، ولنعم ما قال أميرالمؤمنين علىّ ( عليه السَّلام ) :

     « إنّما بدءُ وقوع الفتن أهواء تتبع ، وأحكام تبتدع ، يخالف فيها كتاب اللّه ، ويتولى عليها رجال رجالا ، على غير دين اللّه. فلو أنّ الباطل خلص من مزاج الحق ، لم يخف على المرتادين ، ولو أنّ الحق خلص من لبس الباطل ، انقطعت عنه السنُ المعاندين ، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان ، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه ، وينجو الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى » (1).

________________________________________

1 ـ نهج البلاغة الخطبة 49.

________________________________________

(63)

الإتهام بالشرك والبدعة

    إنّ أكثر شيء تداولا وأرخصه في كتب الوهابيين ودعاياتهم هو اتّهام المسلمين بالشرك والبدعة ، وكأنهم لا يجدون في كنانتهم شيئاً يرمون به المسلمين سوى هاتين الفريتين.

    ترى أنّهم يتّهمون جميع المسلمين من عرب وعجم وسنة وشيعة بالشرك في العبادة ، وأنه ليس تحت السماء وفوق أديم الأرض أُمة موحّدة سوى محمد بن عبدالوهاب وأتباعه.

    كما أنهم بدل تكريم المسلمين عند اللقاء ، وتهنئتهم بالتسليم ونشر العطور ونثر الازاهير عليهم ، يتهمونهم بالابتداع ، ويسمونهم بالمبتدعة.

    ولأجل ذلك يجب على كل محقق وناقد لمزاعم الوهابيين الموروثة من ابن تيمية القيام بأمرين مهمين وهما :

    1 ـ تحديد العبادة تحديداً منطقياً بحيث يكون جامعاً ومانعاً.

    2 ـ تحديد البدعة تحديداً دقيقاً مثل الشرك في العبادة.

    ثم القيام بتطبيق ما أوقفه عليه البحث والتنقيب على ما يصفونه بالشرك والبدعة ، حتّى يتبيّن أنّ التطبيق صحيح أولا؟ فها نقدّم إليك أيّها القارىء الكريم بحثاً ضافياً حول هذين الموضوعين المهمين ، حتّى يتّضح الحقّ بأجلى مظاهره ، وتقف على أنّ أكثر من يصفونه بالشرك والبدعة خيال وضلال وجهل بحقيقتهما.

 

________________________________________

(64)

________________________________________

(65)

ابن تيمية

    وملاكات التوحيد والشرك في العبادة

    إنّ المفتاح الوحيد لردّ شُبَهِ الوهابيين هو تحديد العبادة وتمييزها عن غيرها ، فما لم يتحدّد مفهموم العبادة بشكل منطقي حتّى تتميز في ضوئه العبادة من غيرها ، لم يكن البحث والنقاش ناجحاً ، ولأجل ذلك نخصّص هذا الفصل لتعريف العبادة ، و نبيّن ما ذكر حولها من التعاريف.

    إنّ للتوحيد مراتب بيّنها علماء الإسلام في الكتب الكلامية والتفسيرية ، ونحن نشير إلى هذه المراتب على وجه الإجمال ، ونركزٌ على التوحيد في العبادة :

     الأُولى : التوحيد في الذات ، أو التوحيد الذاتي ، والمراد منه هو : أنه سبحانه واحد لا نظير له ، فرد لا مثيل له. قال سبحانه : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) (1).

    الثانية : التوحيد في الخالقية ، والمراد منه هو : أنّه ليس في صفحة الوجود خالق أصيل غير اللّه ، ولا مؤثر مستقل سواه ، وأنّ تأثير سائر الأسباب الطبيعية وغيرها بأمره وإذنه وإرادته سبحانه. قال سبحانه : ( قُلَ اللّهُ خالِقُ كُلّ شَيء وَ هُوَ الوَاحِدُ القَهّارُ ) (2).

    الثالثة : التوحيد في الربوبية والتدبير ، والمراد منه أن للكون مدبّراً واحداً

________________________________________

1 ـ سورة الإخلاص : الآية 1.

2 ـ سورة الرعد : الآية 16.

________________________________________

(66)

ومتصرّفاً فرداً لا يشاركه في التدبير شيء آخر ، وأنّ تدبير الملائكة وسائر الأسباب بأمره وإذنه ، فلم يفوّض أمر التدبير إلى الأجرام السماوية والملائكة والجن. قال سبحانه : ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرش يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيع إلاّ مِنْ بَعْدِ إِذنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أفَلاَ تَذَكَّرُونَ ) (1).

    والمراد من الشفيع هو العلل الطولية ، وسُمّي بالشفيع لأنّ تأثيره متوقف إلى ضمّ إذنه سبحانه إليه ، والشفع هو الضم ، سمي السبب شفيعاً لأنه يؤثر بانضمام إذنه تعالى.

    وإذ انتهى إليه كل تدبير من دون الاستعانة بمعين ، أو الاعتضاد بأعضاد ، لم يكن لشيء من الأشياء أن يتوسط في تدبير أمر من الأُمور ـ وهو الشفاعة ـ إلاّ من عبد إذنه تعالى ، فهو سبحانه السبب الأصلي الّذي لا سبب بالأصالة دونه ، وأمّا الأسباب فإنها أسباب بتسبيبه ، وشفعاء من بعد إذنه (2).

     الرابعة : التوحيد في التشريع والتقنين ، والمراد منه حصر الحاكمية التشريعية في اللّه فليس لأحد أن يأمر وينهى ويحرم ويحلل إلاّ اللّه سبحانه. قال تعالى : ( إنِ الحُكْمُ إلاّ للّهِ أمَرَ ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاه ) (3).

    الخامسة : التوحيد في الطاعة ، والمراد منه هو : أنه ليس هناك من تجب طاعته بالذات إلاّ اللّه تعالى ، فهو وحده الّذي يجب أن يطاع ، ولو وجبت طاعة النبي فإنما هو بإذنه. قال سبحانه ( فاتّقوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُم واسْمَعُوا و أطَيعُوا ) (4).

    السادسة : التوحيد في الحاكمية ، والمراد منه هو : أن جميع الناس سواسية ، فلا ولاية لأحد على أحد بالذات ، بل الولاية للّه المالك الخالق ، فمن مارس الحكم في الحياة يجب أن يكون بإذنه ، قال سبحانه : ( إنِ الحُكمُ

________________________________________

1 ـ سورة يونس : الآية 3.

2 ـ الميزان ج 10 ، ص 76.

3 ـ سورة يوسف : الآية 40.

4 ـ سورة التغابن : الآية 16.

________________________________________

(67)

إلاّ للّهَ يَقُصُّ الحَقّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصلينَ ) (1).

    السابعة : التوحيد في الشفاعة والمغفرة ، والمراد منه هو : أن كلا من الشفاعة والمغفرة حق مختص به فلا يغفر الذنوب إلاّ هو ، ولا يشفع أحد إلاّ بإذنه. قال سبحانه : ( وَ مَن يَغْفرُ الذُّنوبَ إلاّ اللّه ) (2).

    وقال سبحانه : ( مَنْ ذا الّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإذنِهِ ) (3).

     الثامن : التوحيد في العبادة ، وحصرها في اللّه سبحانه ، فلا معبود إلاّ هو ، لا يشاركه فيها شيء ، وهذا الأصل مما اتفق عليه الموحدون ، فلا تجد موحداً يجوّز عبادة غير اللّه. إنّما الكلام في المصاديق والجزئيات ، وأن هذا العمل مثلا ( الاستغاثة بالأولياء وطلب الدعاء منهم والتوسل بهم ) هل هو عبادة لهم حتّى يحكم على المرتكب بالشرك ، لأنّه عبد غيراللّه ، أوْ لا؟ وهذا هو البحث الّذي عقدنا هذا الفصل لبيانه ، وما تقدم ذكره من أقسام التوحيد كان استطراداً في الكلام (4).

    جاءت لفظة العبادة في المعاجم بمعنى الخضوع و التذلل. قال ابن منظور : أصل العبودية : الخضوع والتذلل ، وقال الراغب : العبودية إظهار

________________________________________

1 ـ سورة الأنعام : الآية 57.

2 ـ سورة ال عمران : الآية 135.

3 ـ سورة البقرة : الآية 255.

4 ـ إنّ الوهابية تعترف بنوعين من التوحيد وهما التوحيد الربوبي والتوحيد الالوهي ، ويفسرون الأول بالتوحيد في الخالقية ، والثاني بالتوحيد في العبادة ، وكلا الاصطلاحين خطأ.

    أمّا الأول فالمراد من الربوبية هو تدبير المربوب وإدارته ، وأن وظيفة الرب الّذي هو بمعنى الصاحب ، إدرة مربوبه ، كرب الدابة والدار والبستان بالنسبة إليها. فالتوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية ، وإن كان ربما تنتهي الربوبية إلى الخالقية.

    و أمّا الثاني ، أعني التوحيد في الالوهية فهو مبنىّ على أن الإله بمعنى المعبود ، ولكنه خطأ ، بل هو ولفظ الجلالة بمعنى واحد ، غير أن الأول كلّيّ والثاني علم لواحد من مصاديق ذلك الكلّي.

    ومن أراد التفصيل فليرجع إلى مفاهيم القرآن ، الجزء الأول ص 432. وعلى ضوء هذا كلما أطلقنا لفظ الإله أو الالوهية فلا نريد منه إلاّ هذا ، لا المعبود.

________________________________________

(68)

التذلل ، والعبادة أبلغ منها ، ولكن هذه التعاريف وأمثالها كتفسيرها بالطاعة كما في القاموس ، كلها تفسير بالمعنى الأعم ، فليس التذلل وإظهار الخضوع والطاعة نفس العبادة ، وإلاّ يلزم الالتزام بأُمور لا يصحّ لمسلم أن يلزم بها :

    1 ـ يلزم أن يكون خضوع الولد أمام الوالد ، والتلميذ أمام الأُستاذ ، والجندي أمام القائد ، عبادةً لهم.

    قال تعالى : ( وَاخْفِض لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرحْمَةِ ) (1).

    2 ـ يلزم أن يكون سجود الملائكة لآدم ، الّذي هو من أعلى مظاهر الخضوع ، عبادةً لآدم. قال سبحانه : ( وَ إذ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ ... ) (2).

    3 ـ يلزم أن يكون سجود يعقوب وزوجته وأبنائه ليوسف عبادة له. قال سبحانه : ( وَ رَفَعَ أبَوَيْهِ عَلَى العَرشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يَا أبَتِ هَذَا تَأوِيلُ رُؤْياىَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّي حَقاً ) (3).

    4 ـ يلزم أن يكون تذلل المؤمن عبادة له ، مع أنه من صفاته الحميدة ، قال تعالى : ( فَسَوفَ يَأتِي اللّه بَقَوْم يُحبّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، أذِلَّة عَلَى المُؤمِنينَ أعَزّة عَلَى الكَافِرينَ ) (4).

    كل ذلك يدفع بنا إلى القول بأنّ تفسير العبادة بالتذلل والتخضع أو إظهارهما ، وبالطاعة وما يشابه ذلك تفسير بالمعنى الأعم ، ولا يكون الخضوع ضعيفهُ وشديدهُ عبادةً إلاّ إذا دخل فيه عنصر قلبي خاص يميزه عن مماثلاته ومشابهاته ، وهذا العنصر عبارة عن أحد الأمور التالية :

    1 ـ الاعتقاد بألوهية المعبود.

________________________________________

1 ـ سورة الإسراء : الآية 24.

2 ـ سورة البقرة : الآية : 34.

3 ـ سورة يوسف : الآية 100.

4 ـ سورة المائدة : الآية 54.

________________________________________

(69)

    2 ـ الاعتقاد بربوبيته.

    3 ـ الاعتقاد باستقلاله في الفعل من دون أن يستعين بمعين أو يعتمد على معاضد.

    إنّ هذه العبارات الثلاثة تهدف إلى أمر واحد ، وهو أنّ مقوّم العبادة ليس هو ظواهر الأفعال وصورها ، بل مقومها هو باطن الأعمال ومناشئها ، والخضوع الّذي ينبعث عن اعتقاد خاص في حق المعبود ، وهو :

    إمّا عبارة عن الاعتقاد بألوهية المعبود ، سواء أكانت ألوهية حقيقية أم الوهية كاذبة مدّعاة ، فاللّه سبحانه إله العالم وهو الإله الحقيقي الّذي اعترف به كل موحد على وجه الأرض ، كما أنّ الأوثان والأصنام آلهة مدّعاة اعتقد بألوهيتها عبدتها والعاكفون عليها ، فاللّه سبحانه عند المشركين كان إلهاً كبيراً وهؤلاء آلهة صغيرة ، وزّعت شؤون الإله الكبير عليهم.

    أو عبارة عن الاعتقاد بربوبية المعبود ، وأنّه المدبّر والمدير بنفسه.

    أو عبارة عن الاعتقاد باستقلال الفاعل في فعله وإيجاده ، سواء أكان مستقلا في وجوده وذاته كما هو شأن الإله الكبير عند المشركين ، أم غير مستقل في ذاته ومخلوقاً للّه سبحانه ، ولكنه يملك شؤونه سبحانه من المغفرة والشفاعة ، أو التدبير والرزق أو الخلق ، إلى غير ذلك مما هو من شؤونه سبحانه ، والمراد من تملّكه بعض هذه الشؤون أو كلها ، هو استقلاله في ذلك المجال ، فكأنه سبحانه فوضها إليه وتقاعد هو عن العمل.

    هذه هي الملاكات الّتي تضفي على كل خضوع خفيف أو شديد ، لون العبادة وتميزه عن أي تكريم وتعظيم للغير. وفي الآيات القرآنية إلماعات إلى هذه القيود الّتي ترجع حقيقتها إلى أُمور ثلاثة :

    أمّا الأول : فإليك بعض الآيات : قال سبحانه : ( أمْ لَهُم إلهٌ غَيْرُ اللّه ، سُبْحانَ اللّه عمّا يُشرِكُونَ ) (1) فقد جعل في هذه الآية اعتقادهم بألوهية

________________________________________

1 ـ سورة الطور : الآية 43.

________________________________________

(70)

غير اللّه هو الملاك للشرك. يقول سبحانه : ( إنّهم كانُوا إذا قيلَ لَهُم لا إله إلاّ اللّه يستَكبرون ) (1) أي إنّهم يرفضون هذا الكلام لأنّهم يعتقدون بألوهية معبوداتهم ، ويعبدونها بما أنّها آلهة حسب تصورهم ، ولأجل تلك العقيدة السخيفة ، قال تعالى : ( إذا دُعيَ اللّه وَحْدَهُ كَفَرْتُم وَإنْ يُشْرَك بِهَ تُؤمِنُوا فالحُكْمُ للّهَ العلىّ الكَبير ) (2).

    وقال سبحانه : ( وَإذا ذُكِرَ اللّهُ وَحْدَهُ اشْمأزَّتْ قُلُوبُ الَّذينَ لا يُؤْمِنُونِ بالآخِرَةِ وَ إذا ذُكِرَ الّذينَ مِنْ دُونِهِ إذا هُمْ يَسْتَبشِرُونَ ) (3).

    والآيات في هذا المجال وافرة جداً لا حاجة لنقلها ، ومن تدبّر في هذه الآيات يرى أن التنديد بالمشركين لأجل اعتقادهم بألوهية أصنامهم وأوثانهم. قال سبحانه : ( الذينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (4).

    وأما الثاني : أي كون الاعتقاد بالربوبية مؤثراً في إضفاء طابع العبادة على الخضوع ، فيكفي قوله سبحانه : ( يا أيُّها الناس اعْبُدُوا ربَّكُمُ الّذي خَلَقَكُم والَّذينَ مِنْ قَبْلِكُم ) (5).

    وقال تعالى : ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكم لا إلهَ إلاّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شيء فَاعْبُدُوه ) (6).

    فتعليل لزوم العبادة بكونه سبحانه « ربكم » في الآية الأُولى أو « ربكم وخالق كلّ شيء » في الآية الثانية ، يعرب عن أن الدافع إلى العبادة هو ذلك الاعتقاد ، وبالتالي ينتج أنه لا يتصف الخضوع بصفة العبادة إلاّ إذا اعتقد الإنسان أن المخضوع له خالق ورب أو ما يقاربه ، ولأجل ذلك نرى أنه سبحانه

________________________________________

1 ـ سورة الصافات : الآية 35.

2 ـ سورة غافر : الآية 12.

3 ـ سورة الزمر : الآية 45.

4 ـ سورة الحجر : الآية 96.

5 ـ سورة البقرة : الآية 21.

6 ـ سورة الأنعام : الآية 102.

(71)

ينفي صلاحية من في السماوات والأرض لأن يكون معبوداً لأجل أنهم عباد الرَّحمن ، قال : ( إن كُلّ مَنْ في السّمواتِ والأرْضِ إلاّ آتي الرّحمنِ عَبْداً ) (1) ، فليسوا أرباباً ليدبّروا أُمورهم ، ولا خالقين ليخلقوهم.

    نعم ، الاعتقاد بالربوبية ينحل إلى الاعتقاد بأنه يملك شؤون العابد ، إمّا في جميع الجهات كما هو الحال في إله العالم عندن الموحدين ، أو بعض الشؤون كالشفاعة والمغفرة ، أو قضاء الحوائج ورفع النوازل ، كما هو الحال في الآلهة الكاذبة عند المشركين ، ولأجل ذلك نرى أنه سبحانه ينفي عن معبوداتهم كونهم مالكين لكشف الضر. قال : ( لاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِم نَفْعاً وَ لا ضرّاً ) (2) ، وقال تعالى : ( لا يَمْلِكُونَ كَشْف الضُّرّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْويلا ) (3) وقال : ( لا يَمْلُكون عَنِ الشّفاعة إلاّ مَنِ اتّخَذَ عِنْدَ الرّحْمنِ عَهْداً ) (4).

    وقال : ( إنّ الذينَ تَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُم رِزْقاً ) (5) إلى غير ذلك من الآيات الّتي بتاتاً ، تملّك معبوداتهم المدعاة شيئاً من شؤونه سبحانه.

    وهذا يعرب عن أنّ وجه اتّصاف خضوعهم بالعبادة ودعائهم لها ، هو اعتقادهم بأنهم أرباب يملكون ما ينفع في حياتهم عاجلا أو آجلا ، ويؤيد ذلك ما كانوا يرددون في ألسنتهم حين الطواف والسعي ويقولون : لبّيك اللّهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك ، تملكه وما ملك.

     وأما الثالث : وهو الاعتقاد بكون المخضوع له مستقلا إمّا في ذاته وفعله ، أو في فعله فقط ، الإلماع إليه في غير موضع من كتاب اللّه العزيز ، وهو توصيفه سبحانه بالقيوم ، قال سبحانه : ( اللّه لا إله إلاّ هُوَ الحَيُّ

________________________________________

1 ـ سورة مريم : الآية 93.

2 ـ سورة الرعد : الآية 16.

3 ـ سورة الإسراء : الآية 56.

4 ـ سورة مريم : الآية 87.

5 ـ سورة العنكبوت : الآية 17.

________________________________________

(72)

القَيُّومُ ) (1) وقال : ( وَعَنَتِ الوُجوهُ للحيِّ القَيُّومِ ) (2) والمراد منه هو الموجود القائم بنفسه ، ليس فيه شائبة من الفقر والحاجة ، وأنّ كل ما سواه قائم به ، ومن المعلوم أن القائم بنفسه والغني في ذاته ، غني في فعله عن غيره ، فلو استغثنا بأحد باعتقاد أنه يملك كشف الضر عنّا فقد طلبنا فعل اللّه سبحانه من غيره ، لأنه تعالى وحده الّذي يملك كشف الضر لا غيره ، والغني في الفعل هو اللّه سبحانه ، فلو أقمنا موجوداً آخر مكان اللّه سبحانه في مجال الإيجاد ، وزعمنا أنه يخلق ويرزق ويدبّر الأُمور ، أو أنه يغفر الذنوب ويقضي الحاجات من عند نفسه ، أو بتفويض من اللّه سبحانه واعتزاله عن الساحة ، فقد وصفناه بالربوبية أولا ( التعريف الثاني ) ولو زعمنا أنه قائم بنفس الفعل الّذي يقوم به سبحانه ثانياً فكأننا أعطينا غيره صفة من صفاته سبحانه ، وهي القيومية ولو في مجال الإيجاد ( التعريف الثالث ) .

    هذا وللتفويض شؤون واسعة :

    منها تفويض اللّه تدبير العالم إلى خيار عباده من الملائكة والأنبياء والأولياء ، ويسمى بالتفويض التكويني.

    ومنها تفويض الشؤون الإلهية إلى عباده كالتقنين والتشريع والمغفرة والشفاعة ويسمى بالتفويض التشريعي.

    وهذا هو الذكر الحكيم يصف أهل الكتاب بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه يقول : ( اتّخَذوا أحْبَارَهُم وَ رُهْبانَهُم أرباباً مَنْ دُون اللّه والمَسيحَ ابنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِروا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلهاً واحِداً لا إله هُوَ سُبْحانَهُ عمّا يُشرِكُون ) (3).

    إنّ أهل الكتاب لم يعبدوهم من طريق الصلاة والصوم لها ، وإنما

________________________________________

1 ـ سورة البقرة : الآية 255.

2 ـ سورة طه : الآية 111.

3 ـ سورة التوبة : الآية 31.

________________________________________

(73)

أشركوهم في تفويض أمر التشريع والتقنين إليهم ، وزعموا أنهم يملكون شأناً من شؤونه سبحانه.

    قال الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) : « واللّه ما صَامُوا لَهُم ، وَ لاَ صَلُّوا لَهُم ، وَلَكِن أحَلُّوا حَرَماً وَ حَرّموا عَلَيْهِم حَلاَلا فاتّبعوهم » (1).

    روى الثعلبي في تفسيره : عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول اللّه وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال لي : « يا عدي ، اطرح هذا الربق من عنقك » قال : فطرحته ، ثم انتهيت إليه وهو يقرأ هذه الآية : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ) حتّى فرغ منها ، فقلت : إنّا لسنا نعبدهم ، فقال : أليس يحرّمون ما أحلّه اللّه ، فتحرّمونه ، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه؟ قال : فقلت : بلى. قال : فتلك عبادة (2).

    وفي ضوء هذا البحث الضافي تستطيع أن تميّز العبادة عن غيرها ، والتعبّد عن التكريم ، والخضوع العبادي عن التعظيم العرفي وتقف على أنّ سجود الملائكة لآدم ، ويعقوب وزوجته وأبنائه ليوسف ، لم تكن عبادة قط ، وما هذا إلاّ لأن خضوعهم لم يكن نابعاً عن الاعتقاد بألوهيتهما أو ربوبيتهما ، أو أنهما يملكان شؤون اللّه سبحانه ، كلها أو بعضها ، ويقومان بحاجة المستنجد بنفسهما وذاتهما.

    ومما يؤيد أنّ خضوع المشركين أمام أوثانهم وأصنامهم كان ممزوجاً بالاعتقاد بكونهم آلهة صغيرة ، أو أرباباً ، وموجودات تملك شؤون الرب أو بعضها ، أنهم كانوا يصفونها بأنها أنداد للّه سبحانه. قال سبحانه : ( وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونَ اللّه أنْداداً يُحِبُّونَهُم كَحُبّ اللّه ) (3) ولما زعموا أن معبوداتهم المصطنعة ، تستجيب دعاءهم وتشفع لهم مثله ، عادوا يحبّونها كحب اللّه ، ويذكر في آية أُخرى أنّ المشركين كانوا يسوّون آلهتهم بربّ العالمين.

________________________________________

1 ـ الكافي ج 1 ص 53 .

2 ـ مجمع البيان ج 3 ص 23 والبرهان في تفسير القرآن ج 2 ص 120.

3 ـ سورة البقرة : الآية 165.

________________________________________

(74)

قال سبحانه : ( تاللّه إنْ كُنّا لَفِي ضَلال مُبين * إذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العَالمين ) (1).

    والمراد هو التسوية في شؤونه سبحانه جميعها أوبعضها ، وأمّا التسوية في العبادة فكانت من شؤون ذلك الاعتقاد ، فإنّ العبادة خضوع من الإنسان للمعبود ، فلا تتحقق إلاّ أن يكون هناك إحساس من صميم ذاته بأن للمعبود سيطرة غيبية عليه ، يملك شؤونه في حياته ، وكان المشركون في ظل هذه العقيدة يسوّون أوثانهم برب العالمين. وبالتالي يعبدونهم. وليس المراد من التسوية هو التسوية في خصوص توجيه العبادة ، إذ لم يعهد من المشركين المتواجدين في عصر الرسول توجيه العبادة إلى اللّه ، ويؤيد ذلك : أنّ الوثنية دخلت مكة ونواحيها أول ما دخلت بصورة الشرك في الربوبية ، وفي ذلك يكتب ابن هشام :

    كان عمرو بن لحي أول من أدخل الوثنية إلى مكة ونواحيها ، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثان ، وعندما سألهم عما يفعلون بقوله : « ما هذه الأصنام الّتي أراكم تعبدونها؟ » قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم : أفلا تعطونني منه فأسير به إلى أرض العرب فيعبدون؟!.

    ثم إنّه استصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم ( هبل ) ، ووضعه على سطح الكعبة المشرفة ودعا الناس إلى عبادتها (2) ، فطلب المطر من هذه الأوثان يكشف عن اعتقادهم بأن لهذه الأوثان دخلا في تدبير شؤون الكون وحياة الإنسان.

 

الوهابيون وملاكات التوحيد و الشرك

    ثم إنّ الوهابيين لما لم يضعوا للعبادة حدّاً منطقياً تتميّز به عن غيرها ،

________________________________________

1 ـ سورة الشعراء : الآية 97 ـ 98.

2 ـ سيرة ابن هشام ج 1 ص 79.

________________________________________

(75)

عمدوا إلى وضع ملاكات للعبادة ، عجيبة جداً ، وهي مبثوثة في كتبهم وثنايا دعاياتهم وهي :

    1 ـ الاعتقاد بالسلطة الغيبية.

    2 ـ الاعتقاد بأن المدعو يقضي حاجته بسبب غير عادي.

    3 ـ طلب الحاجة من الميت.

    4 ـ طلب الحاجة مع كون المطلوب منه عاجزاً.

    إلى غير ذلك من المعايير الّتي لا تمت إلى التوحيد والشرك بصلة أبداً ولكون هذه الملاكات تدور على ألسنتهم و تتكرر في كتبهم ، نركّز على هذه المعايير وأشباهها لنخرج بنتيجة قطعية ، وهي أنّ الملاك في تمييز التوحيد عن الشرك أمر واحد وهو الاعتقاد بالألوهية والربوبية ، أو كون الفاعل مستقلا ومفوضاً إليه الأمر ، وأمّا هذه المعايير فكلها معايير عرضية ، بل لا تمت إلى مسألة العبادة بصلة أصلا ، بل كل منها يوصف بالتوحيد على وجه ، وبالشرك على آخر ، وإليك البيان :

 

1 ـ هل الاعتقاد بالسلطة الغيبية معيار للشرك ؟

     « إنّ هناك من يتصور أن الاعتقاد بالسلطة الغيبية في المدعو يلازم الاعتقاد بكونه إلهاً. يقول الكاتب المودودي : « إنّ التصوّر الّذي لأجله يدعو الإنسان الإله ويستغيثه ويتضرّع إليه هو ـ لا جرم ـ تصور كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على الطبيعة ، وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة » (1) وهذا الكلام صريح في أنّه جعل الاعتقاد بهذه السلطة ملازماً للاعتقاد بالألوهية ، وعلى ضوء ذلك فكل من اعتقد في واحد من الصالحين بأنّ له تلك السلطة فهو معتقد بألوهيته ، فيصبح دعاؤه عبادة ، والداعي عابداً له.

    وهو مردود من وجهين :

________________________________________

1 ـ المصلطحات الأربعة ص 17.

________________________________________

(76)

أولا : إنّ التصور الّذي لأجله يدعو الإنسان الإله ، لا ينحصر في تصوّر كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة ، بل يكفي الاعتقاد بكونه مالكاً للشفاعة والمغفرة ، كما كان عليه فريق من عرب الجاهلية ، إذ كانوا يعتقدون في شأن أصنامهم بأنّها آلهتهم لأنّها تملك الشفاعة والمغفرة ، وهو غير القول بوجود السلطة على عالم التكوين ، وبذلك يظهر الضعف في كلام آخر له ، حيث يقول :

     « إنّ كلا من السلطة والألوهية تستلزم الأُخرى » (1).

    والحال أنّ الإعتقاد بالألوهية أعمّ من الاعتقاد بالسلطة ، فلو افترضنا أن الاعتقاد بالسلطة يستلزم الألوهية ، ولكن الاعتقاد بالألوهية لا يستلزم الاعتقاد بالسلطة ، بل يكفي أن يعتقد أنّ المدعو يملك مقام الشفاعة والمغفرة ، أو شأناً من شؤونه سبحانه.

    وثانياً : إنّ الاعتقاد بالسلطة إنّما يستلزم الاعتقاد بالألوهية إذا كان ينطوي على الاعتقاد بأنّه فوّضت إليه تلك السلطة تفويضاً ، بحيث يقوم بأعمالها باختياره من دون استئذان من اللّه سبحانه واعتماد عليه ، وعلى ضوء ذلك لا يكون الاعتقاد بها ـ إذا كان إعمال تلك السلطة بإذن اللّه ـ ملازماً للاعتقاد بالألوهية ، وإلاّ وجب أن لا نسجّل أحداً من المسلمين المعتقدين بالقرآن في ديوان الموحدين ، فإنّه يثبت ليوسف وموسى وسليمان والمسيح ، بل لأناس آخرين ليسوا بأنبياء سلطة غيبية. هذا قوله سبحانه في قصة سليمان : ( قال يَا أيُّها المَلأ أيُّكُم يَأتِيني بِعَرْشِها قَبْلَ أن يَأتُوني مُسلِمينَ * قال عِفْريتٌ مِنَ الجنّ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أن تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنّي عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أمينُ * قَالَ الّذي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْك طَرْفُكَ فَلَمّا رَآه مُستَقرّاً عَندَهُ قَالَ هَذَا مَنْ فَضلَ رَبّي لِيَبْلُوني أأشْكُرُ أم أكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإنَّ رَبَّي غَنِىٌّ كَرِيمٌ ) (2).

________________________________________

1 ـ المصلطحات الأربعة ص 30.

2 ـ سورة النمل : الآية 38 ـ 40.

________________________________________

(77)

    ولا يرتاب أحد في أنّ سليمان سأل ما سأل بعد اعتقاده بكونهم أصحاب السلطة الغيبية ، أفيصح للمودودي أن يرمي ذلك النبي العظيم بما لا يليق بساحته ، بل لا يحتمل في حقه؟.

    إنّ الذكر الحكيم يثبت ـ لسليمان ـ نفسه سلطة غيبية ، وأنّه كان له سلطة على الجن والطير حتّى أصبحا من جنوده ، كما يقول : ( وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنودُهُ مِنَ الجِنّ وَ الإنسِ وَ الطّيرِ ... ) (1).

    وكانت له السلطة على عالم الحيوانات حتّى أنّه كان يخاطبهم ويطلب منهم تنفيذ أوامره ، كما يقول : ( وَ تَفَقَّدَ الطّيرَ فَقالَ مَاليَ لا أرَى الهُدْهُدَ أم كَانَ مِنَ الغَائَبينَ * لاُعذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَديداً أو لأَذْبَحَنَّهُ أوْ لَيَأتِيَنىّ بِسُلطان مُبين ) (2) ، وكانت له السلطة على الجن ، فكانوا يعملون بأمره وإرادته ، كما يقول :

     ( وَ مِنَ الجنّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بَإذْنِ رَبَّهِ ... يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ ... ) (3) ، وكانت له السلطة على الريح أيما تسليط كما يقول : ( وَ لِسُلَيَْمانَ الرّيحَ عاصَفَةً تَجْرِيَ بأَمْرِهِ ) (4).

    وعلى أىّ تقدير فايّة سلطة أعظم وأوضح من هذه السلطة الّتي كانت لسليمان؟ والجدير بالذكر أنّ بعض الآيات صرحت بأنّ كل هذه الأُمور غير العادية كانت تتحقق بأمره.

    هذا ما ذكره القرآن في حق سليمان ، وقد ذكر نظيره في حق غير واحد من الأنبياء ، لاحظ الآيات (5) فكيف يكون الاعتقاد بالسلطة الغيبية المهيمنة على الطبيعة على وجه الإطلاق ملازماً للاعتقاد بالألوهية ؟

________________________________________

1 ـ سورة النمل : الآية 17.

2 ـ سورة النمل : الآية 20 ـ 21.

3 ـ سورة سبأ : الآية 12 ـ 13.

4 ـ سورة الأنبياء : الآية 81.

5 ـ سورة يوسف : الآية 93 ـ 96 ، سورة الشعراء : الآية 63 ، سورة البقرة : الآية 60 ( في حق موسى ) ، سورة آل عمران : الآية 49 ( في حق المسيح ) ، سورة المائدة : الآية 110 ( في حقه أيضاً ) .

________________________________________

(78)

2 ـ هل طلب قضاء الحاجة بأسباب غير طبيعية معيار للشرك ؟

    يرى المودودي ان التوسل بالأسباب الطبيعية ليس بشرك ، أمّا طلب الحاجة وإنجازها بأسباب غيرها فهو يلازم الشرك. يقول : فالمرء إذا كان أصابه العطش فدعا خادمه وأمره بإحضار الماء ، لا يطلق عليه حكم الدعاء ، ولا أن الرجل اتخذ إلهاً ، وذلك أنّ كل ما فعله الرجل جار على قانون العلل والأسباب ، ولكن إذا استغاث بولىّ في هذا الحال فلا شك أنّه دعاه لتفريج الكربة واتّخذه إلهاً ، فكأنّي به يراه سميعاً بصيراً ، ويزعم أنّ له نوعاً من السلطة على عالم الأسباب مما يجعله قادراً على أن يقوم بإبلاغه الماء ، أو شفائه من المرض (1).

    أقول : إنّ ما ذكره صورة أُخرى للمعيار الأول ، وكلاهما وجهان لعملة واحدة ، فإنّ طلب التوسل بالأسباب غير الطبيعية لا ينفك عن الاعتقاد بكونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعة.

    يلاحظ عليه : أنّ المودودي تصوّر أنّ طلب التوسل بالأسباب الطبيعية ليس بشرك ، وإنّما الشرك هو طلب التوسل بغيرها. والحال أنّ كلا منهما على وجهين : فلو تصوّر أنّ القائم بعمل على وفق الأُصول الطبيعية ، إنّما يقوم به عند نفسه وباقتدار مستقل من دون اعتماد على اقداره سبحانه واستئذان منه ، فقد اعتقد بألوهيته وطلب فعل الإله من غيره ، وأمّا إذا اعتقد أنّ الخادم يحضر الماء بقدرة مكتسبة واستئذان منه فهو نفس التوحيد. ومثله الكلام في الأسباب غير الطبيعية ، فلا شك أنّ أُمة المسيح كانوا يعتقدون في حقه ـ بعدما رأوا الآيات والمعجزات منه ـ أنّ له سلطة غيبية ، وكانوا يسألونه إبراء مرضاهم وإحياء موتاهم ، أفهل يتصوّر أنّ سؤالهم هذا كان شركاً؟ وأنّ المسيح كان مجيباً لدعوتهم الشركية؟! فمن ذا الّذي يسمع قول المسيح بين بني إسرائيل : ( أنّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطّينِ كَهَيئَةِ الطّيرِ فَأنْفُخُ فِيْهِ فَيَكُونُ طَيراً بإذنِ اللّهِ و أُبْرَىءُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ و أُحيِ المَوْتى بِإذنِ اللّهِ وأُنَبِّئُكُم بِما تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي

________________________________________

1 ـ المصطلحات الأربعة ص 30.

________________________________________

(79)

بُيُوتِكُم إنَّ في ذَلِكَ لآيةً لَكُمْ إنْ كُنْتُم مُؤمِنينَ ) (1).

    فَمَنْ ذا الّذي يسمع كلامه هذا ـ ولا يعتقد بسلطته الغيبية؟ ولا يسأله كشف الكرب والملمات بإذنه سبحانه؟ أفيصح للمودودي أن يتّهم أُمة المسيح وفيهم الحواريون الذين أُنزلت عليهم مائدة من السماء ومدحهم سبحانه في الذكر الحيكم (2)بالشرك ؟

    هذا هو الذكر الحكيم ينقل عن السامري قوله : ( بَصُرْتُ بِما لَمْ يِبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أثَرِ الرّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لي نَفْسي ) (3).

    وهو يعطي أنّ السامري توسّل بالتراب المأخوذ من أثر الرسول ، وكان له أثر خاص في إخراج العجل الّذي كان له خوار. فلو اعتقد المسلم ـ تبعاً للقرآن ـ بأنه توسل باسباب غير طبيعية لإضلال قومه ، فهل يصحّ اتهامه بالشرك؟.

    وبالجملة : ليس الاعتقاد بالسلطة الغيبية في مقابل الاعتقاد بالسلطة العادية ، كما وليس التوسل بالأسباب غير العادية في مقابل التوسل بالأسباب العادية ، معيارين للتوحيد والشرك ، بل كل واحد منهما يمكن أن يقع على وجهين ، فعلى وجه يوافق الأُصول التوحيدية ، وعلى آخر يخالفها.

 

3 ـ هل الموت والحياة ملاكان للتوحيد والشرك؟

    يظهر من الوهابيين أنهم يجوّزون استغاثة الأحياء ، وفي الوقت نفسه يرون استغاثة الأموات شركاً. يقول محمد بن عبدالوهاب : وهذا جائز في الدنيا والآخرة أن تأتي رجلا صالحاً تقول له : ادع اللّه لي ، كما كان أصحاب الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) يسألونه في حياته ، وأمّا بعد مماته فحاشا وكلاّ أن يكونوا سألوا ذلك ، بل أنكر السلف على من قصد دعاء اللّه عند قبره ، فكيف بدعاء نفسه (4).

________________________________________

1 ـ سورة آل عمران : الآية 49.

2 ـ سورة المائدة : الآية 115 وسورة الصف : الآية 14.

3 ـ سورة طه : الآية 96.

4 ـ كشف الشبهات ـ طبع مصر ـ ص 70.

________________________________________

(80)

    عجيب جداً أن يكون عمل محدد ومشخّص إذا طلب من الحي ، نفس التوحيد ، وإذ طلب من الميت يكون عين الشرك. إنّ القرآن ينقل عن بعض شيعة موسى ويقول : ( فاسْتَغَاثَهُ الّذي مِنْ شِيَعتِه عَلَى الّذي من عَدوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوْسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (1) فنفس هذه الاستغاثة في حال الحياة ، يتصور على وجهين ، يحكم على أحدهما أنه موافق لأصول التوحيد ، وعلى الآخر بخلافها!!

    إنّ هذه الاستغاثة إنما تكون على وفق التوحيد إذا اعتقد أنّ موسى في حال حياته يقوم بالاغاثة بقدرة مكتسبة وإذن منه سبحانه ، ولو اعتقد بأصالته في إغاثة المستغيث فقد اعتقد بألوهيته ، فإذا كان هذا هو المعيار في الاستغاثة من الحي ، فليكن هذا هو المعيار عند الاستمداد بالأرواح المقدسة العالمة الشاعرة حسب أخبار القرآن ( أو الأموات ) على زعم الوهابيين.

    فلو فرضنا أنّ أحداً من شيعة موسى استغاث به بعد خروج روحه الشريف عن بدنه على نحو الاستغاثة الأُولى ، فهل يتصوّر أنّه أشرك باللّه؟ وأنّه عبد موسى لاعتقاده أنّه يغيث المستغيث حياً وميتاً؟.

    ولو كانت حياة المستغاث ومماته معياراً ، فإنّما يصحّ أن يكون معياراً في الجدوائية وخلافها ، لا في الشرك و التوحيد.

    وبذلك تقف على ضعف كلام تلميذ ابن تيمية حيث يقول : « و من أنواع الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم ، وهذا أصل شرك العالم ، فإنّ الميت قد انقطع عمله ، وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً » (2).

    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من الدليلين لا يثبت مدّعاه ، لأنّ قوله : « فإنّ الميت قد انقطع عمله » على فرض صحته ، يثبت عدم الفائدة في

________________________________________

1 ـ سورة القصص : الآية 15.

2 ـ فتح المجيد ، تأليف حفيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب ص 67 الطبعة السادسة.

(81)

الاستغاثة بالميت ، لا انّه شرك ، وأمّا قوله : « ولا يملك نفسه ضراً ولا نفعاً » فهو جار في الحي والميت ، فليس في صفحة الوجود من يملك لنفسه شيئاً ، فإنما يملك بإذنه وإراته سواء أكان حياً أم ميتاً ، ومع الإذن الإلهي يقدرون على إيصال النفع والضر أحياءً وأمواتاً.

    هذا كلام التلميذ ، فهلمّ ندرس كلام أُستاذه ابن تيمية وهو يقول : كل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعاً من الإلهية وجعل يقول : يا سيدي فلان أنصرني وأغثني ... فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه ، فإن تاب ، وإلاّ قتل (1).

    يلاحظ عليه : أنّ الإستغاثة بالأموات ـ حسب تعبير الوهابيين ، أو الأرواح المقدسة حسب تعبيرنا ـ إذا كانت ملازمة للاعتقاد بنوع من الألوهية ، يلزم أن تكون الاستغاثة بالأحياء ملازمةً لذلك ، لأنّ حياة المستغاث ومماته حدّ لجدوائية الاستغاثة وعدمها ، وليس حداً للتوحيد والشرك ، في حين أنّ الاستغاثة بالحي تعد من أشد الضروريات للحياة الاجتماعية.

    وهناك كلام آخر له هلم معي نستمع إليه يقول :

     « والذين يدعون مع اللّه ألهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنّها تخلق الخلائق ، أو تنزل المطر ، وإنّما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم ، أو يعبدون صورهم; يقولون : ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إى اللّه زلفى ، أو هؤلاء شفعاؤنا » (2).

 

    إنّ قياس استغاثة المسلمين بما يقوم به المسيحيون والوثنيون ، والخلط بينهما ابتعاد عن الموضوعية ، لأنّ المسيحيين يعتقدون بألوهية المسيح ، والوثنيين يعتقدون بتملّك الأوثان مقام الشفاعة والمغفرة ، بل مقام التصرف في الكون كإرسال الأمطار على ما نقله ابن هشام (3) ولأجل هذا الاعتقاد كان طلبهم واستغاثتهم بالمسيح والأوثان عبادة لها.

________________________________________

1 ـ فتح المجيد ص 167 .

2 ـ نفس المصدر .

3 ـ السيرة النبوية ج 1 ص 79.

________________________________________

(82)

    وأمّا استغاثة المسلمين بالأرواح المقدّسة فخالية من هذه الشوائب فعندئذ ، لا يكون شركاً ولا عبادة ، بل استغاثة بعبد لا يقوم بشيء إلاّ بإذنه سبحانه ، فإن أذن أجاب ، وإن لم يأذن سكت ، فما معنى توصيف هذا بالشرك ؟

 

4 ـ هل القدرة والعجز حدان للتوحيد والشرك ؟

    وهناك معيار مزعوم آخر يظهر من كلمات ابن تيمية ، وهو أنّ قدرة المستغاث على تحقيق الحاجة يوجب أن لا يكون الطلب شركاً ولكن عجزه عن قضاء الحاجة يضفي على الطلب لون الشرك ، يقول ابن تيمية : « مَنْ يأتي إلى قبر نبيى أو صالح ويسأل حاجته ويستنجد به ، مثل أن يسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه ، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّوجلّ. فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه ، فإن تاب وإلاّ قتل » (1).

    وليس هذا ملاكاً جديداً بل هو وجه آخر للملاك السابق ، غير أنّه عبّر في السابق بموت المستغاث وحياته ، وهنا بالعجز والقدرة ، يقول الصنعاني :

     « الاستغاثة بالمخلوقين في ما يقدرون عليه مما لا ينكرها أحد ، وإنّما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم ، وطلبهم منهم أُموراً لا يقدر عليها إلاّ اللّه تعالى ، من عافية المرض وغيرها ، وقد قالت أُم سليم : يا رسول اللّه. خادمك أنس ، ادع اللّه له ، وقد كان الصحابة يطلبون الدعاء منه وهو حي ، وهذا أمبر متفق على جوازه ، والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء أن يشفوا مرضاهم ويردوا غائبهم ، ونحو ذلك من المطالب الّتي لا يقدر عليها إلاّ اللّه » (2).

    وعلى أىّ تقدير ، فسواء أكان هذا وجهاً آخر للملاك السابق أم ملاكاً آخر بقرينة عطف الأحياء على الأموات في هذا الكلام ، فليست القدرة والعجز ملاكين للتوحيد والشرك ، وإنّما هما ملاك الجدوائية وعدمها.

________________________________________

1 ـ زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور ، ص 156 ـ والهداية السنية ، ص 40.

2 ـ كشف الإرتياب ص 272 نقلا عن الصنعاني.

________________________________________

(83)

5 ـ طلب فعل اللّه من غيره

    هذا هو الملاك الحقيقي الّذي أو عز إليه الصنعاني ، ويوجد في كلمات ابن تيمية وقد عرفت قوله :

     « مَن يأتي إلى قبر نبي أو صالح ويسأله أن يزيل مرضه ويقضي دينه أو نحو ذلك مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه تعالى » وهذا مما لا إشكال فيه ، غير أنّ الكلام في تمييز فعل اللّه عن فعل غيره ، أمّا الكبرى فمسلمة عند الكل ، فقد اتفق الموحدون على أنّ طلب فعله سبحانه من غيره ، ملازم للاعتقاد بألوهية المسؤول وربوبيته ، فاللازم دراسة الصغرى ، وأنّ فعل اللّه ما هو؟ والتركيز عليه.

    ترى أنّ ابن تيمية قد سلم أنّ شفاء المريض وقضاء الدين على وجه الإطلاق من أفعاله سبحانه ، مع أنّ الحق أن قسماً منهما يعدّ فعلا للّه سبحانه دون قسم آخر.

    إنّ إبراء المريض وقضاء الدين ورد الضالة وغيرها بالسنن الطبيعية أو غيرها على وجه الاستقلال ومن دون استعانة بأحد هو فعل اللّه سبحانه ، فلو طلب نفس ذلك من غيره لا ينفك عن الاعتقاد بالألوهية والربوبية.

    وأمّا لو طلب منه مع الاعتقاد بأنّه مستغاث يقوم بهذه الأُمور عن طريق العلل الطبيعية أو غيرها ، مستمداً من قدرة اللّه وقائماً بإذنه ومشيئته ، فليس هذا فعل اللّه حتّى يكون طلبه من غيره شركاً. لأنّه سبحانه يقوم بالفعل مستقلا وبلا استمداد.

    كيف وقد صرح القرآن بأنّ المسيح « يبرىء الأكمه والأبرص بإذنه » مع أنّ ابن تيمية وأتباعه زعموا أنها من أفعاله سبحانه ، قال سبحانه : ( وَ تُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأبْرَص بِإذني وَ إذْ تُخْرِجُ المَوْتى بِإذْنِي ) (1) وقد نسب الذكر الحكيم

________________________________________

1 ـ سورة المائدة : الآية 110.

________________________________________

(84)

كثيراً من الأمور الخارقة للعادة إلى أنبيائه ، فلم تكن هذه النسبة إلاّ لأجل أنّهم يقومون بما يقومون ، بإذنه سبحانه.

    وحصيلة الكلام : التوسّل بالأسباب بقيد أنّها أسباب ـ سواء أكانت طبيعية أم غير طبيعية ـ لا يلازم الشرك ، نعم ، السبب ربما يكون سبباً واقعياً ، وأُخرى سبباً كاذباً وخاطئاً ، والاشتباه في سببية السبب لا يستلزم الاعتقاد بألوهية السبب أو ربوبيته ، أو كون الطلب منه طلب فعل اللّه من غيره.

    ونعيد الكلام حتّى يتّضح الحق بأجلى مظاهره فنقول : إنّ التعلّق بالشيء والطلب منه مع الاعتقاد بالسببية ، وأنّ اللّه سبحانه أعطاه المقدرة على إنجاز المأمول يمتنع أن يتصف بالشرك ، لأنّ المفروض أنّ المتوسل إنّما تعلّق به بقيد كونه رابطاً وسبباً.

    نعم يمكن أن يكون المتوسل صائباً في الاعتقاد بالسببية أو خاطئاً ، ولكن الاشتباه في الموضوع لايكون دليلا على الاعتقاد.

    وأمّا إذا كان التعلق بالشيء لا بوصف السببية والرابطية ، بل بما أنّ المطلوب منه ، موجود مستقل في فعله وإيجاده ، يقوم بالفعل بنفسه ، ويقوم بحاجة المستنجد من صميم ذاته من دون أن يكون سبباً ورابطاً بين الإنسان وربّه ، فهذا يكون ملازماً للإعتقاد بالألوهية من دون نقاش.

    كان اللائق بابن تيمية ونظرائه دراسة فعل اللّه سبحانه وتمييزه عن غيره ، حتّى لا يحكموا بضرس قاطع بأنّ الإعانة والإماتة والشفاعة وغيرها على الإطلاق من أفعال اللّه سبحانه ، بل الحق أنّ كلاّ من هذه الأفعال يقع على وجهين ، فهو على وجه فعله سبحانه ، وعلى وجه آخر يصحّ أن يعدّ فعلا للسبب ، ولأجل ذلك نرى أنه سبحانه ينسب فعلا واحداً لذاته ، وفي الوقت نفسه ينسبه لمخلوق من مخلوقاته ، وإليك نماذج من ذلك :

    1 ـ يعدّ القرآن ـ في بعض آياته ـ قبض الأرواح فعلا للّه تعالى ، ويصرح بأنّ اللّه هو الّذي يتوفّى الأنفس حين موتها إذ يقول مثلا :

 

________________________________________

(85)

( اللّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) (1).

    بينما تجده ينسب التوفّي في موضع آخر ، إلى غيره ، قال : ( حَتّى إذا جاءَ أحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتهُ رُسُلُنا ) (2).

    2 ـ يأمر القرآن ـ في سورة الحمد ـ بالاستعانة باللّه وحده إذ يقول : ( وَإيّاكَ نَسْتَعِينُ ) (3) ، في حين نجده في آية أُخرى يامر بالاستعانة بالصبر والصلاة إذ يقول : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (4).

    3 ـ يعتبر القرآن الكريم الشفاعة حقاً مختصاً باللّه وحده ، إذ يقول : ( قُلْ للّهِ الشّفَاعَةُ جَميعاً ) (5).

    بينما يخبرنا ـ في آية أُخرى ـ عن وجود شفعاء غير اللّه كالملائكة ويقول : ( وَكَم مِنْ مَلَك في السّمواتِ لاَ تُغْني شَفَاعَتُهُم شَيئاً إلاّ مَنْ بَعْدِ أنْ يأذَنَ اللّه ) (6).

    4 ـ إنّ اللّه هو الكاتب لأعمال عباده إذ يقول : ( وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُون ) (7) في حين أنّ القرآن يعتبر الملائكة كتبة أعمال العباد إذ يقول : ( بَلَى وَرُسُلُنا لَدَيْهم يَكْتُبُونَ ) (8).

    5 ـ قد تضافرت الآيات على أنّه سبحانه هو المدبّر ، يقول : ( وَمَن يُدَبّرُ الأمرَ فَسَيَقُولُونَ اللّه ) (9) بينما يصرّح القرآن بمدبرية غيره ويقول :

________________________________________

1 ـ سورة الزمر : الآية 42.

2 ـ سورة الأنعام : الآية 61.

3 ـ سورة الفاتحة : الآية 5.

4 ـ سورة البقرة : الآية 45.

5 ـ سورة الزمر : الآية 44.

6 ـ سورة النجم : الآية 26.

7 ـ سورة النساء : الآية 81.

8 ـ سورة الزخرف : الآية 80.

9 ـ سورة يونس : الآية 31.

________________________________________

(86)

( فَالمُدبّراتِ أمراً ) (1).

    وهذه نماذج من الآيات مما نسب الفعل إلى اللّه سبحانه ، وفي الوقت نفسه نسب إلى عباده ، وما المصحح إلاّ ما ذكرنا ، وهو أنّ المنسب إليه سبحانه غير المنسوب إلى العباد ، وأنّ قيامه سبحانه بالأفعال على وجه الاستقلال من دون أن يعتمد على سبب عال أو قوة عليا ، وأمّا قيام غيره فإنما هو بالسببية والرابطية والمأمورية.

    وفي ضوء هذا تقدر على تمييز فعله سبحانه عن فعل غيره ، فليس شفاء المريض وقضاء الدين وردّ الضالة على وجه الإطلاق ، من فعله سبحانه ، ولا من فعل عباده ، بل لكلّ سمة وعلامة ، بها يتميز عن غيره. والحد الفاصل بين فعله سبحانه وفعل غيره هو كون الفاعل مستقلا في الايجاد ، ومالكاً لفعله ، وكونه غير مستقل في الفعل وغير مالك له ، والأول ( أي الّذي يصدر عن الفاعل على وجه الاستقلال ) لا يطلب إلاّ منه ، والثاني يطلب من غيره.

    فتلخّص من هذا البحث الضافي أنّ كل خضوع قلبي أو لساني أو خشوع فعلي لا يتصف بالعبادة إلاّ إذا اعتقد الخاضع بأنّ في المخضوع له ، عنصر الألوهية والربوبية ، وأنّه مستقل في الذات والفعل ، أو في الفعل فقط ، وأمّا إذا كان قلب الخاضع خالياً عن الاعتقاد بهذا العنصر ، بل كان معتقداً بعبوديته وعدم مالكيته شيئاً ، وعدم قيامه بأمر إلاّ بإذنه ، وأنّه ليس له دور سوى دور السببية ، فطلب أىّ شيء منه لا يتّسم بالعبادة ، سواء أطلب منه القيام عن طريق أسباب طبيعية ، أم القيام به عن طريق أسباب خارقة للعادة.

    وسواء اعتقد أنّ فيه سلطة غيبية يقوم بأعمال خارقة للعادة في ظلها أو لا

    وسواء أكان المطلوب منه عاجزاً أم قادراً.

    وسواء أطلب أُموراً عادية كالسقي ، أم أُموراً غير عادية كبرء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى.

________________________________________

1 ـ سورة النازعات : الآية 5.

________________________________________

(87)

    إذ ليس شيء منها هو العامل المؤثر لإضفاء العبادة على الطلب ، وإنّما الموثر هو ما ذكرناه ، وبذلك نقدر على القضاء في الموضوعات التالية الّتي وصفتها الوهابية بأنّهاشرك محرّم وهي :

    1 ـ طلب الشفاعة من الأنبياء والصالحين.

    2 ـ الاستعانة بأولياء اللّه.

    3 ـ طلب شفاء المريض من غير اللّه.

    4 ـ دعوة الصالحين ، مثل : يا محمد أغثني.

    فإنّ الوهابيين تبعاً لشيخهم في المنهج يصورون جميع هذه الدعوات دعوات شركية أشبه بدعاء عبدة الأصنام.

    ولكنّك بعدما أحطت خبراً بما ذكرنا سرعان ما ترجع وتقضي بحكمين مختلفين ينشآن من اختلاف عقيدة الداعي وتقول : إنّ كل واحد من هذه الاُمور على وجه ، شرك ، وعلى وجه آخر ليس بشرك ، ولا يعلم أىّ واحد منهما إلاّ أن نقف على عقيدة السائل.

    فلو كان المدعو في اعتقاد الداعي هو اللّه العالم أو غيره ، لكن باعتقاد أن له سهماً من الألوهية أو الربوبية ، فهو عبادة بلا شك ، حتّى لو سئل منه السقي بالماء وإيصاد الباب ، وما شابههما من الأُمور العادية البسيطة والمتعارفة.

    وأمّا إذا كان المدعو حسب اعتقاد الداعي عبداً مرزوقاً ومربوباً محتاجاً ، قائماً في ذاته باللّه سبحانه ، مستمداً في فعله منه ، ولا يقوم بفعل إلاّ بإقداره واذنه ، فلا يكون الطلب منه ولا دعاؤه متسماً بوصف العبادة ، بل أقصى ما يمكن أن يقال هو أنّه إذا كان المسؤول والمدعو قادراً على العمل ، يكون الطلب مفيداً ، وإلاّ يكون لغواً.

    وبذلك يظهر أنّ الميزان في توصيف العمل بالشرك والانحراف عن خط التوحيد ليس هو صور الأعمال وظواهرها ، بل المراد حقائقها وبواطنها. فما ورد

 

________________________________________

(88)

في كلمات القوم من تشبيه عمل المسلمين بعمل عبدة الأصنام تشبيه باطل لا يعوّل عليه.

    بقيت هنا كلمة وهي :

 

ما هو المراد من النهي عن دعوة غير اللّه ؟

    إنّ الآفة كل الآفة هي أن الوهابيين كشيخهم ابن تيمية يسردون الآيات والروايات من دون أن يتفكروا في مفادهما ومواردهما ، ولكنهم يأخذون بالظواهر الابتدائية مع تناسي ما حول الآيات من القرائن ، فتراهم يعدون دعاء الصالحين والاستغاثة بهم والطلب منهم شركاً ، بحجّة أنّه سبحانه عد دعاء المشركين للأصنام والأوثان شركاً وقال :

     ( وَ أنّ المَساجِدَ للّه فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللّه أحَداً ) (1).

    ( لَهُ دَعوَةُ الحَقّ والّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِه لا يَسْتَجيبونَ لَهُم بِشَىء ) (2).

    ( إنّ الّذينَ تَدْعونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عَبادٌ أمْثَالَكُمُ ) (3).

    ( وَالّذينَ تَدعُونَ مِنْ دُونِهَ مَا يَملِكُونَ مِن قِمطير ) (4).

    ( قُلِ ادْعُوا الّذينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنْكُم وَلا تَحويلا ) (5).

    ( أُولئِكَ الّذينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهم الوَسيلَة ... ) (6).

________________________________________

1 ـ سورة الجن : الآية 18.

2 ـ سورة الرعد : الآية 14.

3 ـ سورة الأعراف : الآية 194.

4 ـ سورة فاطر : الآية 13.

5 ـ سورة الإسراء : الآية 56.

6 ـ سورة الإسراء : الآية 57.

________________________________________

(89)

    ( وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّه مَا لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ ... ) (1).

    ( وَ مَنْ أضَلّ مَمَّن يَدْعُو مَنْ دُونِ اللّه مَنْ لا يَسْتَجيبُ لَهُ إلى يَومِ القيامَةِ ) (2) .

    ترى أنهم يسردون هذه الآيات الواردة في حقّ المشركين المعتقدين بالوهية الأصنام وربوبيتهم ، وكونهم مفوّضاً إليهم القيام بالأفعال والأعمال ، من الشفاعة والمغفرة ، والشفاء وغيرها. يسردون هذه الآيات بصلافة وقحة في حق المسلمين الإلهيين الذين لا يعتقدون في حق الأنبياء والصالحين سوى كونهم عباداً مقربين ، تستجاب دعوتهم إذا دعوا ، ويقومون بحاجة المستنجد بإذنه سبحانه وقدرته ، وإليك محصّلها :

    1 ـ إنّ هذه الآيات وما ضاهاها تختص بالمشركين الذين كانوا يصورون أوثانهم وأصانهم آلهة يملكون كشف الضر والتحويل ، وينصرون بلا استئذان منه سبحانه ، لأنّهم يملكون هذا الجانب من الأفعال الإلهية ، وأين هو من عقيدة المسلم الموحد في حقّ الأنبياء والصالحين من أنهم عباد مكرمون ، لا يعصون اللّه ما أمرهم ، وهم بأمره يعملون ، وبإذنه يشفعون و ... ؟

    2 ـ إنّ المراد من الدعاء في هذه الآيات ، ليس الدعوة المجردة بمعنى النداء بل المراد هو الدعاء الخاص المرادف للعبادة ، وليس ذلك بغريب ، فقد جمع سبحانه في آية واحدة ، بين الدعوة والعبادة ، وفسّر الأُولى بالثانية نحو قوله : ( وَقالَ رَبُّكُم ادْعُوني أستَجِب لَكُم إنَّ الّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنم دَاخرينَ ) (3).

     يقول الإمام زين العابدين ( عليه السَّلام ) : « وسميت دعاءك عبادة ، وتركه استكباراً وتوعدت على تركه دخول جهنم داخرين » (4).

________________________________________

1 ـ سورة يونس : الآية 106.

2 ـ سورة الاحقاف : الآية 5.

3 ـ سورة غافر : الآية 60.

4 ـ الصحيفة السجادية ، الدعاء 49.

________________________________________

(90)

    وما ورد في الحديث : « الدعاء مخّ العبادة » فالمراد هو هذا القسم من الدعاء ، أي الدعاء المقرون بالوهية المدعو بنحو من الأنحاء.

    3 ـ إنّ المنهي عنه هو جعل المدعو في مرتبة اللّه الخالق ، كما يعرب عنه قوله : ( وَ أنَّ المَسَاجِدَ للّه فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّه أحَداً ) (1) وكان هو أساس عبادة المشركين ، قال سبحانه : ( و جَعلوا للّهِ أنداداً لِيُضلُّوا عَنْ سبيله ) (2) وقال : ( إذْ نُسَوِّيكُم بِرَبّ العَالمين ) (3) وأين هذه الآيات من الموحدين الذين لا يرون مع اللّه شيئاً ، بل يرون الكل دونه لكونهم مربوبين؟.

________________________________________

1 ـ سورة الجن : الآية 18.

2 ـ سورة إبراهيم : الآية 30.

3 ـ سورة الشعراء : الآية 98.

(91)

البدعة في الدين وما هو حدها

     « البدعة » هي إدخال ما ليس من الدين في الدين ، ولا شك أنّ البدعة محرّمة بنص الكتاب العزيز ، قال سبحانه : ( اللّهُ أذِنَ لَكُمْ أم عَلى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) دلّت الآية على أنّ كل ما ينسب إلى اللّه سبحانه بلا إذن منه فهو أمر محرّم ، ومن أدخل في الدين ما ليس منه فقد افترى على اللّه ، ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعد من افترى على اللّه أظلم الناس; قال سبحانه : ( فَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أو كَذَّبَ بآياتِهِ إنّه لا يُفْلِحُ الُْمجْرِمُونَ ) (2).

    نرى أنّه لما اقترح المشركون على النبي أن يأتي بقرآن غير هذا أو يبدله إلى الآخر ، تحاشى عن ذلك وقال : ( قُلْ مَا يَكُونُ لي أنْ أُبَدِّلَهُ مَنْ تَلْقَاءِ نَفْسي إنْ أتَّبِعُ إلاّ مَا يُوحى إِلَىَّ إنّي أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذابَ يَوم عَظيم (3).

 

    فالمبدع في الشريعة ، مبدل لها ، وسوف يحيق به عذاب أليم.

 

هل التقاليد والآداب من البدع؟

    قد تعرّفت أنّ مقوّم البدعة هو أن يقوم الإنسان بفعل ما ، باسم الدين والشريعة ، وباعتقاد أنّه جزء منها ، وأمّا إذا قام بأمر مباح في حد نفسه ، ومن

________________________________________

1 ـ سورة يونس : الآية 59.

2 ـ سورة يونس : الآية 17.

3 ـ سورة يونس : الآية 15.

________________________________________

(92)

دون أن ينطبق عليه أحد العناوين المحرمة كشرب الخمر واقتراف الميسر ، لا بما انّه من الدين ، بل بما أنّه من العادات والتقاليد المتعارفة في حياة الشعب ، من دون أن يمت إلى الدين بصلة ، مثلا إذا احتفل شعب بيوم استقلالهم ، وخروجهم عن ذل الاستعباد ، أو إذا احتفلوا في أول الربيع بما أنه أول السنة ، وترددوا في أندية الأحبّة والإخوان ، فلا يكون ذلك بدعة ، وذلك لأنّ المحتفلين لا يقومون به بما أنه من الدين ، وأنّ الشارع أمر بذلك ، وإنّما يقومون به باسم التقاليد والعادات الّتي جرت عليها الآباء والأجداد ، أو ابتكرها الجيل الحاضر تشييداً لعزائم الشعب ، في طريق حفظ استقلالهم ، والخروج عن سيطرة القوى الكبرى عليهم ، مع كون العمل غير محرم في ذاته ، بل هو اجتماع وإنشاد قصائد ، وإلقاء خطب وشرب شاي ، ولقاء إخوان ، إلى غير ذلك.

    لقد مرّت على الشعب الجزائري أعوام عديدة كان يسيطر عليهم فيها الإستعمار الفرنسي ، ينهب أموالهم وثرواتهم الطائلة ، ويدمر ثقافتهم الإسلامية وهو يتهم الدينية ، ثم إنّ اللّه سبحانه منحهم ـ في ظل عزائمهم القوية واستعدادهم لبذل النفس والنفيس في سبيل هدفهم المنشود ـ الإستقلال والحرية ، والرجوع إلى هويتهم الإسلامية ، فلو عزم هذا الشعب على أن يقيم في ذلك اليوم في كل سنة احتفالا عظيماً غير مقترن باقتراف المنكرات وارتكاب المعاصي ، لا يلامون ولا يذمّون على فعلهم هذا ، بل يمدحهم العقلاء بفطرتهم السليمة ، ولا يدور في خلد أحد أنّهم ارتكبوا بدعة في الدين ، وذلك لأنّهم لم يقوموا بما قاموا به ، باسم الدين والشريعة ، وأنّ النبي أمر بذلك ، بل قاموا بذلك باسم حفظ المصالح الشعبية وتشييد عزائمهم الّذي هو في حد ذاته حلال بلا ريب : فمن حكم بحرمة هذه التقاليد والآداب و الرسوم ، سواء أكانت لها جذور في الأعوام السابقة أم كانت من محدثات العصر ، فقد ارتكب الخطأ في تحديد البدعة ، ولم يميّزها عن غيرها من المراسم والآداب.

    ولو صحّ تقسيم البدعة إلى الحسنة والسيئة ، فإنما يصحّ في هذا القسم ، أي التقاليد والآداب العرفية ، فقد يتصف بالحسن وأُخرى بالقبح ، وأمّا

 

________________________________________

(93)

البدعة بمعنى إدخال ما ليس من الدين في الدين فهو قبيح مطلقاً ، لا ينقسم وليس له إلاّ قسم واحد ، وهو أنّه قبيح محرّم على الإطلاق.

    هذا ابن تيمية باذر هذه البذور الخبيثة والشكوك الساقطة يصرح بأنّ الأصل في العادات هو الحلية ، إلاّ ما حظره اللّه ، قال : « فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلاّ ما شرعه اللّه ، والأصل في العادات لا يحظر منها إلاّ ما حظره اللّه » (1).

    وبذلك يعلم أنّ تضييق الأمر والتقاليد الّتي لم يرد فيها حظر من الشرع ، لا يصدر إلاّ من الجاهل ، فإنّ الشريعة الإسلامية سمحة سهلة (2) لم تتدخل في عادات الناس وتقاليدهم ، بل خوّلتها إلى أنفسهم حتّى يختار كل شعب ما يناسب بيئته و ظروفه وملابساته ، وهذا هو الأساس ، لكون الإسلام خاتم الشرائع ، وكتابه خاتم الكتب ، ونبيّه خاتم الأنبياء ولو كان محدداً للتقاليد والآداب ، والرسوم والمراسم لوقع التصادم بينه وبين حياة الشعوب وحضاراتها المتكاملة مع مر الحقب والأزمان.

 

هل الاحتفال بالمواليد من التقاليد أو من صميم الدين ؟

    البحث المهم في المقام هو تعيين حكم هذا المصداق ، وأن الاحتفال بميلاد النبي هل هو كالاحتفال بمواليد سائر الأفراد كالآباء والأجداد أو الأولاد الّذي جرى عليه ديدن العقلاء في العالم؟ أو أن الاحتفال به يعد من الأُمور الدينية؟

    لا اظن أنّ من لمس روح الاحتفالات والمهرجانات الّتي تقام بين المسلمين يوم الميلاد وغيره أن ينسبها إلى التقاليد والرسوم والآداب القومية ، فإذن ذلك شيء لا يلائم روح الاحتفالات وأغراض المقيمين لها ، فلا شك أنهم يقومون

________________________________________

1 ـ المجموع من فتاوى ابن تيمية ، ج 14 ص 196.

2 ـ صحيح البخاري ج 1 كتاب الإيمان باب « الدين يسر » ص 12 روي عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « أحب الدين إلى اللّه الحنيفية السمحة ».

________________________________________

(94)

به باسم الدين ، ويرجون ثواباً جزيلا في عقباهم ، فالإصرار على أنّه من الآداب والرسوم خطأ ، لا يتفوه به من شاهدها وعاينها وعاشر المقيمين لها ، فيجب على المسوغ والمانع البحث في أمر آخر ، وهو أنه هل لهذا الأمر أصل في الشريعة على الوجه الكلي حتّى يكون الإحتفال تجسيداً له في هذه الظروف ، أو ليس له اصل في الشريعة حتّى يكون بدعة؟ والأسف كله أن المانعين والمسوغين لم يركزوا على هذا المهم إلاّ القليل منهم (1) فعلى من يحاول حسم مادة الخلاف تبيين تلك النقطة الحساسة ، وترك ما يثار حوله من الجدال والحوار.

    فنقول :

    إنّ كون شيء أمراً جائزاً في الدين على قسمين :

    تارة يقع النص عليه بشخصه ، كالاحتفال في عيدي الفطر والأضحى ، أوالاجتماع في عرفة ومنى ، فلا شك أنّ هذا الاجتماع والاحتفال أمر به الشارع بشخصه ، فخرج به عن كونه بدعة.

    وأُخرى يقع النص عليه على الوجه الكلي ، ويترك انتخاب أساليبه وأشكاله وألوانه إلى الناس حسب الظروف ورعاية المقتضيات ، وإليك بعض الأمثلة :

    1 ـ ندب الشارع إلى تعليم الأولاد ومكافحة الاُمّية ، ولا شك أنّ لهذا الأمر الكلي أشكالا أو ألواناً حسب تبدل الحضارات وتكاملها ، فلو كان التعليم والكتابة في الظروف السابقة متحققة بالكتابة بالقصب والحبر ، وجلوس المتعلم أمام المعلم على الأرض في الكتاتيب ، فقد تطورت كيفية التعليم من هذه الحالة البسيطة إلى حالة تستخدم فيها الأجهزة المتطورة ، حيث أصبح الناس يتعلمون عن طريق الإذاعة والتلفاز ، و ( الكمبيوتر ) ، والأشرطة ، إلى غير ذلك من وسائل التعليم وأجهزة الإعلام ، سواء أكان ما يذيعه تعليمياً أم تبليغياً ، فالشارع أمر

________________________________________

1 ـ ولقد أعطى العلامة الحجة السيد جعفر مرتضى في كتابه القيم « المواسم والمراسم » للتحقيق في هذا المجال حقه. شكر اللّه مساعيه.

________________________________________

(95)

بالتعليم والتعلم ، وخوّل اتخاذ الأساليب إلى الظروف والمقتضيات ، ولو كان مصراً على لون خاص من كيفية التعليم ، لفشل في طريق هدفه المقدس ، لأن الظروف ربما لا تناسب الأداة الخاصة والكيفية المختصة الّتي يعينها ويحددها.

    2 ـ ندب الإسلام إلى الإحسان إلى اليتامى ، والتحنن عليهم وحفظ أموالهم ، وتربيتهم ، غير أن هذا الأمر الكلي له ألوان وأساليب مختلفة ، تجاري مقتضيات ، العصر وإمكانياته ، فاللازم علينا هو امتثال ما ندب إليه الشارع ، وأما كيفية الإحسان فقد خولت إلى أوليائهم حسب إمكانيات الظروف ومقتضياتها ، فمن أصر على أن الشارع بين خصوصيات الامتثال ومشخصات إطاعة ذلك الأمر ، فقد جهل الإسلام ولم يعرف أساس كونه خاتماً ، إذ لا يكون خاتماً إلاّ إذا أخذ باللب ( الإحسان إلى الأيتام ) وترك القشر واللباس إلى الناس ومقتضيات الظروف.

    3 ـ إنّ الصحابة ـ حسب رواية أهل السنة ـ قاموا بجمع آيات القرآن المتفرقة في مصحف واحد ، ولم يصف أحد منهم هذا العمل بدعة ، وما هذا إلاّ لأن عملهم كان تطبيقاً لقوله سبحانه : ( إنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وإنّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (1) ، فعملهم في الواقع كان تطبيقاً عملياً لنصوص شرعية من الكتاب والسنة ، وعلى ذلك جرى المسلمون في مجال الاهتمام بالقرآن من كتابته وتنقيطه ، وإعراب كلمه وجمله ، وعدّ آياته وتمييزها بالنقاط الحمر ، وأخيراً طباعته ونشره ، وتقدير حفاظه وتكريمهم والاحتفال بهم ، إلى غير ذلك من الأُمور الّتي كلها دعم لحفظ القرآن وتثبيته وبقائه ، وإن لم يفعله رسول اللّه ولا الصحابة ولا التابعون ، إذ يكفي وجود أصل له في الأدلة.

    4 ـ الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الأعداء أصل ثابت في القرآن الكريم ، قال سبحانه : ( وَأعدّوا لَهُم ما اسْتَطَعْتُم مَنْ قُوّة ) (2) ، وأما كيفية الدفاع ونوع السلاح ولزوم الخدمة العكسرية

________________________________________

1 ـ سورة الحجر : الآية 9.

2 ـ سورة الأنفال : الآية 60.

________________________________________

(96)

فالكل تطبيق لهذا المبدأ وتجسيد لهذا الأصل ، فما ربما يرمي التجنيد العمومي إلى أنّه بدعة ، غفلة عن حقيقة الحال ، وإنّ الإسلام يتبنىّ الأصل ، ويترك الصور والألوان والأشكال إلى مقتضيات الظروف.

    هذا هو الأصل الّذي به نميز « البدعة » عن « التطبيق » ، و « الابتداع » عن « الاتّباع » وإليك بعض الكلمات من المخالفين للذكريات وغيرهم حول ما هو بدعة وما ليس ببدعة ، والكل يؤكد ما قلناه :

    قال ابن رجب : قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « وإيّاكم ومحدثات الأُمور فإنّ كل بدعة ضلالة » تحذير للأُمة من اتّباع الأُمور المحدثة المبتدعة ، وأكد ذلك بقوله : « كل بدعة ضلالة » والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه ، وأمّا ما له أصل فليس ببدعة ، وإن كان بدعة لغةً ، وفي صحيح مسلم : « عن جابر رضي اللّه عنه أن النبي كان يقول في خطبته : « إن خير الحديث كتاب اللّه ، وخير الهدى هدى محمد ، وشرّ الأُمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ... » وقوله : « كل بدعة ضلالة » من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء ، وهو أصل عظيم من أُصول الدين ، وهو شبيه بقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ » فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة ، والدين بريء منه (1).

    وقال ابن حجر في شرح قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّ أحسن الحديث كتاب اللّه » والمحدثات ـ بفتح الدال ـ جمع محدثة ، والمراد ما أُحدث وليس له اصل في الشرع ، ويسمى في عرف الشرع بدعة ، وما كان له اصل يدل عليه الشرع ، فليس ببدعة فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة ، فإنّ كل شيء أُحدث على غير مثال يسمى بدعة ، سواء أكان محموداً أم مذموماً ، وكذا القول في المحدثة (2).

________________________________________

1 ـ جوامع العلوم والحكم ص 233.

2 ـ فتح الباري ج 13 ص 253.

________________________________________

(97)

    ومن راجع القرآن والسنة يقف على أصل رصين في الإسلام في حق النبي الأكرم ، وهو لزوم تكريم النبي وتعظيمه حياً وميتاً ، وهو أصل لا يمكن لمسلم إنكاره ، وإذا ثبت ذلك الاصل يقع الكلام في أن هذه الاحتفالات هل هي تجسيد لهذا الأصل أو لا؟ فيلزم البحث في موردين :

 

 

الأول : لزوم تكريم النبي حياً وميتاً

    من أمعن في القرآن الكريم يقف على أنه يحثّ المسلمين على تكريم النبي وتعظيمه ، وأنه لا يصحّ للمسلمين أن يعاملوه معاملة الإنسان الاعتيادي ، وإليك ما يمكن استنباط هذا الأصل منه.

    1 ـ قال سبحانه : ( الّذينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُوا النُّورَ الّذي أُنْزِلَ مَعَهُ أُلئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (1).

    إن الكلمات الواردة في هذه الآية هي : 1 ـ « آمنوا به » 2 ـ « عزروه » 3 ـ « نصروه » 4 ـ « اتبعوا النور الّذي أُنزل معه ».

    فالآية تدعو إلى الإيمان بالنبي وتعزيره ونصرته واتّباع النور الّذي أُنزل معه ، والمراد من التعزير ، ليس مطلق النصرة ، لأنه ذكره بقوله « نصروه » ولا حاجة لتكراره; ولا مطلق منع الأعداء عنه ، بل المراد هو توقيره وتعظيمه (2) ، أو نصرته مع التعظيم (3).

    وعلى كل تقدير فالمفهوم من الآية هو تعزير النبي واحترامه ، ومن المعلوم أنّ احترامه ليس إلاّ لأجل كونه سراجاً منيراً للأُمة وهادياً إلى الشريعة ودينه سبحانه.

    2 ـ أشار سبحانه إلى مكانته المرقومه ولزوم توقيره وتكريمه بقوله : ( يَا أيُّها الّذينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبَي وَ لاَ تَجْهَرُوا لَهُ بَالْقَولِ

________________________________________

1 ـ سورة الأعراف : الآية 157.

2 ـ تفسير الجلالين ص 225 مجمع البيان ج 2 ص 488.

3 ـ الميزان ج 8 ص 296 ، مجمع البحرين مادة « عزر ».

________________________________________

(98)

كَجَهْرِ بَعْضِكُم لِبَعْض أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُم وَ أنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) (1) ، فجعل رفع الصوت فوق صوته والجهر له كجهر بعضكم بعضاً ، سبباً لحبط الأعمال فما أعظم شأنه وأجلّ قدره.

    3 ـ وقال سبحانه : ( لا تَجعَلُوا دُعَاءَ الرّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً ) (2).

    4 ـ وأشار إلى حرمة التسرّع في إبداء الرأي بقوله : ( يَا أيُّها الّذينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ سَميِعٌ عَلِيمٌ ) (3).

    5 ـ إنّه سبحانه قرن طاعة النبي بطاعته وقال : ( أطِيعُوا اللّهَ وَ أطِيعُوا الرّسُولَ ) (4) ، وجعل طاعته طاعة نفسه وقال : ( مَنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللّه ) (5) ، وجعل اتّباع الرسول آية لحب اللّه سبحانه ، وقال : ( قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللّه ) (6) ، وندّد بمن قدّم حبّ الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن على حب الرسول ، وقال : ( قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُم وَ إخْوانُكُم وَ أَزواجُكُم وَعَشيرَتُكُم وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَهَا أحَبّ إلَيْكُم مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ أبناؤكُم وَجِهَاد فِي سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأتِيَ اللّهُ بِأمْرِهِ) (7).

    وروى أنس أنَّ رسول اللّه قال : « لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين » ، وروى أنّ رسول اللّه قال : « ثلاث من كن فيه وجد بهن الإيمان ، أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما ... » (8).

________________________________________

1 ـ سورة الحجرات : الآية 2.

2 ـ سورة النور : الآية 63.

3 ـ سورة الحجرات : الآية 1.

4 ـ سورة النساء : الآية 59.

5 ـ سورة النساء : الآية 80.

6 ـ سورة آل عمران : الآية 31.

7 ـ سورة التوبة : الآية 24.

8 ـ مسند أحمد ، مما أسند أنس بن مالك ج 3 ص 103 و 174 و 230 ، انظر صحيح البخاري ج 1 ص 8 « باب حب الرسول من الإيمان » والروايات حول حب النبي وعترته كثيرة ، لاحظ جامع الأصول ، وكنز العمال.

________________________________________

(99)

    6 ـ إنّه سبحانه أمر بالصلاة والتسليم على النبي وقال : ( إنَّ اللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصلُّونَ عَلَى النبِىّ يَا أيُّها الّذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (1).

    وروي أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) قال : « البخيل من ذُكِرتُ عنده فلم يصلّ علىّ » وقال : « من صلّى علىّ واحدة صلّى اللّه عليه بها عشراً » (2).

    والصلاة عليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أحد أركان الصلاة ، من تركها عامداً بطلت صلاته ، والدعاء له بالوسيلة والفضيلة والمقام المحمود عقيب الأذان أمر محمود ، وفيه فضل كبير.

    7 ـ أشار إلى كيفية معاشرة المؤمنين معه ومع أزواجه بعد وفاته ، فقال :

     ( يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِىَّ إلاّ أن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَام غَيْرَ نَاظِرينَ إناهُ ، ولَكِن إذَا دُعِيتُم فَادْخُلُوا فَإذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ، وَ لاَ مُستَأنِسِينَ لِحَديث إِنَّ ذَلِكُم كَانَ يُؤذِي النَّبِىّ فَيَسْتَحِي مِنكُم وَاللّهُ لا وَلاَ يَسْتَحيِي مِنَ الحَقّ وَإِذَا سَأَلُْتمُوهُنّ مَتاعاً فَاسْألُوهُنّ مِنْ وَراءِ حِجَاب ذَلِكُم أطْهَرُ لِقُلُوبِكُم وَقُلُوبِهِنّ وَمَا كَانَ لَكُم أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّه وَلاَ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَداً إنّ ذَلِكُم كَانَ عِنْدَ اللّه عَظيماً ) (3).

    ومن وقف على خصائص النبي الّتي ذكرها الفقهاء في الكتب الفقهية ، يقف على مكانته عند اللّه ، وعظمته عند المسلمين ، ولزوم توقيره وتكبيره وتعظيمه.

    هذه الآيات والأحاديث تفيد بأنه سبحانه فرض محبة النبي ومودته على

________________________________________

1 ـ سورة الأحزاب : الآية 56.

2 ـ مسند أحمد ، مما أسند إلى علي بن الحسين ج 1 ص 201 ، والدر المنثور ج 5 ص 217 في تفسير قوله : « إن اللّه وملائكته » ، ورواه الترمذي في ج 5 ، في كتاب الدعوات.

3 ـ سورة الأحزاب : الآية 53.

________________________________________

(100)

المؤمنين ، وأنّ المؤمن لا يتم له إيمان حتّى يكون ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) أحب إليه من نفسه وماله وأهله ، ومن شك في ذلك فهو شاك في البديهيات الدينية.

    وهنا يقع الكلام في المقام الثاني ، وهو ما يتحقق به التكريم ، وما يمكن الاستقلال به على أنه صادق في حبّ النبي ، وإليك البحث فيه.

 

الثاني : الاحتفال تجسيد لتكريم النبي

    أذا دلّت الآيات والأحاديث على لزوم تكريم النبي وتعظيمه أولا ، وحبه ومودته ثانياً ، فعندئذ يقع الكلام : فيما يتحقق به ذلك الأصل ، وتتجسم به هذه الفريضة.

    لا شك أنّ لتكريم الإنسان وتعظيمه طرقاً مختلفة مألوفة للناس ، ولكن صاحب الشخصية العالمية إذا أراد الشعب المسلم تكريمه وتعظيمه ، فالاحتفال بولادته وإقامة العزاء يوم رحلته ، تكريم وتعظيم له ، وتجسيد لذلك الأصل الّذي نطق به الكتاب والسنة ، وليس ذلك أمراً خفياً على الناس فإنّ العقلاء بفطرتهم يحتفلون بذكرى شخصياتهم ولادة ووفاة ، تكريماً واحتراماً لهم ، والفرق بين تكريم النبي وتكريم تلك الشخصيات أنّ تكريمهم من قبيل التقاليد والآداب الشعبية ، فلو لم يرد حظر منه كفى في جواز ذلك عدم الحظر.

    وأمّا تكريم النبي الأكرم فله أصل في الشريعة الغرّاء ، وله تجليات في الظروف المختلفة ، فلو احتفل المؤمنون في كل دورة وكورة بميلاد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) من دون اقتراف المعاصي والمنكرات ، وأقاموا احتفالا حاشداً يبهر العيون ويحير العقول ، فقام الخطباء فيه بإلقاء الكلم حول فضائله ومناقبه ، وما نزل في حقه من الآيات والآثار ، وما ضحّى بنفسه ونفيسه في طريق هداية أُمته ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الّتي تُستلهم من الكتاب والسنة خالية عن الغلو والإفراط ، ثم قاموا بإطعام الإخوان و المحبين لرسول اللّه من مال اللّه الّذي جعل الناس فيه مستخلِفين ، ... فلا شك أنهم جسدوا ذلك الأصل الرصين ( تكريم النبي وتعظيمه ) بعملهم المشرق ، كما أظهروا بذلك محبتهم وولاءهم لصاحب الرسالة.

(101)

    وعند ذلك كيف يمكن أن توصف تلكم الاحتفالات الباهرة بالبدعة؟ أوليست البدعة هي إدخال ما ليس من الدين في الدين؟ وهل المسلمون أدخلوا في الدين ما ليس منه؟ أوليس تكريمه وتوقيره هو الأصل الرصين؟ أوَليس الإحتفال الباهر تحقيقاً عملياً لذلك المبدأ عند جميع العقلاء ، فأين البدعة ياترى؟ أوَليس القرآن والسنة ندبا المسلمين إلى حب النبي ، وهل الحب يجب أن يبقى كامناً في مكامن النفس ، ولو تظاهر به الإنسان كان عاصياً ، أو أن المحبة والمودة لها مظاهر ومجال ، وإظهار الفرح يوم ولادته والحزن يوم رحلته دليل على الحب الأصيل والمودة المكنونة في القلب.

    ولسنا ننكر أن لإظهار المودة وتوقيره طرقاً أُخرى ، منها التمسك بسة قولا وعملا وتعلماً وتعليماً وإيثاراً ، أو التأسّي بأخلاقه وآدابه ، ونشر سنته وأحاديثه ، إلى غير ذلك مما يمكن أن يكون مظاهر للحب ، ـ ولكن أيها الأخ العزيز ـ لا ينحصر إظهار الحب والتكريم في هذه الأُمور ، فإنّها من الوظائف الدينية الّتي يجب على المسلم القيام بها في كل يوم وليلة ، وهي في الوقت نفسه مظاهر لتوقير النبي وتكريمه وإظهار المودة والحب له ، ولكن الاحتفال بمولده وإقامة العزاء في يوم رحلته أيضاً مظهر آخر للتوقير والتكريم وإظهار المودة ، فلماذا نؤمن ببعض ونكفر ببعض؟.

    فكيف تقام الاحتفالات في نفس المملكة السعودية لأبناء عائلتها وتغفل عن النبي الأكرم وأهل بيته ، وإن كنت في شك من ذلك فانظر إلى العدد ( 102 ) من مجلة « الفيصل » الّتي تصدر في طباعة أنيقة جداً في السعودية ، فهو يحتوي على تقرير مبسوط عن الاحتفال الكبير الّذي أقامته السلطات السعودية بمناسبة عودة « الأمير سلطان » من الرحلة الفضائية في مركبة « ديسكفري » ، ويحتوي هذا العدد على صور كثيرة تحكي عن حجم المبالغ الطائلة الّتي صرفت في ذلك الاحتفال ، وقد نشرت الكلمات والقصائد الّتي أُلقيت فيه ، وقرىء فيها المدح المفرط والثناء المسرف على آل سعود عامة والأمير العائد من الرحلة الفضائية خاصة ...

    ألا يستحق رسول الإسلام أن تخلُّد ذكرى مولده الشريف ، وتنشر مناقبه

 

________________________________________

(102)

وفضائله وإنجازاته العظيمة ، وعطاؤه الزاخر ، وخدماته الجليلة ، وجهاده وجهوده وغير ذلك ، حتّى يعرف الصديق والعدو ما أسداه هذا النبي العظيم من خدمة ، وما قدمه من عطاء ، وما تحمّل من عناء وعذاب في سبيل هداية البشر ، وهل التكريم إلاّ الاحتفال به ، ونشر قِيَمهِ الفاضلة ، والحث على الاقتداء به والأخذ بهديه ، والمحافظة على آثاره؟ ما هذا التناقض بين القول والعمل؟ تقيمون الاحتفال لأمير البلد ، وتحرّمون الاحتفال للنبي الأكرم؟.

    فلو أُقيم احتفال في أيّ بلد من بلاد اللّه تبارك وتعالى ، سواء أكان في ميلاد النبي أم غيره ، وقرأ المقرىء الآيات النازلة في حقه ، أو تليت قصيدة حسان بن ثابت الّذي قال رسول اللّه بأنّ لسانه على المشركين أشد وقعاً من السيوف على رقابهم ، كقوله في قصيدة رثى بها النبي بعد رحلته ، يقول فيها :

   

بطيبة رسمٌ للرسول ومعهديدل على الرّحمن من يقتدي بهإمام لهم يهديهم الحق جاهداً                  منير وقد تعفو الرسوم وتهمدوينقذ من هول الخزايا ويرشدمعلِّم صدق إن يطيعوه يسعدوا (1)

    أو ألقي فيها شعر كعب بن زهير الّذي يمدح به النبي ويقول :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبولنُبّئتُ أنّ رسول اللّه أوعدنيمهلا هداك الّذي أعطاك نافلة الـإن الرسول لَنورٌ يستضاءيه                                متّيم إثرها لم يُفْد مكبولوالعفو عند رسول اللّه مأمولـقرآن فيها مواعيظ و تفصيلمهنّدٌ من سيوف اللّه مسلول (2)

    أو ما أنشأه عبداللّه بن رواحه ويقول فيه :

خلّوا بني الكفار عن سبيلهيارب إنّي مؤمن بِقيلِه                    خلّوا فكل الخير في رسولهأعرف حق اللّه في قبوله (3)

    أو قرأ فيها قصيدة البوصيري الّتي أنشأها عن إيمان وإخلاص بالرسول لغاية التكريم والاحترام مستهلها :

________________________________________

1 ـ السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 666 ، والقصيدة.

2 ـ السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 513.

3 ـ السيرة النبوية لابن هشام ج 2 ص 371.

________________________________________

(103)

أمِْن تذكُّر جيران بذي سَلَمأم هبت الريح من تلقاء كاظمةً                        مَزجْتَ دمعاً جرى من مقلة بدموأومض البرق في الظلماء من أضم (1)

    فهل يتصور أن يعد ذلك أمراً محرماً وبدعة؟ وكأنّ الرسول يجب أن يكون خامل الذكر. ولو هتف به هاتف بالتكريم يكون آثماً ، يجب أن يجلد أو يقتل لأجل البدعة أو الشرك : سبحانك يا رب ما أعظم جرأتهم على الحط من كرامة الرسول وعظمته!!

    نرى أنه سبحانه خَلَّدَ ذكره ورفع مقامه بمنْحِهِ النبوة وقال : ( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) (2)فلنفترض أن الآية : ( (رفعنا لك ذكرك ) ) تشير إلى منح منصب النبوة ، ومقام الرسالة له ، ولكن يستفاد من الآية أن رفع النبي أمر مطلوب للّه سبحانه ، وأن تتويجه بالنبوة سبب لذلك الرفع المحمود ، فالاحتفال بمولده ليس إلاّ تجسيداً لذلك الرفع المطلوب ، وليس لقائل أن يقول : إنّ المطلوب هو رفعه بمنح النبوة له فقط ، فلا يسوغ ترفيعه وتخليد ذكراه في المجتمع عن طريق آخر ، فإنّ ذلك يأباه الذوق السليم.

    هذا هو معنى البدعة ، وهذا تحديدها ، فاتخذه مقياساً تميز به المبتدع عن المتشرع ، والبدعة عن السنة ، وبذلك تقف على أن أكثر ما يصفونه بالبدعة له أصل في القرآن والسنة ، ولأجل أن يكون البحث مترامي الأطراف نردفه بالبحث عن التبرك ، حتّى يكون الوقوف على حقيقته معيناً على حل عقدهم ومشاكلهم ، وسيوافيك البحث مستقلا عن الاحتفال بالمواليد.

________________________________________

1 ـ جواهر الأدب ، أحمد الهاشمي ، ص 467 والقصيدة لشرف الدين محمد بن سعيد البوصيري صاحب « البردة » و « الهمزية » ولهذه القصيدة شروح.

2 ـ سورة الإنشراح : الآية 4.

________________________________________

(104)

________________________________________

(105)

التبرك بآثار النبي الأكرم والصالحين

    جرت سيرة الموحدين على التبرّك بآثار الأنبياء والصالحين ، وجرت سيرة المسلمين على التبرّك بآثار النبي الأكرم ، والتبرك بالآثار إمّا تطبيقاً لمبدأ الحب والمودة لرسول اللّه ، وإمّا طلباً لأثر معنوي وضعه اللّه سبحانه في الشيء المتبرّك به ، كما في التبرك بماء زمزم ، وماء ميزاب الكعبة وكسوتها ، وماء الفرات وسؤر المؤمن ، إلى غير ذلك مما وردت الأحاديث في التبرك به. فسواء أكان تجسيداً للمحبة والمودة كتقبيل الأضرحة والمنبر والأبواب ، أم كان لطلب الآثار الخاصة الّتي وردت النصوص فيها ، فلا يمت ذلك إلى الشرك في العبادة بصلة ، وقد عرفت أن العنصر المقوّم لتحقق مبدأ الشرك هو الاعتقاد بـ « الألوهية » والربوبية ، أو كون المدعو مبدأً لأفعال إلهية ، وأمّا إظهار المودة والمحبة لآثار المحبوب على حد قول الشاعر :

أمرّ على الديار ديار ليلىوما حب الديار شغفن قلبي                              أقبّل ذا الجدار وذا الجداراولكن حب من سكن الديارا

    أو طلب الشفاء من الأسباب الّتي ورد الحديث بأن فيها الشفاء ، فليس عبادة; فإنّ الشافي هو اللّه سبحانه ، وماء زمزم وماء ميزاب الكعبة أسباب له ، فهذه الأسباب المعنوية كالأدوية الكيمياوية الّتي عمّت العالم ، يأوي إليها كل مريض من موحد ومشرك ، غير أنّ الموحّد يستعملها بما أنها السبب ، والشافي هو اللّه سبحانه ، وهو الّذي أعطى السببية لها ، ولو أراد لسلبها عنها.

 

________________________________________

(106)

    فالمهم في المقام دراسة ما ورد في الشرع حول التبرك بآثار الأنبياء والأولياء ، وتبيين موضع الصحابة من آثار الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) وقبل أن نسرد بعض ما وقفنا عليه ، نشير إلى كتابين كريمين في ذلك المجال :

    1 ـ « تبرك الصحابة » للشيخ محمد طاهر مكي ، من علماء الحرم الشريف ، طبع مكة المكرمة.

    2 ـ « التبرك » تأليف الأستاذ الفذ الشيخ علي الأحمدي ، وقد استقصى فيه جل ما ورد في التبرك ، ولا اظن أن من قرأ هذين الكتابين يبقى له الشك في جوازه ، إن كان ممن يستمع القول فيتّبع أحسنه ، وإلاّ يزيده إلاّ خساراً.

 

التبرّك في القرآن الكريم

    إنّ القرآن الكريم يذكر أنّ يوسف أمر البشير أن يذهب بقميصه إلى ابيه ، وقال : القوا بقميصي هذا على وجهه فيعود بصيراً ، واللّه سبحانه يحكي عن يوسف هكذا : ( اذهَبُوا بِقَميصي هَذَا فَألْقُوهُ عَلَى وَجهِ أبي يَأتِ بَصيراً وَ أُتوني بِأهْلِكُم أجْمَعين ) (1) ( فَلَمّا جَاءَ البَشيرُ ألْقاهُ عَلَى وَجهِهِ فارتَدّ بَصيراً قَالَ ألَمْ أقُلْ لَكُمْ إنّي أعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (2) فالآيات صريحة في أن يعقوب تبرّك بقميص ابنه يوسف ، ولا شك أن قميص يوسف كان من القطن ، والقطن كالحديد الّذي يصنع منه الأضرحة والأبواب ، والقطن والحديد لا يؤثران في رفع المرض وكشف الكربة ، ولكنّه سبحانه تكريماً للنبي يمنّ على المريض بالشفاء بعد التبرك به ، وكأنّ هناك صلة معنوية غير مرئية ولا ملموسة ولا مدركة في المختبرات بين التبرك بالقميص وآثار الأنبياء ونزول الشفاء من اللّه سبحانه ، كما نرى تلك الرابطة بين استعمال الدواء وحصول البرء بعده ، ومن المعلوم أنّه سبحانه هو مسبب الأسباب ، وجاعل السببية للسبب.

________________________________________

1 ـ سورة يوسف : الآية 93.

2 ـ سورة يوسف : الآية 96.

________________________________________

(107)

    إنّ هيئة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر حول الضريح النبوي الشريف والمسجد الحرام يرفعون عقيرتهم بأنّ هذا ( الضريح ) حديد ، والحديد لا يفيد ، فليستمعوا إلى قول اللّه سبحانه : ( اذهبوا بقميصي هذا ) ، فعلى ضوء كلامهم قميص يوسف من القطن ، والقطن كالحديد ، ولكنّه سبحانه منح الشفاء لعين نبيه غِبّ تبركه بقميص ولده لصموده في سبيل اللّه.

    وأمّا الأحاديث والآثار الواردة حول التبرك فحدّث عنها ولا حرج ، فإنها تتجاوز المائة ، ومن أراد فليرجع إلى الكتابين الجليلين اللذين نوهنا بهما ، وقبل أن نورد بعض الآثار ، نذكر بعض الكلمات في هذا المجال من كبار العلماء :

    قال ابن حجر : « كل مولود في حياة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) يُحكم بأنّه رآه ، وذلك لتوفّر دواعي إحضار الأنصار أولادهم عند النبي للتحنيك والتبرك ، حتّى قيل : لمّا افتتحت مكة ، جعل أهل مكة يأتون إلى النبي بصبيانهم ليمسح على رؤوسهم ، ويدعو لهم بالبركة » (1).

    يقول مؤلف تبرك الصحابة : « لا شك أنّ آثار رسول اللّه ـ صفوة خلق اللّه وأفضل النبيين ـ أثبت وجوداً وأشهر ذكراً ، فهي أولى بذلك التبرك وأحرى ، وقد شهده الجم الغفير من الصحابة ، وأجمعوا على التبرك بها والاهتمام بجمعها ، وهم الهداة المهديون والقدوة الصالحون ، فتبركوا بشعراته وفضل وضوئه وبعرقه وثيابه ، وبمس جسده الشريف ، وغير ذلك مما عرف من آثاره الشريفة الّتي صحت بها الأخبار عن الأخيار » (2).

    ولنقدم بعض ما ذكره الشيخان ( البخاري ومسلم ) لكون صحيحيهما من أتقن الكتب عند أهل السنة وأصحها :

    1 ـ هذا الشيخ البخاري يروي أنّ الصحابة كانوا يتبركون بفضل وضوئه ، قال :

________________________________________

1 ـ الإصابة في تمييز الصحابة ج 1 ص 5.

2 ـ تبرك الصحابة ص 5.

________________________________________

(108)

     « لما خرج علينا رسول اللّه بالهاجرة ، فأتى بوضوء فتوضأ ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه ويتمسحون به » (1).

    2 ـ إنّ الصحابة كانوا يتبركون بشعره ، فروى أنس أنّ رسول اللّه لما حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ شعره (2).

    3 ـ إنّ الصحابة كانوا يتبركون بالإناء الّذي شرب منه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) ، قال أبو بردة : قال لي عبداللّه بن سلام : ألا اسقيك في قدح شرب النبي فيه؟ (3).

    ويفهم من الرواية أنّ عبداللّه بن سلام كان يحتفظ بذلك القدح للتبرك ، لشرب رسول اللّه منه.

    4 ـ كان الصحابة يتبركون بيديه الشريفتين ، فعن أبي حجيفة : خرج رسول اللّه بالهاجرة إلى البطحاء فتوضأ ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين ـ إلى أن قال ـ : وقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بهما وجوههم ، قال : فأخذت بيده فوضعتها على وجهي ، فإذا هي أبرد من الثلج ، وأطيب رائحة من المسك (4).

    لا أظن أنّ الوهابي يجترىء على ردّ أحاديث البخاري ، لأنّه أصحّ الكتب وأتقنها ، خصوصاً أنّ هذه الروايات جاءت فيها متواترة ، وهم القائلون :

وما من صحيح كالبخاري جامعاً                        ولا مسند يلفى كمسند أحمد

    هذا بعض ما رواه البخاري ، وهلم معي ندرس ما ذكره مسلم في صحيحه :

    ذكر مسلم أنّ الصحابة كانوا يأتون بصبيانهم إلى النبي للتبرك والتحنيك ، قال : إنّ رسول اللّه كان يؤتى إليه بالصبيان ، فيبارك عليهم ويحنكهم (5).

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري ج 1 ص 59 ، فتح الباري ج 1 ص 256.

2 ـ صحيح البخاري ج 1 ص 54.

3 ـ صحيح البخاري ج 1 ص 147 ، فتح الباري ج 10 ص 85.

4 ـ صحيح البخاري ج 4 ص 188.

5 ـ صحيح مسلم ص 1691.

________________________________________

(109)

    كما روي في حق شعره : « أنّ رسول اللّه أتى منى ، فأتى الجمرة فرماها ، ثم اتى منزله بمنى ، ثم قال للحلاق : خذ ، وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر ، ثم جعل يعطيه الناس (1).

    هذا بعض ما رواه الشيخان ، وأمّا ما رواه غيرهم فحدّث عنه ولا حرج ، وقد عقد البخاري في صحيحه باباً سماه : « باب ما ذكر من درع النبي وعصاه وسيفه وقدحه وخاتمه ، وما استعمل الخلفاء بعده من ذلك ، مما لم يذكر قسمته ، ومن شعره ونعله وآنيته ، مما يتبرك به أصحابه وغيرهم بعد وفاته » (2).

    إنّ فاطمة ( عليها السَّلام ) الّتي لا شك أنها من أهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً حضرت قبر أبيها ، وأخذت قبضة من تراب القبر تشمه وتبكي وتقول :

ماذا على من شمّ تربة أحمدصُبّت علىّ مصائبٌ لو أنها                           أن لا يشم مدى الزمان غوالياصُبّت على الأيام صرن لياليا

    وفي لفظ : فجعلتها على عينيها ووجهها (3).

    نعم ، كانت بنو أُمية وأذنابهم يمنعون الناس عن التبرك بقبر رسول اللّه وآثاره ، فمن منع التبرك فإنما هو على خطهم.

    روى الحاكم في المستدرك : « أقبل مروان يوماً فوجد رجلا واضعاً وجهه على القبر ، فأخذ برقبته ، ثم قال : هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري ، فقال : إنّي لم آت الحجر ، وإنما جئت رسول اللّه ، سمعت رسول اللّه يقول : لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن ابكوا على الدين إذ وليه غير أهله (4).

________________________________________

1 ـ صحيح مسلم ج 3 ص 947.

2 ـ صحيح البخاري ج 4 ص 82.

3 ـ وفاء الوفاء : ج 2 ص 444 ، صلح الإخوان ، ص 57 وغيرهما من المصادر.

4 ـ مستدرك الصحيحين للحاكم ج 5 ص 515 ، ومجمع الزوائد ج 4 ص 2 ، باب وضع الوجه على قبر سيدنا رسول اللّه.

________________________________________

(110)

    قال العلامة الأميني :

     « إنّ هذا الحديث يعطينا خبراً بأنّ المنع عن التوسل بالقبور الطاهرة إنما هو من بدع الأمويين وضلالاتهم ، منذ عهد الصحابة ، ولم تسمع أُذن الدنيا قط صحابياً ينكر ذلك ، غير وليد بيت أُمية ، مروان الغاشم.

    نعم ... « الثور يحمي انفه بروقه » (1).

    نعم ... لبني اُمية عامة ، ولمروان خاصة ضغينة على رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) منذ يوم لم يُبقِ ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) في الأسرة الأموية حرمة إلاّ هتكها ، ولا ناموساً إلاّ مزقه ، ولا ركناً إلاّ أباده ، وذلك بوقيعته ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فيهم ، وهو لا « ينطق عن الهوى ، إن هو إلاّ وحي يوحى ، علّمه شديد القوى » فقد صحّ عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) قوله : « إذا بلغت بنو أُمية أربعين ، اتّخذوا عباد اللّه خولا ، ومال اللّه نحلا وكتاب اللّه دغلا » (2).

    نعم تبع مروان بن الحكم ـ الوزغ ابن الوزغ ـ ابن طريد رسول اللّه من بعده الحجاج بن يوسف ، هذا هو المبرّد ينقل في كامله ، قال : ومما كفرت به الفقهاء الحجاج بن يوسف والناس يطوفون بقبر رسول اللّه منبره. لقوله : « إنما يطوفون بأعواد ورمّة » (3) ومراد الحجاج من الأعواد : المنبر ، ومن الرّمة : عظام رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلم ) فيستسخر من المسلمين ويهينهم بكلامه ، وهذا يعرب عن أنّ المسلمين كانوا يطوفون حول قبر رسول اللّه.

    قال ابن أبي الحديد : خطب الحجاج بكوفة ، فذكر الذين يزورون قبر

________________________________________

1 ـ الروق : القرن ، وهو مثل يضرب لمن يدافع عن شخصيته وعرضه.

2 ـ الغدير : ج 5 ص 149 .

3 ـ التبرك ص 161.

(111)

رسول اللّه بالمدينة ، فقال : تبّاً لهم ، إنهم يطوفون بأعودا ورمّة بالية. هلا طافوا بقصر أميرالمؤمنين عبدالملك؟ ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله؟ (1).

    هذا بعض ما يمكن أن يقال حول التبرك ، ومن أراد التفصيل والتبسط فليرجع إلى كتاب « التبرك » فقد بلغ الغاية في ذلك المجال.

    هذا وقع عقد العلامة الأميني فصلا أسماه « التبرك بالقبر الشريف بالتزام وتمريغ وتقبيل » وذكر هناك نصوصاً كثيرآ تحكي عن جريان السيرة على التبرك بالقبر الشريف ، فمن أراد فليرجع إلى الجزء الخامس : ص 146 ـ 164.

________________________________________

1 ـ شرح نهج البلاغة ج 15 ص 242.