عقائد الشيعة الإمامية2

عقائد الشيعة الإمامية

التقيّة

    التقية من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم ، وفي تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة ، ليصون بها نفسه وعرضه وماله ، أو نفس من يمتّ إليه بصلة وعرضَه ومالَه ، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل (1) ولاذبها عمّار عندما أُخذ وأُسِر وهُدِّد بالقتل (2) إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب والسنّة ، فمن المحتّم علينا أن نتعرف عليها ، مفهوماً وغايةً ودليلاً وحدّاً ، حتّى نتجنَّب الافراط والتفريط في مقام القضاء والتطبيق.

    إنّ التقية ، إسم لـ « إتّقى يتّقي » (3) والتاء بدل من الواو وأصله من الوقاية ،

________________________________________

1 ـ القصص / 20.

2 ـ النحل / 106.

3 ـ قال ابن الأثير في النهاية 5 / 217 : وأصل اتقى : أوتقى فقلبت الواو ياء لكسرة قبلها ثمّ أُبدلت تاء وأُدغمت. ومنه حديث علي ( عليه السلام ) : كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، أي جعلناه وقاية من العدوّ. ولاحظ لسان العرب مادة « وقى ».

________________________________________

(340)

ومن ذلك اطلاق التقوى على اطاعة اللّه ، لأنّ المطيع يتخذها وقاية من النار والعذاب. والمراد هو التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ.

 

    مفهومها :

    إذا كانت التقية هي اتخاذ الوقاية من الشرِّ ، فمفهومها في الكتاب والسنّة هو : إظهار الكفر وإبطال الإيمان ، أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحق. وإذا كان هذا مفهومها ، فهي تُقابل النفاق ، تَقابُل الإيمان والكفر ، فإنّ النفاق ضدها وخلافها ، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وابطان الكفر ، والتظاهر بالحقّ واخفاء الباطل ، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ عدها من فروع النفاق.

    نعم : من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن ، وبه صوَّر التقية ـ الواردة في الكتاب والسنّة ـ من فروعه ، فقد فسره بمفهوم أوسع ممّا هو عليه في القرآن ، فإنّه يُعرَّف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان والمبطنين للكفر بقوله تعالى : ( إذَا جَاءَكَ المَنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللّهِ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المَنافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) (1) فإذا كان هذا حدُّ المنافق فكيف يعمُ من يستعمل التقية تجاه الكفار والعصاة فيخفي إيمانه ويظهر الموافقة لغاية صيانة النفس والنفيس ، والعرض والمال من التعرض ؟!

    ويظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي ، ولو كانت من قسم النفاق ، لكان ذلك أمراً بالقبح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (2).

________________________________________

1 ـ المنافقون / 1.

2 ـ الأعراف / 28.

(341)

    غايتها :

    الغاية من التقية : هي صيانة النفس والعرض والمال ، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحاً خوفاً من أن يترتّب على ذلك مضار وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة كلجوء الحكومات الظالمة إلى الارهاب ، والتشريد والنفي ، والقتل والتنكيل ، ومصادرة الأموال ، وسلب الحقوق الحقة ، فلا يكون لصاحب العقيدة الذي يرى نفسه محقاً محيص عن إبطانها ، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجهاته حتّى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل ، إلى أن يُحدِث اللّه أمراً.

    إنّ التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم ، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله ، لا لشيء إلاّ لأنّه لا يتفق معه في بعض المبادئ والأفكار.

    إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل ، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلاّ بالصمت والسكوت مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها ، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لابد منها من أجل اغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوة ، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولا إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.

    إنّ أكثر من يَعيبُ التقية على مستعملها ، يتصور أو يصوِّر أن الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب ، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرية ، وهو تصور خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلا أو عمداً دون أن يركّزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة ، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يذكره ، ولو لم تُلجئ الظروف القاهرة والأحكام المتعسفة هذا الجموع المستضعفة من

 

________________________________________

(342)

المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية ، ولما تحمّلوا عبء اخفاء معتقداتهم ولدعوا الناس إليها علناً ودون تردّد ، إلاّ أنّ السيف والنطع سالح لا تتردد كل الحكومات الفاسدة من التلويح بها أمام من يخالفها في معتقداتها وعقائدها.

    أين العمل الدفاعي من الأعمال البدائية التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للإطاحة بالسلطة وامتطاء ناصية الحكم ، فأعمالهم كلها تخطيطات مدبرة لغايات ساقطة.

    وهؤلاء هم الذين يحملون شعار « الغايات تبرر الوسائل » فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشؤومة.

    إنّ القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتخذ التقية غطاءً ، وسلاحاً دفاعياً ليسلم من شر الغير ، حتّى لا يُقْتَل ولا يُستأصل ، ولا تُنهب داره وماله ، إلى أن يُحدث اللّه أمراً ، من قبيل عطف المبائن على مثله.

    إنّ المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولا أن تتصورها ، فإنّ الشيوعيّين وطيلة تسلطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المِجَنّ ، فصادروا أموالهم وأراضيهم ، ومساكنهم ، ومساجدهم ، ومدارسهم ، وأحرقوا مكتباتهم ، وقتلوا كثيراً منهم قتلاً ذريعاً ووحشياً ، فلم ينج منهم إلاّ من اتقاهم بشىء من التظاهر بالمرونة ، واخفاء المراسم الدينية ، والعمل على اقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم اللّه سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة ، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد ، فملكوا أرضهم وديارهم ، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئاً فشيئاً ، وما هذا إالاّ ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها اللّه تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين.

    فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها ، وكانت هذه غايتها وهدفها ، فهو أمر

 

________________________________________

(343)

فطري يسوق الإنسان إليه قبل كل شيء عقلُه ولبُّه ، وتدعوه إليه فطرته ، ولأجل ذلك يستعملها كل من ابتُلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك ، من غير فرق بين المسلم ـ شيعياً كان أم سنيّاً ـ وغيره ، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها.

    ولأجل دعم هذا الأصل الحيويّ ندرس دليله من القرآن والسنّة.

 

    دليلها في القرآن والسنّة :

    شرّعت التقية بنص القرآن الكريم حيث وردت جملة من الآيات الكريمة(1) سنحاول استعراضها في الصفحات التالية :

    الآية الاُولى :

    قال سبحانه : ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِن مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَاً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (النحل / 106).

    ترى أنّه سبحانه يجوّز إظهار الكفر كرهاً ومجاراةً للكافرين خوفاً منهم ، بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان ، وصرّح بذلك لفيف من المفسرين القدامى والجدد ، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنبّاً عن الإطالة والاسهاب ، ولمن يبتغي المزيد فعليه بمراجعة كتب التفسير المختلفة :

    1 ـ قال الطبرسي : قد نزلت الآية في جماعة أُكرهوا على الكفر ، وهم عمّار وأبوه ياسر وأُمّه سمية ، وقُتلَ الأبوان لأنّهما لم يظهرا الفكر ولم ينالا من النبيّ ، وأعطاهم

________________________________________

1 ـ غافر / 28 و 45 ، والقصص / 20 وستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث.

2 ـ النحل / 106.

________________________________________

(344)

عمّار ما أرادوا منه ، فأطلقوه ، ثمّ أخبر عمّار بذلك رسول اللّه ، وانتشر خبره بين المسلمين ، فقال قوم : كفر عمّار ، فقال الرسول : كلاّ إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه.

    وفي ذلك نزلت الآية السابقة ، وكان عمّار يبكي ، فجعل رسول اللّه يمسح عينيه ويقول : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت (1).

    2 ـ وقال الزمخشري روي أنّ أُناساً من أهل مكة فُتِنُوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه ، وكان فيهم من أُكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان ، منهم عمّار بن ياسر وأبواه : ياسر وسمية ، وصهيب وبلال وخباب.

    أمّا عمّار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ... (2).

    3 ـ وقال الحافظ ابن ماجة : « والايتاء : معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية ، والتقية في مثل هذه الحال جائزة لقوله تعالى : ( إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) (3).

    4 ـ وقال القرطبي قال الحسن : التقية جائزة للانسان إلى يوم القيامة ـ ثمّ قال : ـ أجمع أهل العلم على أنّ من أُكره على الكفر حتّى خشى على نفسه القتل إنّه لا اثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بالكفر ، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي (4).

    5 ـ قال الخازن : « التقية لا تكون إلاّ مع خوف القتل مع سلامة النيّة ، قال اللّه

________________________________________

1 ـ الطبرسي : مجمع البيان 3 / 388.

2 ـ الزمخشري : الكشاف عن حقائق التنزيل 2 / 430.

3 ـ ابن ماجة : السنن 1 / 53 ، شرح حديث رقم 150.

4 ـ القرطبي : الجامع لأحكام القرآن 4 / 57.

________________________________________

(345)

تعالى : ( إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) ثمّ هذه التقية رخصة » (1).

    6 ـ قال الخطيب الشربيني : « ( إلاّ من أُكره ) أي على التلفّظ به ( وقلبه مطمئنّ بالإيمان ) فلا شيء عليه لأنّ محل الإيمان هو القلب » (2).

    7 ـ وقال إسماعيل حقي : « ( إلاّ من أُكره ) أُجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه ... لأنّ الكفر اعتقاد ، والاكراه على القول دون الاعتقاد ، والمعنى : « ولكن المكره على الكفر باللسان ، ( وقلبه مطمئنّ بالإيمان ) لا تتغير عقيدته ، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند اللّه ، هو التصديق بالقلب » (3).

    الآية الثانية :

    قال سبحانه : ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤمِنُونَ الْكَافِرينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤمِنينَ وَ مَن يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيءِ اِلاّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلى اللّهِ الْمَصيرُ ) (4).

    وكلمات المفسرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح :

    1 ـ قال الطبري : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) : قال أبو العالية : التقية باللسان ، وليس بالعمل ، حُدّثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) قال : التقية باللسان من حُمِلَ على أمر يتكلّم به وهو للّه معصية فتكلم مخافة نفسه ( وقلبه مطمئنّ

________________________________________

1 ـ تفسير الخازن : 1 / 277.

2 ـ الخطيب الشربيني : السراج المنير.

3 ـ إسماعيل حقي : تفسير روح البيان 5 / 84.

4 ـ آل عمران / 28.

________________________________________

(346)

بالإيمان ) فلا اثم عليه ، إنّما التقية باللسان (1).

    2 ـ وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) : رخّص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة : مخالفة ومعاشرة ظاهرة ، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع (2).

    3 ـ قال الرازي في تفسير قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) : المسألة الرابعة : اعلم : إنّ للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها :

    أ : إنّ التقية إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفّار ، ويخاف منهم على نفسه ، وحاله ، فيداريهم باللسان وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول ، فإنّ للتقيّة تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب.

    ب : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة : لصون المال ؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ولقوله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « من قتل دون ماله فهو شهيد » (3).

    4 ـ وقال النسفي :( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) إلاّ أن تخافوا جهتهم أمراً يجب اتقاؤه ، أي الاّ يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة وإبطان المعاداة (4).

    5 ـ وقال الآلوسي : وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرَّفوها بمحافظة

________________________________________

1 ـ الطبري : جامع البيان 3 / 153.

2 ـ الزمخشري : الكشاف 1 / 422.

3 ـ مفاتيح الغيب 8 / 13.

4 ـ النسفي : التفسير بهامش تفسير الخازن 1 / 277.

________________________________________

(347)

النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء. والعدو قسمان :

    الأوّل : من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين ، كالكافر والمسلم.

    الثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية ، كالمال والمتاع والملك والامارة (1).

    6 ـ وقال جمال الدين القاسمي : ومن هذه الآية : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه ( ايثار الحق على الخلق ) (2).

    7 ـ وفسر المراغي قوله تعالى : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) بقوله : أي ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلاّ في حال الخوف من شيء تتّقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتّقوهم بقدر ما يبقى ذلك الشيء ، إذ القاعدة الشرعية « إنّ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ».

    وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين ، إذاً فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الأولى إمّا بدفع ضرر أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شيء يضر المسلمين ، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كل وقت.

    وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق ، لأجل التوقّي من ضرر يعود من الأعداء إلى النفس ، أو العرض ، أو المال.

    فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك ، وقلبه مطمئن بالإيمان ،

________________________________________

1 ـ الآلوسي : روح المعاني 3 / 121.

2 ـ جمال الدين القاسمي : محاسن التأويل 4 / 82.

________________________________________

(348)

لا يكون كافراً بل يُعذر كما فعل عمّار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان وفيه نزلت الآية :

( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمان ) (1).

    هذه الجمل الوافية والعبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالا إلاّ أن يحكم بشرعية التقية بالمعنى الذي عرفته بل قد لا يجد أحد مفسراً أو فقيهاً وقف على مفهومها وغايتها يتردد في الحكم بجوازها ، كما أنّك أخي القارئ لا تجد انساناً واعياً لا يستعملها في ظروف عصيبة ، ما لم تترتّب عليها مفسدة عظيمة ، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها.

    وإنّما المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها ، فإنّما يفسرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية والمذاهب الهدامة كالنصيرية والدروز ، والباطنية كلّهم ، إلاّ أنّ المسلمين جميعاً بريئون من هذه التقية الهدامة لكل فضيلة رابية.

    الآية الثالثة : قوله سبحانه :

    ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّىَ اللّهُ وَقَدْ جَآءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقَاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) (2).

    وكانت عاقبة أمره أن : ( فَوَقَاهُ اللّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ) (3).

    وما كان ذلك إلاّ لأنّه بتقيّته استطاع أن ينجي نبىّ اللّه من الموت : ( قَالَ

________________________________________

1 ـ تفسير المراغي 3 / 136.

2 ـ غافر / 28.

3 ـ غافر / 45.

________________________________________

(349)

يَا مُوسَى اِنَّ الملأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَأخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) (1).

    وهذه الآيات تدل على جواز التقية لانقاذ المؤمن من شرّ عدوه الكافر.

 

    اتّقاء المسلم من المسلم في ظروف خاصة :

    إنّ مورد الآيات وإن كان هو اتقاء المسلم من الكافر ، ولكن المورد ليس بمخصص لحكم الآية فقط ، إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلاّ صيانة النفس والنفيس من الشر ، فإذا ابتُلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر ، كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله ، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية ، ولو كان هناك وزر إنّما يتوجه على من يُتقى منه لا على المتقي ، فلو سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية ، وتحملت كل فرقة آراء الفرقة الأُخرى بصدر رحب ، وفهمت بأنّ ذلك هو قدر اجتهادها ، لم يضطر أحد من المسلمين إلى استخدام التقية ، ولساد الوئام مكان النزاع.

    وقد فهم ذلك لفيف من العلماء وصرّحوا به ، وإليك نصوص بعضهم :

    1 ـ يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : ( إلاّ أن تتّقوا منهم تقاة ) ظاهر الآية على أنّ التقية إنّما تحل مع الكفار الغالبين ، إلاّ أنّ مذهب الشافعي ـ رضي اللّه عنه ـ : إنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلّت التقية محاماة عن النفس ، وقال : التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال ؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » ، وقوله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « من قتل دون ما له فهو شهيد » (2)

________________________________________

1 ـ القصص 20.

2 ـ الرازي : مفاتيح الغيب 8 : 13 في تفسير الآية.

________________________________________

(350)

    2 ـ ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه « إيثار الحق على الخلق » ما هذا نصه : « وزاد الحق غموضاً وخفاءً أمران : أحدهما : خوف العارفين ـ مع قلتهم ـ من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن ، واجماع أهل الإسلام ، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق ، ولا برح المحق عدوّاً لأكثر الخلق ، وقد صحّ عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أنّه قال في ذلك العصر الأوّل : حفظت من رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وعاءين ، أمّا أحدهما فبثثته في الناس وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم (1).

    3 ـ وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه : ( مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَان ) : ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة الفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسم ، في وجوههم وبذل المال لهم ، لكف أذاهم وصيانة العرض منهم ، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها ، بل هو مشروع ، فقد أخرج الطبراني قوله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « ما وَقَى المؤمن به عرضَه فهو صدقة » (2).

    إنّ الشيعة تتقي الكفار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتقيهم السنّي ، غير أنّ الشيعي ولأسباب لا تخفى ، يلجأ إلى اتقاء أخيه المسلم لالقصور في الشيعي ، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك لأنّه يدرك أنّ الفتك والقتل مصيره إذا صرّح بمعتقده الذي هو موافق لأُصول الشرع الإسلامي وعقائده ، نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول : إنّ اللّه ليس له جهة ، أو أنّه تعالى لا يُرى يوم القيامة ، وإنّ المرجعية العلمية والسياسية لأهل البيت بعد رحلة النبي الأكرم ، أو أنّ حكم المتعة غير منسوخ. إنّ الشيعي إذا صرّح بهذه الحقائق ـ التي استنبطت من

________________________________________

1 ـ جمال الدين القاسمي : محاسن التأويل : 4 / 82.

2 ـ مصطفى المراغي : التفسير 3 / 136.

(351)

الكتاب والسنّة ـ سوف يُعرّض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مر عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا النوع من التقية ، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم ، ورفض للملاك الذي شُرعت لأجله التقية ، واعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم.

    والتاريخ بين أيدينا يحدثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من كبار المسلمين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تؤدي بحياتهم وبما يملكون ، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه ( 7 / 195 ـ 206 ) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدّثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسراً حتّى وإن استلزم ذلك قتل الجميع دون رحمة ، ولما أبصر أُولئك المحدثين حد السيف مشهراً عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسروا معتقدهم في صدورهم ، ولمّا عُوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برروا عملهم بعمل عمّار بن ياسر حين أُكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان ، والقصّة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض على التشنيع فيها على الشيعة وكأنّهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأُصول إسلامية ثابتة ومعلومة.

 

    الظروف العصبية التي مرت بها الشيعة :

    الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين اخوانهم وأبناء دينهم إنّما هو الخوف من السلطات الغاشمة فلو لم يكن هناك في غابر القرون ـ من عصر الأمويين ثمّ العباسيين والعثمانيين ـ أي ضغط على الشيعة ، ولم تكن بلادهم وعقر دارهم مخضّبة بدمائهم والتاريخ خير شاهد على ذلك ، كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها ، ولكن ياللأسف إنّ كثيراً من اخوانهم كانوا أداة

 

________________________________________

(352)

طيّعة بيد الأمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطراً على مناصبهم ، فكانوا يؤلِّبون العامة من أهل السنّة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكلون بهم ، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة ، بل لكل من يملك شيئاً من العقل وسيلة إلاّ اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله.

    والشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى أو أن تعد ، إلاّ أنّا سنستعرض جانباً مختصراً منها : فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا كيفما كانوا ، وإليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة :

 

    بيان معاوية إلى عماله :

    روى أبو الحسن علي بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب « الأحداث » قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة : أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقامت الخطباء في كل كورة ، وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة من بها من شيعة علي ( عليه السلام ) فاستعمل عليها زياد بن سمية ، وضم إليه البصرة ، فكان يتبع الشيعة وهو بهم عارف ، لأنّه كان منهم أيام علي ( عليه السلام ) ، فقتلهم تحت كل حجر ومدر ، وأخافهم ، وقطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلبهم على جذوع النخل ، وطردهم وشرَّدهم عن العراق ، فلم يبق بها معروف منهم ، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.

    ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البيّنة

 

________________________________________

(353)

أنّه يحبّ علياً وأهل بيته ، فامحوه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة أُخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم ، فنكّلوا به ، واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ، ولا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرجل من شيعة علي ( عليه السلام ) ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته ، فيُلقي إليه سره ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ويحدّثه حتّى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ، ليكتمن عليه.

    وأضاف ابن أبي الحديد : فلم يزل الأمر كذلك حتّى مات الحسن بن علي ( عليهما السلام ) فازداد البلاء والفتنة ، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه ، أو طريد في الأرض.

    ثمّ تفاقم الأمر بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) ، وولي عبدالملك بن مروان ، فاشتد على الشيعة ، وولى عليهم الحجاج بن يوسف ، فتقرَّب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه ، وموالاة من يدعي من الناس أنّهم أيضاً أعداؤه ، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم ، وأكثروا من البغض من علي ( عليه السلام ) وعيبه ، والطعن فيه ، والشنآن له ، حتّى إنّ إنساناً وقف للحجاج ـ ويقال إنّه جد الأصمعي عبدالملك بن قريب ـ فصاح به : أيّها الأمير ، إنّ أهلي عقّوني فسموني علياً ، وإنّي فقير وبائس ، وأنا إلى صلة الأمير محتاج ، فتضاحك له الحجاج ، وقال : للطف ما توسلتَ به ، قد وليتك موضع كذا (1).

    ونتيجة لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة ، فقتل الآلاف منهم ، وأمّا من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل والارهاب والتخويف ، والحق يقال إنّ من الأُمور العجيبة أن يبقي لهذه الطائفة باقية رغم كل ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع ، بل العجب العجاب أن

________________________________________

1 ـ شرح نهج البلاغة 11 / 44 ـ 46.

________________________________________

(354)

تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوة وعدة ، وأقامت دولاً وشيدت حضارات وبرز منها الكثير من العلماء والمفكرين.

    فلو كان الأخ السنّي يرى التقية أمراً محرّماً فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي ، وأن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الإسلام لأبنائه ، وليعذره في عقيدته وعمله كما هو عذر أُناساً كثيراً خالفوا الكتاب والسنّة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور فكيف بطائفة تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته ، وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلّهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم فماذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين.

    وإذا كانوا يقولون ـ وذاك هو العجيب ـ أنّ الخروج على الإمام علي ( عليه السلام ) غير مضر بعدالة الخارجين والثائرين عليه ، وفي مقدمتهم طلحة والزبير وأُمّ المؤمنين عائشة ، وإنّ إثارة الفتن في صفّين ـ التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة والتابعين وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين ـ لا تنقص شيئاً من ورع المحاربين وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد وأخطأ فلم لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم ويذهب إلى أنّهم معذورين ومثابين!!

    نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة وتتضائل أُخرى ، حسب قوّة الضغط وضآلته ، فشتان بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت ، ويكرم العلويين ، وبين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة.

    فهذا ابن السكيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل ، وقد اختاره معلماً لوالديه فسأله يوماً : أيّهما أحبُّ إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين ؟ قال ابن السكيت : واللّه إنّ قنبر خادم علي ( عليه السلام ) خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل : سلّوا لسانه من قفاه ، ففعلوا ذلك به فمات. وذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع

 

________________________________________

(355)

وأربعين ومائتين ، وقيل ثلاث وأربعين ، وكان عمره ثمانية وخمسين سنة. ولما مات سيَّر المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال : هذه دية والدك!! (1).

    وهذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر ابن الحسين بن زيد بن علي :

اكلّ أوان للنبيّ محمّدبني المصطفى كم يأكل الناس شلوكمأبعد المكنّى بالحسين شهيدكم                قتيل زكيّ بالدماء مضرّجلبلواكم عمّا قليل مفرّجُتضيء مصابيح السماء فتسرّجُ (2)

    فإذا كان هذا هو حال أبناء الرسول ، فما هو حال شيعتهم ومقتفي آثارهم ؟!

    قال العلاّمة الشهرستاني : إنّ التقية شعار كلّ ضعيف مسلوب الحرية. إنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أُمّة أُخرى ، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كلّه ، وفي عهد العباسيين على طوله ، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية ، ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أي قوم ، ولما كانت الشيعة ، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهيّة ، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة وتصدقه التجارب ، لذلك أضحت شيعة الأئمة من آل البيت مضطرة في أكثر الأحيان إلى كتمان ماتختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك ،

________________________________________

1 ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان 3 / 33. الذهبي : سير أعلام النبلاء 12 / 16.

2 ـ ديوان ابن الرومي 2 / 243.

________________________________________

(356)

تبتغي بهذا الكتمان صيانة النفس والنفيس ، والمحافظة على الوداد والاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين ، لئلا تنشق عصا الطاعة ، ولكي لا يحس الكفار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي فيوسع الخلاف بين الأُمّة المحمدية.

    لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الأُخرى ، متبعة في ذلك سيرة الأئمة من آل محمد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل : « التقية ديني ودين آبائي » ، إذ أنّ دين اللّه يمشي على سنّة التقية لمسلوبي الحرية ، دلّت على ذلك آيات من القرآن العظيم (1).

    روي عن صادق آل البيت ( عليهم السلام ) في الأثر الصحيح :

    « التقية ديني ودين آبائي » و : « من لا تقية له لا دين له » وكذلك هي.

    لقد كانت التقية شعاراً لآل البيت ( عليهم السلام ) دفعاً للضرر عنهم ، وعن أتباعهم ، وحقناً لدمائهم ، واستصلاحاً لحال المسلمين ، وجمعاً لكلمتهم ، ولماً لشعثهم ، وما زالت سمة تُعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأُمم. وكل انسان إذا أحسّ بالخطر على نفسه ، أو ماله بسبب نشر معتقده ، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول.

    من المعلوم أنّ الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن ، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة ، أو أُمّة أُخرى ، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم ، وترك مظاهرتهم ، وستر عقائدهم ، وأعمالهم المختصة بهم عنهم ، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا.

    ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم.

    وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها ، بحسب اختلاف مواقع خوف

________________________________________

1 ـ غافر / 28 ، النحل / 106.

________________________________________

(357)

الضرر ، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة (1).

 

    حدّها :

    قد تعرّفت على مفهوم التقية وغايتها ، ودليلها ، بقي الكلام في تبيين حدودها ، فنقول :

    عرفت الشيعة بالتقية وأنّهم يتقون في أقوالهم وأفعالهم ، فصار ذلك مبدأ لوهم عالق بأذهان بعض السطحيين والمغالطين ، فقالوا : بما أنّ التقية من مبادئ التشيّع فلا يصح الاعتماد على كلّ ما يقولون ويكتبون وينشرون ، إذ من المحتمل جداً أن تكون هذه الكتب دعاياتٍ والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرّة بعد مرّة ، ويكرره الكاتب الباكستاني « إحسان إلهي ظهير » في كتبه السقيمة التي يتحامل بها على الشيعة.

    ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ مجال التقية إنّما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس ، فإذا دلّت القرائن على أنّ في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت ـ يحتمل أن يدفع بالمؤمن إلى الضرر يصبح هذا المورد من مواردها ، ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتقاء حتّى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأمّا الأُمور الكلّية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصور فيها التقية ، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير ، إذ لا خوف هناك حتّى يكتب خلاف ما يعتقد ، حيث ليس هناك لزوم للكتابة أصلا في هذه الحال فله أن يسكت ولا يكتب شيئاً.

    فما يدعيه هؤلاء أنّ هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن عدم معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة. والحاصل : أنّ الشيعة إنّما كانت تتقي في عصر لم تكن لهم

________________________________________

1 ـ مجلة المرشد 3 / 252 ، 253 ، ولاحظ : تعليقة أوائل المقالات ص 96.

________________________________________

(358)

دولة تحميهم ، ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الأخطار. وأمّا هذه الأعصار فلا مسوّغ ولا مبرر للتقية إلاّ في موارد خاصة.

    إنّ الشيعة وكما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلاّ بعد أن اضطرّت إلى ذلك ، وهو حق لا أعتقد أن يخالفها فيه أحد ينظر إلى الأُمور بلبّه لا بعواطفه ، إلاّ أنّ من الثوابت الصحيحة بقاء هذه التقية ـ إلاّ في حدود ضيقة ـ تنحصر في مستوى الفتاوى ، ولم تترجم إلاّ قليلاً على المستوى العملي ، بل كانوا عملياً من أكثر الناس تضحية ، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية وغيره من الحكام الأمويين ، والحكام العباسيين ، أمثال حجر بن عدي ، وميثم التمار ، ورشيد الهجري ، وكميل بن زياد ، ومئات من غيرهم ، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوارتهم المتتالية.

 

    التقية المحرّمة :

    إنّ التقية تنقسم حسب الأحكام الخمسة ، فكما أنّها تجب لحفظ النفوس والأعراض والأموال ، فإنّها تحرم إذا ترتّب عليها مفسدة أعظم ، كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية ، وتسلّط الأعداء على شؤون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم ، ولأجل ذلك ترى أنّ كثيراً من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الأحيان وقدّموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين ، فللتقية مواضع معينة ، كما أنّ للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضاً.

    إنّ التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتّى يزول الخطر ، فهي أفضل السبل للخلاص من البطش ، ولكن ذلك لا يعني أنّ الشيعي جبان خائر العزيمة ، خائف متردد الخطوات يملأ حناياه الذل ، كلاّ إنّ للتقية حدوداً لا تتعداها ، فكما هي واجبة في حين ، هي حرام في حين آخر ، فالتقية أمام الحاكم الجائر كيزيد بن معاوية

 

________________________________________

(359)

مثلا محرّمة ، إذ فيها الذل والهوان ونسيان المثل والرجوع إلى الوراء ، فليست التقية في جوازها ومنعها تابعة للقوّة والضعف ، وإنّما تحددها جوازاً ومنعاً مصالح الإسلام والمسلمين.

    إنّ للإمام الخميني ـ قدس سره ـ كلاماً في المقام ننقله بنصه حتّى يقف القارئ على أنّ للتقية أحكاماً خاصة وربّما تحرم لمصالح عالية. قال ـ قدس سره ـ :

    تحرم التقية في بعض المحرمات والواجبات التي تمثل في نظر الشارع والمتشرعة مكانة بالغة ، مثل هدم الكعبة ، والمشاهد المشرفة ، والرد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسر المذهب ويطابق الالحاد وغيرها من عظائم المحرمات ، ولا تعمها أدلة التقية ولا الاضطررار ولا الاكراه.

    وتدل على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها : « فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز » (1).

    ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق ، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمته ، كما لو أُكره على شرب المسكر والزنا مثلاً ، فإنّ جواز التقية في مثله ، تمسّكاً بحكومة دليل الرفع (2)وأدلّة التقية مشكل بل ممنوع ، وأولى من ذلك كلّه في عدم جواز التقية وفيه ما لو كان أصل من أُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير ، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الارث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أُصول الأحكام فضلاً عن أُصول الدين أو المذهب ، فإنّ التقية في مثلها غير جائزة ، ضرورة أنّ تشريعها

________________________________________

1 ـ الوسائل كتاب الأمر بالمعروف الباب 25 الحديث رقم 6.

2 ـ قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : « رفع عن أُمّتي ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه ».

________________________________________

(360)

لبقاء المذهب وحفظ الأُصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأُصوله ، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية ، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة (1).

    وهكذا فقد بيّنا للجميع الأبعاد الحقيقة والواقعية للتقية ، وخرجنا بالنتائج التالية :

    1 ـ إنّ التقية أصل قرآني مدعم بالسنّة النبوية ، وقد استعملها في عصر الرسالة من ابتلي بها من الصحابة لصيانة نفسه فلم يعارضه الرسول بل أيده بالنص القرآني كما في قضية عمّار بن ياسر ، حيث أمره ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بالعودة إذا عادوا.

    2 ـ إنّ التقية بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب والهدم ، مرفوضة عند المسلمين عامة والشيعة خاصة ، وهو لا يمت للتقية المتبناة من قبل الشيعة بصلة.

    3 ـ إنّ المفسرين في كتبهم التفسيرية عندما تعرضوا لتفسير الآيات الواردة في التقية اتفقوا على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.

    4 ـ إنّ التقية لا تختص بالاتقاء من الكافر ، بل تعم الاتقاء من المسلم المخالف ، الذي يريد السوء والبطش بأخيه.

    5 ـ إنّ التقية تنقسم حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة ، فبينما هي واجبة في موضع فهي محرمة في موضع آخر.

    6 ـ إنّ مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية ، وهي فيما إذا كان الخوف قائماً ، وأمّا إذا ارتفع الخوف والضغط ، فلا موضوع للتقية لغاية الصيانة.

________________________________________

1 ـ الإمام الخميني : الرسائل : 171 ـ 178.

(361)

    وفي الختام نقول :

    نفترض أنّ التقية جريمة يرتكبها المتقي لصيانة دمه وعرضه وماله ولكنّها في الحقيقة ترجع إلى السبب الذي يفرض التقيّة على الشيعي المسلم ويدفعه إلى أن يتظاهر بشيء من القول والفعل الذي لا يعتقد به ، فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد ، أن يسمح له الحرية في مجال الحياة ويتركه بحاله ، وأقصى ما يصح في منطق العقل ، أن يسأله عن دليل عقيدته ومصدر عمله ، فإن كان على حجّة بيّنة يتبعه ، وإن كان على خلافها يعذره في اجتهاده وجهاده العلمي والفكري.

    نحن ندعو المسلمين للتأمل في الدواعي التي دفعت بالشيعة إلى التقية ، وأن يعملوا قدر الإمكان على فسح المجال لاخوانهم في الدين فإنّ لكل فقيه مسلم ، رأيه ونظره ، وجهده وطاقته.

    إنّ الشيعة يقتفون أثر الأئمة أهل البيت في العقيدة والشريعة ، ويرون رأيهم ، لأنّهم هم الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وأحد الثقلين اللذين أمر الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بالتمسك بهما في مجال العقيدة والشريعة ، وهذه عقائدهم لا تخفى على أحد ، وهي حجّة على الجميع.

    نسأل اللّه سبحانه : أن يصون دماء المسلمين وأعراضهم عن تعرض أي متعرض ، ويوحّد صفوفهم ، ويؤلّف بين قلوبهم ، ويجمع شملهم ، ويجعلهم صفّاً واحداً في وجه الأعداء إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.

 

________________________________________

(362)

________________________________________

(363)

    المسألة السادسة :

الرجعة

    إنّ فكرة الرجعة التي تحدّثت عنها بعض الآيات القرآنية والأحاديث المرويّة عن أهل بيت الرسالة ممّا يشنّع بها على الشيعة ، فكأنّ من قال بها ، رأى رأياً يوجب الخروج عن الدين ، غير أنّ هؤلاء نسوا أو تناسوا انّ أوّل من أبدى نظرية الرجعة هو الخليفة عمر بن الخطاب فقد أعلن عندما شاعت رحلة النبيّ الأكرم بأنّه ما مات وليعودنّ فيقطعنّ أيدي وأرجل أقوام ...

    عن أبي هريرة قال : لمّا توفّي رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قام عمر بن الخطاب ، فقال : إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون انّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) توفّي ، وانّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) واللّه ما مات ، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ، ثمّ رجع إليهم بعد أن قيل قد مات ، واللّه ليرجعنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) كما رجع موسى ، فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم زعموا انّ

 

________________________________________

(364)

رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) مات (1).

    ولا يخفى أنّ كلام الخليفة لو كان كلاماً حقيقياً لابد أن يحمل على أنّ النبي ما مات موتاً لا رجوع فيه وإنّما يرجع فيقوم بما أخبر عنه الخليفة ، ولو أراد من نفي موته أنّه ما زال حياً فهو خلاف رأي جميع الصحابة الذين اتفقوا على موته ، ولم يكن موت النبي أمراً يدركه جميع الناس ولا يدركه الخليفة.

    إنّ الرجعة بمعنى عود جماعة قليلة إلى الحياة الدنيويه قبل يوم القيامة ثمّ موتهم وحشرهم مجدّداً يوم القيامة ليس شيئاً يضاد اُصول الإسلام ، وليس فيه انكار لأيّ حكم ضروري ، وليس القول برجعتهم إلى الدنيا ينفي بعثهم يوم القيامة ، وكيف لا يكون كذلك وقد أخبر سبحانه عن رجوع جماعة إلى الحياة الدنيوية ، نظير :

    1 ـ إحياء جماعة من بني إسرائيل (2).

    2 ـ إحياء قتيل بني إسرائيل (3).

    3 ـ موت اُلوف من الناس وبعثهم من جديد (4).

    4 ـ بعث عزير بعد مائة عام من موته (5).

    5 ـ إحياء الموتى على يد عيسى ( عليه السلام ) (6).

    فلو كان الاعتقاد برجوع بعض الناس إلى الدنيا قبل القيامة أمراً محالاً ، فما معنى هذه الآيات الصريحة في رجوع جماعة إليها ؟

________________________________________

1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 4 / 305.

2 ـ البقرة / 55 ـ 56.

3 ـ البقرة / 72 ـ 73.

4 ـ البقرة / 243.

5 ـ البقرة / 259.

6 ـ آل عمران / 49.

________________________________________

(365)

    ولو كان الرجوع إلى الدنيا على وجه الاطلاق تناسخاً فكيف تفسّر هذه الآيات ؟

    إنّ الاعتقاد بالذكر الحكيم يجرّنا إلى القول بأنّه ليس كل رجوع إلى الدنيا تناسخاً وانّما التناسخ الباطل عبارة عن رجوع الانسان إلى الدنيا عن طريق النطفة والمرور بمراحل التكوّن البشري من جديد ليصير انساناً مرّة اُخرى وأين هذا من الرجعة وعود الروح إلى البدن الكامل من جميع الجهات من دون أن يكون فيها رجوع من القوّة إلى الفعلية ، أو دخول روح في بدن آخر ، إنساناً كان أو حيوانا ؟!

    اتّفقت الشيعة على بطلان التناسخ وامتناعه وقد كتبوا فيه مقالات ورسائل يقف عليها من كان له إلمام بكتبهم وعقائدهم ، وقد ذكروا أنّ للتناسخ أنواعاً وأقساماً ، غير انّ الرجوع إلى الدنيا من خلال دخول الروح إلى البدن الذي فارقه عند الموت لا يعد تناسخا ، وانّما هو إحياء للموتى ، الذي كان معجزة من معاجز المسيح.

    كل ذلك يدل على أنّه ليس أمام القول بالرجعة عراقيل وموانع وانّما هو أمر ممكن لو دلّ عليه الدليل القطعي نأخذ به وإلاّ فنذره في سنبله ، والحال انّ بعض الآيات والروايات تدل على أنّه سيتحقّق الرجوع إلى هذه الدنيا قبل يوم القيامة لبعض الناس على وجه الاجمال ، وأمّا من هم ؟. وفي أي وقت يرجعون ؟. ولأيّ غرض يعودون إلى الدنيا ؟ فليس هنا مقام بيانها ، انّما نكتفي ببيان بعض الآيات الدالّة على وقوعه قبل البعث ، وإليك الآيات.

    قال سبحانه :

( وإذا وَقَعَ القَولُ عَلَيهِمْ أخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنونَ * وَيَومَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ اُمَّة فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ

________________________________________

(366)

يُوزَعُونَ ) (1).

    لا يشك من أمعن النظر في سياق الآيات وما ذكره المفسّرون حولها ، في أنّ الآية الاُولى تتعلّق بالحوادث التي تقع قبل يوم القيامة ، وعليه تكون الآية الثانية مكمّلة لها ، وتدل على حشر فوج من كل جماعة قبل يوم القيامة ، والحال أنّ الحشر في يوم القيامة يتعلّق بالجميع لا بالبعض ، يقول سبحانه ( وَيَومَ نُسَيِّرُ الجِبالَ وتَرى الأرضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أحدا ) (2).

    أفبعد هذا التصريح يمكن تفسير الآية السابقة بيوم البعث والقيامة ؟

    وهذه الآية تعرب عن الرجعة التي تعتقد بها الشيعة في حقّ جماعة خاصّة وأمّا خصوصياتها فلم يحدّث عنها القرآن الكريم وجاء التفصيل في السنّة.

    وقد سأل المأمون العباسي الامام الرضا ( عليه السلام ) عن الرجعة ، فأجابه بقوله : إنّها حقّ قد كانت في الاُمم السالفة ونطق بها القرآن وقد قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : يكون في هذه الاُمّة كل ما كان في الاُمم السالفة حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة (3).

    وأمّا من هم الراجعون ؟ وما هو الهدف من إحيائهم ؟ فيرجع فيه إلى الكتب المؤلّفة في هذا الموضوع ، واجمال الجواب عن الأوّل أن الراجعين لفيف من المؤمنين ولفيف من الظالمين.

    وقال المفيد ناقلاً عن أئمّة أهل البيت : إنّما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم ، من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً ، وأمّا ما سوى هذين فلا رجوع

________________________________________

1 ـ النمل / 82 ـ 83.

2 ـ الكهف / 47.

3 ـ بحارالأنوار 53 / 59 الحديث 45.

________________________________________

(367)

لهم إلى يوم المآب (1).

    وقال أيضاً في المسائل السروية : والرجعة عندنا تختص بمن محض الإيمان ، ومحض الكفر دون ما سوى هذين الفريقين (2).

    وإجمال الجواب عن الثاني ما ذكره السيّد المرتضى ، قال : إنّ اللّه تعالى يعيد عند ظهور المهدي ـ عجل اللّه تعالى فرجه الشريف ـ قوماً ممّن كان تقدّم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ومشاهدة دولته ويعيد أيضاً قوماً من أعدائه لينتقم منهم.

 

    ذكر نكات :

    1 ـ إنّ الرجعة وإن كانت من مسلّمات عقائد الشيعة ، ولكنّ التشيّع ليس منوطاً بالاعتقاد بها فمن أنكرها فقد أنكر عقيدة مسلّمة ، بين أكثر الشيعة ، ولكن لم ينكر ركناً من أركان التشيّع ، ولأجل ذلك نرى انّ جماعة من الشيعة أوّلوا الأخبار الواردة في الرجعة إلى رجوع الدولة إلى شيعتهم وأخذهم بمجاري الاُمور دون رجوع أعيان الأشخاص ، والباعث لهم على هذا التأويل هو عجزهم عن تصحيح القول بها نظراً واستدلالا ، ولكن المحقّقين من الامامية ، أخذوا بظواهرها وبيّنوا عدم لزوم استحالة عقلية على القول بها لعموم قدرة اللّه على كل مقدور ، أجابوا عن الشبه الواردة عليها ، وإلى هذا الاختلاف يشير الشيخ المفيد بقوله : واتّفقت الإمامية على رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة وإن كان بينهم في معنى الرجعة اختلاف.

________________________________________

1 ـ الشيخ المفيد : تصحيح الاعتقاد 40.

2 ـ الشيخ المفيد : تصحيح الاعتقاد 40.

________________________________________

(368)

    ويشير إلى الاختلاف ، تلميذه الجليل الشريف المرتضى في المسائل التي وردت عليه من الرىّ ومنها حقيقة الرجعة ، فأجاب بأنّ الذي تذهب إليه الشيعة الإمامية بأنّ اللّه تعالى يعيد عند ظهور المهدي قوماً ممّن كان تقدّم موته من شيعته ، وقوماً من أعدائه ، وانّ من الشيعة ، تأوّلوا الرجعة على أنّ معناها رجوع الدولة والأمر والنهي إلى شيعتهم ، من دون رجوع الأشخاص واحياء الأموات (1).

    2 ـ كيف يجتمع اعادة الظالمين مع قوله سبحانه : ( وحَرامٌ عَلى قَرْيَة أهْلَكْناها أنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) (2) فإنّ هذه الآية تنفي رجوعهم بتاتاً ، وحشر لفيف من الظالمين ، يخالفها.

    والاجابة عن السؤال واضحة ، فإنّ الآية مختصّة بالظالمين الذين اُهلكوا في هذه الدنيا ورأوا جزاء عملهم فيها ، فالآية تحكم بأنّهم لا يرجعون ، وأمّا الظالمون الذين رحلوا عن الدنيا بلا مؤاخذة فيرجع لفيف منهم ليروا جزاء عملهم فيها ثمّ يردّون إلى أشدّ العذاب في الآخرة ، فالآية تنفي رجوع لفيف من الظالمين الذين ماتوا حتف الأنف.

    3 ـ إنّ الظاهر من قوله تعالى : ( حَتّى إذا جاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أعْمَلَ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إنّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلها ومِن ورائِهمْ بَرْزَخٌ اِلى يَومِ يُبْعَثُونَ ) (3) هو نفي الرجوع إلى الدنيا بعد مجيئ الموت لأي أحد.

    والاجابة عنها واضحة. انّ الآية كسائر السنن الإلهية الواردة في حقّ الإنسان ، فهي تفيد أنّ الموت بطبعه ليس بعده رجوع وهذا لا ينافي رجوع البعض

________________________________________

1 ـ بحارالانوار 53 / 138.

2 ـ الأنبياء / 95.

3 ـ المؤمنون / 100 ـ 101.

________________________________________

(369)

استثناءً ولمصالح عليا ، كما مرّت الآيات الواردة في هذا المضمار.

    أضف إلى ذلك أنّ عود بعض الظالمين إلى الدنيا ـ على القول بالرجعة ـ إنّما هو لأجل عقابهم والانتقام منهم ، وأين هذا من طلب هؤلاء الكفار الرجوع لأجل تصحيح عملهم والقيام بما تركوه من الصالحات ، وردّ هذا الفرع من الرجوع لا يكون دليلا على نفي النوع الأوّل منه.

 

________________________________________

(370)

 

(371)

    المسألة السابعة :

زواج المتعة

    وممّا يشنّع به على الشيعة : قولهم بجواز نكاح المتعة ، ويعدّون القول بتشريعه أو بعدم نسخه مخالفاً للكتاب والسنّة. والمسألة فرعية فقهية لا يناسب البحث عنها في كتب تاريخ العقائد ، غير انّه لما كانت من شعائر فقه الشيعة ، آثرنا أن نبحث عنها في اطار الكتاب والسنّة على وجه الاجمال حتّى يقف القارئ على أنّ القول بأصل تشريعها وعدم نسخها ، ممّا يثبته الكتاب والسنّة. وانّ القول بعدم تشريعها بتاتاً أو ادّعاء نسخها يضادّهما. وسيوافيك انّ لفيفاً من الصحابة والتابعين كانوا يفتون بجوازها وعدم نسخها وانّما منع عنها عمر بن الخطاب لحافز نفسي أو اجتهاد شخصي لا دليل عليه وليس حجّة على الآخرين.

وقد أبدى بنظيره في متعة الحج في زمن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) (1).

________________________________________

1 ـ لاحظ الفصل الرابع من هذا الجزء ، المورد الثالث من الموارد التي اجتهدوا فيها مقابل النص.

________________________________________

(372)

    وأمّا زواج المتعة : وهي عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع من نسب أو سبب أو رضاع أو احصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية ، بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق ، فإذا انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق. ويجب عليها مع الدخول بها إذا لم تكن يائسة أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض وإلاّ فبخمسة وأربعين يوما (1).

    وولد المتعة ذكراً كان أو اُنثى يلحق بالأب ولا يُدعى إلاّ به ، وله من الارث ما أوصانا اللّه سبحانه به في كتابه العزيز. كما يرث من الاُم وتشمله جمع العمومات الواردة في الآباء والأبناء والاُمّهات وكذا العمومات الوارده في الاخوة والأخوات والأعمام والعمّات.

    وبالجملة : المتمتّع بها زوجة حقيقة وولدها ولد حقيقة ولا فرق بين الزواجين : الدائم والمنقطع إلاّ انّه لا توارث هنا ما بين الزوجين ولا قسم ولا نفقة لها. كما انّ له العزل عنها وهذه الفوارق الجزئية فوارق في الاحكام لا في الماهية والماهية واحدة غير انّ أحدهما مؤقت والآخر دائم. وانّ الأوّل ينتهي بانتهاء الوقت والآخر ينتهي بالطلاق أو الفسخ.

    وقد أجمع أهل القبلة على انّه سبحانه شرّع هذا النكاح في صدر الإسلام ولا يشك أحد في أصل مشروعيّته وانّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته.

    والأصل في مشروعيته قوله سبحانه : ( وحلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ وأنْ تَجْمَعُوا بينَ الاُختَينِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ إنَّ اللّه كانَ غَفُوراً رَحيماً * والُمحصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيكُمْ وَ اُحِلَّ لَكُمْ

________________________________________

1 ـ لاحظ الكتب الفقهية للشيعة الامامية في ذلك المجال.

________________________________________

(373)

ماوَراءَ ذلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأموالِكُمْ مُحصِنِينَ غَيرَ مُسافِحينَ فَما اسْتَمتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ اُجُورَهُنَّ فريضةً ولا جُناحَ عَلَيْكُمْ فيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعدِ الفَريضَةِ إنَّ اللّهَ كانَ عَليماً حَكيما ) (1).

    والآية ناظرة إلى نكاح المتعة وذلك لوجوه :

 

    1 ـ الحمل على النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه :

    إنّ هذه السورة ـ سورة النساء ـ تكفّلت ببيان أكثر ما يرجع إلى النساء من الأحكام والحقوق ، فذكرت جميع أقسام النكاح في أوائل السورة على نظام خاص ، أمّا الدائم فقد أشار إليه سبحانه بقوله : ( وإنْ خِفْتُمْ ألاّ تُقْسِطُوا فِى اليَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثَلاثَ ورُباعَ وإنْ خِفْتُمْ ألاّ تَعدِلُوا فَواحِدَةً ... ) (2).

    وأمّا أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية : ( وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيء مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنيئاً مَريئا ) (3).

    وأمّا نكاح الاماء فقد جاء في قوله سبحانه : ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ الُمحْصَناتِ المُؤمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ واللّهُ أعْلَمُ بِإيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض فانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ وَاَتُوهُنَّ اُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحات ولا مُتَّخِذاتِ أخْدانٍ ... ) (4).

________________________________________

1 ـ النساء / 23 ـ 24.

2 ـ النساء / 3.

3 ـ النساء / 4.

4 ـ النساء / 25.

________________________________________

(374)

    فقوله سبحانه : ( فمن ما ملكت أيمانكم ) إشارة إلى نكاح السيّد لأمته ، الذي جاء في قوله سبحانه أيضاً : ( إلاّ عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ ... ) (1).

    وقوله سبحانه : ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ ) إشارة إلى الزواج من أمة الغير. فالى هنا تم بيان جميع أقسام النكاح فلم يبق إلاّ نكاح المتعة وهو الذي جاء في الآية السابقة ، وحمل قوله سبحانه : ( فما استمتعتم ) على الزواج الدائم وحمل قوله : ( فآتوهنّ اُجورهنّ ) على المهور والصدقات يوجب التكرار بلا وجه ، وحمله على وجوب الصداق كله بالدخول ، خلاف المتبادر على أنّه يجب الكل بالعقد والطلاق قبله منصِّف. فالناظر في السورة يرى انّ آياتها تكفّلت ببيان أقسام الزواج على نظام خاص ولا يتحقّق ذلك إلاّ بحمل الآية على نكاح المتعة كما هو ظاهرها أيضاً.

 

    2 ـ تعليق دفع الاُجرة على الاستمتاع :

    إنّ تعليق دفع الاُجرة على الاستمتاع في قوله سبحانه : ( فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ اُجورهنَّ ) يناسب نكاح المتعة الذي هو زواج مؤقّت لا النكاح الدائم ، فإنّ المهر هنا يجب بمجرّد العقد ولا يتنجّز وجوب دفع الكل إلاّ بالمس.

 

    3 ـ تصريح جماعة من الصحابة على شأن نزولها :

    ذكرت اُمّة كبيرة من أهل الحديث نزولها فيها وينتهي نقل هؤلاء إلى أمثال ابن عباس وأبي بن كعب وعبداللّه بن مسعود وجابر بن عبداللّه الأنصاري

________________________________________

1 ـ المؤمنون / 6.

________________________________________

(375)

وحبيب بن أبي ثابت وسعيد بن جبير إلى غير ذلك من رجال الحديث الذين لا يمكن اتهامهم بالوضع والجعل.

    وقد ذكر نزولها من المفسّرين والمحدّثين : امام الحنابلة في مسنده (1) وأبو جعفر الطبري في تفسيره (2) وأبوبكر الجصّاص الحنفي في أحكام القرآن (3) وأبوبكر البيهقي في السنن الكبرى (4) ومحمود بن عمر الزمخشري في الكشاف (5) وأبوبكر بن سعدون القرطبي في تفسير جامع أحكام القرآن (6) وفخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب (7) ، إلى غير ذلك من المحدّثين والمفسّرين الذين جاءوا بعد ذلك إلى عصرنا هذا ولا نطيل الكلام بذكرهم.

    وليس لأحد أن يتّهم هؤلاء الأعلام بذكر ما لا يثقون به. فبملاحظة هذه القرائن لا يكاد يشكّ في ورودها في نكاح المتعة.

    ونزيد بياناً بقوله سبحانه : ( واُحِلَّ لَكُمْ ماوَراءَ ذلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بَأمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غيرَ مُسافِحين ).

    إنّ قوله سبحانه : ( أن تبتغوا ) مفعول له لفعل مقدّر ، أي بيّن لكم ما يحلّ ممّا يحرم لأجل أن تبتغوا بأموالكم ، وأمّا مفعول قوله : ( تبتغوا ) فيعلم من القرينة وهو النساء أي تطلبوا النساء ، أي بيّن الحلال والحرام لغاية ابتغائكم النساء

________________________________________

1 ـ مسند أحمد 4 / 436.

2 ـ تفسير الطبري 5 / 9.

3 ـ أحكام القرآن 2 / 178.

4 ـ السنن الكبرى 7 / 205.

5 ـ الكشاف 1 / 360.

6 ـ جامع أحكام القرآن 5 / 13.

7 ـ مفاتيح الغيب 3 / 267.

________________________________________

(376)

من طريق الحلال لا الحرام.

    وقوله سبحانه : ( محصنين ) وهو من الاحصان بمعنى العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام ، وقوله سبحانه : ( غير مسافحين ) هو جمع مسافح بمعنى الزاني مأخوذ من السفح بمعنى صبّ السائل ، والمراد هنا هو الزاني بشهادة قوله سبحانه في الآية المتأخّرة في نكاح الإماء (وآتوهنّ اُجورهنّ بالمعروف محصنات غير مسافحات ) أي عفائف غير زانيات.

    ومعنى الآية : انّ اللّه تبارك وتعالى شرّع لكم نكاح ماوراء المحرّمات لأجل أن تبتغوا بأموالكم ما يحصنكم ويصون عفّتكم ويصدّكم عن الزنا. وهذا المناط موجود في جميع الأقسام : النكاح الدائم ، والمؤقت والزواج بأمة الغير ، المذكورة في هذه السورة من أوّلها إلى الآية 25.

    هذا هو الذي يفهمه كلّ إنسان من ظواهر الآيات غير انّ من لا يروقه الأخذ بظاهر الآية( فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ اُجورهنّ ) لرواسب نفسية أو بيئية حاول أن يطبّق معنى الآية على العقد الدائم وذكر في المورد شبهات نشير إليها.

    الشبهة الاُولى : إنّ الهدف في تشريع النكاح هو تكوين الاُسرة وإيجاد النسل وهو يختصّ بالنكاح الدائم دون المنقطع الذي لا يترتّب عليه إلاّ إرضاء القوّة الشهوية وصبّ الماء وسفحه.

    يجاب عنها بأنّه خلط بين الموضوع والفائدة المترتّبة عليه. وما ذكر انّما هو من قبيل الحكمة ، وليس الحكم دائراً مدارها ، ضرورة أنّ النكاح صحيح وإن لم يكن هناك ذلك الغرض. كزواج العقيم واليائسة والصغيرة. بل أغلب المتزوّجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر واستيفاء الشهوة من طريقها المشروع ، ولا يخطر ببالهم طلب النسل أصلا وإن حصل لهم قهراً ، ولا يقدح ذلك في صحّة زواجهم.

 

________________________________________

(377)

    ومن العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر مع انّها كالدائم قد يقصد منها النسل والخدمة وتدبير المنزل وتربية الأولاد والارضاع والحضانة.

    ونسأل المانعين الذين يتلقّون نكاح المتعة ، مخالفاً للحكمة التي من أجلها شرّع النكاح ، نسألهم عن الزوجين الذين يتزوّجان نكاح دوام ، ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين فهل هذا نكاح صحيح أو لا ؟ لا أظن أنّ فقيهاً من فقهاء الإسلام يمنع ذلك ، وإلاّ فقد أفتى بغير دليل ولا برهان فيتعيّن الأوّل. فأي فرق يكون حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى انّ المدّة مذكورة في الأول دون الثاني ؟

    يقول صاحب المنار : إنّ تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنيّة الطلاق ، وإن كان الفقهاء يقولون انّ عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت ، ولم يشترطه في صيغة العقد ، ولكن كتمانه إيّاه يعدّ خداعاً وغشّاً وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت (1).

    أقول : نحن نفترض انّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّاً ، حتّى لا يكون هناك خداع وغشّ ، فهو صحيح بلا اشكال.

    الشبهة الثانية : إنّ تسويغ النكاح المؤقت ينافي ما تقرّر في القرآن كقوله عزّوجلّ في صفة المؤمنين : ( والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُون * إلاّ عَلى أزْواجِهِمْ أوْ ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلُومين * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَاُولئِكَ هُمُ العادُون ) (2).

    والمراد من الآية أن من ابتغى وراء ذلك ، هم المتجاوزون ما أحلّه اللّه لهم إلى ما حرّمه عليهم ، والمرأة المتمتّع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي

________________________________________

1 ـ المنار 5 / 17.

2 ـ المؤمنون / 5 ـ 7.

________________________________________

(378)

عليها بالمعروف.

    يلاحظ عليه : انّها دعوى بلا دليل. فانّها زوجة ولها أحكام وعدم وجود النفقة وعدم وجود القسم ، لا يخرجانها عن الزوجيّة فإنّ الناشزة زوجة ليست لها النفقة وحقّ القسم. ومثلها الصغيرة. والعجب أن يستدل بعدم وجود الأحكام على نفي الماهية ، فإنّ الزوجيّة رابطة بين الزوجين يترتّب عليها أحكام وربّما تختص بعض الأحكام ببعض الأقسام.

    الشبهة الثالثة : إنّ المتمتّع في النكاح المؤقت لا يقصد الاحصان دون المسافحة ، بل يكون قصده مسافحة ، فإن كان هناك نوع ما من احصان نفسه ومنعها من التنقّل في دِمَنِ الزنا ، فإنّه لا يكون فيه شيء ما من احصان المرأة التي تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل :

كرة حُذِفْت بصوالجة             فتلقّفها رجل رجل (1)

    يلاحظ عليه : انّه من أين وقف على انّ الاحصان في النكاح المؤقّت ، يختص بالرجل دون المرأة ، فإنّا إذا افترضنا كون العقد شرعياً ، فكل واحد من الطرفين يُحْصن نفسه من هذا الطريق ، وإلاّ فلا محيص عن التنقل في دمن الزنا. والذي يصون الفتاة عن البغي أحد الاُمور الثلاثة :

    1 ـ النكاح الدائم.

    2 ـ النكاح المؤقّت بالشروط الماضية.

    3 ـ كبت الشهوة الجنسية.

    فالأوّل ربّما يكون غير ميسور خصوصاً للطالب والطالبة الذين يعيشان بمنح ورواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدن أو الحكومة ، وكبت الشهوة الجنسية أمر

________________________________________

1 ـ المنار 5 / 13.

________________________________________

(379)

شاق لا يتحمّله إلاّ الأمثل فالأمثل من الشباب والمثلى من النساء ، وهم قليلون ، فلم يبق إلاّ الطريق الثاني ، فيحصنان نفسهما عن التنقل في بيوت الدعارة.

    إنّ الدين الإسلامي هو الدين الخاتم ، ونبيّه خاتم الأنبياء ، وكتابه خاتم الكتب ، وشريعته خاتمة الشرائع فلابد أن يضع لكل مشكلة اجتماعية ، حلولاً شرعية ، يصون بها كرامة المؤمن والمؤمنة ، وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه :

    ماذا يفعل هؤلاء الطلبة والطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم ، وتمنع كرامتهم ودينهم عن التنقل في بيوت الدعارة والفساد ، والحياة المادية بجمالها تؤجّج نار الشهوة في نفوسهم ، فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلاّ من عصمه اللّه ، فلم يبق طريق إلاّ ما ذكره الإمام علي بن أبي طالب ، حيث قال : « لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي أو شقية ».

    وأمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الرجل بحقيقة نكاح المتعة وحدودها ، فإنّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل (1) وغيره إلى الشيعة ، وهم براء من هذا الإفك إذ يجب على المتمتّع بها بعد انتهاء المدّة ، الاعتداد على ما ذكرنا ، فكيف يمكن أن تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل ؟! سبحان اللّه ما أجرأهم على الكذب على الشيعة والفرية عليهم ، وما مضمون الشعر إلاّ جسارة على الوحي والتشريع الإلهي ، وقد اتّفقت كلمة المحدّثين والمفسّرين على التشريع ، وانّه لو كان هناك نهي أو نسخ فانّما هو بعد التشريع والعمل.

    الشبهة الرابعة : إنّ الآية منسوخة بالسنّة ، واختلفوا في زمن نسخه إلى أقوال شتّى :

    1 ـ اُبيحت ثم نهي عنها عام خيبر.

________________________________________

1 ـ لاحظ كتابه : السنّة والشيعة 65 ـ 66.

________________________________________

(380)

    2 ـ ما اُحلّت إلاّ في عمرة القضاء.

    3 ـ كانت مباحة ونهي عنها في عام الفتح.

    4 ـ اُبيحت عام أوطاس ثم نهي عنها (1).

    وهذه الأقوال تنفي الثقة بوقوع النسخ ، على انّ نسخ القرآن بأخبار الاحاد ممنوع جدّاً ، وقد صحّ عن عمران بن الحصين انّه قال : « انّ اللّه أنزل المتعة وما نسخها بآية اُخرى وأمرنا رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) بالمتعة وما نهانا عنها ، ثم قال رجل برأيه » ، يريد به عمر بن الخطاب.

    إنّ الخليفة الثاني لم يدّع النسخ وانّما أسند التحريف إلى نفسه ، ولو كان هناك ناسخ من اللّه عزّوجلّ أو من رسوله ، لأسند التحريم إليهما ، وقد استفاض قول عمر وهو على المنبر :

    متعتان كانتا على عهد رسول اللّه وأنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما : متعة الحج ومتعة النساء بل نقل متكلّم الأشاعرة في شرحه على شرح التجريد انّه قال : أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول اللّه ، وأنا أنهى عنهنّ ، واُحرّمهنّ ، واُعاقب عليهنّ : متعة النساء ومتعة الحج وحىّ على خير العمل(2).

    وقد تقدم في الفصل الرابع بعض الكلام في ذلك أن ابن عباس قال لبعض المناظرين الذين كانوا يحتجون بنهي أبي بكر وعمر : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء. أقول : قال رسول اللّه ، وتقولون : قال أبوبكر وعمر ، حتّى أنّ ابن عمر لمّا سئل عنها ، أفتى بالاباحة ، فعارضوه بقول أبيه ، فقال لهم : أمر رسول اللّه أحقّ أن

________________________________________

1 ـ لاحظ للوقوف على مصادر هذه الأقوال : مسائل فقهية 63 ـ 64 ، الغدير 6 / 225 ، أصل الشيعة واُصولها 171 ، والأقوال في النسخ أكثر مما جاء في المتن.

2 ـ مفاتيح الغيب 10 / 52 ـ 53 ، شرح التجريد للقوشجي 484 طبع ايران.

(381)

يتّبع أم أمر عمر ؟

    كلّ ذلك يعرب عن أنه لم يكن هناك نسخ ولا نهي نبوي وإنّما كان تحريماً من جانب الخليفة. لبعض المصالح المزعومة التي عبّر عنها في غير واحد من كلماته في المقام وفي متعة الحجّ ، وقال : ... ورؤوسنا تقطر ماءً (1).

 

    المنكرون للتحريم :

    إنّ هناك لفيفاً من الصحابة والتابعين أنكروا التحريم بحماس :

    1 ـ علي أميرالمؤمنين ، في ما أخرجه الطبري بالاسناد إليه انّه قال : لولا أنّ عمر نهى عن المتعة مازنى إلاّ شقيّ (2).

    2 ـ عبداللّه بن عمر ، أخرج الامام أحمد من حديث عبداللّه بن عمر ، قال : قد سئل عن متعة النساء واللّه ما كنّا على عهد رسول اللّه زانين ولا مسافحين ، ثم قال : واللّه لقد سمعت رسول اللّه يقول : ليكوننّ قبل يوم القيامة المسيح الدجّال وكذّابون ثلاثون وأكثر (3).

    3 ـ عبداللّه بن مسعود ، روى البخاري عن عبداللّه بن مسعود ، قال : كنّا نغزو مع رسول اللّه وليس لنا شيء ، فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ، ثمّ رخّص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل معيّن ، ثمّ قرأ علينا : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ الممُعْتَدِينَ ) ـ المائدة / 87 ـ (4).

________________________________________

1 ـ المفيد : الارشاد 93 طبع النجف.

2 ـ الطبري التفسير 5 / 9.

3 ـ مسند أحمد 2 / 95.

4 ـ صحيح البخاري ، كتاب النكاح 7 / 4 ، الباب 8 ، الحديث 3.

________________________________________

(382)

    4 ـ عمران بن حصين ، أخرج البخاري في صحيحه عنه ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه ، ولم ينزل قرآن يحرّمها ولم ينه عنها حتّى مات. قال رجل برأيه ما شاء (1).

    أخرج أحمد في مسنده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه وعملنا بها مع رسول اللّه ، فلم تنزل آية تمنعها ، ولم ينه عنها النبىّ حتّى مات (2).

    5 ـ وقد عمد المأمون الخليفة العباسي ، أن يعلن بتحليل المتعة ، ولكنّه خوفاً من الفتنة توقّف عن الاعلان قال ابن خلّكان ، نقلاً عن محمّد بن منصور : قال : كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة ، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء : بكّرا غداً إليه فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا ، وإلاّ فاسكتا إلى أن أدخل ، قال : فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وعلى عهد أبي بكر ـ رضي اللّه عنه ـ وأنا أنهى عنهما ، ومن أنت يا جعل حتّى تنهى عمّا فعله رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وأبوبكر ـ رضي اللّه عنه ـ ؟! فأوما أبو العيناء إلى محمّد بن منصور وقال : رجل يقول من عمر بن الخطاب نكلّمه نحن ؟ فأمسكنا ، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا ، فقال المأمون ليحيى : مالي أراك متغيّراً ؟ فقال : هو غم يا أميرالمؤمنين لما حديث في الإسلام، قال : وما حدث فيه ؟ قال : النداء بتحليل الزنا ، قال : الزنا ؟ قال : نعم ، المتعة زنا ، قال : ومن أين قلت هذا ؟ قال : من كتاب اللّه عزّوجلّ ، وحديث

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري 6 / 27 ، كتاب التفسير ، تفسير سورة البقرة قول ( فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ ).

2 ـ مسند أحمد. لاحظ مسائل فقهية للسيد شرف الدين 70.

________________________________________

(383)

رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) قال اللّه تعالى : ( قَدْ أفْلَحَ المُؤمِنون ) إلى قوله : ( والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إلاّ على أزْواجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلومين * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) (1).

    يا أميرالمؤمنين زوجة المتعة ملك يمين ؟ قال : لا ، قال : فهي ، الزوجة التي عند اللّه ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها ؟ قال : لا ، قال : فقد صار متجاوز هذين من العادين (2).

    عزب عن ابن أكثم ـ وهو كان ممّن يكنّ العداء لآل البيت ـ، أنّ المتعة داخلة في قوله سبحانه ( إلاّ على أزواجكم ) وأمّا عدم الوراثة ، فهو تخصيص في الحكم ، وهو لا ينافي ثبوتها ، وكم لها من نظير ، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم ، وبالعكس ، كما أنّ القاتلة لا ترث وهكذا العكس ، وأمّا الولد ، فيلحق قطعاً ونفي اللحوق ناش إمّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به.

    وما أقبح كلامه حيث فسّر المتعة بالزنا وقد أصفقت الاُمّة على تحليلها عصر الرسول والخليفة الأوّل ، افحسب ابن أكثم انّ الرسول حلّل الزنا ولو مدَّة قصيرة.

كبرت كلمة تخرج من أفواهم :

    وهناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه ، تعرب عن أنّ التحريم كان صميم رأيه ، من دون استناد إلى آية أو رواية.

    روى مسلم في صحيحه : عن ابن أبي نضرة قال : كان ابن عباس يامر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها فذكر ذلك لجابر ، فقال : على يدي دار الحديث : تمتّعنا مع

________________________________________

1 ـ المؤمنون / 1 ـ 7.

2 ـ ابن خلكان : وفيات الأعيان 6 / 149 ـ 150.

________________________________________

(384)

رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فلمّا قام عمر قال : إنّ اللّه كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء فأتمّوا الحجّ والعمرة وابتّوا نكاح هذه النساء فلئِن اُوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة (1).

    وروى الامام أحمد في مسنده عن ابي نضرة : قلت لجابر : إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة وانّ ابن عباس يأمر بها ، فقال لي : على يدي جرى الحديث : تمتّعنا مع رسول اللّه ومع أبي بكر فلمّا ولّى عمر خطب الناس فقال : إنّ القرآن هو القرآن ، وإنّ رسول اللّه هو الرسول ، وإنّهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه إحداهما متعة الحج والاُخرى متعة النساء (2).

    وهذه المأثورات تعرب أولا : عن أنّ المتعة كانت باقية على الحل إلى عهد الخليفة ولم تكن محرّمة إلى زمان تولي عمر الأمر فنهى ومنع.

    وثانياً : انّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب والسنّة ، ومن المعلوم انّ اجتهاده ـ لو صحّت تسميته بالإجتهاد ـ حجّة على نفسه لا على غيره.

    وفي الختام نقول :

    إنّ الجهل بفقه الشيعة أدّى كثيراً من الكتّاب إلى القول أنّ من أحكام المتعة عند الشيعة انّه لا نصيب للولد من ميراث أبيه ، وانّ المتمتَّع بها لا عدّة لها ، وانّها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت. ومن أجل هذا استقبحوا المتعة واستنكروها وشنعوا على من أباحها.

    وقد خفي الواقع على هؤلاء ، وانّ المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم إلاّ بالعقد الدال على قصد الزواج صراحة ، وانّ المتمتَّع بها يجب أن تكون خالية من

________________________________________

1 ـ مسلم : الصحيح 4 / 130 باب نكاح المتعة الحديث 8 ، طبع محمد علي صبيح.

2 ـ أحمد : المسند 1 / 52.

________________________________________

(385)

جميع الموانع ، وانّ ولدها كالولد من الدائمة من وجوب التوراث ، والانفاق وسائر الحقوق المادية وانّ عليها أن تعتد بعد إنتهاء الأجل مع الدخول بها ، وإذا مات زوجها وهي في عصمته اعتدّت كالدائمة من غير تفاوت ، إلى غير ذلك من الآثار (1).

________________________________________

1 ـ الاثنا عشرية وأهل البيت تأليف مغنية 46.

________________________________________

(386)

________________________________________

(387)

    المسألة الثامنة :

مسح الأرجل في الوضوء

    اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما ، فذهب الأئمّة الأربعة إلى أنّ الواجب هو الغسل وحده ، وقالت الشيعة الامامية انّه المسح ، وقال داود بن علي والناصر للحق من الزيدية يجب الجمع بينهما وهو صريح الطبري في تفسيره : ونقل عن الحسن البصري انّه مخيّر بينهما (1).

    وممّا يثير العجب اختلاف المسلمين في هذه المسالة ، مع أنّهم رأوا وضوء رسول اللّه كلّ يوم وليلة في موطنه ومهجره ، وفي حضره وسفره ومع ذلك اختلفوا في أشدّ المسائل ابتلاءً وهذا يعرب عن أنّ الاجتهاد لعب في هذه المسألة دوراً عظيماً ، فجعل أوضح المسائل أبهمها.

    إنّ الذكر الحكيم تكفّل لبيان المسألة وما أبقى فيها ابهاماً واعضالاً ، وكان الحاضرون في عصر النزول فهموا من الآية معنىً واحداً. إمّا المسح أو الغسل ،

________________________________________

1 ـ الطبري : التفسير 6 / 86 ومفاتيح الغيب 11 / 162 والمنار 6 / 228.

________________________________________

(388)

ولم يتردّدوا في حكم الرجلين أبداً. ولو خفي حكم هذه المسألة بعد رحلة الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) على الأجيال الآتية فلا غرو في أن يخفى على المسلمين حكم أكثر المسائل.

    وليس فيها شيء أوثق من كتاب اللّه فعلينا دراسة ما جاء فيه ، قال سبحانه : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلوةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ إلى المَرافِقِ وامْسَحُوا بَرؤوسِكُمْ وَأرْجُلَكُمْ إلى الكَعْبَيْن ) (1) وقد اختلف القرّاء في قراءة ( وأرجلكم إلى الكعبين ) فمنهم من قرأ بالخفض ، ومنهم من قرأ بالكسر. ومن البعيد أن تكون كلّ من القراءتين موصولة إلى النبيّ ، فإنّ تجويزهما يضفي على الآية ابهاماً واعضالا ، ويجعل الآية لغزاً ، والقرآن كتاب الهداية والارشاد ، وتلك الغاية تطلب لنفسها الوضوح وجلاء البيان ، خصوصاً فيما يتعلّق بالأعمال والأحكام التي يبتلى بها عامّة المسلمين ، ولا تقاس بالمعارف والعقائد التي يختصّ الامعان فيها بالأمثل فالأمثل. وعلى كل تقدير فممّن حقّق مفاد الآية وبيّنها الامام الرازي في تفسيره ، ننقل كلامه بتلخيص :

 

    قال : حجّة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله ( وأرجلكم ) وهما :

    الأوّل : قرأ ابن كثير و حمزة وأبو عمرو وعاصم ـ في رواية أبوبكر عنه ـ بالجرّ.

    الثاني : قرأ نافع وابن عامر وعاصم ـ في رواية حفص عنه ـ بالنصب.

    أمّا القراءة بالجرّ فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس ، فكما وجب المسح في الرأس ، فكذلك في الأرجل.

________________________________________

1 ـ المائدة / 6.

________________________________________

(389)

    فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الجرّ على الجوار ؟ كما في قوله : « جُحْرُ ضَبٍّ خَرِِبٍ » وقوله : « كَبيرُ اُناسٍ في بِجادٍ مَزَمِّلٍ ».

    قيل : هذا باطل من وجوه :

    1 ـ إنّ الكسر على الجوار معدود من اللحن الذي قد يتحمّل لأجل الضرورة في الشعر ، وكلام اللّه يجب تنزيهه عنه.

    2 ـ إنّ الكسر على الجوار انّما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله : « جُحرُضَبٍّ خَرِب » فإنّ « الخَرِب » لا يكون نعتاً للضبّ بل للجحر ، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.

    3 ـ إنّ الكسر بالجوار انّما يكون بدون حرف العطف وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلّم به العرب.

    وأمّا القراءة بالنصب فهي أيضاً توجب المسح ، وذلك لأنّ « برؤوسكم » في قوله ( فامسحوا برؤوسكم ) في محل النصب (1) بامسحوا لأنّه المفعول به ولكنّها مجرورة لفظاً بالباء فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس ، وجاز الجر عطفاً على الظاهر.

    ونزيد بياناً انّه على قراءة النصب يتعيّن العطف على محل برؤوسكم ولا يجوز العطف على ظاهر « أيديكم » لاستلزامه الفصل بين العاطف والمعطوف عليه بجملة أجنبية وهو غير جائز في المفرد ، فضلاً عن الجملة ، هذا هو الذي يعرفه المتدبّر في الذكر الحكيم ، ولا يسوغ لمسلم أن يعدل عن القرآن إلى غيره فإذا كان هو المهيمن

________________________________________

1 ـ يقال ليس هذا بعالم ولا عاملا. قال الشاعر :

معاوي انّنا بشر فاسجح          فلسنا بالجبال ولا الحديدا

لاحظ : المغني لابن هشام : الباب الرابع.

________________________________________

(390)

على جميع الكتب السماوية فأولى أن يكون مهيمناً على ما في أيدي الناس من الحقّ والباطل والمأثورات التي الحديث فيها ذو شجون (1) مع كونها متضاربة في المقام ، فلو ورد فيها الأمر بالغسل ، فقد جاء فيها الأمر بالمسح. رواه الطبري عن الصحابة والتابعين نشير إليه على وجه الاجمال :

    1 ـ ابن عباس ، قال : الوضوء غسلتان ومسحتان.

    2 ـ كان أنس إذا مسح قدميه بلّهما. ولمّا خطب الحجّاج وقال : ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه في قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقبيهما ، قال أنس : صدق اللّه وكذب الحجّاج ، قال اللّه ( واسمحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) وكان أنس إذامسح قدميه بلّهما.

    3 ـ عكرمة ، قال : ليس على الرجلين غسل وانّما نزل فيهما المسح.

    4 ـ الشعبي قال : نزل جبرائيل بالمسح وقال : ألاترى انّ التيمّم أن يمسح ما كان غسلاً ويلغى ما كان مسحاً.

    5 ـ عامر : اُمر أن يمسح في التيمّم ما اُمر أن يغسل بالوضوء واُبطل ما اُمر أن يمسح في الوضوء : الرأس والرجلان. وقيل له : إنّ اُناسا يقولون : إنّ جبرائيل نزل بغسل الرجلين فقال : نزل جبرائيل بالمسح.

    6 ـ قتادة : في تفسير الآية : افترض اللّه غسلتين ومسحتين.

    7 ـ الأعمش : قرأ « وأرجلكم » مخفوضة اللام.

    8 ـ علقمة : قرأ « أرجلكم » مخفوضة اللام.

    9 ـ الضحاك : قرأ « وأرجلكم » بالكسر.

________________________________________

1 ـ لاحظ الجزء الأوّل من هذه الموسوعة : فصل « علل تكوّن المذاهب وأسبابه ».

(391)

    10 ـ مجاهد : مثل ما تقدّم (1).

    وهؤلاء من أعلام التابعين وفيهم الصحابيان : ابن عباس وأنس وقد أصفقوا على المسح وقراءة الجر الصريح في تقديم المسح على الغسل ، وجمهور أهل السنّة يحتجّون بأقوالهم في مجالات مختلفة ، ولماذا ، أعرض عنهم الأئمّة الأربعة ؟

أنا لا أدري.

    إنّ القول بالمسح هو المنصوص عن أئمّة أهل البيت وهم يُسندون المسح إلى النبي الأكرم ويحكون وضوءه به قال أبوجعفر الباقر ( عليه السلام ) : ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه ؟ ثمّ أخذ كفّاً من الماء فصبّها على وجهه ... إلى أن قال : ثمّ مسح رأسه وقدميه. وفي رواية اُخرى ثمّ

مسح ببقيّة مابقى في يديه ، رأسه ورجليه ولم يعدهما في الاناء (2).

    وفي ضوء هذه الروايات والمأثورات اتّفقت الشيعة الامامية على أنّ الوضوء غسلتان ومسحتان وقال السيّد بحر العلوم في منظومته الموسومة بالدرة النجفيّة :

انّ الوضوء غسلتان عندنافالغسل للوجه ولليدين                   ومسحتان والكتاب معناوالمسح للرأس وللرجلين

    وبعد وضوح دلالة الآية ، واجماع أئمّة أهل البيت على المسح ، لا يبقى مجال للاستدلال على الغسل ، وإليك ما ذكروا من وجوه باطلة.

    1 ـ انّ الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل ، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه ويكون غسل

________________________________________

1 ـ الطبري : التفسير 6 / 82 ـ 83.

2 ـ الحرّ العاملي : الوسائل 1 ، الباب 15 من أبواب الوضوء ، الحديث 9 و 10.

________________________________________

(392)

الأرجل يقوم مقام مسحها (1).

    يلاحظ عليه : أنّ أخبار الغسل معارضة بأخبار المسح ، وليس شيء أوثق من كتاب اللّه فلو دلّ على لزوم المسح ، لا يبقى مجال لترجيحه على روايات الغسل. والقرآن هو المهيمن على الكتب والمأثورات ، والمعارض منها للكتاب لا يقام لها وزن.

    وأعجب من ذلك قوله : إنّ الغسل مشتمل على المسح ، مع أنّهما حقيقتان مختلفتان ، فالغسل إمرار الماء على المغسول ، والمسح إمرار اليد على الممسوح (2).

    وهما حقيقتان مختلفتان لغة وعرفاً وشرعاً ولو حاول الاحتياط لوجب الجمع بين المسح والغسل ، لا الاكتفاء بالغسل.

    2 ـ ما روي عن علي أنّه كان يقضي بين الناس فقال « وأرجلكم » هذا من المقدّم والمؤخّر في الكلام فكأنّه سبحانه قال : « فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق واغسلوا أرجلكم وامسحوا برؤوسكم ».

    يلاحظ عليه : أنّ أئمّة أهل البيت كالباقر والصادق ( عليهما السلام ) أدرى بما في البيت وهم اتّفقوا على المسح وهل يمكن الاتّفاق على المسح ، مع اعتقاد كبيرهم بالغسل. وما روي موضوع عن لسان الامام ليثيروا الشك بين أتباعه وشيعته. ولا نعلّق على احتمال التقديم والتأخير شيئاً ، سوى أنّه يجعل معنى الآية شيئاً مبهماً في المورد الذي يطلب فيه الوضوح ، إذ هي المرجع للقروي والبدوي ، وللحاضر عصر النزول ، والغائب عنه ، فيجب أن يكون على نسق ينتقل منه إلى المراد ، ثمّ إنّه

________________________________________

1 ـ الرازي : مفاتيح الغيب 11 / 162.

2 ـ قال سبحانه حاكياً عن سليمان : ( رُدّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ والأعْناق ) ـ ص / 33 ـ أي مسح بيده على سوق الصافنات الجياد وأعناقها.

________________________________________

(393)

أىّ ضرورة اقتضت هذا التقديم والتأخير ، مع أنّه كان من الممكن ذكر الأرجل بعد الأيدي من دون تأخير ؟ ولو كان الدافع إلى التأخير هو بيان الترتيب ، وانّ غسل الأرجل بعد مسح الرأس ، فكان من الممكن أن يُذكر فعله ويقال « فامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ». كل ذلك يعرب عن أنّ هذه محاولات فاشلة لتصحيح الاجتهاد تجاه النص وما عليه أئمة أهل البيت من الاتّفاق على المسح.

    3 ـ ما روي عن ابن عمر في الصحيحين قال : تخلّف عنّا رسول اللّه في سفره ، فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، وجعلنا نتوضّأ ونمسح على أرجلنا ، قال : فنادى بأعلى صوته : « ويل للأعقاب من النار » ـ مرتين أو ثلاث ـ (1).

    يلاحظ عليه : أنّ هذه الرواية على تعيّن المسح أدلّ من دلالته على غسل الرجلين فإنّها صريحة في أنّ الصحابة كانوا يمسحون ، وهذا دليل على أنّ المعروف عندهم هو المسح. وما ذكره البخاري من أنّ الانكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على بعض الرجل ، اجتهاد منه ، وهو حجّة عليه لا على غيره ، فكيف يمكن أن يخفى على ابن عمر حكم الرجلين حتّى يمسح رجليه عدّة سنين إلى أن ينكر عليه النبيّ المسح ؟! على أنّ للرواية معنى آخر تؤيّده بعض المأثورات ، فقد روي أنّ قوماً من أجلاف العرب ، كانوا يبولون وهم قيام فيتشرشر البول على أعقابهم وأرجلهم فلا يغسلونها ويدخلون المسجد للصلاة ، وكان ذلك سبباً لذلك الوعيد (2) ويؤيّد ذلك ما يوصف به بعض الأعراب بقولهم : بوّال على عقبيه ، وعلى فرض كون المراد ما ذكره البخاري ، فلا تقاوم الرواية نص الكتاب.

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري ج 1 كتاب العلم ص 18 باب من رفع صوته ، الحديث 1.

2 ـ مجمع البيان 2 / 167.

________________________________________

(394)

    4 ـ روى ابن ماجة القزويني عن أبي إسحاق عن أبي حية ، قال : رأيت عليّاً توضّأ فغسل قدميه إلى الكعبين ثمّ قال : أردت أن اُريكم طهور نبيّكم (1).

    يلاحظ عليه : أنّ أبا حية مجهول لا يعرف ، ونقله عنه أبوإسحاق الذي شاخ ونسى واختلط وترك الناس روايته (2) أضف إليه انّه يعارض ما رواه عنه أهل بيته ، وأئمّة أهل بيته ، خصوصاً من لازمه في حياته وهو ابن عباس كما مرّ.

    5 ـ قال صاحب المنار : وأقوى الحجج اللفظية على الامامية جعل الكعبين غاية طهارة الرجلين وهذا لا يحصل إلاّ باستيعابهما بالماء ، لأنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل.

    يلاحظ عليه : أنّا نفترض أنّ المراد من الكعبين هو ما ذكره ، لكن نسأله : لماذا لا تحصل تلك الغاية إلاّ باستيعابهما بالماء ؟ مع أنّه يمكن تحصيل تلك الغاية بمسحهما بالنداوة المتبقية في اليد ، والاختبار سهل ، فها نحن من الذين يمسحون الأرجل إلى العظمين الناتئين بنداوة اليد ولا نرى في العمل اعضالا وعسراً.

    6 ـ الامامية يمسحون ظاهر القدم إلى معقد الشراك عند المفصل بين الساق والقدم ، ويقولون هو الكعب ، ففي الرجل كعب واحد على رأيهم ، فلو صحّ هذا لقال إلى الكعاب كما قال في اليدين إلى المرافق (3).

    يلاحظ عليه : إنّ المشهور بين الامامية هو تفسير الكعب بقبّة القدم التي هي معقد الشراك ، وهناك من يذهب إلى أنّ المراد هو المفصل بين الساق والقدم وذهب قليل منهم إلى أنّ المراد هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل وعلى كل تقدير ، يصح

________________________________________

1 ـ سنن ابن ماجة 1 / 170 باب ما جاء في غسل القدمين الحديث الأوّل.

2 ـ لاحظ التعليقة لسنن ابن ماجة 170 وميزان الاعتدال للذهبي 4 / 519 ، برقم 10138 و ص 489 باب « أبو إسحاق ».

3 ـ المنار 6 / 234.

________________________________________

(395)

اطلاق الكعبين ، وإن كان حدّ المسح هو معقد الشراك أو المفصل. فيكون المعنى « فامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين منكم » إذ لا شك أنّ كلّ مكلّف يملك كعبين في رجليه.

    أضف إلى ذلك انّه لو صحّ التفسير بما ذكره يجب أن يوسع الممسوح ويحدّد بالعظمين الناتئين لا أن يبدّل المسح بالغسل ، وكأنّه تخيّل أن المسح بالنداوة المتبقّية في اليد لا يتحقّق إليهما وتجفّ اليد قبل الوصول إليهما.

    ولعمري انّ هذه اجتهادات واهية ، وتخرّصات لاقيمة لها في مقابل الذكر الحكيم.

    7 ـ آخر ما عند صاحب المنار في توجيه غسل الأرجل هو التمسّك بالمصالح ، حيث قال : لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبلّلة بالماء حكمة ، بل هو خلاف حكمة الوضوء ، لأنّ طروء الرطوبة القليلة على العضو الذي عليه غبار أو وسخ ، يزيده وساخة ، وينال اليد الماسحة حظ من هذه الوساخة.

    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره استحسان لا يُعرَّج عليه مع وجود النص ، فلا شك انّ الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية ولا يجب علينا أن نقف عليها ، فأي مصلحة في المسح على الرأس ولو بمقدار اصبع أو اصبعين حتّى قال الشافعي : إذا مسح الرجل باصبع واحدة أو بعض اصبع أو باطن كفه ، أو أمر من يمسح له أجزأه ذلك ، وهناك كلمة قيّمة للامام شرف الدين الموسوي نأتي بنصها ، فقال : نحن نؤمن بأنّ الشارع المقدّس لاحظ عباده في كل ما كلّفهم به من أحكامه الشرعية ، فلم يأمرهم إلاّ بما فيه مصلحتهم ، ولم ينههم إلاّ عمّا فيه مفسدة لهم ، لكنّه مع ذلك لم يجعل شيئاً من مدارك تلك الأحكام منوطاً من حيث المصالح والمفاسد بآراء العباد ، بل تعبّدهم بأدلّة قويّة عيّنها لهم ، فلم يجعل لهم مندوحة عنها إلى ما سواها. وأوّل تلك الأدلّة الحكيمة كتاب اللّه عزّوجلّ ، وقد حكم بمسح الرؤوس والأرجل في الوضوء ،

 

________________________________________

(396)

فلا مندوحة عن البخوع لحكمه ، أمّا نقاء الأرجل من الدنس فلابدّ من احرازه قبل المسح عليها عملاً بأدلّة خاصّة دلّت على اشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه (1) ولعلّ غسل رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) رجليه ـ المدعى في أخبار الغسل ـ انّما كان من هذا الباب ولعلّه كان من باب التبرّد ، أو كان من باب المبالغة في النظافة بعد الفراغ من الوضوء واللّه أعلم (2).

________________________________________

1 ـ ولذاترى حفاة الشيعة والعمال منهم كأهل الحرث وأمثالهم وسائر من لا يبالون بطهارة أرجلهم في غير أوقات العبادة المشروطة بالطهارة ، إذا أرادوا الوضوء غسلوا أرجلهم ثمّ توضّأوا فمسحوا عليها نقيّة جافّة.

2 ـ مسائل فقهيه 82

________________________________________

(397)

    المسألة التاسعة :

عقيدة الشيعة الإماميّة في الصحابة

    صحابة النبي الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) هم الذين رأوا النبيّ الأكرم وتشرّفوا بكرامة الصحبة وبذل لفيف منهم النفس والنفيس في نشر الإسلام حتّى ضرب بجرانه واتّسع نطاقه. فشادوا بنيانه ، ورفعوا قواعده بجهادهم المتواصل ، وبلغوا ذروة المجد باستسهال المصاعب ، فلولا بريق سيوفهم ، وقوّة سواعدهم ، وخوضهم عباب المنايا ، لما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ له عود.

    إنّ الكتاب والسنّة هما المصدران الرئيسيان عند المسلمين جميعاً ، والشيعة خاصة ، ولا يجوز لمسلم أن يحكم بأمر شرعيّ إلاّ بالرجوع إليهما. ولا يخالفهما إلاّ منافق أو تاجر بالدين.

    والكتاب والسنّة يثنيان على الصحابة ، ومن تلى آيات الذكر الحكيم حول

 

________________________________________

(398)

المهاجرين والذين اتّبعوهم بإحسان (1) يغبط هؤلاء ويتمنّى من صميم قلبه أن يكون أحدهم. ويدرك شأنهم ، ومن استمع للآيات النازلة في المبايعين تحت الشجرة (2) أو أصحاب سورة الفتح (3) فاضت عيناه دموعاً من الشوق إلى هؤلاء الذين ركبوا الطريق ، ومضوا ، وتعاقدوا على المنيّة.

    فإذا كان هذا حال الصحابة في الذكر الحكيم فكيف يتجرّأ مسلم على تكفير الصحابة ورميهم بالردّة والزندقة أو تفسيقهم جميعاً. ( سبحانك هذا بهتان عظيم ).

    وكيف يستطيع أن يصوّر دعوة النبي ضئيلة الفائدة أو يتهمه بعدم النجاح في هداية قومة وارشاد اُمّته وانّه لم يؤمن به إلاّ شرذمة قليلة لا يتجاوزون عدد الأصابع وانّ ما سواهم كانوا بين منافق ستر كفره بالتظاهر بالايمان ، أو مرتدّ على أدباره القهقرى بعد رحلة النبيّ الأكرم.

    كيف يجوز لمسلم أن يصف دعوته ويقول : انّه لم يهتد ولم يثبت على الإسلام بعد مرور ( 23 ) عاماً من الدعوة إلاّ ثلاثة أو سبعة أو عشرة. وأي شيعي واع ادّعى ذلك ؟ ومتى قال ؟ وأين ذكره ؟ إن هو إلاّ جزء من الدعايات الفارغة ضدّ الشيعة أثارها الأمويّون في أعصارهم ، ليسقطوا الشيعة من عيون المسلمين وتلقّفتها أقلام المستأجرين لتمزيق الوحدة الإسلامية وفصم عرى الاخوّة. وترى تلك الفرية في هذه الأيام في كتيّب نشره الكاتب أبو الحسن الندوي أسماه بـ « صورتان متعارضتان ». وهو يجترّ ذلك مرّة بعد اُخرى يجتره صنائع الوهابية في المنطقة.

    نعم وردت روايات في ذلك ولكنّها لا تكون مصدراً للعقيدة ولا تتّخذ مقياساً

________________________________________

1 ـ التوبة : 100 : ( والذين اتبعوهم بإحسان ... ).

2 ـ الفتح : 18 : ( لقد رضى اللّه عن المؤمنين ... ).

3 ـ الفتح : 29 : ( محمّد رسول اللّه والذين معه ... ).

________________________________________

(399)

لها لأنّها روايات آحاد لا تفيد علماً في مجال العقائد ، وستوافيك دراسة متنها وسندها.

    إنّا لو أحصينا المهتدين في عصر الرسول من بني هاشم لتجاوز عددهم العشرات بدءاً من عمّه أبي طالب ومروراً بصفيّة عمّته ، وفاطمة بنت أسد ، وبحمزة والعباس وجعفر وعقيل وطالب وعبيدة بن الحارث « شهيد بدر » وأبي سفيان بن الحارث ونوفل بن الحارث وجعدة بن أبي هبيرة وأولادهم وزوجاتهم ، وانتهاءً بعلي ( عليه السلام ) وأولاده وبناته وزوجته سيّدة نساء العالمين.

    أمّا الذين استشهدوا في عهد النبيّ الأكرم فهم يتجاوزون المئات ولا يشك أيّ مسلم في أنّهم كانوا من المؤمنين الصادقين الذين حوّلهم الإسلام وأثّر فيهم ، وضربوا في حياتهم أروع الأمثلة في الايمان والتوحيد والتضحية ، بالغالي والرخيص ، خدمة للمبدأ والعقيدة. ابتداءً من ياسر وزوجته سميّة أوّل شهيد وشهيدة في الإسلام وكان الرسول يقول لهم وهو يسمع أنينهم تحت سياط التعذيب : « صبراً آل ياسر إنّ موعدكم الجنّة » (1) مروراً بمن توفّي في مهجر الحبشة إلى شهداء بدر واُحد ، وقد استشهد في معركة اُحد سبعون صحابياً دفنهم النبيّ الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وصلّى عليهم وكان يزورهم ويسلّم عليهم ، ثم شهداء سائر المعارك والغزوات حتّى قال النبيّ الأكرم ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) في حقّ سعد بن معاذ شهيد غزوة الخندق : اهتزّالعرش لموته ، وشهداء بئر معونة ويتراوح عدد الشهداء بين 40 حسب رواية أنس بن مالك أو 70 حسب رواية غيره ، إلى غير ذلك من الأصحاب الصادقين الأجلاّء الذين : ( صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ

________________________________________

1 ـ السيرة النبوية لابن هشام 1 / 320 طبعة الحلبي.

________________________________________

(400)

قضى نَحْبَهُ ومِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر وما بَدَّلُوا تَبديلاً ) (1) ، ( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيماناً وقالوا حَسْبُنا اللّهُ وَنِعْمَ الوَكيلُ ) (2) ، ( للفُقَراءِ المُهاجرينَ الَّذِينَ اُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وأمْوالِهُمْ يِبتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللّهِ وَرِضْواناً ويَنْصُرُونَ اللّهَ ورسولَهُ ... * والَّذِينَ تَبَوّء والدّارَ والإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إلَيهِمْ ولا يَجِدُونَ في صُدُورِهِمْ حاجةً مِمّا اُوتوا ويُؤثِرُونَ على أنفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (3).

    أو ليست هذه الآيات تثبت نجاح النبيّ في دعوته ، وانّه اجتمع حوله رجال صالحون ومخلصون فكيف يمكن رمي مسلم يتلو الذكر الحكيم ليل نهار باعتقاده بخيبة النبيّ الأكرم في دعوته وتهالكه في هداية اُمّته. إنّ الموقف الصحيح من الصحابة ، هو ما جاء في كلام الإمام أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) :

    « أين اخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق ؟ أين عمّار ؟ وأين ابن التيهان ؟ وأين ذو الشهادتين ؟ وأين نظراؤهم من اخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة واُبرد برؤوسهم إلى الفجرة ؟ اوّه على اخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبّروا الفرض فأقاموه. أحيوا السنّة وأماتوا البدعة دعوا للجهاد فأجابوا ووثقوا بالقائد فاتّبعوه » (4).

    وليس ما جاء في هذه الخطبة فريداً في كلامه ، فقد وصف أصحاب رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يوم صفّين ، يوم فرض عليه الصلح بقوله :

________________________________________

1 ـ الأحزاب / 23.

2 ـ آل عمران/ 173.

3 ـ الحشر / 8 ـ 9.

4 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 182.

(401)

    « ولقد كنّا مع رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) نقتل آباءنا وأبناءنا واخواننا وأعمامنا ، ما يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً ، ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم ، وجدّاً في جهاد العدوّ ، ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوّنا يتصاولان تصاول الفحلين ، يتخالسان انفسهما أيّهما يسقي صاحبه كاس المنون ، فمرّة لنا من عدوّنا ، ومرّة لعدوّنا منّا. فلمّا رأى اللّه صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت ، وأنزل علينا النصر ، حتّى استقرّ الإسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه ، ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود ، ولا اخضرّ للايمان عود » (1).

    هذه كلمة الامام قائد الشيعة وامامهم أفهل يجوز لمن يؤمن بإمامته أن يكفّر جميع صحابة النبي أو يفسقهم أو ينسبهم إلى الزندقة والالحاد أو الارتداد ، من دون أن يقسّمهم إلى أقسام ويصنّفهم اصنافا ويذكر تقاسيم القرآن والسنّة في حقّهم ؟ كلاًّ ولا ، وهذا هو الامام علي بن الحسين يذكر في بعض أدعيته صحابة النبيّ ويقول : اللّهمّ وأصحاب محمّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) خاصّة الذين أحسنوا الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكانفوه وأسرعوا إلى وفادته وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له حيث أسمعهم حجّة رسالاته ، وفارقوا الأزواج والأولاد في اظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوّته ، وانتصروا به ومن كانوا منطوين على محبّته ، يرجون تجارة لن تبور في مودّته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظلّ قرابته ، فلا تنس لهم اللّهمّ ما تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك إليك ، واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ، ومن كثرت في اعزاز دينك من مظلومهم ، اللّهمّ واوصل التابعين

________________________________________

1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 56.

________________________________________

(402)

لهم باحسان الذين يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا ... (1).

    فإذا كان الحال كذلك ، واتّفق الشيعي والسنّي على اطراء الذكر الحكيم للصحابة والثناء عليهم فما هو موضع الخلاف بين الطائفتين كي يعد ذلك من أعظم الخلاف بينهما ؟

    إنّ موضع الخلاف ليس إلاّ في نقطة واحدة وهي أنّ أهل السنّة يقولون بأنّ كل من رأى النبيّ وعاشره ولو يوماً أو يومين فهو محكوم بالعدالة منذ اللقاء إلى يوم اُدرج في كفنه ، ولو صدر منه قتل أو نهب أو زنا أو غير ذلك ، محتجّين بما نسب إلى رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. ولو تليت عليهم التواريخ المتضافرة يقولون بما ذكره الحسن البصري : اولئك الذين طهّر اللّه سيوفنا عن دمائهم فلنطهّر ألسنتنا عن أعراضهم. ولا أظن أنّ الحسن البصري يعتقد بما قال.

    وقد تدرّع بهذه الكلمة وصان بها نفسه عن هجمات الأمويين الذين كانوا يروّجون عدالة الصحابة في جميع الأزمنة بل يلبسونهم ثوب العصمة ، إلى حدّ كان القدح بالصحابي أشدّ من القدح برسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فنفي العصمة عن النبيّ واتهامه بالذنب قبل بعثه وبعده كان أمراً سهلاً يطرح بصورة عقيدة معقولة ولا يؤاخذ القائل به ، وأمّا من نسب صغيرة أو كبيرة إلى صحابي فأهون ما يواجهونه به هو الاستتابة وإلاّ فالقتل ..

    فإذا كان هذا هو محلّ النزاع أي عدالة الكل بلا استثناء أو تصنيفهم إلى مؤمن وفاسق ومثالي وعادي ، إلى زاهد ومتوغّل في حبّ الدنيا ، إلى عالم بالشريعة وعامل بها وجاهل لا يعرف منها إلاّ شيئاً طفيفاً ، فيجب تحليل المسألة على ضوء الكتاب والسنّة مجرّدين عن كل رأي مسبق لا النزول على العاطفة التي تحمل المسلم

________________________________________

1 ـ الصحيفة السجادية : الدعاء 4.

________________________________________

(403)

على الحكم بنزاهة الصحابة كلّهم ، ورفض ما خلّفته الحوافز.

    ولأجل اماطة الستر عن وجه الحقيقة نذكر اُموراً :

 

    الصحابة في القرآن الكريم :

    1 ـ إنّ القرآن الكريم يصنّف الصحابة إلى اصناف مختلفة ، فهو يتكلّم عن السابقين الأوّلين ، والمبايعين تحت الشجرة ، والمهاجرين المهجّرين عن ديارهم وأموالهم ، وأصحاب الفتح ، إلى غير ذلك من الأصناف المثالية ، الذين يثني عليهم ويذكرهم بالفضل والفضيلة ، وفي مقابل ذلك يذكر أصنافاً اُخرى يجب أن لا تغيب عن أذهاننا وتلك الأصناف هي التالية :

    1 ـ المنافقون المعروفون (1).

    2 ـ المنافقون المتستّرون الذين لا يعرفهم النبيّ (2).

    3 ـ ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب (3).

    4 ـ السمّاعون لأهل الفتنة (4).

    5 ـ المجموعة الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً (5).

    6 ـ المشرفون على الارتداد عندما دارت عليهم الدوائر (6).

________________________________________

1 ـ المنافقون / 1.

2 ـ التوبة / 101.

3 ـ الأحزاب/ 11.

4 ـ التوبة / 45 ـ 47.

5 ـ التوبة / 102.

6 ـ آل عمران / 154.

________________________________________

(404)

    7 ـ الفاسق أو الفسّاق الذين لا يصدق قولهم ولا فعلهم (1).

    8 ـ المسلمون الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم (2).

    9 ـ المؤلّفة قلوبهم الذين يظهرون الإسلام ويتآلفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم (3).

    10 ـ المولّون أمام الكفّار (4).

    هذه الأصناف إذا انضمّت إلى الأصناف المتقدّمة ، تعرب عن أنّ صحابة النبيّ الأكرم لم يكونوا على نمط واحد ، بل كانوا مختلفين من حيث قوّة الإيمان وضعفه ، والقيام بالوظائف والتخلّي عنها ، فيجب اخضاعهم لميزان العدالة الذي توزن به أفعال جميع الناس ، وعندئذ يتحقّق انّ الصحبة لا تعطي لصحابها منقبة إلاّ إذا كان أهلاً لها ، ومع ذلك فكيف يمكن رمي الجميع بسهم واحد واعطاء الدرجة الواحدة للجميع ، وهذا هو رأي الشيعة فيهم ، وهو نفس النتيجة التي يخرج بها الإنسان المتدبّر للقرآن الكريم.

    2 ـ إنّ الآيات التي تناولت المهاجرين والأنصار ، وغيرهم بالمدح والثناء ، لا تدلّ على أزيد من أنّهم كانوا حين نزول القرآن مُثلا للفضل والفضيلة ولكن الاُمور انّما تعتبر بخواتيمها ، فيحكم عليهم ـ بعد نزول الآيات ـ بالصلاح والفلاح إذا بقوا على ما كانوا عليه من الصفات ، وأمّا لو ثبت عن طريق السنّة أو التاريخ الصحيح انّه صدر عن بعضهم ما لا تحمد عاقبته ، فحينئذ لا مندوحة لنا إلاّ الحكم بذلك ، ولا يعد مثل ذلك معارضاً للقرآن الكريم لأنّه ناظر إلى أحوالهم في

________________________________________

1 ـ الحجرات / 6 ، السجدة / 18.

2 ـ الحجرات / 14.

3 ـ التوبة / 60.

4 ـ الأنفال / 15 ـ 16.

________________________________________

(405)

ظروف خاصّة ، لا في جميع فصول حياتهم ، فليس علينا رفع اليد عن السنّة والتاريخ الصحيح بحجّة أنّ القرآن الكريم مدحهم وأنّ اللّه رضي عنهم ، لما عرفت من أنّ المقياس القاطع للقضاء هو دراسة جميع أحوالهم ، فكم من مؤمن زلّ قدمه في الحياة ، فعاد منافقاً ، أو مرتدّاً ، وكم من ضالّ شملته العناية الإلهية فبصر الطريق وصار رجلاً إلهياً ، وبالجملة فمن ثبت عن طريق الدليل الصحيح انحرافه وزيغه عن الصراط المستقيم وشوب ايمانه بالظلم والعيث والفساد ، فيؤخذ بما هو الثابت في ذينك المصدرين ، وأمّا من لم يثبت زيغه فلا نتكلّم في حقّه بشيء سوى ما أمر اللّه به سبحانه من طلب الرحمة لهم حيث قال : ( رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ ) (1).

    3 ـ ومن سوء الحظ انّ شرذمة قليلة من الصحابة ، زلّت أقدامهم وانحرفوا عن الطريق ، فلا تمس دراسة أحوال هؤلاء القليلين ، وتبيين مواقفهم ، وانحرافهم عن الطريق المستقيم بكرامة الباقين ، ولعلّ عدد المنحرفين ( غير المنافقين ) لا يتجاوز العشرة إلاّ بقليل.

    أفيسوغ في ميزان النصفة رمي الشيعة بأنّهم يكفّرون الصحابة ويفسّقونهم بحجّة أنّهم يدرسون حياة عدّة قليلة منهم ويذكرون مساوئ أعمالهم ، وما يؤاخذ عليهم على ضوء الكتاب والسنّة والتاريخ الصحيح.

    وما نسب إلى الحسن البصري فهو أولى بالاعراض عنه إذ لو كانت النجاة في ترك ذكرهم فلماذا اهتمّ ببيان أفعالهم وصفاتهم التاريخ المؤلّف بيد السلف الصالح الذين كانوا يحترمون الصحابة مثلما يحترمهم الخلف ، فلو كان الحق ترك التكلّم فيهم واعذارهم بالاجتهاد ، فلماذا وصف النبي الأكرم بعضهم بالارتداد ، كما رواه

________________________________________

1 ـ الحشر / 10.

________________________________________

(406)

البخاري وغيره (1).

    وإذا دار الأمر بين كون القرآن أو النبي أسوة ، أو الكلمة المأثورة عن الحسن البصري ، فالأوّل هو المتعيّن ، ويضرب بالثاني عرض الجدار.

 

    الردّة بعد وفاة الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) :

    بقيت هنا كلمة وهي : إذا كان موقف الشيعة وأئمّتهم من الصحابة ما ذكر آنفاً فما معنى ما رواه أبو عمرو الكشي من أنّه ارتدّ الناس بعد رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) إلاّ ثلاثة. إذ لو صحّ ما ذكر ، وجب الالتزام بأنّ النبيّ الأكرم لم ينجح في دعوته ولم تتخرّج من مدرسته إلاّ قلائل لا يعتد بهم في مقابل ما ضحّى به من النفس والنفيس.

    والاجابة على هذا السؤال واضحة لمن تفحّص عنها سنداً ومتناً. فإنّ ما رواه لا يتجاوز السبع روايات. وهي بين ضعيف لا يعرج عليه ، وموثق ـ حسب اصطلاح علماء الامامية في تصنيف الأحاديث ـ وصحيح قابلين للتأويل ، ولا يدلان على الارتداد عن الدين ، والخروج عن الإسلام بل يرميان إلى أمر آخر.

    أمّا الضعيف فهو ما رواه الكشي عن حمدويه وإبراهيم أبناء نصير قال : حدثنا محمّد بن عثمان عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : كان الناس أهل الردّة بعد النبي إلاّ ثلاثة ... (2).

    وكفى في ضعفها وجود محمّد بن عثمان في سنده وهو من المجاهيل.

    وما رواه أيضاً عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري 5 / 118 ـ 119 في تفسير سورة النور.

2 ـ رجال الكشي 12 الحديث 1.

________________________________________

(407)

قال : قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : ارتدّ الناس إلاّ ثلاثة نفر : سلمان وأبوذر والمقداد (1).

    وكفى في ضعفها انّ الكشي من أعلام القرن الرابع الهجري القمري فلا يصح أن يروي عن علي بن الحكم سواء أكان المراد منه الأنباري الراوي عن ابن عمير المتوفّى عام 217 أو كان المراد الزبيري الذي عدّه الشيخ من أصحاب الرضا ( عليه السلام ) المتوفّى عام 203.

    وما نقله أيضاً عن حمدويه بن نصير قال : حدثني محمّد بن عيسى ومحمّد ابن مسعود قال : حدثنا جبرئيل بن أحمد. قال : حدثنا محمّد بن عيسى عن النضر بن سويد عن محمّد بن البشير عمّن حدثه قال : ما بقى أحد إلاّ وقد جال جولة إلاّ المقداد بن الأسود فإنّ قلبه كان مثل زبر الحديد (2).

    والرواية ضعيفة بجبرئيل بن أحمد فانّه مجهول كما أنّها مرسلة في آخرها.

    وأمّا الروايات الباقية فالموثق عبارة عمّا ورد في سنده علي بن الحسن بن فضال والثلاثة الباقية صحيحة ومن أراد الوقوف على اسنادها ومتونها فليرجع إلى رجال الكشي (3).

    ومع ذلك كلّه فإنّ هذه الروايات لا يحتج بها أبداً لجهات عديدة نشير إلى بعض منها.

    1 ـ كيف يمكن أن يقال انّه ارتدّ الناس بعد رسول اللّه ولم يبق إلاّ ثلاثة تمسّكوا بولاية علي ولم يعدلوا عنها مع أنّ ابن قتيبة والطبري رويا انّ جماعة من

________________________________________

1 ـ رجال الكشي 16 الحديث 13.

2 ـ رجال الكشي 16 الحديث 11.

3 ـ رجال الكشي 13 الحديث 3 ـ 4 ـ 6 و7.

________________________________________

(408)

بني هاشم وغيرهم تحصَّنوا في بيت علي معترضين على ما آل إليه أمر السقيفة. ولم يتركوا بيت الامام إلاّ بعد التهديد والوعيد واضرام النار أمام البيت. وهذا يدل على انّه كان هناك جماعة مخلصين بقوا أوفياء لما تعهّدوا به في حياة النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وإليك نص التاريخ. قال ابن قتيبة :

    « إنّ بني هاشم اجتمعت عند بيعة الأنصار إلى علي بن أبي طالب ، ومعهم الزبير ابن العوام ـ رضي اللّه عنه ـ ... (1).

    وقال في موضع آخر : إنّ أبابكر ـ رضي اللّه عنه ـ تفقّد قوماً تخلَّفوا عن بيعته عند علي ـ كرم اللّه وجهه ـ فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم وهم في دار علي فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب وقال : والذي نفس عمر بيده لتخرجنّ أو لاُحرقنّها على من فيها ، فقيل له : يا ابا حفص انّ فيها فاطمة فقال : وإن ... (2).

    وقال الطبري : قال : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال : واللّه لاُحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه (3).

    وقال ابن واضح الاخباري : وتخلّف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب منهم العباس بن عبدالمطلب ، والفضل ابن العباس ، والزبير بن العوام بن العاص ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبوذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، والبراء بن عازب واُبي ابن كعب. فأرسل أبوبكر إلى عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة

________________________________________

1 ـ الامامة والسياسة 1 / 10 ـ 12.

2 ـ الامامة والسياسة 1 / 10 ـ 12.

3 ـ تاريخ الطبري 2 / 442.

________________________________________

(409)

ابن شعبة فقال : ما الرأي ؟ قالوا : الرأي أن تلقى العباس بن عبدالمطلب فتجعل له في هذا الأمر نصيباً ... (1).

    كل ذلك يشهد على انّه كان هناك اُمّة بقوا على ما كانوا عليه ، في عصر الرسول الأعظم ، ولم يغترّوا بانثيال الأكثرية إلى غير ما كان الحق يدور مداره. وكيف يمكن ادّعاء الردّة لعامة الصحابة إلاّ القليل.

    2 ـ كيف يمكن أن يقال ارتدّ الناس إلاّ ثلاثة مع أنّ الصدوق ـ رضي اللّه عنه ـ ذكر عدة من المنكرين للخلافة في أوائل الأمر وقد بلغ عددهم اثنا عشر رجلا من المهاجرين والأنصار وهم خالد بن سعيد بن العاص ، والمقداد بن الأسود ، واُبي ابن كعب ، وعمّار بن ياسر ، وأبوذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وعبداللّه بن مسعود ، وبريدة الأسلمي ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وسهل بن حنيف ، وأبو أيّوب الأنصاري ، وأبو هيثم ابن التيهان وغيره.

    ثمّ ذكر اعتارضاتهم على مسألة الخلافة واحداً بعد واحد (2).

    3 ـ إنّ وجود الاضطراب والاختلاف في عدد من استثناهم الامام يورث الشك في صحّتها ففي بعضها « إلاّ ثلاثة » وفي البعض الآخر إلاّ سبعة وفي ثالث « إلاّ ستة » فإنّ التعارض وإن كان يمكن رفعه بالحمل على اختلافهم في درجات الايمان غير أنّه على كل تقدير يوهن الرواية.

    4 ـ كيف يمكن انكار ايمان أعلام من الصحابة مع اتّفاق كلمة الشيعة والسنّة على علو شأنهم كأمثال بلال الحبشي ، وحجر بن عدي ، واويس القرني ، ومالك بن نويرة المقتول ظلماً على يد خالد بن الوليد ، وعباس بن عبدالمطلب

________________________________________

1 ـ تاريخ اليعقوبي 2 / 124.

2 ـ الخصال : الشيخ الصدوق أبواب الاثنى عشر 461 ـ 465.

________________________________________

(410)

وابنه حبر الاُمّة وعشرات من أمثالهم ، وقد عرفت أسماء المتخلّفين عن بيعة أبي بكر في كلام اليعقوبي ، أضف إلى ذلك انّ رجال البيت الهاشمي كانوا على خط الامام ولم يتخلّفوا عنه وانّما غمدوا سيوفهم اقتداءً بالامام لمصلحة عالية ذكرها في بعض كلماته (1).

    واقصى ما يمكن أن يقال في حقّ هذه الروايات هو انّه ليس المراد من الارتداد ، الكفر والضلال والرجوع إلى الجاهلية وانّما المراد عدم الوفاء بالعهد. الذي اُخذ منهم في غير واحد من المواقف وأهمّها غدير خم. ويؤيّد ذلك :

    ما رواه وهب بن حفص عن ابي بصير عن أبي جعفر : جاء المهاجرون والأنصار وغيرهم ـ بعدما بويع أبوبكر ـ إلى علي وقالوا له : أنت واللّه أميرالمؤمنين ، أنت واللّه أحقّ الناس وأولاهم بالنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هلمّ يدك لنبايعك فواللّه لنموتنّ قدامك. فقال علي ( عليه السلام ) : إن كنتم صادقين فاغدوا غداً عليّ محلّقين. فحلق أميرالمؤمنين وحلق سلمان وحلق مقداد وحلق أبوذر ولم يحلق غيرهم (2).

    وهذه الرواية قرينة واضحة على أنّ المراد هو نصرة الامام ( عليه السلام ) لأخذ الحق المغتصب فيكون المراد من الردّة هو عدم القتال معه.

    وممّا يؤيّد ذلك أيضاً الرواية التي جاء فيها انّ قلب المقداد بن الأسود كزبر الحديد ، فهي وإن كانت ضعيفة السند ، لكن فيها اشعار على ذلك لأنّ وصف قلب المقداد اشارة إلى ارادته القوية وثباته في سبيل استرداد الخلافة.

    وظنّي انّ هذه الروايات صدرت من الغلاة والحشوية دعماً لأمر الولاية وتفانياً في الاخلاص غافلين عن أنّها تضاد القرآن الكريم وما روي عن

________________________________________

1 ـ نهج البلاغة ، قسم الرسائل برقم 62.

2 ـ لاحظ الرجال للكشي 14 الحديث 7 من هذا الباب.

(411)

أميرالمؤمنين وحفيده سيد الساجدين ، من الثناء والمدح لعدّة من الصحابة. وهناك كلمة قيّمة للعلاّمة السيد محسن الأمين العاملي نذكر نصّه وهو يمثّل عقيدة الشيعة فقال :

    وقالت الشيعة حكم الصحابة في العدالة حكم غيرهم ولا يتحتّم الحكم بها بمجرّد الصحبة وهي لقاء النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) مؤمناً به ومات على الإسلام. وانّ ذلك ليس كافياً في ثبوت العدالة بعد الاتّفاق على عدم العصمة المانعة من صدور الذنب فمن علمنا عدالته حكمنا بها وقبلنا روايته ، ولزمنا له من التعظيم والتوقير ، بسبب شرف الصحبة ونصرة الإسلام والجهاد في سبيل اللّه ما هو أهله ، ومن علمنا منه خلاف ذلك لم تقبل روايته ، أمثال مروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وبسر بن أرطاة وبعض بني اُمية وأعوانهم ، ومن جهلنا حاله في العدالة توقّفنا في قبول روايته.

    وممّا يمكن أنّ يذكر في المقام انّ النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) توفّي ومن رآه وسمع عنه يتجاوز مائة ألف انسان من رجل وامرأة على ما حكاه ابن حجر في الاصابة عن أبي زرعة الرازي : « وقيل مات ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عن مائة وأربعة عشر ألف صحابي » ومن الممتنع عادة أن يكون هذا العدد في كثرته وتفرّق أهوائه وكون النفوس البشرية مطبوعة على حبّ الشهوات كلّهم قد حصلت لهم ملكة التقوى المانعة عن صدور الكبائر ، والاصرار على الصغائر بمجرّد رؤية النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) والايمان به ، ونحن نعلم أنّ منهم من أسلم طوعاً ورغبة في الإسلام ومنهم من أسلم خوفاً وكرهاً ، ومنهم المؤلّفة قلوبهم ، وما كانت هذه الاُمّة إلاّ كغيرها من الاُمم التي جبلت على حبّ الشهوات وخلقت فيها الطبائع القائدة إلى ذلك إن لم يردع رادع والكل من بني آدم وقد صحّ عنه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) انّه قال : « لتسلكنّ سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتّى لو دخل أحدهم

 

________________________________________

(412)

جحر ضب لدخلتموه ». ولو منعت رؤية النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) من وقوع الذنب لمنعت من الارتداد الذي حصل من جماعة منهم كعبداللّه بن جحش ، وعبيداللّه بن خطل ، وربيعة بن اُمية بن خلف والأشعث بن قيس (1) وغيرهم. هذا مع ما شوهد من صدور اُمور من بعضهم لاتتّفق مع العدالة كالخروج على أئمّة العدل ، وشق عصا المسلمين ، وقتل النفوس المحترمة ، وسلب الأموال المعصومة ، والسب والشتم وحرب المسلمين وغشهم ، والقاح الفتن والرغبة في الدنيا ، والتزاحم على الامارة والرياسة وغير ذلك ممّا تكفّلت به كتب الآثار والتواريخ وملأ الخافقين. وأعمال مروان بن الحكم في خلافة عثمان معلومة مشهورة ، وكذلك بسر بن أرطاة والمغيرة بن شعبة والوليد بن عقبة وكلّهم من الصحابة (2).

    وحصيلة البحث : انّ موضع الاختلاف ، ومصبّ النزاع ليس إلاّ كون عدالة الصحابة قضية كلية ، أو جزئيّة ، فالسنّة على الاُولى والشيعة على الثانية وأمّا ما سواها من سبّ الصحابة ولعنهم ، أو ارتدادهم عن الدين بعد رحلة الرسول أو عدم حجية رواياتهم على وجه الاطلاق فانّها تهم اموية ناصبية ، اتّهم بها شيعة آل محمّد وهم برآء منها. ونعم الحكم اللّه. فالشيعة يعطون لكل ذي حقّ حقّه ، فيأخذون معالم دينهم عن ثقاة الصحابة ، ولا يتكلّمون في حقّ من لم يتعرّفوا على حاله ، ويحكمون على القسم الثالث على ضوء الكتاب والسنّة.

    إنّ هناك رجالا من السلف لا يجور حبّهم ولا يصح الترحّم عليهم ـ حسب الموازين الشرعية ـ ، منهم :

________________________________________

1 ـ الثلاثة الأوّلون ارتدّوا وماتوا على الردّة ، والأشعث ارتدّ فاُتي به إلى أبي بكر ـ رضي اللّه عنه ـ أسيراً فعاد إلى الإسلام وزوّجه اُخته ، وكانت عوراء فأولدها محمّداً أحد قتلة الحسين ( عليه السلام ).

2 ـ الأمين : أعيان الشيعة 1 / 113 ـ 114.

________________________________________

(413)

    1 ـ معاوية بن أبي سفيان ويكفي في حقّه ما ذكره الجاحظ في رسائله :

    قال في رسالته في بني اُميه والآثام التي اقترفوها : استوى معاوية على الملك ، واستبدَّ على بقيّة أهل الشورى ، وعلى جماعة المسلمين من المهاجرين والأنصار في العام الذي سمّوه عام الجماعة ، وما كان عام جماعة ، بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة ، والعام الذي تحوّلت فيه الإمامة ملكاً كسرويا ، والخلافة غصباً قيصريا ، ثمّ مازالت معاصيه من جنس ما حكيناه ، وعلى منازل ما رتّبناه ، حتّى ردّ قضية رسول اللّه ردّاً مكشوفاً وجحد حكمه جحداً ظاهرا (1) ، فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفّار.

    أو ليس قتل حجر بن عدي واطعام عمرو بن العاص خراج مصر ، وبيعة يزيد الخليع ، والاستئثار بالفيئ واختيار الولاة على الهوى ، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة ، من جنس الأحكام المنصوصة والشرائع المشهورة والسنن المنصوبة ، وسواء جحد الكتاب ، وردّ السنّة إذا كانت في شهرة الكتاب وظهوره ، إلاّ أنّ أحدهما أعظم وعقاب الآخرة عليه أشد (2).

    وقد أربت نابتة عصرنا ومبدعة دهرنا فقالت : لا تسبّوه فانّ له صحبة وسبّ معاوية بدعة ، ومن بغضه فقد خالف السنّة ، فزعمت أنّ من السنّة ترك البراءة ممّن جحد السنّة (3).

    2 ـ عمرو بن العاص الذي ألَّب على عثمان وسُرّ بقتله ، ثم اجتمع مع معاوية يطالب بدمه من كان من أشدّ المدافعين عنه ، وأعطفهم عليه يوم أمر طلحة بمنع الماء

________________________________________

1 ـ إشارة إلى استلحاق زياد بن أبيه وليد فراش غير أبي سفيان.

2 ـ أي ردّ السنّة مثل ردّ الكتاب إذا بلغت السنّة في الشهرة ، شهرة الكتاب.

3 ـ الجاحظ : رسائل الجاحظ 294 طبع مصر.

________________________________________

(414)

عنه وتعجيل قتله. كل ذلك كان من ابن العاص حبّاً بخراج مصر ، لا بعثمان ولا بمعاوية أيضا ، والعجب أنّ الرسول تنبّأ بذلك وصرح بأنّهما لا يجتمعان إلاّ على غدر (1).

    3 ـ يزيد الخليع المستهتر خليفة معاوية الذي ولّي ثلاث سنين بعده ، فقتل في الاُولى الحسين ، وفي الثانية أغار على المدينة وقتل من الصحابة والتابعين ما لا يحصى وأباح أعراضهم ، وفي الثالثة رمى الكعبة (2) وكفى في كفره وإلحاده جهره بقول ابن الزبعرى :

لعبت هاشم بالملك فلا          خبر جاء ولا وحي نزل

    4 ـ مروان بن الحكم الذي كان من أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت. قال ابن حجر : ومن أشدّ الناس بغضاً لأهل البيت مروان بن الحكم (3). روى الحاكم أنّ عبدالرحمان بن عوف ـ رضي اللّه عنه ـ قال : كان لا يولد لأحد بالمدينة ولد إلاّ اُتي به النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، فاُدخل عليه مروان بن الحكم ، فقال : هو وزغ بن الوزغ ، الملعون بن المعلون (4).

    5 ـ الوليد بن عقبة شارب الخمر ، والزائد في الفريضة (5).

    6 ـ عبداللّه سعد بن أبي سرح الذي أهدر النبيّ دمه (6).

    7 ـ الوليد بن يزيد بن عبدالملك الذي يخاطب كتاب اللّه العزيز بعد أن ألقاه

________________________________________

1 ـ ابن حجر : تطهير الجنان 102 ، المطبوع على هامش الصواعق المحرقة.

2 ـ ابن الجوزي : تذكرة الخواص ، فصل يزيد بن معاوية 257.

3 ـ ابن حجر : الصواعق المحرقة.

4 ـ الحاكم : المستدرك 4 / 479.

5 ـ البلاذري : الانساب 5 / 33 وأحمد بن حنبل : المسند 1 / 144.

6 ـ الطبري : التاريخ ، الجزء 3 / 295 ، فصل : ذكر الخبر عن فتح.

________________________________________

(415)

ورماه بالسهام بقوله :

تهدّدني بجبّار عنيدإذا ماجئت ربّك يوم حشر            فها أنا ذاك جبّار عنيدفقل يا رب مزّقني الوليد (1)

    هؤلاء وأضرابهم ، هم الذين تتبرّأ الشيعة منهم وتحكم عليهم بما حكم اللّه به عليهم. أفيصح تكفير الشيعة وتفسيقهم لأجل سبّ هؤلاء والتبرّي منهم.

    ويقول السيوطي : إنّ الوليد هذا كان فاسقاً خميراً لوّاطا ، راود أخاه سليمان عن نفسه ونكح زوجات أبيه (2).

    إلى غير ذلك من رجال العيث والفساد ، أفيصح في ميزان العدل والنصفة مؤاخذة الشيعة لأجل رفض هؤلاء الفسقة. الخارجين عن ولاية اللّه ودينه.

________________________________________

1 ـ ابن الأثير : الكامل في التأريخ 5 / 107.

2 ـ جلال الدين السيوطي : تاريخ الخلفاء 97.

________________________________________

(416)

________________________________________

(417)

    المسألة العاشرة :

الالتزام بالسجدة على الأرض أو ما أنبتته

    السجدة في الصلاة وغيرها ، من مظاهر العبودية أمام المسجود له ، ومن أركان الصلاة وفي بعض المأثورات « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده » فمهما أتى بالتذلّل والخضوع كان أوقع وافضل في العبودية ، فالسجود على التراب والرمل والحجر والحصى أبين لبيان العبودية والتصاغر ، من السجود على الحصر والبواري ، فضلاً عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الغالية والذهب والفضة ، وإن كان الكل سجوداً ، لكن العبودية تتجلّى في الأوّل بما لا تتجلّى في غيره.

    والامامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم ، ولا يعدلون عنها إلاّ إلى ما اُنْبِت منها من الحصر والبواري بشرط أن لا يؤكل ولا يلبس. ولا يرون السجود على غيرهما صحيحاً في حال الصلاة أخذاً بالسنّة المتواترة عن النبيّ الأكرم وأهل بيته وصحبه. وسيظهر ـ في ثنايا البحث ـ أن الالتزام بالسجود على الأرض أو

 

________________________________________

(418)

ما أنْبتت ، كانت هي السنّة بين الصحابة وانّ العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخّرة ، ولأجل توضيح المقام نقدم اُموراً :

 

    1 ـ اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه :

    اتّفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كل ركعة مرّتين ، ولم يختلفوا في المسجود له فإنّه هو اللّه سبحانه الذي له يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرها (1) وشعار كل مسلم قوله سبحانه : ( لا تَسجُدُوا لِلشَّمسِ ولا للقَمَرِ واسْجُدُوا لِلّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ) (2) وانّما اختلفوا في شروط المسجود عليه ـ أعني ما يضع الساجد جبهته عليه ـ فالشيعة الامامية على انّه يشترط أن يكون المسجود عليه أرضاً أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري ، وما أشبه ذلك. وخالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب وإليك نقل الآراء.

    قال الشيخ الطوسي (3) وهو يبيّن آراء الفقهاء : لا يجوز السجود إلاّ على الأرض أو ما أنبتته الأرض ممّا لا يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار. وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك ـ إلى أن قال ـ : لا يجوز السجود على شيء هو حامل له ككور العمامة ، وطرف الرداء ، وكم القميص ، وبه قال الشافعي ، وروي ذلك عن علي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وابن عمرو عبادة بن الصامت ، ومالك ، وأحمد بن حنبل.

________________________________________

1 ـ إشارة إلى قوله سبحانه : ( ولِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِى السَّمواتِ والأرضِ طَوْعاً وكَرْهاً وظلالُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصالِ ) ـ الرعد / 15 ـ.

2 ـ فصّلت / 37.

3 ـ من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والمؤلّفات ولد 385 توفّي عام 460 من تلاميذ الشيخ المفيد 336 ـ 413 ، والسيد الشريف المرتضى 355 ـ 436 ـ ـ رضي اللّه عنهم ـ.

________________________________________

(419)

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه ، أجزأه ، وإن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنّه مكروه ، وروي ذلك عن الحسن البصري (1).

    وقال العلاّمة الحلّي (2) ـ وهو يبيّن آراء الفقهاء فيما يسجد عليه ـ : لا يجوز السجود على ما ليس بارض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجمع ، وأطبق الجمهور على الجواز.

    وقد اقتفت الشيعة في ذلك أئمّتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين نكتفي بالنزر القليل :

    روى الصدوق باسناده عن هشام بن الحكم أنّه قال لأبي عبداللّه ( عليه السلام ) : أخبرني عمّا يجوز السجود عليه ، عمّا لا يجوز ؟ قال : السجود لا يجوز إلاّ على الأرض ، أو على ما أنبتت الأرض إلاّ ما اُكل أو لبس. فقال له : جعلت فداك ما العلّة في ذلك ؟ قال : لأنّ السجود خضوع للّه عزّوجلّ فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس ، لأنّ أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون ، والساجد في سجوده في عبادة اللّه عزّوجلّ ، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغترّوا لغرورها (3).

    فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولاً ولا ملبوساً اقتداءً بأئمّتهم ، على انّ ما رواه أهل السنّة في المقام ،

________________________________________

1 ـ الخلاف 1 كتاب الصلاة ، المسألة 112 ـ 113 / 357 ـ 358.

2 ـ الحسن بن يوسف بن المطهر الحلّي 648 ـ 726 وهو اُستاذ الشيعة في قرن السابع لا يسمع الدهر بمثله إلاّ في فترات خاصة.

3 ـ الوسائل 3 الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه ، الحديث 1 ، وهناك روايات بمضمونه. والكل يتضمن انّ الغاية من السجود التي هي التذلل لا تحصل بالسجود على غيرهما فلاحظ.

________________________________________

(420)

يدعم نظرية الشيعة وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم ، ويتّضح انّ السنّة كانت هي السجود على الأرض ، ثم جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط ، ولم يثبت الترخيص الآخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك.

 

    2 ـ الفرق بين المسجود له والمسجود عليه :

    كثيراً ما يتصوّر أنّ الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت ، بدعة ، ويتخيّل الحجر المسجود عليه ، وثناً ، وهؤلاء هم الذين لا يفرّقون بين المسجود له ، والمسجود عليه ، ويزعمون أنّ الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلّي ، وثناً يعبده المصلّي بوضع الجبهة عليه. ولكن لاعتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف ، ولم يفرّق بين الأمرين وزعم المسجود عليه ، مسجوداً له ، وقاس أمر الموحّد ، بأمر المشرك بحجّة المشاركة في الظاهر ، فأخذ بالصور والظواهر مع أنّ الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر ، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له يضعه أمامه ويركع ويسجد له ، ولكن الموحّد الذي يريد أن يصلّي في أظهار العبودية إلى نهاية مراتبها ، يخضع للّه سبحانه ويسجد له ، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر ، والرمال والحصى ، مظهراً بذلك مساواته معها عند التقييم قائلا : أين التراب وربّ الأرباب.

 

    3 ـ السنّة في السجود في عصر الرسول وبعده :

    إنّ النبيّ الأكرم وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدّة لا يستهان بها ، متحمّلين شدّة الرمضاء وغبار التراب ورطوبة الطين ، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل ولا على الحصر والبواري والخمر ، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة ، هو تبريد الحصى بأكفّهم ثمّ السجود

(421)

عليها ، وقد شكى بعضهم رسول اللّه من شدّة الحر ، فلم يجبه ، إذ لم يكن له أن يبدل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه ، إلى أن ورد الرخصة بالسجود على الخمر والحصر فوسع الأمر للمسلمين لكن في اطار محدود ، وعلى ضوء هذا فقد مرّت في ذلك المجال على المسلمين مرحلتان لا غير :

    1 ـ ما كان الواجب فيها على المسلمين ، السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين ، ولم تكن هناك أية رخصة.

    2 ـ المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصر والبواري والخمر ، تسهيلاً للأمر ، ورفعاً للحرج والمشقّة ولم تكن هناك أية مرحلة اُخرى توسع الأمر للمسلمين أكثر من ذلك كما يدّعيه أهل السنّة وإليك البيان :

 

    المرحلة الاُولى : السجود على الأرض :

    1 ـ روى الفريقان عن النبيّ الأكرم أنّه قال : « وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » (1).

    والمتبادر من الحديث انّ كل جزء من الأرض مسجد وطهور يُسْجد عليه ويُقْصَد للتيمّم ، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين : للسجود تارة والتيمّم اُخرى.

    وأمّا تفسير الرواية بأنّ العبادة والسجود للّه سبحانه لا يختص بمكان دون مكان ، بل الأرض كلّها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصّوا العبادة بالبيع والكنائس ، فهذا المعنى ليس مغايراً لما ذكرناه ، فانّه إذا كانت الأرض على وجه الاطلاق مسجداً للمصلّي فيكون لازمه كون الأرض كلّها صالحة للعبادة ، فما ذكر

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري 1 / 91 كتاب التيمّم الحديث 2 وسنن البيهقي 2 / 433 باب : أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد ، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن.

________________________________________

(422)

معنى التزامي لما ذكرناه ، ويعرب عن كونه المراد ذكر « طهوراً » بعد « مسجداً » وجعلهما مفعولين لـ « جعلت » والنتيجة هو توصيف الأرض بوصفين كونه مسجداً وكونه طهوراً ، وهذا هو الذي فهمه الجصاص وقال : إنّ ما جعله من الأرض مسجداً هو الذي جعله طهوراً (1).

    ومثله غيره من شرّاح الحديث.

 

    تبريد الحصى للسجود عليها :

    2 ـ عن جابر بن عبداللّه الأنصاري ، قال : كنت اُصلّي مع النبيّ الظهر ، فآخذ قبضة من الحصى ، فأجعلها في كفّي ثمّ اُحوّلها إلى الكف الاُخرى حتّى تبرد ثمّ أضعها لجبيني حتّى أسجد عليها من شدّة الحر (2).

    وعلّق عليه البيهقي بقوله : قال الشيخ : ولو جاز السجود على ثوب متّصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود (3). ونقول : ولو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلاً أم منفصلاً جائزاً لكان أسهل من تبريد الحصى ولأمكن حمل منديل أو ما شابه للسجود عليه.

    3 ـ روى أنس قال : كنّا مع رسول اللّه في شدّة الحرّ فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه (4).

    4 ـ عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول اللّه شدة الرمضاء في جباهنا

________________________________________

1 ـ احكام القرآن للجصاص 2 / 389 نشر بيروت.

2 ـ مسند أحمد 3 / 327 من حديث جابر وسنن البيهقي 1 / 439 باب ما روي في التعجيل بها في شدة الحرّ.

3 ـ سنن البيهقي 2 / 105.

4 ـ السنن الكبرى 2 / 106.

________________________________________

(423)

وأكفّنا فلم يشكنا (1).

    5 ـ قال ابن الاثير في معنى الحديث : إنّهم لمّا شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم (2).

    هذه المأثورات تعرب عن أنّ السنّة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط حتّى انّ الرسول لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتّصلة أو المنفصلة وهو ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) مع كونه بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً أوجب عليهم مس جباههم الأرض ، وإن آذتهم شدة الحر.

    والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض وعن اصرار النبيّ الأكرم بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتصله ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد ، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحد من الروايات.

 

    الأمر بالتتريب :

    6 ـ عن خالد الجهني قال : رأى النبيّ صهيباً يسجد كأنّه يتّقي التراب فقال له : ترّب وجهك يا صهيب (3).

    7 ـ والظاهر انّ صهيباً كان يتّقي عن التتريب بالسجود على الثوب المتّصل والمنفصل ، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية ، وعلى كل تقدير ، فالحديث شاهد على أفضلية السجود على التراب في مقابل السجود على

________________________________________

1 ـ سنن البيهقي 2 / 105 باب الكشف عن الجبهة.

2 ـ ابن الأثير : النهاية 2 / 497 مادة « شكى ».

3 ـ المتقي الهندي : كنز العمال 7 / 465 برقم 19810.

________________________________________

(424)

الحصى لما دل من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض.

    8 ـ روت اُمّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ رأى النبي غلاماً لنا يقال له « افلح » ينفخ إذا سجد ، يا افلح ترّب (1).

    9 ـ وفي رواية : يا رباح ترّب وجهك (2).

    10 ـ روى أبو صالح قال : دخلت على اُمّ سلمة ، فدخل عليها ابن أخ لها فصلّى في بيتها ركعتين فلمّا سجد نفخ التراب ، فقالت اُمّ سلمة : ابن أخي ؟! لا تنفخ ، فإنّي سمعت رسول اللّه يقول لغلام له يقال له يسار ـ ونفخ ـ : ترّب وجهك للّه (3).

 

    الأمر بحسر العمامة عن الجبهة :

    11 ـ روي أنّ النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته (4).

    12 ـ روي عن علي أميرالمؤمنين أنّه قال : إذا كان أحدكم يصلّي فليحسر العمامة عن وجهه ، يعني حتّى لا يسجد على كور العمامة (5).

    13 ـ روى صالح بن حيوان السبائي أنّ رسول اللّه رأى رجلاً يسجد بجنبه وقد اعتمّ على جبهته فحسر رسول اللّه عن جبهته (6).

    14 ـ عن عياض بن عبداللّه القرشي : رأى رسول اللّه رجلاً يسجد على كور

________________________________________

1 ـ المتقي الهندي : كنز العمال 7 / 459 برقم 19776.

2 ـ المصدر نفسه برقم 19777.

3 ـ المتقي الهندي كنز العمال 7 / 465 ، برقم 19810 ومسند أحمد 6 / 301.

4 ـ الطبقات الكبرى 1 / 151 كما في السجود على الأرض 41.

5 ـ منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند 3 / 194.

6 ـ البيهقي : السنن الكبرى 2 / 105.

________________________________________

(425)

عمامته فأومأ بيده : ارفع عمامتك وأومأ إلى جبهته (1).

    هذه الروايات تكشف عن أنّه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلاّ السجود على الأرض ولم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك ، ولما أمر النبي بالتتريب ، وحسر العمامة عن الجبهة.

 

    المرحلة الثانية : الترخيص في السجود على الخمر والحصر :

    هذه الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها ، وأنّهم كانوا لا يعدلون عنه وإن صعب الأمر واشتدّ الحر لكن هناك نصوص تعرب عن ترخيص النبيّ ـ بايحاء من اللّه سبحانه إليه ـ السجود على ما أنبتت الأرض ، فسهل لهم بذلك أمر السجود ، ورفع عنهم الاصر والمشقّة في الحر والبرد وفيما إذا كانت الأرض مبتلّة ، وإليك تلك النصوص :

    1 ـ عن أنس بن مالك قال : كان رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يصلّي على الخمرة (2).

    2 ـ عن ابن عباس : كان رسول اللّه يصلّي على الخمرة وفي لفظ : وكان النبيّ يصلّي على الخمرة (3).

    3 ـ عن عائشة : كان النبيّ يصلّي على الخمرة (4).

________________________________________

1 ـ البيهقي : السنن الكبرى 2 / 105.

2 ـ أبو نعيم الاصفهاني : ذكر أخبار اصبهان 2 / 141.

3 ـ مسند أحمد 1/ 269 ـ 303 ـ 309 و 358.

4 ـ مسند أحمد 6 / 179 وفيه أيضاً قال للجارية وهو في المسجد : ناوليني الخمرة.

________________________________________

(426)

    4 ـ عن اُمّ سلمة : كان رسول اللّه يصلّي على الخمرة (1).

    5 ـ عن ميمونة : ورسول اللّه يصلّي على خمرته فإذا أصابني طرف ثوبه (2).

    6 ـ عن اُمّ سليم قالت : وكان يصلّي الخمرة (3).

    7 ـ عن عبداللّه بن عمر : كان رسول اللّه يصلّي على الخمر (4).

 

    السجود على الثياب لعذر :

    قد عرفت المرحلتين الماضيتين ولو كان هناك مرحلة ثالثة فانّما مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها لعذر وضرورة. ويبدو أنّ هذا الترخيص جاء متأخّراً عن المرحلتين لما عرفت أنّ النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) لم يُجب شكوى الأصحاب من شدّة الحرّ والرمضاء وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحمّلين الحر والأذى ولكنّ الباري عزّ اسمه رخّص لرفع الحرج السجود على الثياب لعذر وضرورة وإليك ما ورد في هذا المقام.

    1-عن أنس بن مالك : كنّا إذا صلّينا مع النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فلم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض ، طرح ثوبه ثم سجد عليه.

    2 ـ وفي صحيح البخاري : كنّا نصلّي مع النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحر. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكّن جبهته من الأرض ، بسط ثوبه.

    3 ـ وفي لفظ ثالث : كنّا إذا صلّينا مع النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم )

________________________________________

1 ـ مسند أحمد 6 / 302.

2 ـ مسند أحمد 6 / 331 ـ 335.

3 ـ مسند أحمد 6 / 377.

4 ـ مسند أحمد 2 / 92 ـ 98.

________________________________________

(427)

فيضع أحدنا طرف الثوب من شدّة الحر مكان السجود (1).

    وهذه الرواية الّتي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد تكشف الغطاء عن بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضاً. وذلك لأنّ رواية أنس نص في اختصاص الجواز على حالة الضرورة ، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات وإليك بعض ما روي في هذا المجال.

    1 ـ عبداللّه بن محرز عن أبي هريرة : كان رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) يصلّي على كور عمامته (2).

    إنّ هذه الرواية مع أنّها معارضة لما مرّ من نهي النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) عن السجود عليه ، محمولة على العذر والضرورة وقد صرّح بذلك الشيخ البيهقي في سننه ، حيث قال :

    قال الشيخ : « وأمّا ما روي في ذلك عن النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) من السجود على كور العمامة فلا يثبت شيء من ذلك وأصح ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبيّ (3).

    وقد روي عن ابن راشد قال : رايت مكحولا يسجد على عمامته فقلت : لِمَ تسجد عليها ؟ قال : أتّقي البرد على أسناني (4).

    2 ـ ما روي عن أنس : كنّا نصلّي مع النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) فيسجد

________________________________________

1 ـ صحيح البخاري 1 / 101 ، صحيح مسلم 2 / 109 ، مسند أحمد 1 / 100 ، السنن الكبرى 2 / 106.

2 ـ كنز العمال 8 / 130 برقم 22238.

3 ـ البيهقي : السنن 2 / 106.

4 ـ المصنف لعبد الرزاق 1 / 400 كما في سيرتنا وسنّتنا ، والسجدة على التربة 93.

________________________________________

(428)

أحدنا على ثوبه (1).

    والرواية محمول على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه ، وبما رواه عنه البخاري : كنّا نصلّي مع النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) في شدة الحرّ فاذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه (2).

    ويؤيّده ما رواه النسائي : كنّا إذا صلينا خلف النبيّ بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتّقاء الحرّ (3).

    وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدل إلاّ على أنّ النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) صلّى على الفرو. وأمّا انّه سجد عليه فلا دلالة لها عليه.

    3 ـ عن المغيرة بن شعبة : كان رسول اللّه يصلّي على الحصير والفرو المدبوغة (4).

    والرواية مع كونها ضعيفه بيونس بن الحرث ، ليست ظاهرة في السجود عليه. ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه ولعلّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها ، ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين.

 

    حصيلة البحث :

    إنّ الناظر في الروايات يجد أنّه مرّ على المسلمين مرحلتان أو مراحل ثلاثة ففي المرحلة الاُولى كان الفرض السجود على الأرض ولم يُرخَّص للمسلمين السجود على غيرها ، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض وليست وراء هاتين

________________________________________

1 ـ البيهقي السنن الكبرى 2 / 106 ، باب من بسط ثوباً فسجد عليه.

2 ـ البخاري 2 / 64 كتاب الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة للسجود.

3 ـ ابن الأثير : الجامع للاُصول 5 / 468 برقم 3660.

4 ـ أبو داود : السنن / باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم 331.

________________________________________

(429)

المرحلتين ، مرحلة اُخرى إلاّ جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقاً ، فمحمولة على الضرورة أو لا دلالة لها على السجود عليها بل غايتها الصلاة عليها.

    فاللازم على فقهاء أهل السنّة إعادة النظر في هذه المسألة حتّى يحيوا السنّة ويميتوا البدعة. فانّ الرائج في بلادهم هو افتراش المساجد بالسجاد ، والسجود عليها. كما أنّ السائد هو السجود على كل شيء. من البسط المنسوجة من الصوف والوبر ، والحرير ، وطرف الثوب فانّ هذا العمل حسب مامرّ من الروايات بدعة حدثت بعد النبي ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وكانت السنّة غيرهما فلا عتب على الشيعة إذا ما تمسّكوا بالسنّة ولم يسجدوا الاّ على الأرض وما أنبتته تبعاً للسنن النبوية والأحاديث المروية عن أئمّة أهل البيت.

 

    ما هو السر في اتّخاذ تربة طاهرة :

    بقي هنا سؤال يطرحه اخواننا أهل السنّة يقولون ما هو السر في اتّخاذ تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها. وربّما يتخيّل البسطاء انّ الشيعة يسجدون لها لا عليها ، ويعبدون الحجر والتربة ولكن المساكين لا يفرّقون بين السجود على التربة ، والسجود لها وعلى أي تقدير فالاجابة عنها واضحة فانّ المستحسن عند الشيعة هو اتّخاذ تربة طاهرة طيّبة ليتيقن من طهارتها من أي أرض اُخذت ، من اي صقع من أرجاء العالم كانت ، وهي كلّها في ذلك سواء.

    وليس هذا الالتزام إلاّ مثل إلتزام المصلّي بطهارة جسده وملبسه ومصلاّه وأمّا سرّ الالتزام في اتّخاذ التربة هو أنّ الثقة بطهارة كل أرض يحل بها ، ويتّخذها مسجداً لا تتأتّى له في كل موضع من المدن والرساتيق والفنادق والخانات ومحال المسافرين ومحطّات وسائل السير والسفر ومهابط فئات الركاب ومنازل

 

________________________________________

(430)

الغرباء ، أنّى له ذلك وقد يحل بها كل إنسان من الفئة المسلمة وغيرها ومن أخلاط الناس الذين لا يبالون ولا يكترثون لأمر الدين في موضوع الطهارة والنجاسة.

    فأي وازع من أن يحتاط المسلم في دينه ، ويتّخذ معه تربة طاهرة يطمئن بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته حذراً من السجدة على الرجاسة والنجاسة ، والأوساخ الّتي لا يتقرّب بها إلى اللّه قط ولا تجوّز السنّة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم ، خصوصاً بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلّي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها :

    المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، والحمام ، ومواطن الابل والأمر بتطهير المساجد وتطييبها (1).

    وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التاريخ عن نقلها فقد روي أنّ التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع المتوفّى عام 62 كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها كما أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنف باب من كان حمل في السفينة شيئاً يسجد عليه. فأخرج بإسنادين أنّ مسروقاً كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها (2).

    إلى هنا تبيّن انّ التزام الشيعة باتّخاذ التربة مسجداً ليس إلاّ تسهيل الأمر للمصلّي في سفره وحضره عسى أن لا يجد أرضاً طاهرة أو حصيراً طاهراً فيصعب الأمر عليه وهذا كادّخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمّم عليه.

    وأمّا السر في التزام الشيعة استحباباً بالسجود على التربة الحسينية فانّما هو من

________________________________________

1 ـ العلامة الأميني : سيرتنا وسنّتنا 158 ـ 159.

2 ـ أبوبكر بن أبي شيبة : المصنف 1 / 400 كما في السجدة على التربة 93.

(431)

جهة الأغراض العالية والمقاصد السامية منها ، أن يتذكّر المصلّي حين يضع جبهته على تلك التربة ، تضحية ذلك الإمام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد.

    ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة وفي الحديث « أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده » فيناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية اُولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحق ، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى ، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب (1).

    وقال العلامة الأميني : نحن نتّخذ من تربة كربلاء قطعاً لمعاً ، وأقراصاً نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنوّرة يسجد عليها ، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة ، فقيه المدينة ، ومعلّم السنّة بها ، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أي حزازة وتعسّف أو شيء يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنّة ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) وسنّة رسوله ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) أو خروج من حكم العقل والاعتبار.

    وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم ولا من واجب الشرع والدين ولا ممّا ألزمه المذهب ولا يفرّق أي أحد منهم منذ أوّل يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم بآرائهم ، وإن هو عندهم إلاّ استحسان عقلي ليس إلاّ ، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت وكثير من رجال

________________________________________

1 ـ الأرض والتربة الحسينية 24.

________________________________________

(432)

المذهب يتّخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء ممّا يصحّ السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم (1).

    هذا إلمام اجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محلّها وقد أغنانا عن ذلك ما سطّره أعلام العصر وأكابره وأخص بالذكر منهم.

    1 ـ المصلح الكبير الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء 1295 ـ 1373 في كتابه الأرض والتربة الحسينية.

    2 ـ العلاّمة الكبير الشيخ عبدالحسين الأميني مؤلّف الغدير 1320 ـ 1390 فقد دوّن رسالة في هذا الموضوع طبع في آخر كتابه سيرتنا وسنّتنا.

    3-السجود على الأرض للعلاّمة الشيخ علي الأحمدي ـ دام عزّه ـ فقد أجاد في التتبّع والتحقيق.

    فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم اللّه الماضين من علمائنا وحفظ اللّه الباقين منهم.

________________________________________

1 ـ سيرتنا وسنّتنا 166 ـ 167 طبع النجف الأشرف.