الزيدية 2

هل كان لزيد مذهب فقهي خاص ؟

    هل كان لزيد مذهب فقهي خاص كسائر المذاهب الفقهية الذائعة في عصره وبعده؟

    وهل كان لزيد منهاج خاص يسير عليه في استنباطه وافتائه؟

    وهل الاَئمة الزيدية ـ وأخص بالذكر أئمة الاجتهاد منهم ـ مشوا على ضوء آرائه ولم يخالفوه ، والفقه الزيدي الموجود ، تبسيط لفقهه ورأيه؟

    هذه موضوعات ثلاثة جديرة بالبحث والدراسة على ضوء ما ورثناه من زيد من الكتب ، والفقه الزيدي الرائج اليوم.

    فلنشرح الموضوع الاَوّل فنقول :

    كان زيد رجلاً عابداً زاهداً ، حليف القرآن والعبادة ، وتعلّم ما تعلم في أحضان والده وأخيه الاِمام الباقر ( عليه السلام ) وروى عن عدّة من التابعين ، ولم يكن موطنه يوم ذاك ، مهداً لمذهب فقهي خاص يتميز بسماته عن المذاهب الاَُخر حتى يكون الاِمام أحدهم ، ويكون له مذهب متمايز عن الآخرين ، وأقصى ما كان يتمتع به التابعون والراوون عنهم ، هو الاِفتاء في ضوء الروايات الواصلة إليهم ، وتجريدها عن الاسناد ، أو استثمار الضوابط التي تلقوها عن الرسول الاَعظم واستخراج أحكام الجزئيات منها أو التخريج على أقوال الصحابة وغيره ، وأين هذا من كونه إمام مذهب خاص له سمات وميزات ، تميزه عن سائر المذاهب الفقهية ، كما هو الحال في المذاهب المعروفة ولاسيما المذاهب الاَربعة؟ هذا حال زيد في موطنه ، وأمّا حاله في غيره ، فقد غادر المدينة كراراً ، ونزل الشام والكوفة ، إمّا بالجبر والاضطرار ، أو بالحرية والاختيار ، ولم تكن الغاية له في تلك الرحلات إلاّ إجابة الجبر ، أو دعم المبدأ وإنهاض المسلمين ضد الاَمويين وبالتالي ، دعم الجهاد

 

________________________________________

(178)

والنضال المسلح ، وأين هذا من الاختلاف في أندية الدروس ، ومحافل البحث والدراسة ، لاستثمار ما تلقاه وصبغه بصبغة خاصة تعطي له سمة وميزة؟!

    وهذا ما يعطيه الاِمعان في حياته ، والغور في الآثار الباقية منه وأقصى ما يمكن أن يقال : إنّه كان يفتي عند السوَال ، بمضمون الرواية ، أو ببسط الضوابط الكلية.

    وبذلك يعلم حال السوَال الثاني ، فإنّ المراد من المنهاج الخاص ، هو القواعد الكلية الاَُصولية التي منها يستمد الفقه ، وبها ينصبغ ، فالفقه المستمد من القياس والاستحسان غير الفقه المستنبط من الكتاب والسنّة والوقوف فيما لا نص فيه ، ومن المعلوم أنّه لم يكن لزيد ذلك المنهاج ولو كان لبان في آثاره العلمية ، أو نقله طلابه وملازموه كما هو الحال في أبي حنيفة ، فقد انعكست آراوَه على فقه تلاميذه كالشيباني وأبي يوسف وغيرهما.

    وأمّا الموضوع الثالث فالاِجابة عنه سهلة ، بعد الوقوف على اعتبار الاجتهاد المطلق عند الزيدية فقد فتحوا ـ كالاِمامية ـ بابَ الاجتهاد المطلق في الفروع والاَُصول فخالفوا زيداً في قسم من الفروع ، وركنوا إلى أُصول لم يعلم الركون به من إمامهم.

    وإن شئت قلت : هناك فرق بين اجتهاد الاَحناف ، والشوافع واجتهاد أئمة الزيدية فالطائفة الاَُولى كانوا مجتهدين لكن مقيدين بأُصول إمامهم ومناهجه. وكانوا يبذلون مساعيهم لاستكشاف آراء إمامهم في ضوء الاَُصول الواصلة إليهم منه. وأمّا أئمة الزيدية ، فلاَجل فتح باب الاجتهاد المطلق صاروا مجتهدين مستقلين ربما وافقوا إمامهم ، وأحياناً خالفوه ولذلك ترى بعداً شاسعاً بين المجموع الفقهي المنقول عن الاِمام زيد وكتاب الاَحكام للاِمام الهادي المطبوع المنتشر في جزئين ، ومثله الروض النضير فالموَلف وإن كان زيدياً ، لكن كتابه هذا ،

 

________________________________________

(179)

أُلّف على ضوء الاجتهاد المطلق ، فيستهدي من روايات الصحاح والمسانيد والقواعد الدارجة بين المذاهب الاَربعة التي رفضها أئمة أهل البيت أوّلاً ولم يثبت حجيتها عند الاِمام زيد ثانياً.

    يقول أبو زهرة : « ويجب أن يعلم أنّ الفقه الزيدي ليس كله فقه الاِمام زيد ، بل هو فقه طائفة كبيرة من آل البيت كالهادي والناصر وغيرهم ممن جاءوا بعده وخصوصاً أنّ باب الاجتهاد فيه كان مفتوحاً لم يغلق (1).

    ويقول في موضع آخر في سبب انتشار المذهب الزيدي وأنّ من أسبابه : « فتح باب الاختيار من المذاهب الاَُخرى فقد صار هذا المذهب بهذا الاختيار حديقة غنّاء تلتقي فيها أشكال الفقه الاِسلامي المختلفة ، وأغراسه المتبائنة وجناه المختلف الاَلوان والطعوم ، وإن كان ذلك نتيجة لفتح باب الاجتهاد فيه ، فقد اختاروا باجتهادهم من المذاهب الاَُخرى ما يتفق مع منطق المذهب أو أُصوله ، وأُصوله متحدة أو على الاَقل متقاربة مع جملة الاَُصول التي قررها فقهاء المسلمين » (2).

    والحقيقة هي : أنّ المذهب الفقهي المعروف بالمذهب الزيدي في اليمن ، نسبةً إلى الاِمام زيد أو المذهب الهادوي كما يروق للبعض اليوم أن يسميه وينسبه إلى الاِمام الهادي يحيى بن الحسين ولا فارق بين الاِمامين إلاّ في مسائل يسيرة جداً ، نتيجة الاجتهاد المفتوح بابه في المذهب الزيدي حتى اليوم وإلى الاَبد إن شاء اللّه ـ هذا المذهب لم يكن مذهب إمام معين ، ولكنّه خلاصة أبحاث عميقة ، ودراسات واسعة مختلفة في كل مجالات الفقه الاِسلامي العظيم ، وجهود مضنية استمرت في البحث والتنقيب والتصفية أكثر من سبعة قرون ، وقام بتلك الاَبحاث

________________________________________

    1 ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : 331.

    2 ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : 488.

________________________________________

(180)

والدراسات أئمة أعلام من أهل البيت النبوي الشريف ومن تابعهم من الفقهاء المجتهدين ، معتمدين في كل ذلك على المحكم من كتاب اللّه ، والصحيح من سنّة رسول اللّه ، وعلى القياس ، والاِجماع ، وأحياناً على الاستصحاب ، والاستحسان ، والمناسب المرسل ـ المصالح المرسلة ـ وهي التي تتفق مع المقاصد الشرعية فيما لا يوجد له نص في الكتاب أو السنّة إثباتاً أو نفياً كما سيأتي في موضعه إن شاء اللّه. وبسبب ذلك تصارع الاَئمة وأتباعهم أزماناً عديدة مع دسائس الملحدين وأفكار المندسين ، كما تعاركوا مع جبابرة الاَهواء السياسية والاَحقاد العنصرية ، جاعلين الاخلاص رائدهم ، والحقّ مقصدهم ، ورضوان اللّه غايتهم (1).

    ولعل حقيقة الحال تعلم من دراسة ما بقي منه من الآثار وأخص بالذكر ما طبعت وانتشرت منها فإنها مرآة ضمير الرجل ، والمرء بآرائه وأفكاره.

________________________________________

    1 ـ علي بن عبد الكريم : الزيدية نظرية وتطبيق : 14.

(181)

الفصل التاسع

هل دعا إلى نفسه

أو دعا إلى الرضا من العترة

    إنّ هناك فرقاً واضحاً بين إمام الثورة والجهاد ـ الذي يقابل الظالمين والغاصبين بالطرد والقتل ، ويُعبِّدَ الطريق لصلحاء الاَُمّة في المستقبل حتى يتفكروا في أمرهم بعد قمع الظالمين ـ والاِمام الذي فرضتْ طاعته من قَبل إمّا بتنصيص من اللّه ورسوله أو بإتفاق من أهل الحل والعقد أو ما أشبه ذلك. وزيد الثائر لم يكن من قبيل الثاني ، وإنّما كان إمام الثورة والجهاد. قام بأخذ الثأر والاَمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة العدل ، وإزاحة الظلم وتدمير عرش الاَمويين ، فهو بهذا المعنى كان إماماً لا شك فيه ، وقد أطبقت الزيدية والاِمامية على كونه إماماً بهذا المعنى ومن نسب غير ذلك إلى الاِمامية فهو باهت كاذب إنّما الكلام في كونه الاِمام المنصوص عليه بلسان النبي الاَكرم وأوصيائه فلم يكن زيد إماماً بهذا المعنى ولا إماماً مختاراً من قبل الاَُمّة ولا ادّعاه هو ولا أحد من أتباعه ومقتفيه ، والذي يوضح ذلك ما نص عليه الشيخ المفيد وهو من متكلمي الشيعة في القرن الرابع. روى تلميذه المرتضى :

    قال : حضر المفيد مسجد الكوفة ، فاجتمع إليه أكثر من خمسمائة فقال له

 

________________________________________

(182)

رجل من الزيدية ـ أراد الفتنةـ : بأي شيء استجزت إنكار إمامة زيد؟ فقال : ظننت عليّ باطلاً وقولي في زيد لا يخالفني فيه أحد من الزيدية. فقال : وما مذهبك فيه؟ قال : إنّي أُثبت من إمامة زيد ما تثبته ، وأُنفي ما تنفيه وأقول كان إماماً في العلم والزهد والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنفي عنه الاِمامة الموجبة لصاحبها العصمة والنصَّ والمعجزة ، وهذا ما لا يخالفني عليه أحد من الزيدية ، فلم يتمالك من حضر من الزيدية أن شكروه ودعوا له وبطلت حيلة الرجل (1).

    ولعل الجوّ السائد على مجلس المناظرة ـ كما يظهر من كلام تلميذه الجليل السيد المرتضى ـ لم يسمح للشيخ المفيد ، أن ينفي حتى الشق الثاني وهو كونه إماماً مفترضة طاعتـه باختيار الاَُمّة.

    نعم تضافرت الروايات على بيعة جماعة كثيرة معه لكن متعلق البيعة ، هو الجهاد والنضال ، وكونه أميره ورائده لا على الاِمامة بعد النجاح واكتساح الاَشواك.

    نعم أنّ الطائفة الزيدية المتشكلة بعد رحيل الاِمام الثائر زعموا أنّه ادّعى الاِمامة لنفسه وكان الجهاد ، لرفع الموانع عن طريق إمامته وحاكميته وقد اغترّوا بظواهر الاَمر ، ولم يتدبروا في القرائن الحافة به.

    وبذلك الزعم ـ صارت الاِمامة عند الاِمامية غيرها عند الزيدية وذلك :

    إنّ مفهوم الاِمامة لدى الشيعة الاِمامية غيرها لدى الزيدية ، فالطائفة الاَُولى تشترط في الاِمام النص والعصمة والمعجزة وكونه أعلم الاَُمّة وأفضلها سواء أقام بالسيف أم لا ، وإنّمـا يتبع في القيام والجهاد مصالح الاَُمّة الاِسلامية فهي بين ما يفرض عليه القيام والجهاد أو يفرض عليه إرشاد الاَُمّة عن طريق آخر.

________________________________________

    1 ـ المرتضى : الفصول المختارة : 277.

________________________________________

(183)

    وهذا بخلاف الاِمامة لدى الزيدية فلايشترط فيها ما ذكرنا ، قال الشيخ المفيد : الاِمامة عَلَم على من دان بوجوب الاِمامة ووجودها في كل زمان ، وأوجب النصَّ الجلي والعصمة والكمال لكل إمام ، ثم حصر الاِمامة في ولد الحسين بن علي ( عليهما السلام ) وساقها إلى الرضا علي بن موسى الرضا.

    وأمّا الزيدية فهم القائلون بإمامة أمير الموَمنين علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين وزيد بن علي ( عليهم السلام ) ، وبإمامة كل فاطمي دعا إلى نفسه وهو على ظاهر العدالة ، ومن أهل العلم والشجاعة وكانت بيعته على تجريد السيف للجهاد (1).

    وقال ابن المرتضى : « فالزيدية منسوبة إلى زيد بن علي ( عليه السلام ) يجمع مذهبهم تفضيل علي ( عليه السلام ) وأولويته بالاِمامة وقصرها في البطنين ، واستحقاقها بالفضل والطلب لا بالوراثة ووجوب الخروج على الجائرين (2).

    والذي يعرب عن موقفه في الاِمامة ما جاء في خطبه وفيها هذه الجمل التالية :

 

كلمات لزيد تعرب عن موقفه :

    1 ـ الحمد للّه الذي أكمل لي ديني بعد أن كنتُ استحيي من رسول اللّه أن أرِدَ عليه ولم آمر أُمّته بمعروف ولم أنه عن منكر (3).

    2 ـ واعلموا أنّه ماترك قوم الجهادَ قط إلاّ حُقِّروا وذلّوا (4)

________________________________________

    1 ـ المفيد : أوائل المقالات : 8.

    2 ـ ابن المرتضى : البحر الزخار : 1/40 وسيوافيك تفصيل عقيدتهم في الاِمامة فانتظر.

    3 ـ السياغي : الروض النضير : 1/102.

    4 ـ المصدر نفسه.

________________________________________

(184)

    3 ـ أيّها الناس أعينوني على أنباط الشام فواللّه لايعينني عليهم منكم أحد إلاّ رجوت أن يأتيني يوم القيامة آمنا ... (1).

    ولاَجل ذلك تضافرت الروايات من طرقنا على أنّ زيداً ما دعا إلى نفسه وإنّما دعا إلى الرضا من آل محمّد ، وأنّه لو ظفر لوفى ، ومعنى هذه الروايات أنّه كان يمهّد الطريق لولاية الاِمام المنصوص عليه في لسان النبي والاَئمة الصادقين ، وإليك بعض النصوص :

    1 ـ قال الصادق ( عليه السلام ) : إنّ زيداً كان موَمناً وكان عارفاً وكان صدوقاً أما إنّه لو ظفر لوفى ، أما إنّه لو ملك عرف كيف يضعها (2).

    2 ـ وقال ( عليه السلام ) : إنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد ، ولو ظفر لوفى بما دعاكم إليه ، وإنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه (3).

    3 ـ وقال الاِمام الرضا ( عليه السلام ) في جواب سوَال المأمون عن ادّعاء زيد ما لم يكن له بحق :

    إنّ زيد بن علي لم يدعُ ما ليس له بحقّ ، وإنّه كان أتقى للّه من ذلك أنّه قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد ، وإنّما جاء ما جاء فيمن يدعي أنّ اللّه نصَّ عليه ثم يدعو إلى غير دين اللّه ويضل عن سبيله بغير علم وكان زيد بن علي واللّه ممن خوطب بهذه الآية! « وجَاهِدُوا فِي اللّهِ حقّ جِهادِه »(4).

    إنّ الاِمام الرضا ( عليه السلام ) نصَّ على موقف زيد من الاِمامة وهو أنّه كان

________________________________________

    1 ـ المصدر نفسه : 1/127 ـ 128 ، والاَنباط : أخلاط الناس وعوامهم.

    2 ـ الكليني : الكافي : الروضة الحديث 381.

    3 ـ الكشي : الرجال : ترجمة السيد إسماعيل الحميري : برقم 144 ص 242.

    4 ـ عيون أخبار الرضا ، الباب 25 ، ص 249. وسيوافيك تفصيل المذاكرة بينهما ص 199 فلاحظ.

________________________________________

(185)

إمام الجهاد وقد جسّد قوله سبحانه : « وجاهدوا في اللّه حقّ جهاده » (1) وأين هو من الاِمامة المنصوص عليها من جانب اللّه بلسان نبيه وأوصيائه السابقين أو الاِمام المختار من جانب الاَُمّة. ولو كان زيد يتظاهر بالاِمامة فإنّما كان لغاية كسح الاَشواك عن طريقها ثم تسليم الاَمر إلى الاِمام المنصوص.

    إنّ هناك نكتة اجتماعية وهي أنّ زيداً قام موطّناً نفسه على الشهادة ، ومستميتاً متيقناً بأنّه سوف يقتل ويستشهد ، وقد سمع من أبيه وأخيه وابن أخيه أنّه سوف يقتل ويصلب في الكناسة ، وأنّه لم يكن شاكاً ولامتردداً في هذا الاَمر ومن كان هذا مآله ومستقبله فهل يمكن أن يدّعي الاِمامة بالمعنى المعروف بين المتكلمين أي قيادة الاَُمّة في جوانب شتى إلى الصلاح والفلاح ، فإنّ القيام بهذا الواجب فرع الحياة وهو كان على الطرف الخلاف من هذا ، فلم يبق إلاّ أن يكون أميراً في الجهاد قائداً في النضال ، وإن قصرت حياته ، وقلّ بقاوَه.

 

اعترافه بإمامة الاِمام الصادق ( عليه السلام ) :

    1 ـ إنّ زيداً كان معترفاً بإمامة ابن أخيه جعفر الصادق ( عليه السلام ) بلا كلام ، وكان يقول : من أراد الجهاد فإليّ ، ومن أراد العلم فإلى ابن أخي جعفر (2).

    2 ـ روى الصدوق في الاَمالي : عن عمرو بن خالد : قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج اللّه به على خلقه ، حجّة زماننا ابن أخي جعفر بن محمد لا يضل من تبعه ولا يهتدي من خالفه (3).

________________________________________

    1 ـ سيأتي نصّ الاِمام : في ص 199 ـ 200 في ضمن الرواية الثالثة عشرة.

    2 ـ الخزاز القمي : كفاية الاَثر : ص 302.

    3 ـ الصدوق : الاَمالي : 542 بحار الاَنوار : 46/173.

________________________________________

(186)

    3 ـ روى الكشي عن عمار الساباطي ، قال : كان سليمان بن خالد خرج مع زيد بن علي ، قال : فقال له رجل ونحن وقوف في ناحية وزيد واقف في ناحية : ماتقول في زيد أهو خير من جعفر؟ قال سليمان : قلت واللّه ليوم من جعفر خير من زيد أيام الدنيا ، فحرّك رأسه وأتى زيداً وقصّ عليه القصة فمضيت فانتهيت إلى زيد وهو يقول : جعفر إمامنا في الحلال والحرام (1).

    4 ـ إنّ يحيى بن زيد سأل أباه عن الاَئمة ، فقال : الاَئمة اثنا عشر ، أربعة من الماضين وثمانية من الباقين فقلت : فسمّهم يا أبة. فقال : أمّا الماضون فعلي بن أبي طالب والحسن والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومن الباقين أخي الباقر وبعده جعفر الصادق ابنه ، وبعده موسى ابنه ، وبعده علي ابنه ، وبعده محمد ابنه ، وبعده علي ابنه ، وبعده الحسن ابنه ، وبعده المهدي ابنه ، فقلت له يا أبة : ألست منهم؟

    قال : لا ، ولكنّي من العترة ، فقلت : فمن أين عرفت أساميهم؟ قال : عهد معهود عهده إلينا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2).

    5 ـ روى محمد بن مسلم : دخلت على زيد بن علي وقلت : إنّ قوماً يزعمون أنّك صاحب هذا الاَمر ، قال : لا ولكنّي من العترة ، قلت : فلمن يكون هذا الاَمر بعدكم؟ قال : سبعة من الخلفاء المهدي منهم.

    قال محمد بن مسلم : دخلت على الباقر محمد بن علي ( عليهما السلام ) ، فأخبرته بذلك فقال : صدق أخي زيد ، سبيل هذا الاَمر بعدي سبعة من الاَوصياء والمهدي منهم ، ثم بكى ( عليه السلام ) وقال : وكأنّي به وقد صُلِب في الكناسة. يابن مسلم حدّثني أبي عن أبيه الحسين : قال : وضع رسول اللّه يده على كتفي ، قال :

________________________________________

    1 ـ الكشي : الرجال : ترجمة سليمان بن خالد برقم : 205 ص308.

    2 ـ الخزاز : كفاية الاَثر : 300 وسيوافيك تذييل الخزاز بعد هذا الحديث ، ورواياتها مسانيد ، لا مراسيل اقتصرنا على نقل المتون روماً للاختصار.

________________________________________

(187)

ياحسين يخرج من صلبك رجل يقال له زيد ، يُقتل مظلوماً إذا كان يوم القيامة حشر أصحابه إلى الجنة (1).

    6 ـ روى الخزاز عن عبد العلاء ... قلت : فأنت صاحب الاَمر؟ قال : لا ولكنّي من العترة ، قلت : فإلى من تأمرنا؟ قال : عليك بصاحب الشعر وأشار إلى الصادق ( عليه السلام ) (2).

    7 ـ روى الخزاز قال : عن المتوكل بن هارون قال : لقيت يحيى بن زيد بعد قتل أبيه وهو متوجه إلى خراسان ، فما رأيت رجلاً في عقله وفضله ، فسألته عن أبيه ( عليه السلام ) فقال : إنّه قتل وصلب بالكناسة ثم بكى وبكيت حتى غشي عليه. فلما سكن قلت له : يا ابن رسول اللّه وما الذي أخرجه إلى قتال هذا الطاغي وقد علم من أهل الكوفة ما علم؟ فقال : نعم لقد سألته عن ذلك فقال : سمعت أبي ( عليه السلام ) يحدّث عن أبيه الحسين بن علي ( عليهما السلام ) قال : وضع رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يده على صلبي فقال : ياحسين يخرج من صلبك رجل يقال له : زيد يقتل شهيداً إذا كان يوم القيامة يتخطّى هو وأصحابه رقاب الناس ويدخل الجنّة ، فأحببت أن أكون كما وصفني رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

    ثم قال : رحم اللّه أبي زيداً ، كان واللّه أحد المتعبّدين ، قائم ليله ، صائم نهاره يجاهد في سبيل اللّه عزّ وجلّ حقّ جهاده. فقلت : يا ابن رسول اللّه هكذا يكون الاِمام بهذه الصفة. فقال : يا أبا عبد اللّه إنّ أبي لم يكن بإمام ولكن كان من سادات الكرام وزهادهم ، وكان من المجاهدين في سبيل اللّه ، وقد جاء عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيمن ادّعى الاِمامة كاذباً ، فقال : مه يا أبا عبد اللّه إنّ أبي ( عليه السلام ) كان أعقل من أن يدّعي ما ليس له بحقّ وإنّما قال : « أدعوكم إلى الرضا

________________________________________

    1 ـ الخزاز : كفاية الاَثر : 306.

    2 ـ الخزاز : كفاية الاَثر : 307.

________________________________________

(188)

من آل محمد » عنى بذلك عمّي جعفر. قلت : فهو اليوم صاحب هذا الاَمر؟ قال : نعم هو أفقه بني هاشم.

    ثم قال : يا أبا عبد اللّه إنّي أُخبرك عن أبي ( عليه السلام ) وزهده وعبادته ، إنّه كان يصلّـي في نهاره ما شاء اللّه ، فإذا جنّ عليه الليل نام نومة خفيفة ، ثم يقوم فيصلّـي في جوف الليل ما شاء اللّه ، ثم يقوم قائماً على قدميه يدعو اللّه تبارك وتعالى ويتضرّع له ويبكي بدموع جارية حتى يطلع الفجر. فإذا طلع الفجر سجد سجدة. ثم يقوم يصلي الغداة إذا وضح الفجر ، فإذا فرغ من صلاته قعد في التعقيب إلى أن يتعالى النهار ، ثم يقوم في حاجته ساعة ، فإذا قرب الزوال قعد في مصلاه فسبح اللّه تعالى ومجّده إلى وقت الصلاة ، فإذا حان وقت الصلاة قام فصلى الاَُولى وجلس هنيئة وصلى العصر وقعد تعقيبه ساعة ، ثم سجد سجدة فإذا غابت الشمس صلى العشاء والعتمة. قلت : كان يصوم دهره؟ قال : لا ولكنه كان يصوم في السنة ثلاثة أشهر ويصوم في الشهر ثلاثة أيام. قلت : فكان يفتي الناس في معالم دينهم؟ قال : ما أذكر ذلك عنه. ثم أخرج إليّ صحيفة كاملة فيها أدعية علي بن الحسين ( عليهما السلام ) (1).

    8 ـ روى الخزاز في حديث طويل عن محمد بن بكير قال : دخلت على زيد بن علي وعنده صالح بن بشر فسلمت عليه وهو يريد الخروج إلى العراق فقلت له : يا بن رسول اللّه ... هل عهد إليكم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) متى يقوم قائمكم؟ قال : يا ابن بكير إنّك لن تلحقه ، وإنّ هذا الاَمر تليه ستة من الاَوصياء بعد هذا ثم يجعل اللّه خروج قائمنا ، فيملاَها قسطاً وعدلاً ، كما ملئت جوراً وظلما ، فقلت : يا ابن رسول اللّه ألست صاحب هذا الاَمر؟ فقال : أنا من العترة ، فعدت فعاد إليّ فقلت : هذا الذي تقول ، عنك أو عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ فقال : لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ، لا ولكن عهد عهده إلينا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم أنشأ يقول :

________________________________________

    1 ـ الخزاز : كفاية الاَثر : 303.

________________________________________

(189)

   

نحن سادات قريشنحن أنوار التي مننحن منّا المصطفى المختارفبنا قد عرف اللّهسوف يصلاه سعيراً من                   وقوام الحقّ فيناقبل كون الخلق كنّاوالمهدي منّا وبالحق أقمناتولى اليوم عنّا (1)

    9 ـ روى ابن شهر آشوب قال : ونسب إلى زيد أنّه رثا الباقر ( عليه السلام ) بهذه الاَبيات :

ثوى باقر العلم في ملحدفمن لي سوى جعفر بعدهأيا جعفر الخير أنت الاِمام            إمامُ الورى طيب المولدإمام الورى الاَوحد الاَمجدوأنت المرجى لبلوى غد (2)

 

نصوص الاِمامية في تفسير خروجه :

    نعم تفرقت الشيعة بعد استشهاده إلى فرقتين فرقة تقتفي زيد بن علي وتراه إماماً وفرقة أُخرى تقتفي الاِمام الصادق ( عليه السلام ) وكان بينهما نقاشات وخلافات نشبت من الجهل بموقف زيد ، ولو كان لهم علم به لما كان لهذا الانقسام وجه ، وقد أوضحه أعلام الاِمامية في كتبهم وإليك بعض كلماتهم :

    1 ـ قال شيخنا المفيد في إرشاده وقال : واعتقد كثير من الشيعة فيه بالاِمامة وكان سبب اعتقادهم ذلك فيه خروجه بالسيف يدعو إلى الرضا من آل محمد

________________________________________

    1 ـ الخزاز : كفاية الاَثر : 297.

    2 ـ ابن شهر آشوب : المناقب : 4/197 طبعة بيروت. وقد مرّت الاَشعار في الفصل الثالث أيضاً بمناسبة بيان خطبه وأشعاره.

________________________________________

(190)

فظنّوه يريد بذلك نفسه ، ولم يكن يريدها به لمعرفته باستحقاق أخيه ( عليه السلام ) للاِمامة من قبله ووصيته عند وفاته إلى أبي عبد اللّه (1).

    2 ـ قال أبو القاسم القمي الخزاز ـ بعد نقل كلام يحيى بن زيد ـ الذي تعرفت عليه : فإن قال قائل : فزيد بن علي إذا سمع هذه الاَخبار وهذه الاَحاديث من الثقات المعصومين وآمن بها واعتقدها. فلماذا خرج بالسيف وادّعى الاِمامة لنفسه وأظهر الخلاف على جعفر بن محمد وهو بالمحل الشريف الجليل ، معروف بالستر والصلاح ، مشهور عند الخاص والعام بالعلم والزهد ، وهذا ما لا يفعله إلاّ معاند أو جاحد ، وحاشا زيداً أن يكون بهذا المحل؟

    فأقول في ذلك وباللّه التوفيق : إنّ زيد بن علي بن الحسين ( عليهم السلام ) خرج على سبيل الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا على سبيل المخالفة لابن أخيه جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) ، وإنّما وقع الخلاف من جهة الناس ، وذلك أنّ زيد بن علي ( عليه السلام ) لما خرج ولم يخرج جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) توهم من الشيعة أنّ امتناع جعفر كان للمخالفة وإنّما كان لضرب من التدبير ، فلمّا رأى الذين صاروا للزيدية سلفاً قالوا : ليس الاِمام من جلس في بيته وأغلق بابه وأرخى ستره وإنّما الاِمام من خرج بسيفه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فهذا كان سبب وقوع الخلاف بين الشيعة ، وأمّا جعفر وزيد ( عليهما السلام ) فما كان بينهما خلاف.

    والدليل على صحة قولنا قول زيد بن علي ( عليه السلام ) : « من أراد الجهاد فإليّ ومن أراد العلم فإلى ابن أخي جعفر » ولو ادّعى الاِمامة لنفسه لم ينف كمال العلم عن نفسه إذ الاِمام يكون أعلم من الرعية ، ومن المشهور قول جعفر ( عليه السلام ) « رحم اللّه عمي زيداً لو ظفر لوفاه إنّما دعا إلى الرضا من آل محمد وأنا الرضا » (2).

________________________________________

    1 ـ الاِرشاد : 268 ، طبعة النجف الاَشرف.

    2 ـ الخزاز القمي : كفاية الاَثر : 301 ـ 302.

(191)

    3 ـ قال شيخنا المجلسي : إعلم أنّ الاَخبار اختلفت وتعارضت في أحوال زيد وأضرابه كما عرفت لكن الاَخبار الدالة على جلالة زيد ومدحه ، وعدم كونه مدعياً لغير الحقّ أكثر ، وقد حكم أكثر الاَصحاب بعلو شأنّه (1).

    وقال أيضاً : « وكان يدعو إلى الرضا من آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنّه كان عازماً على أنّه إن غلب على الاَمر فوضه إلى أفضلهم وإليه ذهب أكثر أصحابنا ولم أر في كلامهم غيره (2).

    4 ـ وقال الزنوزي في رياض الجنّة : إنّ زيد بن علي كان دائماً في فكر الانتقام والاَخذ بثأر جده الحسين ( عليه السلام ) ومن هذه الجهة توهم بعضهم أنّه ادّعى الاِمامة وهذا الظن خطأ لاَنّه كان عارفاً برتبة أخيه وكان حاضراً في وقت وصية أبيه ووضع أخيه في مكانه وكان متيقناً أنّ الاِمامة لاَخيه وبعده للصادق ( عليه السلام ) (3).

    5 ـ وعن السيد الجليل بهاء الدين علي بن عبد الحميد النبلي النجفي رضوان اللّه عليه في كتابه الاَنوار المضيئة أنّه قال : زعم طوائف ممن لا رشد لهم أنّ زيد بن علي بن الحسين ( عليهم السلام ) خرج يدعو لنفسه وقد افتروا عليه الكذب ، وبهتوه بما لم يدّعه لاَنّه كان عين إخوته بعد أبي جعفر ( عليه السلام ) وأفضلهم ورعاً وفقهاً وسخاءً وشجاعة وعلماً وزهداً وكان يُدعى حليف القرآن وحيث إنّه خرج بالسيف ودعا إلى الرضا من آل محمد زعم كثير من الناس لا سيما جهال أهل الكوفة هذا الزعم ، وتوهموا أنّه دعا إلى نفسه ولم يكن يريدها له لمعرفته باستحقاق أخيه الاِمامة من قبله وابن أخيه لوصية أخيه إليه بها من بعده ـ إلى أن قال : ـ وقد انتشرت الزيدية فكثروا وهم الآن طوائف كثيرة في كل صقع أكثرهم باليمن ومكة وكيلان (4).

________________________________________

    1 ـ المجلسي : البحار : 46/205 ومرآة العقول : 1/261.

    2 ـ المجلسي : البحار : 46/205 ومرآة العقول : 1/261.

    3 ـ السيد الاَمين : زيد الشهيد : 35 ، نقلاً عن رياض الجنّة وهي بعد مخطوطة.

    4 ـ المصدر نفسه : 35 ـ 36.

________________________________________

(192)

    6 ـ وقال السيد صدر الدين : « لو لم يظهر الصادق ( عليه السلام ) عدم الرضا بخروجه ، ويصوب أصحابه في معارضتهم وإسكاتهم إياه ، ولم يجب بالاِبهام والاعجام عند السوَال عن خروجه ، لكان في ذلك نقض الغرض والتعريض بهلاك الاِمام (1).

    7 ـ قال السيد علي خان المشعشعي الحويزي في كلام له : « ولا ريب أنّ قصده ونيته إن استقام له الاَمر إرجاع الحقّ إلى أهله ويدلّ على ذلك رضاهم عنه ، وإنّما لم يمنعه أبو عبد اللّه الصادق ( عليه السلام ) من الخروج مع علمه بأنّ هذا الاَمر لا يتم له وأنّه يقتل لاَنّهم ( عليهم السلام ) يعلمون ما يقع بهم وبذريتهم ، وماقدر لهم لاَنّ عندهم علم ما كان وما يكون ، وكان يعلم أن لا مفر مما قدر فلا وجه للمنعاً (2).

    8 ـ وقال المحقق المامقاني : « إنّما ادعى الاِمامة ليتبعوه فيستنقذ الحقّ من المتغلبين ، ثم يسلمه إلى أهله والظاهر أنّ هذا هو الضرب من التدبير الذي أشار إليه العياشي في كتابه مقتضب الاَثر (3).

    لما كانت الروايات المروية عن زيد على قسمين ، قسم ورد التصريح فيه بأسماء الاَئمه الاثني عشر كالرواية الرابعة وقسم أجمل فيه الكلام ، كسائر الروايات التالية ، علّق عليها السيّد عبد الرزاق المقرم بما يلي :

    9 ـ وقال السيّد المقرّم : وهذه الاَحاديث وإن لم تصرح بأسماء الاَئمة الذين يلون الخلافة من عترة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لكن تفيدنا القطع ببراءته

________________________________________

    1 ـ السيد صدر الدين بن الفقيه السيد محمد العاملي في تعليقته على ترجمة زيد من منتهى المقال وهي مخطوطة. لاحظ زيد الشهيد للسيد المقرم : 87.

    2 ـ الحويزي : نكت البيان : كما في وقائع الاَيام لشيخنا الخياباني قسم الصيام : 44.

    3 ـ المامقاني : تنقيح المقـال : 1/469 ـ 470. ما نقله من كتـاب مقتضب الاَثر للعياشي فإنّما هو الخزاز في كتابه : كفاية الاَثر ، وليس في الكتاب الاَوّل عين ولا أثر ممّا نقله.

________________________________________

(193)

من تلك الدعاوى الفارغة من كل حقيقة ، وأنّه طاهر الضمير ، قابل لاِيداع أسرار الاِمامة فيه ومع ملاحظة رواية ابنه يحيى (الرابعة) يتضح المراد مما أجمل في هذه الاَحاديث.

    ولو أعرضنا عن جميع ذلك لاَفادنا اعترافه باستحقاق الصادق ( عليه السلام ) للخلافة بعد الباقر ( عليه السلام ) وأنّه الحجّة التي لايضل من تبعه ، ولا يهتدي من خالفه ، سلوكه المحجّة البيضاء والطريق اللاحب في الاِمامة. وهل يقع الشك في اعترافه بإمامة الصادق ( عليه السلام ) وهو يقول لعبد اللّه بن أبي العلاء (الرواية السادسة) وقد قال له : « أنت صاحب هذا الاَمر ، قال : لا ولكنّي من العترة ـ قال له : ـ فإلى من تأمرني ، قال : عليك بصاحب الشعر ».

    روى الكشي عن سورة بن كليب قال : قال لي زيد بن علي : ياسورة كيف علمتم أن أصاحبكم على ما تذكرونه؟

    قال : قلت على الخبير سقطت. قال فقال : هات! فقلت له : كنّا نأتي أخاك محمد بن علي ( عليه السلام ) نسأله فيقول : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال اللّه عزّ وجلّ في كتابه حتى مضى أخوك فأتيناكم وأنت فيمن أتينا ، فتخبرونا ببعض ولا تخبرونا بكل الذي نسألكم عنه ، حتى أتينا ابن أخيك جعفراً فقال لنا كلما قال أبوه قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال تعالى ، فتبسّم وقال : أما واللّه إنّ قلت بذا فانّ كتب علي صلوات اللّه عليه عنده (1).

    ثم إنّ السيد المقرم ـ بعد المناقشة في دلالة أو سند الروايات الذامّة ونقدها نقداً علمياً ـ يقول : « من جميع ما مر فقد تجلّـى الحقّ ، وانكشف بطلان دعواه الاِمامة لنفسه عن جد وعقيدة ، وما هي إلاّ أساطير لفقهاء دعاة الباطل للحطّ من كرامة تلك الذات الطاهرة بغضاً وعدواناً ، وإن تكن تلك الدعاوى ، فإنّما الغرض منها استنقاذه الحقّ من أيدي المتغلبين عليه ، ولاة الجور وأرباب الباطل وإعادته

________________________________________

    1 ـ الكشي : الرجال : ترجمة سورة بن كليب برقم 240.

________________________________________

(194)

إلى أهله كما يفصح عنه قول الصادق ( عليه السلام ) : « كان زيد عالماً وصدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد ولو ظفر لوفى بما دعا إليه » وهذا من أهم الوسائل إلى استحصال الحقّ المغصوب ، وإعادة سلطان العدل إلى أهله ، ولو أعلن الدعوة للاِمام الصادق ـ كما يريده ضعيف النظر ، قاصر البصيرة ، لرأيت هناك الاَضرار البالغة التي تلحق الاِمام من أئمة الجور « تَكادُ السَّمواتُ يَتَفَطَّرنَ مِنهُ وَتَنشَقُّ الاََرْضُ وَتَخرُّ الجِبال » (1).

________________________________________

    1 ـ السيد المقرم : زيد الشهيد : 63 و 86.

________________________________________

(195)

الفصل العاشر

موقف أئمة أهل البيت

من خروج زيد وجهاده

    إنَّ موقف أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) من خروج ثائرهم ، كان إيجابياً ، لا سلبياً وكانوا يرون أنّ خروجه ونضاله ، مطابق للكتاب والسنّة ، بمعنى أنّ الخروج حين ذاك لم يكن تكليفاً إلزامياً على الاِمام ولا على غيره ، ولكنه لو خرج مسلم لاِزالة الطغاة عن منصّة الحكم ، وتبديد هياكل الفساد والظلم ، من دون أن يدعو إلى نفسه ، كان على المسلمين عونه ومناصرته ، وإجابة دعوته.

    وكان خروج زيد على هذا الخط الذي رسمناه وهذا ما يستفاد من الروايات المستفيضة ، وإليك بعض ما وقفنا عليه :

    1 ـ لمّا بلغ قتـل زيد إلى الاِمام الصـادق ( عليه السلام ) قال : « إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، عند اللّه أحتسب عمي إنّه كان نعم العم. إنّ عمي كان رجلاً لدنيانا وآخرتنا ، مضى واللّه عمي شهيداً كشهداء استشهدوا مع رسول اللّه وعلي والحسين صلوات اللّه عليهم » (1).

________________________________________

    1 ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1/252 ح6 ، الباب 25.

________________________________________

(196)

    2 ـ وقال أيضاً في حديث : « إنّ الباكي على زيد فمعه في الجنّة ، فإمّا الشامت فشريك في دمه » (1).

    3 ـ وقال الشيخ المفيد : لما قتل زيد بلغ ذلك من أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) كل مبلغ ، وحزن له حزناً عظيماً حتى بان عليه وفرّق من ماله في عيال من أُصيب معه من أصحابه ألف دينار. روى ذلك أبو خالد الواسطي قال : سلّم إليَّ أبو عبد اللّه ( عليه السلام ) ألف دينار أمرني أن أُقسمها في عيال من أُصيب مع زيد ، فأصاب عيال عبد اللّه بن الزبير أخي فضيل الرسان أربعة دنانير (2).

    4 ـ روى ابن سيابة قال : دفع إليّ أبو عبد اللّه الصادق جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) ألف دينار وأمرني ان أُقسمها في عيال من أُصيب مع زيد بن علي ( عليه السلام ) فقسمتها فأصاب عبد اللّه بن الزبير أخا فضيل الرسّان أربعة دنانير (3).

    5 ـ روى الصدوق عن عبد اللّه بن سيابة أنّه أتى رسول بسـام الصيرفي بكتاب فيه : أمّا بعد ، فإنّ زيد بن علي قد خرج يوم الاَربعاء غرة صفر ، ومكث الاَربعاء والخميس وقتل يوم الجمعة ، وقتل معه فلان وفلان ، فدخلنا على الصادق ( عليه السلام ) فدفعنا إليه الكتاب ، فقرأه وبكى ، ثم قال : « إنّا للّه وإنّا إليه راجعون. عند اللّه أحتسب عمي ، إنّه نعم العم ، إنّ عمي كان رجلاً لدنيانا وآخرتنا ... » إلى آخر ما مر في الحديث الاَوّل (4).

    6 ـ روى ابن شهر آشوب بلغ الصادق ( عليه السلام ) قول الحكيم بن عباس الكلبي :

________________________________________

    1 ـ بحار الاَنوار : 46/193 ح 63.

    2 ـ المفيد : الاِرشاد : 269 ، الباب 175 ، حياة الاِمام علي بن الحسين ، لاحظ الحديث العاشر أيضاً.

    3 ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1/249 ، بحار الاَنوار : 46/170.

    4 ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1/249؛ الباب 25.

________________________________________

(197)

   

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلةوقستم بعثمان علياً سفاهة                 ولم أر مهدياً على الجذع يصلبوعثمان خير من علي وأطيب

    فرفع الصادق ( عليه السلام ) يديه إلى السماء وهما يرعشان. فقال : « اللهم إن كان عبدُك كاذباً فسلط عليه كلبك » ، فبعثه بنو أُمية إلى الكوفة فبينما هو يدور في سككها افترسه الاَسد واتصل خبره بجعفر ( عليه السلام ) ، فخر للّه ساجداً ، ثم قال : « الحمد للّه الذي أنجزنا وعده » (1).

    7ـ روى الصدوق في معاني الاَخبار ، قال : كنّا عند أبي عبد اللّه فذكر زيد ، ومن خرج معه ، فهمَّ بعض أصحاب المجلس أن يتناوله ، فانتهره أبو عبد اللّه ، وقال : « مهلاً ليس لكم أن تدخلوا فيما بيننا إلاّ بسبيل خير ، إنّه لم تمت نفس منّا إلاّ وتدركه السعادة قبل أن تخرج نفسه ولو بفواق الناقة » قلت : وما فواق الناقة؟ قال : « حلابها » (2).

    8 ـ روى الحلبي : قال قال أبو عبد اللّه ( عليه السلام ) : « إنّ آل أبي سفيان : قتلوا الحسين بن علي ( صلوات اللّه عليه ) فنزع اللّه ملكهم ، وقتل هشام زيد بن علي فنزع اللّه ملكه ، وقتل الوليد يحيى بن زيد فنزع اللّه ملكه » (3).

    9ـ روى الصدوق بإسناده عن الفضيل بن يسار قال : انتهيت إلى زيد بن علي صبيحة يوم خرج بالكوفة ، فسمتعه يقول : من يعينني منكم على قتال أنباط أهل الشام؟ فو الذي بعث محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالحقّ بشيراً ونذيراً لا يعينني على قتالهم منكم إلاّ أخذت بيده يوم القيامة ، فأدخلته الجنّة بإذن اللّه تعالى ، فلمّا قتل ـ رضي اللّه عنه ـ اكتريت راحلة وتوجهت نحو المدينة فدخلت

________________________________________

    1 ـ المناقب : 3/360 ، بحار الاَنوار : 46/192.

    2 ـ معاني الاَخبار : 392 ، بحار الاَنوار : 46/179.

    3 ـ الصدوق : ثواب الاَعمال وعقابها : 198 ، بحار الاَنوار : 46/182.

________________________________________

(198)

على أبي عبد اللّه فقلت في نفسي واللّه لا أخبرته بقتل زيد فيجزع عليه ، فلما دخلت عليه قال : « ما فعل بعمي زيد ؟! » فخنقتني العبرة ، فقال : « قتلوه؟ » قلت : أي واللّه قتلوه ، قال : « فصلبوه؟ » قلت : أي واللّه فصلبوه ، فأقبل يبكي ودموعه تنحدر من جانب خده كأنّها الجمان ثم قال : « يافضيل شهدت مع عمي زيد قتال أهل الشام؟ » قلت : نعم ، قال : « فكم قتلتَ منهم ؟ » قلت : ستة ، قال : « فلعلك شاك في دمائهم؟ » فقلت : لو كنت شاكاً في دمائهم ماقتلتهم ، فسمتعه يقول : « أشركني اللّه في تلك الدماء ، مضى واللّه عمي وأصحابه مثل مامضى عليه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وأصحابه » (1).

    10 ـ وروى الصـدوق عن حمزة بن حمران قـال : دخلت على الصادق ( عليه السلام ) فقال لي : « يا حمزة من أين أقبلت؟ » فقلت : من الكوفة ، فبكى حتى بلّت دموعه لحيته!فقلت له : يا بن رسول اللّه! مالك أكثرت من البكاء؟ فقال : « ذكرت عمي زيد وماصنع به فبكيت » فقلت له : وما الذي ذكرت منه؟ قال : مقتله وقد أصاب جبينه سهم ، فجاءه ابنه يحيى فانكب عليه وقال له : أبشر يا أبتاه! فإنّك ترد على رسول اللّه وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) قال : أجل يابنيّ! ثم دعا بحدّاد فنزع السهم من جبينه ، فكانت نفسه معه ، فجيء به إلى ساقية تجري عند بستان زائدة ، فحفر له فيها ودفن وأُجري عليه الماء ، وكان معهم غلام سنديّ لبعضهم ، فذهب إلى يوسف بن عمر ـ لعنه اللّه ـ من الغد ، فأخبره بدفنهم إيّاه ، فأخرجه يوسف وصلبه في الكناسة أربع سنين ، ثم أمر به فأُحرق بالنار وذري في الرياح ، فلعن اللّه قاتله وخاذله ، وإلى اللّه جل اسمه أشكو ما نزل بنا أهل بيت نبيه بعد موته ، وبه نستعين على عدونا وهو خير مستعان (2).

________________________________________

    1 ـ عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1/253.

    2 ـ أمـالي الصـدوق : 321 ، المجلـس : 62 ح3؛ وأمـالي الطوسـي : 2/48؛ والمجلـسي : البحـار : 46/172.

________________________________________

(199)

    11 ـ قال الصادق ( عليه السلام ) لاَبي ولاّد الكاهلي : « رأيت عمي زيداً؟ » قال : نعم رأيته مصلوباً ، ورأيت الناس بين شامت وبين محزون محترق ، فقال : « أمّا الباكي فمعه في الجنّة وأمّا الشامت فشريك في دمه » (1).

    12 ـ روى الراوندي عن الحسن بن راشد قال : ذكرت زيد بن علي فتنقَّصته عند أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) فقال : « لاتفعل ، رحم اللّه عمي أتى أبي ، فقال : إنّي أُريد الخروج على هذا الطاغية. فقال : لاتفعل ، فإنّي أخاف أن تكون المقتول المصلوب على ظهر الكوفة ـ إلى أن قال الاِمام ( عليه السلام ) للحسن : ـ ياحسن إنّا أهل بيت لا يخرج أحدنا من الدنيا حتى يقرّ لكل ذي فضل فضله » (2).

    13ـ روى الصدوق عن أبي عبدون عن أبيه قال : لمّا حمل زيد بن موسى بن جعفر إلى المأمون ، وكان قد خرج بالبصرة ، وأحرق دور ولد العباس ، ووهب المأمون جرمه لاَخيه علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) وقال له : لئن خرج أخوك وفعل ما فعل ، لقد خرج من قبله زيد بن علي فقتل ولولا مكانتك لقتلته فليس ما أتاه بصغير! فقال : ( عليه السلام ) له :

    « لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن علي فإنّه كان من علماء آل محمد ( عليهم السلام ) غضب له ، فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله ، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنّه سمع أباه جعفر بن محمد يقول : رحم اللّه عمي زيداً إنّه دعا إلى الرضا من آل محمد ولو ظفر لوفى بما دعا إليه ، ولقد استشارني في خروجه فقلت له : ياعم إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك ، فلما ولي قال جعفر بن محمد ( عليه السلام ) : ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه ».

    فقال المأمون : أليس قد جاء في من ادّعى الاِمامة بغير حقها ما

________________________________________

    1 ـ الاَربلي : كشف الغمة : 2/442.

    2 ـ الخرائج والجرائح : 232 ، البحار : 46/185.

________________________________________

(200)

جاء؟ فقال : ( عليه السلام ) : « إنّ زيد بن علي لم يدع ما ليس له بحق ، وإنّه كان أتقى من ذلك ، إنّه قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمد ( عليهم السلام ) إنّما جاء ما جاء في من يدّعي أنّ اللّه نصَّ عليه ، ثم يدعو إلى غير دين اللّه ويضل عن سبيله بغير علم ، وكان زيد بن علي واللّه ممن خوطب بهذه الآية :

    « وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجتَباكُم » » (1).

    14 ـ روى الشيخ الطوسي عن مهزم بن أبي بردة الاَسدي قال : دخلت المدينة حِدثان صلب زيد ـ رضي اللّه عنه ـ فدخلت على أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) فساعة رآني قال : « يامهزم ما فعل بزيد؟ » قال : قلت : صلب ، قال : « أين؟ » قال : قلت : في كناسة بني أسد ، قال : « أنت رأيته مصلوباً في كناسة بني أسد؟ » قال : قلت : نعم ، قال : فبكى حتى بكت النساء خلف الستور ثم قال : « أما واللّه لقد بقي لهم عنده طلبة ما أخذوها منه بعد » قال فجعلت أُفكر وأقول أي شيءٍ طلَبتهم بعد القتل والصلب؟ قال : فودعته وانصرفت حتى انتهيت الكناسة ، فإذا أنا بجماعة فأشرفت عليهم ، فإذا زيد قد أنزلوه من خشبته يريدون أن يحرقوه قال قلت : هذه الطلبة التي قال لي (2).

    15 ـ روى الكليني عن سليمان بن خالد قال : قال لي أبو عبد اللّه ( عليه السلام ) : « كيف صنعتم بعمي زيد؟ » قلت : إنّهم كانوا يحرسونه فلما شفّ الناس أخذنا خشبته فدفناه في جرف على شاطيء الفرات فلما أصبحوا جالت الخيل يطلبونه فوجدوه فأحرقوه فقال : « أفلا أوقرتموه حديداً وألقيتموه في الفرات ـ صلى اللّه عليه ـ » ولعن قاتله (3).

________________________________________

    1 ـ الصدوق : عيون الاَخبار : 1/249 ، الباب 25.

    2 ـ الطوسي : الاَمالي : 682.

    3 ـ الكليني : الكافي : 8/161.

(201)

    16 ـ روى الكليني عن الحسن بن الوشاء عمن ذكره عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : « إنّ اللّه عزّ وجلّ أذن في هلاك بني أُمية بعد إحراقهم زيداً بسبعة أيام » (1).

    17 ـ روى أيضـاً عن أبـي هاشـم الجعفري قـال : سـألـت الرضا عن المصلوب؟ فقال : « أما علمت أنّ جدي صلّـى على عمه » (2).

    18 ـ روى الكشـي في ترجمة السيـد الحميري عن فضيل الرسان ، قال : دخلت على أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) بعد ماقتل زيد بن علي ( عليه السلام ) فادخلت بيتاً في جوف بيت ، وقال لي : « يا فضيل ، قتل عمي زيد بن علي؟ » قلت : نعم جعلت فداك ، فقال : « رحمه اللّه ، أما إنّه كان موَمناً وكان عارفاً وكان عالماً ، وكان صدوقاً ، أما إنّه لو ظفر لوفى ، أما إنّه لو ملك لعرف كيف يضعها ، قلت : ياسيدي ألا أُنشدك شعراً؟ قال : « أمهل » ثم أمر بستور فسدلت ، وبأبواب فتحت ، ثم قال : « أنشد » فأ نشدته :

لاَُمّ عمرو باللوى مربع           طامسة أعلامها بلقع (3)

    هذه نماذج مما ورد عن أئمة أهل البيت حول جهاد زيد واستشهاده ، ولو ضمت إليها ما ورد عنهم من المدائح حال حياته وقبل ميلاده ، مما تقدم لما بقي شك في أنّ ثائر أهل البيت كان رجلاً مثالياً متقياً ، عادلاً ، مخالفاً لهواه ، لايهمه سوى تجسيد الاِسلام بين الورى ، وتبديد هياكل الظلم والطغيان.

    يقول السيد المقـرم ـ بعد نقـل الاَحاديث المادحـة ـ : « على ضـوء هـذه

________________________________________

    1 ـ الكليني : الكافي : 8/161.

    2 ـ الكليني : الكافي : 3/215.

    3 ـ الكشي : الرجال : 242 برقم 133 ، وذكر قسماً من عينية السيد الحميري المعروفة.

________________________________________

(202)

الاَحاديث الكريمة نعرف من الحقيقة أنصعَها ويتجلّـى من أعماق الاَصداف لوَلوَها ، وانّ تلك الشخصية الشامخة على سبب وثيق من معادن الحقّ ، وذات كرامة قدسية تهبط من الملاَ الاَعلى ، وأنّ الاَئمة الهداة يتفألون من غرة تلك النهضة الهاشمية أن يعود الحقّ إلى نصابه ، وهي القوة التي تتحطم بها هياكل الباطل وتعقد عليها الآمال ، وهي التي أظهرت مظلومية الاَئمة ، ومثّلت للملاَ أحقيتهم بالخلافة ، من غيرهم ذوي الاَطماع وأرباب الشهوات ، وانكشف لنا بكل وضوح امتثاله أمر الاِمام في نقض دعائم الاِلحاد وتبديد جيش الظلم والباطل ، وتفريق جماهير الشرك وأحزاب الضلال ، وعبدة المطامع والاَهواء ، خصوصاً إذا قرأنا قول الباقر ( عليه السلام ) : « ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه » وقول الصادق ( عليه السلام ) : « إذا دعاكم فأجيبوه وإذا استنصركم فانصروه » وقوله : « أشركني اللّه في تلك الدماء » وقوله عندما سئل عن مبايعته : « بايعوه » وقوله : « خرج على ما خرج عليه آباوَه » وقوله : « برىَ اللّه ممن تبرّأ من عمي زيد ». فإنّ هذه الاَحاديث تدلنا على أنّه لم يقصد إلاّ إصلاح أُمّة جده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يدع إلاّ إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة.

    وهناك جملة أُخرى من الاَحاديث حكت لنا مقايسة الاِمام ( عليه السلام ) شهادة زيد بالشهداء الذين استشهدوا مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلي والحسين ( عليهما السلام ) وقد استشهد هنالك رجال كانت لهم منازل عالية ومقامات رفيعة يغبطهم عليها جميع الشهداء ، وقد نال زيد بذلك التشبيه والمقايسة تلك المراتب العاليه وحاز ذلك الشرف الباهر ، فحقيق إذاً إذا قال الباقر ( عليه السلام ) في دعائه : « اللهم أُشدد أزري بزيد » ، وقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يأتي زيد وأصحابه يوم القيامة يتخطّون رقاب الناس غُرّاً محجلين يدخلون الجنّة بغير حساب ، وكانوا فرحين مسرورين بما أُوتي لهم من النعيم الدائم » (1).

________________________________________

    1 ـ المقرم : زيد الشهيد : 59.

________________________________________

(203)

الفصل الحادي عشر

الخط الثوري

المدعَم من قبل أئمة أهل البيت

    كان الاِمام الصادق ( عليه السلام ) يعيش في جو مفعم بالمراقبة والملاحقة من جانب الحكومة الاَموية وكانت عيون النظام ترصده عن كثب وترفع تقارير عن حياته اليومية إلى العاصمة ، ولاَجل ذلك كان الاِمام يتجنب عن التظاهر بأية ثورة ضد النظام إذ نتيجة ذلك هو إلقاء القبض على الاِمام ، وإنهاء حياته ، وإطفاء نور الاِمامة والقضاء على الجامعة العلمية التي أسسها الاِمام في عاصمة الاِسلام وربّى في حجره وحضنه مئات المفسرين والمحدثين وقد أعاد بذلك ، السنّة النبوية والاَحكام الشرعية إلى الساحة الاِسلامية بعد اندراسها ، كما فعل أبوه الاِمام الباقر ( عليه السلام ) كذلك ، وفي القضاء على حياته أو الحيلولة بينه وبين الاَُمّة خسارة كبرى لا تجبر بشهادته.

    ومن جانب آخر ، كان خروج زيد الثائر مورد الرغبة من الاِمام فكيف لا يرضى بذلك وهو يثير المسلمين ضد النظام ويحرضهم على تقويضه وقلبه ، وهي خطوة كبرى للمنية العظيمة.

 

________________________________________

(204)

    وبملاحظة هذين الاَمرين يعلم أنّه لم يكن للاِمام بد من الاِبهام في الكلام بشكل تفهم البطانة موقفه من استشهاده ويتحيّر الاَجانب فيه ، وهذا هو السبب لوجود الاِبهام والاِعجام في كلامه.

    ففي موقف يبكي على عمّه ويسيل دموعه على خديه ، وتبكي من كانت وراء الستار من الهاشميات ، يُعرِّف عمّه شهيداً ويعرّف الشهداء في موكبه كالشهداء الذين أراقوا دماءهم مع رسول اللّه وعلي والحسين ( عليهم السلام ) وربما يزيد على ذلك ويقول : « إنّ الباكي على زيد معه في الجنّة والشامت له شريك في دمه » إلى غير ذلك من الاِطراء والثناء على عمّه والذين استشهدوا في طريقه (1).

    وفي موقف آخر يتظاهر بالابتعاد عن خروج زيد واستشهاده ، فكل من يرد عليه من الكوفة يسأله عن عمه ويكرر السوَال ، وكأنّه لم يكن مطلعاً عما جرى عليه من المصائب ، كل ذلك كان ضرباً من التدبير للاِمام ( عليه السلام ) فأي رضى أولى من دعائه على الحكيم بن عباس الذي أنشأ شعراً في حقّ زيد ، وقال :

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة                   ولم أر مهدياً على الجذع يصلب

    فرفع الصادق ( عليه السلام ) يديه إلى السماء وهما ترتعشان ، وقال : « اللهم إن كان عبدك كاذباً فسلط عليه كلبك » (2).

    إنّ بقاء الاِسلام رهن دعامتين :

    الاَُولى : التعليم والتربية وتثقيف الاَُمّة ووعيها وتعليم الكتاب والسنة وغير ذلك مما يرجع إلى الثقافة الاِسلامية العامة.

    الثانية : إصلاح المجتمع والحفاظ على البيئة وتفويض الاَمر إلى صلحاء

________________________________________

    1 ـ أُنظر إلى الروايات الواردة تحت « عنوان موقف الاَئمة من استشهاده » في هذا الجزء.

    2 ـ مضى مصدره في ص 197 ، الرواية السادسة ، فراجع.

________________________________________

(205)

الاَُمّة الذين عليهم تجسيد الاِسلام في الساحة الاجتماعية ولايتم ذلك إلاّ بالكفاح ضدَّ الظالمين وإبادتهم وتسليم الاَمر إلى صلحاء الاَُمّة.

    وكانت المصالح الزمنية تفرض الاَمر الاَوّل على عاتق الاِمام الصادق ( عليه السلام ) إذ كان هو عالم الاَُمّة وراعيها ، والواقف بأسرار الكتاب والسنّة ، ولولاهما لما قامت هذه الدعامة وسقطت يومذاك ، وأمّا الدعامة الثانية فكان على عاتق زيد الثاثر ، والثائرون بعده على خط الاِمام زيد كيحيى بن زيد ، وعيسى بن زيد ، والحسين بن زيد ، ومحمد بن زيد (دون الحسنيّين الذين ثاروا في عصر العباسيين) وكانوا هم القائمون بهذه الفريضة فكيف يمكن للاِمام أن يُخطّئهم من صميم ذاته لذلك يرى أنّه يصف الزيدية ، وقاء ، ويقول لاَصحابه : كفوا ألسنتكم والزموا بيوتكم فإنّه لا يصبكم أمر تخصون به أبداً ولا تزال الزيدية لكم وقاءً أبدا (1).

    إنّ بعض المتحمسين من الشبان في عصر الاِمام الصادق ( عليه السلام ) كانوا يفرضون عليه أن يودع زيداً عند الوفود إلى العراق ، ويدعو له ويتظاهر بدعم نضاله وجهاده وعندما بلغه استشهاده ، يعلن الحداد العام ويجلس في بيته للعزاء وما أشبه ذلك ، لكن كانت هذه أفكاراً فوضوية تختمر في صدور أُناس لم يكن لهم إلمام بالظروف المحدقة بالاِمام ، فما قام به الاِمام من السير بين الخطين كان هو الموَمّن لحياته ، ونضاله العلمي وخدماته المشكورة ولم يكن القضاء على حياة الاِمام الصادق ( عليه السلام ) وجامعته العلمية عند الخلفاء أشد من القضاء على حياة زيد الثائر.

    وفي نهاية المطاف نقول : لم يكن قيام زيد وخروجه أقل قيمة من خروج المختار الثائر ، نرى أنّ الاِمام علي بن الحسين وعمه محمد بن الحنفية والهاشميات يخرجون من حدادهم على الاِمام الحسين ( عليه السلام ) عندما

________________________________________

    1 ـ الكليني : الكافي : 2/باب التقية ، الحديث13.

________________________________________

(206)

بعث المختار بروَوس الخونة وقتلة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) حتى أنّ الاِمام السجاد ( عليه السلام ) يخر ساجداً ويعد عمل المختار مشكوراً ، فأين المختار من زيد الثائر وإن كان عمل الجميع مشكوراً.

    ومع أنّ الاِمام الصادق ( عليه السلام ) قام بمواقف مشكورة في عيال زيد ، ومن أُصيب معه ، ولكن لما كان المتطرفون غير راضين بهذا الحد ، وكانوا يطلبون من الاِمام نضالاً باهراً مثل زيد ، فقاموا بوجه الاِمام ( عليه السلام ) في مواقف عديدة لم تكن محمودة ، ولو نرى في بعض الاَحاديث أنّ الاِمام يتبرّأ من الزيدية فإنّما تبرّأ من المتطرفين غير العارفين بالمواقف الصحيحة في تلك الاَيام الخطيرة لا من زيد الثائر ، ولا المستشهدين بين يديه ولا المقتفين أثره بعد استشهاده ، عارفين بواجباتهم وواجبات أئمة أهل البيت ، وبذلك تقدر على فهم الروايات الواردة في ذم بعض الزيدية فليس الذم راجعاً إلى زيد الطاهر ، ولا إلى المقتفين أثره في ميدان النضال ، ولا إلى مجيبيه بل راجع إلى المتطرفين المنتمين إليه ، وكان هو ـ قدّس اللّه سرّه ـ بريئاً عنهم. فلنذكر بعضها إيقافاً للقارىء بمفادها :

    1 ـ عن عمر بن يزيد قال : سألته عن الصدقة على النصَّاب وعلى الزيدية؟ فقال : « لا تصدق عليهم بشيء ولا تسقهم من استطعت » وقال : « الزيدية هم النصاب » (1).

    2 ـ قد كان من المعروف أنّ الاِمام من كان عنده سلاح رسول اللّه ومتاعه وكان ذلك كلّه عند الاِمام الصادق ( عليه السلام ) كما سنذكر ، وقد كان ذلك الاَمر ثقيلاً على بعض الزيدية ، فكانوا يحاجون الاِمام الصادق ( عليه السلام ) وينكرون وجود السلاح ومتاع رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عنده ويقولون : إنّه عند عبد اللّه بن الحسن المثنى.

________________________________________

    1 ـ الحر العاملي : وسائل الشيعة : 6/ كتاب الزكاة ، الباب 5 من أبواب المستحقين ، الحديث5 ، لاحظ التهذيب : 4/54 ، الحديث12.

________________________________________

(207)

    روى الكليني عن سعيد السمان ، قال : كنت عند أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) إذ دخل عليه رجلان من الزيدية ، فقالا له : أفيكم إمام مفترض الطاعة؟ قال : فقال : « لا » (1) ، قال : فقالا له : قد أخبرنا عنك الثقات إنك تفتي ، وتقر وتقول به (بأنّ فيكم إماماً مفترض الطاعة) ونسمّيهم لك فلان وفلان وهم أصحاب ورع وتشمير وهم ممّن لا يكذب ، فغضب أبو عبد اللّه ( عليه السلام ) فقال : « ما أمرتهم بهذا » (بوجود إمام مفترض الطاعة) فلما رأيا الغضب في وجهه خرجا ، فقال لي : « أتعرف هذين؟ » قلت : نعم هما من أهل سوقنا ، وهما من الزيدية ، وهما يزعمان أنّ سيف رسول اللّه عند عبد اللّه بن الحسن ، فقال : « كذبا لعنهما اللّه واللّه ما رآه عبد اللّه بن الحسن بعينيه ولا بواحدة من عينيه ولا رآه أبوه. اللّهم إلاّ أن يكون رآه عند علي بن الحسين ( عليه السلام ) ... » (2).

    ترى أنّ موقف الرجلين أمام الاِمام الصادق ( عليه السلام ) هو موقف أخذ الاِقرار منه بإمامة زيد ومن بعده وتكذيب إمامته وقيادته وأنّه ليس عنده سلاح رسول اللّه ولا متاعه فلم يكن بد من الاِمام ( عليه السلام ) من التعرض عليهم.

    والذي يدلّ على ذلك ما رواه الكليني عن إسماعيل بن محمد بن عبد اللّه بن علي بن الحسين ( عليه السلام ) عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : لما حضر علي بن الحسين الوفاة قبل ذلك أخرج سفطاً أو صندوقاً عنده قال : يا محمد احمل هذا الصندوق. قال : فحمل بين أربعة فلما توفي جاء إخوته يدعون [ما] في الصندوق ، فقالوا : أعطنا نصيباً من الصندوق ، فقال : واللّه مالكم فيه شيء ، ولو كان لكم فيه شيء ما دفعه إليّ ، فكان في الصندوق سلاح رسول اللّه وكتبه (3).

________________________________________

    1 ـ قاله ( عليه السلام ) تقية أو تورية اتّقاء شرهما.

    2 ـ الكليني : الكافي : 1/232 ـ 233 ، كتاب الحجّة ، باب ما عند الاَئمة من سلاح رسول اللّه ومتاعه.

    3 ـ الكافي : 1/305 ، كتاب الحجّة ، باب الاِشارة والنص على أبي جعفر ( عليه السلام ) ، الحديث1.

________________________________________

(208)

    وفي رواية أُخرى : التفت علي بن الحسين إلى ولده وهو في الموت وهم مجتمعون عنده ، ثم التفت إلى محمد بن علي ، فقال : « يامحمد هذا الصندوق ، اذهب به إلى بيتك ، قال : أما إنّه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكن كان مملوءاً علماً » (1).

    3 ـ روى الكليني عن عبد اللّه بن المغيرة قال : قلت لاَبي الحسن ( عليه السلام ) : إنّ لي جارين أحدهما ناصب ، والآخر زيدي ولابد من معاشرتهما فمن أُعاشر ؟ فقال : « هما سيّان ، من كذَّب بآية من آيات اللّه فقد نبذ الاِسلام وراء ظهره ، وهو المكذب بجميع القرآن والاَنبياء والمرسلين » قال : ثم قال : « إنَّ هذا نصب لكم ، وهذا الزيدي نصب لنا » (2).

    فكما أنّ المتشابه من الآيات تردّ على المحكمات وتستوضح بها ، فهكذا الخبر المتشابه يفسر بالمحكم منه ، فأين استرحامه لعمه وبكاءه عليه ، ودعاءه على شاعر السوء ، من هذه التعرضات والنقاشات ، فتحمل الطائفة الثانية ، على المتطرفين غير العارفين بمقام الاِمام الصادق ( عليه السلام ) مضافاً إلى أنّ في مضمونهما من القرائن المثبتة. فلاحظ.

 

الخط الثوري الثابت لاَئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) :

    كان لزيد عند الاِمام الصادق ( عليه السلام ) ، حساب خاص لا يعدل به إلى غيره ، ويفضّله على الهاشميين ويتلقاه عالماً صدوقاً ، غير متجاوزٍ عن طريق الحقّ وكان يعلن على أصحابه ، أنّه لو ظفر لوفى بما نوى ودعا إليه ، ولاَجل ذلك ليس من البعيد أن يقال إنّه كان مأذوناً من قبل الاِمام سراً كما نقله شيخنا المجلسي (3)

________________________________________

    1 ـ الكليني : الكافي : 1/305 ، كتاب الحجّة ، باب الاِشـارة والنـص على أبي جعفر ( عليه السلام ) ، الحديث 2.

    2 ـ الكليني : الكافي : 8/235 ، برقم 314.

    3 ـ المجلسي : مرآة العقول : 1/261.

________________________________________

(209)

ويكفي في المقام ما يرويه الكليني : عن عيص بن القاسم ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : « فانظروا على أي شيء تخرجون ولاتقولوا خرج زيد ، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه إنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد ( عليهم السلام ) ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه ، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه فالخارج منا اليوم إلى أي شيء يدعوكم ، إلى الرضا من آل محمد ( عليهم السلام ) فنحن نشهدكم أنّا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم » (1).

    ولم يكن له ذلك الموقف مع الحسنيّين الذين خرجوا ، بعد زيد وابنه يحيى ، وصاروا أئمة للزيدية للفرق الواضح بين زيد وابنه ، وبين بني عبد اللّه بن الحسن ، أعني :

    1 ـ محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية خرج بالمدينة لليلتين بقيتا من جمادي الآخرة من سنة خمسة وأربعين ومائة وقتل في شهر رمضان تلك السنة قتله أبو جعفر المنصور.

    2 ـ إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ، خرج بالبصرة وقتل هناك في نفس السنة التي قتل فيها أخوه محمد بن عبد اللّه ، وأُخذ رأسه وحمل إلى أبي جعفر المنصور ودفن بباخمرى.

    وسيوافيك ترجمتهم في القسم الثاني من الكتاب.

    والذي يعرب عن ذلك ما رواه أبو الفرج في كتابه عن عبد اللّه بن محمد بن علي ، قال : إنّ جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالاَبواء وفيهم :

    1 ـ إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس.

    2 ـ وأبو جعفر المنصور.

________________________________________

    1 ـ الكليني : الكافي : 8/264 ، برقم 381.

________________________________________

(210)

    3 ـ وصالح بن علي.

    4 ـ وعبد اللّه (1) بن الحسن بن الحسن بن علي.

    5 ـ ومحمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي.

    6 ـ وإبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي.

    7 ـ ومحمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان.

    فقال صالح بن علي : قد علمتم أنّكم الذين تمد الناس أعينهم إليهم ، وقد جمعكم اللّه في هذا الموضع ، فاعقدوا بيعة لرجل منكم ، تعطونه إياها من أنفسكم وتوافقوا على ذلك ، حتى يفتح اللّه وهو خير الفاتحين.

    فحمد اللّه عبد اللّه بن الحسن وأثنى عليه ثم قال : قد علمتم أنّ ابني هذا هو المهدي فهلم لنبايعه.

    وقال أبو جعفر : لاَيّ شيء تخدعون أنفسكم ، واللّه لقد علمتم ما الناس إلى أحدٍ أصور (2) أعناقاً ، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى ، يريد به محمد بن عبد اللّه (3) ، قالوا : قد واللّه صدقت ، إنّ هذا الذي نعلم ، فبايعوا محمداً جميعاً ومسحوا على يده.

    قال عيسى (4) : وجاء رسول عبد اللّه بن الحسن إلى أبي : أن أئتنا ، فإنّا مجتمعون لاَمر ، وأرسل بذلك إلى جعفر بن محمد ( عليه السلام ).

    وقال غير عيسى : إنّ عبد اللّه بن الحسن قال لمن حضر : لاتريدوا جعفراً

________________________________________

    1 ـ وعبد اللّه بن الحسن كان أكبر سناً من الاِمام الصادق ( عليه السلام ) وكان من مواليد عام سبعين من الهجرة.

    2 ـ أصور : بمعنى (أميل) كما في مكان آخر من مقاتل الطالبيين ص 257 وفي الاِرشاد (أطول).

    3 ـ أُنظر إلى هذا الخداع السياسي والنفاق المبطن فيصوره المنصور في هذا المجلس بما سمعت ، ثم بعد تصدّره منصّة الحكم يقتله.

    4 ـ عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن علي.

(211)

فإنّا نخاف أن يفسد عليكم أمركم.

    قال عيسى بن عبد اللّه بن محمد : فأرسلني أبي أنظر ما اجتمعوا له؟ فجئتهم فإذا بمحمد بن عبد اللّه يصلي على طنفسة رجل مثنية فقلت لهم : أرسلني أبي إليكم أسألكم لاَيّ شيء اجتمعتم؟ فقال عبد اللّه : اجتمعنا لنبايع المهدي محمد ابن عبد اللّه.

    قال : وجاء جعفر بن محمد ( عليه السلام ) ، فأوسع له عبد اللّه بن الحسن إلى جنبه فتكلم بمثل كلامه.

    فقال جعفر ( عليه السلام ) : « لاتفعلوا فإنّ هذا الاَمر لم يأت بعد ، إن كنت ترى ـ يعني عبد اللّه ـ أنّ ابنك هذا هو المهدي فليس به ، ولا هذا أوانه ، وإن كنت إنّما تريد أن تخرجه غضباً للّه وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فإنّا واللّه لاندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك في هذا الاَمر » (1).

    فغضب عبد اللّه بن الحسن ، وقال : لقد علمتُ خلاف ما تقول ، [واللّه ما أطلعك على غيبه] ولكن يحملك على هذا الحسد لابني.

    فقال : « واللّه ما ذاك يحملني ، ولكن هذا وإخوته وأبناوَهم دونكم » وضرب بيده على ظهر أبي العباس (2) ، ثم ضرب بيده على كتف عبد اللّه بن الحسن ، وقال : « إنّها واللّه ما هي إليك ولا إلى ابنيك ، ولكنها لهم ، وإن ابنيك لمقتولان ». ثم نهض فتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال : أرأيت صاحب الرداء الاَصفر ـ يعني أبا جعفر ـ؟ فقال له : نعم ، قال : قال : « إنّا واللّه نجده يقتله » قال له عبد العزيز : أيقتل محمداً؟ قال : « نعم » ، فقلت في نفسي : حسده ورب الكعبة ، ثم قال : واللّه ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتلهما.

________________________________________

    1 ـ بما أنّه أمير الجهاد ، لا إمام الفقه والاجتهاد ولا الاِمام المفترض الطاعة.

    2 ـ إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس.

________________________________________

(212)

    قال : فلمّا قال جعفر ( عليه السلام ) ذلك ونهض القوم وافترقوا ، تبعه عبد الصمد وأبو جعفر فقالا : يا أبا عبد اللّه أتقول هذا؟ قال : « نعم أقوله واللّه وأعلمه » (1).

    قال أبو الفرج : وحدثني علي بن العباس المقانعي قال : أخبرنا بكار بن أحمد قال : حدثنا الحسن بن الحسين ، عن عنبسة بن نجاد العابد قال : كان جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) إذا رأى محمد بن عبد اللّه بن الحسن تغرغرت عيناه ثم يقول : « بنفسي هو ، إنّ الناس ليقولون فيه ، وإنّه لمقتول ، ليس هو في كتاب علي ( عليه السلام ) من خلفاء هذه الاَُمّة » (2).

    والاِمعان في هذه الرواية يعرب عن أمرين :

    الاَوّل : أنّ محمد بن عبد اللّه اتّخذ موقفاً غير موقف زيد بن علي ، حيث إنّ عبد اللّه بن الحسن يريد أن يصف ، ابنه بأنّه هو المهدي الموعود كما قال : اجتمعنا لنبايع المهدي محمد بن عبد اللّه ولم يردّه ابنه وكأنّه قبله.

    فيردعه الاِمام بقوله : « إنّ ابنك هذا ليس هو المهدي ولا أخاه ».

    ولكنّه رافقهم إذا خرجوا مثلما خرج زيد وقال مخاطباً أباه : « وإن كنت إنّما تريد أن تخرجه غضباً للّه وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإنّا واللّه لا ندعك وأنت شيخنا ، ونبايع ابنك في هذا الاَمر ».

    ولما كان كلام الاِمام مخالفاً لما يهواه عبد اللّه غضب عليه وقال : واللّه ما أطلعك على غيبه ولكن يحملك على هذا الحسد لابني.

    ورغم هذا الموقف الجافي كيف يمكن للاِمام ( عليه السلام ) أن يرافقهم ،

________________________________________

    1 ـ أبو الفرج : مقاتل الطالبيين : 206.

    2 ـ أبو الفرج : مقاتل الطالبيين : 208 ، الاِرشاد : 294.

________________________________________

(213)

ويوَيدهم ، ويساندهم ، ولكنّه في نهاية المجلس تنبأ بما وجده في الكتب الموروثة ، أنّ محمد بن عبد اللّه وأخاه يقتلان ويكون الرابح هو أبو جعفر المنصور صاحب الرداء الاَصفر ، وقد وقع ما وقع ، ورآه الناس حسب ما أخبر به الاِمام.

    وبذلك يعرف مفاد الاَحاديث التي ترفض عمل الزيدية في العصور اللاحقة لحركة زيد فلا يرفض زيداً ، ولا ابنه يحيى ولاثورته ونضاله ، وإنّما يرفض أتباعه في العصور بعد استشهاده حيث كانوا يعاندون أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ونذكر منها ما يلي :

    1 ـ روى الشيخ الطوسي عن عبد الملك أنّه قال لاَبي عبد اللّه : قلت : فإنّ الزيدية تقول ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلاّ أنّه لا يرى الجهاد ، فقال : « إنّي لا أرى!! بلى واللّه إنّي لا أراه ولكنّي أكره أن أدع علمي إلى جهلهم » (1).

    2 ـ روى الكليني عن عبد الملك بن أعين قال لاَبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : إنّ الزيدية والمعتزلة قد أطافوا بمحمد بن عبد اللّه (2) فهل له سلطان؟ فقال : « واللّه إنّ عندي لكتابين فيهما تسمية كل نبي وملك يملك الاَرض لا واللّه ما محمد بن عبد اللّه في واحد منهما » (3) وبذلك يعلم مفاد سائر الاَحاديث (4) فلاحظ.

    وحصيلة البحث أنّ الخط الرائج لاَئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) بالنسبة للثورات والانتفاضات التي تحققت على يد الحسينيين والحسنيين إنّما كان هو خط العدل والاقتصاد.

________________________________________

    1 ـ الكليني : الكافي : 5/19 ، باب من يجب عليه الجهاد : الحديث 1 ، 2.

    2 ـ محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي الملقب بالنفس الزكية من أئمة الزيدية.

    3 ـ الكليني : الكافي : 1/242 باب ذكر الصحيفة ، رقم 7.

    4 ـ لاحظ الكافي : 7/376 ، كتاب الديات باب فيما فيه نصاب من البهائم ، الحديث17.

________________________________________

(214)

    فلو كان الحافز عند الثائر هو الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والاِنكار على الظلم والعدوان ، وتخليص المجتمع الاِسلامي من الفساد والدمار فالاِمام الصادق ( عليه السلام ) ومن بعده كانوا يوَيدون ذلك العمل ، ويكون الثائر حينئذ مأذوناً من قبل الاِمام وتأخذ الثورة لنفسها صفة المشروعية.

    وأمّا إذا كان الحافز عند الثائر إلى الثورة هو دعوة الناس إلى إمامة نفسه ، وادّعاء الخلافة عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإنّه ـ والعياذ باللّه ـ المهدي الموعود فلا يكون هناك أيّ مبرر لموافقتهم ومساندتهم.

 

________________________________________

(215)

الفصل الثاني عشر

موقف علماء الشيعة

من جلالة ووثاقة زيد الشهيد

    إنّ موقف علماء الشيعة الاِمامية نفس موقف النبي وعترته الطاهرة ( عليهم السلام ) وإن كنت في شك من ذلك فاقرأ كلماتهم في حقه :

    1 ـ قال المفيد : كان عين إخوته بعد أبي جعفر ( عليه السلام ) وأفضلهم ، وكان ورعاً ، عابداً فقيهاً ، سخياً ، شجاعاً ، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويطلب بثارات الحسين ( عليه السلام ) (1).

    2 ـ وقال النسابة أبو الحسن علي بن محمد العمري : كان زيد أحد سادات بني هاشم فضلاً وفهماً خرج أيام هشام الاَحول ابن عبد اللّه (2) فقتل وصلب ست سنين ، وقيل أُحرق وذري في الفرات ـ لعن اللّه ظالميه ـ (3).

    3 ـ وقال الطبرسي : إنّ زيداً كان من علماء آل محمد ، غضب للّه فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله (4).

________________________________________

    1 ـ الاِرشاد : 268 ، ط النجف.

    2 ـ والظاهر عبد الملك.

    3 ـ المجدي في الاَنساب : 1/156.

    4 ـ أُنظر : رياض العلماء : 2/338.

________________________________________

(216)

    4 ـ وقال ابن داود : زيد بن علي بن الحسين قتل سنة إحدى وعشرين ومائة ، وله اثنتان وأربعون سنة شهد له الصادق ( عليه السلام ) بالوفاء وترحم له (1).

    5 ـ قال الشهيد الاَوّل في القواعد : وجاز أن يكون خروجهم بإذن إمامٍ واجب الطاعة كخروج زيد بن علي ( عليه السلام ) وغيره من بني علي ( عليه السلام ) (2).

    6 ـ قال الشيخ عبد اللّه الاَفندي التبريزي : السيد الجليل الشهيد أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين ، إمام الزيدية وكان سيداً كبيراً عظيماً في أهله وعند شيعة أبيه ، ولكن اختلفت الاَخبار وتعارضت الآثار بل كلام العلماء الاَخيار أيضاً في مدحه وقدحه ، والروايات في فضله كثيرة ، وقد ألّف جماعة من متأخري علماء الشيعة ومتقدميهم كتباً عديدة مقصورة على ذكر فضائله كما يظهر من مطاوي كتب الرجال ومن غيرها أيضاً.

    ومن المتأخرين ميرزا محمد الاسترآبادي فله رسالة في أحوال زيد بن علي. هذا وأورد فيه كلام المفيد في الاِرشاد بتمامه ، ونقل فيها أيضاً ما رواه الطبرسي في أعلام الورى ، وما رواه ابن طاووس في ربيع الشيعة ونحوهما ، وبالجملة فقد أورد فيها روايات كثيرة في مدحه.

    قال بعض أفاضل السادات المعاصرين ضوعف قدره في أوائل شرح الصحيفة : هو أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) أُمّه أُمّ ولد كان جمّ الفضائل عظيم المناقب ، وكان يقال له : حليف القرآن. روى أبو نصر البخاري عن أبي الجارود ، قال : قدمت المدينة ، فجعلت كلّما سألت عن زيد بن علي. قيل لي : ذلك حليف القرآن. ذاك أُسطوانة المسجد من كثرة صلاته.

________________________________________

    1 ـ ابن داود : الرجال : 1/10 (ذكره في القسم الاَوّل الذي خصّه بالموثوقين بخلاف القسم الثاني فقد خصّه بالمجروحين والمهملين).

    2 ـ القواعد : 2/207 (ضمن القاعدة : 221).

________________________________________

(217)

    وقال الشيخ بهاء الدين العاملي في آخر رسالته المعمولة في إثبات وجود القائم ( عليه السلام ) : الآن أيضاً إنّا معشر الاِمامية لا نقول في زيداً ـ رضي اللّه عنه ـ إلاّ خيراً وكان جعفر الصادق ( عليه السلام ) قد قال لاَصحابه : « إنّ زيداً يتخطّى يوم القيامة أهل المحشر حتى يدخل الجنّة » والروايات عن أئمتنا في هذا المعنى كثيرة (1).

    7 ـ قال الكاظمي : اتّفق علماء الاِسلام على جلالته وثقته وورعه وعلمه وفضله ، وقد روي في ذلك أخبار كثيرة حتى عقد ابن بابويه في العيون باباً لذلك (2).

    8 ـ قال المحدّث النوري : وأمّا زيد بن علي فهو عندنا جليل القدر عظيم الشأن ، كبير المنزلة ، وما ورد مما يوهم خلاف ذلك مطروح أو محمول على التقية (3).

    9 ـ قال المحقّق المامقاني : إنّي أعتبر زيداً ثقة وأخباره صحاحاً اصطلاحاً بعد كون خروجه بإذن الصادق ( عليه السلام ) لمقصد عقلائي عظيم وهو مطالبة حقّ الاِمامة إتماماً للحجّة وقطعاً لعذرهم بعدم مطالب له وقول جمع فيه بالاِمامة بتسويل الشيطان مع نفيه إياها من نفسه ، وإثباته إياها لابن أخيه الصادق لا يزري فيه كعدم إزراء نسبة القائلين بإمامته إليه أحكاماً فقهية مخالفة للحق (4).

    10 ـ وقال المحقّق الخوئي : وقد استفاضت الروايات غير ما ذكرناه في مدح زيد وجلالته وأنّه طلب بخروجه الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ إلى أن قال : ـ وإنّ استفاضة الروايات أغنتنا عن النظر في أسنادها (5).

________________________________________

    1 ـ رياض العلماء وحياض الفضلاء : 2/318 ، وقد ترجم زيد بن علي ترجمة وافية ، طالع هذا الجزء ص 318 ـ 352.

    2 ـ راجع تكملة الرجال : 352 ، تنقيح المقال : 1/467.

    3 ـ المستدرك : 3/599.

    4 ـ تنقيح المقال : 1/469 ، 470.

    5 ـ معجم رجال الحديث : 7/347 ـ 349.

________________________________________

(218)

    ثم إنّه أفرد غير واحد من أعلام الاِمامية تأليفاً في زيد وفضله ومآثره ، فمنهم :

    1 ـ إبراهيم بن سعيد بن هلال الثقفي (م 283 هـ) له كتاب أخبار زيد.

    2 ـ محمد بن زكريا مولى بني غلاب (م 298 هـ) له أخبار زيد.

    3 ـ عبد العزيز بن يحيى الجلودي (م 368هـ) له أخبار زيد.

    4 ـ محمد بن عبد اللّه الشيباني (م 372هـ) له كتاب فضائل زيد.

    5 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر القمي (م 381هـ) له كتاب في أخباره.

    6 ـ ميرزا محمـد الاسترابـادي صاحب الرجـال الكبير (م 1028هـ) لـه رسالة في أحوال زيد.

    7 ـ السيد محسن الاَمين العاملي أحد كبار علماء الاِمامية في القرن الرابع عشر (م 1373هـ) له كتاب أبو الحسين زيد الشهيد وقد طبع في الشام.

    8 ـ السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم ، له كتاب زيد الشهيد وفي ذيله كتاب تنزيه المختار ، وقد طبع عام 1355هـ.

    هذه كلمات علماء الشيعة الاِمامية في حقّ زيد وليس هناك من الشيعة الاِمامية من يبغضه أو يذمّه ولو ورد فيه روايات ذم فإنّما هي مطروحة أو موَوّلة لاتعادل ماتواترت عليه من الروايات الدالة على وثاقته ، وجلالة قدره فمن أراد رمي الشيعة الاِمامية بغير هذا فهو كذاب يُعدُّ من رماة القول على عواهنه.

    نعم بعدما خرج زيد ، وجاهد وناضل وقتل وصلب وأُحرق اتّخذه أعداء الشيعة ذريعة للطعن على إمام الوقت جعفر الصادق ( عليه السلام ) وتوهم بعض الشيعة أنّ الاِمام من قام ونهض وجاهد ، دون غيره وهذا لا صلة له بزيد الثائر.

    وبذلك تقف على قيمة كلام رجلين يُعدّان من رماة القول على عواهنه :

    أحدهما : أحمد بن تيمية في كتاب « منهاج السنّة ».

    ثانيهما : الآلوسي البغدادي.

 

________________________________________

(219)

    قال ابن تيمية : إنّ الرافضة رفضوا زيد بن علي بن الحسين ومن والاه ، وشهدوا عليه بالكفر والفسوق (1).

    وقال الآلوسي : الرافضة مثلهم كمثل اليهود ، الرافضة يبغضون كثيراً من أولاد فاطمة ـ رضي اللّه عنها ـ بل يسبونهم كزيد بن علي (2).

    أقول : إنّ الرافضة ـ حسب تسمية الآلوسي ـ يقتفون أثر أئمتهم في كل صغيرة وكبيرة ، فإذا كان هذا موقف أئمتهم فكيف يمكن للشيعة التخطّي عنه ، والعجب أنّ الكاتبين كتبا ماكتبا ولم يرجعا إلى معاجم الرجال للشيعة وقد أطبقت معاجمهم على تزكيته وترفيع مقامه وتبجيله بكل كلمة.

 

بين أُباة الضيم وحماة الذل :

    لم أجد أحداً ممن كتب عن زيد ، وكفاحه وجهاده الرسالي الذي عرف به ، من القدامى والجدد من يغمطه حقه ويزدري به ، ويتكلم فيه بهمز أو لمز ، غير الكاتب السلفي : الشيخ شمس الدين الذهبي ، ومع أنّه يصف زيداً بأنّه كان أحد العلماء والصلحاء ، لكنّه يصف جهاده سقطة وزلّة يقول في موضع من كتبه : « بدت منه هفوة فاستشهد ، فكانت سبباً لرفع درجته في آخرته » (3) وفي كتاب آخر : « خرج متأوّلاً ، قتل شهيداً وليته لم يخرج » (4).

________________________________________

    1 ـ ابن تيمية : منهاج السنة : 2/126.

    2 ـ السنة والشيعة : 52.

    3 ـ تاريخ الاِسلام : حوادث (121 ـ 141هـ) ص 105. انظر إلى التناقض في كلامه إذ لو كان خروجه زلّة فكيف صار سبباً لرفع درجته في الآخرة.

    4 ـ سير أعلام النبلاء : 5/391.

________________________________________

(220)

    أقول : ما ذكره شنشنة أعرفها من كل سلفي يرى الجهاد والكفاح على الظلم والعدوان ، أمراً محرّماً ، والحياة مع الظالمين ومهادنتهم أمراً مشروعاً وسعادة ، فهم حماة الذلّ ، ودعاة الهوان ، وأين هم من أُباة الظلم والضيم.

    ومن أُصول الطائفة الاَُولى : الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منهم ، من عدل أو جور ، ولا يخرج عليهم بالسيف وإن جاروا (1) وماذكره على طرف الخلاف مع ما حدّثه السبط الشهيد عن جده رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذلك عندما اقترب من الكوفة استقبله الحر بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيد اللّه ابن زياد لاِكراه الحسين على إعطاء البيعة ليزيد ، وإرساله قهراً إلى الكوفة ، فعند ذلك قام الاِمام وخطب بأصحابه وأصحاب الحُرّ بقوله : أيّها الناس إنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « من رآى سلطاناً جائراً مستحلاً حُرَمَ اللّه ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ، يعمل في عباده بالاِثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على اللّه أن يُدخله مدخله ، ألا وإنّ هوَلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام اللّه ، وحرّموا حلاله ... »(2).

    كيف يكون جهاده هفوة ، مع أنّ الرسول الاَعظم تنبّأ به وأثنى عليه عندما نظر يوماً إلى زيد بن حارثة وبكى وقال : المظلوم من أهل بيتي ، سميّ هذا ، المقتول في اللّه ، المصلوب من أُمتي سميّ هذا ، ثم قال : ادنُ منّي يازيد ـ زادك اللّه حباً عندي ـ بإنّك سميّ الحبيب من ولدي (3).وقد بكى الوصي وأبكى ، أفيصح العزاء والبكاء على السقطة والزلة.

________________________________________

    1 ـ أبو الحسين الملطي : التنبيه والرد : 15.

    2 ـ الطبري : التاريخ : 4/304.

    3 ـ أخرجه السيوطي في الجامع الكبير كما في الروض النضير : 1/108.

(221)

    وما أحسن قول أخي الاَوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول اللّه فخوّفه ابن عمّه وقال : أين تذهب فإنّك مقتول؟ فقال :

سأمضي وما بالموت عار على الفتىو واسى الرجال الصالحين بنفسهفإن عشت لم أندم وإن مت لم أُلم                   إذا مانوى حقاً وجاهد مسلماوفارق مثبوراً وخالف مجرماكفى بك ذلاً أن تعيش وترغما (1)

    ما عشت أراك الدهر عجبا :

    لا أظنّ من قرأ صحائف حياة الملك الاَموي « هشام بن عبد الملك » يشك في أنّه كان دموياً سفّاكاً ، لا يرى لدم الاِنسان أيّة قيمة إذا ظنّ ولو واحداً بالمائة ، إنّه يريد خلافه ، وقتل زيد وصلبه وإبقاء جثمانه الطاهر على الخشبة أربع أو ست سنوات ، ثم حرقه ونسفه وذروه في الرياح والمياه ، دليل واضح على أنّ الرجل بلغ في القسوة غايتها.

    ومع ذلك كله ترى أنّ ابن سعد جاء في الطبقات ما يضيق به الاِنسان ذرعاً يقول : أخبرنا محمد بن عمر قال : أخبرنا سحبل بن محمد قال : ما رأيت أحداً من الخلفاء أكره إليه الدماء ولا أشدّ عليه من هشام بن عبد الملك وقد دخله من مقتل زيد بن علي ويحيى بن زيد أمر شديد وقال : وددت أنّي كنت افتديتهما.

    ثم ينقل عن أبي الزناد : ما كان فيهم أحد أكره إليه الدماء من هشام بن عبد الملك ولقد ثقل عليه خروج زيد بن علي ، فما كان شيء حتى أتى برأسه ، وصلب بدنه بالكوفة. ولي ذلك يوسف بن عمر في خلافة هشام بن عبد الملك (2).

    أقول : نعم ولي ذلك يوسف بن عمر لكن بأمر منه حتى أنّ عامله في الكوفة

________________________________________

    1 ـ المفيد : الاِرشاد : 225.

    2 ـ ابن سعد : الطبقات الكبرى : 5/326.

________________________________________

(222)

والحيرة كان غافلاً عمّا يجري فيها من وثوب الناس على زيد ومبايعتهم له ، إلى أن كشف عنه هشام ، وأمره بما أمره.

    روى أبو الفرج قال : لما قتل زيد رثاه الكميت بقصيدة هجا فيها بني أُمية يقول فيها :

فيا ربّ هل إلاّ بك النصر يُبتغى                   وياربّ هل إلاّ عليك المعول

    وهي طويلة يرثي فيها زيد بن علي ، والحسين بن زيد ويمدح بني هاشم فلما قرأها هشام بن عبد الملك أكبرها وعظمت عليه واستنكرها وكتب إلى خالد يُقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده ، فلم يشعر الكميت إلاّ والخيل محدقة بداره فأُخذ وحبس في المخيّس ... (1).

    يقول ابن العماد الحنبلي في حوادث سنة 125 :

    وفيها مات في ربيع الآخر ، الخليفة أبو الوليد هشام بن عبد الملك الاَموي ، وكانت خلافته عشرين سنة إلاّ شهراً ، وكانت داره عند الخواصين بدمشق فعمل منها السلطان نور الدين مدرسة ، وكان ذا رأي وحزم وحلم وجمع للمال. عاش أربعاً وخمسين سنة ، وكان أبيض سميناً أحول ، سديداً حسن الكلام ، شكس الاَخلاق ، شديد الجمع للمال قليل البذل ، وكان حازماً متيقّـظاً لايغيب عنه شيء من أمر ملكه ، قال المسعودي : كان هشام أحول ، فظّاً ، غليظاً ، يجمع الاَموال ويعمّر الاَرض ، ويستجيد الخيل ، وأقام الحلبة. اجتمع له فيها من خيله وخيل غيره أربعة آلاف فرس ولم يعرف ذلك في جاهلية ولا إسلام لاَحد من الناس ، وقد ذكرت الشعراء ما اجتمع له من الخيل واستجاد الكساء والفرش وعدد الحرب ، ولامتها ، واصطنع الرجال ، وقوّى الثغور واتّخذ القنى ، والبرك بمكة وغير ذلك من الآبار التي أتى عليها داود بن علي في صدر الدولة العباسية ، وفي أيامه عمل الحرز فسلك الناس جميعاً في أيامه مذهبه ، ومنعوا ما في أيديهم فقلّ الاِفضال وانقطع

________________________________________

    1 ـ الاَغاني : 17/4.

________________________________________

(223)

الرفد ولم ير زمان أصعب من زمانه.

    ودخل هشام بستاناً له ومعه ندماوَه فطافوا به وفيه من كل الثمار ، فجعلوا يأكلون ويقولون : بارك اللّه لاَمير الموَمنين فقال : وكيف يبارك لي فيه وأنتم تأكلونه ثم قال : أُدع قيّمه فدُعي به فقال له : أقلع شجره واغرس فيه زيتوناً حتى لا يأكل أحد منه شيئاً ، وكان أخوه مسلمة مازحه قبل أن يلي الاَمر فقال له : ياهشام أتوَمل الخلافة وأنت جبان بخيل قال : أي واللّه العليم الحليم.

    ومن نوادره ما روي أنّه تمادى في الصيد فوقع على غلام فأمر ببعض الاَمر!!فأبى الغلام وأغلظ له في القول وقال له : لا قرب اللّه دارك ولا حيّا مزارك ـ في قصة طويلة فيها ـ أنّه أمر بقتله وقرب له نطع الدم فأنشأ الغلام يقول :

نبئت أنّ الباز علّق مرّةفتكلّم العصفور في أظفارهما فيّ ما يغني لبطنك شبعةفتعجّب الباز المدل بنفسه          عصفور برّ ساقه المقدوروالباز منهمك عليه يطيرولئن أكلت فإنّني لحقيرعجباً وأفلت ذلك العصفور

    فضحك هشام وقال : يا غلام أحش فاه دراً وجواهر (1).

    أقول : إذا كان هذا أكره الخلفاء للدماء وأشدهم عليه فمن هو أحرصهم عليها وعلى إراقتها ، وكأنّي بشاعر المعرة يخاطب ابن سعد صاحب الطبقات ومن لفّ لفّه ويقول :

إذا وصف الطائي بالبخل مادروقال السهى للشمس أنت خفيةوطاولت الاَرض ، السماء ترفعاً             وعيّر قساً بالفهاهة باقلوقال الدجى للصبح لونك حائلوفاخرت الشهب الحصى والجنادل

    فياموتُ زُر إنّ الحياة ذميمةويانفس جدي ، إنّ دهرك هازلا

________________________________________

    1 ـ عماد الدين الحنبلي : شذرات الذهب : 162 ـ 164.

________________________________________

(225)

الفصل الثالث عشر

الثورات الناجمة عن ثورة

الاِمام الحسين ( عليه السلام )

     1 ـ ثورة أهل المدينة ومأساة الحرة.

    2 ـ ثورة عبد اللّه بن الزبير في مكة المكرّمة أيام خلافة يزيد وبعدها.

    3 ـ ثورة التوابين المستميتين في الكوفة.

    4 ـ ثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي.

    5 ـ ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الاَشعث أيام عبد الملك.

 

________________________________________

(226)

أُباة الضيم وأخبارهم

    قال ابن أبي الحديد :

    سيد أهل الاِباء الذي علّم الناس الحميّة والموت تحت ظلال السيوف ، اختياراً له على الدنيّة ، أبو عبد اللّه الحسين بن عليّ بن أبي طالب ( عليهما السلام ) عُرِض عليه الاَمان ، فأنِفَ من الذلّ ، وخاف من ابن زياد أن ينالَه بنوعٍ من الهوان؛ إن لم يقتُله ، فاختار الموت على ذلك (1).

 

الثورات الناجمة عن ثورة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) :

    أرى أنّ اللازم قبل كل شيء تبيين جذور ثورة الاِمام زيد ، وما دفعه إلى الخروج وهل كان هناك حافز نفساني دفعه إلى القيام واكتساح الاَشواك عن طريق الخلافة التي كان يتبنّاها ، أو كان هناك دافع خارجي يحضّه ويشوّقه إلى قبض الخلافة والزعامة ، أو لا هذا ولا ذاك بل كان مستلهماً من ثورة جده الاِمام الحسين ( عليه السلام ) وكانت ثورته استمراراً لثورته ، تلك الثورة التي أنارة الدرب لكل من يطلب الحقّ ويضحي في سبيله.

    إنّ ثورة الحسين ( عليه السلام ) منذ تفجرها صارت أُسوة وقدوة للمضطهدين على وجه البسيطة ، والمعذبين تحت نير الطغاة ، وعلى المعانين من حكومات الجور والتعسف في الاَوساط الاِسلامية وانحراف الدول والحكومات عن خط العدل والاقتصاد.

________________________________________

    1 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 3/249.

________________________________________

(227)

    وقد لمس الثائرون أنّ ثورة الحسين ( عليه السلام ) كانت ثورة مبدئية إلهية ، لاَجل صيانة الدين عن التحريف والمجتمع عن الانحراف والاعتساف ، فلاَجل إيقاف القارىَ على مبادىَ ثورته وغاياتها نذكر الحافز أو الحوافز التي دفعت الاِمام الحسين ( عليه السلام ) إلى الثورة والتضحية بشيخه ، وكهله ، وطفله الرضيع ، حتى يتبين عمق الثورة وملامحها وآثارها. سلام اللّه عليه وعلى الثائرين المتأثرين التابعين لخطه.

 

الخصومة بين الحسين ( عليه السلام ) والحاكم الاَموي كانت مبدئية :

    كانت الخصومة بين الهاشميين والاَمويين قائمة على قدم وساق منذ عصور قبل الاِسلام ، وكانت الخصومة عند ذاك تتسم بالقبلية وإن كان العداء السائد يتغذى من أُمور تمت إلى المعنوية والمثالية بصلة ، حيث إنّ الهاشمي كان عنوان الفضل والفضيلة ومثالاً للتقى على عكس ما كان أُمية وبنوه عليه ، فكانوا منغمرين في الانهيار الخلقي ، والانكباب على المادة والماديات وقد ألّف الموَرخ الشهير المقريزي كتاباً خاصاً أسماه بـ « النزاع والتخاصم بين بني أُمية وبني هاشم » نقتطف شيئاً قليلاً منه ، حتى يتبيّن أنّ التخاصم في ذلك العصر وإن كان متسماً بالنزاع القبلي ولكنه كان مبنياً على تمتع بني هاشم بنفسيات كريمة وروحيات طيبة حيث كانوا رافلين في حلل الفضائل والفواضل على جانب الخلاف مما كانت عليه بنو أُمية.

 

مناشدة هاشم وأُمية :

    نافر أُمية هاشماً على خمسين ناقة سود الحدق ، تنحر بمكة وعلى جلاء عشر سنين وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي جد عمرو بن الحمق وكان منزله بعسفان وخرج مع أُمية أبو همهمة حبيب بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث

 

________________________________________

(228)

بن فهر ابن مالك الفهري ، فقال الكاهن : « والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر ، وما بالجو من طائر وما اهتدى بعَلَم مسافر ، من منجد وغائر ، لقد سبق هاشم أُمية إلى المآثر أوّل منه وآخر ، وأبو همهمة بذلك خابر ».

    فأخذ هاشم الاِبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر ، وخرج أُمية إلى الشام فأقام به عشر سنين فكان هذا أوّل عداوة وقعت بين بني هاشم وبني أُمية ، ولم يكـن أُمية في نفسه هناك وإنّما يرفعه أبوه وبنوه وكان مضعوفاً وكان صاحب عهار ، ويدلّ على ذلك قول نفيل بن عبد العزى جد عمر بن الخطاب حين تنافر إليه حرب بن أُمية وعبد المطلب بن هاشم فنفر عبد المطلب وتعجب من إقدامه عليه وقال :

أبوك معاهر وأبوه عفّ           وذاد الفيل عن بلد حـرام

    وذلك أنّ أُمية كان يعرض لامرأة من بني زهرة ، فضربه رجل منهم ، ضربة بالسيف وأراد بنو أُمية ومن تابعهم إخراج زهرة من مكة فقام دونهم قيس بن العدي السهمي وكانوا أخواله ... (1).

    جاء نبي الاِسلام بدين سمح قد شطب على جميع ما كان في الجاهلية من أحقاد وضغائن ، وقال في خطبة حجّة الوداع : ألا كلّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع » (2).

    وبعد حروب ومعارك دامية قتلت فيها أبطال قريش وصناديدهم ، كما استشهد لفيف من المهاجرين والاَنصار ، دخل بنو أُمية في حظيرة الاِسلام متظاهرين به ولكن مبطنين الكفر والنفاق شأن كل حزب منهزم أمام تيّار جارف ، فكانوا ينتهزون الفرص ليقضوا على الاِسلام باسم الاِسلام ، وعلى العدل والتقى

________________________________________

    1 ـ النزاع والتخاصم بين بني أُمية وبني هاشم : 20 ـ 21.

    2 ـ الصدوق : الخصال : 487.

________________________________________

(229)

باسم الخلافة عن رسول اللّه وقد ظهرت بوادر ذلك في مجلس الخليفة عثمان بن عفان عندما بويع من جانب شورى سداسية أشبه بمسرحية سياسية حيث دخل عثمان بيته ومعه بنو أُمية ، جالسين حوله ، يتبجحون بإناخة جمل الخلافة على بابهم ، وقد تلقاها رئيس القبيلة أبو سفيان إنّها إمرة سياسية أو سلطة بشرية وصلت إليهم ، وإنّه كان كذلك في عصر الخليفتين السابقين وحتى الرسول الاَكرم وأنّه لم تكن هناك أية إمرة إلهية وخلافة دينية وليس هناك جنّة ولانار.

    يقول أبو بكر الجوهري : إنّ أبا سفيان ، قال لما بويع عثمان : كان هذا الاَمر في تيم ، وأنّى لتيم هذا الاَمر. ثم صار إلى عدي فأبعد وأبعد ، ثم رجعت إلى منازلها ، واستقر الاَمر قراره ، فتلقفوها تلقف الكرة.

    وقال أيضاً : إنّ أبا سفيان قال لعثمان : بأبي أنت. أنفق ولا تكن كأبي حجر ، وتُداولوها يابني أُمية تداول الولدان الكرة ، فواللّه ما من جنةولا نار ، وكان الزبير حاضراً ، فقال عثمان لاَبي سفيان : أُغرب ، فقال : يابني أهاهنا أحدٌ؟ قال الزبير : نعم واللّه لا كتمتها عليك (1).

    أسّس عثمان حكومة أموية بحتة عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة فولاها الوليد بن عقبة وكان أخاً لعثمان من أُمّه ، كما أنّه عزل عمرو بن العاص عن خراج مصر عام 27هـ ، واستعمل عليه عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح وكان أخاه من الرضاعة ، وهو ابن خال عثمان ، وأبقى معاوية على ولايته على الشام ولما كثرت الشكوى على عامله بالكوفة : الوليد بن عقبة ، عزله فولى مكانه سعيد بن العاص ، حتى قيل إنّ سبعاً وخمسين من ولاته وعماله الكبار كانوا من بني أُمية (2).

    إنّ هذه الحوادث المريرة وأضعافها التي حفظها التاريخ وجئنا بقليل منها

________________________________________

    1 ـ ابن أبي الحديد : شرح النهج : 2/45 نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري.

    2 ـ لاحظ : الدينوري : الاَخبار الطوال : 139 ، ابن الاَثير : الكامل : 3/88 ـ 89 ، الطبري : التاريخ : 3/339 و 445 وغيرها.

________________________________________

(230)

في الجزء الخامس من هذه الموسوعة أغضبت جمهور المسلمين وأثارتهم ضد الخليفة حتى انتهت إلى قتله في داره ، والمهاجرون والاَنصار ، بين مجهز عليه ، أو موَلّب ضده ، أو مستبشر بمقتله أو صامت رهين بيته محايد عن الطرفين (1).

    قُتل عثمان بسيف مروان بن الحكم الذي سلّه عليه بأعماله المأساوية في بلاطه ، وجاء بعده الاِمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) بإلحاح من الجماهير وبايعوه على أن يرد الاِسلام إلى عصر الرسول ، وقد امتنع في بدء الاَمر عن قبول الخلافة وتزهد فيها كما تزهد في عصر الخلفاء ، غير أنّه لمّا تمت الحجّة عليه ورأى أنّ في التقاعس عن قبولها ضرراً على الاِسلام والمسلمين أخذ بزمام الخلافة بيد من حديد وقد خضعت له الاَوساط الاِسلامية بعمالها وأُمرائها قاطبة إلاّ معاوية بن أبي سفيان ، فقد استمر على العناد ، واقفاً على أنّه لو بايع الاِمام للحقه العزل عن العمل ، ومصادرة الاَموال الطائلة. فبقي على المخالفة وألّب بعض المهاجرين والاَنصار على الاِمام حتى بايعهم خفاء إلى أن يبايعهم جلياً بعد سحب الاِمام عن ساحة الخلافة ، إلى أن آل الاَمر إلى تأجيج نار حروب ثلاثة (الجمل وصفين والنهروان) قد عرفت تفاصيلها في الجزء الخامس ، فلو قتل في الجمل قرابة أربعة عشر ألف مقاتل من الطرفين ، أو قتل في صفين سبعين ألف مقاتل من العراقيين والشاميين ، أو نشبت حروب دامية بين أنصار علي والخارجين على بيعته ، طوال سنين ، فكلّها من جرائم وآثام ذلك الخلاف والعناد والخروج على الاِمام.

    التحق الاِمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إلى الرفيق الاَعلى وقتل بيد أشقى الاَوّلين والآخرين عبد الرحمن بن ملجم عام أربعين ، ومعاوية بعدُ قابع على كرسيه ، وقد صفا له الجوّ برحيل علي ( عليه السلام ) فلم ير في الساحة إنساناً منافساً ولا مخالفاً سوى ، الحسن بن علي ( عليه السلام ) لاَنّ الجماهير من المهاجرين والاَنصار الذين كانوا مع علي في العراق بايعوه بالخلافة والاِمامة ولكن معاوية خالفه ولم يبايعه كما

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ : 3/399.

(231)

خالف أباه ولم يبايعه بل حاربه.

    نشب الخلاف بين معاوية والحسن بن علي وانجر الاَمر إلى تجنيد الجنود ونفرهم إلى ميادين الحرب وبعد حوادث مريرة رأى الاِمام الحسن ( عليه السلام ) أنّ الاَصلح هو التنازل والتصالح تحت شروط ومبادىَ خاصة حفظها التاريخ ، ومن أهم الشروط التي وقَّع عليها كل من معاوية والحسن بن علي ، هو أنّه ليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً (1) ولكن معاوية لم يكن ممن يعتمد على قوله وعهده ولا على حلفه ويمينه.

    إنّ معاوية من الفئة الذين يقولون ولا يفعلون وقد أظهر نواياه بعدما تم التصالح فقال : إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا انّكم لتفعلون ذلك ولكني قاتلتكم لاَتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ألا وإنّي كنت منّيت الحسن أشياء وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي هاتين لا أفي بشيء منها له. (2).

    رجع الحسن بن علي إلى مدينة جده ، ومعه أخوه الحسين وبنو هاشم وكان يتجرع الغصص من آل أُمية طيلة حياته إلى أن سمّه معاوية بتغرير زوجته فوافاه الاَجل عام خمسين من الهجرة النبوية ، وكان يضرب به المثل في الصبر والحلم. قال أبو الفرج : لما مات الحسن بن علي ( عليهما السلام ) وأخرجوا جنازته حمل مروان سريره ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : أتحمل سريره أما واللّه كنت تجرعه الغيظ ، فقال : مروان إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال (3).

    لم يكن معاوية يجترىَ على نقض ما وقع من عدم العهد إلى أحد ما دام الحسن في قيد الحياة ، وكان يتحين الفرص لنقض العهد واليمين وقد نقض أكثر

________________________________________

    1 ـ ابن صباغ المالكي : الفصول المهمة : 163.

    2 ـ المفيد : الاِرشاد : 191.

    3 ـ أبو الفرج الاَصفهاني : مقاتل ا ، لطالبيين : 49 ، طبعة النجف الاَشرف.

________________________________________

(232)

ما عهد ولم يبق إلاّ شيء واحد وهو أن لا يعهد إلى أحد وكان ولده يزيد أُمنيته وقرة عينه ، ولما مات الحسن رأى الجو صافياً ، فمهد الطريق لتنصيبه والياً من بعده ، وقد بذل في طريق أُمنيته أموالاً طائلة لاَصحاب الدنيا من الصحابة والتابعين حتى أرضى طائفة بترغيبه ونقوده ، وطائفة أُخرى بتخويفه وترهيبه. نعم بقى هناك لفيف قليل اشتروا سخط المخلوق برضا الخالق فلم يبايعوه بل ثاروا عليه ووبخوا معاوية على نقض عهده ، منهم : أبو الشهداء الحسين بن علي فقد جاهر وطرد بيعته وذلك عندما أراد معاوية أخذ البيعة ليزيد فقام وحمد اللّه وصلى على الرسول ، فقال بعد كلام : « وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لاَُمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص. وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به ومن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السبق لاَترابهن ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده ناصراً ، ودع عنك لما تحاول فما أغناك أن تلقى اللّه بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه » (1).

    تسنم معاوية منصة الحكومة فكان يحكم كالقياصرة والاَكاسرة إلى ان أدركته المنية عام ستين وجلس مكانه وليده وربيبه ، ونظيره في الخَلق والخُلق ، واهتز العالم الاِسلامي حينذاك حيث أحسّوا أنّ إنساناً خمِّيراً وسكّيراً لاعباً بالكلاب والقردة ، تصدى للاِمارة وفي الحقيقة للقضاء على الاِسلام والمسلمين باسم الخلافة عن النبي الاَكرم ، فعند ذاك تمت الحجّة على الحسين بن علي ( عليه السلام ) فجاهر بالخلاف والصمود أمامه حيث تجسد في الزمان قول جده رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلاّ فعليه لعنة اللّه » (2)

________________________________________

    1 ـ ابن قتيبة : الاِمام والسياسية : 1/169.

    2 ـ الكليني : الكافي : 1/54 ، ط الغفاري.

________________________________________

(233)

وكان يزيد يحس بذلك عن كثب فكتب إلى عامله بالمدينة الوليد بن عقبة أن يأخذ الحسين بالبيعة له ، فلما اجتمع مع عامله فعرض عليه البيعة فرفض بعد جدال عنيف بحضور مروان بن الحكم ، وأصبح الحسين من غده يستمع الاَخبار فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه ونصحه بالبيعة ليزيد فعندئذ ارتجّ الحسين وثارت ثورته وقال : « إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، وعلى الاِسلام السلام إذا بليت الاَُمة براع مثل يزيد » ، ثم قال : « يا مروان أترشدني لبيعة يزيد ، يزيد رجل فاسق لقد قلت شططاً من القول وزللاً ولا ألومك ، فإنّك اللعين الذي لعنك رسول اللّه وأنت في صلب أبيك الحكم بن العاص ، ومن لعنه رسول اللّه ، فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد ، إليك عني ياعدو اللّه فإنّا أهل بيت رسول اللّه ، الحقّ فينا ينطق على ألسنتنا وقد سمعت جدي رسول اللّه يقول : الخلافة محرمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول اللّه فلم يفعلوا به ما أُمروا فابتلاهم بابنه يزيد » (1).

 

دوافعه نحو الثورة :

    هذه الكلمة المباركة من الحسين بن علي ( عليهما السلام ) في أعتاب تفجير الثورة تعرب عن أنّ خلافه مع يزيد لم يكن خلافاً قبلياً ولا استمراراً له ، وإنّما كان يثور عليه لاَجل أنّ الحاكم يتّسم بمبادىَ هدامة للدين ، ولو أُتيحت له الفرصة لقضى على الاِسلام والمسلمين ، فلاَجل ذلك قام عن مجلس الوليد ولم يبايعه وترك مدينة جده والتجأ إلى مكة المكرمة ، وليست هذه الكلمة كلمة وحيدة معربة عن نواياه وحوافزه التي دفعته إلى الثورة فكم لها من نظير في حياته.

    وإليك كلمته الثانية عندما نزل منطقة البيضة من العراق واعترضه الجيش الاَموي بقيادة الحر بن يزيد التميمي اليربوعي ، فقال واقفاً بعد أن حمد اللّه وأثنى

________________________________________

    1 ـ الخوارزمي : مقتل الحسين : 1/184 ـ 185.

________________________________________

(234)

عليه : « أيها الناس أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : من رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام اللّه ، ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ، يعمل في عباد اللّه بالاِثم والعدوان ، فلم يغير عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هوَلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله » (1).

    ترى أنّ الاِمام يعلل ثورته على يزيد في البيان الاَوّل بأنّه رجل فاسق شارب الخمر ، قاتل النفس المحترمة معلن للفسق ، وإن هذه الصفات لا تتفق مع شروط الخلافة كما أنّه يعلل ثورته في البيان الثاني بأنّه سلطان جائر ، مستحل لحرام اللّه ناكث لعهده ، مخالف لسنّة رسوله عامل في عباده بالاِثم والعدوان. كل ذلك يعرب عن أنّ ثورته لم تكن ثورة قبلية ولا عنصرية ، بل مبدئية بحتة.

    وهناك للاِمام بيان ثالث ورابع وخامس و ... يعرّف موقفه من الحاكم الاَموي ، يعرف دافعه إلى النضال والكفاح نأتي بثالثة :

    كتب الاِمام إلى روَساء الاَخماس والاَشراف بالبصرة كتاباً جاء فيه : « وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه ، فإنّ السنّة قد أُميتت ، وإنّ البدعة قد أُحييت وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحقّ ، فاللّه أولى بالحقّ ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين » (2).

    وفي هذه المقتطفات من خطب ورسائل الاِمام أدلّة واضحة على أنّ الثورة لم تكن ثورة قبلية ولا عنصرية بل كانت ثورة دينية عقائدية بحتة ، وكان الدافع المهم للتضحية ترسيم خط الشهادة والفداء لكل من يطلب رضى الحقّ ، وبالتالي

________________________________________

    1 ـ ابن الاَثير : الكامل : 3/280 ، الطبري : التاريخ : 4/300.

    2 ـ الخوارزمي : المقتل : 1/88 ، الفصل 9.

________________________________________

(235)

قطع جذور الشر وتحطيم قوى الكفر والمنكر ، وإن طال سنين ، وقد نجح الاِمام في ثورته هذه إلى أن انتهى الاَمر إلى اجتثاث جذور بني أُمية عن أديم الاَرض وغلق ملفهم بقتل حمارهم مروان عام 132هـ. ق.

 

نجاح الاِمام الحسين ( عليه السلام ) في ثورته :

    لقد درسنا الحافز أو الحوافز التي دفعت الاِمام إلى الثورة غير أنّه بقي هنا أن نتحدث عن نتائجها وعن عطائها ، إذ بالوقوف عليها يعلم أنّه كان في ثورته ناجحاً أو فاشلاً ، إنّ هناك من ينظر إلى ثورة الحسين من منظار سياسي ضيق أو مادي بحت أضيق ، فيظن أنّ ثورته كانت فاشلة حيث إنّ الاِمام استشهد ولم ينل الخلافة ، والمسلمون بقوا بعد الثورة على ما كانوا عليه قبلها ، فكان الاِرهاب والتشريد حليفهم ، وكانت الحكومة الاَموية هي الحاكمة في البلاد الاِسلامية قرابة سبعين سنة.

    هذا ما يتصوره بعض الكتاب في ثورة الحسين ، وكأنّ نجاح الثورة في منطقهم ، هو نجاحها في يومها أو بعد أيام ، وهذا الزعم من هوَلاء ناش من الجهل بالحقّ أو التجاهل به ، فلاَجل قلع هذا التعتيم نركّز من عطاء الثورة في المقام على أمرين مهمين ونترك الباقي لاَقلام الكاتبين في ثورة الحسين :

    1 ـ إنّ الاِمام بتضحية نفسه ونفيسه ، أعلم الاَُمّة فظاظة الاَُمويين وقسوة سياستهم ، وابتعادهم عن الناموس البشري فضلاً عن الناموس الديني وتوغلهم في الغلظة الجاهلية ، وعادات الكفر الدفين.

    ثار في وجه الحكم السائد ليُعلم الملاَ الديني أنّهم لم يوقروا كبيراً ولم يرحموا صغيراً ، ولم يرقبوا على رضيع ولم يعطفوا على امرأة فقدّم إلى ساحات المفاداة ، أغصان الرسالة وأوراد النبوة ، وأنوار الخلافة ، ولم تبق جوهرة من هاتيك

 

________________________________________

(236)

الجواهر الفريدة ، فلم يعتم هو ولا هوَلاء إلاّ وهم ضحايا في سبيل تلك الطلبة الكريمة.

سل كربلا كم من حشاً لمحمّدٍأقمار تمٍّ غالها خسف الردى               نهبت بها وكم استجذت من يدوانثالها بصروفها الزمن الردي (1)

    2 ـ لم يكن الحسين ( عليه السلام ) يطلب ملكاً عضوضاً ولا سلطة بشرية وإنّما يطلب إيقاظ الاَُمّة بواجبه الحتمي ، وما هو إلاّ إقامة الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكأنّ الاَُمّة نسيت ذينك العمادين وذلك لعوامل خلفت رفض ذينك الاَمرين المهمين.

    كانت الاَُمّة تعيش بين الترغيب والترهيب فصارت محايدة عن كل عمل إيجابي يغير الوضع الحاضر وهم بين راضٍ بما يجري ، وبين مبغض صامت ، يترك الاَمر إلى اللّه تبارك وتعالى ، فكانت القلوب مشفقة والاَيدي مغلولة وعلى الاَلسن أُوكية.

    وكيف يصح لمسلم واع ، التساهل أمام عربدة يزيد بالكفر الصريح في شعره ونثره ، وإنكار الوحي والرسالة وهذا هو التاريخ يحكي لنا : أنّه لما ورد على يزيد نساء الحسين وأطفاله ، والروَوس على الرماح وقد أشرفوا ثنيّة جيرون نعب الغراب فأنشأ يزيد يقول :

لما بدت تلك الحمول وأشرقتنعب الغراب فقلت صح أو لاتصح                  تلك الشموس على رُبى جيرونفلقد قضيت من الغريم ديوني (2)

    يعني أنّه قتل بمن قتل رسول اللّه يوم بدر كجده عتبة وخاله وليد بن عتبة ، وغيرهما وهذا كفر صريح لا يلهج به إلاّ المنكر للرسالات والنبوات ورسالة سيد الرسل.

________________________________________

    1 ـ الاَميني : الغدير : 3/264.

    2 ـ ابن الجوزي : تذكرة الخواص : 235.

________________________________________

(237)

    ولم يقتصر بذلك بل أخذ ينشد شعر ابن الزبعرى حين حضر رأس الحسين بين يديه وقال :

ليت أشياخي ببدرٍ شهدواقد قتلنا القرم من ساداتهمفأهلوا واستهلوا فرحاًلست من خندف إن لم أنتقملعبت هاشم بالملك فلا                جزع الخزرج من وقع الاَسلوعدلنا قتل بدر فاعتدلثم قالوا يايزيد لاتشلمن بني أحمد ما كان فعلخبر جاء ولا وحيٌ نزل (1)

    وليس ذلك ببعيد عن ابن معاوية فإنّ أباه كان يشمئز من سماع الشهادة الثانية على رسالة محمد فكان يقول : للّه أبوك يا ابن عبد اللّه لقد كنت عالي الهمة ما رضيت لنفسك إلاّ أن تقرن اسمك مع اسم ربّ العالمين (2).

    ولما قال له المغيرة بن شعبة : لقد كبرت فلو أظهرت عدلاً لاِخوانك من بني هاشم فإنّه لم يكن عندهم شيء تخافه قال : هيهات مَلِكَ أخو تيم ، وفعل ما فعل ، فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل أبو بكر ، ثم ملك أخو عدي ، فاجتهد وشمر فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر ، ثم ملك أخونا عثمان ، فعمل ما عمل فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عثمان.

    وانّ أخا هاشم يصرخ باسمه في كل يوم خمس مرات : أشهد أن محمداً رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأي عمل يبقى مع هذا لا أُم لك واللّه إلاّ دفنا دفنا.

________________________________________

    1 ـ البيتان الاَوّلان لابن الزبعرى ، والثلاثة الاَخيرة ليزيد ، لاحظ تذكرة الخواص : 235.

    2 ـ شرح النهج الحديدي : 2/537.

________________________________________

(238)

    ولمّا سمع المأمون بهذا الحديث كتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر فأعظم الناس ذلك وأكبروه واضطربت العامة فأُشير عليه بالترك فأعرض عما كان عليه (1).

    فلما قام الحسين في وجه الحكومة بأولاده وأصحابه القليلين ، فقد نفث في جسم الاَُمّة روح الكفاح والنضال وحطمت كل حاجز نفسي واجتماعي كان يوقفهم عن القيام ، وأثبت أنّ الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الظروف الحرجة ليس رهن العِدّة والعُدّة بل إذا حاق الخطر بالاَُمّة من ملوكها وأمرائها وزعمائها وأصبحوا يسوقون الناس بأفعالهم وأعمالهم ، والمجتمع إلى العيش الجاهلي ، وجب على الموَمن الاستنكار بقلبه ولسانه ويده فكان في قيامه تحطيم السدود المزعومة الممانعة عن القيام بالفريضة ، ولاَجل ذلك استتبعت ثورته ، ثورات عديدة تترى من غير فرق بين من ثار وهو على خط الاِمام وبين من ثار في وجه الطغمة الاَموية ولم يكن على خطه وفكره ولكن الكل كانوا مستلهمين من تلك الثورة العارمة ، ولولا حركة الحسين ( عليه السلام ) لما كان لهذه الحركات أيّ أثر في المجتمع الاِسلامي ، وإن كنت في ريب من ذلك فعليك بدراسة الثورات المتتابعة بعد قيامه ونهضته.

    قضى الاِمام نحبه في اليوم العاشر من محرم الحرام عام 61هـ والرضاء بقضاء اللّه وقدره بين شفتيه (2) وهو ظمآن لم يشرب الماء منذ ثلاثة أيام ، والفرات يموج بمياهه وحيتانه « سبيل على الرواد منهله العذب » دون الحسين وأولاده وأصحابه حتى يموتوا عطشى. ولم يقتصر عدوّه الغاشم بقتله حتى همّ

________________________________________

    1 ـ مروج الذهب : 2/343. آخر أخبار المأمون.

    2 ـ قال ( عليه السلام ) وهو طريح مصرعه : « رضاءً بقضائك ، وتسليماً لاَمرك ، لا معبود سواك ، ياغياث المستغيثين ».

________________________________________

(239)

برضِّ صدره وظهره بالخيل ، ليقضي بذلك على جسم الاِمام كلّه. لكنّه فاته أنّ شهداء طريق الحقّ ، أحياء عند ربّهم يرزقون ، أحياء بين الشعوب الحية ، وأنّه سوف ينقلب الاَمر لصالح الاِمام وضد العدو حتى في اليوم الذي قضى عليه وأنّه ( عليه السلام ) سيجعل من أعدائه الذين وجهوا إليه سيوفهم ورماحهم ، أنصاراً صامدين ، وثواراً مناضلين.

    روى الموَرخون : لما قتل الحسين وتسابق العسكر إلى نهب خيام آل الرسول ونهبوا ما فيها أولاً ، وأضرموا النار ثانياً وبنات الزهراء حواسر مسلبات ، باكيات فنظرت امرأة من آل بكر بن وائل ، كانت مع زوجها ، إلى بنات رسول اللّه بهذا الحال فصاحت : يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول اللّه لا حكم إلاّ للّه ، يالثارات رسول اللّه فردها زوجها إلى رحله (1).

    كان ذلك الهتاف من ذلك الوقت ، نواة للثورة على العدو ، وإن لم يشعر به العدو ، واكتفى بجرها إلى رحله.

    كان الحسين فاتحاً في نهضته ، إذ لم يكن يتبنّى شيئاً سوى إيقاظ شعور الاَُمّة بلزوم القضاء على دعاة الضلال ، وكسح أشواك الباطل ، عن طريق الشريعة ، وتعريف الملاء بالذين هم الاَحق بالخلافة والقيادة.

    إنّ أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) غذّوا الاَُمّة بتحريضهم على عقد المحافل والمجالس لذكر حادثة الطف ، وما جرى على الحسين من مصائب تدك الجبال الرواسي ، وتذيب القلوب القاسية وقد اتخذوا أساليب مختلفة في إحياء حديث الطف بتشكيل أندية العزاء في بيوتهم تارة ، ودعوة الناس إليها ثانياً ، فقال الاِمام الباقر ( عليه السلام ) « رحم اللّه عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا » (2) فكان

________________________________________

    1 ـ ابن نما : مثير الاَحزان : 4 ، ابن طاووس : اللهوف : 74.

    2 ـ المجلسي : البحار : 74/354 ح 31.

________________________________________

(240)

لتلك الذكريات أثراً باهراً في تخليد الثورة في نفوس الاَُمّة حتى اتخذه الاَحرار مقياساً للسير في ضوئه مصباحاً وإليك نزراً يسيراً من الثورات التالية لثورة الاِمام ( عليه السلام ).

(241)

ثورة أهل المدينة

وإخراج عامل يزيد

    لما ولي الوليد الحجاز أقام يريد غِرّة عبد اللّه بن الزبير فلا يجده إلاّ محترزاً ممتنعاً ، وثار نجدة بن عامر النخعي باليمامة حين قتل الحسين ، وثار ابن الزبير بالحجاز ... فعزل يزيد الوليد ، وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان فبعث إلى يزيد وفداً من أهل المدينة ، فيهم : عبد اللّه بن حنظلة ، غسيل الملائكة وعبد اللّه ابن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي ، والمنذر بن الزبير ورجالاً كثيراً من أشراف أهل المدينة ، فقدموا على يزيد فأكرمهم وأحسن إليهم ، وأعظم جوائزهم فأعطى عبد اللّه بن حنظلة ، وكان شريفاً فاضلاً عابداً سيداً ، مائة ألف درهم ، وكان معه ثمانية بنين ، فأعطى كل ولد عشرة آلاف.

    فلمّا رجعوا قدموا المدينة كلهم إلاّ المنذر بن الزبير فإنّه قدم العراق على ابن زياد وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف دينار ، فلمّا قدم أُولئك النفر الوفد ، المدينة قاموا فيهم فأظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر ، ويضرب بالطنابير ، ويعزف عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسمر عنده الحراب وهم اللصوص وإنّا نشهدكم إنّا قد خلعناه.

    وقام عبد اللّه بن حنظلة الغسيل فقال : جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلاّ

 

________________________________________

(242)

بنيّ هوَلاء لجاهدته بهم ، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت منه عطاءه إلاّ لاَتقوّى به فخلعه الناس ، وبايعوا عبد اللّه بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد وولّوه عليهم (1).

    ولما دخل عام 63هـ أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان عامل يزيد ، وحصروا بني أُمية بعد بيعتهم عبد اللّه بن حنظلة ، فاجتمع بنو أُمية ومواليهم ومن يرى رأيهم في ألف رجل حتى نزلوا دار مروان بن الحكم فكتبوا إلى يزيد يستغيثون به فبعث إلى عمرو بن سعيد فأقرأه الكتاب وأمره أن يسير إليهم فردّ وقال : لا أُحب أن أتولّى ذلك.

    وبعث إلى عبيد اللّه بن زياد يأمره بالمسير إلى المدينة ومحاصرة ابن الزبير بمكة فقال : واللّه لا جمعتهما للفاسق ، قتل ابن رسول اللّه وغزو الكعبة. ثم أرسل إليه يعتذر.

    فبعث إلى مسلم بن عقبة المري ، وهو الذي سمّي مسرفاً ، وهو شيخ كبير فاستجاب ، فنادى في الناس بالتجهز إلى الحجاز ، وأن يأخذوا عطاءهم ومعونة مائة دينار ، فانتدب لذلك اثنا عشر ألفاً ، وخرج يزيد يعرضهم ، فأقبل مسلم إلى المدينة ودخل من ناحية الحرّة وضرب فسطاطه بين الصفين واقتتل الصفان قتالاً شديداً وانتهى الاَمر ، إلى غلبة قوات الشام على أهل المدينة بعدما قتل من الطرفين أُناس كثير ، ولم يقتصر المسرف بذلك بل أباح المدينة ثلاثاً يقتلون الناس ويأخذون المتاع والاَموال ... (2)

________________________________________

    1 ـ ابن الاَثير الجزري : الكامل : 4/103.

    2 ـ المصدر نفسه : 4 / 111 ـ 117 ، الطبري : التاريخ : 4/372 ـ 380 ، موَسسة الاَعلمي ـ بيروت.

________________________________________

(243)

ثورة عبد اللّه بن الزبير

    عبد اللّه بن الزبير بن العوام ولد بعد الهجرة بعشرين شهراً ، وكان أبوه ابن عمة علي ( عليه السلام ) وهو ابن خاله ، وهو ممن سلّ سيفه يوم السقيفة لصالح علي وقال : لا أغمد سيفي حتى يبايع علي ، ولكن ـ و للاَسف ـ كان ولده على الطرف النقيض من ذلك فهو كما قال علي ( عليه السلام ) : ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى نشأ عبد اللّه فأفسده (1) وهو الذي دفع أباه إلى محاربة الاِمام في وقعة الجمل بعد ما ندم وأراد التصالح والتراجع.

    ومع هذا هو ممن اتخذ ثورة الاِمام حجّة على خروجه في وجه الحاكم الاَموي وروى الطبري بسنده إلى عبد الملك بن نوفل قال : حدثني أبي : قال لما قتل الحسين ( عليه السلام ) قام ابن الزبير في أهل مكة وعظّم مقتله ، وعاب أهل الكوفة خاصة ولام أهل العراق عامة فقال بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه وصلّـى على محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّ أهل العراق غدر فجر إلاّ قليلاً ، وإنّ أهل الكوفة شرار أهل العراق وأنّهم دعوا حسيناً لينصروه ويولوه عليهم ، فلمّا قدم عليهم صاروا إليه ، فقالوا له : إمّا أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية ، فيمضي فيك حكمه وإمّا أن تحارب فرأى واللّه أنّه هو مقتول ولكنّه اختار

________________________________________

    1 ـ تنقيح المقال : 2/184 ، مادة « عبد اللّه بن الزبير ».

________________________________________

(244)

الميتة الكريمة على الحياة الذميمة فرحم اللّه حسيناً ، وأخزى قاتل حسين ـ إلى أن قال : ـ أفبعد الحسين نطمئن إلى هوَلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهداً لا ولا نراهم لذلك أهلاً. أما واللّه لقد قتلوه ، طويلاً بالليل قيامه ، كثيراً في النهار صيامه ، أحقّ بما هم فيه منهم وأولى به في الدين والفضل.

    أما واللّه ما كان يبدل بالقرآن ، الغناء ، ولا بالبكاء من خشية اللّه الحداء ، ولا بالصيام شرب الحرام ، ولا بالمجالس في حلَق الذِّكر الركض في تطلاب الصيد (يعرض بذلك يزيد) فسوف يلقون غياً.

    فثار إليه أصحابه فقالوا له : أيها الرجل أظهر بيعتك فإنّه لم يبق أحد (إذ هلك حسين) ينازعك هذا الاَمر وقد كان يبايع الناس سراً ويظهر أنّه عائذ بالبيت (1).

    لما فرغ مسلم من قتال أهل المدينة ونهبها شخص بمن معه نحو مكة يريد ابن الزبير ومن معه ، واستخلف على المدينة رَوْح بن زِنباع الجُذاميّ ، وقيل : استخلف عمرو بن مخرمة الاَشجعي ، فلمّا انتهى إلى المشلَّل نزل به الموت ، وقيل : مات بثنيّة هَرْشَى ، فلمّا مات سار الحصين بالناس فقدم مكة لاَربع بقين من المحرم سنة أربع وستين وقد بايع أهلها وأهل الحجاز عبد اللّه بن الزبير واجتمعوا عليه ، ولحق به المنهزمون من أهل المدينة فحمل أهل الشام عليهم حملةً انكشف منها أصحاب عبد اللّه ، ثم نزل فصاح بأصحابه ، وصابرهم ابن الزبير إلى الليل ثم انصرفوا عنه.

    هذا في الحصر الاَوّل ثم أقاموا يقاتلونه بقية المحرم وصفر كلّه حتى مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الاَوّل سنة أربع وستين ، ولاَجل القضاء على ابن الزبير

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ : 4/364 ، ابن الاَثير : الكامل : 4/98 ـ 99.

________________________________________

(245)

المتحصن في المسجد الحرام رموا البيت بالمجانيق وحرقوه بالنار ، وكانت الحرب طاحنة إذ بلغهم نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر ولم يكن أمامهم إلاّ طريق واحد وهو الرجوع إلى الشام واختار الرجوع إليها (1).

    كان ابن الزبير يسوس الحجاز والعراق وفيهما عماله إلى أن استولى عبد الملك على العراق عام إحدى وسبعين من الهجرة وانحصرت إمارة ابن الزبير بالحجاز وعند ذاك وجّه عبد الملك ، الحجاج بن يوسف الثقفي في ألفين وقيل في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال عبد اللّه بن الزبير ، وقدم مكة وحصر ابن الزبير والتجأ هو وأصحابه إلى المسجد الحرام ، ونصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة إلى أن خرج أصحابه إلى الحجاج بالآمان ، و قتل ابن الزبير يوم الثلاثاء من جمادي الآخرة عام ثلاث وسبعين من الهجرة (2)

________________________________________

    1 ـ ابن الاَثير : الكامل : 4/123 ـ 124 ، الطبري : التاريخ : 4/381 ـ 384.

    2 ـ الطبري : التاريخ : 5/24 ، ابن الاَثير : الكامل : 4/349 ـ 356.

________________________________________

(246)

ثورة التوابين في الكوفة

    إنّ ثورة أهل المدينة على عامل يزيد وإخراجه من المدينة ، وحركة ابن الزبير واستيلاوَه على الحجاز والعراق ، لم يكن ردّ فعل مباشر لقتل الحسين ( عليه السلام ) وإن كانا متأثرين من ثورته وحركته ، وهذا بخلاف حركة التوابين فقد كانت ردّ فعل مباشر لقتله ، حيث أحسّوا أنّهم قصّروا في حقّ إمامهم ، إذ دعاهم فلم يجيبوا ، وذلك عار عليهم. يتبعهم عذاب أليم ، وأنّه لا يغسل العار والاَثم عنهم إلاّ بالثورة على قاتليه وعلى رأسهم ، النظام الحاكم.

    يقول الطبري : « لما قتل الحسين بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة فدخل الكوفة ، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندّم ، ورأت أنّها قد أخطأت خطأ كبيراً ، بدعائهم الحسين إلى النصرة ، وتركهم إجابته ومقتله إلى جانبهم ، لم ينصروه ، ورأوا أنّه لا يُغسل عارهم والاِثم عنهم في مقتله إلاّ بقتل من قتله أو القتل فيه ففزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من روَوس الشيعة :

    1 ـ سليمان بن صرد الخزاعي ، وكانت له صحبة مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

    2 ـ المسيب بن نَجَبة الفزاري ، وكان من أصحاب علي ( عليه السلام ) وخيارهم.

    3 ـ عبد اللّه بن سعد بن نفيل الاَزدي.

    4 ـ عبد اللّه بن وال التيميّ.

    5 ـ رفاعة بن شدّاد البجلي.

    إنّ هوَلاء النفر الخمسة اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد وكانوا من خيار

 

________________________________________

(247)

أصحاب علي ومعهم أُناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم قال : فلمّا اجتمعوا إلى منزل سليمان بن صرد بدأ المسيب بن نجبة القوم بالكلام وقال :

    1 ـ قـد ابتلينا بطول العمر والتعرض لاَنواع الفتن ، فنرغب إلى ربّنا ألاّ يجعلنا ممن يقول له غداً : « أوَلَم نُعَمِّركُم ما يَتَذَكَّرُ فِيه مَن تَذَكَّر وجاءَكُمُ النَّذِير » (1).

    فإنّ أمير الموَمنين ( عليه السلام ) قال :

    العمر الذي أعذر اللّه فيه إلى ابن آدم ستون سنة ، وليس فينا رجل إلاّ وقد بلغه وقد كنّا مغرمين بتزكية أنفسنا ، وتفريط شيعتنا حتى بلا اللّه أخيارنا فوجدنا كاذبين ، في موطنين من مواطن ابن ابنة نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه وقدمت علينا رسله ، وأعذر إلينا ، يسألنا نصره عوداً وبدءاً ، وعلانية وسرّاً فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قُتِل إلى جانبنا ، لا نحن نصرناه بأيدينا ، ولا جادلنا عنه بألستنا ولا قوّيناه بأموالنا ، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا ، فما عذرنا إلى ربّنا وعند لقاء نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد قُتِلَ فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله ، لا واللّه لا عذر دون أن تقتلوا قاتله ، والموالين عليه ، أو تقتلوا في طلب ذلك فعسى ربّنا أن يرضى عنّا ذلك ، وما أنا بعد لقائه ، لعقوبته بآمن.

    أيّها القوم ولّوا عليكم رجلاً منكم فإنّه لابد لكم من أمير تفزعون إليه ، وراية تحفون بها أقول قولي وأستغفر اللّه لي ولكم.

    2 ـ وتكلّم رفاعة بن شداد وقال : إنّ اللّه قد هداك لاَصوب القول ودعوت إلى أرشد الاَُمور ، ودعوت إلى جهاد الفاسقين ، وإلى التوبة من الذنب العظيم ، فمسموع منك ، مستجاب لك ، مقبول قولك قلت : ولّوا أمركم رجلاً منكم ، تفزعون إليه ، وتحفون برايته وذلك رأي قد رأينا مثل الذي رأيت ، فإن تكن أنت

________________________________________

    1 ـ فاطر : 37.

________________________________________

(248)

ذلك الرجل تكن عندنا مرضياً ، وفينا متنصّحاً وفي جماعتنا محباً ، وإن رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولّينا هذا الاَمر شيخ الشيعة صاحب رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذا السابقة والقدم ، سليمان بن صرد المحمود في بأسه ودينه ، الموثوق بحزمه.

    ثم تكلّم كل من عبد اللّه بن وال ، وعبد اللّه بن سعد وتكلّما بنحو من كلام رفاعة بن شداد فذكرا المسيب بن نجبة بفضله ، وذكرا سليمان بن صرد بسابقته ورضاهما بتوليته.

    3 ـ تكلّم سليمان بن صرد وقال : فإنّي واللّه لخائف ألاّ يكون آخرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة ، وعظمت فيه الرزية وشمل فيه الجور أُولي الفضل من هذه الشيعة لما هو خير ، إنّا كنّا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبينا ، ونمنِّيهم النصر ونحثهم على القدوم ، فلما قدموا ونَينا وعجزنا ، وأدهنّا وتربصنا وانتظرنا ما يكون ، حتى قتل فينا ، ولدينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه ، إذ جعل يستصرخ ويسأل النصف فلا يُعطاه ، إتخذه الفاسقون غرضاً للنبل ، ودريئة للرماح حتى أقصدوه ، وعدوا عليه فسلبوه. ألا انهضوا فقد سخط عليكم ربّكم ، ولا ترجعوا إلى الحلائل والاَبناء حتى يرضى اللّه ، واللّه ما أظنه راضياً دون أن تناجزوا مَنْ قتله أو تبيروا ، ألا لا تهابوا الموت فواللّه ما هابه امروَ قطّ إلاّ ذلّ ، كونوا كالاولى من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم « إنَّكُمْ ظَلَمتُمْ أنْفُسَكُمْ باتّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ فَاقتُلوا أنْفُسَكُمْ ذلكُمْ خَيرٌ لَكُمْ عِندَ بارِئِكُمْ » فما فعل القوم جثوا على الركب واللّه ومدّوا الاَعناق ورضوا بالقضاء حتى حين علموا أنّه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلاّ الصبر على القتل ، فكيف بكم لو قد دعيتم إلى مثل ما دعي القوم إليه ، أشحذوا السيوف وركّبوا الاَسنة وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل حتى تدعوا حين تدعوا وتستنفروا :

    4 ـ فقام خالد بن سعد بن نفيل فقال : أمّا أنا فواللّه لو أعلم أنّ قتلي نفسي

 

________________________________________

(249)

يخرجني من ذنبي ويرضي عنّي ربّي لقتلتها ، ولكن هذا أُمر به قوم كانوا قبلنا ، ونُهينا عنه فأُشهد اللّه ومن حضر من المسلمين أنّ كلّ ما أصبحت أملكه سوى سلاحي الذي أُقاتل به عدوّي ، صدقة على المسلمين أُقوّيهم به على قتال القاسطين.

    5 ـ وقام أبو المعتمر حنش بن ربيعة الكناني فقال : وأنا أُشهدكم على مثل ذلك ، فقال سليمان بن صرد : حسبكم من أراد من هذا شيئاً ، فليأت بماله عبد اللّه ابن وال التيمي تيم بكر بن وائل ، فإذا اجتمع عنده كلّ ما تريدون إخراجه من أموالكم ، جهزنا به ذوي الخُلَّة والمسكنة من أشياعكم (1).

    6 ـ ثم أخذ سليمان بن صرد يكاتب وجوه الشيعة في الاَطراف وكتب سليمان بن صرد : إلى سعد بن حذيفة اليمان (2) يعلمه بما عزموا عليه ، ويدعوه إلى مساعدتهم ، ومن معه من الشيعة بالمدائن ، فقرأ سعد بن حذيفة الكتاب على من بالمدائن من الشيعة فأجابوا إلى ذلك فكتبوا إلى سليمان بن صرد يعلمونه أنّهم على الحركة إليه والمساعدة له.

    وكتب سليمان أيضاً كتاباً إلى المثنّى بن مخربة العبدي بالبصرة مثل ما كتب إلى سعد بن حذيفة فأجابه المثنى : إننّا معشر الشيعة حمدنا اللّه على ما عزمتم عليه ، ونحن موافوك إن شاء اللّه للاَجل الذي ضربت وكتب في أسفله أبياتاً (3).

    لم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس ـ في السر ـ إلى الطلب بدم الحسين فكان يجيبهم القوم بعد القوم ، والنفر بعد النفر ولم يزالوا على ذلك إلى أن هلك يزيد بن معاوية سنة أربع وستين.

    فلمّـا مات يزيد جاء إلى سليمان أصحابه فقالوا : قد هلك هذا الطاغية ،

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ : 4/426 ـ 428.

    2 ـ لاحظ نصّ الكتاب : تاريخ الطبري : 4/429 ـ 430.

    3 ـ ابن الاَثير : الكامل : 4/158 ـ 162 ، الطبري : التاريخ : 431.

________________________________________

(250)

والاَمر ضعيف فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث ، وكان خليفة ابن زياد على الكوفة ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبّعنا قتلته ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم ، المدفوعين عن حقهم.

    فقال سليمان بن صرد : لاتعجلوا ، إنّي قد نظرت فيما ذكرتم فرأيت أنّ قتلة الحسين هم أشراف الكوفة وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه ، ومتى علموا ما تريدون كانوا أشدّ الناس عليكم ، ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنّهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم ، ولم يشفوا نفوسهم ، وكانوا جَزَرَاً لعدوهم ولكن بثّوا دعاتكم وادعوا إلى أمركم هذا ، شيعتكم وغير شيعتكم فإنّي أرجو أن يكون الناس اليوم حيث هلك هذا الطاغية أسرع إلى أمركم استجابة منهم قبل هلاكه ، ففعلوا واستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد ، وهم يريدون قتال أهل الشام الذين أقاموا دعائم عرش يزيد ، وعدم التعرض بمن في الكوفة من قتلة الحسين ( عليه السلام ) على جانب الخلاف من ثورة المختار.

 

مسير التوابين :

    لما أراد سليمان بن صرد الخزاعي الشخوص سنة خمس وستين بعث إلى روَوس أصحابه فأتوه ، فلمّا أهلّ ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه وكانوا تواعدوا للخروج في تلك الليلة ، فلمّا أتى النخيلة دار في الناس فلم يعجبه عددهم فأرسل حكيم بن منقذ الكندي ، والوليد بن عصير الكناني في الكوفة فناديا : يالثارات الحسين فكانا أوّل (1) خلق اللّه دعوا يالثارات الحسين.

    فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما في عسكره ، ثم نظر في ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفاً ممن بايعه فقال : سبحان اللّه ما وافانا من ستة عشر ألفاً إلاّ أربعة

________________________________________

    1 ـ لقد سبق أنّه أوّل من دعا به ، هو امرأة من بني بكر بن وائل يوم عاشورا عند إضرام النار في الخيام.

(251)

آلاف. فأقام بالنخيلة ثلاثاً يبعث إلى من تخلف عنه فخرج إليه نحو من ألف رجل. ثم قام سليمان في أصحابه فقال : أيّها الناس من كان خرج ، يريد بخروجه وجه اللّه والآخرة فذلك منّا ، ونحن منه ، ومن كان يريد الدنيا فواللّه ما نأتي فيئاً نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان اللّه. فتنادى أصحابه من كل جانب : إنّا لا نطلب الدّنيا وإنّما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول اللّه نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

    فسار سليمان عشية يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين فوصل دار الاَهواز ، ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين فلمّا دخلوا صاحوا صيحة واحدة فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه ، وترك القتال معه ، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه ، وكان قولهم عند ضريحه : « اللّهمّ إرحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد المهدي ابن المهدي ، الصديق ابن الصديق ، اللّهمّ إنّا نشهدك إنّا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم ، وأولياء محبيهم. اللّهمّ إنّا خذلنا ابن بنت نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاغفر لنا ما مضى ، منّا وتب علينا وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين وإنّا نشهدك أنّا على دينهم ، وعلى ماقتلوا عليه. وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين. وزادهم النظر إليه حنقاً.

    ثم ساروا بعد أن كان الرجل يعود إلى ضريحه كالمودع له ، فازدحم الناس عليه أكثر من ازدحامهم على الحجر الاَسود ، ثم أخذوا على الاَنبار وكتب إليهم عبد اللّه بن يزيد كتاباً يثبطّهم عن السير إلى الشام وقتال العدو ولما وصل الكتاب إلى سليمان قرأه على أصحابه ، فكتب إليه جواباً ـ بعد أن شكره وأثنى عليه ـ : أنّ القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربّهم ، وأنّهم قد تابوا من عظيم ذنبهم وتوجهوا إلى اللّه وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى اللّه عليهم.

 

________________________________________

(252)

    ثم ساروا حتى انتهوا إلى « قرقيسيا » على تعبئة وبها زفر بن الحارث الكلابي وقد فتح باب حصنه بعد ما عرف أن فيهم المسيّب بن نجبة فأخرج لهم سوقاً وأمر للمسيب بألف درهم وفرس ، فردّ المال وأخذ الفرس وقال : لعلّي أحتاج إليه إن عرج فرسي ، وبعث « زفر » إليهم ، بخبز كثير وعلف ودقيق حتى استغنى الناس عن السوق.

    ثم ارتحلوا من الغد ، وخرج « زفر » يشيّعهم وقال لسليمان أنّه قد سار خمسة أُمراء من الرقة هم : الحصين بن نمير ، وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وأدهم بن محرز ، وجبلة بن عبد اللّه الخثعمي ، وعبيد اللّه بن زياد ، في عدد كثير مثل الشوك والشجر ، ثم اقترح عليهم أن ينزلوا بديرهم حتى يكونوا يد واحدة على العدو الشاميين ، فإذا جاءنا هذا العدو ، قاتلناهم جميعاً. فلم يقبل سليمان وقال : قد طلب أهل مصر ذلك منّا فأبينا عليهم. ثم ساروا مجدّين فانتهوا إلى عين الوردة فنزلوا غربيّها وأقاموا خمساً فاستراحوا وأراحوا.

    وأقبل أهل الشام في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة ، فقام سليمان في أصحابه وذكر الآخرة ورغب فيها ثم قال : أمّا بعد فقد أتاكم عدوكم الذي دأبتم إليه في السير آناء الليل والنهار ، فإذا لقيتموهم فأصدقوهم القتال واصبروا إنّ اللّه مع الصابرين ثم قال : إن أنا قتلت فأمير الناس مسيب بن نجبة ، فإن قتل ، فالاَمير عبد اللّه بن سعد بن نفيل ، فإن قتل ، فالاَمير عبد اللّه بن وال ، فإن قتل ، فالاَمير رفاعة بن شداد ، رحم اللّه امرئاً صدق ما عاهد اللّه عليه.

    كان أدنى عسكر من عساكر الشام هو عسكر شرحبيل بن ذي الكلاع ، وكان على رأس ميل فسار المسيّب ومن معه مسرعين فأشرفوا عليهم وهم غارّون ، فحملوا في جانب عسكرهم فانهزم العسكر وأصحاب المسيب منهم رجالاً فأكثروا فيهم الجراح وأخذوا الدواب وخلّـى الشاميون عسكرهم وانهزموا ، فغنم

 

________________________________________

(253)

منه أصحاب المسيّب ما أرادوا ثم انصرفوا إلى سليمان موفورين.

    وبلغ الخبر ابن زياد فسرّح الحصين بن نمير مسرعاً حتى نزل في اثني عشر ألفاً ، فخرج أصحاب سليمان إليه لاَربع بقين من جمادي الاَُولى ، وعلى ميمنتهم عبد اللّه بن سعد ، وعلى ميسرتهم المسيّب بن نجبة وسليمان في القلب ، وجعل الحصين على ميمنته جملة بن عبد اللّه (1) وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي فلمّا دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان ، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع عبد الملك وتسليم عبيد اللّه بن زياد إليهم وأنّهم يخرجون من بالعراق من أصحاب ابن الزبير ثم يرد الاَمر إلى أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأبى كل منهم ، فحملت ميمنة سليمان على ميسرة الحصين ، والميسرة أيضاً على الميمنة ، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم ، فانهزم أهل الشام إلى عسكرهم ، وما زال الظفر لاَصحاب سليمان إلى أن حجز بينهم الليل.

    فلمّا كان الغد صبّح الحصين جيش مع ابن ذي الكلاع ثمانية الآف ، أمدهم بهم عبيد اللّه بن زياد ، وخرج أصحاب سليمان فقاتلوهم قتالاً لم يكن أشد منه جميع النهار ، لم يحجز بينهم إلاّ الصلاة ، فلمّا أمسوا تحاجزوا وقد كثرت الجراح في الفريقين ، وطاف القصّاص على أصحاب سليمان يحرضونهم.

    فلمّا أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف من ابن زياد ، فاقتتلوا يوم الجمعة قتالاً شديداً إلى ارتفاع الضحى ، ثم إنّ أهل الشام كثروهم وتعطفوا عليهم من كل جانب ، ورأى سليمان ما لقي أصحابه ، فنزل ونادى : عباد اللّه من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه فإلي. ثم كسر جفنة سيفه ونزل معه ناس كثير وكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه ، فقاتلوهم ، فقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح. فلمّـا رأى الحُصين صبرهم

________________________________________

    1 ـ كذا في النسخة.

________________________________________

(254)

وبأسهم ، بعث الرجّالة ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال ، فقتل سليمان ، رحمه اللّه ، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع.

    فلمّا قُتل سلمان أخذ الراية المسيب بن نجبة وترحّم على سليمان ثم تقدّم فقاتل بها ساعة ثم رجع ثم حمل. فعل ذلك مراراً ، ثم قتل ، رحمه اللّه ، بعد أن قتل رجالاً.

    فلمّا قتل أخذ الراية عبد اللّه بن سعد بن نفيل وترحّم عليهما ، ثم قرأ : « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ومنهُمْ مَنْ يَنْتَظِرْ وَما بَدَّلُوا تَبدِيلا » وحفّ به من كان معه من الاَزد. فبينما هم في القتال أتاهم فرسان ثلاثة من سعد بن حذيفة ، يخبرون بمسيرهم في سبعين ومائة من أهل المدائن ، ويخبرون أيضاً بمسير أهل البصرة مع المثنى بن مخربة العبدي في ثلاثمائة ، فسرّ الناس فقال عبد اللّه بن سعد : ذلك لو جاءُونا ونحن أحياء.

    فلمّا نظر الرسل إلى مصارع إخوانهم ساءهم ذلك واسترجعوا وقاتلوا معهم ، وقتل عبد اللّه بن سعد بن نفيل ، قتله ابن أخي ربيعة بن مخارق ، وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه فطعنه بالسيف ، واعتنقه الآخر فحمل أصحابه عليه فخلّصوه بكثرتهم وقتلوا خالداً ، وبقيت الراية ليس عندها أحد ، فنادوا عبد اللّه بن وال فإذا هو قد اصطلى الحرب في عصابة معه ، فحمل رفاعة بن شداد فكشف أهل الشام عنه ، فأتى فأخذ الراية وقاتل ملياً ثم قال لاَصحابه : من أراد الحياة التي ليس بعدها موت ، والراحة التي ليس بعدها نصب ، والسرور الذي ليس بعده حزن ، فليتقرب إلى اللّه بقتال هوَلاء المحلّين ، والرواح إلى الجنّة ، وذلك عند العصر فحمل هو وأصحابه فقتلوا رجالاً وكشفوهم.

    ثم إنّ أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب حتى ردوهم إلى المكان الذي كانوا فيه ، وكان مكانهم لا يوَتى إلاّ من وجه واحد ، فلما كان المساء تولى قتالهم

 

________________________________________

(255)

أدهم بن محرز الباهلي فحمل عليهم في خيله ورجله ، فوصل ابن محرز إلى ابن وال وهو يتلو : « ولا تَحْسَبَنَّ الّذِينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ أَمْواتاً » الآية ، فغاظ ذلك أدهم بن محرز فحمل عليه ، فضرب يده فأبانها ثم تنحى عنه وقال : إنّي أظنك وددت أنّك عند أهلك. قال ابن وال : بئس ما ظننت ، واللّه ما أحبّ أنّ يدك مكانها إلاّ أن يكون لي من الاَجر مثل ما في يدي ليعظم وزرك ويعظم أجري. فغاظه ذلك أيضاً ، فحمل عليه وطعنه فقتله وهو مقبل ما يزول. وكان ابن وال من الفقهاء العبّاد.

    فلمّا قتل أتوا رفاعة بن شداد البجليّ وقالوا : لتأخذ الراية. فقال : إرجعوا بنا لعلّ اللّه يجمعنا ليوم شرهم. فقال له عبد اللّه بن عوف بن الاَحمر : هلكنا واللّه ، لئن انصرفت ليركبنّ أكتافنا فلا نبلغ فرسخاً حتى نهلك عن آخرنا ، وإن نجا منّا ناج أخذته العرب يتقرّبون به إليهم فقتل صبراً ، هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا ، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أوّل الليل وسرنا حتى نصبح ونسير على مهل ، ويحمل الرجل صاحبه وجريحه ونعرف الوجه الذي نأخذه. فقال رفاعة : نعم ما رأيت ، وأخذ الراية وقاتلهم قتالاً شديداً ، ورام أهل الشام إهلاكهم قبل الليل فلم يصلوا إلى ذلك لشدّة قتالهم ، وتقدّم عبد اللّه بن عزير الكناني فقاتل أهل الشام ومعه ولده محمد وهو صغير ، فنادى بني كنانة من أهل الشام وسلّم ولده إليهم ليوصلوه إلى الكوفة ، فعرضوا عليه الاَمان ، فأبى ثم قاتلهم حتى قتل.

    وتقدّم كرب بن يزيد الحميري عند المساء في مائة من أصحابه فقاتلهم أشد قتال ، فعرض عليه وعلى أصحابه ابن ذي الكلاع الحميري الاَمان ، قال : قد كنّا آمنين في الدنيا وإنّما خرجنا نطلب أمان الآخرة ، فقاتلوهم حتى قتلوا وتقدّم صخر ابن هلال المزني في ثلاثين من مزينة فقاتلوا حتى قتلوا.

    فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم ، ونظر رفاعة إلى كل رجل قد

 

________________________________________

(256)

عُقِربه فرسُه وجُرِح فدفعه إلى قومه ثم سار بالناس ليلته ، وأصبح الحصين ليلتقيهم فلم يرهم ، فلم يبعث في آثارهم ، وساروا حتى أتوا قرقيسيا فعرض عليهم زفر الاِقامة ، فأقاموا ثلاثاً ، فأضافهم ثم زودهم وساروا إلى الكوفة.

    ثم أقبل سعد بن حذيفة بن اليمان في أهل المدائن فبلغ « هيت » فأتاه الخبر ، فرجع فلقي المثنى بن مخرَّبة العبدي في أهل البصرة بصندوداء ، فأخبره ، فأقاموا حتى أتاهم رفاعة فاستقبلوه ، وبكى بعضهم إلى بعض وأقاموا يوماً وليلة ثم تفرقوا ، فسار كل طائفة إلى بلدهم.

    ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار محبوساً ، فأرسل إليه : أمّا بعدّ فمرحباً بالعصبة الذين عظّم اللّه لهم الاَجر ، حين انصرفوا ورضي فعلهم حين قُتِلوا ، أما وربّ البيت ما خطا خاط منكم خطوة ، ولا ربا ربوة ، إلاّ كان ثواب اللّه له أعظم من الدنيا. إنّ سليمان قد قضى ما عليه ، وتوفّاه اللّه ، وجعل وجهه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون ، إنّي أنا الاَمير المأمور ، والاَمين المأمون ، وقاتل الجبارين ، والمنتقم من أعداء الدين ، المقيّد من الاَوتار ، فأعدوا واستعدوا وأبشروا ، أدعوكم إلى كتاب اللّه ، وسنّة نبيه ، والطلب بدم أهل البيت ، والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلين ، والسلام » (1).

    هذه هي ثورة التوابين ، المشرقة ، وهممهم العالية ، وتفاديهم في سبيل الهدى ، وقد بُذل لهم الاَمان فلم يقبلوا فقد : « صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه » (2) فقد قاموا بواجبهم فما رجع منهم إلاّ قليل بعد اليأس من الغلبة على العدو فرجعوا إلى أوطانهم ولحقوا بعشائرهم وبذلك ابتغوا أنّ الوظيفة بعد باقية ، على عاتقهم.

    وهناك كلمة قيمة للمحقّق شمس الدين نأت بها : « لقد اعتبر التوابون أنّ

________________________________________

    1 ـ الجزري : الكامل : 4/175 ـ 186.

    2 ـ الاَحزاب : 23.

________________________________________

(257)

المسوَول الاَوّل والاَهم عن قتل الحسين ( عليه السلام ) هو النظام ، وليس الاَشخاص وكانوا مصيبين في هذا الاعتقاد ولذا نراهم توجّهوا إلى الشام ولم يلقوا بالاً إلى من في الكوفة من قتلة الحسين ( عليه السلام ) (1).

    إنّ هذه الثورة قد انبعثت عن شعور بالاِثم والندم ، وعن رغبة في التكفير فمن يقرأ أقوالهم وكتبهم وخطبهم ، يلمس فيها الشعور العميق بالاِثم والندم ، والرغبة الحارة عن التكفير ، وكونها صادرة عن هذه البواعث ، جعلها ثورة انتحارية فالثائرون يريدون الانتقام والتكفير ـ ومع ذلك ـ إنّها أثّرت في مجتمع الكوفة تأثيراً عميقاً فقد عبّأت خطبُ قادات هذه الثورة وشعاراتهم ، الجماهير في الكوفة للثورة على الحكم الاَموي.

________________________________________

    1 ـ محمد مهدي شمس الدين : ثورة الحسين : 264.

________________________________________

(258)

ثورة المختار

    المختار هو ابن أبي عبيدة بن مسعود بن عمرو بن عوف بن عبدة بن عوف ابن ثقيف الثقفي ، ولد عام الهجرة وقد جاء أبوه به إلى علي ( عليه السلام ) وهو صغير وأجلسه على فخذه وقال له وهو يمسح على رأسه : « ياكيّس! ياكيّس! » ولذا لُقّبَ بالكيسان (1).

    إنّ ثورة المختار الثقفي من الثورات الانتقامية التي أثلجت قلوب بني هاشم إذ ما امتشطت هاشمية ولا اختضبت ، حتى أخذ المختار ثأر الحسين من قتلته ، ولما وقف الاِمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) على ما جرى على أعداء أبيه بيد المختار خرّ ساجداً وقال : الحمد للّه الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزى المختار خيرا (2).

    وهناك سوَال يطرح نفسه وهو أنّ المختار كان من أهل الولاء لاَهل البيت ( عليهم السلام ) فلماذا لم يُشارك في جيش الاِمام ( عليه السلام ) ولم يقاتل أمامه ولكن التاريخ يجيبك عن هذا السوَال ، وهو أنّ الرجل جاء لنصرة الاِمام لكن قبض عليه وحيل بينه وبين أُمنتيه.

________________________________________

    1 ـ الكشي : الرجال : 116.

    2 ـ المصدر نفسه.

________________________________________

(259)

    يذكر الموَرخون أنّ مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) خرج قبل الاَجل الذي كان بينه وبين أصحابه منهم المختار بن أبي عبيدة ، وكان في قرية تدعى « لقفا » فبلغه ما جرى على مسلم فجاء بمواليه إلى الكوفة يحمل راية خضراء ومعه عبد اللّه بن الحارث رافعاً لواء أحمر ، فانتهى إلى باب الفيل ووضح لديهما قتل مسلم وهانىَ وأُشير عليهما بالدخول تحت راية عمرو بن حريث ليسلما على دمهما ، ففعلا وحفظ دمهما ابن حريث بشهادته عند ابن زياد باجتنابهما مسلم بن عقيل ، فقبل منه بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر (1) عينه ، ثم أمر بهما فسجنا وبقيا في السجن إلى أن قتل الحسين ( عليه السلام ) فكتب المختار إلى عبد اللّه بن عمر ابن الخطاب وكان زوج أُخته (صفية) أن يشفع له عند يزيد بن معاوية ففعل وشفعه يزيد وأمر ابن زياد بإطلاقه من السجن بعد أن أجّله بالكوفة ثلاثاً ليخرج إلى الحجاز وإلاّ أعاده إلى السجن (2).

    خرج المختار إلى الحجاز وأقام هناك خمسة أشهر واجتمع مع ابن الزبير لخروجه على يزيد وكفاحه ضد الاَمويين وهذه هي النقطة التي كان المختار وعبد اللّه بن الزبير وكثير من المعارضين يشتركون فيها حتى الخوارج. مكث عنده شهوراً وأياماً ولكن لم يجد بغيته فيه ، ومع ذلك كلّه قاتل الشاميين جنود الطاغية تحت راية عبد اللّه بن الزبير ، وهذا يدلّ على خلوصه في مكافحته الاَمويين وقد ذكر الطبري شيئاً كثيراً من بطولته وقتاله ضد الشاميين نقتطف منه ما يلي :

    مكث المختار مع عبد اللّه بن الزبير حتى شاهد الحصار الاَوّل حين قدم الحُصين بن النمير السكوني مكة فقاتل في ذلك اليوم ، فكان من أحسن الناس يومئذ بلاء وأعظمهم عناء ، ولما قتل المنذر بن الزبير والمسور بن مخرمة

________________________________________

    1 ـ شتر : قلب جفنه.

    2 ـ اليعقوبي : التاريخ : 2/258 ، ط دار صادر ـ بيروت ، الطبري : التاريخ : 4/441 ـ 442.

________________________________________

(260)

ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، نادى المختار : يا أهل الاِسلام! إليّ إليّ أنا ابن أبي عبيد بن مسعود ، وأنا ابن الكرار لا الفرار ، أنا ابن المقدمين غير المحجمين. إليّ يا أهل الحفاظ وحماة الاَوتار ، فحمى الناس يومئذ وأبلى وقاتل قتالاً حسناً ثم أقام مع ابن الزبير في ذلك الحصار حتى كان يوم أُحرق البيت ، فإنّه أُحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الاَوّل سنة 64هـ فقاتل المختار يومئذ في عصابة معه نحواً من ثلاثمائة أحسن قتال قاتله أحد من الناس إن كان ليقاتل حتى يتبلّد ثم يجلس ويحيط به أصحابه ، فإذا استراح نهض فقاتل ، فما كان يتوجه نحو طائفة من أهل الشام إلاّ ضاربهم حتى يكشفهم (1).

    وقد ذكر الطبري شيئاً كثيراً من هذه البطولات أيّام إقامته في مكة مع ابن الزبير قبل مهلك يزيد وبعده.

 

مغادرته مكة إلى الكوفة :

    ولما بلغ نعي يزيد إليه غادر مكة إلى الكوفة للطلب بدم شهيد الطف وإنّما اختار الكوفة لاَنّ هناك مجتمع أنصاره وأعدائه ، ولما نزل الكوفة اجتمع حوله كثير من الشيعة ، يقول المسعودي : نزل ناحية من الكوفة وجعل يظهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم ، ويظهر الحنين والجزع لهم ويحثُّ على أخذ الثار فمالت إليه الشيعة وانضافوا إلى جملته (2) ولما بلغ إلى ابن الزبير التفاف الشيعة حول المختار وأنّه بصدد الخروج أحسّ خطراً وأنّه سوف يخرج العراق من يده ، وقد كان العراق تحت قدرته ، فرأى أنّ التفاف الناس حول المختار يرجع إلى عدم كفاءة عامله ، فحاول إبداله بعامل آخر لم يكن في اللباقة أحسن منه فاستعمل عبد اللّه بن مطيع بالكوفة ، وكان قدومه في رمضان لخمس بقين منه ، ولما قدم صعد

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ : 4/445 ـ 446.

    2 ـ المسعودي : مروج الذهب : 3/73 ـ 74.

(261)

المنبر وخطبهم وقال : أمّا بعد فإنّ أمير الموَمنين (ابن الزبير) بعثني على مصركم وثغوركم وأمرني بجباية فيئكم وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلاّ برضا منكم ، وأن أتّبع وصية عمر ابن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته ، وسيرة عثمان بن عفان فاتقوا اللّه واستقيموا ولا تختلفوا وخذوا على أيدي سفهائكم فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني ، فواللّه لاَُوقعنَّ بالسقيم العاصي ، ولاَُقيمنّ درع الاَصعر المرتاب (1).

    ولو كان كلامه مقياساً لشعوره ودهائه وسياسته ، فهذه الخطابة التي ألقاها ، دليل على عدم تعرفه على بيئته ، والنفسيات الحاكمة على سكانها فإنّ ما ذكره إنّما كان يتجاوب مع أفكار قليل من أهل الكوفة الذين كانوا يتجاوبون مع بني أُمية ويحبّون خطهم ، وأمّا الاَكثرية الساحقة ، فكانوا على خلاف تلك الفكرة.

    ولاَجل ذلك قام السائب بن مالك الاَشعري ولم يمهله لاِتمام كلامه وقال : « أمّا حمل فيئنا برضانا فإنّا نشهد أنّا لا نرضى أن يحمل عنّا فضله ، وأن لا يقسم إلاّ فينا ، وأن لا يُسار فينا إلاّ بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك ، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا ، ولا في سيرة عمر بن الخطاب فينا وإن كانت أهون السيرتين علينا وكان يفعل بالناس خيرا ».

    فقال يزيد بن أنس : صدق السائب وبرّ ، وعندئذ تنبه عبد اللّه بن مطيع أنّ كلامه لم يكن بليغاً مطابقاً لمقتضى الحال فعاد بتلطيف ما سبق وقال : نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها ثم نزل (2).

    لمس المختار ما تتبناه الاَكثرية الساحقة من أهل الكوفة والعراق ولم يكن آنذاك في وسعه تحقيق العدل الاجتماعي الذي سار به علي ( عليه السلام ) في أيامه ، ولكن كانت فيه مقدرة عظيمة على أخذ الثأر حتى يتمكن من الاَخذ بمجامع القلوب.

________________________________________

    1 ـ الجزري : الكامل في التاريخ : 4/211 ـ 213.

    2 ـ الجزري : 4/213.

________________________________________

(262)

ميزة ثورة المختار :

    وتتميز ثورة المختار عن ثورة التوابين بأنّ ثورة هوَلاء كانت متوجّهة على النظام الاَموي بالذات دون الذين ارتكبوا الجرائم بالمباشرة ، وذلك لاعتقادهم بأنّ النظام هو الاَساس لقتل الحسين ( عليه السلام ) دون الاَشخاص العملاء ، فلابد من السعي لقطع جذور السبب قبل مكافحة المسبب ، فلاَجل ذلك تركوا الكوفة وفيها قتلة الحسين ( عليه السلام ) فتوجهوا إلى الشام وقد استشهد كثير منهم في معركة الحرب مع الشاميين وتراجع القليل منهم إلى الكوفة وعلى رأسهم رفاعة بن شداد الاَمير الاَخير لهم ، وتفرقوا في عشائرهم.

    أمّا المختار فقد كانت ثورته متوجهه بالذات إلى القتلة ، وتطهير أرض العراق من جراثيم العيث والفساد من الاَمويين ، وأمّا الذي حداه إلى اتّخاذ هذا الاَُسلوب في ثورته هو أنّ العراقيين قد استجابوا لابن الزبير وبايعوه وطردوا عامل الاَمويين من الكوفة باسم عمرو بن حريث ، وذلك قبل خروج المختار ، وكانت أُمنيتهم من تلك البيعة أمرين :

    1 ـ تحقيق العدل الاِجتماعي والسير وراء الاِصلاح الذي قام به الاِمام علي ( عليه السلام ).

    2 ـ أخذ الثأر من قاتل الاِمام الحسين ( عليه السلام ) .

    أمّا الاَمر الاَوّل فلم يتحقّق منه شيء واضح حتى يقنع العراقيين ، وأمّا الثاني فكان على طرف النقيض من أُمنيتهم حيث كانت هياكل الاِثم كعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي وغيرهم مقربين إلى السلطة ، فصار ذلك سبباً لتسرّب الضعف إلى سلطان ابن الزبير في القلوب فكانوا يتحيّنون الفرص للخروج عن بيعته وإقامة نظام جديد يحقّق العدل الاجتماعي الذي مارسوه في

 

________________________________________

(263)

عهد الاِمام علي وأخذ الثأر من قتلة الاِمام.

    نهض المختار والشيعة هم الاَغلبية الساحقة على الكوفة ـ غير راضين من سلطة ابن الزبير وعامله في الكوفة عبد اللّه بن مطيع واجتمعت الشيعة حول المختار واتفقوا على الرضا به ولم يزل أصحابه يكثرون ، وأمره يقوى.

    إنّ ثورة المختار كانت ثورة وهاجة أنارت الطريق للثائرين الآتين بعده ، غير أنّ حولها إبهامات وتأملات أهمها كونها مبعوثة أو مدعمة من جانب ابن الحنفية مع أنّ الاِمام القائم مقام الحسين ووليه وسلطان دمه هو علي بن الحسين زين العابدين ( عليهما السلام ) ولعلّ اتصاله بابن الحنفية لاَجل أنّه قام بالاَمر وقد مضت خمس سنين من شهادة الاِمام وكان محمد الحنفية شخصية معروفة من عصر الاِمام علي ويعد من علماء أهل البيت فاستجاز منه حتى يتخذه رصيداً لثورته ولا يعد ذلك دليلاً على أنّه كان معتقداً بإمامته على أنّه لم يظهر لابن الحنفية أية دعوة لنفسه ، ولو رمي بالدعوة فإنّما هو من أساطير المخالفين لاَجل تشويه سمعته والتشكيك في قلوب الشيعة ، مع أنّ المختار أرسل الرسل وروَوس القتلة إلى علي بن الحسين ( عليه السلام ) أثناء ثورته كما سيوافيك.

    خرج المختار بعد مناوشات واشتباكات بينه وبين عبد اللّه بن مطيع ، عامل ابن الزبير في الكوفة حتى غلب عليه المختار ، فدخل المختار القصر وبات فيه وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر وخرج المختار فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وقال :

    « الحمد للّه الذي وعد وليه النصر ، وعدوّه الخسر ، وجعله فيه إلى آخر الدهر وعداً مفعولاً ، وقضاءً مقضياً وقد خاب من افترى ، أيّها الناس إنّا رفعت لنا راية ومدّت لنا غاية فقيل لنا في الراية إنّ إِرفعوها ، وفي الغاية أن أجروا إليها ولا تعدوها ، فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي.

 

________________________________________

(264)

    ـ وقال في نهاية كلامه : ـ فلا والذي جعل السماء سقفاً محفوظاً والاَرض فجاجاً سبلاً ، ما بايعتم بعدَ بيعة علي بن أبي طالب وآل علي ، أهدى منها ».

    ثم نزل ودخل عليه أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب اللّه وسنّة رسول اللّه والطلب بدماء أهل البيت وجهاد المحلّين والدفع عن الضعفاء وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا (1).

    وأقبل المختار يمنّي الناس ويستجرّ مودة الاَشراف ويحسن السيرة ، وقيل له : إنّ عبد اللّه بن مطيع في دار أبي موسى ، فسكت فلمّا أمسى بعث له بمائة ألف درهم وقال : تجهّز بهذه فقد علمت مكانك وأنّك لم يمنعك من الخروج إلاّ عدم النفقة وكان بينهما صداقة (2).

    نهض المختار بالكوفة لاَربع عشرة ليلة خلت من ربيع الاَوّل سنة 66هـ وبقي إلى شهر رمضان من سنة 67هـ وكانت ولايته ما يقارب 18 شهراً فجدّ في الاَمر وبالغ في النصرة وتتبّع أُولئك الاَرجاس وقد أخذ الثأر من قتلة الحسين ( عليه السلام ). ونذكر هنا شيئاً قليلاً من قتاله وكفاحه في ساحة الاَخذ بالثأر :

    كان عامل المختار على الموصل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني فزحف إليه عبيد اللّه بن زياد بعد قتله سليمان بن صرد (الاَمير الاَوّل للتوابين) ، فحاربه عبد الرحمن وكتب إلى المختار بخبره. فوجّه إليه يزيد بن أنس ، ثم وجّه إبراهيم بن مالك بن الحارث الاَشتر ، فلقي عبيد اللّه بن زياد فقتله ، وقتل الحصين ابن نمير السكوني ، وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري ، وحرق أبدانهما بالنار وأقام والياً على الموصل وأرمينية وآذربيجان من قبل المختار وهو على العراق

________________________________________

    1 ـ ابن الاَثير : الكامل : 4/211 ـ 226بتلخيص.

    2 ـ الجزري : الكامل : 4/225 ـ 226.

________________________________________

(265)

والٍ ، ووجّه برأس عبيد اللّه بن زياد إلى علي بن الحسين إلى المدينة مع رجل من قومه ، وقال له : قف بباب علي بن الحسين فإذا رأيت أبوابه قد فتحت ودخل الناس فذاك الوقت الذي يوضع فيه طعامه ، فادخل إليه ، فجاء الرسول إلى باب علي بن الحسين ( عليهما السلام ) فلمّا فتحت أبوابه ودخل الناس للطعام ، نادى بأعلى صوته : يا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومهبط الملائكة ومنزل الوحي أنا رسول المختار بن أبي عبيد معي رأس عبيد اللّه بن زياد ، فلم تبق في شيء من دور بني هاشم امرأة إلاّ صرخت ، ودخل الرسول فأخرج الرأس فلمّا رآه علي علي بن الحسين قال : أبعده اللّه إلى النار.

    وروى بعضهم أنّ علي بن الحسين ( عليهما السلام ) لم يُرَ ضاحكاً يوماً قط ، منذ قتل أبوه ، إلاّ في ذلك اليوم ، وأنّه كان له إبل تحمل الفاكهة من الشام ، فلمّا أُتي برأس عبيد اللّه بن زياد أمر بتلك الفاكهة ففرقت في أهل المدينة ، وامتشطت نساء آل رسول اللّه ، واختضبن ، وما امتشطت امرأة ولا اختضبت منذ قتل الحسين بن علي ( عليهما السلام ).

    وتتبّع المختار قتلة الحسين فقتل منهم خلقاً عظيماً ، حتى لم يبق منهم كثير أحدٍ ، وقتل عمر بن سعد وغيره ، وحرق بالنار ، وعذب بأصناف العذاب (1).

    وقد جاء الجزري بتفصيل قتل قادة الجيش الاَموي في كربلاء. قال :

    وكان عمرو بن الحجاج الزبيدي ممن شهد قتل الحسين فركب راحلته ، وقيل أدركه أصحاب المختار وقد سقط من شدّة العطش فذبحوه وأخذوا رأسه.

    وبعث المختار غلاماً له يدعى زربى في طلب شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحابه أحاطوا بالبيت الذي فيه شمر ، وقام شمر وقد اتّزر ببرد وكان أبرص فظهر بياض برصه من فوق البرد وهو يطاعنهم بالرمح وقد عجّلوه عن لبس ثيابه

________________________________________

    1 ـ اليعقوبي : التاريخ : 2/259.

________________________________________

(266)

وسلاحه ، وكان أصحابه قد فارقوه فلمّـا أبعدوا عنه ، سمعوا التكبير وقائلاً يقول : قتل الخبيث ، قتله ابن أبي الكنود وأُلقيت جثته للكلاب (1).

    ثم أُرسل إلى خولي بن يزيد الاَصبحي وهو صاحب رأس الحسين ( عليه السلام ) فاختفى في مخرجه فدخل أصحاب المختار يفتّشون عنه ، فخرجت امرأته ، واسمها العيوف بنت مالك ، وكانت تعاديه منذ جاء برأس الحسين فقالت لهم : ماتريدون؟ فقالوا لها : أين زوجك؟ قالت : لا أدري ، وأشارت بيدها إلى المخرج فدخلوا فوجدوه وعلى رأسه قَوْصرّة فأخرجوه وقتلوه إلى جانب أهله وأحرقوه بالنار.

    وبعث المختار أبا عمرة إلى عمر بن سعد فأتاه وقال : أجب الاَمير فقام عمر ، فعثر في جبة له ، فضربه أبو عمرة بسيفه فقتله وأخذ رأسه فأحضره عند المختار ، فقال المختار لابنه « حفص بن عمر » وهو جالس عنده : أتعرف من هذا؟ قال : نعم ولا خير في العيش بعده فأمر به فقتل ، وقال المختار : هذا بحسين ، وهذا بعلي بن الحسين ولا سواء ، واللّه لو قتلتُ به ثلاثة أرباع قريش ، ما وفوا أُنملة من أنامله ، ثم بعث برأسه ورأس ابنه إلى ابن الحنفية وكتب إليه يعلمه أنّه قد قتل من قدر عليه وإنّه في طلب الباقين ممن حضر القتل (2).

    ثم إنّ المختار أرسل إلى حكيم بن طفيل الطائي ، وكان أصاب سلب العباس بن علي ورمى الحسين بسهم. كما بعث إلى قاتل علي بن الحسين وهو مرّة ابن منقذ فأحاطوا بداره ، فخرج إليهم على فرسه وبيده رمحه فطاعنهم فضُـرب على يده وهرب منهم فنجا ولحق بمصعب بن الزبير وشلّت يده بعد ذلك.

    وطلب المختار سنان بن أنس الذي كان يدّعي قتل الحسين فرآه قد هرب إلى البصرة فهدم داره ، كما أرسل إلى محمد بن الاَشعث ولم يجده وقد كان هرب

________________________________________

    1 ـ الجزري : الكامل : 4/236 ـ 237 باختصار.

    2 ـ الجزري : الكامل : 4/241 ـ 242.

________________________________________

(267)

إلى مصعب ، فهدم المختار داره وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي ، كان زياد قد هدمها (1).

    وفي الختام نذكر عمله القيم الذي أنجى به لفيفاً من أهل بيت النبي الاَكرم من الاِحراق بالنار.

    إنّ عبد اللّه بن الزبير حبس محمد الحنفية وأصحابه بزمزم وتوعدهم بالقتل والاِحراق وإعطاء اللّه عهداً إن لم يُبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعّدهم به ، وضرب لهم في ذلك أجلاً.

    فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه ، أنّ يبعث إلى المختار يعلمه حالهم فكتب إلى المختار بذلك وطلب منه النجدة فقرأ المختار الكتاب على الناس ، فبكى الناس وقالوا : سرّحنا إليه ، وعجّل ، فبعث إليهم ثمانمائة راكب من أهل القوة ، حتى دخلوا المسجد الحرام ومعهم الرايات وهم ينادون يالثارات الحسين حتى انتهوا إلى زمزم ، وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم ، وكان قد بقي من الاَجل يومان ، فكسروا الباب ، ودخلوا على ابن الحنفية يستأذنون القتال وهو يقول : إنّي لا أستحلّ القتال في الحرم. فخافهم ابن الزبير وتركهم. وخرج محمد بن الحنفية ومن معه إلى شعب علي وهم يسبّون ابن الزبير ويستأذنون محمداً فيه فأبى عليهم فاجتمع في الشعب أربعة آلاف رجل فقسّم بينهم المال وعزوا وامتنعوا (2).

    ونقل الجزري أنّ ابن عباس كان أيضاً محبوساً مع محمد الحنفية فأزال جيش المختار الضرر عن كليهما ، ولما قتل المختار قوى عليهما ابن الزبير فخرجا إلى الطائف ولما وصل ابن عباس إلى الطائف توفي به وصلّـى عليه ابن الحنفية (3).

________________________________________

    1 ـ الجزري : الكامل : 4/242 ـ 244.

    2 ـ الجزري : الكامل : 4/250 ـ 254.

    3 ـ الجزري : الكامل : 4/250 ـ 254.

________________________________________

(268)

قتل المختار بجيش مصعب بن الزبير :

    كان المختار يسيطر على قسم كبير من أراضي العراق من الكوفة إلى الموصل وغيرهما وكان أمامه عدوين غاشمين : أحدهما عبد اللّه بن الزبير حيث كان يحكم على العراق كله غير أنّه أخرج المختار عامله من الكوفة وبقيت البصرة بيد عامله مصعب بن الزبير ، ثانيهما عبد الملك بن مروان الخليفة الاَموي الذي كانت بيده مفاتيح الاَقطار الاِسلامية غير العراق والحجاز.

    وكان مصعب يتحيّن الفرصة للهجوم على الكوفة وعزل المختار وكان عبد اللّه يشجّعه على ذلك ناسياً عمله المشرق عند ما ضرب جيش الشام الحصار على ابن الزبير ، فقد حارب المختار ذلك الجيش المكثَّف أياماً عديدة ، ولكن الملك عقيم. هذا من جانب.

    ومن جانب آخر أنّ المختار تتبّع قتلة الحسين ( عليه السلام ) بيتاً بيتاً وجدّ في الاَمر ، وقتل أُولئك الاَرجاس ، ولاَجل فتكه وقتله ، هرب قسم من أشراف الكوفة الذين كان لهم يد في قتل الحسين ( عليه السلام ) منهم شبث بن ربعي ، حيث ورد البصرة على هيئة خاصة يحرض والي البصرة على قتال المختار وهو في عمله هذا اتّبع ضمضم بن عمرو الغفاري عند ما أرسله أبو سفيان ليخبر قريشاً بالخطر الذي يحدق بتجارتهم ، فاستأجر ذلك الرجل وأمره بأن يجدع بعيره ، ويقطع رحله ويشقّ قميصه من قبله ودبره ، ويصيح : الغوث الغوث.

    قام شبث بن ربعي بنفس ذلك العمل (والجنس إلى الجنس يميل) جاء راكباً بغلة قد قطع ذنبها وقطع أطراف أُذنها في قباء مشقوق وهو ينادي : وا غوثاه ، فقال الاَشراف الهاربون إلى البصرة لمصعب : سر بنا إلى محاربة هذا الرجل الذي هدم دورنا وأخذوا يحرضونه على ذلك.

 

________________________________________

(269)

    فجاء مصعب بجيش كثيف وقد وقعت بينهما حروب طاحنة في أقطار متعددة إلى أن انحسر المختار إلى الكوفة ، وتخبّأ بالقصر.

    فحاصره ابن الزبير بقصر الاِمارة مع أربعمائة رجل من أصحابه أياماً ، وقد كان المختار يخرج من القصر فيقاتل ويرجع إلى أن قتل لاَربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ، خرج بمن معه مستميتين فقتلوا وقتل المختار وجاء القاتل برأسه إلى مصعب بن الزبير فأجازه بثلاثين ألف درهم ، ثم ابتدأ الجيش بقتل الناهضين معه وقتلوا رجالاً كثيراً ، ثم بعث مصعب على حرم المختار ودعاهنّ إلى البراءة فرجعت ابنة سمرة بن جندب ولعنته وتبرّأت منه فأطلق سراحها وأبت زوجته الاََُُخرى ابنة النعمان بن بشير وقالت : شهادة أُرزقها ثم أتركها ، كلا إنّها موتة ثم الجنّة والقدوم على الرسول وأهل بيته ، فأمر بها مصعب وقتلت صبراً.

 

________________________________________

(270)

ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الاَشعث

    لا يهمّنا في المقام بيان تفاصيل الثورة التي جاءت في تاريخ الطبري والكامل وغيرهما وإنّما يهمّنا الاِلماع إلى النقطة الحساسة في خطب الثائرين على النظام الاَموي ، فقد ترى فيها محاكات عن خطب الاِمام أبي الشهداء وبذلك صاروا مستلهمين ثورتهم من ثورته ، و فكرتهم من فكرته ، وقد نقموا من النظام بنفس ما نقم به الاِمام منهم ، وإليك بيانها على وجه موجز :

    أرسل الحجاج ، عبد الرحمن بن محمد بن الاَشعث إلى سجستان على رأس جيش عراقي وقد فتحوا من البلاد شيئاً كثيراً وكتب القائد في النهاية إلى الحجاج أنّ رأيه إيقاف الحرب في هذه البلاد حتى يعرفوا طريقها ، ويجبوا خراجها ، ولما وصل الكتاب إلى الحجاج كتب إليه كتاباً وبّخه فيه على إيقاف الحرب ، ثم أردفه بكتاب ثانٍ وثالث يأمره بالتوغّل في الحرب وأنّه إن أظهر العجز فالاَمير أخوه إسحاق بن محمد.

    ولما وصلت كتب الحجاج إلى عبد الرحمن جمع أصحابه وقال : أيّها الناس! إنّي لكم ناصح ولصلاحكم محب ، ثم ذكر ما دار بينه وبين الحجاج عن طريق الكتب ، وأنّه أمره بالتوغل في الحرب في أرض العدو ، وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالاَمس. وقال : إنّما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم ، وآبي إذا أبيتم. فثار إليه الناس فقالوا : لا بل نأبى على عدوّ اللّه ، ولا نسمع له ولا نطيع.

(271)

    وقد تكلّم فيمن تكلّم عامر بن واثلة الكناني ، فقال بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه : أما بعد فإنّ الحجاج واللّه ما يرى بكم إلاّ ما رأى القائل الاَوّل إذ قال لاَخيه : إحمل عبدك على الفرس ، فإن هلك هلك وإن نجا فلك ، إنّ الحجاج واللّه ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلاداً كثيرة اللهوب واللصوب ، فإن ظفرتم فغنمتم أكل البلاد ، وحاز المال ، وكان ذلك زيادة في سلطانه ، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الاَعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم ، اخلعوا عدوّ اللّه الحجاج وبايعوا عبد الرحمن فإنـّي أُشهدكم أنـّي أوّل خالع ، فنادى الناس من كل جانب : فعلنا ، فعلنا قد خلعنا عدوّ اللّه.

    وقام عبد الموَمن بن شبث بن ربعي التميمي ثانياً وكان على شرطته حين أقبل فقال : عباد اللّه إنّكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم مابقيتم ، وجمّركم تجمير فرعون الجنود فإنّه بلغني أنّه أوّل من جمّر البعوث ، ولن تعاينوا الاَحبة فيما أرى أو يموت أكثركم. بايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدوكم فانفوه عن بلادكم ، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه فقال : تبايعوني على خلع الحجاج عدوّ اللّه وعلى النصرة لي وجهاده معي حتى ينفيه اللّه من أرض العراق فبايعه الناس ولم يذكر خلع عبد الملك إذ ذاك بشيء.

    ثم إنّه خرج عبد الرحمن من سجستان مقبلاً إلى العراق فلمّا دخل فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا : إنّا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك ، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن فبايعوه على كتاب اللّه وسنّة نبيّه وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلّين.

    ثم بعد وقوع اشتباكات عنيفة بين عبد الرحمن وجنود الحجاج ، دخل عبد الرحمن البصرة ، وبايعه الناس من كهولها وقرائها على حرب الحجاج وخلع عبد الملك وكان ذلك في آخر ذي الحجّة من سنة 81هـ ، فصارت الحرب في

 

________________________________________

(272)

الحقيقة بين الشاميين يرأسهم الحجاج ، والعراقيين يقودهم عبد الرحمن.

    مضى ابن الاَشعث إلى جانب الكوفة والحجاج خلف عبد الرحمن إلى أن حصل التقابل بين الجندين في دير الجماجم (1) فلمّا حمل أهل الشام على العراقيين ناداهم عبد الرحمن ابن أبي ليلى الفقيه ، فقال : يا معشر القرّاء إنّ الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم ، إنـّي سمعت عليّاً رفع اللّه درجته في الصالحين وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصدّيقين ، يقول يوم التقينا أهل الشام : « أيّـها الموَمنون إنّه من رأى عدواناً يعمل به ، ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه ، فقد سلم ، وبرىَ ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه ، ومن أنكر بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا وكلمة الظالمين السفلى ، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونوّر قلبه باليقين ، فقاتلوا هوَلاء المحلّين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحقّ فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.

    وقال أبو البختري : أيّـها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم ، فواللّه لئن ظهروا عليكم ليفسدنّ عليكم دينكم وليغلبنّ على دنياكم.

    وقال الشعبي : يا أهل الاِسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم فواللّه ما أعلم قوماً على بسيط الاَرض أعمل بظلم ، ولا أجور منهم في الحكم فليكن بهم البدار.

    وقال سعيد بن جبير : قاتلوهم ولاتأثموا من قتالهم بنيّة ويقين وعلى آثامهم ، قاتلوهم على جورهم في الحكم وتجبّـرهم في الدين واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاح (2)

________________________________________

    1 ـ دير الجماجم : بظاهر الكوفة على سبعة فراسخ منها على طرف البرّ للسالك إلى البصرة قال أبو عبيدة : الجمجمة : القدح من الخشب وبذلك سمُيَ دير الجماجم لاَنّه يعمل فيه الاَقداح من الخشب (معجم البلدان : 2/501).

    2 ـ الطبري : التاريخ : 5/145 ـ 163.

________________________________________

(273)

    إلى غير ذلك من الخطب التي أُلقيت في ذلك المقام وإن تمت الحرب لصالح الحجاج وقضى على ثورة ابن الاَشعث يوم الاَربعاء لاَربع عشرة مضت من جمادي الاَُخرى عام 83هـ ولكنّها كانت ثورة وهّاجة في وجه العدو استتبعت ثورات أُخرى حتى قضت على بني أُمية من رأس.

    وأُعلّق على ثورة عبد الرحمن بأُمور :

    1 ـ إنّ الاِمعان في هذه الكلم الموجزة يقتضي بأنّ القوم كانوا مستلهمين من خطب الاِمام أمير الموَمنين وخطب سيد الشهداء يوم عاشوراء وغيره ، ويظهر ذلك بمقارنة خطب أبي الشهداء منذ غادر المدينة إلى أن استشهد في الطف ، وبهذا يظهر أنّ هذه الثورات كانت نابعة عن ثورة الحسين ولولاها لما تتابعت هذه الثورات وبالتالي كان الحكم بيد الاَمويين إلى قرون كما كان الاَمر كذلك بيد العباسيين ولم يكونوا أحسن سلوكاً من الاَمويين.

    2 ـ نرى أنّ سعيد بن جبير ذلك التابعي العظيم وكميل بن زياد النخعي ، ممن شاركوا في هذه الثورة وجاهدوا تحت راية عبد الرحمن بن محمد بن الاَشعث مع أنّ بين المقود والقائد بعد المشرقين ، فهوَلاء كانوا علويين وعبد الرحمن وأبوه محمد ابن الاَشعث كانا عثمانيَّي الهوى ، فإنّ محمد بن الاَشعث هو الذي قضى على ثورة مسلم في الكوفة وقتله وشارك في قتل الحسين. وما هذا إلاّ لاَنّ روَساء الشيعة آنذاك استثمروا الفرصة وشاركوا في هذه الثورة ليقضوا على العدوّ الغاشم بيد غيرهم ، ولاَجل ذلك لما وضعت الحرب أوزارها دعا الحجاج بكميل بن زياد النخعي فقال له : أنت المقتصّ من عثمان أمير الموَمنين قد كنت أحب أن أجد عليك سبيلا. فقال : واللّه ما أدري على أيّنا أنت أشد غضباً عليه حين أقاد من نفسه أم عليّ حين عفوت عنه؟ ثم قال : أيّها الرجل من ثقيف لا تصرف عليَّ أنيابك ولاتهدّم عليّ تهدُّم الكثيب ، ولاتكشر كشران الذئب ، واللّه ما بقي من

 

________________________________________

(274)

عمري إلاّ ضِمْءُ الحمار فإنّه يشرب غدوة ويموت عشية ، ويشرب عشية ويموت غدوة ، إقض ما أنت قاض فإنّ الموعد اللّه وبعد القتل الحساب. قال الحجاج : فإنّ الحجّة عليك. قال : ذلك إن كان القضاء إليك ، قال : بلى كنتَ فيمن قتل عثمان وخلعت أمير الموَمنين. أُقتلوه ، فقدم فقتل ، قتله أبو الجهم بن كنانة (1).

    3 ـ إنّ الحجاج كان ممن نكست فطرته فالمعروف كان عنده منكراً والمنكر معروفاً ، وكان قتل الاَبرياء وتعذيبهم بألوان العذاب شيئاً سهلاً عنده. يقول الموَرخون : لما أسرف الحجاج في قتل أسارى دير الجماجم واعطائه الاَموال بلغ ذلك عبد الملك فكتب إليه : أمّا بعد : فقد بلغ أمير الموَمنين سرفك في الدماء وتبذيرك في الاَموال ولا يحتمل أمير الموَمنين هاتين الخصلتين لاَحد من الناس ، وقد حكم عليك أمير الموَمنين في الدماء في الخطاء الدية وفي العمد القود ، وفي الاَموال ردّها إلى مواضعها ...

    فلمّا بلغ كتاب عبد الملك إليه كتب إليه في الجواب : واللّه ما عليَّ من عقل ولا قود ، ما أصبتُ القوم فأدِيَهُم ، ولاظلمتهم فأُقاد بهم ، ولا أعطيتهم إلاّ لك ، ولا قتلت إلاّ فيك ... (2).

    وكان سعيد بن الجبير وكميل بن زياد ومئات من التابعين الاَبرياء كانوا ممن تستباح دماوَهم وأموالهم فخضّب وجه الاَرض بسيول الدماء ... وإلى اللّه المشتكى.

    4 ـ وإنّ من العجـب العجـاب مشاركة الحسـن المثنى في انتفاضة ابن الاَشعث ولاَجل ذلك يعدّه ابن المرتضى سلفاً للزيدية ، ولم يكن زيد يوم ذاك إلاّ طفلاً أو مراهقاً ، وبما أنّ أهل البيت كانوا يعانون من النظام الاَمويّ المتمثل يوم

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ : 5/169 ـ 170.

    2 ـ المسعودي : مروج الذهب : 3/134 ـ 135.

________________________________________

(275)

ذلك في بني مروان ، شاركوا في مثل هذه الانتفاضة لاتفاقهم معه في الهدف الموَقّت أعني إزالة عبد الملك عن الحكم (1).

    إلى هنا تمت الثورات المتقدمة على ثورة الاِمام زيد وقد اتضح كونها مستلهمة من ثورة الحسين بوجه وحان حين الكلام في ثورة زيد الشهيد التي أنارت الطريق للثائرين المتأخرين الذين أنهضهم بثورته ، للقضاء على النظام السائد في مدّة لا تتجاوز عشر سنين وإليك البيان.

________________________________________

    1 ـ البحر الزخار : المقدمة /225 ، وسيوافيك الكلام عند ذكر أئمة الزيدية.

________________________________________

(276)

________________________________________

(277)

الفصل الرابع عشر

ثورة زيد بن علي بن الحسين

كانت استمراراً لثورة الحسين ( عليهم السلام )

     هذه هي الثورة السادسة من الثورات المتتابعة لثورة الاِمام أبي الشهداء الحسين ( عليه السلام ) المستلهمة منها ولم تكن آخرتها ، وقد جاءت الثورات بعد ثورة زيد أيضاً تترى على تقويض النظام الاَموي ثم النظام العباسي وكان الهدف المشترك بين الجميع مكافحة الظلم والفساد ونشر العدل والقسط بين الناس. وإن لم تخلّ بعضها عن تحوير وانحراف.

    نعم كانت في حياة زيد أحداث جزئية لم يكن لها دور في تكون الثورة واختمارها في نفسه وإنّما أشعلت الفتيل ، وفجّرت الثورة ، ولو صحّ ما ذكروه من الاَُمور ، فإنّما كانت سبباً لظهور ما كان يختمره زيد طيلة سنوات عصر أخيه الاِمام الباقر ( عليه السلام ) (57 ـ 114هـ) وبعده عصر الاِمام الصادق ( عليه السلام ).

    وبعبارة واضحة : أنّ جفاء هشام (1) مثلاً له في مجلسه ـ كما يذكره

________________________________________

    1 ـ أبو الفرج : مقاتل الطالبيين : 77 ـ 86 وغيره كالصفدي في فوات الوفيات.

________________________________________

(278)

الموَرخون ـ لايكون دليلاً شرعياً على النهضة وإراقة الدماء وقتل النفوس ، وإنّما يكون موجباً لاَن يندفع إلى ما يراه منذ سنوات من لزوم تطهير المجتمع الاِسلامي من هوَلاء الظالمين الناصبين ، المفسدين وفي النهاية المحقِّرين للرسول وآله.

    فإذا كان زيد الثائر إنساناً إذا ذكر اللّه عنده يغشى عليه حتى يقول القائل : ما يرجع إلى الدنيا ، و كان حليف القرآن وأثر السجود في وجهه واضحاً ـ ومن كانت هذه ملامحه ومواصفاته ـ فلا يخوض المعارك المدلهمّة ، ولايضحي بنفسه ونفيسه ودماء أصحابه الاَبرياء إلاّ إذا كانت هناك مصلحة عامة ترجع إلى الدين ويرضى بها اللّه ورسوله وإمام عصره ، والذي يميط الستر عن نواياه وعن الحوافز التي دفعته إلى الثورة ، أمران :

    1 ـ ما أثر عن النبي وعترته من التنبّوَ بشهادته.

    2 ـ ما أثر عنه من قول أوان النهضة.

    فيجب علينا دراسة هذين الاَمرين.

 

تنبّوَ النبي وعترته ( عليهم السلام ) بقتله :

    إنّ النبي الاَكرم تنبّأ بقتله واصفاً أصحابه بأنّهم يدخلون الجنّة بغير حساب ، ووصفه في رواية أُخرى بالمظلوم من أهل بيته ، وأنّه كان يحب زيد بن حارثة لكونه سميّ زيد من صلبه. كما أنّ علياً لما وقف بالكناسة بكى وأبكى أصحابه ، ووصفه أخوه الاِمام الباقر ( عليه السلام ) بأنّه سيد أهله والطالب بأوتارهم ، كل ذلك ينمّ عن أنّه لم يخرج إلاّ بدافع ديني استحق به التكريم. وإليك نفس النصوص في هذا المجال :

 

________________________________________

(279)

    1 ـ قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مخاطباً لولده الحسين ( عليه السلام ) « ياحسين ، يخرج من صلبك رجل يقال له زيد ، يتخطى هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس غراً محجلين يدخلون الجنّة بغير حساب ». (1).

    2 ـ قال ـ مشيراً إلى الحسين ( عليه السلام ) ـ : « إنّه يخرج من ولده رجل يقال له زيد ويقتل بالكوفة ، ويصلب بالكناسة ، ويخرج من قبره نبشاً ، تفتح لروحه أبواب السماء ، وتبتهج به أهل السموات » (2).

    3 ـ روى حذيفة قال : نظر النبي إلى زيد بن حارثة فقال : « المقتول في اللّه ، والمصلوب في أُمتي ، المظلوم من أهل بيتي سميّ ـ هذا وأشار بيده إلى زيد بن حارثة ـ ثم قال له : أُدن مني يا زيد زادك اسمك عندي حباً ، فأنت سميّ الحبيب من أهل بيتي » (3).

    4 ـ روى أبو الفرج عن رجاله عن جرير بن حازم قال : رأيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المنام وهو متساند إلى جذع زيد بن علي وهو مصلوب ، وهو يقول : « أهكذا تفعلون بولدي؟! » (4).

    5 ـ وقال أمير الموَمـنين ( عليه السلام ) وقد وقف على موضع صلبه بالكوفة ، فبكى وأبكى أصحابه فقالوا له : ما الذي أبكاك؟ قال : « إنّ رجلاً من ولدي يصلب في هذا الموضع. من رضى أن ينظر إلى عورته أكبّه اللّه على وجهه في النار » (5).

________________________________________

    1 ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) الباب25 ، ص 250 و 251 وفي بعض النسخ : : « حين ينشر » مكان « نبشا » والصحيح ما أثبتناه في المتن.

    2 ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) الباب25 ، ص 250 و 251 وفي بعض النسخ : : « حين ينشر » مكان « نبشا » والصحيح ما أثبتناه في المتن.

    3 ـ ابن إدريس : السرائر : 3/ قسم المستطرفات ، فيما استطرفه من رواية أبي القاسم ابن قولويه.

    4 ـ أبو الفرج : مقاتل الطالبيين : 98 ، ط النجف.

    5 ـ ابن طاووس : الملاحم : الباب 31.

________________________________________

(280)

    6 ـ روى أبو الفرج عن مولى آل الزبير قال : كنّا عند علي بن الحسين ( عليه السلام ) فدعا ابناً له يقال له زيد : فكبا لوجهه وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول : « أُعيذك باللّه ، أن تكون زيداً المصلوب بالكناسة ، من نظر إلى عورته متعمداً أصلى اللّه وجهه النار » (1).

    7 ـ روى الكشي عن أبي الجارود قال : كنت عند أبي جعفر ( عليه السلام ) جالساً إذ أقبل زيد بن علي فلما نظر إليه أبو جعفر ( عليه السلام ) قال : « هذا سيد أهل بيتي والطالب بأوتارهم » (2).

    8 ـ روى الصدوق عن معمر بن سعيد قال : « كنت جالساً عند الصادق ( عليه السلام ) فجاء زيد بن علي فأخذ بعضادتي الباب ، فقال له الصادق : « ياعم أُعيذك باللّه أن تكون المصلوب بالكناسة ـ إلى أن قال : ـ حدثني أبي عن جدي أنّه قال : يخرج من ولدي رجل يقال له زيد يقتل بالكوفة ، ويصلب بالكناسة ، يخرج من قبره حين ينشر ، تفتح له أبواب السماء يبتهج به أهل السماوات والاَرض » (3).

    إلى غير ذلك من التنبّوَات الواردة حتى في كلمات غيرهم مثل عبد اللّه بن محمد الحنفية (4).

    هذه التنبّوَات وإن لم ترد عن طريق صحيح ، لكن بعضها يدعم بعضاً خصوصاً إذا أُضيفت إليه ماسننقله عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) حول ثورته ونهضته فتصبح جلالة الرجل ومكانته العالية أمراً قطعياً لاشك فيه وأنّ دافعه إلى الخروج كان أمراً إلهياً كما سنشرحه.

________________________________________

    1 ـ ابو الفرج : مقاتل الطالبيين : 89 ، ورواه المجلسي عن فرحة الغري بوجه مبسوط لاحظ البحار : 46/183. فرحة الغري : 51 ، المطبوع ملحقاً بمكارم الاَخلاق.

    2 ـ الكشي : الرجال : في ترجمة هارون بن سعد البجلي ، برقم : 105.

    3 ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا : 1/249 ، الباب 25.

    4 ـ المجلسي : البحار : 46/209.

(281)

ما أثر عنه من قول قبل الخروج وأوانه :

    إنّ دراسة ما نقل عنه من كلمة أو كلمات يوقفنا على مرماه من الثورة ، فإن الاِنسان بصير على نفسه ومهما اهتم على كتمان ما يضمره لكنه سيظهر على لمحات وجهه وفلتات لسانه ، ولكن الثائر أصحر بهدفه في غير واحد من المواضع حتى أنّ الحاكم الاَموي (هشام بن عبد الملك) اتّهمه بفكر الثورة والقيام على النظام ، وهذا يدلّ على أنّه كان يبوح بها آونة بعد أُخرى ، وإليك هذه الكلمات :

    1 ـ إنّما خرجت على الذين أغاروا على المدينة يوم الحرة ثم رموا بيت اللّه بحجر المنجنيق والنار (1).

    ويشير ثائرنا بكلامه هذا إلى ما ارتكبه الحجاج قائد الجيش الاَموي ـ يوم التجأ ابن الزبير إلى البيت ـ فحصّبـه بالحجارة مستعيناً بالمنجنيق الذي نصبه الجيش على جبل أبي قبيس ، المشرف على الكعبة. كما مر في ثورة عبد اللّه بن الزبير.

    2 ـ إنّما خرجت على الذين قاتلوا جدي الحسين ( عليه السلام ) (2).

    3 ـ روى عبد اللّه بن مسلم بن بابك ، قال : خرجنا مع زيد بن علي إلى مكة فلما كان نصف الليل واستوت الثريا فقال : يا بابكي ما ترى هذه الثريا؟ أترى أنّ أحداً ينالها؟ قلت : لا ، قال : واللّه لوددت أنّ يدي ملصقة بها فأقع إلى الاَرض ، أو حيث أقع ، فأتقطع قطعة قطعة وأن اللّه أصلح بين أُمّة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (3).

    إنّ هذه الكلمة إشراقة من كلام الحسين ووصيته إلى أخيه محمد ابن الحنفية : « إنّي ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ، ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الاِصلاح في أُمّة جدي ، وشيعة أبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحقّ فاللّه

________________________________________

    1 ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : 35 ـ 36.

    2 ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : 35 ـ 36.

    3 ـ أبو الفرج الاصفهاني : مقاتل الطالبيين : 87.

________________________________________

(282)

أولى بالحقّ ، ومن ردّ على هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين » (1).

    ترى أنّ بين الكلمتين تقارناً بل توافقاً ، وهذا ما يدفعنا إلى أنّ ثورته كانت امتداداً لثورة الحسين ( عليه السلام ).

    4 ـ أقام زيد الثائر بالكوفة وبايعه أصحابه وكانت بيعته التي يبايع عليها الناس : إنّا ندعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه ، وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين ، وإعطاء المحرومين وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ، ورد المظالم ، وإقفال المجمر ، ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا ، وجهل حقنا. أتبايعون على ذلك فإذا قالوا نعم : وضع يده على يده ، ثم يقول : عليك عهد اللّه وميثاقه وذمته وذمّة رسوله لتفينّ ببيعتي ولتقاتلنّ عدوي ، ولتنصحنّ لي في السر والعلانية ، فإذا قال نعم : مسح يده على يده ، ثم قال : اللّهمّ اشهد (2).

    وفي كلامه هذا إلماع إلى كلام الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ألقاه بالبيضة عندما حبسه الحرّ بن يزيد الرياحي عن الحركة : فقال : « أيها الناس إنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : من رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرم اللّه ، ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، يعمل في عباد اللّه بالاِثم والعدوان. فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقّاً على اللّه أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هوَلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمان وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله وأنا أحقّ من غيّر »(3).

    5 ـ ومن كلامه : وإنّا ندعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه ، وإلى السنن أن تحيى

________________________________________

    1 ـ المجلسي : بحار الاَنوار : 44/329.

    2 ـ الطبري : التاريخ : 5/492 ، ابن الاَثير : الكامل : 5/233 باختلاف في التعبير.

    3 ـ الطبري : التاريخ : 4/304.

________________________________________

(283)

وإلى البدع أن تدفع ، فإن أنتم أجبتمونا سعدتم ، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل (1).

    6 ـ ومن كلامه لهشام بن عبد الملك : أنه لم يكره قوم قط حدّ السيف إلاّ ذلّوا (2).

    وهذه الكلمة من هشام تعرب عن أنّه تجاهر بالثورة في ظروف مناسبة حتى وُشِـيَ به إلى هشام.

    7 ـ روى ابن عساكر أنّ زيداً دخل على هشام فقال له : يازيد بلغني أنّ نفسك لتسمو بك إلى الاِمامة ، والاِمامة لاتصلح لاَولاد الاِماء ـ فأجابه زيد بما مر عليك في الفصل الثالث المعقود لحياته فقال هشام : يازيد إنّ اللّه لايجمع النبوة والملك لاَحد ، فقال زيد : قال اللّه تعالى : : « أم يَحْسُدُونَ الناسَ على ما آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آل إبراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ واتَينْاهُم مُلكاً عظِيماً » (3).

    8 ـ روى المسعودي أنّه لما قامت الحرب بين أصحاب زيد وجيش يوسف ابن عمر الثقفي انهزم أصحاب زيد وبقي في جماعة يسيرة فقاتلهم أشد قتال وهو يقول متمثلاً :

أذل الحياة وعزّ المماتفإن كان لابد من واحد              وكلاً أراه طعاماً وبيلافسيري إلى الموت سيراً جميلاً (4)

________________________________________

    1 ـ الطبري : التاريخ : 5/498 ، ابن الاَثير : الكامل : 5/243.

    2 ـ المفيد : الاِرشاد : 269.

    3 ـ ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق ، كما في زيد الشهيد للسيد العاملي : 91.

    4 ـ المسعودي : مروج الذهب : 3/207.

________________________________________

(284)

    وما أنشأه زيد الثائر من الشعر نفس ما أنشده الاِمام الحسين ( عليه السلام ) :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى              إذا في سبيل اللّه يمضي ويقتل (1)

    9 ـ روى المسعودي أنّه دخل زيد على هشام بالرصافة ، فقال له : ليس أحد يكبر عن تقوى اللّه ولا يصغر دون تقوى اللّه ، فقال هشام : اسكت لا أُمّ لك أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة وأنت ابن أمة ، ثم نقل جواب زيد وقال : وقام زيد عن المجلس وهو يقول :

شرَّدَهُ الخوف وأزرى بهمنخرق الكفين يشكو الجوىقد كان في الموت له راحةإن يُحدث اللّه له دولــة                  كذاك من يكره حرَّ الجلادتنكثه أطراف مَرْوٍ حدادوالموت حتم في رقاب العباديترك آثار العدا كالرماد (2)

    10 ـ إنّ رسالة زيد إلى علماء الاَُمّة أوان خروجه تدل بوضوح على أنّ دافعه إلى الخروج هو الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد مر نصّها في الفصل الثالث.

 

توطين النفس على الشهادة :

    خرج زيد موطناً نفسه على القتل والشهادة ، مقدّماً المنيّة على الدنيا الدنية ، وقتل العز على عيش الذل ، كيف وهو الذي كان يترنّم بقوله :

فأجبتها أنّ المنية منهل           لابدّ أن أُسقى بذاك المنهل

   

________________________________________

    1 ـ الخوارزمي : مقتل الحسين ( عليه السلام ) : 2/33.

    2 ـ المسعودي : مروج الذهب : 3/206.

________________________________________

(285)

    ومن كان هذا كلامه ويترنّم بما ماثله أيضاً ، لا يخرج لطلب الملك والاِمارة وكسب الجاه والمقام وهو مشرف على القتل ، وطلب الجاه من شوَون من يريد البقاء والالتذاذ بلذائذ الدنيا لا من يريد ركوب الرماح والاَسنّة.

    ومن أراد اتهام زيد بطلب الاِمارة والخلافة فلم يعرف نفسيته ولا بيئته وظروفه المحدقة به فإنّها كانت تُحتِّم عليه الموت وهو كان يرى الشهادة أمامه.

    والذي وطّن نفسه على القتل هو الاَُمور التالية :

    1 ـ كان كلام جده وآبائه رنين سمعه وأنّه يخرج من ولده رجل يقال له زيد ويقتل بالكوفة ... وقد سمع عن والده عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) وهو صغير : « أُعيذك باللّه أن تكون زيداً المصلوب بالكناسة » كما سمع نظيره عن ابن أخيه الاِمام الصادق ( عليه السلام ) الذي أطبق المسلمون على صدقه ، ومع هذه الاَخبار المتضافرة كيف لا يوطّن نفسه على الشهادة ، ويخرج لطلب الملك والجاه والمقام دون إباء الضيم ، والاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعريف الاَُمّة بواجبهم تجاه الطغمة الغاشمة.

    2 ـ إنّ الذين بايعوه ودعوه إلى النضال والكفاح كانوا ـ وللاَسف ـ معروفين بالنفاق ، وعدم الثبات والصمود في مسيرة الدعوة وطريق البيعة ، فكانوا يبرمون أمراً وينقضونه من فوره ، وأهل الكوفة وإن لم يكن كلّهم كذلك وكان فيهم أبطال صامدون ولكن الاَكثرية الساحقة كانوا بهذه الخصيصة وقد عرّفهم الاِمام عليّ ( عليه السلام ) في غير واحد من خطبه نقتطف منها ما يلي :

    1 ـ يا أشباه الرجال ولا رجال حلوم الاَطفال ، وعقول ربّات الحجال ، لوددت أنّي لم أركم ، ولم أعرفكم معرفة ـ واللّه ـ ... قاتلكم اللّه لقد ملاَتم قلبي قيحاً ، وشحنتم صدري غيظاً (1).

________________________________________

    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة : 27.

________________________________________

(286)

    2 ـ ويقول في خطبة أُخرى : « يا أهل الكوفة منيت بكم بثلاث واثنتين ، صمّ ذو أسماع ، وبكم ذو كلام ، وعمي ذو أبصار ، لا أحرار صدقٍ عند اللقاء ، ولا إخوان ثقة عند البلاء ... لوددت واللّه أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم »(1).

    فإذا كان المبايعون هوَلاء الذين وصفهم جدّه بعدم الثبات والصدق عند اللقاء ، فكيف يصح له أن يعتمد على بيعتهم ويطلب الاِمارة؟! والكوفة وإن انجبت أبطالاً شهاماً كتبوا على جبين الدهر بطولاتهم وصدق مواقفهم في ميادين الحرب ، ولكن كانت الكوفة تحتضن موالي أتوا من هنا وهناك وتوطّنوا فيها ، وكان العرب المتوطِّنون فيها وافدين من نقاط شتّى وقبائل مختلفة لا تجمعهم فكرة واحدة وثقافة فريدة ، وقد مصّرت الكوفة أيام عمر بن الخطاب ولم تكن قبل ذلك حاضرة ، وهي بخلاف الشام فقد ضربت فيها حضارة عريقة بجرانها قبل قرون ، وكانت تسوسهم الوحدة الحضارية والعنصرية والتربية المدنية والدينية قبل الاِسلام ، فاستغلال هذه المنطقة بمالها من المواصفات أسهل من استغلال هوَلاء الذين لا يربطهم سوى شيء واحد وهو التوطّن في أرض الكوفة وما والاها.

    وإن كنت في شكّ ممّا ذكرنا من هوَلاء فقارن عدد المبايعين لزيد وعدد الحاضرين في ساحة المعركة ، فقد أقام زيد بالكوفة خمسة أشهر وبالبصرة شهرين ، فأخذ الناس يبايعونه من الشيعة والمحكِّمة وبلغ ديوانه خمسة وعشرين ألفاً أو أزيد كما سيوافيك ، ولكن لم يحضر منهم في ميدان القتال إلاّ مائتان وثمانية عشر رجلاً ، ولمّا وقف زيد على قلّة المجيبين ، قال : سبحانه اللّه أين الناس؟ فقيل : إنّهم محصورون في المسجد ، فقال زيد : سبحان اللّه ما هذا عذر لمن بايعنا.

    كل ذلك يدلنا على أنّ زيداً قام بالاَمر وهو موطن نفسه على الشهادة وإراقة

________________________________________

    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة : 97.

________________________________________

(287)

دمه في طريق هدفه ، ألا وهو إيقاظ الاَُمّة وتوجيههم نحو واجبهم.

    3 ـ إنّ زيداً الشهيد كان يواجه دولة كبيرة أُموية ضربت بجرانها أقطار الاَرض شرقها وغربها وبيدها مفاتيح الخير والشر وهو لا يملك من العدة إلاّ شيئاً قليلاً ، أفيصح أن يرمى مثل زيد بأنّه خرج لطلب السلطة والاِمامة لا للشهادة والفداء؟!

 

حول الاَحداث الجزئية الدافعة إلى الخروج :

    قد تعرفت على الدافع الواقعي لثورته غير أنّ الموَرخين ذكروا أسباباً أُخرى لخروجه لو صحت فإنّما يعتبر كونها معدات للثورة ، وأسباباً لتفجّرها وتقدّمها لا أنّها كوّنت فكرة الثورة في نفسه ، وفي غضون ما نذكره من الاَسباب دلالة واضحة على أنّ الفكرة تكوّنت قبل وقوع هذه الاَسباب وإليك بيانها :

 

1 ـ اتهامه بأخذ الجائزة من خالد القسري :

    كان خالد بن عبد اللّه القسري عامل هشام على العراق فعزله ونصب يوسف بن عمر مكانه ، وتتبع الوالي الثاني مزالق أقدام خالد ، العامل الاَوّل وكتب إلى هشام :

    إنّ خالداً ابتاع من زيد ، أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار ، ثم ردّ الاَرض عليه ، فكتب هشام إلى عامل المدينة أن يسيّرهم إليه ، ففعل ، فسألهم هشام عن ذلك فأقرّوا بالجائزة وأنكروا ما سوى ذلك وحلفوا ، فصدّقهم وأمرهم بالمسير إلى العراق ليقابلوا خالداً ، فساروا على كره وقابلوا خالداً ، فصدّقهم ، فعادوا نحو المدينة. فلمّا نزلوا القادسية راسل أهل الكوفة زيداً فعاد إليهم.

    وقيل : بل ادّعى خالد بن عبد اللّه القسري أنّه أودع زيداً وداود بن علي ونفراً من قريش مالاً ، فكتب يوسف بذلك إلى هشام ، فأحضرهم هشام من

 

________________________________________

(288)

المدينة وسيّرهم إلى يوسف ليجمع بينهم وبين خالد فقدموا عليه ، فقال يوسف لزيد : إنّ خالداً زعم أنّه أودعك مالاً. قال : كيف يودعني وهو يشتم آبائي على منبره؟! فأرسل إلى خالد فأحضره في عباءة ، فقال : هذا زيد قد أنكر أنّك قد أودعته شيئاً. فنظر خالد إليه وإلى داود بن علي وقال ليوسف : أتريد أن تجمع مع إثمك فيّ إثماً في هذا؟ كيف أودعه وأنا أشتمه وأشتم آباءه على المنبر! فقالوا لخالد : ما دعاك إلى ما صنعت؟ قال : شدّدَ عليّ العذاب فادّعيت ذلك وأمَّلت أن يأتي اللّه بفرج قبل قدومكم. فرجعوا وأقام زيد وداود بالكوفة.

    وقيل : إنّ يزيد بن خالد القسري هو الذي ادّعى المال وديعة عند زيد.

    فلمّا أمرهم هشام بالمسير إلى العراق إلى يوسف استقالوه خوفاً من شر يوسف وظلمه ، فقال : أنا أكتب إليه بالكفّ عنكم ، وألزمه بذلك ، فساروا على كره.

    وجمع يوسف بينهم وبين يزيد ، فقال يزيد : [ما] لي عندهم قليل ولا كثير. قال يوسف : أبيَ تهزأ أم بأمير الموَمنين؟ فعذبه يومئذ عذاباً كاد يهلكه ، ثم أمر بالفرّاشين فضُـربوا وترك زيداً. ثم استحلفهم وأطلقهم ، فلحقوا بالمدينة ، وأقام زيد بالكوفة ، وكان زيد قد قال لهشام لما أمره بالمسير إلى يوسف : ما آمن إن بعثتني إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حيّين أبداً. قال : لابد من المسير إليه ، فساروا إليه (1).

    لا شك أنّ هذا الحديث مهما كان صحيحاً ، لا يكون مبرراً للثورة ، لو لم يكن هناك عنصر قوي دفعه إليها. وأظن أنّ الوالي المتتبع لعثرات الوالي الاَوّل اتّهمه بأنّه ابتاع من زيد أرضاً بالمدينة بعشرة آلاف دينار ثم ردّ الاَرض عليه ولم يكن هناك أي بيع وشراء ، خصوصاً ، البائع يقطن المدينة والمشتري والى العراق ، والاَرض المشتراة في المدينة ، ومن أين لزيد مثل هذه الاَرض بهذه القيمة العالية؟

________________________________________

    1 ـ ابن الاَثير الجزري : 5/229 ـ 230.

________________________________________

(289)

    وأمّا ما نقل عن خالد ، من أنّه اعترف على زيد بأنّه أودع عنده ، فلعله ذكره ليرفع العذاب عن نفسه ولم يكن عنده ولا عند غيره شيء فلذلك لما جمعهم يوسف ابن عمر تكلم بالحقيقة ، وقال : كيف أودعه وأنا أشتمه وأشتم آبائه؟! وعلى كل تقدير فهذا الحدث وإن كان ثقيلاً على مثل زيد لكن لا يكوّن الثورة في نفسه بل يعرب عن تكوّنه قبل هذا الحدث ولاَجل ذلك قال لهشام : ما آمن إن بعثتني إليه أن لا نجتمع أنا وأنت حيين أبداً.

 

2 ـ التخاصم في الاَوقاف :

    كان للنبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفاطمة وعلي ( عليهما السلام ) أوقافاً يتوّلاها بنو الحسن وبنو الحسين وربما جرت بينهما مشاجرات وقد نقله غير واحد من الموَرخين نأتي بنص الجزري حيث قال :

    كان السبب في ذلك أنّ زيداً كان يخاصم ابن عمه جعفر بن الحسن بن الحسن بن علي في [ولايةج وقوف علي ( عليه السلام ) ، [وكان] زيد يخاصم عن بني الحسين ( عليه السلام ) ، وجعفر يخاصم عن بني الحسن ( عليه السلام ) ، فكانا يتبالغان [بين يدي الوالي إلىج كل غاية ويقومان فلا يعيدان مما كان بينهما حرفاً.

    فلمّا مات جعفر نازعه عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ، فتنازعا يوماً بين يدي خالد بن عبد الملك بن الحارث بالمدينة ، فأغلظ عبد اللّه لزيد وقال : يابن السندية! فضحك زيد وقال : قد كان إسماعيل لاَمة ومع ذلك فقد صبرت بعد وفاة سيدها إذ لم يصبر غيرها ، يعني فاطمة ابنة الحسين أُم عبد اللّه ، فإنّها تزوجت بعد أبيه الحسن بن الحسن ، ثم ندم زيد واستحيا من فاطمة ، وهي عمته ، فلم يدخل عليها زماناً ، فأرسلت إليه : يابن أخي إنّي لاَعلم أنّ أُمّك عندك كأُمّ عبد اللّه عنده. وقالت لعبد اللّه : بئس ما قلت لاَُم زيد ! أما واللّه لنعم دخيلة القوم كانت! قال : فذكر أنّ خالداً قال لهما : أُغدوا علينا غداً فلست لعبد الملك إن لم أفصل

 

________________________________________

(290)

بينكما. فباتت المدينة تغلي كالمرجل ، يقول قائل : قال زيد كذا ، ويقول قائل : قال عبد اللّه كذا.

    فلما كان الغد جلس خالد في المسجد واجتمع الناس فمن بين شامت ومهموم ، فدعا بهما خالد وهو يحب أن يتشاتما ، فذهب عبد اللّه يتكلم ، فقال زيد : لاتعجل يا أبا محمد ، أعْتَقَ زَيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبداً. ثم أقبل على خالد فقال : جمعت ذرية رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لاَمرٍ ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر! فقال خالد : أما لهذا السفيه أحد؟ فتكلم رجل من الاَنصار من آل عمرو بن حزم فقال : يا ابن أبي تراب وابن حسين السفيه! أما ترى للوالي عليك حقاً ولا طاعة؟ فقال زيد : اسكت أيّها القحطاني فإنّا لا نجيب مثلك. قال : ولِـمَ ترغب عني؟ فو اللّه إنّي لخير منك ، وأبي خير من أبيك ، وأُمي خير من أُمّك. فتضاحك زيد وقال : يامعشر قريش هذا الدين قد ذهب فذهبت الاَحساب ، فواللّه ليذهب دين القوم وما تذهب أحسابهم. فتكلم عبد اللّه بن واقد بن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب ، فقال : كذبت واللّه أيّها القحطاني! فواللّه لهو خير منك نفساً وأُماً وأباً ومحتداً. وتناوله بكلام كثير ، وأخذ كفاً من حصباء وضرب بها الاَرض ثم قال : إنّه واللّه ما لنا على هذا من صبر.

    وشخص (1) زيد إلى هشام بن عبد الملك ، فجعل هشام لا يأذن له ، فيرفع إليه القصص ، فكلّما رفع قصة يكتب هشام في أسفلها : أرجع إلى أميرك ، فيقول زيد : واللّه لا أرجع إلى خالد أبداً. ثم أذن له يوماً بعد طول حبس ورَقِيَ (2) عليّة طويلة ، وأمر خادماً أن يتبعه بحيث لا يراه زيد ويسمع ما يقول ، فصعد زيد ، وكان

________________________________________

    1 ـ سياق العبارة : أنّ شخوصه إلى هشام كان لحل عقدة تولية الاَوقاف : ولكنه غير صحيح لما سيوافيك في تعليقنا للقصة.

    2 ـ أي هشام بن عبد الملك.

(291)

بديناً ، فوقف في بعض الدرجة ، فسمعه يقول : واللّه لا يحب الدنيا أحد إلاّ ذلّ. ثم صعد إلى هشام فحلف له على شيء ، فقال : لا أُصدقك ، فقال : يا أمير الموَمنين إنّ اللّه لم يرفع أحداً عن أن يرضى باللّه ، ولم يضع أحداً عن ألاّ يرضى بذلك منه. فقال هشام : لقد بلغني يازيد أنّك تذكر الخلافة وتتمناها ولست هنالك وأنت ابن أمة. قال زيد : إنّ لك جواباً. قال : فتكلم. قال : إنّه ليس أحد أولى باللّه ولا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه ، وقد كان إسماعيل ابن أمة وأخوه ابن صريحة فاختاره اللّه عليه وأخرج منه خير البشر ، وما على أحد من ذلك إذ كان جده رسول اللّه وأبوه علي بن أبي طالب ما كانت أُمّه. قال له هشام : أُخرج. قال : أخرجُ ثم لا أكون إلاّ بحيث تكره. فقال له سالم : يا أبا الحسين لاتظهرن هذا منك.

    فخرج من عنده وسار إلى الكوفة ، فقال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب : أُذكّرك اللّه يازيد لما لحقت بأهلك ولا تأت أهل الكوفة ، فإنّهم لا يفون لك ، فلم يقبل. فقال له : خرج بنا أُسراء على غير ذنب من الحجاز إلى الشام ثم إلى الجزيرة ثم إلى العراق إلى قيس ثقيف يلعب بنا ، وقال :

بَكُرَت تخوّفني الحُتوف كأنّني           أصبحت عن عرض الحياة بمعزل (1)

    إلفات نظر :

    يظهر من الجزري أنّ زيداً دخل الشام مرتين وقابل فيهما هشاماً ، أحدهما : لاَجل تحضير هشام إيّاه من المدينة وتسييره إلى يوسف بن عمر في قضية خالد بن عبد اللّه القسـري ، وأُخرى : بعد النزاع في تولية الاَوقاف ، وسياق كلام الجزري هو أنّ الرحلة الثانية كانت عقيب ذلك الحدث وذلك لاَنّه بعد ما فرغ من الكلام في النزاع في المدينة ، قال :

________________________________________

    1 ـ ابن الاَثير الجزري : 5/230 ـ 233.

________________________________________

(292)

    « وشخص زيد إلى هشام بن عبد الملك فجعل هشام لا يأذن له فيرفع إليه القصص ... »

    مومياً إلى أنّ الرحلة الثانية كانت لاَجل فصل الخصومة عند هشام ولكن السياق متروك قطعاً ولو صحت الرحلة الثانية فإنّما كان لاَجل شكايات وقصص مختلفة وصلت إليه وأراد رفعها إلى هشام لا لاَجل فصل الخصومة بينه وبين بني الحسن في تولية الاَوقاف ، ويدل على ذلك أمران :

    1 ـ أنّه صاح على والي المدينة خالد بن عبد الملك عندما جمعه وعبد اللّه بن الحسن في المسجد لرفع الخصومة وقال : جمعت ذرية رسول اللّه لاَمر ما كان يجمعهم عليه أبو بكر ولا عمر ، أفيصح بعد هذا أن يرفع الشكاية في ذلك الموضوع إلى هشام بن عبد الملك؟

    2 ـ قال الجزري عند بيان الرحلة الثانية : « فيرفع إليه القصص فكلّما رفع قصة يكتب هشام في أسفلها : ارجع إلى أميرك ... » فظاهر العبارة أنّه كانت هناك شكايات وقصص عديدة أراد أن يلفت نظر هشام إلى تلك الجرائم.

    وأظن أنّ ما ذكره المسعودي في مروجه وشيخنا المفيد في إرشاده ليس قضية أُخرى ، بل هو نفس ما جاء به الجزري بتفصيل غير أنّ المسعودي اختزله. وإليك نصهما :

    دخل زيد على هشام بالرصافة فلمّـا مثل بين يديه لم ير موضعاً يجلس فيه فجلس حيث انتهى به مجلسه وقال : يا أمير الموَمنين ليس أحد يكبر عن تقوى اللّه ولا يصغر دون تقوى اللّه ، فقال هشام : أُسكت لا أُمّ لك ، أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة ، وأنت ابن أمة ، قال : يا أمير الموَمنين إنّ لك جواباً إن أحببت أجبتك به وإن أحببت أسكت عنه ، فقال : بل أجب. قال : إنّ الاَُمهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات ، وقد كانت أُم إسماعيل أمة لاَُمّ إسحاق ( صلى الله عليهما )

 

________________________________________

(293)

فلم يمنعه ذلك أن بعثه اللّه نبياً ، وجعله للعرب أباً فأخرج من صلبه خير البشر محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتقول لي هذا وأنا ابن فاطمة وابن علي ، وقام وهو يقول :

شـرده الخـوف وأزرى بـه               كذاك من يكره حرّ الجلاد (1)

فمضى عليه إلى الكوفة وخرج عنها ومعه القراء والاَشراف فحاربه يوسف ابن عمر الثقفي (2).

    ونقل الشيخ المفيد وأكمله بقوله :

    « فوثب هشام عن مجلسه (بعد ما أجابه زيد) وقال : لايبيتنّ هذا في عسكري الليلة ، فخرج زيد وهو يقول : إنّه لم يكره قط قوم حدّ السيوف إلاّ ذلّوا فلمّا وصل إلى الكوفة اجتمع إليه أهلها فلم يزالوا به حتى بايعوه على الحرب ثم نقضوا بيعته وأسلموه ، فقتل وصلب بينهم أربع سنين لا ينكر أحد منهم ولا يعينوه بيد ولا لسان (3).

 

3 ـ ردّ زيد على تجرّوَ هشام :

    دخل زيد على هشام وقد احتشد المجلس بأهل الشام فقال : ما يصنع أخوك البقرة؟ فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه وقال : سمّاه رسول اللّه الباقر ، وأنت تسمّيه البقرة ، لشد ما اختلفتما ، لتخالفه في الآخرة كما خالفته في الدنيا فيرد الجنّة وترد النار ، فانقطع هشام عن الجواب وبان عليه العجز ، ولم يستطع دون أن صاح لغلمانه : أخرجوا هذا الاَحمق المالق ، فأخذ الغلمان بيده فأقاموه (4).

________________________________________

    1 ـ مضت الاَبيات : ص 98 ، فراجع.

    2 ـ مروج الذهب : 3/206 ـ 207.

    3 ـ المفيد : الاِرشاد : 268 ـ 269 وابن مهنا : عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب : 255 ـ 256.

    4 ـ ابن قتيبة : عيون الاَخبار : 1/212 ، وابن أبي الحديد : شرح نهج البلاغة : 3/286 ، الطبرسي : أعلام الورى : 257.

________________________________________

(294)

    وقال الصفدي : وفد على هشام بن عبد الملك فرأى منه جفوة ، فكان ذلك سبب خروجه وطلبه للخلافة (1).

    لو أنّ الصفدي ومن لفَّ لفَّه عرف نفسيات زيد ، وروحياته الطاهرة ، لوقف على أنّ هذا الحدث وما أشبهه ، لم يكن سبباً للقيام ، فإنّه كان مختمراً في النهضة أيام إقامته في المدينة قبل أن يفد إلى هشام حتى أنّ الصفدي يروي نفسه ويقول : « دخل زيد بن علي مسجد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في يوم حارّ من باب السوق فرأى سعد ابن إبراهيم في جماعة من القرشيين قد حان قيامهم ، فقاموا ، فأشار إليهم فقال : يا قوم أنتم أضعف من أهل الحرة! قالوا : لا ، قال : وأنا أشهد أنّ يزيد ليس شراً من هشام فما لكم؟ فقال سعد لاَصحابه : مدة هذا قصيرة ، فلم ينشب أن خرج وقتل (2).

 

زيد الثائر في الكوفة :

    دخل زيد الكوفة في النصف الثاني من عام مائة وعشرين وأقام بها وذلك بعدما أمر به هشام بن عبد الملك من المسير إلى العراق حتى يحاكمه يوسف بن عمر فيما كان يدعيه خالد بن عبد اللّه القسري أو ابنه يزيد بن خالد من توديع أموال عنده وعند داود بن علي بن عبد اللّه بن العباس. فلما تبيّنت براءته عما يدّعى عليه لم يرحل إلى الحجاز بل أقام بها ظاهراً ومعه داود بن علي ، وأقبلت الشيعة تختلف إلى زيد وتأمره بالخروج ويقولون : إنّا لنرجو أن تكون أنت المنصور ، وان هذا الزمان هو الذي تهلك فيه بنو أُمية وفي خلال المدّة التي كان هو في الكوفة ، يرسل يوسف بن عمر إليه رسولاً بعد رسول ليغادر الكوفة ، ولكنه في كل مرّة يعتذر بعذر حتى أتى القادسية ، وقيل : الثعلبية ، فتبعه أهل الكوفة وقالوا :

________________________________________

    1 ـ الصفدي : الوافي بالوفيات : 15/33.

    2 ـ المصدر نفسه : 15/36.

________________________________________

(295)

نحن أربعون ألفاً لم يختلف عنك أحد نضرب عنك بأسيافنا وليس هيهنا من أهل الشام إلاّ عدّة يسيرة ، بعض قبائلنا يكفيكهم بإذن اللّه وحلفوا له بالاَيمان المغلظة (1).

    وهناك من يقول : إنّ زيداً لما قضى وطره في الشام ورأى عند هشام من التجبّر والاَنانية غادر الشام إلى الكوفة فأقام بها مستخفياً فينتقل في المنازل ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه فبايعه وجوه أهل الكوفة وكانت بيعته : إنا ندعوكم إلى كتاب اللّه ، وسنّة نبيه وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين ، واعطاء المحرومين ، وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ورد المظالم ونصر أهل البيت أتبايعون على ذلك؟ فإذا قالوا نعم وضع يده على أيديهم ويقول : عليك عهد اللّه وميثاقه وذمته وذمّة رسوله لتفين ببيعتي ولتقاتلنّ عدوي ولتنصحنَّ لي في السر والعلانيّة ، فإذا قال نعم ، مسح يده على يده ، ثم قال : اللهم اشهد ، فبايعه خمسة عشر ألفاً وقيل أربعون ألفاً فأمر أصحابه بالاستعداد ، فأقبل من يريد أن يفي له ، ويخرج معه ويستعد ويتهيّأ وشاع أمره في الناس (2).

    وبما أنّه من البعيد أن تكون لمثل زيد حليف القرآن والعبادة رحلات أو رحلتان إلى الشام فالظاهر هو الوجه الاَوّل ، وأنّه بعدما سيّره هشام بن عبد الملك إلى الكوفة لاَجل المحاكمة فأقام بها متهيّئاً للثورة ، وهذا هو الظاهر أيضاً من أبي الفرج الاَصفهاني وبما أنّه زيدي له عناية خاصة بتحقيق مواقف زيد فاقتصر بالوجه الاَوّل ، وقال : « فأقام زيد بعد خروجه من عند « يوسف » بالكوفة أياماً ، وجعل يوسف يستحثه بالخروج فيعتل عليه بالشغل ، وبأشياء يبتاعها فألحّ عليه حتى خرج فأتى القادسية ، ثم إنّ الشيعة لقوا زيداً فقالوا له : « أين تخرج عنّا رحمك اللّه ، ومعك مائة ألف سيف من أهل الكوفة والبصرة وخراسان يضربون بني أُمية بها دونك ، وليس قِبَلِنا من أهل الشام إلاّ عدّة يسيرة فأبى عليهم فما زالوا يناشدونه

________________________________________

    1 ـ الجزري : الكامل : 5/234.

    2 ـ المصدر نفسه : 5/233.

________________________________________

(296)

حتى رجع بعد أن أعطوه العهود والمواثيق ... وأقبلت الشيعة وغيرهم يختلفون إليه ويبايعونه حتى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة خاصة سوى أهل المدائن والبصرة وواسط والموصل وخراسان وجرجان وأقام بالكوفة بضعة عشر شهراً وأرسل دعاته إلى الآفاق والكور يدعو الناس إلى بيعته فلما دنا خروجه ، أمر أصحابه بالاستعداد والتهيّوَ ، فجعل من يريد أن يفي له يستعد (1).