القرامطة

 القرامطة

 

لقد ذكرنا في الفصل الثاني من هذا الكتاب أنّ الحركات الباطنيّة نشطت في أواسط القرن الثاني ، وكان زعيمها هو أبو الخطاب ، محمد بن مقلاص ، فلمّا قتل انتهى أمر هـ م ـ بعد فت ـ رة ـ إلى الاجتماع حول محمد بن إسماعيل ، ووجدوه مرتعاً خصباً لنشر أفكارهم. فارتكزت الدّعوة الاِسماعيليّة على تلك الاَفكار في بادىَ الاَمر. وكان من نتيجة ذلك التحرك أن :

    1 ـ اتخذ الاَئمّة المستورون سوريا ، وأخصّ بالذكر « السلمية » وما حولَها مركزاً للدّعوة ، ومنها انتشرت إلى سائر الاَمصار.

    2 ـ انتشرت الدّعوة في اليمن بزعامة ابن حوشب « منصور اليمن ».

    3 ـ أرسل ابن حوشب ، أبا عبد اللّه الشيعي إلى إفريقية حيث آلت الاَحداث بعدها إلى تأسيس الخلافة الفاطميّة.

    4 ـ ظهور حركة القرامطة ، وهذا ما سنبحثه في هذا الفصل.

    إنّ من الاِسماعيليّة فرقة باسم المباركيّة قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل ، بدل إسماعيل ، وقد تشعبت منهم فرقة باسم القرامطة ، كان لهم دورٌ مهم على الساحة السياسية والعقائدية أيّام عبيد اللّه المهدي ، حسب ما يذكره التاريخ وما يزال الغموض يكتنف عقائدهم ، وتاريخهم والجرائم التي قاموا بها ، في أواخر القرن الثالث. ومن أجل تسليط الضوء على جانب من جوانب عقائدهم نستعرض ما ذكره أصحاب المقالات :

    1.قال النوبختي : إنّما سُمّيت بهذا لرئيس لهم من أهل السواد من أهل الاَنباط كان يلقب « قرمطويه » وكانوا في الاَصل على مقالة المباركيّة ، ثمّ خالفوهم ،

 

________________________________________

(326)

فقالوا لا يكون بعد محمد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّسبعة أئمّة ، علي بن أبي طالب وهو إمامٌ رسولٌ ، والحسن والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، ومحمد بن إسماعيل بن جعفر ، وهو الاِمام القائم المهدي ، وهو رسولٌ.

    وزعموا أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انقطعت عنه الرسالة في حياته ، في اليوم الذي أُمر فيه بنصب علي بن أبي طالب (عليه السّلام) للناس بغدير خم ، فصارت الرسالة في ذلك اليوم في علي بن أبي طالب ، واعتلّوا في ذلك بقول رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : « من كنت مولاه فعليٌّ مولاه » وانّهذا القول منه خروج من الرسالة والنبوّة ، وتسليم منه في ذلك لعلي بن أبي طالب ، بأمر اللّه عزّوجلّ وانّالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد ذلك كان مأموماً لعليّ ، محجوجاً به ، فلمّا مضى عليٌّ صارت الاِمامة في الحسن ، كما صارت من الحسن في الحسين ثمّ في علي بن الحسين ، ثمّفي محمد بن علي ، ثمّ كانت في جعفر بن محمد ، ثم انقطعت عن جعفر في حياته ، فصارت في إسماعيل بن جعفر ، كما انقطعت الرسالة عن محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته ، ثمّإنّ اللّه عزّوجلّ بدا له في إمامة جعفر ، وإسماعيل ، فصيّرها في محمد بن إسماعيل ، إلى أن قال :

    و زعموا أنّ محمد بن إسماعيل حيٌّ ، لم يمت ، وأنّه في بلاد الروم ، وأنّه القائم المهدي ، ومعنى القائم عندهم ، انّه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة ، ينسخ بها شريعة محمد ، وانّ محمد بن إسماعيل من أولي العزم ، وأولي العزم عندهم سبعة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلي (عليه السّلام) ، ومحمد بن إسماعيل ، على معنىً.

    قال : إنّالسماوات سبع وإنّالاَرضين سبع وإنّ الاِنسان بدنه سبع : يداه ، ورجلاه ، وظهره ، وبطنه ، وقلبه ، وإنّ رأسه سبع : عيناه ، أُذناه ، منخراه ، وفمه ، وفيه لسانه ، كصدره الذي فيه قلبه ، وإنّ الاَئمّة كذلك ، وقلبهم محمد بن إسماعيل واعتلوا في نسخه شريعة محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتبديلها ، بأخبار ، رووها عن أبي عبد اللّه جعفر ابن محمد (عليه السّلام) أنّه قال : لو قام قائمنا علمتم بالقرآن جديداً ، وأنّه قال : إنّ

 

________________________________________

(327)

الاِسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدا ، فطوبى للغرباء ، ونحو ذلك من أخبار القائم.

    و انّ اللّه جعل لمحمد بن إسماعيل جنّة آدم (ص) ومعناها عندهم الاِباحة للمحارم ، وجميع ما خلق في الدنيا ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : « وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ » (1) أي موسى بن جعفر بن محمد ، وولده من بعده من ادّعى منهم الاِمامة.

    وزعموا أنّ محمد بن إسماعيل ، هو خاتم النبيين ، الذي حكاه اللّه عزّوجلّ في كتابه ، وأنّ الدّنيا اثنا عشر جزيرة ، في كلّجزيرة حُجّة وأنّ الحجج اثنا عشر ، ولكلّ حجّة داعية. ولكلّ داعية يد ، يعنون بذلك أنّ اليد رَجلٌ له دلائل وبراهين يقيمها ، ويُسمّون الحُجّة الاَب ، والدّاعية الاَُم ، و اليد الابن ، يضاهون قول النصارى في ثالث ثلاثة ، إنّ اللّه الاَب جل جلاله ، والمسيح (عليه السّلام) الابن ، وأُمّه مريم ، والحُجّة الاَكبر هو الربّ وهو الاَب والدّاعية هي الاَُم ، واليد هو الابن.

    وزعموا أنّجميع الاَشياء التي فرض اللّه تعالى على عباده وسنّها نبيّه(ص) وأمر بها ، لها ظاهر وباطن ، وأنّجميع ما استعبد اللّه به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة ، أمثال مضروبة وتحتها معان هي بطونها ، وعليه العمل وفيه النجاة ، وأنّ ما ظهر منها ففي استعماله الهلاك والشقاء ، وهي جزء من العقاب الاَدنى ، عذّب اللّه به قوماً إذ لم يعرفوا الحقّ ولم يقولوا به ، وهذا أيضاً مذهب عامّة أصحاب أبي الخطاب ، واستحلّوا استعراض الناسَ بالسيف وقتلهم على مذهب الخوارج في قتل أهل القبلة ، وأخذ أموالهم ، والشهادة عليهم بالكفر ، واعتلّوا في ذلك بقول اللّه عزّوجلّ : «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » (2) ورأوا سبي النساء وقتل الاَطفال ، واعتلّوا في ذلك بقول اللّه تبارك وتعالى : « لا تَذَرْ علَى الاََرْضِ مِنَ الْكافِرينَ دَيّاراً » . (3)

________________________________________

    1 ـ البقرة : 35.

    2 ـ التوبة : 5.

    3 ـ نوح : 26.

________________________________________

(328)

    وزعموا أنّه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل مَنْ قال بالاِمامة مِمّنْ ليس على قولهم ، وخاصّة من قال بإمامة موسى بن جعفر ، وولده من بعده؛ وتأوّلوا في ذلك قولَ اللّه تعالى : « قاتِلُوا الَّذِينَ يَلوُنَكُمْ مِنَ الْكُفّارِوَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظةً » (1) فالواجب أن يُبدأ بهوَلاء ، ثمّ بسائر الناس؛ وعددهم كثير ، إلاّ أنّه لا شوكة لهم ولا قوّة ، وهم بسواد الكوفة واليمن أكثر ولعلّهم أن يكونوا زُهاء مائة ألف. (2)

    أقول : إنّ النوبختي أقدم مَن كتب عنهم من أصحاب المقالات ، وقد عاصرهم ، حيث إنّ القرامطة ظهرت سنة 267 هـ ، وتوفي النوبختي في أوائل القرن الرابع حوالي سنة 310 هـ ، فما ذكره عنهم أدقّممّا ذكره غيره.

    2.وقال الاَشعري : القرامطة يزعمون أنّالنبيّ نصّعلى إمامة ابنه الحسن ـ وهكذا ينقل نصّ كلّ إمام على الاِمام المتأخر ـ حتّى وصلت النوبة إلى نصّ جعفر علىإمامة ابن ابنه محمد بن إسماعيل.

    و زعموا أنّمحمد بن إسماعيل حيٌّ إلى اليوم ، ولم يمت ولا يموت حتّى يملك الاَرض ، وأنّه هو المهدي الذي تقدّمت البشارة به ، واحتجوا في ذلك بأخبار رووها عن أسلافهم يخبرون فيها أنّ سابع الاَئمّة قائمهم. (3)

    3.وأمّا عبد القاهر البغدادي فلم يذكر القرامطة بالاسم ، لكن نقل ما ذكره الاِمام الاَشعري في المقالات وقال : « و فرقة قالت كان الاِمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر ، حيث إنّ جعفراً نصب ابنه إسماعيل للاِمامة بعده ، فلمّا مات إسماعيل في حياة أبيه ، علمنا أنّه إنّما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل. (4)

________________________________________

    1 ـ التوبة : 123.

    2 ـ النوبختي : فرق الشيعة : 72 ـ 76.

    3 ـ الاَشعري : مقالات الاِسلاميين : 26.

    4 ـ عبد القاهر البغدادي : الفرق بين الفرق : 63.

________________________________________

(329)

    يظهر ممّا ذكره النوبختي في فرق الشيعة أنّهم كانوا يكفّرون جميع المسلمين حسب عقيدتهم ، ولاَجله قاموا بقتل حجاج بيت اللّه الحرام عام 317 هـ في عهد المقتدر باللّه.

    ذكر ابن الاَثير أنّه حج بالناس في هذه السنة (317 هـ) المنصور الدّيلمي ، و صار بهم من بغداد إلى مكّة فسلّموا في الطريق فوافاهم أبو طاهر القرمطي بمكّة ، يوم التروية ، فنهبَ هو وأصحابُه أموال الحُجّاج ، وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه ، وقلع الحجر الاَسود ونفذه إلى هجر فخرج إليه ابن محلب ، أمير مكّة في جماعة من الاَشراف ، فسألوه في أموالهم فلم يشفعهم ، فقاتلوه فقتلهم أجمعين ، وقلع باب البيت وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب فسقط فمات.

    وطرح القتلى في بئر زمزم ، ودفن الباقين في المسجد الحرام ، حيث قُتلوا بغير كفن ولا غُسل ، ولا صلى على أحد منهم ، وأخذ كسوة البيت ، فقسّمها بين أصحابه ، ونهب دُورَ أهل مكّة.

    فلما بلغ ذلك المهدي أبا محمد عبيد اللّه العلوي بإفريقية ، كتب إليه ، يُنكر عليه ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة ، ويقول : قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفرو الاِلحاد بما فعلت ، وإن لم ترد على أهل مكّة وعلى الحجّاج وغيرهم ، ما أخذت منهم ، وتردّ الحجر الاَسود إلى مكانه ، وتردّكسوة الكعبة ، فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة.

    فلمّا وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الاَسود ، واستعاد ما أمكنه من الاَموال من أهل مكّة فردّه ، وقال : إنّ الناس اقتسموا كسوة الكعبة ، وأموال الحجاج ولا أقدر على منعهم. (1)

________________________________________

    1 ـ ابن الاَثير : الكامل في التاريخ : 8/207 ـ 208.

________________________________________

(330)

    من هذا المقطع الذي ذكرناه من كلام ابن الاَثير يظهر أنّ عبيد اللّه المهدي ينكر عليهم ما ارتكبوه من جرائم شنيعة ، وأنّهم بأعمالهم الوحشيّة هذه مهّدوا الطريق للاَعداء ، ليتّهموهم بالاِلحاد ، والخروج عن الدين. وهذا ممّا يوجب على الباحث العلمي إذا أراد أن يخرج بنتيجة إيجابية أن يجعل للقرامطة حساباً خاصاً وأن يدرسهم دراسة موضوعية تتسم بالعلميّة وعدم الخلط.

    و للاِسماعيليّة التي كانت الخلافة الفاطميّة في مصر تتبناها حساباً آخر ولا يضربهما بسهم واحد.

(331)

الملامح العامّة للقرامطة

    قد تعرّفت على الفرق الاِسماعيلية ، وإنّ منها القرامطة الّذين قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل وغيبته ، وبذلك عطّلوا الاِمامة ، وانقطعوا عن الركب الاِمامي ، وحيث إنّه كان لهم دور في الاَعصار الغابرة لا بأس بذكر ملامحهم العامّة ، وفرقهم ، وعقائدهم ، وما قاموا به من الاَحداث الاِرهابيّة ، وقد وجدنا أنّ ما كتبه « طه ولي » حول تلك الفرقة في كتابه « القرامطة أوّل حركة اشتراكية في الاِسلام » هو أبسط ما كتب عنهم ، فقمنا بتلخيص ما جاء في هذا الكتاب من المواضيع الهامّة.

    القرامطة من إحدى الفرق الباطنية الّتي شغلت السلطات العباسيّة قُرابة قرن من الزمن ، وأشاعت الاضطرابَ والقلقَ في الشرق العربي ، بما خَلَقْته من أفكار ثوريّة ، ما تزال آثارها باقية إلى أيّامنا الحاضرة ، عبر الطوائف الدينية التي تحمل أسماءً مختلفة.

    إنّ القرامطة جاءت من معنى لغويّ وهو قَرمطَ الرجلُ في خَطْوه ، إذا قارب بين السطور في كتابته ، ويقال : إنّ حمدانَ بن الاَشعث موَسّس هذه الفرقة سُمي قرمط لقصر قامته ورجليه.

 

أسباب نشوء الحركة القرمطيّة وموَسّسها :

    إنّ كلمة قَرمط بدأت بحمدان بن الاَشعث ، وهو الذي نزل عنده الداعي الموَسِّس لهذه الفرقة : الحسين الاَهوازي ، الذي جاء من ناحية خوزستان ، وهذه التسمية ـ أي القرامطة ـ لم تتخذّها هذه الفرقة الباطنيّة لنفسها ، وإنّما أطلقها أعداوَها عليها في العهود المبكِّرة لقيامها.

 

________________________________________

(332)

    والحديث عن العوامل التي أدّت إلى نشوء الحركة القرمطية ، وقيام دولة القرامطة ، ذو شجون ، والخوض فيه يحتاج إلى تفصيلات ، لا يتسع لها مجال هذه الدراسة ، التي قصدنا بها التعريف بالقرامطة ، وحركتهم بأكثر ما أمكننا من الاِيجاز ، دون الدخول في التناقضات التي تميّزت بها أقوال المحققين.

    كان المجتمعُ الاِسلامي ، في أواخر العهد الاَُموي يسير في طريق مُظلم ، وأنّ الدولة الاَُمويّة الحاكمة ، العربيّة النزعة والطابع ، كما هو جليّ وواضح في تاريخها لم تكن تعتمد إلاّ على العناصر الخالصة التي تنحدر من أصل عربي فلم يُعِنْ بنو أُمية بغير قومهم العرب ، فمنهم الولاة والقوّاد ، وروَساء الدولة ، والعمال وحكّام الاَقاليم ، والمقاطعات ، فضلاً عن أنّ زمام الاَسواق التجارية والمهنيّة والزراعيّة ، والنفوذ والجاه ، كان أيضاً بأيديهم ، وبأيدي أنصارهم ، ولهذا كره الموالي (غير العرب) حكمهم ، وعملوا على إسقاطهم وكانوا معاول هدم في كيان الدّولة الاَُمويّة.

    إنّ المجتمع الاَُموي كان يقوم على سيادة العنصر العربيّ ، فكان لا يتمكن أيُّ إنسان من الانتساب إلى صفوفه إلاّ بطريق الولادة ، ولم يكن أفراده يدفعون الضرائب عن أراضيهم ، وكانوا وحدهم أصحاب الحقّ ، بأن يتجنّدوا في الاَمصار ، ويقبضوا الرواتب الشهرية المغرية ، فضلاً عن حقّهم بالاَعطية من غنائم الفتوح ، ولم يكن حلول العباسيين محلّالاَُمويين أكثر من مجرد تغيير الاَُسرة الحاكمة.

    وبذلك تبين أنّالاَسباب التي أدّت إلى قيام الحركة القرمطية كانت هي أيضاً في جوهرها حركة قوميّة إقليميّة وإقتصاديّة واجتماعيّة ، ولعلّنا لا نأتي بجديد حين نقول : إنّالاَُمويين بسياستهم هذه : قد مهّدوا الطريق لمن يريد ضرب الدّولة الاِسلامية ، وكان أفضل وسيلة للمنفعلين بهذه الاَسباب أن اتخذوا من الصراع العقائدي بين بني أُميّة وبين بني هاشم ، ذريعة لتقويض الحكم العربي العنصريّ ، ونقض التعاليم الاِسلاميّة ، وذلك بادّعائهم الولاء للهاشميين في مطالبتهم

 

________________________________________

(333)

بحقّهم بالخلافة دون الاَُمويين.

    وهكذا تكون كلّ الحركات الباطنيّة توسلتْ بشعار الولاء لآل البيت النبوي ، من أجل الوصول إلى هدف واحد وهو الثأر من حكام الوقت الّذين أشاعوا البدع الجاهليّة ، تحت غطاء الاِسلام ، ومنها التركيز على العنصر العربي ، والحط من الموالي المسلمين.

    كان ابتداء الدّعوة القرمطيّة في البحرين عن طريق رجل يُعرف بيحيى بن المهدي ، الذي قصد بلدة القطيف ، وحلّ فيها ضيفاً على رجل يُعرف بعلي بن المعلى بن حمدان ، مولى الزياديّين ، فأظهر له يحيى أنّه رسولُ المهدي ، وكان ذلك في سنة 281 هـ ، وذكر أنّه خرج إلى شيعته في البلاد ، يدعوهم إلى أمره وأنّ ظهوره قد قَرُب ، فأخبر عليُّ بن المعلى ، الشيعةَ من أهل القطيف ، وقرأ عليهم الكتاب ، الذي مع يحيى بن المهدي ، المرسل إليهم من المهديّ ، فأجابوه ، وأنّهم خارجون معه ، إذا ظهر أمره. ووجّه إلى سائر قرى البحرين بمثل ذلك ، فأجابوه وكان أبو سعيد الجنابيّ يبيع للناس الطعامَو يحسب لهم بيعهم.

    ويقول موَلّف « البحرين عِبر التاريخ » : إنّحمدان قرمط ابن الاَشعث ، هو موَسّس حركة القرمطيين في واسط بين الكوفة والبصرة ـ حيث أنشأ داراً للهجرة ، وجعلها مركزاً لبث الدّعوة ، ثمّ كلّف دعاته بإنشاء فروع للحركة ، أهمّها على الاِطلاق فرعُ البحرين الذي أقامه أبو سعيد الجنابي.

 

فرق القرامطة :

    القرامطة توزّعوا في أيّام ظهورهم إلى ثلاث فرق ، ومرّوا في ثلاث مراحل ، وتقلّبوا في ثلاثة أدوار :

    الفرقة الاَُولى : وهي قرامطة السّواد ـ أي سواد العراق ـ وقد أطلق لفظُ السواد على هذه المنطقة لكثرة النخيل الذي يُغَطِّي أرضها ، ويطلق على هذه الفرقة

 

________________________________________

(334)

كذلك ، اسم قرامطة الشمال ، وأبرز دعاتهم « داندان » و « حمدان » و « عبادان » و « آل مهرويه ».

    الفرقة الثانية : قرامطة البحرين أو الخليج في شطه الغربي ، وأبرزُ دعاتهم آل الجنابي.

    الفرقة الثالثة : قرامطة القطيف وجنوبي البصرة ، وأبرز دعاتهم أبو حاتم البوراني ، وأبو الفوارس ، وهذا يُعدُّ من كبارهم ، وله مع الخليفة العباسي « المعتضد » محاورة مشهورة ، ويُعتبر من أقوى الدعاة الّذين عرفهم القرامطة في تاريخهم.

 

انقسام القرامطة إلى حركتين بعدما كانت حركة واحدة

    عندما هلك سليمان بن الحسن الجنابي « أبو طاهر » ، زعيم الدولة القرمطية في البحرين ، الذي هتك حرمة الكعبة ، وقتل الكثير من الحجاج ، ترك أولاداً غير أكفاء لخلافته في الزعامة ، فتنافس أخواه سعيد وأحمد على الولاية ، وأدّى هذا التنافس إلى انقسام جماعة القرامطة إلى حركتين متعاديتين بعدَ أن كانوا حركة واحدة متجانسة ، وكان على رأس إحدى هاتين الحركتين أبناء سليمان (أبو طاهرالجنابي ) ومعهم سابور ، وعمه أحمد ، وانضم إليهم كبار هذه الطائفة ، وكان هوَلاء خاضعين للعُبيديين في المغرب يتلقون منهم التوجيه وينفِّذون تعاليمهم ، وقد أطلقوا على أنفسهم اسم « الفرقة العقدانية » أي أصحاب العقيدة.

    وعلى رأس الحركة الثانية ، سعيد المذكور الذي رفض التبعية للعُبيديين وآثر الاستقلال بشوَونه ، ولاَجل تقوية مركزه ضد العبيديّين ، الذين لم يعترفوا به ، اتجه لمصانعة العباسيين الذين سارعوا لموآزرته بهدف تعميق الانقسام في صفوف هوَلاء القرامطة ، لكي يسهل التخلص منهم جميعاً ، وقد أدّى هذا الانقسام الذي رافقته حروب دامية بين الحركتين إلى التعجيل بنهاية القرامطة كقوة سياسية ومذهبية.

 

________________________________________

(335)

عقائد القرامطة

    إنّ عقائد القرامطة ، هي مزيج من الحق والباطل شأن كلّ فرقة زائفة ، فأخذت بتبنّي الاِمامة لاَئمّة أهل البيت وإظهار الاِخلاص لهم ، ورفض الحكومات الاَُموية والعباسية المخالفة للقرآن والسنّة والسيرة النبوية.و إليك بعض عقائدهم بشكل موجز :

 

1 ـ نظرية الحلول عند القرامطة

    والقرامطة ، قالوا بنظرية الحلول أو ما يسمى عند بعض الطوائف المعاصرة باسم حلول اللاهوت بالناسوت ، فذهبوا إلى أنّأئمّتهم حلّت فيهم شخصيات الاَنبياء السابقين الذين بعثهم اللّه في الاَُمم الغابرة ابتداءً من آدم وانتهاءً بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم بل أنّهم تجاوزوا الاَنبياء.

    لما دخل عبيد اللّه المهدي إلى رقادة بالمغرب مدحه محمد البديل ، أحد موظفي الديوان عند أبي قضاعة بقوله :

حل برقادة المسيححل بها أحمد المصفّىحل بها ذو المعالي           حل بها آدم ونوححل بها الكبش والذبيحو كل شيء سواه ريح

 

2 ـ الغلو عند القرامطة

    تعتقد القرامطة أنّ الاِمام القائم هو محمد بن إسماعيل الذي يبعث بالرسل ، ويسن شريعة جديدة ينسخ بها شريعة النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

    كما يعتقد القرامطة بأنّ روح اللّه تعالى تحل في أجساد أئمتهم فتعصمهم

 

________________________________________

(336)

من الزلل وترشدهم إلى صالح العمل.

    وهم يعتقدون أيضاً أنّ أئمّتهم السبعة هم السبع المثاني الذين أشار القرآن الكريم إليهم ، ورفعوهم إلى حدّ المغالاة.

 

3 ـ التأويل الباطني في تفسير القرآن

    تفردت الباطنية بتفسير القرآن الكريم على طريقة التأويل الباطني ، وهو أن يتجاوز الاِنسان المعنى الظاهري للآية ويتجه إلى فهمها عن طريق تفسير كلماتها بما يخيل إليه أنّه المقصود الحقيقي من كلام اللّه ، ومن الطبيعي أن يعتمد الباطنيون هذه الطريقة لتحميل الآيات المعنى الذي يوَيد وجهة نظرهم وأفكارهم المذهبية.

    إنّ التأويل بمعناه الواقعي لدى الاِسماعيليين يختلف عن التفسير المعمول به لدى عامة الفرق الاِسلامية الاَُخرى ، والتفسير معناه جلاء المعنى لكلّ كلمة غامضة لا يفهم معناها القارىَ والتأويل باطن المعنى أو رمزه أو جوهره وهو حقيقة مستترة وراء لفظة لا تدل عليها ، ومن هنا أعطى النظام الاِسماعيلي ـ ومثله القرمطي ـ الفك ـ ري صلاحية التفسير للناطق ووهب صلاحية التأويل للاِمام ، فالناطق اعتبر ممثلاً للشريعة والاَحكام والفقه والقانون الظاهر ، والاِمام اعتبر ممثلاً للحقيقة والتأويل ، و الفلسفة والباطن ، ومن الواضح أنّ أوّل منهاج دعوا إليه هو نظام التأويل ، فإنّهم هذّبوه وصقلوه بأفكارهم وأدخلوا فيه النظرية العقلية التي تشذب الفعل والتسليم ليثبتوا للعالم الاِسلامي انّهم من العريقين في فهم الاَُصول الاِسلامية ، فقالوا بالباطن وضرورته كما قالوا بالظاهر إلى جانبه ، فلا يقبل الظاهر دون الباطن ، ولا ينفع الباطن دون الظاهر ، لاَنّ الباطن والظاهر كالجسد والروح تولد في اجتماعهما الفوائد ومعرفة المقاصد.

    إنّ للقرآن مدلولاً ، ظاهرياًو باطنياً ، فالمعنى الظاهري واللغوي ليس هو المقصود بالذات والتمسك بهذا المعنى يوجب العذاب والمشقة ، أمّا الاَخذ

 

________________________________________

(337)

بالمعنى الباطني فهو يوجب الانشراح والسعادة ، لاَنّه يقضي بترك التكاليف والاَعمال الظاهرة وكان ابن ميمون يدس هذه الفكرة بصورة خفية وباطنة وما كان يتظاهر بها تجاه غير الاِسماعيليين ـ القرامطة ـ ولذلك كانت هذه الطريقة مبالغ فيها.

 

نهاية القرامطة سياسياً وعسكرياً

    في منتصف القرن الرابع الهجري دخل القرامطة النهاية لاَسباب ذاتية وأُخرى خارجية ، وما لبثوا أن زالوا عن مسرح الصراع في المشرق العربي من الناحيتين السياسية والعسكرية.

 

الاَسباب الذاتية

    من الواضح أنّ الحركة القرمطية لم تستطع إخفاء مقاصدها الحقيقية في محاربة العقيدة الاِسلامية الصحيحة لا سيما بعد الانتصارات المحلية لبعض زعمائها على السلطة العباسية ، فقد أساء المتأخرون من هوَلاء الزعماء التصرف بالنسبة للمجتمع الاِسلامي آنذاك ، حتى أنّ العبيديين وهم على منوالهم في الاتجاه السياسي والعقائدي اضطروا إلى أن يتبرأوا منهم وأن يهاجموهم عسكرياً في أماكن تواجدهم ، حيث أوعزوا إلى قائدهم العسكري « جوهر الصقلي » بأن يذيع بياناً يستنكر فيه أعمال القرامطة ويتبرّأ من تصرفاتهم المغايرة للاِسلام والضارة بالمسلمين ، على أنّجوهر لم يكتف بهذا البيان بل حاربهم فعلاً على أرض فلسطين في الرملة (سنة 368 هـ) و كانت هذه المعركة بداية النهاية بالنسبة للحركة القرمطية ولاَتباعها على مختلف المستويات وفي جميع البلدان التي انتشروا فيها بقوة الدعاية التبشيرية أو بقوة السلاح والاَرهاب.

    وإنّه يمكن القول بأنّ حادثة العدوان الذي قام به القرامطة على مكة

 

________________________________________

(338)

المكرمة بقيادة أبي طاهر الجنابي ، وما رافق ذلك من قتل الحجاج ، واقتلاع الحجر الاَسود من مكانه ، وأخذه إلى هجر ، إنّ هذه الحادثة كانت بمثابة القنبلة الموقوتة التي انفجرت بعد حين ودمرت الكيان القرامطي من أساسه ، حتى أنّ أبا محمد عبيد اللّه الذي أسس الدولة العبيدية وكان هو نفسه قرمطي العقيدة استهول هذه الحادثة وأفزعته مضاعفاتها السلبية في الاَوساط الاِسلامية ، فأرسل كتاباً لنظرائه قرامطة البحرين ينكر فيه عليهم فعلتهم الشنيعة ويلوم أبا طاهر المذكور ويلعنه ويقيم عليه القيامة ، بقوله :

    قد حقّقت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والاِلحاد بما فعلت وإن لم ترد على أهل مكة وعلى غيرهم من الحجاج ما أخذت منهم ، وترد الحجر الاَسود إلى مكانه ، وترد كسوة الكعبة فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة.

    وهذه الحادثة المشوَومة كانت (سنة 317 هـ) و هنا فإنّنا نرى من الفائدة تسجيل وجهة نظر القرامطة في هذه الحادثة كما عبّر عنها أبو طاهر القرمطي الذي اقترف هذه الجريمة النكراء ، وذلك من خلال الشعر الذي قاله في هذه المناسبة ، والرد الذي أرسله إلى الخليفة العباسي المقتدر باللّه.

    قال أبو طاهر في تبرير اقتلاع الحجر الاَسود والعدوان على البيت الحرام :

فلو كان هذا البيت للّه ربّنالانّا حججنا حجة جاهليةو انّا تركنا بين زمزم والصفاو لكن ربّ العرش جلّ جلاله                لصب علينا النار من فوقنا صبامجللة لم تبق شرقاً ولا غرباًكتائب ، لا تبغي سوى ربها ربالم يتخذ بيتاً ولم يتخذ حجبا

    ومن العوامل الذاتية الاَُخرى التي أضعفت القرامطة وأدّت إلى ذهاب ريحهم واضمحلال شوكتهم ، الانقسام الذي فرّق أمرهم فيما بينهم ، وخاصة بعد موت أبي طاهر سليمان مما اضطرهم إلى تعديل نظام (مجلس العقدانية) وتحويله (إلى مجلس السادة) الذي أوهن قيادتهم المركزية ، والحروب التي شنها بعضهم على

 

________________________________________

(339)

بعض في عهدي أبي طاهر والاعلم خارج مركز قوتهم (البحرين) ممّا كبدهم أموالاً طائلة ، وأضعف مواقفهم بعد كل معركة ، وأدى إلى قيام حركات انفصالية داخل مجموعتهم لا سيما في عمان وا ليمن.

 

الاَسباب الخارجية

    أمّا الاَسباب الخارجية التي أدّت إلى زوال الحركة كدولة ونظام ومجتمع ، فإنّ الموَرخين يردّون ذلك إلى الظواهر السلبية التي عانوا منها في أُخريات أيامهم وهي التالية :

    1 ـ ظهور دولة بني بويه المناوئة للقرامطة التي نجحت في جرهم إلى حروب جانبية خلقت لهم أعداء من كلّ جانب ، وخاصة من الدولة العبيدية المصرية.

    2 ـ قلة الاَموال التي كانت بحوزتهم ، فلم يعودوا يتمكنون من الاستمرار في صرف المعتاد من العطايا على البدو ممّا أضعف موالاة هوَلاء لهم ، وتحوّلوا عنهم إلى العباسيين لهذا السبب.

    3 ـ انقلاب قبائل إقليم البحرين نفسها عليهم ، مثل : بني عقيل وبني تغلب ، ونجاح هذه القبائل بالتغلب على بعض أطراف الدولة القرمطية مثل القطيف وما جاورها.

    4 ـ ومن العوامل الخارجية الاَُخرى التي قادت القرامطة إلى نهايتهم وتلاشيهم أنّ أسيادهم وحلفاءهم ورفاقهم في الاتجاه المذهبي والمبادىَ العقائدية ، نعني : العبيديين حكام القاهرة ، انقلبوا عليهم بعد أن ضاقوا ذرعاً بتأرجحهم بين الولاء لبغداد وبين الاستسلام للقاهرة ، وبخروجهم عن كلّحد ، وزاد غيّهم وسفكهم للدماء وغزوا مكة وفتكوا بالحاج واقتحموا البيت الحرام ، ولمّا ذهبوا في جرأتهم إلى مهاجمة الدولة الفاطمية ذاتها في الشام وانتزعوا منها دمشق وهاجموها في مصر منزلها الجديد ، تنكرت لهم وأنكرت ثورتهم وتبرأت منهم.

 

________________________________________

(340)

نهاية القرامطة

    وقد مرت نهاية القرامطة في مرحلتين :

    الاَُولى : يوم طردوا من جزيرة أوال في البحرين

    ففي سنة 458 هـ خرجت الجزيرة المذكورة عن طاعتهم ووالت العباسيين بعد سلسلة الحروب الداخلية التي خاضها المسلمون والمجاعة في هذه الجزيرة ، فقد بنى أهل البحرين مسجداً لجذب التجار إلى جزيرتهم ، ولمّا فرغوا من بناء هذا المسجد آل أمر الجزيرة إلى العباسيين.

    الثانية : استئصال شأفتهم نهائياً من هذه البلاد

    كانت هزيمة القرامطة في جزيرة أوال ذات أثر سلبي كبير عليهم ، إذ عمد سكان الجزيرة إلى الاتصال بالسلاجقة والعباسيين في العراق وفي سنة 462 هـ بعثت بغداد بجيوش ألحقت الهزيمة تلو الهزيمة بالقرامطة ، فاضطروا للارتداد إلى الاَحساء ، فلحقت بهم إلى الاَحساء وحرضوا عليهم السكان بالمنشورات التي يستحثونهم فيها على الانضواء تحت لواء العباسيين في جهاد المبطلين القرامطة الملحدين ، وفي استئصال ذكرهم ، وتطهير تلك البقعة من دنس كفرهم.

    فاستجاب أهالي البلاد لهذه الاِثارة وانضموا إلى العساكر العباسيّة ، وأصبح القرامطة محاطين بأعدائهم في شمالي الاَحساء الذين انتصروا عليهم في معركة الخندق سنة 470 هـ .

    وتعد هذه الواقعة من الوقائع الحاسمة في تاريخ الحركة القرمطية ، لاَنّها قضت على دولة القرامطة وألغت وجودها نهائياً من خارطة العالم الاِسلامي.

    هذا وقد لخصنا هذا المقال من كتاب طه ولي بتصرف يسير لما لمسنا منه من تطرف للحكم العربي المتمثل في الدولة الاَُموية والعباسية حيث رأى أنّهما يمثلان الدولة الاِسلامية الشرعية المجسدة لاَهداف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وآماله.