في الاُصول الخمسة عند المعتزلة - الاصل الثالث والرابع والخامس

          الأصل الثّالث

          الوعد والوعيد

              هذا هو الأصل الثّالث من الاُصول الّتي بني عليها الاعتزال ، والمراد من الوعد هو المدح والثّواب على الطّاعات ، و من الوعيد الذّمّ والعقاب على المعاصي.

    والمسائل المبتنية على الوعد والوعيد في الكتاب والسنّة والعقل كثيرة طرحها المتكلِّمون و المفسِّرون في كتبهم الكلاميّة والتفسيريّة. وليست المعتزلة متفرِّدة بالرأي في هذه المسائل وإنّما تفرّدوا في بعض الفروع و لأجل ذلك نذكر عناوين المسائل الكليّة ، ثمّ نركِّز على متفرِّدات المعتزلة ، وإليك البيان:

    1 ـ الكلام في المستحَقّ بالأفعال ( الطّاعة والعصيان ) فهو إمّا المدح والذّمّ ، أو الثّواب والعقاب.

    2 ـ الكلام في الشروط الّتي معها تستحقّ هذه الأحكام.

    3 ـ هل الثّواب على وجه التفضّل كما هو المشهور لدى الشّيعة و جماعة من أهل السنّة ، أو من باب الاستحقاق ، كما هو المشهور لدى معتزلة البصرة؟

    4 ـ هل استحقاق العقاب عقليّ و سمعيّ ، أو سمعيّ فقط؟

    5 ـ هل الطّاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب ، والمعاصي مؤثِّرة في سقوط الثّواب ، فيعبّر عن الأوّل بالتّكفير ، وعن الثاني بالإحباط؟

    6 ـ تقسيم المعاصي إلى الكبائر والصّغائر.

 

          ________________________________________

          (393)

              هذه هي المسائل الّتي اختلفت فيها كلمة المتكلّمين من غير فرق بين المعتزليّ وغيره ولا نركّز البحث على هذه المسائل ، وإنّما نبحث في المسائل الآتية الّتي تعدّ من متفرّدات المعتزلة.

    أ ـ هل يحسن من الله تعالى عقلاً أن يعفو عن العصاة و أن لا يعاقبهم إذا ماتو بلا توبة ، أو إنّه ليس له إسقاطه؟

    ب ـ هل الفاسق ( مرتكب الكبائر ) مخلّد في العذاب أو لا؟ سواء أكان العذاب بالنّار أم بغيرها.

    ج ـ إذا كان التّخليد في العذاب أمراً محقّقا ، فما معنى الشّفاعة الّتي تضافر عليها الكتاب والسنّة المفسّرة بخروج الفسّاق من النّار بشفاعة الرّسول و غيره؟

    د ـ هل القائلون بجواز العفو أو عدم الخلود مرجئة أم راجية؟

    هـ ـ هل الطّاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب ، والمعاصي مؤثرة في سقوط الثّواب؟

    هذه هي المسائل الّتي تفرّدت بها المعتزلة ، واشتركت معهم فئة الخوارج في تخليد الفسّاق في العذاب ، لقولهم بكفر المرتكب للكبيرة ، وهذا الأصل ـ أي الوعد والوعيد ـ رمز إلى هذه المسائل الخمس الأخيرة.

 

أ ـ هل يحسن العفو عن العصاة من الله أو لا؟

    اختلفت مدارس الاعتزال فيها ، فالبصريّون و منهم القاضي عبدالجبّار على الجواز ، والبغداديّون على المنع ، حتّى قالوا: يجب عليه أن يعاقب المستحقّ للعقوبة ، ولا يجوز أن يعفو عنه ، حتّى صار العقاب عندهم أعلى حالاً في الوجوب من الثّواب. فإنّ الثّواب عندهم لا يجب إلاّ من حيث الجود. وليس هذا قولهم في العقاب فإنّه يجب فعله على كلِّ حال.

 

          ________________________________________

          (394)

              احتجّ القاضي على الجواز بأنّ العقاب حقّ الله تعالى على العبد ، وليس في إسقاطه إسقاط حقّ ليس من توابعه ، وإليه استبقاؤه فله إسقاطه ، كالدّين فإنّه لمّا كان حقّاً لصاحب الدّين خالصا ، ولم يتضمّن إسقاط حقّ ليس من توابعه وكان إليه استبقاؤه ، كان له أن يسقط كما أنّ له أن يستوفيه.

    استدلّ البغداديّون بوجوه:

    الأوّل: إنّ العقاب لطف من جهة الله تعالى واللُّطف يجب أن يكون مفعولاً بالمكلّف على أبلغ الوجوه ، ولن يكون كذلك إلاّ والعقاب واجب على الله تعالى. فمعلوم أنّ المكلّف متى علم أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه ، كان أقرب إلى أداء الواجبات و اجتناب الكبائر (1).

    يلاحظ عليه: أنّ اللُّطف عبارة عمّا يقرِّب الإنسان من الطّاعة و يبعِّده عن المعصية ، وهذا لا يتصوّر إلاّ في دار التّكليف لا دار الجزاء ، ففي الاُولى العمل والسّعي ، وفي الاُخرى الحساب والاجتناء.

    وأمّا ما ذكروه أخيراً من أنّه لو علم المكلّف أنّه يفعل به ما يستحقّه من العقوبة على كلِّ وجه كان أقرب إلى أداء الواجبات و اجتناب الكبائر فيلاحظ عليه: أنّه لو تمّ لوجب سدّ باب التّوبة ، لإمكان أن يقال إنّ المكلّف لو علم أنّه لا تقبل توبته ، كان أقرب إلى الطّاعة ، وأبعد من المعصية.

    أضف إلى ذلك إنّ للرجاء آثاراً بنّاءة في حياة الإنسان ، ولليأس آثاراً سلبيّة في الادامة على الموبقات ، ولأجل ذلك يشتمل الذِّكر الحكيم على آيات التّرغيب كما يشتمل على آيات التّرهيب.

    وأخيراً نقول: إنّ القول بجواز العفو ، غير القول بحتميّته. و الأثر السّلبي ـ لو سلّمنا ـ يترتّب على الثاني دون الأوّل ، والكلام في جواز العفو لا في وجوبه و حتميّته.

          ________________________________________

              1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 646 و 647.

          ________________________________________

          (395)

              الثّاني: مانقله عنهم العلاّمة الدوّاني في ( شرح العقائد ) ، قال: « المعتزلة والخوارج أوجبوا عقاب صاحب الكبيرة إذا مات بلا توبة ، و حرّموا عليه العفو. واستدلّوا عليه بأنّ الله أوعد مرتكب الكبيرة بالعقاب ، فلو لم يعاقب لزم الخلف في وعده والكذب في خبره ، وهما محالان » (1).

    واُجيب عنه بأنّ الوعد والوعيد مشروطان بقيود و شروط معلومة من النّصوص ، فيجوز التخلّف بسبب انتفاء بعض تلك الشّروط (2).

    وربّما اُجيب بوجه آخر وهو أنّ الخلف في الوعيد جائز على الله تعالى و إن كان لا يجوز أن يخلف الوعد. وروي عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: « من وعده الله على عمله ثواباً فهو منجز له ، ومن أوعده على عمله عقاباً فهو في الخيار » (3).

    وروي أنّ عمرو بن عبيد ( رئيس المعتزلة بعد واصل ) جاء إلى أبي عمرو بن العلاء وقال: يا أبا عمرو ، يخلف الله ما وعده؟ قال: لا. قال: أفرأيت من أوعده الله على عمل عقاباً ، أيخلف الله وعيده فيه؟ فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت يا أبا عثمان ، إنّ الوعد غير الوعيد. إنّ العرب لا يَعدّ عيباً ولا خلفاً ، أن يعد شرّاً ثمّ لم يفعل ، بل يرى ذلك كرماً و فضلاً ، وإنّما الخلف أن يعد خيراً ثمّ لم يفعل. قال ( عمرو بن عبيد ) فأوجدني هذا العرب. قال:نعم ، أما سمعت قول الشاعر:

وإنّي إذا أوعدته أو وعدته                 لمخلف إيعادي و منجز موعدي

              وذكر الشاعر الآخر:

إذا وعد السرّاء أنجز وعده                وإن أوعد الضرّاء فالعفو مانع (4)

          ________________________________________

              1 ـ شرح العقائد العضدية: ج 2 ص 194 ـ 198. المطبوع مع حاشية اسماعيل الكلنبوي عام 1319 في الاستانة.

    2 ـ شرح العقائد العضدية: ج 2 ص 194 ـ 198. المطبوع مع حاشية اسماعيل الكلنبوي عام 1319 في الاستانة.

    3 ـ شرح العقائد العضدية ج 2 ص 194 ـ 199 والمتن للقاضي الايجي ( المتوفى عام 756 ) والشرح لجلال الدين الدواني ( المتوفى عام 908 ، أو 909هـ ) طبعا مع حواشي الشيخ اسماعيل الكلنبوي المتوفى ( عام 1205هـ ) في استنبول ( عام 1317هـ ).

    4 ـ المعتزلة: ص 157 ، والظاهر منه أنّه نقله عن الجويني في كتابه « الارشاد الى قواطع الأدلّة إلى صحيح الاعتقاد ».

          ________________________________________

          (396)

              يلاحظ على الجواب الأوّل أنّه احتمال محض يثبت به الامكان لا الوقوع ، ويرتفع به الاستحالة. ولعلّ الغاية هي اثبات الامكان.

    وأمّا الجواب الثّاني فظاهره أشبه بالبحث اللّفظي و الأدبي ، مع أنّ المسألة عقليّة ، ولعلّ المجيب يريد شيئاً آخر أشار إليه شيخنا المفيد في كتاب « العيون والمحاسن » وهو التّفصيل بين الوعد والوعيد ، وأنّ الخلف في الأوّل قبيح عقلاً والخلف في الثّاني ليس بقبيح عقلاً. والدّليل على ذلك أنّ كلّ عاقل يستحسن العفو بعد الوعيد في ظروف خاصّة ، ولا يعلِّقون بصاحبه ذمّاً. فلو كان العفو من الله تعالى مع الوعيد قبيحاً ، يجب أن يكون كذلك عند كلِّ عاقل.

    ولعلّ وجه ذلك أنّ الخلف في الوعد إسقاط لحقّ الغير و إمساك عن أداء ما عليه من الحقّ ، وأمّا الوعيد فإنّ مآل الخلف إلى إسقاط حقّ نفسه ، ومثل ذلك يعدّ مستحسناً لا قبيحاً إذا وقع الخلف في موقعه.

    الثالث : إنّ في جواز ذلك إغراء للمكلّف بفعل القبيح اتّكالاً منه على عفو الله ، فالعقاب ضروري ، لأنّه زاجر عن ارتكاب القبائح ، كما أنّ في العفو تسوية بين المطيع والعاصي و ذلك ما لا يتّفق مع العدل (1).

    يلاحظ عليه: أنّ الاغراء لازم القول بالعفو قطعاً كما عليه المرجئة ، لا القول به احتمالاً كما عليه الراجئة ، ولو صحّ ما ذكر ، لبطل الوعد بالتّوبة والشفاعة ، وأمّا حديث التّسوية ، فهو يرتفع باثابة المطيع دون العاصي و إنّما يلزم بتسويتهما في الثواب أيضاً.

    إلى هنا تمّ الكلام في المسألة الاُولى و ثبت أنّ العفو عن العصاة من المسلمين جائز. ولأجل ذلك يقول الصّدوق في تبيين عقائد الإماميّة:

    اعتقادنا في الوعد والوعيد هو أنّ من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه ، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار إن عذّبه فبعدله ، وإن عفا عنه فبفضله ( ومَا رَبُّكَ

          ________________________________________

              1 ـ المعتزلة: ص 157 ، والظاهر منه أنّه نقله عن الجويني في كتابه « الارشاد الى قواطع الأدلّة إلى صحيح الاعتقاد ».

          ________________________________________

          (397)

          بِظَلاّم لِلْعَبِيد ) وقال عزّوجلّ: ( إنّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ و يَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) (1).

    هذا هو موجز الكلام في المسألة الأولى ، وإليك البحث في مسألة التّخليد.

 

ب ـ هل الفاسق مخلد في العذاب أو لا؟

    هذا هو البحث المهمّ في هذا الأصل ، ويعدّ بيت القصيد في فروعه. لا شكّ أنّ الله تعالى أوعد المجرمين التّخليد في العذاب ، فهل هو مختصّ بالمشركين والمنافقين أو يعمّ مرتكب الكبائر؟ ذهبت المعتزلة إلى عمومها و صار القول بالتّخليد شارة الاعتزال وسمته ، وخالفوا في ذلك جمهور المسلمين. قال المفيد: « اتّفقت الإمامية على أنّ الوعيد بالخلود في النّار متوجّه إلى الكفّار خاصّة ، دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى و الاقرار بفرائضه من أهل الصّلاة ، و وافقهم على هذا القول كافّة المرجئة سوى محمّد بن شبيب و أصحاب الحديث قاطبة. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك و زعموا أنّ الوعيد بالخلود في النّار عامّ في الكفّار ، وجميع فسّاق أهل الصّلاة » (2).

    ثمّ إنّ المعتزلة استدلّت على خلود الفاسق في النّار بالسّمع وهو عدّة آيات ، استظهرت من إطلاقها أنّ الخلود يعمّ الكافر و المنافق والفاسق ، و إليك هذه الآيات واحدة بعد الاُخرى:

    الآية الأولى: قوله سبحانه: ( وَ مَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) ( النساء / 14 ) (3).

    ولا شكّ أنّ الفاسق ممّن عصى الله و رسوله بترك الفرائض و ارتكاب المعاصي.

          ________________________________________

              1 ـ أوائل المقالات: ص 14. والآيتان من سورتي فصّلت 46 والنساء 48.

    2 ـ أوائل المقالات: ص 14.

    3 ـ وأمّا قوله سبحانه: ( ومن يعص الله ورسوله فان له نار جهنم خالدين فيها ) ( الجن 23 ). فهو راجع الى الكفار ، كما هو واضح لمن لاحظ آيات السورة.

          ________________________________________

          (398)

              يلاحظ عليه: أوّلاً : إنّ دلالة الآية على خلود الفاسق في النّار لا يتجاوز حدّ الاطلاق ، والمطلق قابل للتّقييد ، وقد خرج عن هذه الآية باتّفاق المسلمين ، الفاسق التائب. فلو دلّ دليل هنا على أنّ المسلم الفاسق ربّما تشمله عناية الله و رحمته ، ويخرج عن العذاب ، لكان المطلق مقيّداً بقيد آخر وراء التّائب. فيبقى تحت الآية ، المشرك والمنافق.

    وثانياً: إنّ الموضوع في الآية ليس مطلق العصيان ، بل العصيان المنضمّ إليه تعدّي حدود الله ، ومن المحتمل جدّاً أنّ المراد من التعدّي هو رفض أحكامه سبحانه ، وطردها ، وعدم قبولها. كيف ، وقد وردت الآية بعد بيان أحكام الفرائض.

    يقول سبحانه: ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنْثَيَيَنِ... ) ( النساء / 11 ).

    ويقول سبحانه: ( وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ... ) ( النساء / 12 ).

    ويقول سبحانه: ( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ... ) ( النساء / 13 ).

    ثمّ يقول سبحانه: ( وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ... ) ( النساء / 14 ).

    وقوله: ( ويتعدّ حدوده ) وإن لم يكن ظاهراً في رفض التّشريع ، لكنّه يحتمله ، بل ليس الحمل عليه بعيداً بشهادة الآيات الاُخرى الدالّة على شمول غفرانه لكلِّ ذنب دون الشّرك ، أو شمول رحمته للناس على ظلمهم إلى غير ذلك من الآيات الواردة في حقّ الفاسق غير التائب كما سيوافيك.

    يقول الطّبرسي ـ رحمه الله ـ : « إنّ قوله: ( ويتعدّ حدوده ) ظاهر في تعدّي جميع حدود الله ، وهذه صفة الكفّار. ولأنّ صاحب الصّغيرة بلا خلاف خارج عن عموم الآية وإن كان فاعلاً للمعصية ، ومتعدّياً حدّاً من حدود الله. وإذا جاز إخراجه بدليل ، جاز لغيره أن يخرج من عمومها من يشفع له النّبي ، أو يتفضّل الله عليه بالعفو ، بدليل آخر. وأيضاً فإنّ التائب لا بدّ من إخراجه من عموم الآية لقيام الدّليل على وجوب قبول

 

          ________________________________________

          (399)

              التّوبة. وكذلك يجب إخراج من يتفضّل الله بإسقاط عقابه منها لقيام الدّلالة على جواز وقوع التفضّل بالعفو » (1).

    الآية الثّانية: قوله سبحانه: ( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا وَ غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ) ( النساء / 93 ).

    قال القاضي: « وجه الاستدلال هو أنّه تعالى بيّن أنّ من قتل مؤمناً عمداً جازاه ، وعاقبه ، وغضب عليه ، ولعنه وأخلده في جهنّم » (2).

    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ دلالة الآية بالاطلاق ، فكما خرج منه القاتل الكافر إذا أسلم ، والمسلم القاتل إذا تاب ، فليكن كذلك من مات بلا توبة ولكن اقتضت الحكمة الالهيّة أن يتفضّل عليه بالعفو. فليس التّخصيص أمراً مشكلاً.

    وثانياً: إنّ المحتمل أن يكون المراد القاتل المستحلّ لقتل المؤمن ، أو قتله لإيمانه. وهذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات.

    لاحظ قوله سبحانه: ( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَومَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً ) ( النساء / 91 ).

    ثمّ ذكر سبحانه بعد هذه الآية حكم قتل المؤمن خطأً و تعمّداً ، وفي ضوء هذا يمكن أن يستظهر أنّ الآية ناظرة إلى القتل العمديّ الّذي يقوم به القاتل لعداء دينيّ لاغير ، فيكون ناظراً إلى غير المسلم.

    الآية الثّالثة: قوله سبحانه: ( بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولِئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( البقرة / 81 ).

          ________________________________________

              1 ـ مجمع البيان: ج 2 ، ص 20 ، طبعة صيدا.

    2 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 659.

          ________________________________________

          (400)

              والاستدلال بهذه الآية إنّما يصحّ مع غضِّ النّظر عن سياقها ، وأمّا مع النّظر إليه فإنّها واردة في حقِّ اليهود ، أضف إليه أنّ قوله سبحانه: ( وأحاطت به خطيئته ) لايهدف إلاّ إلى الكافر ، فإنّ المسلم المؤمن مهما كان عاصياً لا تحيط به خطيئة ، ففي قلبهنقاط بيضاء يشعّ عليها إيمانه و اعتقاده بالله سبحانه و أنبيائه و كتبه على أنّ دلالة الآية بالاطلاق ، فلو ثبت ما تقوله جمهرة المسلمين ، يخرج الفاسق من الآية بالدّليل.

    الآية الرابعة:قوله سبحانه: ( إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَاب جَهَنَّمَ خَالدُونَ* لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فَيْهِ مُبْلِسُون * وما ظَلَمْنَاهُمْ ولكِنْ كَانُوا هُمُ الظّالمين ) ( الزخرف / 74 ـ 76 ).

    إنّ دلالة الآية بالإطلاق فهي قابلة للتّقييد أوّلاً. وسياق الآية في حقِّ الكفّار ثانياً ، بشهادة قوله سبحانه قبل هذه الآية : ( الَّذِينَ آمَنُوا بِ آيَاتِنَا وَ كَانُوا مُسْلِمِين * ادخُلُوا الجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ) ( الزخرف / 69 ـ 70 ).

    ثمّ يقول : ( إنّ المجرمين في عذاب جهنّم خالدون ) » ف ـ « المجرمين » في مقابل « الّذين آمنوا » فلايعمّ المسلم.

    هذه هي الآيات الّتي استدلّت بها المعتزلة على تخليد الفاسق في النّار. وقد عرفت أنّ دلالتها بالاطلاق لا بالصِّراحة ، وتقييد المطلق أمر سهل ، مثل تخصيص العام ، مضافاً إلى انصراف أكثرها أو جميعها إلى الكافر والمنافق. وهناك آيات (1) أظهر ممّا سبق تدلّ على شمول الرّحمة الإلهيّة للفسّاق غير التّائبين ، وإليك بيانها:

    1 ـ قوله سبحانه: ( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ المَثُلاتُ وَإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة للنّاس عَلَى ظُلمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ ) ( الرعد / 6 ).

    قال الشريف المرتضى: « في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة ، لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين. لأنّ قوله: ( على ظلمهم )

          ________________________________________

              1 ـ كما تدلّ هذه الآيات على عدم الخلود في النار ، تدلّ على جواز العفو عن الفاسق من بدء الأمر ، وأنّه يعفى عنه ولا يعذّب من رأس ، فهذا الصنف من الآيات كما تحتجُّ بها في هذه المسألة ، تحتج بها في المسألة السالفة أيضاً فلاحظ.

          (401)

              إشارة إلى الحال الّتي يكونون عليها ظالمين ، ويجري ذلك مجرى قول القائل: أنا أودّ فلاناً على غدره ، وأصِلُه على هجره » (1).

    وقد قرّر القاضي دلالة الآية و أجاب عنه بأنّ الأخذ بظاهر الآية ممّا لا يجوز بالاتّفاق ، لأنّه يقتضي الاغراء على الظّلم ، وذلك ممّا لا يجوز على الله تعالى ، فلا بدّ من أن يؤوّل ، وتأويله هو أنّه يغفر للظّالم على ظلمه إذا تاب (2).

    يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره من الإشكال ، جار في صورة التّوبة أيضاً ، فإنّ الوعد بالمغفرة مع التّوبة يوجب تمادي العاصي في المعصية برجاء أنّه يتوب. فلو كان القول بعدم خلود المؤمن موجباً للاغراء ، فليكن الوعد بالغفران مع التّوبة كذلك.

    والّذي يدلّ على أنّ الحكم عامّ للتّائب و غيره هو التّعبير بلفظ « الناس » مكان « المؤمنين ». فلو كان المراد هو التّائب لكان المناسب أن يقول سبحانه: « وإنّ ربّك لذو مغفرة للمؤمنين على ظلمهم » مكان قوله للناس. وهذا يدلّ على أنّ الحكم عامّ يعمّ التائب و غيره.

    وفي الختام ، إنّ الآية تعد المغفرة للنّاس ولا تذكر حدودها و شرائطها ، فلا يصحّ عند العقل الاعتماد على هذا الوعد و ارتكاب الكبائر. فإنّه وعد إجماليّ غير مبيّن من حيث الشّروط و القيود.

    2 ـ قوله سبحانه: ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِك بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً ) ( النساء / 48 ).

    وجه الاستدلال بهذه الآية على أنّ رحمته تشمل غير التّائب من الذنوب ، أنّه سبحانه نفى غفران الشِّرك دون غيره من الذٌّنوب ، وبما أنّ الشرك يغفر مع التّوبة فتكون الجملتان ناظرتين إلى غير التائب ، فمعنى قوله: « إنّ اللّهَ لا يغفِرُ أن يشركَ » أنّه لا يغفر إذا مات بلا توبة ، كما أنّ معنى قوله: « و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء » أنّه يغفر ما دون

          ________________________________________

              1 ـ مجمع البيان: ج 3 ، ص 278.

    2 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 684.

          ________________________________________

          (402)

              الشِّرك من الذنوب بغير توبة لمن يشاء من المذنبين. ولو كانت سائر الذنوب مثل الشِّرك غير مغفورة إلاّ بالتّوبة ، لما حسن التّفصيل بينهما ، مع وضوح الآية في التّفصيل (1).

    وقد أوضح القاضي دلالة الآية على ما يتبنّاه الجمهور بوجه رائع ، ولكنّه تأثّراً بعقيدته الخاصّة في الفاسق قال: « إنّ الآية مجملة مفتقرة إلى البيان لأنّه قال: « و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء » ولم يبيِّن من الّذي يغفر له. فاحتمل أن يكون المراد به أصحاب الصغائر ، واحتمل أن يكون المراد به أصحاب الكبائر. فسقط احتجاجهم بالآية (2).

    أقول: عزب عن القاضي أنّ الآية مطلقة تعمّ كلا القسمين ، فأيّ إجمال في الآية حتّى نتوقّف. والعجب أنّه يتمسّك بإطلاق الطّائفة الاُولى من الآيات ، ولكنّه يتوقّف في إطلاق هذا الصِّنف.

    نعم ، دفعاً للاغراء ، وقطعاً لعذر الجاهل ، قيّد سبحانه غفرانه بقوله: « لمن يشاء » حتّى يصدّه عن الإرتماء في أحضان المعصية بحجّة أنّه سبحانه وعد له بالمغفرة.

    ثمّ إنّ القاسم بن محمّد بن عليّ الزّيدي العلويّ المعتزلي تبع القاضي في تحديد مداليل هذه الآيات وقال: آيات الوعيد لا إجمال فيها ، وهذه الآيات و نحوها مجملة فيجب حملها على قوله تعالى ( وإني لغفّارٌ لمن تابَ و آمَنَ و عَمِلَ صَالحاً ثُمَّ اهْتَدى ) ( طه / 82 ) ثمّ ساق بعض الآيات الواردة في غفران العباد في مجال التّوبة (3).

    ويظهر النّظر في كلامه ممّا قدّمناه في نقد كلام القاضي فلا نعيد.

    إلى غير ذلك من الآيات الّتي استدلّ بها جمهور المسلمين على شمول مغفرته سبحانه لعصاة المسلمين ، وعدم تعذيبهم ، أو إخراجهم من العذاب ، بعد فترة خاصّة.

    هذا ، والبحث أشبه بالبحث التّفسيري منه بالكلامي. ومن أراد الاستقصاء في هذا المجال فعليه جمع الآيات الواردة حول الذّنوب والغفران ، حتّى يتّضح الحال فيها ، ويتّخذ موضعاً حاسماً بإزاء اختلافاتها الأوّليّة.

          ________________________________________

              1 ـ مجمع البيان: ج 2 ص 57 بتلخيص.

    2 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 678.

    3 ـ الأساس لعقائد الأكياس: ص 198.

          ________________________________________

          (403)

          ج ـ هل الشّفاعة للتائبين من المؤمنين أو للفسّاق منهم؟

    إنّ هذه المسألة مبنيّة على المختار في المسألة السابقة ، ولمّا كان المختار عند جمهور المسلمين جواز العفو عن الفاسق ، أو عدم تخليده بعد تعذيبه مدّة ، قالوا بأنّ الشّفاعة للفسّاق وأنّ شفاعة الشّفعاء تجلب عفوه سبحانه إليهم ، فيعفو عنهم من بدء الأمر ، أو بعد ما يعذِّبهم فترة.

    وأمّا المعتزلة ، فلمّا كان المختار عندهم في المسألة السابقة خلود الفاسق في العذاب ، خصّوا الشّفاعة بالتّائبين من المؤمنين ، وصار أثرها عندهم ترفيع المقام لا الانقاذ من العذاب ، أو الخروج منه.

    وهذه هي النّقطة الحسّاسة في الأبحاث الكلاميّة الّتي لها صلة بكتاب الله و سنّته. فالمعتزلة في المقام أوّلوا صريح القرآن و الروايات وقالوا: إنّ شفاعة الفسّاق الّذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا ، يتنزّل منزلة الشّفاعة لمن قتل ولد الغير و ترصّد للآخر حتّى يقتله; ، فكما أنّ ذلك يقبح فكذلك هيهنا (1).

    والخطأ في تفسير آيات الشّفاعة ، و رفض الروايات المتواترة ، حدث من الخطأ في المسألة السّابقة. وهكذا شيمة الخطأ و خاصّته فلا يقف عند حد ، قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « ألا و إنّ الخطايا خيل شمس ، حمل عليها أهلها ، و خلعت لجمها » (2).

    وما ذكره القاضي غفلة عن شروط الشّفاعة ، المحرّرة في محلِّها ، فإنّ بعض الذّنوب الكبيرة ربّما تقطع العلائق الإيمانيّة بالله سبحانه ، كما تقطع الأواصر الروحيّة مع النّبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم فأمثال هؤلاء العصاة لا تشملهم الشّفاعة ، وقد وردت الروايات الإسلاميّة حول شروط الشّفاعة ، و في حرمان طوائف من الناس منها.

    والعجب أنّ القاضي يستدلّ على أنّ العقوبة على طريق الدّوام ، ولا يخرج الفاسق

          ________________________________________

              1 ـ شرح الاُصول الخمسة: ص 688.

    2 ـ نهج البلاغة: الخطبة 61.

          ________________________________________

          (404)

              من النّار بشفاعة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم بقوله سبحانه: ( واتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفُسٌ عَنْ نَفْس شيئاً ) ( البقرة / 48 ) ، وقوله سبحانه: ( ما للظّالمين من حميم ولا شَفِيع يُطَاعُ ) ( غافر / 18 ) (1).

    يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ الاُسلوب الصّحيح لتفسير القرآن الكريم هو تجريد المفسِّر نفسه عن كلِّ رأي سابق أوّلاً ، وجمع الآيات المربوطة بموضوع واحد ثانياً. فعند ذلك يقدر على فهم المراد. والقاضي نظر إلى الآيات بمنظار الاعتزال أوّلاً ، ولم يجمع الآيات الراجعة إلى الشّفاعة ثانياً ، مع أنّ الآيات الراجعة إلى الشّفاعة على سبعة أصناف (2) فأخذ صنفاً واحداً و ترك الأصناف الاُخر.

    ثانياً: ما ذكره من الآيتين في نفي الشفاعة راجعتان الى الكفّار. فالآية الاُولى ناظرة إلى نفي الشّفاعة الّتي كانت اليهود يتبنّونها كما هو صريح سياقها ، والآية الثانية الّتي وردت في السّورة المكّية ناظرة إلى الشّفاعة الّتي كان المشركون يعتقدون بها. قال سبحانه حاكياً عنهم: ( إذ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العالمين * وما أَضَلَّنَا إلاّ المُجْرِمُون * فَما لَنَا مِن شَافِعِين * ولا صَدِيق حَمِيم ) ( الشعراء / 98 ـ 101 ).

    وقال سبحانه: ( وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّى أَتَينَا اليَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِين ) ( المدثر / 46 ـ 48 ).

    ثالثاً: أنّ مسألة الشّفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها ، بل كانت فكرة رائجة بين أمم العالم من قبل ، و خاصّة الوثنيّين واليهود ، والإسلام طرحها مهذّبة من الخرافات ، و ممّا نسج حولها من الأوهام ، و قرّرها على اُسلوب يوافق اُصول العدل والعقل ، وصحّحها تحت شرائط في الشّافع والمشفوع له ، و هي الّتي تجرّ العصاة إلى الطّهارة من الذّنوب ، وكفّ اليد عن الآثام والمعاصي ، ولا توجد فيهم جرأة وجسارة على هتك السّتر.

    و من امعن النظر في آراء اليهود والوثنيّين في أمر الشّفاعة أنّ الشّفاعة تقف على

          ________________________________________

              1 ـ الاصول الخمسة: ص 689.

    2 ـ لاحظ في الوقوف على هذه الأصناف الجزء الرابع من مفاهيم القرآن 177 ـ 199.

          ________________________________________

          (405)

              الدّارجة بينهم ، خصوصاً اليهود ، كانت مبنيّة على رجائهم لشفاعة أنبيائهم و آبائهم في حطِّ ذنوبهم ، وغفران آثامهم. ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ، ويرتكبون الذّنوب تعويلاً على ذلك الرّجاء.

    وفي هذا الموقف يقول سبحانه ردّاً على تلك العقيدة الباعثة على الجرأة: ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإِذْنِهِ ) ( البقرة / 55 ) ، ويقول أيضاً رفضاً لتلك الشّفاعة المحرّرة من كلِّ قيد: ( ولا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ) ( الأنبياء / 28 ).

    وحاصل الآيتين أنّ أصل الشّفاعة الّتي تدّعيها اليهود و يلوذ بها الوثنيّون حقّ ثابت في الشّريعة السماويّة ، غير أنّ لها شروطاً أهمّها إذنه سبحانه للشّافع ، و رضاه للمشفوع له.

    وعلى ذلك فكيف يصحّ لنا تخصيص الآيات بقسم خاصّ من الشّفاعة و هي شفاعة الأولياء لرفع الدّرجة و زيادة الثّواب.

    وأوضح دليل على عموميّة الشّفاعة ما أصفق على نقله المحدِّثون من قوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : « ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي ». والقاضي رمى هذا الحديث بأنّه خبر واحد لا يصحّ به الاحتجاج في باب العقائد. وما ذكره يعرب عن قصور باعه في مجال الحديث. فقد رواه من أئمّة الحديث أبو داود في سننه ، والتّرمذي في صحيحه ، وابن حنبل في مسنده ، وابن ماجة في صحيحه (1).

    وليس حديث الشّفاعة الدالّ على شمولها لأصحاب الكبائر منحصراً به ، بل أحاديث الشّفاعة في هذا المجال متواترة ، وقد جمعنا ما رواه السنّة والشيعة في هذا المجال في كتابنا « مفاهيم القرآن » (2).

          ________________________________________

              1 ـ راجع سنن ابي داود ، ج 4 ، ص 236. وصحيح الترمذي ، ج 4 ، ص 45. وصحيح ابن ماجة ، ج 2 ، ص 144. ومسند احمد ، ج 3 ص 213.

    2 ـ لاحظ: ج 4 ، فصل الشفاعة في الأحاديث الاسلاميّة ، ص 289 ـ 311. فتجد في تلك الصحائف ( 112 ) حديثاً عن النبي وعترته. وقد قام العلامة المجلسي بجمع احاديث الشفاعة في موسوعته بحار الانوار ( ج 8 ، ص 29 ـ 63 ) وروى بعضها الآخر في سائر أجزائه. كما روى علاء الدين المتقي احاديث الشفاعة في كنز العمال ج 14ص 628 ـ 640.

          ________________________________________

          (406)

          د ـ القائلون بجواز العفو أو عدم الخلود ، مرجئة أو راجية؟

    قد تعرّفت على عقيدة المرجئة في الفصول السّابقة و أنّ شعارهم أنّه لا تضرّ مع الإيمان معصية ، كما لا تنفع مع الشِّرك طاعة. وقد عرّفناك منهجهم و أنّ هؤلاء بهذا الشعار يغرّون الجهّال بالمعصية واقتراف الذنوب ولا يعتنون بالعمل بحجّة أنّهم مؤمنون في كلِّ حال ، ويعيشون في جميع الأحوال بإرجاء العمل و يقولون: إنّ إيمان واحد منّا يعدل إيمان جبرائيل والنّبيّ الأكرم. هذه هي المرجئة.

    وأمّا جمهرة المسلمين القائلون بجواز العفو وعدم الخلود ، فهم راجية ، يعتقدون بالعقاب والثّواب ، يدعون ربّهم رغباً و رهباً ، ولا يتّكلون في حياتهم على العفو و الرجاء من دون عمل ، غير أنّهم يبثّون بذور الرجاء في قلوب العباد لما فيه من آثار تربويّة. وقد ذكرنا في محلِّه أنّ في القول بالعفو عن العصاة و خروجهم من النّار بالشّفاعة و غيرها ، بصيص من الرجاء ، و نافذة من الأمل فتحه القرآن في وجه العصاة حتّى لا ييأسوا من روح الله و رحمته ، ولئلاّ يغلبهم الشّعور بالحرمان من عفوه ، فيتمادوا في العصيان.

    فالمرجئة من قدّموا الإيمان و أخّروا العمل ، بخلاف الراجية ، فإنّهم جعلوا الإيمان غير منفكّ عن العمل و ينادون بأعلى أصواتهم أنّ الإيمان بلا عمل كشجرة بلا ثمر ، لا يغني ولا يسمن من جوع ، ويخافون ربّهم بالغيب ، ومع ذلك يرجون رحمته. فلا ينفكّ الخوف عن الرجاء ، والرّهبة عن الرغبة.

هـ ـ هل الطاعات مؤثِّرة في سقوط العقاب ، والمعاصي مؤثِّرة في سقوط الثّواب ، و هذا ما يعبّر عنه بالإحباط و التكفير.

    الاحباط في اللّغة بمعنى: الإبطال ، يقال: أحبط الله عمل الكافر. أي أبطله (1).

    والكفر بمعنى « السّتر » و « التّغطية » ، يقال لمن غطّى درعه بثوب: قد كفر درعه ،

          ________________________________________

              1 ـ المقاييس: ج 2 ، مادة حبط ، ص 129.

          ________________________________________

          (407)

              والمكفّر: الرّجل المتغطّي بسلاحه ، ويقال للزّارع: كافر ، لأنّه يغطي الحَبّ بتراب الأرض ، قال الله تعالى: ( كمثلِ غيث أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ) ( سورة الحديد ، الآية 20 ). والكفر ضدّ الإيمان ، سمّي بذلك لأنّه تغطية الحقّ (1).

    والمراد من الحبط هو: سقوط ثواب العمل الصالح المتقدَّم ، بالذّنوب المتأخّرة ، كما أنّ المراد من التّكفير هو سقوط الذّنوب المتقدَّمة ، بالطّاعة المتأخِّرة.

    وبعبارة اُخرى: إنّ الاحباط في عرف المتكلّمين: عبارة عن إبطال الحسنة بعدم ترتّب ما يتوقّع منها عليها ، ويقابله التّكفير وهو: إسقاط السيّئة بعدم جريان مقتضاها عليها ، فهو في المعصية نقيض الاحباط في الطّاعة و لنقدّم الكلام في الإحباط أوّلاً.

 

1 ـ الاحباط

    المعروف عن المعتزلة هو القول بالإحباط ، كما أنّ المعروف عن الاماميّة و الأشاعرة هو أنّه لا تحابط بين المعاصي و الطّاعات والثّواب والعقاب (2).

    قال القاضي عبد الجبّار: « إنّ المكلّف لا يخلو إمّا أن تخلص طاعاته و معاصيه ، أو يكون قد جمع بينهما ، فلا يخلو إمّا أن تتساوى طاعاته و معاصيه ، أو يزيد أحدهما على الآخر ، فإنّه لا بدّ من أن يسقط الأقلّ بالأكثر....وهذا هو القول بالإحباط و التّكفير على ما قاله المشايخ ، وقد خالفنا في ذلك المرجئة ، وعبّادبن سليمان الصّيمري » (3).

    قال التفتازاني: « لا خلاف في أنّ من آمن بعد الكفر والمعاصي فهو من أهل الجنّة بمنزلة من لا معصية له ، ومن كفر بعد الإيمان والعمل الصّالح ، فهو من أهل النّار بمنزلة من لا حسنة له. وإنّما الكلام فيمن آمن و عمل صالحاً و آخر سيّئاً ، واستمرّ على

          ________________________________________

              1 ـ المقاييس: ج 5 ، مادة كفر ، ص 91.

    2 ـ أوائل المقالات: ص 57.

    3 ـ الأصول الخمسة: ص 624 ، وقد ذهب القاضي إلى عدم جواز استحقاق المكلّف الثواب والعقاب إذا كانا مساويين ، فانحصر الأمر في المطيع المحض والعاصي كذلك ومن خلط أحدهما بالآخر على وجه لا يتساويان ، وهذا القسم هو مورد نظريّة الإحباط والتكفير. فلاحظ.

          ________________________________________

          (408)

              الطّاعات والكبائر ، كما يشاهد من النّاس ، فعندنا مآله إلى الجنّة ولو بعد النّار ، واستحقاقه للثّواب والعقاب ، بمقتضى الوعد والوعيد من غير حبوط. والمشهور من مذهب المعتزلة أنّه من أهل الخلود في النّار إذا مات قبل التّوبة ، فأشكل عليهم الأمر في إيمانه و طاعته و ما يثبت من استحقاقاته ، أين طارت؟ وكيف زالت؟ فقالوا بحبوط الطّاعات ، ومالوا إلى أنّ السيّئات يذهبن الحسنات » (1).

    أقول: اشتهر بين المتكلّمين أنّ المعتزلة يقولون بالإحباط و التّكفير ، وأمّا الأشاعرة والإماميّة فهم يذهبون إلى خلافهم. غير أنّ هنا مشكلة وهي أنّ نفيهما على الاطلاق يخالف ما هو مسلّم عند المسلمين من أنّ الإيمان يُكفِّر الكفر ، ويُدخل المؤمن الجنّة خالداً فيها ، و أنّ الكفر يُحبط الإيمان و يخلِّد الكافر في النار. وهذا النّوع من الإحباط و التّكفير ممّا أصفقت عليه الاُمّة ، ومع ذلك كيف يمكن نفيهما في مذهب الأشاعرة و الإماميّة؟ ولأجل ذلك ، يجب الدقّة في فهم مرادهما من نفيهما على الاطلاق ، وسوف يتبيّن الحال في هذين المجالين. هذا ، وإنّ القائلين بالإحباط اختلفوا في كيفيّته ، فمنهم من قال بأنّ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنات القليلة ، وتمحوها بالكليّة ، من دون أن يكون لها تأثير في تقليل الإساءة ، وهو المحكيّ عن أبي عليّ الجبّائي.

    ومنهم من قال بأنّ الإحسان القليل يسقط بالإساءة الكثيرة ، ولكنّه يؤثّر في تقليل الإساءة فينقص الإحسان من الاساءة ، فيجزى العبد بالمقدار الباقي بعد التّنقيص ، وهو المنسوب إلى أبي هاشم.

    وهناك قول آخر في الإحباط وهو عجيب جدّاً ، حكاه التّفتازاني في « شرح المقاصد » وهو أنّ الإساءة المتأخِّرة تحبط جميع الطّاعات و إن كانت الإساءة أقلّ منها قال: حتّى ذهب الجمهور منهم إلى أنّ الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات.

    وعلى هذا (2) ففي الإحباط أقوال ثلاثة:

          ________________________________________

              1 ـ شرح المقاصد: ج 2 ، ص 232.

    2 ـ شرح المقاصد: ج 2 ، ص 232.

          ________________________________________

          (409)

              1 ـ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة من دون تأثير في تقليل الإساءة.

    2 ـ الإساءة الكثيرة تسقط الحسنة القليلة ، مع تأثير الإحسان في تقليل الإساءة.

    3 ـ إنّ الإساءة المتأخِّرة عن الطّاعات ، تبطل جميع الطّاعات من دون ملاحظة القلّة والكثرة.

    إذا عرفت موضع النّزاع في كلام القوم ، فلننقل أدلّة الطّرفين:

أدلّة نفاة الإحباط

    استدلّ النافون بوجهين: عقليّ و نقليّ.

    أمّا الوجه العقليّ: فهو أَنّ القول بالإِحباط يستلزم الظّلم ، لأنّ من أساء و أطاع و كانت إساءته أكثر ، يكون بمنزلة من لم يُحسن. وإن كان إحسانه أَكثر ، يكون بمنزلة من لم يسىء. وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنه أحدهما ، وهو نفس الظّلم (1).

    يلاحظ عليه: أنّ الإِحباط إنّما يعدّ ظلماً ، و يشمُلُه هذا الدّليل ، إذا كان الأكثر من الإِساءة مؤثِّراً في سقوط الأقلّ من الطّاعة بالكلّية ، من دون أن تؤثّر الطّاعة القليلة في تقليل الإساءة الكثيرة ، كما عليه أبو عليّ الجبّائي. وأمّا على القول بالموازنة ، كما هو المحكيّ عن ابنه أبي هاشم ، فلا يلزم الظّلم ، وصورته أن يأتي المكلّف بطاعة استحقّ عليها عشرة أجزاء من الثّواب ، وبمعصية استحقّ عليها عشرين جزءً من العقاب ، فلو قلنا بأنّه يَحسُن من الله سبحانه أَن يفعل به عشرين جزءً من العقاب ، ولا يكون لما استحقّه من الطّاعة أيّ تأثير للزم منه الظّلم. وأَمّا إذا قلنا بأنّه يقبح من الله تعالى ذلك ، ولا يحسن منه أَن يفعل به من العقاب إلاّ عشرة أجزاء ، وأَمّا العشرة الاُخرى فإنّها تسقط بالثّواب الّذي استحقّه على ما أتى به من الطّاعة ، فلا يلزم ذلك.

    يقول القاضي عبدالجبّار بعد نقل مذهب أبي هاشم: « وَ لَعَمري إنّه القول اللاّئق بالله تعالى. دون ما يقوله أبو عليّ و الّذي يدلّ على صحّته هو أَنّ المكلّف أتى

          ________________________________________

              1 ـ كشف المراد: ص 260.

          ________________________________________

          (410)

              بالطاعات على الحدّ الذي أُمر به ، وعلى الحدّ الّذي لو أتى به منفرداً عن المعصية لكان يستحقّ عليها الثّواب ، فيجب أن يستحقّ عليها الثّواب وإن دَنّسها بالمعصية ، إلاّ أَنّه لا يمكن والحالة هذه أَن يوفّر عليه ، على الحدّ الّذي يستحقّه ، لاستحالته ، فلا مانع من أَن يزول من العقاب بمقداره ، لأنّ دفع الضّرر كالنّفع في أنّه مما يعدّ من المنافع.

    ثمّ قال: فأَمّا على مذهب أبي عليّ فيلزم أن لا يكون قد رأى صاحب الكبيرة شيئاً ممّا أتى به من الطّاعات. وقد نصّ الله تعالى على خلافه » (1).

    والأولى أن يستدلّ على بطلان الإحباط بأَنّه يستلزم خُلف الوعد إذا كان الوعد منجّزاً ، كما هو في محلّ النّزاع ، وأمّا إذا كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان به ، فهو خارج عن محلِّ البحث هذا ، من غير فرق بين قول الوالد والولد.

    وأمّا الوجه النّقلي ، فقوله سبحانه: ( فَمَن يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ ) ( سورة الزلزلة: الآية 7 ).

    يلاحظ عليه: أنّ الاستدلال بالآية إنّما يتمّ على القولين الأوّل والثّالث ، حيث لا يكون للإحسان القليل دور ، وأمّا على القول الثّاني ، فالآية قابلة للانطباق عليه ، لأنّه إِذا كان للإحسان القليل ، تأثير في تقليل الإِساءة الكثيرة ، فهو نحو رؤية له ، لأنّ دفع المضرّة كالنّفع في أنّه مما يُعَدّ منفعة. وهذا كما إذا ربح إنسان في تجارة قليلاً ، وخسر في تجارة أُخرى أكثر فأَدّى بعض ديونه من الرِّبح القليل.

    نعم الظّاهر من الآية رؤية جزاء الخير ، وهو بالقول بعدم الإِحباط اَلصق و اَطبق.

سؤال و إجابة

    السؤال: لو كان القول بالاحباط مستلزماً للظّلم ، أو كان مستلزماً لخلف الوعد ، فما هو المخلص فيما يدلّ على حبط العمل ، في غير مورد من الآيات الّتي ورد فيها أنّ

          ________________________________________

              1 ـ شرح الأصول الخمسة: ص 629.

          (411)

              الكفر والارتداد والشرك و الإِساءة إلى النّبي و غير ذلك ممّا يحبط الحسنات (1). ما هو الجواب عن هذه الآيات؟ وما هو تفسيرها؟

    الجواب: إنّ القائلين ببطلان الإحباط يفسِّرون الآيات بأنّ الاستحقاق في مواردها كان مشروطاً بعدم لحوق العصيان بالطّاعات ، فإذا عصى الإِنسان ولم يحقِّق الشرط ، انكشف عدم الاستحقاق.

    ويمكن أن يقال بأنّ الإستحقاق في بدء صدور الطّاعات لم يكن مشروطاً بعدم لحوق العصيان ، بل كان استقرار الإستحقاق في مستقبل الأيّام ، هو المشروط بعدم لحوق المعصية ، فإن فُقِد الشرط فُقِد استقرار الاستحقاق و استمراره.

    يقول الشيخ الطّوسي في تفسير قوله سبحانه: ( وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ ، فأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعمالُهُمْ في الدّنيا والآخرةِ و أُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيْهَا خالِدُونَ ) (2) « معناه أنّها صارت بمنزلة ما لم يكن ، لإيقاعهم إيّاها على خلاف الوجه المأمور به ، وليس المراد أنّهم استحقّوا عليها الثّواب ثمّ انحبطت ، لأنّ الإحباطَ ـ عندنا باطلُ على هذا ال (3)وجه ».

    ويقول الطّبرسي في تفسير قوله سبحانه: ( وَمَنْ يَكْفُر بالإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُو في الآخِرةِ مِنَ الخاسِرينَ ) ( المائدة: الآية 5 ). « وفي قوله: ( فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) هنا دلالة على أنّ حبوط الأعمال لا يترتّب على ثبوت الثّواب. فإنّ الكافر لا يكون له عمل قد ثبت عليه ثواب ، وإنّما يكون له عمل في الظّاهر لو لا كفره لكان يستحقّ الثّواب عليه ، فعبّر سبحانه عن هذا العمل بأنّه حبط ، فهو حقيقة معناه » (4).

    ويقول في تفسير قوله سبحانه: ( وَ يَقولُ الّذين آمنوا أهؤلاءِ الّذينَ أقسموا باللّهِ

          ________________________________________

              1 ـ سنذكرها في آخر البحث.

    2 ـ سورة البقرة: الآية 217.

    3 ـ التبيان: ج 2 ، ص 208 ، ولاحظ: مجمع البيان ، ج 1 ، ص 313.

    4 ـ مجمع البيان: ج 2 ، ص 163.

          ________________________________________

          (412)

          جَهْدَ أَيْمانِهِم إنَّهُم لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُم فَأَصْبَحُوا خَاسِرينَ ) ( سورة المائدة: الآية 53 ). « أي ضاعت أَعمالهم الّتي عملوها لأنّهم أَوقعوها على خلاف الوجه المأمور به ، وبَطَلَماأظهروه من الإِيمان ، لأنّه لم يوافق باطنُهم ظاهرَهُم ، فلم يستحقّوا به الثّواب » (1).

    وبما ذكره الطبرسي يظهر جواب سؤال آخر ، وهو أنّه إذا كان الاستحقاق مشروطاً بعدم صدور العصيان ، فإذا صدر يكشف عن عدم الإستحقاق أبداً ، فكيف يطلق عليه الإِحباط ، وما الإحباط إلاّ الإِبطال والإسقاط ، ولم يكن هناك شيء حتّى يبطل أو يسقط؟

    وذلك لأنّ نفس العمل في الظّاهر سبب و مقتض ، فالإبطال و الإسقاط كما يصدقان مع وجود العلّة التامّة ، فهكذا يصدقان مع وجود جزء العلّة و سببها ومقتضيها ، وهذا كمن ملك أَرضاً صالحة للزراعة فأَحدث فيها ما أفقدها هذه الصّلاحيّة.

    وبعبارة أُخرى ، إنّ الموت على الكفر ، وإن كان يُبطل ثواب جميع الأعمال ، لكن ليس هذا بالإحباط ، بل بشترط الموافاة على الإِيمان في استحقاق الثّواب على القول بالاستحقاق. أو في إنجاز الوعد بالثّواب على القول بعدم الاستحقاق. وهكذا القول في المعاصي الّتي ورد أنّها حابطة لبعض الحسنات من غير قول بالحبط ، بل يكون الإستحقاق أَو الوعد مشروطاً بعدم صدور تلك المعصية.

    والّذي يبدو لنا من هذه الكلمات إنّ النّزاع بين نافي الاحباط و مثبته في هذه الموارد الخاصّة ، أشبه بنزاع لفظي ، لأنّهما متّفقان على النّتيجة وهي عدم ترتّب الثّواب على الإيمان و الأعمال الحسنة إذا لحقها الكفر أو بعض الكبائر ، غير أنّ النافي يقول بأنّه لم يكن هناك ثواب فعليّ حتّى يحبطه الكفر أو بعض الكبائر ، لأنّ ترتّب الثّواب أو الاستحقاق كان مشروطاً بشرط غير حاصل ، والمثبت له يقول بوجوده فعلاً ، لكنّه يسقط

          ________________________________________

              1 ـ مجمع البيان: ج 2 ، ص 207.

          ________________________________________

          (413)

              بهما. وعلى كلّ واحدة من النّظريّتين فالكافر و المرتكب للكبائر ، صفر اليد يوم القيامة.

    نعم ، هذا التّفسير إنّما نحتاج إليه في جانب الاحباط ، وأمّا في جانب التّكفير فلا حاجة إليه ، بل لنا أَن نقول إنّ التّوبة و الأعمال المكفِّرة يذهبان العقاب المكتوب على المعاصي من دون حاجة إلى القول بكون الإستحقاق مشروطاً بالموافاة على الكفر ، لجواز تفضّله سبحانه بالعفو.

    هذا ، ولا يصحّ القول بالإِحباط و التّكفير في كلِّ المعاصي عند النافي ، بل يجب عليه تَتَبُّعُ النّصوص ، فكلّ معصية وردت في الكتاب أو في الآثار الصّحيحة إنّها مذهبة لأثر الإيمان و الحسنة نقول بالاحباط فيها على التّفسير الّذي ذكرناه. وهكذا في جانب التّكفير فلا يمكن لنا أَن نقول إِنّ كلّ حسنة تُذهب السيّئة إلاّ بالنّص. وأمّا على قول المثبت فالظاهر أنّه يقول بأنّ كلّ كبيرة توجب الإحباط للأصل الّذي افترضه صحيحاً وهو خلود مرتكب الكبيرة في النّار على الإطلاق.

    إلى هنا تمّ بيان دليل النّافين للإحباط على الوجه اللاّئق بكلامهم ، والإجابة عليه.

أدلّة مُثبِتي الإِحباط

    استدلّ القاضي على ثبوت الإحباط بوجه عقليّ فقال: « قد ثبت أَنّ الثّواب (1) والعقاب يستحقّان على طريق الدّوام. فلا يخلو المكلّف إمّا أن يستحقّ الثّواب فيثاب ، أَو يستحقّ العقاب فيعاقب ، أَو لا يستحقّ الثّواب ولا العقاب ، فلا يثاب ولا يعاقب ، أَو يستحقّ الثّواب والعقاب ، فيثاب و يعاقب دفعة واحدة ، أَو يؤثّر الأكثر في الأقلّ على ما نقوله:

    لا يجوز أن لا يستحقّ الثّواب ولا العقاب ، فإنّ ذلك خلاف ما اتّفقت عليه الاُمّة. ولا أَن يستحقّ الثّواب والعقاب معاً فيكون مثاباً و معاقباً دفعة واحدة ، لأنّ ذلك

          ________________________________________

              1 ـ يكفي في ذلك كونه مستحقاً للعقاب دائماً فقط ولا يتوقف على استحقاقه للثواب كذلك فلاحظ.

          ________________________________________

          (414)

              مستحيل والمستحيل ممّا لا يستحقّ...

    فلا يصحّ إلاّ ما ذكرناه من أنّ الأقلّ يسقط بالأكثر. و هذا هو الّذي يقوله الشّيخان أبو عليّ و أبو هاشم ولا يختلفان فيه ، وإنّما الخلاف بينهما في كيفيّة ذلك » (1).

    يلاحظ عليه: إنّه مبنيّ على أنّ استحقاق العقاب على وجه الدّوام ، وهو مبنيّ على أنّ مرتكب الكبيرة مُخلّد في النّار ، وبما أنّ الأساس باطل ، فيبطل ما بنى عليه ، فلا دليل على دوام استحقاق العقاب ، وعلى ذلك فالحصر غير حاصر ، وأنّ هنا شقّاً سادساً ترك في كلامه وهو أنّه يستحقّ الثّواب والعقاب معاً لكن لا دفعة واحدة ، بل يعاقب مدّة ثمّ يخرج من النّار فيثاب بالجنّة على ما عليه جمهور المسلمين.

    وقد نقل القاضي عبدالجبّار وجهاً عقليّاً آخر للإِحباط عن الشّيخ أبي عليّ و أجاب عنه ، فلاحظ (2).

تحليل لمسألة الإِحباط

    وهيهنا تحليل آخر للمسألة و هو أَنّ في الثّواب والعقاب أقوال:

    1 ـ الثّواب والعقاب في الآخرة من قبيل الأمور الوضعيّة الجعليّة ، كجعل الاُجرة للعامل ، والعقاب للمتخلّف في هذه النشأة.

    2 ـ الثّواب والعقاب في الآخرة مخلوقان لنفس الإنسان حسب الملكات الّتي اكتسبها في هذه الدّنيا ، بحيث لا يمكن لصاحب هذه الملكة ، السُّكون والهدوء إلاّ بفعل ما يناسبها.

    3 ـ الثّواب و العقاب في الآخرة عبارة عن تمثّل العمل في الآخرة و تجلّيه فيها

          ________________________________________

              1 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 625. وترك تعليل الوجه الأول ( وهو أن يستحق الثواب فقط ) والثاني ( وهو أن يستحق العقاب فقط ) لوضوحه.

    2 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 630 ـ 631 ، وحاصل هذا الدليل أنّ المكلّف ، بارتكاب الكبيرة يخرج نفسه من صلاحيّة استحقاق الثواب. وهو كما ترى دعوى بلا دليل ، إذ لا دليل على أنّ كلّ معصية لها هذا الشأن ، وليست كلّ معصية كالكفر والارتداد والنفاق.

          ________________________________________

          (415)

              بوجوده الاُخروي من دون أَن يكون للنّفس دور في تلك الحياة في تجلّي هذه الأعمال بتلك الصور ، بل هي من ملازمات وجود الإنسان المحشور.

    فلو قلنا بالوجه الأوّل ، كان لما نقلناه من نفاة الحبط ( من أنّ الاستحقاق أو استمراره مشروط بعدم الإتيان بالمعصية ) وجه حسن ، لأنّ الاُمور الوضعيّة ، رفعها ووضعها و تبسيطها و تضييقها ، بيد المقنِّن و المشرع ، وعندئذ يُجمع بين حكم العقل بلزوم الوفاء بالوعد ، وما دلّ من الآيات على وجود الإحباط في موارد مختلفة ، كما سيوافيك.

    وقد عرفت حاصل الجمع ، وهو أَنّ إطلاق الإحباط ليس لإبطال استحقاق الإنسان الثّواب ، بل لم يكن مستحقّاً من رأس لعدم تحقُّق شرط الثّواب ، وأمّا مصحِّح تسميته بالإحباط فقد عرفته أَيضاً ، وهو أَنّ ظاهر العمل كان يحكي عن الثّواب وكان جزء علّة له.

    ولو قلنا بالوجه الثاني ، وحاصله أَنّ الملكات الحسنة و السيّئة الّتي تعدّ فعليّات للنّفس ، تحصل بسبب الحسنات و السيّئات الّتي كانت تصدر من النّفس. فإذا قامت بفعل الحسنات ، تحصل فيها صورة معنويّة مقتضية لخلق الثّواب. كما أَنّه إذا صدر منها سيّئة ، تقوم بها صورة معنويّة تصلح لأن تكون مبدأ لخلق العقاب. وبما أَنّ الإنسان في معرض التّحوّل والتغيّر من حيث الملكات النفسانيّة ، حسب ما يفعل من الحسنات والسيّئات ، فإنّ من الممكن بُطلان صورة موجودة في النّفس و تبدُّلها إلى صورة غيرها ما دامت تعيش في هذه النشأة الدّنيوية.

    نعم ، تقف الحركة و يبطل التّحوّل عند موافاة الموت ، فعند ذلك تثبت لها الصّور بلا تغيير أصلاً.

    فلو قلنا بهذا الوجه ، كان الإحباط على وفق القاعدة ، لأنّ الجزاء في الآخرة ، إِذا كان فعل النّفس و إِيجادها ، فهو يتبع الصّورة الأخيرة للنّفس ، الّتي اكتسبتها قبل الموت ، فإن كانت صورة معنويّة مناسبة للثّواب فالنّفس منعّمة في الثّواب من دون

 

          ________________________________________

          (416)

              مقابلة بالعقاب ، لأنّ الصّورة المناسبة للعقاب قد بطلت بصورة أُخرى. وإذا انعكست الصّورة انعكس الحُكم.

    وأمّا لو قلنا بالوجه الثالث ، وهو تَجَسّم الأعمال و تمثّلها في الآخرة بالوجود المماثل لها ، فالقول بعدم الاحباط هو الموافق للقاعدة ، إذ لا معنى للإِبطال في النشأة الاُخرى.

    غير أَنّ الكلام كلّه في انحصار الثّواب والعقاب بهذين الوجهين الأخيرين (1).

 

عوامل الإحباط و أَسبابه

    البحث عن عوامل الإِحباط و أَسبابه ، بحثُ نقليّ يتوقّف على السّبر و الفحص في الكتاب والسنّة ، ونكتفي في المقام بما جاء في الكتاب العزيز.

1 ـ الإرتداد بعد الإِسلام

    قال سبحانه: ( وَ مَن يرتَدِد مِنكُم عَن دِيِنِه فَيَمُت وَ هُوَ كافِرٌ ، فأُولئكَ حَبِطَت أَعْمالُهُم في الدنيا و الآخرة ، وَ أُولئكَ أَصحابُ النّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ ) ( سورة البقرة: الآية 217 ).

2 ـ الشرك المقارن بالعمل

    يقول سبحانه: ( ما كانَ للمُشركينَ أَنْ يَعمُرُوا مساجِدَ اللّهِ شاهدينَ على أَنْفُسِهِمْ بالكُفْرِ أُولئكَ حَبِطَتْ أَعّْمالُهُم و في النّارِ هُمْ خالِدونَ ) ( سورة التوبة: الآية 17 ).

    وقدكان المشركون يزعمون أَنّ العمل الصالح بنفسه موجب للثّواب ، غير أنّ القرآن شطب على هذه العقيدة ، و صرّح بأنّ الثّواب يترتّب على العمل الصالح ، إذا صدر من فاعل مؤمن.

    ولأجل ذلك أتبع سبحانه الآية السابقة بقوله: ( إنّما يَعْمُرُ مساجِدَ الله مَنْ آمَنَ

          ________________________________________

              1 ـ لاحظ: « الالهيات » ج 1 ، ص 299.

          ________________________________________

          (417)

          باللّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ) ( سورة التوبة: الآية 18 ).

3 ـ كراهة ما أنزل الله

    قال سبحانه: ( وَالّذينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُم وَأَضَلّ أَعّْمالَهُم * ذَلِكَ بأَنّهُمّْ كَرِهُوا ما أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) ( سورة محمد: الآيتان 8 و 9 ).

4 ـ الكُفر

5 ـ الصدُّ عن سبيل الله

6 ـ مجادلة الرسول و مشاقّته

    وقد جاءَت هذه العوامل الثّلاثة في قوله سبحانه: ( إنّ الّذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سبيلِ الله وَ شَاقُّوا الرّسولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيّنَ لَهُمُ الهُدى لَنّْ يَضُرُّوا اللّهَ شَيْئاً وَ سَيُحبِطُ أَعْمالَهُم ) ( سورة محمد: الآية 32. ولاحظ في عامل الكفر ، سورة التوبة: الآية 69 ).

    وهل كلُّ منها عاملٌ مستقلٌٌّ ، أَو أَنّ هنا عاملاً واحداً هو الكفر ، ويكون حينئذ الصّدُّ عن سبيل الله و مشاقّة الرّسول من آثار الكفر ، فهم كفروا ، فصّدوا و شاقّوا؟ وجهان.

    وتظهر الثّمرة فيما لو صَدّ إنسانٌّ عن سبيل الله لأغراض دنيويّة ، أَو شاقّ الرّسولَ لحالة نفسانيّة مع اعتقاده التّام بنبوّة ذاك الرّسول و قبح عمل نفسه. فلو قلنا باستقلال كل منها في الحبط ، يحبط عمله ، وإلاّ فلا ، و بما أَنّ الآية ليست في مقام البيان ، بل تحكي عمل قوم كانت لهم هذه الشؤون فلا يمكن استظهار استقلال كلّ منها في الحبط نعم ، يمكن القول بالاستقلال من باب الأولويّة ، وذلك أنّه إذا كان رفع الصّوت فوق صوت النّبي من عوامل الإحباط كما سيأتي فكيف لا يكون الصدّ و القتل من عوامله؟

    7 ـ قتل الأنبياء

    8 ـ قتل الآمرين بالقِسط من الناس

    قال سبحانه: ( إنّ الّذينَ يَكْفُرونَ بآياتِ اللّهِ ، و يَقْتُلونَ النّبِييّنَ بغير حقّ ،

 

          ________________________________________

          (418)

          وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشْرْهُمْ بِعَذَاب أَلِيم* أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَ مَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرينَ ) ( آل عمران: الآيتان 21 ـ 22 ).

9 ـ إساءة الأدب مع النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم

    قال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) ( سورة الحجرات: الآية 2 ).

    وربّما يُتصوّر أَنّ رفع الصّوت ليس عاملاً مستقلاّ ً فى الإحباط ، بل هو كاشف عن كفر الرافع ، ولكنّه احتمال ضعيف ، لأنّ الآية تخاطب المؤمنين به بقولها: ( يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوُا ).

    نعم ، لا يمكن الالتزام بأنّ كلّ إساءة بالنّسبة إلى النّبي تُحبط الأعمال الصّالحة (1) ، إِلاّ إِذا كانت هتكاً في نظر العامّة ، و تحقيراً له في أَوساط المسلمين ، كما هوالظّاهر من أَسباب نزول الآية.

10 ـ الإقبال على الدُنيا و الاعراض عن الاخرة

    قال سبحانه: ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَ زِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَ هُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* اُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاّ النَّارُ وَ حَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَ بَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( سورة هود: الآيتان 15 و 16 ).

    ويمكن أَن يقال إنّ الاقبال على الدّنيا بهذا النّحو الّذي جاء في الآية يساوق الكفر ، أَو يساوق ترك الفرائض ، والتوغّل في الموبقات ، فتكون إِرادة الحياة الدّنيا وزينتها إشارة إلى العامل الواقعي.

          ________________________________________

              1 ـ كالغضب في محضرهـ صلوات الله عليه وآله.

          ________________________________________

          (419)

          11 ـ إنكار الآخرة

    قال سبحانه: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ لِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) ( سورة الأعراف: الآية 147. ولاحظ سورة الكهف: الآية 105 ).

    وهو فرع من فروع الكفر وليس عاملاً مستقلاّ ً.

12 ـ النِفاق

    قال سبحانه: ( قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المَعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ القَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إَلَيْنَا وَ لا يَأْتُونَ البَأْسَ إلاّ قَلِيلاً * أُولِئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ وَ كَانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً ) ( سورة الاحزاب: الآيتان 18 و 19 ).

    وقوله: « لإخوانهم » ، يدلّ على أَنّهم لم يكونوا مؤمنين ، بل كانوا منافقين. ويصرّح به قوله: « أُولئك لم يُؤّْمِنوا ». وعلى ذلك فيَرجع النّفاق إلى عامل الكفر و عدم الإِيمان ، وليس سبباً مستقلاً.

    هذه هي أبرز أسباب الإِحباط في الذّكر الحكيم ، وقد عرفت إمكان إذعام البعض في البعض ، وعلى كلِّ تقدير ، فالإحباط هنا هو بطلان أَثر المقتضي ، لا إبطال أَثر ثابت بالفعل ، كما تقدّم (1).

 

2 ـ التكفير

    التّكفير هو إسقاط ذنوب الأفعال المتقدّمة بثواب الطّاعات المتأَخِّرة ، وهو لا يعدّ ظلماً ، لأنّ العقاب حقّ للمولى ، وإسقاط الحقّ ليس ظلماً بل إحسان ، وقد عرفت أَنّ خلف الوعيد ليس بقبيح و إنّما القبيح خلف الوعد. فلأجل ذلك لا حاجة إلى تقييد استحقاق العقاب أو استمرار استحقاقه بعدم تعقّب الطّاعات. بل الاستحقاق

          ________________________________________

              1 ـ وأمّا بيان عوامل الإحباط في السنّة فهو موكول الى محل آخر.

          ________________________________________

          (420)

              واستمراره ثابتان ، غير أَنّ المولى سبحانه ، تَفَضّلاً منه ، عفا عن عبده لفعله الطّاعات.

    قال سبحانه: ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّر عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَ نُدْخِلُكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ) ( سورة النساء: الآية 31 ).

    وقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَالله ذُو الفَضْلِ العَظِيم ) ( سورة الأنفال: الآية 29 ).

    وقال سبحانه: ( والّذينَ آمَنوُا وَ عَمِلوا الصالحاتِ و آمَنُوا بما نُزِّلَ على مُحَمّد وَ هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفّرَ عَنْهُمْ سيِّئاتِهِمْ و أَصْلَحَ باَلُهمْ ) ( سورة محمد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم الآية 2 ).

    ولا يمكن استفادة الإطلاق من هذه الآيات ، و أَنّ كلّ معصية تكفَّر ، لأنّها بصدد بيان تشريع التّكفير ، و أمّا شروطه و بيان المعاصي الّتي تكفّر دون غيرها ، فلا يستفاد منها ، وإنّما الظاهر من الآية الأُولى هو اشتراط تكفير الذنوب الصغيرة باجتناب الكبيرة منها ، ومن الآية الثانية ، اشتراط تكفير السّيئات بالتّقوى و من الثالثة ، تكفير السيّئات للّذين آمنوا وعملوا الصالحات و آمنوا بما نُزِّل على الرّسول الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم.

    روى الكراجكي بسنده عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: « وإنْ كان عليه فضل ، وهو من أَهل التّقوى ، ولم يشرك بالله تعالى ، واتّقى الشرك به ، فهو من أَهل المغفرة ، يغفر الله له برحمته إن شاء و يتفضّل عليه بعفوه » (1).

          ________________________________________

              1 ـ البحار ، ج 5 ، ص 335.

          (421)

          الأصل الرابع

          المنزلة بين المنزلتين

              إنّ هذا الأصل يهدف إلى أنّ صاحب الكبيرة لا يسمّى مؤمناً ، كما عليه جمهور المسلمين ولا كافراً ، كما عليه الخوارج ، وإنّما يسمّى فاسقاً. فهو من حيث الإيمان والكفر في منزلة بين المنزلتين.

    قال القاضي: « لا يكون اسمه اسم الكافر ولا اسمه اسم المؤمن ، وإنّما يسمّى فاسقاً. وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن ، بل يفرد له حكم ثالث و هذا الحكم الّذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين. فإنّ صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان ، فليست منزلته منزلة الكافر ، ولا منزلة المؤمن ، بل له منزلة بينهما » (1).

    ثمّ إنّه قسّم المكلّف من حيث استحقاق الثّواب والعقاب إلى قسمين: إمّا أن يكون مستحقّاً للثّواب فهو من أولياء الله ، وإمّا أن يكون مستحقّاً للعقاب فهو من أعداء الله.

    ثمّ الثّاني إمّا أن يكون مستحقّاً للعقاب العظيم فهو الكافر والمنافق والمرتدّ. وإن استحقّ عقاباً دون ذلك سمّي فاسقاً « وهو المرتكب للكبيرة ».

    ثمّ إنّ الأساس لاخراج الفاسق عن المؤمن هو جعل العمل جزءاً من الإيمان ،

          ________________________________________

              1 ـ شرح الأصول الخمسة: ص 697.

          ________________________________________

          (422)

              وعلى هذا فإذا ترك فريضة أو ارتكب حراماً يخرج من عداد المؤمنين و فيه تشترك المعتزلة والخوارج ، ولكن تنشعب المعتزلة عن الخوارج بقولهم إنّه لا مؤمن ولا كافر ، بل في منزلة ـ أو له ـ بين المنزلتين ، ولكنّه عند الخوارج ليس بمؤمن بل كافر.

    ثمّ إنّهم استدلّوا على كونه ليس بمؤمن بوجوه نأتي بها مع تحليلها:

    الدّليل الأوّل: ما مرّ في مناظرة واصل بن عطاء مع عمرو بن عبيد من اختلاف المسلمين في سائر الأسماء و اتّفاقهم على كونه فاسقاً ، فنأخذ بالمجمع عليه و نطرح ما اختلفوا فيه ، حيث إنّهم اختلفوا في كونه مؤمناً أو كافراً أو منافقاً ، ولكن اتّفقوا في كونه فاسقاً ، فنأخذ بالمتيقّن و نطرح المختلف فيه. وقد عرفت ضعف هذا الدّليل فلا نعيده.

    الدّليل الثّاني: ما ذكره القاضي من أنّ « المؤمن » نقل عن معناه اللّغوي إلى معنى آخر وصار بالشّرع اسماً لمن يستحقّ المدح والتّعظيم ، والدّليل على ذلك أنّه تعالى لم يذكر اسم المؤمن إلاّ وقد قرن إليه المدح و التّعظيم. ألا ترى إلى قوله تعالى: ( قد أفلح المؤمنون ) و قوله: ( إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) وقوله: ( إنّما المؤمنون الّذين آمنوا بالله و رسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتّى يستأذنوه ) إلى غير ذلك من الآيات.

    ومثله لفظ المسلم فهومنقول إلى من يستحقّ المدح و التّعظيم.

    يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره ادّعاء محض غير مقترن بالدّليل ناش من خلط الأثر بذي الأثر ، ولو صحّ لوجب أن يقول القاضي: إنّ الصّلاة موضوع لمعراج المؤمن ، والصّوم للجُنّة من النار ، والزّكاة لتنمية المال ، لقوله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : « الصّلاة معراج المؤمن » و « الصّوم جُنّة من النار » و « الزّكاة تنمية للمال ».

    والّذي يدلّ على فساد ما ذكره أنّه لو صحّ لوجب أن يصحّ وضع الممدوح مكان المؤمن في الآيات التّالية ، مع أنّه لا يقبله أيّ ذوق سليم.

    1 ـ قال سبحانه: ( ولعبد مؤمن خير من مشرك ) ( البقرة / 221 ).

 

          ________________________________________

          (423)

              2 ـ وقال سبحانه: ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ) ( النساء / 92 ).

    3 ـ وقال سبحانه: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة ) ( الأحزاب / 36 ) إلى غير ذلك من الآيات.

    والعجب من القاضي كيف غفل عن الآيات الّتي ذكر فيها متعلّق الإيمان ، ومعه لا يمكن حمله إلاّ على أنّه بمعنى الاذعان. قال سبحانه: ( وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ) ( النساء / 39 ).

    و قال سبحانه: ( والّذين آمنوا بالله و رسله و لم يفرّقوا بين أحد منهم ) ( النساء / 251 )

    وقال سبحانه: ( فأمّا الّذين آمنوا بالله واعتصموا به ) ( النساء / 175 ).

    إلى غير ذلك من الآيات الّتي لا تبقي شكّاً في أنّ الإيمان بمعنى الاذعان مطلقاً ، وفي المقام بمعنى الإيمان بالله واليوم الآخر و رسوله.

    وأمّا ما ذكر من أنّه سبحانه لم يذكر اسم المؤمن إلاّ وقد قرن إليه المدح و التّعظيم منقوض بقوله سبحانه: ( ومن يؤمن بالله و يعمل صالحاً يكفّر عنه سيّئاته ) ( التغابن / 9 ).

    وقال سبحانه: ( الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن ) ( الأنعام / 82 ) و الظّاهر أنّ القيد « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » احترازيّ لا توضيحيّ.

    أضف إليه أنّ الإيمان ذو درجات و مراتب ، فالمدح المطلق للدّرجة العليا و المدح النّسبي للدرجات التالية لها.

    ثمّ إنّ تقسيم النّاس إلى قسمين: من يستحقّ الثّواب ، ومن يستحقّ العقاب ، لا يصدقه القرآن ، بل هناك قسم ثالث و هو عبارة عمّن يستحقّ كلا الأمرين. قال سبحانه: ( وآخرون ( من الأعراب ) اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً و آخر سيّئاً عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله غفور رحيم ) ( التوبة / 102 ) فلأجل كونه ذا عمل

 

          ________________________________________

          (424)

              صالح يستحقّ الثّواب قطعاً لقوله: ( من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حيوة طيَّبة و لنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) ( النحل / 97 ) ويستحقّ العقاب لكونه ذا عمل سَيّىء.

    ثمّ إنّ القاضي عطف على دليله السابق قوله:

    1 ـ لو كان لفظ المؤمن باقياً على ما كان عليه في اللّغة لكان يجب إذا صدّق المرء غيره أو آمنه من الخوف أن يسمّى مؤمناً و إن كان كافراً.

    2 ـ ولكان يجب أن لا يسمّى الأخرس مؤمناً.

    3 ـ ولكان أن لا يجري على النّائِم والسّاهي ، لأنّ الانقياد غير مقصود منهما.

    4 ـ ولكان يجب أن لا يسمّى الآن بهذا الاسم إلاّ المشتغل به دون من سبق منه الإسلام ، ولازمه أن لا نسمّي أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم مؤمنين (1).

    يلاحظ عليه: أنّهذه الوجوه عليلة جدّاً لا تليق بمقام القاضي. أمّا الأوّل ، فالمؤمن هو المذعن المصدّق ، ويختلف متعلّقه بحسب اختلاف الموارد ، فإذا أطلق في عرف اللّغة يراد منه نفس المذعن ، سواء كان متعلّقه هو الله سبحانه أو غيره. قال سبحانه: ( وما أنت بمؤمن لنا ) ( يوسف / 17 ).

    وأمّا في عرف الشّرع والمتشرّعة و مصطلح القرآن و الحديث ، فالمراد هو الاذعان بالله واليوم الآخر و رسالة رسوله ، فالّذي يصدق شخصاً مؤمن حسب اللّغة ، ولا يطلق عليه المؤمن في مصطلح الشّرع و المتشرّعة بهذا الملاك.

    وأمّا الأخرس فهو مؤمن لكشف إشاراته عن إذعانه ، والنّائم والسّاهي مؤمنان لوجود الاذعان في روحهما ، غاية الأمر يكون النّوم و السّهو مانعين عن بروزهما. وأمّا من مات مؤمناً فهو أيضاً مؤمن بلحاظ حال النّسبة ، لا حال التكلّم ، فالضّارب والقاتل في اليوم الماضي يطلق عليهما المشتقّ باعتبار زمان النّسبة لا باعتبار زمان التكلّم ، والشّجرة

          ________________________________________

              1 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 703 ـ 705.

          ________________________________________

          (425)

              المثمرة في الشّتاء مثمرة بلحاظ حال النّسبة.

    ثمّ إنّ القاضي استدلّ بآيات ربّما يستظهر منها دخول الأعمال في الإيمان ، فقد أوضحنا مداليلها عند البحث عن عقائد المرجئة ، فلا نطيل.

    ثمّ إنّ هناك اختلافاً بين نفس المعتزلة ، فذهب أبو الهذيل إلى أنّ الإيمان عبارة عن أداء الطّاعات ، الفرائض و النّوافل ، واجتناب المقبّحات. وهو أيضاً خيرة القاضي.

    واختار الجبّائيان أنّه عبارة عن أداء الطّاعات ، الفرائض دون النوافل ، واجتناب المقبّحات.

    وقد عرفت ضعف الكلّ عند البحث عن المرجئة.

    بقي هنا بحث وهو الاجابة عن الاستدلالات الّتي تمسّك بها الخوارج على

    أنّ مرتكب الكبائر كافر. ونبحث عنها في الجزء (1) المختصّ بعقائدهم ،

    فانتظر.

          ________________________________________

              1 ـ لاحظ الجزء الخامس من هذه الموسوعة.

          ________________________________________

          (426)

          الأصل الخامس

          الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر

              هذا هو الأصل الخامس من الأُصول الخمسة. والأُصول المتقدّمة تتعلّق بالنّظر والاعتقاد بخلافه ، فهو بالعمل ألصق و على هذا الأصل بعث واصل بن عطاء و غيره دعاته إلى الأقطار المختلفة كما عرفته في ترجمته. ويبحث فيه عن المسائل التّالية.

    1 ـ هل الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجب أو لا؟

    2 ـ هل وجوبهما سمعيّ أو عقلي؟

    3 ـ ما هي شرائط وجوبهما؟

    4 ـ هل وجوبهما عيني أو كفائي؟

    5 ـ مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

    أمّا الأُولى ، فقد ذكر القاضي أنّه لاخلاف بين الأُمّة في وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلاّ ما يحكى عن شرذمة من الإماميّة لا يقع بهم و بكلامهم اعتداد (1).

    يلاحظ عليه: أنّه ماذا يريد من قوله « من الإماميّة »؟ هل كلمة من تبعيضيّة أو بيانيّة؟ فإن كان الأوّل كما هو الظّاهر ، فلا نعرف تلك الشّرذمة من الإماميّة ، فإنّهم عن بكرة أبيهم مقتفون للكتاب والسنّة ، وصريح الكتاب و أحاديث العترة الطّاهرة على

          ________________________________________

              1 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 741.

          ________________________________________

          (427)

              وجوبهما. فمن أراد فليرجع إلى جوامعهم الحديثيّة (1).

    ونكتفي برواية واحدة من عشرات الرّوايات. روى جابربن عبدالله الأنصاري عن أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) أنّه قال: « إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء ، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تؤمن المذاهب ، وتحلّ المكاسب ، وتردّ المظالم ، و تعمّر الأرض ، و ينتصف من الأعداء ، و يستقيم الأمر » (2).

    وإن كان الثّاني ، فهو غير صحيح. وهذه كتب الإماميّة في الكلام والتّفسير والفقه مشحونة بالبحث عن فروع المسألة بعد تسليم و جوبهما.

    قال الشّيخ المفيد ( م 413 هـ ) : « إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باللّسان فرض على الكفاية بشرط الحاجة إليه ، لقيام الحجّة على من لا علم لديه إلاّ بذكره أو حصول العلم بالمصلحة به أو غلبة الظّنّ بذلك » (3).

    وهذا المحقّق الطّوسي نصير الدّين ( م 672 هـ ) يقول في « تجريد الاعتقاد »: « والأمر بالمعروف واجب ، وكذا النّهي عن المنكر. وبالمندوب مندوب » (4).

    نعم ، بعض مراتب الأمر بالمعروف كالجهاد الابتدائي مع العدوّ الكافر مشروط بوجود الإمام العادل. قال الإمام عليّ بن موسى الرّضا ( عليه السلام ) في كتابه إلى المأمون: « والجهاد واجب مع إمام عادل ، ومن قاتل فقتل دون ماله ورحله و نفسه فهو شهيد » (5).

    وقد استظهر بعض الفقهاء من هذا الحديث و غيره أنّ المراد هو الإمام المعصوم المنصوص على ولايته من جانب الله سبحانه بواسطة النّبي. غير أنّ في دلالة الرّوايات على هذا الشرط نوع خفاء ، بل عموم ولاية الفقيه في زمان الغيبة كاف في تسويغ ذلك

          ________________________________________

              1 ـ لاحظ: وسائل الشيعة ، ج 11 ، الباب الأول من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ص 393.

    2 ـ المصدر السابق ، الحديث السابع.

    3 ـ أوائل المقالات: ص 98.

    4 ـ كشف المراد: ص 271 ، ط صيدا.

    5 ـ الوسائل: ج 11 ، الباب الثاني عشر من أبواب جهاد العدو ، الحديث 10.

          ________________________________________

          (428)

              للفقيه الجامع للشّرائط (1).

    وأمّا سائر مراتب الأمر بالمعروف من الإنكار بالقلب و التّذكير باللّفظ والعمل باليد فسيأتي البحث عنه في المسألة الخامسة.

    نعم ، كان على القاضي أن يذكر خلاف الحنابلة و الأشاعرة في مجابهة الظّالمومكافحته. قال إمام الحنابلة: « السّمع والطّاعة للأئمّة و أمير المؤمنين البرّ و الفاجر ».

    وقال الشيخ أبو جعفر الطّحاوي الحنفي: « ولا نرى الخروج على أئمّتنا ولاة أمرنا ، وإن جاروا ، ولا ندعو على أحد منهم ، ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعات الله فريضة علينا ما لم يأمروا بمعصية » (2).

    وهؤلاء يرون إطاعة السّلطان الجائر ، مع أنّ النّبي الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: « ومن أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر » (3).

    وروى أبوبكر أنّه سمع رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم يقول: « إنّ النَاس إذا رأوا الظّالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه » (4).

    ومع ذلك كلّه فقد نسي القاضي أن ينسب عدم وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلى هذه الجماهير ، ونسبه إلى الإماميّة وقد عرفت كيفيّة النسبة.

    والمسألة من الوضوح بمكان لا تحتاج معه إلى تكثير المصادر.

    وامّا الثانية ، فقد ذهب أبو عليّ الجبّائي إلى أنّ ذلك يعلم عقلاً. وقال ابنه أبو هاشم: « بل لا يعلم عقلا إلاّ في موضع واحد ، وهو أن يرى أحدنا غيره يظلم أحداً فيلحقه بذلك غمّ ، فإنّه يجب عليه النّهي و دفعه ، دفعاً لذلك الضرر الّذي لحقه من

          ________________________________________

              1 ـ جواهر الكلام: ج 21 ، ص 13 ـ 14.

    2 ـ قد ذكرنا عبارات القوم في وجوب طاعة السلطان الظالم في الجزء الأول من كتابنا هذا.     3. صحيح الترمذي ، ج 4 ، كتاب الفتن ، الباب 14 ، ص 471 ، رقم الحديث 2174.     4. المصدر السابق ، الباب 8 ، رقم الحديث 2168.

          ________________________________________

          (429)

              الغمّ عن نفسه. فإمّا فيما عدا هذا الموضع فلا يجب إلاّ شرعاً » وقال القاضي: « وهو الصّحيح من المذهب » (1).

    يلاحظ عليه: أنّ أبا هاشم يصوّر حياة الفرد منقطعة عن سائر النّاس ، فلأجل ذلك أخذ يستثني صورة واحدة. ولو وقف على كيفيّة حياة الفرد في المجتمع لحكم على الكلّ بحكم واحد ، وذلك أنّ أعضاء المجتمع الواحد الّذين يعيشون في بيئة واحدة مشتركون في المصير ، فلو كان هناك خير لعمّ الجميع ولم يقتصر على فاعله ، ولو كان هناك شرّ يشمل الجميع أيضاً و لم يختصّ بمرتكبه ، ومن هنا يجب أن تحدّد تصرّفات الأفراد في المجتمع و تحدّد حرّياتهم بمصالح الأُمّة ولا تتخطّاها. ولأجل ذلك يشبّه النّبىُّ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وحدة المجتمع بركّاب سفينة في عرض البحر إذا تهدّدها خطر تهدّد الجميع ولم يختصّ بأحد دون أحد.

    ولذلك لا يجوز لأحد ركّابها أن يثقب موضع قدمه ، بحجّة أنّه مكان يختصّ به ولا يرتبط بالآخرين ، لأنّ ضرر هذا العمل يعود إلى الجميع ولا يعود إليه خاصّة.

    روى البخاري عن النّعمان بن بشير أنّه قال: سمعت عن النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم قال: « مثل القائم على حدود الله ، والواقع فيها ، كمثل قوم استهمّوا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها و بعضهم أسفلها. فكان الّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا ، هلكوا جميعاً و إن أخذوا على أيديهم نجوا و نجوا جميعاً » (2).

    وروى الترمذي نظيره في سننه كتاب الفتن:

    روى جعفر بن محمّد عن آبائه ، عن رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم : « إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّاً لم تضرّ إلاّ عاملها فإذا عمل علانية ولم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة » قال جعفر

          ________________________________________

              1 ـ شرح الاصول الخمسة: ص 742.

    2 ـ صحيح البخاري: ج 3 ، باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه ، ص 139. المطبوع على النسخة الاميرية ، ورواه الجاحظ في البيان والتبيين ج 2 ص 49.

          ________________________________________

          (430)

              بن محمّد ـ عليهما السلام ـ : وذلك أنّه يذلُّ بعمله دين الله و يقتدي به أهل عداوة الله (1) و بهذا يعرف قيمة كلام أبي هاشم حيث إنّه نظر إلى حقيقة المجتمع بنظرة فرديّة ، ولأجل ذلك لم يقل بوجوب الأمر بالمعروف عقلاً إلاّ في مورد واحد وهو ما إذا عرضه الغمّ من ظلم أحد أحداً ، مع أنّه لو كان هذا هو الملاك لوجب في كثير من الموارد بنفس الملاك ، غاية الأمر ربّما يكون الضّرر مشهوداً و ربّما يكون مستوراً.

    ثمّ إنّ البحث عن وجوبه سمعيّاً أو عقليّاً بحث كلامي لا صلة له بكتاب تاريخ العقائد ، غير أنّا إكمالاً للفائدة نأتي بنكتة وهي: أنّ الظاهر من القول بوجوب اللّطف هو أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عقليّ ، وذلك لأنّ اللُّطف ليس إلاّ تقريب العباد إلى الطّاعة و ابعادهم عن المعصية ، ومن أوضح ما يحقّق تلك الغاية هو الأمر بالمعروف بعامّة مراتبه.

    غير أنّ المحقّق الطّوسي استشكل على وجوبهما عقلاً وقال: « لو كانا واجبين عقلاً ، لزم ما هو خلاف الواقع أو الاخلال بحكمته ».

    وأوضحه شارح كلامه العلاّمة الحلّي وقال: « إنّهما لو وجبا عقلاً لوجبا على الله تعالى. فإنّ كلّ واجب عقليّ يجب على كلّ من حصل في حقّه وجه الوجوب ، ولو وجبا عليه تعالى لكان إمّا فاعلاً لهما ، فكان يلزم وقوع المعروف قطعاً ، لأنّه تعالى يحمل المكلّفين عليه ، وانتفاء المنكر قطعاً ، لأنّه تعالى يمنع المكلّفين منه ، وهذا خلاف ما هو الواقع في الخارج. و إمّا غير فاعل لهما فيكون مخلاّ ً بالواجب وذلك محال لما ثبت من حكمته تعالى » (2).

    يلاحظ عليه: أنّ وجوبهما عقلاً لا يلازم وجوبهما على الله سبحانه بعامّة مراتبه ، لأنّه لو وجب عليه بعامّة مراتبه يلزم إخلال الغرض و إبطال التّكليف. وهذا يصدّ العقل عن إيجابهما على الله سبحانه فيما لو استلزم الإلجاء و الإخلال بالغرض ،

          ________________________________________

              1 ـ الوسائل: ج 11 ، كتاب الجهاد ، الباب 4 من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث 1.

    2 ـ كشف المراد: ص 271 ، ط صيدا.

          (431)

              فيكتفي فيه بالتّبليغ و الانذار و غيرهما ممّا لا ينافي حريّة المكلّف في مجال التّكليف. وإلى ذلك يشير شيخنا الشّهيد الثاني بقوله: « لاستلزام القيام به على هذا الوجه ( من وجوبه قولاً و فعلاً ) الالجاء الممتنع في التّكليف ، ويجوز اختلاف الواجب باختلاف محالّه ، خصوصاً مع ظهور المانع ، فيكون الواجب في حقّه تعالى الانذار والتّخويف بالمخالفة لئلاّ يبطل التّكليف ، والمفروض أنّه قد فعل » (1).

    وأمّا الثّالثة ، وهي شرائط وجوبهما ، فقد فصِّل فيه الكلام المتكلّمون والفقهاء فقالوا: شرائط الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر ثلاثة:

    الأوّل: علم فاعلهما بالمعروف والمنكر.

    الثّاني: تجويز التّأثير ، فلو عرف أنّ أمره و نهيه لا يؤثّران لم يجبا.

    الثّالث: انتفاء المفسدة ، فلو عرف أو غلب على ظنّه حصول مفسدة له أو لبعض إخوانه في أمره و نهيه سقط وجوبهما دفعاً للضرر (2).

    وهناك شروط أُخر لم يذكرها العلاّمة في كلامه. منها:

    الرابع : تنجّز التّكليف في حقّ المأمور والمنهيّ ، فلو كان مضطرّاً إلى أكل الميتة لا تكون الحرمة في حقّه منجّزة ، فلا يكون فعله حراماً ولا منكراً ، وإن كان في حقّ الآمر والنّاهي منجّزاً.

    وعلى كلّ تقدير فالشّرط الثّالث ـ أي عدم المفسدة ـ شرط في موارد خاصّة لا مطلقاً. فربّما يجب على الآمر و النّاهي تحمّل المضرّة و عدم ترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، كما إذا كان تركه لهما لغاية دفع المفسدة موجباً لخروج النّاس عن الدّين وتزلزلهم و غير ذلك ممّا أوضحنا حاله فى أبحاثنا الفقهيّة (3).

    وأمّا الرّابعة ، وهي كون وجوبهما عينيّاً أو كفائياً ، فالأكثر على أنّه كفائيّ ، لأنّ

          ________________________________________

              1 ـ الروضة البهية: ج 1 ، كتاب الجهاد ، الفصل الخامس ، ص 262 ، الطبعة الحجرية.

    2 ـ كشف المراد: ص 271 ، ط صيدا.

    3 ـ لاحظ: رسالتنا الفقهية في التقية. فقد قلنا إنّ التقية ربّما تحرم إذا كان الفساد في تركها أوسع.

          ________________________________________

          (432)

              الغرض شرعاً وقوع المعروف وارتفاع المنكر ، من غير اعتبار مباشر معيّن ، فإذا حصلا ارتفع الوجوب وهو معنى الكفائي. والاستدلال على كونه عينيّاً بالعمومات غير كاف كما حقّق في محلّه.

    وأمّا الخامسة ، أعني مراتبهما ، فتبتدئ من القلب ، ثمّ اللّسان ، ثمّ اليد و تنتهي باجراء الحدود و التّعزيرات. قال الباقر ( عليه السلام ) : « فانكروا بقلوبكم ، والفظوا بألسنتكم ، وصكّوا بها جباههم ، ولا تخافوا في الله لومة لائم » (1).

    وعلى هذا يصبح الأمر بالمعروف على قسمين: قسم لا يحتاج إلى جهاز و قدرة ، وهذا ما يرجع إلى عامّة الناس. وقسم يحتاج إلى الجهاز والقوّة و يتوقّف على صدور الحكم ، وهذا يرجع إلى السّلطة التنفيذيّة القائمة بالدّولة الإسلاميّة بأركانها الثّلاثة.

    وقد بسط الفقهاء الكلام في بيان مراتبهما. فمن لاحظ الروايات وكلمات الفقهاء يقف على أنّ بعض المراتب واجب على الكلّ والبعض الآخر يجب على أصحاب القوّة والسّلطة.

    إلى هنا تمّ البحث عن الأُصول الخمسة للمعتزلة ، وبقي هنا بحوث نجعلها

    خاتمة المطاف.

          ________________________________________

              1 ـ الوسائل: ج 11 ، كتاب الجهاد ، الباب الثالث من أبواب الأمر بالمعروف ، الحديث 1.

          ________________________________________

          (433)

          خاتمة المطاف

              الأوّل: تحليل بعض ما رمي به مشايخ المعتزلة من الانحلال الأخلاقي ، فإنّ في ذلك توضيحاً للحقّ ، بل دفاعاً عنه.

    الثاني: تبيين تاريخ المعتزلة من حيث تدرّجهم من القدرة إلى الضّعف ، وذلك بحث تاريخيّ يهمّنا من بعض الجهات ، وسيظهر في طيّات البحث.

    الثالث: الآثار العلميّة الباقية من المعتزلة.

 

1 ـ دفاع عن الحقّ

    الاعتزال ظهر في أوساط المسلمين بطابعه العقلي لتحقيق العقائد الإسلاميّة ، ودعمها على ضوء الدّليل و البرهان. فكانوا يدافعون عنها حسب طاقاتهم الفكريّة ، يشهد بذلك حياة مشايخهم و أئمّتهم و تلاميذهم.

    ولعلّ تصلّبهم في المناظرة ، وعدم السّكوت في مقابل الملاحدة وأهل الكتاب من اليهود والنّصارى ، لأجل عنايتهم بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، حتّى صار ذلك أحد أُصولهم الّتي بها يتميّزون عن غيرهم ، وقد عرفت نماذج من مناظراتهم مع المخالفين فلا نعيد.

    ولم يكن دفاعهم عن الإسلام منحصراً بالمناقشات اللّفظية ، بل كانوا يستعملون القوّة إذا أُتيح لهم ذلك.

    مثلاً: إنّ بشّار بن برد كان متّهماً بالالحاد ، فهدّده واصل بالقتل ، ولم يكتف بذلك حتّى نفاه من البصرة ، فذهب إلى حرّان و بقي فيها إلى أن توفّي واصل ثمّ عاد إلى البصرة.

 

          ________________________________________

          (434)

               و في ذلك يقول صفوان الأنصاري مخاطباً لبشّار:

كأنّك غضبان على الدّين كلّهرجعت إلى الأمصار من بعد واصل                  وطالب دخل لا يبيت على حقدوكنت شريراً في التّهائم والنّجد (1)

              ومن مظاهر دعمهم لأُصول العقائد الإسلاميّة و مكافحة التّجسيم والتّشبيه هو أنّ واصل بن عطاء بعث تلاميذه إلى الأطراف و الأكناف لتبليغ رسالة التّنزيه و رفض التّشبيه ، وقد أتينا بأسماء المبعوثين في ترجمته (2).

    وروى عمر الباهلي أنّه قرأ الجزء الأوّل من كتاب « الألف مسألة في الردّ على المانويّة » لواصل ، كان فيها نيّف و ثلاثون مسألة ، وهو الّذي أوفد حفص بن سالم إلى خراسان ، فناظر جهم بن صفوان و قطعه وجعله يرجع إلى القول الحقّ. وعلى ذلك درج أصحاب واصل و تلاميذه من بعده(3).

    وتبع واصلاً و عمرو بن عبيد ، أبو الهذيل العلاّف و قد قرأت في ترجمته بعض مناظراته.

    ولا تنس ما ذكرناه في ترجمة « معمر بن عباد » وقد بعثه الرّشيد إلى مناظرة السمنى ، وهو يدلّ على أنّ المعتزلة كانوا هم المتحمّسين للمناظرة بين أهل السنّة ، وأمّا غيرهم فلا يملكون في مقام المناظرة سوى القول بأنّ البحث حرام.

    هذا هو القاضي عبد الجبّار قد قام في وجوه الملحدين والشاكّين في إعجاز القرآن ، فألّف كتابه « تنزيه القرآن عن المطاعن » و كتاباً آخر في نبوّة النّبيّ الأكرم صلَّى الله عليه و آله و سلَّم أسماه « تثبيت دلائل نبوّة سيّدنا محمّد صلَّى الله عليه و آله و سلَّم » قال محقّق كتاب « شرح الأُصول الخمسة » بأنّه أعدّه للطّبع.

          ________________________________________

              1 ـ البيان والتبيين: ج 1 ، ص 25.

    2 ـ المنية والامل: ص 20 ، ط توماارنلد.

    3 ـ المنية والامل: ص 21.

          ________________________________________

          (435)

              ونحن إذا قرأنا في حياتهم هذه البطولات الفكريّة و العمليّة ، يشكل علينا قبول ما نسبه إليهم أعداؤهم من المجون و الانحلال الأخلاقي.

    لا أقول إنّ كلّ عالم معتزلي ، عادل لا يعصي ولا يخطأ ، غير أنّ الكلام في أنّ تنزيه طائفة خاصّة كالحنابلة و الأشاعرة ، ورمى طائفة أُخرى بضدّه ، ممّا لا يؤيّده الإنصاف ، فلو قلنا إنّما حكمهم حكم سائر الطوائف الإسلاميّة حيث في كلّ طائفة ظالم لنفسه ، ومقتصد ، وسابق بالخير (1)لكان أقرب إلى الواقع والحقيقة.

    ولأجل إيقاف القارىء على بعض ما رميت به تلك الطائفة نذكر مايلي:

ما زلت آخذ روح الزقّ في لطفحتّى انثنيت ولي روحان في جسد                و أستبيح دماً من غير مجروحو الزق منطرح جسم بلا روح (2)

              1 ـ روى ابن قتيبة أنّ النّظام كان يغدو على سكر و يروح على سكر و يبيت على حرائرها ، ويدخل في الأدناس و يرتكب الفواحش والشائنات ، وله في الشّراب شعر.

    2 ـ نقل البغدادي عن كتاب « المضاحك » للجاحظ ، أنّ المأمون ركب يوماً فرأى ثمامة سكران قد وقع على الطّين ، فقال المأمون له: ألا تستحيي؟ قال: لا والله. قال: عليك لعنة الله. قال ثمامة: تترى ثمّ تترى (3).

    3 ـ وذكر أيضاً أنّ أبا هاشم الجبّائي كان أفسق أهل زمانه و كان مصرّاً على شرب الخمر وقيل: إنّه مات في سكره حتّى قال فيه بعض المرجئة:

يعيب القول بالإرجاء حتّىوأعظم من ذوي الارجاء جرماً                  يرى بعض الرجاء من الجرائروعيديّ أصرّ على الكبائر (4)

          ________________________________________

              1 ـ اقتباس من قوله سبحانه : ( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ) ( فاطر / 32 ).

    2 ـ تأويل مختلف الحديث: ص 18.

    3 ـ الفرق بين الفرق: ص 173.

    4 ـ المصدر السابق: ص 191.

          ________________________________________

          (436)

              يلاحظ عليه: أنّ ابن قتيبة والبغدادي تفرّدا في نقل هذه النّقول والنسب ، وأمّا غيرهما من الأشاعرة فنزّهوا أقلامهم عن ذكرها ، ولو كانت لهذه النّسب مسحة من الحقّ أو لمسة من الصّدق لما تورّعوا عن ذكرها ، على أنّ من سبر كتاب « الفرق بين الفرق » للبغدادي يرى فيه قسوة عجيبة في حقّ الطّوائف الإسلاميّة لا سيّما المعتزلة.

    وعلى ذلك ، فما أحسن قول القائل إذا تمثّل به في حقّ هذه الطائفة:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيهكضرائر الحسناء قلن لوجهها              فالكلّ أعداء له و خصومحسداً و بغياً إنّه لدميم (1)

          ( ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سَبَقُونا بالإيمان ) ( الحشر / 10 )

 

المعتزلة من القوّة إلى الضّعف

    إنّ فكرة الاعتزال كانت فكرة بدائية ، ونبتة غرسها واصل بن عطاء في أوائل القرن الثّاني ، وأخذت تتكامل عن طريق تلاميذه و بعض زملائه كعمرو بن عبيد. وقد كان له تأثير في بدء ظهورها إلى أن استطاع أن يستجلب إليه بعض الخلفاء الأمويين المتأخّرين ، كيزيد بن وليد بن عبدالملك ( م 126هـ ) ، ومروان بن محمّد بن مروان آخر خلفائهم ( م 132هـ ) ، حيث اشتهر أنّ الأخير كان يقول بخلق القرآن و نفي القدر (2).

    ولمّا اندلعت نيران الثورات ضدّ الأمويين ، وقضت على خلافة تلك الطغمة الأثيمة ، لمع نجم المعتزلة في عصر أبي جعفر المنصور ( 136 ـ 158هـ ) وقد عرفت في ترجمة عمرو بن عبيد وجود الصلة الوثيقة بينه و بين المنصور.

    ولمّا هلك المنصور ، أخذ المهدي ابنه زمام الحكم ، ولم ير للمعتزلة في زمنه أيّ نشاط يذكر ، خصوصاً أنّ المهدي كان شديداً على أصحاب الأهواء ، حسب ما يقولون.

          ________________________________________

              1 ـ الشعر لأبي الأسود الدؤلي صاحب الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) راجع ملحق ديوانه.

    2 ـ الكامل لابن الاثير: ج 4 ، ص 332 قال: « وكان مروان يلقب بالحمار ، والجعدي لأنّه تعلم من الجعد بن درهم مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك.

          ________________________________________

          (437)

              روى الكشّي عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس ، عن هشام... أنّه لمّا كان أيّام المهدي ، شدّد على أصحاب الأهواء ، وكتب له ابن المفضّل صنوف الفرق ، صنفاً صنفاً ، ثمّ قرأ الكتاب على النّاس ، فقال يونس: « قد سمعت الكتاب يقرأ على النّاس على باب الذّهب بالمدينة ، مرّة أُخرى بمدينة الوضّاح » (1).

    وبما أنّ أهل الحديث كانوا يشكّلون الأكثريّة الساحقة ، فيكون المراد من أصحاب الأهواء الّذين شدّد عليهم المهدي ، غيرهم من سائر الفرق فيعمّ المعتزلة و المرجئة والمحكّمة والشيعة و غيرهم.

    ولأجل ذلك لم ير أيّ نشاط للمعتزلة أيّامه ، حتّى مضى المهدىُّ لسبيله ، و جاء عصر الرّشيد ( 170 ـ 193هـ ) فيحكي التّاريخ عن وجود نشاط لهم في أيّامه ، حتّى انّه لم يوجد في عصره من يجادل السمنية غيرهم (2) ومع ذلك لم يكن الرّشيد يفسح المجال للمتكلّمين. يقول ابن المرتضى: « وكان الرّشيد نهى عن الكلام ، وأمر بحبس المتكلّمين » (3).

    نعم ابتسم الدّهر للمعتزلة أيّام المأمون ، لأنّه كان متعطّشاً إلى العلم و التعقّل ، والبحث والجدال ، فنرى في عصره أنّ رجال المعتزلة يتّصلون ببلاطه ، وكان لهم تأثير كبير في نفسيّته.

    يقول الطّبري: « وفي هذه السّنة ( 212هـ ) أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) وقال: هو أفضل النّاس بعد رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم وذلك في شهر ربيع الأوّل (4) و لمّا استفحلت دعوة المحدّثين إلى قدم القرآن و اشتدّ أمرهم كتب المأمون عام ( 218هـ ) إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة و المحدّثين ،

          ________________________________________

              1 ـ رجال الكشي: ترجمة هشام بن الحكم ، الرقم 131 ، ص 227. ولعل هذا الكتاب أوّل كتاب أُلِّف في الملل والنحل بين المسلمين.

    2 ـ لاحظ: طبقات المعتزلة ، لابن المرتضى ، ص 55.

    3 ـ طبقات المعتزلة ، لابن المرتضى ، ص 56.

    4 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، ص 188 ، حوادث سنة 212.

          ________________________________________

          (438)

              وممّا جاء في تلك الرسالة:

    فاجمع من بحضرتك من القضاة ، و اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك ، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون ، و تكشيفهم عمّا يعتقدون في خلق الله القرآن و إحداثه ، وأعلمهم أنّ أمير ألمؤمنين غير مستعين في عمله ، ولا واثق فيما قلّده الله و استحفظه من أُمور رعيّته ، بمن لا يوثق بدينه و خلوص توحيده و يقينه ، فإذا أقرّوا بذلك و وافقوا أمير المؤمنين فيه ، وكانوا على سبيل الهدى والنّجاة ، فمرهم بنصّ من يحضرهم من الشّهود على الناس ، ومسألتهم عن علمهم في القرآن ، و ترك إثبات شهادة من لم يقرّ أنّه مخلوق محدث ولم يره ، والامتناع من توقيعها عنده ، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك فى مسألتهم و الأمر لهم بمثل ذلك. ثمّ أشرف عليهم و تفقّد آثارهم حتّى لا تنفذ أحكام الله إلاّ بشهادة أهل البصائر في الدّين و الإخلاص للتّوحيد و اكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله ، و كتب في شهر ربيع الأوّل سنة ( 218هـ ) » (1).

 

رسالة ثانية من المأمون في إشخاص سبعة نفر إليه

    ثمّ إنّ المأمون كتب إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس الشرطة في بغداد أن يشخص إليه سبعة نفر من المحدّثين. منهم:

    1 ـ محمّد بن سعد كاتب الواقدي 2 ـ أبو مسلم ، مستملي يزيد بن هارون 3 ـ يحيي بن معين 4 ـ زهير بن حرب أبو خثيمة 5 ـ إسماعيل بن داود 6 ـ إسماعيل بن أبي مسعود 7 ـ أحمد بن الدورقي ، فامتحنهم المأمون و سألهم عن خلق القرآن ، فأجابوا جميعاً أنّ القرآن مخلوق فأشخصهم إلى مدينة السّلام و أحضرهم إسحاق بن إبراهيم دارَه فشهّر أمرهم و قولهم بحضرة الفقهاء و المشايخ من أهل الحديث ، فأقرّوا بمثل ما

          ________________________________________

              1 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ص 197 ، حوادث سنة 218.

          ________________________________________

          (439)

              أجابوا به المأمون فخلّى سبيلهم. فقد فعل ذلك إسحاق بن إبراهيم بأمر المأمون.

رسالة ثالثة للمأمون إلى إسحاق بن إبراهيم

    ثمّ إنّ المأمون كتب بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم رسالة مفصّلة و ممّا جاء فيه:

     « وممّا بيّنه أمير المؤمنين برويّته و طالعه بفكره ، فتبيّن عظيم خطره و جليل ما يرجع في الدّين من وكفه و ضرره ، ما ينال المسلمون بينهم من القول في القرآن الّذي جعله الله إماماً لهم. و أثراً من رسول الله و صفيّه محمّد ـ صلّى الله عليه و آله ـ باقياً لهم و اشتباهه على كثير منهم حتّى حسن عندهم و تزيّن في عقولهم أن لا يكون مخلوقاً ، فتعرّضوا لذلك لدفع خلق الله الّذي بان به عن خلقه ، و تفرّد بجلالته من ابتداع الأشياء كلّها بحكمته ، وأنشأها بقدرته ، والتقدّم عليها بأوّليّته الّتي لا يبلغ أولاها ولا يدرك مداها ، وكان كلّ شيء دونه خلقاً من خلقه و حدثاً هو المحدِث له ، وإن كان القرآن ناطقاً به ودالاً عليه و قاطعاً للاختلاف فيه وضاهوا به قول النّصارى في ادّعائهم في عيسى بن مريم أنّه ليس بمخلوق إذ كان كلمة الله.

    والله عزّوجلّ يقول: ( إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً ) و تأويل ذلك أنّا خلقناه كما قال جلّ جلاله: ( وجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسكنَ إليها ) وقال: ( وجَعَلْنا اللّيلَ لباساً و جَعَلْنا النّهارَ معاشاً ) و ( جَعَلْنا مِنَ الماءِ كلّ شيء حيّ ) فسوّى عزّ وجلّ بين القرآن وبين هذه الخلائق الّتي ذكرها في شية الصّنعة و أخبر أنّه جاعله وحده فقال: ( إنّه لقرآنٌ مجيدٌ* في لوح محفوظ ) فقال ذلك على إحاطة اللّوح بالقرآن ولا يحاط إلاّ بمخلوق ، وقال لنبيّه : ( لا تُحرِّك بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) وقال: ( مَا يَأتِيهم مِن ذِكْر مِن َربِّهِم مُحْدَث ) و قال: ( ومَن أَظْلَمُ ممّنِ افترى على اللّهِ كذباً أو كذَّب بآياتِه ) و أخبر عن قوم ذمّهم بكذبهم أنّهم قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ، ثمّ أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: ( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الكتابَ الّذي جاءَ بهِ موسى ) فسمّى الله تعالى القرآن قرآناً

 

          ________________________________________

          (440)

              و ذكراً و إيماناً و نوراً و هدىً و مباركاً و عربياً و قصصاً فقال: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القُصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِليكَ هذا القرآن ) و قال: ( قُلْ لِئنِ اجْتَمَعَت الإنْسُ و الجنُّ على أَن يأْتُوا بِمِثلِ هذا القرآن لا يأَتُونَ بمثلهِ ) و قال: ( قُلْ فَأْتُوا بعشرِ سِوَر مَثْلهُ مُفْتَريات ) وقال: ( لا يَأْتيهِ الباطل مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ) فجعل له أوّلاً و آخراً ، ودلّ عليه أنّه محدود مخلوق ، وقد عظّم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم والحرج في أمانتهم ، وسهّلوا السّبيل لعدوّ الإسلام ، واعترفوا بالتّبديل والالحاد على قلوبهم حتّى عرّفوا و وصفوا خلق الله و فعله بالصّفة الّتي هي للّه وحده و شبّهوه به ، والأشباه أولى بخلقه وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظّاً في الدّين ولا نصيباً من الإيمان واليقين....إلى أن قال: فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبدالرحمن بن إسحاق القاضي كتابَ أمير المؤمنين بما كتب به إليك و انصصهما عن علمهما في القرآن و أعلمهما أنّ أميرالمؤمنين لا يستعين على شيء من أُمور المسلمين إلاّ بمن و ثق بإخلاصه و توحيده ، و أنّه لاتوحيد لمن لم يقرّ بأنّ القرآن مخلوق. فإن قالا: بقول أميرالمؤمنين في ذلك فتقدّم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما في الشّهادات على الحقوق و نصّهم عن قولهم في القرآن ، فمن لمن يقل منهم إنّه مخلوق أبطلا شهادته ولم يقطعا حكماً بقوله و إن ثبت عفافه بالقصد والسّداد في أمره ، وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة و أشرف عليهم إشرافاً يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته و يمنع المرتاب من إغفال دينه واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله » (1).

دعوة المحدّثين والقضاة لسماع كتاب الخليفة

    ولما جاءت الرسالة الثالثة إلى إسحاق بن إبراهيم ، أحضر لفيفاً من المحدّثين منهم 1 ـ أبو حسّان الزيادي ، 2 ـ وبشر بن وليد الكندي ، 3 ـ وعليّ بن أبي مقاتل ،

          ________________________________________

              1 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، ص 198 و 199و 200 ، حوادث سنة 218.

          (441)

              4 ـ والفضل بن غانم ، 5 ـ والذيال بن الهيثم ، 6 ـ وسجّادة ، 7 ـ والقواريري ، 8 ـ وأحمد بن حنبل ، 9 ـ وقتيبة ، 10 ـ وسعدويه الواسطي ، 11 ـ وعليّ بن الجعد ، 12 ـ وإسحاق بن أبي إسرائيل ، 13 ـ وابن الهرش ، 14 ـ وابن عليّة الأكبر ، 15 ـ ويحيى بن عبدالرحمان العمري ، 16 ـ وشيخاً آخر من ولد عمر بن الخطّاب ، كان قاضي الرقّة ، 17 ـ وأبو نصر التمّار 18 ـ وأبو معمر القطيعي ، 19 ـ ومحمّد بن حاتم بن ميمون ، 20 ـ ومحمّدبن نوح المضروب ، 21 ـ وابن الفرخان ، 22 ـ والنّضر بن شميل ، 23 ـ وابن عليّ بن عاصم ، 24 ـ وأبو العوام البزاز ، 25 ـ وابن شجاع ، 26 ـ وعبدالرّحمان بن إسحاق.

    فقرأ عليهم رسالة المأمون مرّتين حتّى فهموه ، ثمّ سأل كلّ واحد عن رأيه في خلق القرآن.

    فنجد في الأجوبة عيّاً و غباوة ، لا يتطلّبون الحقّ. و إليك نصّ محاورة إسحاق مع بعض هؤلاء.

    1 ـ إسحاق بن إبراهيم ، مخاطباً بشر بن الوليد: ما تقول في القرآن؟

    بشر: القرآن كلام الله.

    إسحاق: لم أسألك عن هذا ، أمخلوق هو ، قال الله: ( خالق كلّ شيء ) ما القرآن شيء؟

    بشر: هو شيء.

    إسحاق: فمخلوق ؟

    بشر: ليس بخالق.

    إسحاق: ليس أسألك عن هذا ، أمخلوق هو؟

    بشر: ما أُحسن غير ما قلتُ لك ، وقد استعهدت أمير المؤمنين أن لا أتكلّم فيه ، وليس عندي غير ما قلت لك.

محاورته مع عليّ بن أبي مقاتل

    إسحاق بن إبراهيم: القرآن مخلوق؟

 

          ________________________________________

          (442)

              عليّ بن أبي مقاتل: القرآن كلام الله.

    إسحاق: لم أسألك عن هذا.

    ابن أبي مقاتل: هو كلام الله.

محاورته مع أبي حسّان الزيادي

    إسحاق: القرآن مخلوق هو؟

    أبو حسّان: القرآن كلام الله ، والله خالق كلّ شيء ، وما دون الله مخلوق ، وأمير المؤمنين إمامنا و بسببه سمعنا عامّة العلم ، وقد سمع ما لم نسمع ، وعلم ما لم نعلم ، وقد قلّده الله أمرنا ، فصار يقيم حجّنا وصلاتنا و نؤدّي إليه زكاة أموالنا ، ونجاهد معه ، ونرى إمامته إمامة ، وإن أمرنا ائتمرنا ، وإن نهانا انتهينا ، وإن دعانا أجبنا.

    إسحاق: القرآن مخلوق هو؟

    أبو حسّان: ( أعاد كلامه السابق ).

    إسحاق: إنّ هذه مقالة أمير المؤمنين.

    أبو حسّان: قد تكون مقالة أمير المؤمنين و لا يأمر بها الناس ولا يدعوهم إليها ، وإن أخبرتني أنّ أمير المؤمنين أمرك أن أقول ، قلت ما أمرتني به ، فإنّك الثقة المأمون عليه فيما أبلغتني عنه من شيء فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه.

    إسحاق: ما أمرني أن أبلغك شيئاً.

    قال « علي بن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه و آله و سلَّم في الفرائض و المواريث ، ولم يحملوا النّاس عليها ».

    أبو حسّان: ما عندي إلاّ السّمع والطاعة ، فمرني أئتمر.

    إسحاق: ما أمرني أن آمرك و إنّما أمرني أن أمتحنك.

محاورته مع أحمد حنبل

إسحاق: ما تقول في القرآن؟

 

          ________________________________________

          (443)

              أحمد: هو كلام الله.

    إسحاق: أمخلوق هو؟

    أحمد: هو كلام الله ، لا أزيد عليها.

    إسحاق: ( قرأ عليه رقعة و فيها: أشهد أن لا إله إلاّ الله أحداً فرداً لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ). فلمّا أتى إسحاق إلى قوله: « ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير » (1) ، وأمسك عن قوله: « لا يشبهه شيء ، من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه » ، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر (2) فقال: أصلحك الله ، إنّه ( أحمد ) يقول: سميع من اذن ، بصير من عين.

    فقال إسحاق: ما معنى قوله سميع بصير؟

    أحمد: هو كما وصف نفسه.

    إسحاق: فما معناه؟

    أحمد: لا أدري ، هو كما وصف نفسه.

    ثمّ إنّ إسحاق دعا بهم رجلاً رجلاً ، كلّهم يقولون: القرآن كلام الله إلاّ هؤلاء النفر: قتيبة وعبيد الله بن محمّد بن الحسن ، وابن علية الأكبر ، وابن البكاء ، وعبدالمنعم بن إدريس ، والمظفّر بن مرجا ، ورجلاً ضريراً ليس من أهل الفقه ولا يعرف بشيء منه إلاّ أنّه دسّ في ذلك الموضع ، ورجلاً من ولد عمر بن الخطّاب قاضي الرّقة ، وابن الأحمر. فأمّا ابن البكاء الأكبر فإنّه قال: القرآن مجعول لقول الله تعالى: ( إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً ) والقرآن محدث لقوله: ( ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث ).

    قال له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟

    قال: نعم.

          ________________________________________

              1 ـ سقط قوله: « ليس كمثله شيء وهو السميع البصير » من الرقعة التي نقلها ص 200 و لكن نقله ص 201.

    2 ـ في المصدر « أصغر » والصحيح ما أثبتناه.

          ________________________________________

          (444)

              قال إسحاق: فالقرآن مخلوق؟

    قال: لا أقول مخلوق ، ولكنّه مجعول ، فكتب مقالته.

    فلمّا فرغ من امتحان القوم و كتبت مقالاتهم رجلاً رجلاً و وجّهت إلى المأمون ، فمكث القوم تسعة أيّام ثمّ دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون جواب كتاب إسحاق بن إبراهيم في أمر هؤلاء.

الرسالة الرابعة للمأمون إلى إسحاق

    كتب المأمون في جواب رسالته كتاباً مفصّلاً نأخذ منها مايلي:

     « أمّا بعد فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك ، جوابَ كتابه كان إليك فيما ذهب إليه متصنّعة أهل القبلة و ملتمسو الرِّئاسة فيما ليسوا له بأهل من أهل الملّة من القول في القرآن و أمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم و تكشيف أحوالهم و إحلالهم محالّهم ».

    ثمّ تكلّم المأمون في حقِّ الممتنعين عن الاعتراف بكون القرآن مخلوقاً و الرِّسالة مفصّلة (1) والملفَت للنّظر فيها أمران:

    الأوّل: أمر المأمون رئيس الشّرطة بضرب عنق بشر بن الوليد ، وإبراهيم المهدي إذا لم يتوبا بعد الاستتابة ، وحمل الباقين موثّقين إلى عسكر أمير المؤمنين و تسليمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه لينصّهم أمير المؤمنين ، فإن لم يرجعوا و يتوبوا حملهم جميعاً على السّيف.

    الثاني: تذكّر بعض أفعال الممتنعين بالاعتراف بخلق القرآن ، بوجه يعرب أنّهم لم يكونوا أهل صلاح و فلاح ، بل كانوا من مقترفي المعاصي نقتطف منها مايلي:

     « وأمّا الذيّال بن الهيثم فأعلمه أنّه كان فى الطّعام الّذي كان يسرقه في الأنبار ، وفيما يستوي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العبّاس ما يشغله و أنّه لو كان مقتفياً

          ________________________________________

              1 ـ لاحظ تاريخ الطبري 7: 202 ـ 203.

          ________________________________________

          (445)

              آثار سلفه و سالكاً مناهجهم و مهتدياً سبيلهم لما خرج إلى الشرّك بعد إيمانه.

    وأمّا أحمد بن حنبل و ما تكتب عنه فاعلمه أنّ أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها و استدلّ على جهله و آفته بها.

    وأمّا الفضل بن غانم فأعلمه أنّه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر ، وما اكتسب من الأموال في أقلّ من سنة ، وما شجر بينه و بين المطّلب بن عبدالله في ذلك ، فإنّه من كان شأنُه شأنَه ، وكانت رغبته في الدّنيا و الدِّرهم رغبته فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعاً فيهما و ايثاراً لعاجل نفعهما.

    وأمّا الزّيادي فأعلمه أنّه كان منتحلاً ، ولا أوّل دعيّ كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله وكان جديراً أن يسلك مسلكه.

    وأمّا الفضل بن الفرخان فأعلمه أنّه حاول بالقول الّذي قاله في القرآن أخذ الودائع الّتي أودعها إيّاه عبدالرّحمان بن إسحاق و غيره تربّصاً بمن استودعه و طمعاً في الاستكثار لما صار في يده ولا سبيل عليه عن تقادم عهده و تطاول الأيّام به.

    وأمّا محمد بن حاتم وابن نوح والمعروف بأبي معمر فأعلمهم أنّهم مشاغيل بأكل الرّبا عن الوقوف على التوحيد ، وإنّ أمير المؤمنين لو لم يستحلّ محاربتهم في الله ومجاهدتهم إلا لإربائهم و ما نزل به كتاب الله في أمثالهم لاستحلّ ذلك ، فكيف بهم وقد جمعوا مع الإرباء شركاً و صاروا للنصارى مثلاً ».

    ثمّ وقّع في الوقيعة في كلّ واحد من الممتنعين ما يشمئزّ القلم من نقله ، فلو كانت تلك النّسب على وجهها فويل لهم مما كسبت أيديهم من عظائم المحرّمات و ما كسبت قلوبهم من الشِّرك (1).

    فلمّا وصل كتاب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم دعا القوم و قرأ عليهم كتاب المأمون ، فأجاب القوم الممتنعون كلّهم ، واعترفوا بأنّ القرآن مخلوق إلاّ أربعة نفر منهم

          ________________________________________

              1 ـ تاريخ الطبري: 7 / 203 ـ 204.

          ________________________________________

          (446)

              أحمد بن حنبل ، وسجادة ، والقواريري ، ومحمّد بن نوح المضروب ، فأمر بهم إسحاق بن إبراهيم فشدّوا في الحديد. فلمّا كان من الغد دعا بهم جميعاً يساقون في الحديد فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر باطلاق قيده و خلّى سبيله وأصرّ الآخرون على قولهم.

    فلمّا كان من بعد الغد عاودهم أيضاً فأعاد عليهم القول ، فأجاب القواريري إلى أنّ القرآن مخلوق فأمر بإطلاق قيده و خلّى سبيله ، و أصرّ أحمد بن حنبل و محمّد بن نوح على قولهما ولم يرجعا فشدّا جميعاً في الحديد و وجِّها إلى طرسوس و كتب معهما كتاباً بإشخاصهما.

    ثمّ لمّا اعترض على الرّاجعين من عقيدتهم برّروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حيث أكره على الشِّرك و قلبه مطمئنّ بالإيمان (1) و قد كُتب تأويلهم إلى المأمون ، فلأجل ذلك ورد كتاب مأمون بأنّه قد فهم أمير المؤمنين ما أجاب القوم إليه ، وأنّ بشر بن الوليد تأوّل الآية الّتي أنزل الله تعالى في عمّار بن ياسر وقد أخطأ التّأويل إنّما عني الله عزّوجلّ بهذه الآية من كان معتقد الإيمان مظهر الشرك ، فأمّا من كان معتقد الشِّرك مظهر الإيمان فليس هذه له ، فأشخصهم جميعاً إلى طرسوس ليقيموا بها إلى خروج أمير المؤمنين من بلاد الرّوم.

    فأخذ إسحاق بن إبراهيم من القوم الكفلاء ليوافوا بالعسكر بطرسوس ، فأشخص كلّ من ذكرنا أسماءهم ، فلمّا صاروا إلى الرّقة بلغتهم وفاة المأمون ، فأمر بهم عنبسة بن إسحاق ـ وهو والي الرقة ـ إلى أن يصيروا إلى الرقة ، ثمّ أشخصهم إلى إسحاق بن إبراهيم بمدينة السّلام ( بغداد ) مع الرّسول المتوجّه بهم إلى أمير المؤمنين ، فسلّمهم إليه فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم ثمّ رخّص لهم ذلك في الخروج (2).

    وما ذكرناه هو خلاصة محنة أحمد و من كان على فكرته في زمن المأمون وليس فيه

          ________________________________________

              1 ـ إشارة الى قوله سبحانه ( إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ) ( النمل / 106 ).

    2 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، ص 195 إلى 206 بتلخيص منّا.

          ________________________________________

          (447)

              إلاّ إشخاص أحمد و محمّد بن نوح موثّقين في الحديد إلى طرسوس و إشخاص غيرهما مطلقين ، ولمّا بلغهم وفاة المأمون رجعوا من الرقّة ولم يسيروا إلى طرسوس.

    هذا وقد ذكر القصّة اليعقوبي بصورة مختصرة و قال:

     « وصار المأمون إلى دمشق سنة ( 218هـ ) و امتحن النّاس في العدل والتّوحيد وكتب في إشخاص الفقهاء من العراق و غيرها فامتحنهم في خلق القرآن و أكفر من امتنع أن يقول ـ : القرآن غير مخلوق ، وكتب أن لا تقبل شهادته ، فقال كلّ بذلك إلاّ نفراً يسيراً » (1).

    هذا تفصيل المحنة أيّام المأمون ، وأمّا ما وقع في أيّام الخليفتين: المعتصم والواثق ، فسيوافيك بيانه بعد تعليقتنا.

 

تعليق على محنة خلق القرآن

    إنّ هنا أُموراً لا بدّ من الإلفات إليها:

    1 ـ لم يظهر من كتب الخليفة إلى صاحب الشّرطة وجه إصراره على أخذ الاعتراف من المحدِّثين بخلق القرآن. فهل كان الحافز إخلاصه للتوحيد ، وصموده أمام الشِّرك ، أو كان هناك مرمى آخر لإثارة هذه المباحث ، حتّى ينصرف المفكِّرون بسبب الاشتغال بهذه المباحث عن نقد أفعالهم و انحرافاتهم ، وبالتّالي إيقاف الثّورة أو إضمارها. فإنّ القلوب إذا اشتغلت بشيء ، منعت عن الاشتغال بشيء آخر.

    2 ـ لو كانت الرِّسالة مكتوبة بيد الخليفة أو باملائه ، فهي تحكي عن عمق تفكيره في المباحث الكلاميّة ، وإحاطته بأكثر الايات وقد جاء في المقام بأسدِّ الدّلائل و أتقنها ، حيث استدلّ تارة بتعلّق الجعل بالقرآن ، وأُخرى باحاطة اللّوح المحفوظ به ، ولا يحاط إلاّ بمخلوق ، وثالثة بتوصيفه ب ـ « محدث » ، و رابعة بتوصيفه بصفات كلّها صفات

          ________________________________________

              1 ـ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ، ص 468 ، ط دار صادر.

          ________________________________________

          (448)

              المخلوق من تعلّق النّزول به ونهي النّبي عن العجلة بقراءته ، والدّعوة إلى الاتيان بمثله ، وأنّ له أماماً و خلفاً ، إلى غير ذلك.

    3 ـ إنّ الرِّسالة كشفت القناع عن السّبب الّذي أدخل هذه المسألة في أوساط المسلمين ، وقال: « إنّ القائلين بقدم القرآن يضاهئون قول النّصارى في أنّ المسيح كلمة وليس بمخلوق » ، وهو يعرب عن أنّ الفكرة دخلت إلى أوساط المسلمين بسبب احتكاك المسلمين بهم. وما يقال من أنّ اليهود هم المصدر لدخول هذه الفكرة بينهم غير تامّ والمأمون أعرف بمصدر هذه الفكرة.

    4 ـ لو صحّ ما ذكره الطّبري من صورة المحاورة الّتي دارت بين رئيس الشّرطة والمحدِّثين ، فإنّه يكشف عن جمود المجيبين و عيّهم في الجواب ، فإنّهم اتّفقوا على أنّ القرآن ليس بخالق ، ولكنّهم امتنعوا عن الاعتراف بأنّه مخلوق ، وبالتّالي جعلوا واسطة بين الخالق والمخلوق أو بين النّفي والاثبات ، وهو كما ترى.

    ولو كان عذرهم في عدم الاعتراف بأنّ القرآن مخلوق ، هو الخوف من أن يكون هذا الاعتراف ذريعة للملاحدة حتّى ينسبوا إلى المسلمين بأنّهم يقولون إنّ القرآن مخلوق أي مختلق و مزوّر أو مخلوق للبشر ، فيمكن التخلّص منه بالتّصريح بأنّه مخلوق لله سبحانه لاغير ، والله هو خالقه و جاعله ليس غير.

    5 ـ لا شكّ أنّ عمل الخليفة كان أشبه بعمل محاكم التّفتيش في القرون الوسطى حيث كان البابا والبطارقة والقساوسة ، يتحرّون عقائد الناس لا سيّما المكتشفين أمثال غاليلو ، وكان ذلك و صمة عار على حياة الخليفة و بالتّالي على المعتزلة الّذين كان الخليفة يلعب بحبالهم ، ويلحقهم وزر أعماله ، وما يترك في المجتمع من ردّ فعل سيّىء. ومن المعلوم أنّ أخذ الاعتراف بكون القرآن مخلوقاً في جوّ رهيب ، لا يوافق تعاليم المعتزلة ، كما لا يوافق تعاليم الإسلام ، على أنّه لا قيمة لهذا الاعتراف عند العقل و النّقل فكيف رضي القوم بهذا العمل.

    6 ـ العجب من تلوّن الخليفة في قضائه في حقّ الممتنعين عن الاعتراف بخلق

 

          ________________________________________

          (449)

              القرآن ، فيرى أنّ بشر بن الوليد ، وإبراهيم المهدي مستحقّان لضرب العنق إذا استتيبا ولم يتوبا ، والباقين مستحقّون للإشخاص إلى عسكره ، مع أنّ الجرم واحد ، والكلّ كانوا محدِّثين فهماء ، ولم يكن الأوّلان قائدي الشرك ، والباقون مقتفيه. فلو كان القول بعدم خلق القرآن أو قدمه موجباً للردّة والرجوع إلى الشرّك فالحكم الإلهي هو القتل وإلاّ فلا ، وهذا يعرب عن أنّ جهاز القضاء كان أداة طيّعة بأيدي الخلفاء ، يستغلّونه حسب أهوائهم.

    7 ـ إنّ محنة القائلين بعدم خلق القرآن ، تمّت في زمن الخليفة المأمون بالإشخاص والإبعاد من دار السّلام إلى طرسوس. غير أنّ التأريخ يذكر إشخاص اثنين موثّقين إلى عسكر الخليفة ، وإشخاص الباقين بلا قيود ولا ضرب ولا قتل إلى الخليفة. ولم يحدّث التاريخ هنا عن ضرب وقتل.

    ولكنّ المحنة لم تنته بموت المأمون ، بل استمرّت في خلافة أخيه المعتصم ، فالواثق ابنه ولكن بصورة سيّئة ، حدث عنها التّاريخ.

    قضى المأمون نحبه وجاء بعده أخوه المعتصم ( 218 ـ 227هـ ) فضيّق الأمر على القائلين بعدم خلق القرآن.

    يقول اليعقوبي: « وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن ، فقال أحمد: أنا رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا ، فأحضر له الفقهاء و ناظره عبدالرّحمان بن إسحاق و غيره ، فامتنع أن يقول إنّ القرآن مخلوق ، فضرب عدّة سياط. فقال إسحاق بن إبراهيم: ولِّني يا أمير المؤمنين مناظرته فقال: شأنك به.

    إسحاق بن ابراهيم: هذا العلم الّذي علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال؟

    ابن حنبل: علمته من الرِّجال.

    إسحاق: علمته شيئاً بعد شيء أو جملة؟

    ابن حنبل: علمته شيئاً بعد شيء.

 

          ________________________________________

          (450)

              إسحاق: فبقي عليك شيء لم تعلمه؟

    ابن حنبل: بقي عليّ.

    إسحاق: فهذا ممّا لم تعلمه وقد علّمكه أمير المؤمنين.

    ابن حنبل: فإنّي أقول بقول أمير المؤمنين.

    إسحاق: في خلق القرآن؟

    ابن حنبل: في خلق القرآن.

    فأشهد عليه وخلع عليه و أطلقه إلى منزله (1).

    هذا ما كتبه ذلك المؤرخ المتوفّى ( عام 290هـ ).

    وأمّا الطبري فلم يذكر في حياة المعتصم ما يرجع إلى مسألة خلق القرآن.

    وقال المسعودي: « وفيها ( سنة 219هـ ) ضرب المعتصم أحمد بن حنبل ثمانية وثلاثين سوطاً ليقول بخلق القرآن » (2).

    نعم ذكر الجزري في كامله في حوادث سنة ( 219هـ ) و قال: « وفيها أحضر المعتصم أحمد بن حنبل و امتحنه بالقرآن ، فلم يجب إلى القول بخلقه ، فأمر به فجلد جلداً عظيماً حتّى غاب عقله و تقطّع جلده و حبس مقيّداً » (3).

    وروى الجاحظ أنّه لم يكن في مجلس الامتحان ضيق ، ولا كانت حاله حالاً مؤيساً ، ولا كان مثقّلاً بالحديد ، ولا خلع قلبه بشدّة الوعيد ، ولقد كان ينازع بألين الكلام ويجيب بأغلظ الجواب و يرزنون و يخفّ و يحلمون و يطيش » (4).

    هذا ولكن المتحيّزين إلى الحنابلة يذكرون المحنة بشكل فظيع. هذا أبو زهرة قد لخّص مقالهم بقوله:

     « وقد تبيّن أنّ أحمد بن حنبل كان مقيّداً مسوقاً عند ما مات المأمون ، فأُعيد إلى

          ________________________________________

              1 ـ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ، ص 472.

    2 ـ مروج الذهب: 3 / 464 ط دار الاندلس.

    3 ـ الكامل ، ج 5 ، ص 233.

    4 ـ الفصول المختارة على هامش الكامل للمبرد: ج 2 ، ص 139.

          (451)

              السجن ببغداد حتّى يصدر في شأنه أمر ، ثمّ سيق إلى المعتصم و اتّخذت معه ذرايع الاغراء و الارهاب ، فما أجدى في حمله ترغيب و لا ترهيب ، فلمّ ـ ا لم يجد القول رغباً و رهباً ، نفّذوا الوعيد فأخذوا يضربونه بالسياط ، المرّة بعد الأُخرى ، ولم يترك في كلِّ مرّة حتّى يغمى عليه و ينخس بالسيف فلا يحسّ. فتكرّر ذلك مع حبسه نحواً من ثمانية وعشرين شهراً فلمّا استيأسوا منه و ثارت في نفوسهم بعض نوازع الرّحمة أطلقوا سراحه وأعادوه إلى بيته وقد أثخنه الجراح و أثقله الضّرب المبرح المتوالي والالقاء في غيابات السِّجن » (1).

    وليس لما ذكره أبو زهرة مصدر سوى « مناقب الامام أحمد بن حنبل » للحافظ أبي الفرج عبدالرّحمان بن الجوزي ومن تبعه مثل الحافظ ابن كثير في « البداية و النهاية » (2).

    والنّاظر في هذين الكتابين يرى تحيّزهما لأحمد بن حنبل و أنّهما يريدان نحت الفضائل له و عند ما قصرت أيديهما عنها لجأوا إلى المنامات ، فلا يمكن الاعتماد عليهما فيما يرويان من التّفاصيل في هذه المحنة. وقد عرفت التضارب في التاريخ بين قائل بأنّ أحمد رجع عن رأيه أثناء الضّرب كاليعقوبي ، وقائل بأنّه بقي على إنكاره.

محنة خلق القرآن والواثق

    قضى المعتصم نحبه و خلفه ابنه الواثق ( 223 ـ 227هـ ) (3) وكان للمعتزلة في عصره قوّة و قدرة و نشاط و سيطرة.

    قال اليعقوبي: « وامتحن الواثق النّاس في خلق القرآن فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان و أن لا يجيزوا إلاّ شهادة من قال بالتوحيد ، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً » (4).

          ________________________________________

              1 ـ ابن حنبل ـ حياته وعصره ـ أبو زهرة ، ص 65.

    2 ـ البداية والنهاية ، ج 10 ، ص 230 الى 343.

    3 ـ البداية والنهاية: ج 10 ، ص 297.

    4 ـ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ، ص 482.

          ________________________________________

          (452)

              يقول الحافظ ابن كثير:

     « وأمر الواثق بامتحان الأسارى الّذين فودوا من أسر الفرنج ، بالقول بخلق القرآن و أنّ الله لا يرى في الآخرة ، فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأنّ الله لا يرى في الآخرة فودى و إلاّ ترك في أيدي الكفّار. وهذه بدعة صلعاء ، شنعاء ، عمياء ، صمّاء لا مستند لها من كتاب ولا سنّة ولا عقل صحيح » (1).

    ولكن تحيّز ابن كثير للحنابلة و أصحاب القول بعدم خلق القرآن واضح في كتابه. فالاعتماد على ما ينقل من المحنة في حقِّ الحنابلة إن لم تؤيّده سائر الآثار مشكل ، وبما أنّ في الكتاب ، مغالاة في الفضائل ، و محاولة لجعله اسطورة في التّأريخ بنقول مختلفة ، نكتفي بما يذكره الطبري في المقام.

    يقول: « إنّ مالك بن هيثم الخزاعي كان أحد نقباء بني العبّاس ، وكان حفيده أحمد بن نصر بن مالك ، يغشاه أصحاب الحديث كيحيى بن معين و ابن الدورقي و ابن خيثمة ، وكان يظهر المباينة لمن يقول: القرآن مخلوق ، مع منزلة أبيه من السّلطان في دولة بني العبّاس ، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك مع غلظة الواثق على من يقول ذلك. فحرّك أصحاب الحديث و كلّ من ينكر القول بخلق القرآن أحمد بن نصر و حملوه على الحركة لانكار القول بخلق القرآن ، والغاية من هذه الحركة ، الثورة في بغداد على الخليفة الواثق ، وخلعه من الخلافة ، غير أنّ هذه المحاولة فشلت فأخذوا و حملوا إلى سامراء ، الّتي كانت مقرّاً للواثق ، فحضر القوم واجتمعوا عنده ، فلمّا اُتي بأحمد بن نصر قال له: ياأحمد ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله ، قال أفمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله ، قال:فما تقول في ربِّك أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول الله أنّه قال: ترون ربّكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته ، فنحن على الخبر.

    فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فقال عبدالرحمان بن إسحاق: يا أمير

          ________________________________________

              1 ـ البداية والنهاية: ج 10 ، ص 307.

          ________________________________________

          (453)

              المؤمنين هو حلال الدم. وقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين ، كافر يستتاب لعلّ به عاهة ، أو تغيّر عقليّ ، فقال الواثق ، إذا رأيتموني قد قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي ، فإنّي أحتسب خطاي إليه ، ودعا بالصمصامة ، سيف عمرو بن معديكرب ، فمشى إليه وهو في وسط الدّار ، ودعا بنطع فصير في وسطه حبل فشدّ رأسه ، ومدّ الحبل ، فضربه الواثق ضربة ، فوقعت على حبل العاتق ، ثمّ ضربه أُخرى على رأسه ، ثمّ انتضى سيما الدمشقي سيفه ، فضرب عنقه و حزّ رأسه » (1).

    هذه خلاصة القصّة. ومن المعلوم أنّ هذه القسوة من الخليفة كانت مبرّرة عنده ، لا لأجل قوله بخلق القرآن و رؤية الله ، بل لما قام به من الثّورة عليه.

    ويقول أيضاً: « أمر الواثق بامتحان أهل الثّغور في القرآن ، فقالوا بخلقه جميعاً إلاّ أربعة نفر ، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه » (2).

    وقام الواثق بنفس العمل الّذي قام به أبوه في امتحان أسرى المسلمين ، فمن قال إنّ القرآن مخلوق فودي به ، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الرّوم و أمر لطالب بخمسة آلاف درهم ، وأمر أن يعطوا جميع من قال إنّ القرآن مخلوق ممن فودي به ديناراً لكلِّ إنسان من مال حمل معهم (3).

    وكانت المحنة مستمرّة ، والضيق على أصحاب القول بعدم خلق القرآن متواصلاً إلى أن وافاه الأجل ومات الواثق عام 232.

    وقد اتّفقت كلمة أهل السّير على أنّ الخلفاء كانوا يلعبون بحبال عدّة من المعتزلة الّذين كسبوا منزلة عظيمة لدى الخلفاء ، وهم ثمامة بن أشرس و أحمد بن أبي دؤاد الزيّات و غيرهم. وبموت الخليفة و تسنّم ابنه المتوكّل على الخلافة ، غاب نجم المعتزلة و انحدروا من الأوج إلى الحضيض و من العزِّ إلى الذّلّة ، وإليك هذا القسم من التّاريخ.

          ________________________________________

              1 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، حوادث سنة 231 ، ص 328 ، 329.

    2 ـ المصدر السابق: ص 331.

    3 ـ المصدر السابق: ص 332.

          ________________________________________

          (454)

          قصّة المحنة و خلافة المتوكّل

    قضى الواثق نحبه و قام مقامه المتوكّل و أمر الناس بترك النظر و البحث والجدال و ترك ما كانوا عليه في أيّام الخلفاء الثلاث: المأمون و المعتصم والواثق ، وأمر شيخ المحدِّثين بالتحديث و إظهار السنّة (1).

    قال اليعقوبي: « نهى المتوكِّل النّاس عن الكلام في القرآن و أطلق من كان في السّجون من أهل البلدان ، ومن أخذ في خلافة الواثق ، فخلاّهم جميعاً و كساهم ، وكتب إلى الآفاق كتباً ينهي عن المناظرة و الجدل » (2).

    هذه هي الضّربة الأُولى الّتي وجّهها المتوكِّل إلى المعتزلة ، وأقفل باب البحث والمناظرة الّذي كان لصالح المعتزلة على ضدِّ أهل الحديث ، حيث كان المعتزلة يتفوّقون على خصمائهم في مجال النِّقاش. ومع ذلك كلّه لم يكن ذلك ضربة قاضية لنظام الاعتزال ، ولأجل ذلك لم يعزل أحمد بن دؤاد عن قضاء القضاة ولا عن مظالم العسكر ، بل أبقاه على منصبه إلى أن عجز عن القيام بالعمل لإصابته بالفالج عام 233 و اختار بعده ولده محمّد بن أحمد.

    يقول الخطيب: « فلمّا فلج أحمد بن أبي دؤاد في جمادي الآخرة سنة 233... ولّى المتوكِّل ابنه محمّد بن أحمد أبا الوليد القضاء و مظالم العسكر مكان أبيه » (3).

    ومن المعلوم أن أحمد بن أبي دؤاد هو العامل المؤثِّر في دعوة الخلفاء على ضدِّ أهل الحديث القائلين بقدم القرآن أو كونه غير مخلوق.

    ويظهر من ابن الجوزي في كتاب مناقب الإمام أحمد أنّ المتوكِّل وجّه إلى المعتزلة ضربة ثانية مؤثِّرة في إبعادهم عن ساحة المساجد والمدارس وإشخاص أهل الحديث

          ________________________________________

              1 ـ مروج الذهب: ج 4 ، ص 1.

    2 ـ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ، ص 484 ـ 485.

    3 ـ تاريخ بغداد: ج 1 ، ص 298.

          ________________________________________

          (455)

              ودعوتهم إليها. يقول: « في سنة 234 أشخص المتوكِّل الفقهاء و المحدِّثين ، وأمرهم أن يجلسوا للنّاس و أن يحدِّثوا بالأحاديث فيها الردّ على المعتزلة والجهميّة ، وأن يحدِّثوا في الرّؤية ، فجلس عثمان بن أبي شيبة فى مدينة المنصور ، ووضع له منبر و اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس ، وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة و اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً » (1).

    والتّاريخ يعرب عن شدّة تفاقم أمر المعتزلة سنة بعد سنة وانجذاب المتوكِّل إلى أهل الحديث ، وتخطئة عمل أبيه الواثق ، حيث إنّ أباه قتل بسيفه أحمد بن نصر لأجل قوله بعدم خلق القرآن وصلبه و كانت جثّته باقية على الصّليب إلى عام 237 ، ولكنّ المتوكِّل أمر بإنزال جثّته وهو نوع تخطئة لعمل أبيه أوّلاً ، وإمضاء لمنهج أهل الحديث ثانياً.

    يقول الطبري: « وقد كان المتوكِّل لمّا أفضت إليه الخلافة ، نهى عن الجدال في القرآن وغيره ، ونفذت كتبه بذلك إلى الآفاق ، وهمّ بإنزال أحمد بن نصر عن خشبته ، فاجتمع الغوغاء و الرّعاع إلى موضع تلك الخشبة و كثروا و تكلّموا ، فبلغ ذلك المتوكّل ، فوجّه إليهم نصربن اللّيث ، فأخذ منهم نحواً من عشرين رجلاً فضربهم و حبسهم ، وترك إنزال جثّة أحمد بن نصر من خشبته لما بلغه من تكثير العامّة في أمره ، وبقي الّذين أُخِذوا بسببه في الحبس حيناً... فلمّا دفع بدنه إلى أوليائه في الوقت الّذي ذكرت ، حمله ابن أخيه موسى إلى ( بغداد ) وغسل ودفن و ضمّ رأسه إلى بدنه »(2).

    ومع ذلك لم يكتف في قطع جذور المعتزلة عن بلاطه و صار بصدد الانتقام من آل ابن أبي دؤاد. يقول الطبري: « وفي سنة 237 غضب المتوكِّل على ابن أبي دؤاد و أمر بالتّوكيل على ضياع أحمد بن أبي دؤاد لخمس بقين من صفر ، وحبس يوم السبت لثلاث خلون من شهر ربيع الأوّل ابنه أبا الوليد محمّد بن أحمد بن أبي دؤاد في ديوان الخراج

          ________________________________________

              1 ـ مناقب الامام أحمد: ص 375 ـ 385.

    2 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، حوادث سنة 237 ، ص 368 ـ 369.

          ________________________________________

          (456)

              وحبس إخوته عند عبيد الله بن السريّ خليفة صاحب الشرطة » (1).

    والظّاهر من الخطيب في تاريخه أنّ عزل محمّد بن أحمد كان يوم الأربعاء بعشر بقين من صفر سنة 240 وصُدرت أمواله ، ومات أبو الوليد محمّد بن أحمد ببغداد في ذي القعدة سنة 240 ومات أبوه أحمد بعده بعشرين يوماً (2).

    ثمّ إنّ إبعاد المعتزلة عن ساحة القدرة فسح للشعب إظهار حقده و إبداء كامل غيظه في مناسبات شتّى. منها ما عرفت عند إنزال جثّة أحمد بن نصر ، ومنها ما فعلوه في تشييع جنازة أحمد بن حنبل ، فقد شيّعه جماعة كثيرة و إن غالى ابن الجوزي ـ كما هو شأنهـ في حقِّ إمامه وقال: « وعن بعض الشهود أنّه مكث طول الأسبوع رجاء أن يصل إلى القبر فلم يتمكّن إلاّ بشقِّ النّفس لكثرة ازدحام النّاس عليه » (3). وأخذ الشعراء يهجون المعتزلة. يقول شاعرهم:

أفلت سعود نجومك ابن دؤادفرحت بمصرعك البريّة كلّهاكم من كريمة معشر أرملتَهاكم مجلس لله قد عطّلتَهكم من مساجد قد منعتَ قضاتهاكم من مصابيح لها أطفأتها              و بدتْ نحوسك في جميع إيادمن كان منها موقتاً بمعادو محدِّث أوثقتَ بالأقيادكيلا يحدّث فيه بالاسنادمن أن يعدّل شاهد برشادكيما تزلّ عن الطّريق الهادي (4)

              وأخذ أهل الحديث يجلسون في المساجد و يروون الأحاديث ضدّ الاعتزال ويكفّرون المعتزلة. سأل أحدهم أحمد بن حنبل عمّن يقول إنّ القرآن مخلوق ، فقال: كافر. قال: فابن دؤاد؟ قال كافر بالله العظيم (5).

          ________________________________________

              1 ـ تاريخ الطبري: ج 7 ، حوادث سنة 237 ، ص 367 ـ 368.

    2 ـ تاريخ بغداد: ج 1 ، ص 298 ، ولاحظ الكامل لابن الاثير ج 5 ، حوادث سنة 240 ، ص 294.

    3 ـ مناقب الامام أحمد: ص 418.

    4 ـ تاريخ بغداد: ج 4 ، ص 155.

    5 ـ تاريخ بغداد: ج 3 ، ص 285.

          ________________________________________

          (457)

              عند ذلك شعرت المعتزلة بأنّ الظّروف قاسية و أنّ السّلطة والأكثريّة الساحقة من أهل السنّة يريدون أن يقضوا عليهم و يشفوا غيظ صدورهم منهم ، ومع ذلك كلّه كانت عندهم طاقة يردّون بها عن أنفسهم الّتي رشقوا بها و يتمسّكون بكلِّ طحلب وحشيش.فقام الجاحظ أحد أُدباء المعتزلة فألّف كتاباً باسم « فضيلة المعتزلة » فأثنى عليهم و عدّ فضائلهم وكان الكتاب من حيث الصياغة والتعبير بمكان توجّهت إليه أبصار الخاصة والعامّة ، و بالتّالي ظهر عليه ردّ أو ردود ، أشهرها ما كتبه أحمد بن يحيى الراوندي ( م 345هـ ) الّذي كان من المعتزلة ، ثمّ رجع عنهم فألّف كتابه « فضيحة المعتزلة » ولم يبرح زمان حتّى جاء أبو الحسين عبدالرحمن بن محمّد بن عثمان الخيّاط فألّف « الانتصار » انتصر فيه للجاحظ على ابن الرّاوندي والموجود من هذه الكتب الثّلاثة هو الأخير.

    ثمّ إنّ ممّا أعان على انقراضهم هو تشتّت مذاهبهم و فرقهم ، فإنّ القوم تفرّقوا إلى مدرستين ، مدرسة معتزلة بغداد و مدرسة معتزلة البصرة ، ولم تكن حتّى في نفس كلِّ واحدة منهما وحدة في التّفكير ، فصاروا فرقاً ينوف على العشرين و عند ذلك بلغوا الى درجة من الضّعف والانحلال ، وإن كان ينجم بينهم رجال مفكّرون كأبي عليّ الجبائي ( م 303هـ ) و ولده أبي هاشم ( م 321هـ ).

    وجاءت الضّربة الأخيرة من جانب أبي الحسن الأشعريّ الّذي كان ربيب أبي عليّ الجبّائي و تلميذه ، ورجوعه عن الاعتزال بالتحاقه بأهل الحديث ، فقد رقى في البصرة يوم الجمعة كرسيّاً و نادى بأعلى صوته: « من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا اعرّفه بنفسي أنا فلان بن فلان ، كنت أقول بخلق القرآن ، وأنّ الله لا تراه الأبصار ، وأنّ أفعال الشّرّ أنا أفعلها و أنا تائب مقلع ، معتقد للردّ على المعتزلة ، مخرج لفضائحهم ومعايبهم » (1).

    فقد كان لرجوع من كان من أكابر تلاميذ أبي عليّ الجبّائي أثر بارز في النّفوس

          ________________________________________

              1 ـ فهرس ابن النديم ، الفن الثالث من المقالة الخامسة ص 231 ، ووفيات الاعيان ، ج 3 ، ص 275.

          ________________________________________

          (458)

              وبذلك أخذ الدهر يقلب عليهم ظهر المجنّ ، تقلّب لجّة البحر بالسفن المشحونة والفلك المصنوعة ، بين بالغ إلى ساحل النّجاة و هالك في أمواج الدّهر. هذا هو القادر بالله أحد خلفاء العبّاسيين قام في سنة ( 408 هـ ) بنفس العمل الّذي قامت به المعتزلة في عصر المعتصم والواثق. يقول الحافظ ابن كثير: « وفي سنة ( 408 هـ ) ، استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة فأظهروا الرّجوع و تبرّأوا من الاعتزال و الرفض والمقالات المخالفة للإسلام ، وأخذت خطوطهم بذلك و أنّهم متى خالفوا أحلّ فيهم من النّكال والعقوبة ما يتّعظ به أمثالهم ، وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستنّ بسنّته في أعماله الّتي استخلفه عليها من بلاد خراسان و غيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيليّة والقرامطة والجهميّة والمشبّهة و صلبهم و حبسهم و نفاهم وأمر بلعنهم على المنابر وأبعد جميع طوائف أهل البدع و نفاهم عن ديارهم وصار ذلك سنّة في الإسلام » (1).

    قال الخطيب: « وصنّف القادر بالله كتاباً في الأُصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث و أورد في كتابه فضائل عمر بن عبدالعزيز و إكفار المعتزلة و القائلين بخلق القرآن وكان الكتاب يقرأ كلّ جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي و يحضر النّاس سماعه » (2).

    أقول: وهذا الكتاب هو المعروف « بالبيان القادري » وصار هذا الكتاب محوراً لتمييز الحقِّ عن الباطل و الصّحيح عن الزّائف.

    وقال ابن الجزري في حوادث سنة ( 420 هـ ) : « ولمّا ملك محمود بن سبكتكين الريّ.. نفى المعتزلة إلى خراسان و أحرق كتب الفلسفة و مذاهب الاعتزال والنّجوم و أخذ من الكتب ما سوى ذلك مائة حمل » (3).

          ________________________________________

              1 ـ البداية والنهاية: ج12 ص6.

    2 ـ تاريخ بغداد: ج 4 ، ص 37 و 38.

    3 ـ الكامل: ج 7 ، حوادث سنة 420.

          ________________________________________

          (459)

              وقال ابن كثير في حوادث سنة ( 456هـ ) ناقلاً عن ابن الجوزي: « وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبدالصمد على أبي عليّ بن الوليد المدرس للمعتزلة فسبّوه وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع و تدريسه للنّاس بهذا المذهب و أهانوه و جرّوه ولعنت المعتزلة في جامع المنصور و جلس أبو سعيد بن أبي عمامة وجعل يلعن المعتزلة » (1).

    وقال في حوادث سنة ( 477 هـ ) : « إنّ أبا عليّ بن الوليد شيخ المعتزلة كان مدرّساً لهم فأنكر أهل السنّة عليه فلزم بيته خمسين سنة إلى أن توفّي في ذي الحجّة منها ».

    ويقول أيضاً في حوادث ( 461 هـ ) : « وفيها نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفاء عليّ بن عقيل وهو من كبرائهم بتردّده إلى أبي عليّ بن الوليد المتكلّم المعتزلي واتّهموه بالاعتزال » (2).

    ويقول في حوادث سنة ( 465 هـ ) : « وفي يوم الخميس حادي عشر المحرّم حضر إلى الديوان أبو الوفاء عليّ بن محمّد بن عقيل العقيلي الحنبلي وقد كتب على نفسه كتاباً يتضمّن توبته من الاعتزال » (3).

    وبذلك حقّق التّاريخ السنّة المعروفة « كما تدين تدان » وأخذت الطّائفتان ، الحنابلة والمعتزلة يتصارعان و يقتتلان قتال موت أو حياة ، فصارالانتصار لأصحاب الحديث ، والهلاك والاضطهاد للمعتزلة ، فلم يظهر بعد هذه القرون إلاّ آحاد ينجمون في الفينة بعد الفينة والفترة بعد الفترة لا تجد لهم ذكراً بارزاً في ثنايا التاريخ.

    إنّ تكامل الأُمم و بلوغها الذّروة من العظمة ، ثمّ انحدارها إلى هاوية الضعف والانحلال سنّة إلهيّة قضى بها على جميع الأُمم ، فلم يكن ارتقاء المعتزلة بلا سبب ، كما أنّه لم يكن ضعفهم بلا علّة. فيجب على الباحث المتأمِّل في ثنايا القضايا التّاريخية تحليل هذه الظاهرة تحليلاً علميّاً يوافق الأُصول المسلّمة في تحليل هذه المباحث.

          ________________________________________

              1 ـ البداية والنهاية: الجزء 12 ، ص 91.

    2 ـ المصدر نفسه: ص 98 و 105.

    3 ـ المصدر نفسه: ص 98 و 105.

          ________________________________________

          (460)

              أقول: إنّ المعتزلة لم يسقطوا سياسيّاً فحسب ، بل سقطوا فكريّاً ، فلا تسمع بعد أبي هاشم الجبائي ( م 321هـ ) في القرن الرابع ، وبعد القاضي عبدالجبّار ( م 415هـ ) في القرن الخامس ، مفكّراً قويّاً في المسائل الكلاميّة ، يوازي المتقدّمين منهم مثل أبي هذيل العلاّف ، والنّظام. بل أكثر ما قام به المتأخّرون بعد القاضي لا يتجاوز عن تبيين المذهب و توضيح صياغته من دون تأسيس قاعدة أو أصل في المجالات الكلاميّة.

    والظّاهر أنّه لم يكن لسقوطهم سبب واحد ، بل يستند انحلالهم إلى أسباب متعدّدة أدّت بهم إلى الهلاك والدمار والانقراض إلاّ في نقاط خاصّة كاليمن و غيرها.

    وها إليك بيان الأُمور الّتي سبّبت سقوطهم:

    1 ـ إنّ مذهب السنّة بمفهومه الحقيقي ، يبتني على عدالة الصحابة أجمعين وإجلالهم ، بل على تعديل السلف من التّابعين وتابعي التّابعين في الأقوال والأفعال ، كيف وهؤلاء عند أهل السنّة عمد المذهب ، الّتي قام عليها صرحه. وجرح واحد من الصّحابة أو ترك قوله ، إخلال في الأساس ، وهو ما لا يقبله المذهب بتاتاً. فلأجل ذلك ترى أنّ أهل السنّة ، يقدِّسون السلف و يكسونهم حلية العدالة الّتي لا تقلُّ عن العصمة في حقِّ النّبي الأكرم والعترة الطاهرة ( عليهم السلام ) عندالشيعة. وما هذا إلاّ لأنّ المذهب مبنيّ على تلك الأُسس من أوّل يوم اجتمعوا فيه لاختيار خليفة للرّسول إلى يومنا هذا.

    فمع أنّ كثيراً من المفكِّرين منهم يتلون كتاب الله الصّريح في التنديد ببعض الصحابة ، و يقرأون الصحاح والمسانيد الصّريحة في ارتداد الكثير منهم بعد رحلة النّبي صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ويقلبون التاريخ ظهر المِجنّ ، فيشاهدون فيه موبقات بعض الصحابة وخداعهم و ضلالهم ، مع ذلك كلِّه لا ينبسون فيهم ببنت شفة و يحكِّمون الأصل على هذه المعارف الصحيحة. وهذه قاصمة للمذهب السنّي بالمعنى الحقيقي. هذا من جانب.

    ومن جانب آخر ، إنّ المعتزلة كانوا منتمين لأهل السنّة ، وفي الوقت نفسه كانوا

          (461)

              يعطون للعقل قسطاً أوفر و يقدِّمونه على النّصوص الواردة في الصِّحاح والمسانيد عن الصحابة والتابعين. مثلاً إنّ النّصوص النبويّة الّتي يرويها المحدِّثون من أهل السنّة تركِّز على التجسيم والرؤية والتشبيه والجبر وسلب الاختيار عن الإنسان ، فمعنى كون الفرقة فرقة سنّية ، تكريم هذه الأُصول والأحاديث وعدم الخروج عن خطوطها ، ولكنّهم مع الانتماء واجهوا هذه النّصوص بشدّة و قسوة ، فأخذوا يردّونها و يضربونها عرض الجدار ، وهذان لا يجتمعان.

    فكون الإنسان مقتفياً لمذهب أهل السنّة لا ينفكّ عن اقتفاء هذه الآثار و عدم التخطّي عنها ، والثورة على هذه النّصوص ، إمحاء لمذهب السنّة وهدم لأُسسه ، فكيف يجتمعان. فلازم ذلك أنّهم صاروا يتبنّون مبدأين متناقضين يضربون بواحد منهما المبدأ الآخر.

    فالحقّ أنّ التسنّن بالمعنى الصحيح هو ما كان عليه أحمد بن حنبل و نظراؤه من الجمود على الظواهر ، والأخذ في الصفات الخبريّة بالمعنى الحرفي ، و رفض العقل والبرهان في مجالي العقائد والأحكام ، وترك التفكير والتعقّل في المعارف ، وهذا هو الخطّ السنّي الحقيقيّ الّذي عليه و هّابية اليوم في نجد والحجاز ، فمن أراد الانتماء إلى هذا المذهب ، يجب أن يسلك هذا الطريق و يترك التفكّر والبرهنة في جميع المجالات ، ومن جمع بينهما فقد جمع بين الضدّين والنقيضين.

    إنّا نرى أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعريّ بعد ما تاب والتحق بالحنابلة ، وحاول إثبات عقائد أهل الحديث بالبرهنة والدليل ، قابله إنكار شديد من قبل الحنابلة ، ولأجل ذلك لم يترجموه في طبقاتهم ولا عدّوه من أنفسهم ، بل استنكر « البر بهاري » رئيس حنابلة بغداد طريقته بأنّه يتجاوز في طرح الأُصول والعقائد عن النّصوص ويدخل في باب الدليل والبرهان ، وقد صار ذلك سبباً لحدوث مخاصمة شديدة بين الحنابلة والأشاعرة على مدى القرون.

    وقد عرفت في الجزء الثاني شكوى الأشاعرة من المتوسّمين بالحنبليّة ، وما هذا إلاّ

 

          ________________________________________

          (462)

              لأنّ خطّ الحنابلة خطّ الرواية عن التّابعين والصحابة والاقتفاء بهم من دون أن يقيموا للعقل وزناً ، وهذا على طرف النقيض من كتب الإمام الأشعري ( سوى الابانة ) وكتب أئمّة الأشاعرة ، فإنّها مشحونة بالاستدلال العقليّ على العقائد وإن كان لصالح آراء أهل الحديث.

    وفي ضوء ذلك تقف على أنّ موضع المعتزلة من المجتمع السنّي موضع الرقعة من اللّباس ، فكانوا من أهل السنّة و يدّعون الانتماء إليهم ، غير أنّ أهل السنّة لا يقبلونهم وهذا وحده يكفي في سقوطهم من أعين العامّة و أوساط الناس.

    2 ـ كان لأصحاب الحديث ـ بما أنّهم حفظة السنّة و علماء الدين ـ نفاذ عجيب في نفوس العامّة و كان ذلك كافياً في إثارة سخطهم على المعتزلة ، لأنّهم ما زالوا يذكرونهم على صهوات المنابر وأندية الوعظ والإرشاد بالالحاد ورفض السنّة و مخالفة الدين ، ولم تكن الوقيعة فيهم منحصرة بيوم أو شهر أو سنة ، بل امتدّت طوال قرون في العواصم الإسلاميّة حتّى أيقن بسطاء الأُمّة بل علماؤهم بأنّ الاعتزال خروج على الدّين باسم الدّين ومحو للسنّة باسم البرهنة بالعقل. وكفى هذا في إبعاد المعتزلة عن ساحة المجتمع و إسقاطهم عن أعين النّاس والهجوم عليهم وعلى أموالهم إذا أتيحت للنّاس الفرصة و وافقت عليه السّلطة الحاكمة.

    3 ـ إنّ المعتزلة كانوا يتبنّون عقائد تخدش عواطف العامّة بخلاف أهل الحديث ، فقد كانوا يتبنّون ما يوافق أفكارهم و مصالحهم في الدّنيا و الآخرة ، فأهل الحديث كانوا يدّعون بأنّ شفاعة الشّافعين تعمّ العادل والفاسق و أنّ رسول الله ادّخرها للمذنبين من أُمّته و مثل هذا يوجب التفاف عامّة الناس حول رايتهم ، وهذا بخلاف ما يتبنّاه المعتزلة ، فإنّهم يقولون بأنّها لا تشمل إلاّ صلحاء الأُمّة ، والغرض منها رفع الدّرجة لاإمحاء الذّنوب. فأىُّ العقيدتين أولى بأن تتّبع عند عامّة النّاس؟

    إنّ أهل الحديث يقولون بأنّ الخلود في النّار يختصّ بالكافر ، والمؤمن وإن كان فاسقاً لا يخلّد و إن مات بلا توبة.

 

          ________________________________________

          (463)

              وهذا بخلاف ما يقوله المعتزلة من خلود مرتكبي الكبائر في النّار إذا ماتوا بلا توبة. فكان لفكرة أهل الحديث جاذبيّة تضمّ العامّة إليهم و هذا بخلاف ما تقوله المعتزلة.

    4 ـ إنّ نجم المعتزلة أفل بعد الواثق عند ما تسنّم المتوكِّل منصّة الخلافة ، فعند ذلك صارت السلطة الحكوميّة سيفاً مصلتاً فوق رقابهم و شبحاً مرعباً يلاحقهم بعد ما كانت أداة طيّعة لهم ، والنّاس على دين ملوكهم وسلاطينهم ، ثمّ اشتدّ غضب الخلفاء عليهم على مرِّ الزمن ، فصار ذلك سبباً لذبح المعتزلة تحت كلّ حجر و مدر ، وقد استغلّ أهل الحديث والحنابلة غضب السّلطة على المعتزلة وقادوهم إلى الحدّ الّذي عرفت من النكاية.

    5 ـ إنّ المعتزلة قد اشتهروا بالقول بحريّة الفرد في أعماله و كانوا يدافعون عن حريّة الإنسان و احترام العقل ، وهذا لا يجتمع مع ما ارتكبوه في أيّام الخلفاء الثلاث ، فناقضوا بذلك أنفسهم و عارضوا تعاليمهم و أظهروا أنّهم لا يقدرون العقل حقّ قدره ، فإذا كانت الحريّة تفرض على المعتزلة أن يدينوا بخلق القرآن ، فهذا بنفسه يفرض عليهم أن لا يسوقوا النّاس بالجبر والحبس والضّرب على الاعتراف بخلق القرآن ، وغاية ما كان على المعتزلة تشكيل أندية الوعظ والارشاد والجدال الصحيح حتّى يتمّوا الحجّة على متحرّي الحقيقة أخذاً بقوله سبحانه: ( اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِين ) (1).

    وأين هذا من الاصرار على تبديل السّرائر والحكومة على الضمائر و فرض العقيدة بالجبر والضّرب؟ « إنّ الحركة الفلسفيّة العلميّة الّتي بدأت تتقوّى و تنتشر بيد المعتزلة وأخذت تلقى أنصاراً و أعواناً ، لو تركت تسير في مجراها الطبيعي ، لاستطاعت أن تقضي على الرّوح الرجعية في الأُمّة على قوّتها و عنفها. ولكتب لها الفوز والنجاح ، ولكنّ

          ________________________________________

              1 ـ سورة النحل / 125.

          ________________________________________

          (464)

              المعتزلة استبقوا الزمن واستعجلوا الأُمور ، فأرادوا في زمن دولتهم أن يحقِّقوا ما لا يتحقّق إلا بالاقناع ، وأن ينجزوا في برهة و جيزة ما قد يتطلّب قروناً » (1).

    6 ـ إنّ صمود أحمد بن حنبل في طريق عقيدته أضفى له عند الأُمّة بطولة في طريق حفظ السنّة وجعل منه أُسطورة للدّفاع عن العقائد و قبول الاضطهاد في طريق الدّين ولمّا أفرج عنه التفّ النّاس حوله واندفعوا يحاربون أعداءه و يكيدون لهم ، ولم يبرح في الإجهار على ضدّ المعتزلة و إثارة النّاس عليهم.

    7 ـ إنّ الرجعيّة كانت متأصّلة في نفوس العامّة ، متحكّمة في كثير من العلماء وكانوا لا يرغبون في مخالفة السلف قدر شعرة ، وهذا أوجب انتصار أهل الحديث على أهل العقل والاستدلال ، وكان عمل المعتزلة مثيراً لروح التعصّب فيهم أزيد ممّا كانوا عليه ، ولعلّهم كانوا يتقرّبون في ضربهم و شتمهم و قتلهم إلى الله.

    8 ـ وقد كان للشّيخ أبي الحسن الأشعري دور مؤثّر في تأليب العامّة و الخاصّة على المعتزلة ، فإنّه كان معتزليّاً عارفاً بسلاح العقل والمنطق. فقد رجع عن المعتزلة لأجل أنّه رأى الهوّة السحيقة بين أهل السنّة و أهل الاعتزال ، فأراد أن يتّخذ طريقاً وسطاً بين المذهبين ، ولكنّه بدلاً من أن يستعمل ذلك السِّلاح في نصرة الدّين قام بمقاومة الاعتزال وهدمه ، ولم يفعل ذلك إلاّ مجاراة للرأي العامّ و طمعاً في كسب عطفهم و تأييدهم ، وبالتالي خضع للقوى الرجعية إلى حدّ كبير ، فأمضى كلّ ما كان عليه الحنابلة من مسألة القدر والرّؤية بحرفيتّها.

    9 ـ إنّ جنوح السّلطة إلى أصحاب الحديث من عصر المتوكِّل إلى آخر العبّاسيّين وتولّيهم عن المعتزلة دعاة العدل والتّوحيد ، لم يكن خالياً عن الأهداف السياسيّة الّتي كانت لمصالح عروشهم وحكومتهم ، لأنّ من مبادىء أهل الحديث وجوب إطاعة السّلطان الجائر و حرمة الخروج عليه و وجوب الصلاة خلف كلّ برّ وفاجر إلى غير ذلك من الأحكام الّتي ذكرها إمام الحنابلة في عقيدة أهل الحديث ، ومن المعلوم أنّ هذا هو ما تتوخّاه السّلطة ، فإنّ في ذلك دعماً لجورها و استبدادها.

    وأين هذا من القول بالعدل والدعوة إلى التفكّر و وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و وجوب الخروج على السلطان الجائر و نصب الإمام العادل ، إلى غير ذلك من الأُصول الّتي كانت المعتزلة تتبنّاه ولم تكن لصالح الحكومة.

    هذا و ذاك صار سبباً لرجوع السّلطة إلى أهل الحديث و تقديمهم على المعتزلة.

    10 ـ إنّ للّه سبحانه سنّة في الأقوام و الأُمم عبّر عنها في الكتاب العزيز بقوله:

( وتلك الأيّام نداولها بين النّاس ) ( آل عمران / 140 ) فلا ترى أُمّة في ذروة العزِّ دائماً ولا في حضيض الذلّ كذلك. نعم لتحقّق السنّة و تبلورها في المجتمع أسباب وعلل ربّما يكون ما ذكرنا من الأسباب بعضها.

          ________________________________________

              1 ـ المعتزلة لحسن زهدي جار الله: ص 252.

          ________________________________________

          (465)

          2 ـ الآثار الباقية من المعتزلة. (1)

    كان مشايخ الاعتزال و أئمّتهم ذوي قرائح خصبة ، وكفاءات خاصّة في نضد القريض و ارتجال الخطب. فكان إلقاء الكلام على الوجه البليغ ، المطابق لمقتضى الحال ، أحد أسلحتهم الفتّاكة في باب المناظرة. ومن المحتمل أيضاً أنّ تسمية علم الكلام به لأنّ المعتزلة هم الأُسس لتدوين علم الكلام بين أهل السنّة ، وبما أنّهم قد بلغوا الذّروة والسّنام في البلاغة والفصاحة و إلقاء الكلام ، سمّيت صناعتهم بأوصافهم و خصوصيّاتهم ، فأطلقوا على منهجهم الفكري لفظ الكلام و علمه. ويظهر ذلك من الرّجوع إلى تاريخ حياتهم ، وقد عرفت أنّ واصل بن عطاء مع أنّه كان به لثغة بالرّاء ولكن كان يتجنّب عن الراء في خطبه ، فيتكلّم بالقمح مكان البُرّ ، والغيث مكان المطر. ولم يكن التفوّق في البلاغة مختصّاً به ، بل هو الغالب على أئمّة المعتزلة. فلا عجب لأن يتركوا كتباً قيّمةً في مجالات العقيدة والأدب والتفسير ، غير أنّ الدهر لعب بكتبهم ،

          ________________________________________

          1 ـ هذا هو البحث الثاني الذي وعدنا به في صدر خاتمة المطاف.

          ________________________________________

          (466)

              وأعان على حرقها و إعدامها خصماؤهم ، فلم يصل إلينا إلاّ النّزر القليل الّذي حفظته الصدفة. و نذكر من آثار المعتزلة ما طبع و نشر ، وأمّا المخطوطة منها الموجودة في المكتبات العالميّة فهي على عاتق الفهارس ، ولو قمنا به لطال بنا المقام فنذكر المطبوع حسب التّسلسل التّاريخي للتأليف.

    1 ـ « المعيار والموازنة » لأبي جعفر الاسكافي ( م 240 ) ، في فضائل الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ تحقيق محمد باقر المحمودي ، طبع في بيروت / 1402.

    2 ـ « درّة التنزيل و غرّة التأويل » له أيضاً طبع في مطبعة السعادة ، عام ( 1326هـ ).

    3 ـ « البيان و التبيين » لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ( م 255هـ ) في أربعة أجزاء ، طبع عدّة مرّات ، آخرها طبعة دار الفكر عام 1968.

    4 ـ « المحاسن والاضداد » له أيضاً طبع في القاهرة ( عام 1331هـ ).

    5 ـ « الفصول المختارة من كتب الجاحظ » جمعها الإمام عبيد الله بن حسّان ، طبع على هامش « الكامل » للمبّرد في القاهرة ، ( عام 1324هـ ).

    6 ـ « العثمانيّة » تحقيق محمّد هارون المصري طبع مصر ، واستقصى المحقّق ما بثّه ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة من كتاب ( نقض العثمانية ) لأبي جعفر الاسكافي ، فجمعه وطبعه في آخر « العثمانيّة » فجاء الكتاب ونقضه في مجلّد واحد. وتعرّفت على شأن الكتاب في ترجمة الجاحظ.

    7 ـ « رسائل الجاحظ » في جزءين ، تحقيق عبدالسلام هارون ، طبع في القاهرة عام ( 1964م ).

    8 ـ « البخلاء » له أيضاً ، تحقيق طه الحاجزي ، طبع في مصر.

    9 ـ « الانتصار » في الردّ على ابن الرّاوندي ، تأليف أبي الحسين المعروف بالخيّاط ،

 

          ________________________________________

          (467)

              طبع مع مقدّمة و تحقيق وتعليق للدكتور نيبرج الاستاذ بجامعة ( آبسالة ) في ( مملكة السويد ). وفي آخره قائمة لفهرس الكتب المذكورة في هذا الكتاب أكثرها للمعتزلة يبلغ عددها أربعين كتاباً (1).

    10 ـ « فضل الاعتزال أو ذكر المعتزلة » لأبي القاسم البلخي ( م 317 أو 319 هـ ) تحقيق فؤاد سيّد ، طبع الدّار التونسية ، عام ( 1406هـ ).

    11 ـ « شرح الأُصول الخمسة » لقاضي القضاة عبدالجبّار بن أحمد ( 415هـ ). حقّقه وقدّم له الدّكتور عبدالكريم عثمان ، المطبوع بمصر ، عام ( 1364هـ ) ، في ( 804 ) صفحة وراء الفهارس وهو أجمع كتاب لتبيين الأُصول الخمسة الّتي تتبنّاها المعتزلة في مجال العقائد. 

    12 ـ « المغني » له أيضاً ، وهو إملاء القاضي لتلاميذه ، وقد طبع منه لحدّ الآن أربعة عشر جزءاً وهو في عشرين جزءاً ، وقد اكتشفته البعثة العلميّة المصريّة باليمن ، وهو أبسط كتاب للمعتزلة في مجال الكلام ، والجزء الأخير منه في الإمامة ، الّذي نقضه السيّد المرتضى بكتاب أسماه ب ـ « الشافي » ولخّصة الشيخ الطُّوسي ، والأصل والملخّص مطبوعان.

    13 ـ « تنزيه القرآن عن المطاعن » طبع عن النسخة المخطوطة بدار الكتب المصريّة. له أيضاً ما يلي:

    14 ـ « متشابه القرآن » له في جزءين. طبع في القاهرة ، دار التراث ، تحقيق الدكتور عدنان زرزور.

    15 ـ « المجموع المحيط بالتكليف له ».

    16 ـ « المختصر في أُصول الدّين » من رسائل العدل والتوحيد تحقيق محمد عمارة.

          ________________________________________

              1 ـ الانتصار: قسم الفهرس ، ص 249 ـ 252.

          ________________________________________

          (468)

              17 ـ « طبقات المعتزلة » له أيضاً ، تحقيق فؤاد سيّد ، طبع الدار التونسية ، عام ( 1406هـ ).

    18 ـ « ديوان الأُصول في التوحيد » لأبي رشيد سعيد بن محمّد النيسابوري رئيس المعتزلة بعد القاضي عبدالجبّار ، طبع مصر ، عام ( 1968م ) ، تحقيق محمّد عبدالهادي أبو ريدة ، وقد تبعنا في نسبة الكتاب إليه ، رأي محقِّق الكتاب.

    19 ـ « الطبقتان الحادية عشرة والثانية عشرة من طبقات المعتزلة » لأبي السعد المحسن بن محمّد كلام الجشمي البيهقي ( م 494 هـ ) ، وكأنّه ذيل لكتاب « طبقات المعتزلة » للقاضي حيث ترجم فيه الطبقتين الحادية عشرة والثانية عشرة من المعتزلة ، تحقيق فؤاد سيّد ، طبع الدّار التونسية ، وهو جزء من كتابه « شرح العيون ».

    20 ـ « رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس » له أيضاً ، تحقيق حسين المدرسي الطباطبائي ، طبع عام ( 1406 ) ، وقد ألّفه بصورة روائيّة على النهج المعروف اليوم.

    21 ـ « تفسير الكشّاف » للشّيخ محمود بن عمر بن محمود الزمخشري ( م 538 هـ ) وقد طبع عدّة مرّات ، وهو أحد التفاسير الّتي يرجع إليها جميع المسلمين في الوقوف على بلاغة القرآن ، ولا يزال إلى اليوم ينظر إليه كأحد التفاسير المهمّة ، وقد أدرج في تفسيره حسب تناسب الآيات آراء المعتزلة و أخضع الآيات لتلك المبادىء. وله أيضاً ما يلي:

    22 ـ « أساس البلاغة » في اللّغة ، طبع في مصر.

    23 ـ « أطواق الذهب في المواعظ والخطب » تحتوي مائة مقالة في النصايح ، طبع في مصر و بيروت و استنبول.

    24 ـ « عجب العجاب في شرح لامية العرب » طبع في القاهرة و استنبول.

    25 ـ « الانموذج » طبع في ايران مع شرح عبدالغني الأردبيلي.

    26 ـ « الجبال و الأمكنة والمياه » طبع في ليدن.

    27 ـ « ربيع الأبرار و نصوص الأخبار ».

    28 ـ « الفائق في غريب الحديث » طبع في حيدرآباد.

 

          ________________________________________

          (469)

              29 ـ « الكلم النوابغ أو نوابغ الكلم » طبع في القاهرة و بيروت.

    30 ـ « المفصّل في صناعة الإعراب » طبع في مصر و غيرها.

    31 ـ « مقدّمة الأدب » في اللّغة ، طبع في ليبسيك.

    32 ـ « شرح نهج البلاغة » لعز الدين عبدالحميد بن أبي الحديد البغدادي المدائني ( م655هـ ) وهو أعظم الشّروح و أطولها و أشملها بالعلوم والآداب والتّاريخ والمعارف ، ألّفه لمؤيّد الدّين محمد بن أحمد بن العلقمي وزير المستعصم بالله آخر الخلفاء والملوك العبّاسيّين ، وكان له كتب فيها عشرة آلاف مجلّد من نفاس الكتب (1) طبع في عشرين جزءاً بتحقيق محمّد أبي الفضل إبراهيم في القاهرة.

    33 ـ « طبقات المعتزلة » لأحمد بن يحيى بن المرتضى أحد أئمّة الزّيدية ، ولد عام ( م 764هـ ) وتوفّي بظفار عام ( 840هـ ) ، وهو جزء من كتابه الآخر « المنية والأمل » في شرح كتاب الملل والنحل.

    34 ـ البحر الزخّار دورة فقهية على مذهب الإمام زيد طبع في ستة أجزاء.

    35 ـ « كتاب الأساس لعقائد الأكياس » تأليف القاسم بن محمّد بن علىّ الزيديّ العلويّ ( م 1029هـ ). حقّقه و قدّم له الدكتور البيرنصري نادر ، طبع دار الطليعة بيروت ، عام 1980.

    36 ـ « العلم الشامخ في إيثار الحقّ على الآباء والمشايخ » للشيخ صالح المقبلي ( م 1108 هـ ) ، طبع القاهرة عام ( 1331هـ ) (2).

    هذه هي المعتزلة و تأريخها ، هذه تعاليمها و مشايخها و آثارها ، فمن أراد الكتابة

          ________________________________________

              1 ـ مقدمة نهج البلاغة ، بقلم المحقق.

    2 ـ ولعل الفائت منّي أكثر من المذكور ، والتكليف على حدّ المقدور ، وقد اكتفينا بذكر ما وقفنا على المطبوع من كتبهم ، أمّا المخطوط منها فحدّث عنه ولا حرج ، يقف عليها من راجع فهرس مخطوطات المكتبة المتوكلية في جامع صنعاء باليمن ، وقد صور أكثرها دار الكتب المصرية ونشر قسماً كبيراً منها.

          ________________________________________

          (470)

              عن المعتزلة فعليه الرجوع إلى هذه المصادر وإن كانت قليلة ، لكنّها تغنيه عن الرجوع إلى كتب خصمائهم كـ « الفرق بين الفرق » للبغدادي ، فإنّه أخذ ما أخذه عن خصمهم ابن الراونديّ فنسب إليهم فى كتابه فضائح لا يمكن الرّكون عليه ، فإنّ الخصم لا يصدّق في النّسبة والنقل.