قاعدة لاضرر ولا ضرار

قاعدة لاضرر ولا ضرار 

 

في شرح القاعدة الفقهية المشهورة المعروفة ب (قاعدة لا ضرر) والكلام فيها في مقامات: المقام الاول في مدركها وهو عبارة من روايات كثيرة في كتب الفريقين يروي هذه الجملة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي بمنزلة كبرى كلية يطبقها (ص) في موارد عديدة: منها: ما رواه في الكافي في قضية سمرة بن جندب المشهورة عن ابن بكير، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، بعد نقل القضية أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال للأنصاري: (إذهب فاقلعها

 

(هامش)

 

(القواعد والفوائد) ج 1، ص 141، (الأقطاب الفقهية) ص 47، (الحق المبين) ص 152، (الأصول الأصلية والقواعد الشرعية) ص 311، (عوائد الأيام) ص 15، (عناوين الأصول) عنوان 10 (الرسائل الفقهية) ص 109، (مجموعه رسائل) ص 454، (دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد) ص 40، (مجموعه قواعد فقه) ص 190، (قواعد فقه) ص 97، (بدايع الدرر في قاعدة نفى الضرر) الامام الخميني، (اصطلاحات الأصول) ص 195، (أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة) ص 95، (قاعدة لاضرر ولاضرار) السيستاني، (قاعدتان فقهيتان اللاضرر والرضاع) السبحاني، (القواعد) ص 245، (قواعد فقه) ص 144، (قواعد الفقه) ص 8، (قواعد فقهى) ص 169، (قواعد فقهيه) ص 51، (قواعد الفقهيه) ص 44 - 45 و 134، (المبادى العامة للفقه الجعفري) ص 270، (ترجمه وتحقيق قاعده لاضرر ولاضرار في الإسلام) زهرا شرف الدين، ماجستير، جامعه طهران، 1371، (تصحيح وتحقيق قاعده لاضرر از عوائد الأيام) محمد على اليشربى، ماجستير، جامعه طهران، (قاعده لا ضرر ولاضرار) أحمد مولا، ماجستير، جامعة طهران، 1339، (حديث لا ضرر از ديدكاه امام راحل) محمد هادى معرفت، مجله حضور، العدد 4، (دو قاعده فقهى قاعده يد ولاضرر) مجلة (حق) فصلية، العدد 9، العالم 1366. (*)

 

وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار) (1) وفي بعض طرق هذا الحديث كطريق عبد الله بن مسكان، عن زرارة، عن أبي جعفر حكاية قوله (ص) هكذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن) (2) ففي هذا الطريق زيد على تلك الجملة المعروفة كلمة (على مؤمن). ومنها: ما رواه الفقيه مرسلا في باب ميراث أهل الملل: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) بزيادة كلمة (في الإسلام) (3) ومنها: ما رواه الكليني عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله (ع) في أنه قضى رسول الله (ص) بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نقع الشيء، وقضى (ص) بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء وقال: (لا ضرر ولا ضرار) (4) ومنها: تطبيق هذه الكبرى في باب الشفعة، كما رواه الكليني باسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال (ع): (قضى رسول الله (ص) بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال: لا ضرر ولا ضرار). (5) ومنها: ما عن دعائم الإسلام في مسألة جدار الجار، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه لو هدم جدار داره ولم يسقط هو، أو أراد أن يهدمه، قال عليه السلام: (لا يترك وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا ضرر ولا ضرار) (6). والإنصاف أن الفقيه بعد ملاحظة هذه الروايات الكثيرة من طرقنا، بضميمة ما رواه مخالفونا في كتبهم عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ربما يقطع بصدور هذه الجملة - أي جملة (لا ضرر

 

(هامش)

 

(الكافي) ج 5، ص 292، باب الضرار، ح 2. (2) (الكافي) ج 5، ص 294، باب الضرار، ح 8، (وسائل الشيعة) ج 17، ص 341، أبواب إحياء الموات، باب 12، ح 4. (3) (الفقيه) ج 4، ص 334، باب ميراث أهل الملل، ح 5718 (4) (الكافي) ج 5 ص 293، باب الضرار، ح 6 (5) (الكافي) ج 5، ص 280، باب الشفعة، ح 4 (6) (دعائم الإسلام) ج 2، ص 504، ح 1805، (مستدرك الوسائل) ج 17، ص 118، ابواب احياء الموات، باب، 9، ح 1. (*)

 

ولا ضرار - عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك إدعى بعضهم (1) التواتر في هذا الحديث، فلا حاجة إلى التكلم في سنده مع عمل الأصحاب به وإرساله إرسال المسلمات. مضافا إلى صحة سند بعض هذه الروايات. نعم في ثبوت الكلمتين، أي كلمة (في الإسلام) وكلمة (على مؤمن) إشكال، لأن في قضية سمرة بن جندب التي قضية واحدة، روي في بعض الطرق الصحيحة بدون كلمة (على مؤمن) وفي بعض اخر معها. ولكن يمكن أن يقال بعدم اعتبار عدم ذكرها في بعض الطرق بعد بناء الأصحاب على تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة لبناء العقلاء على ذلك، وعدم ذكر الراوي في ذلك الطريق لعدم إحتياجه إلى نقله، أو لجهة أخرى. وأما كلمة (في الإسلام) فيمكن أن يقال فيها بعدم الإشكال أيضا، لا حتمال صدورها وعدم معارض لها. وأما إرسالها من الفقيه فلا يضر مع تلقي الأصحاب لها بالقبول.. المقام الثاني في فقه الحديث أي ما هو مفاد الحديث ومضمونه، وهو العمدة في المقام، لأن المقصود من ذكر هذه القاعدة الفقهية وشرحها وإيضاحها هو أن يكون الفقيه ذا بصيرة في مقام تطبيق هذه القاعدة على الفروع المتفرعة عليه، ولا يتوقف ولا يشتبه في شيء منها. فأقول: أما الفاظ هذه الجملة، أعني كلمة (الضرر) و (الضرار) وإلا ما عداهما، أعني كلمتي (على مؤمن) و (في الإسلام) على فرض ثبوتهما في الحديث لا يحتاج إلى البحث والتكلم فيهما لوضوح المراد منهما.

 

(هامش)

 

(1) (إيضاح الفوائد) ج 2: ص 48. (*)

 

- أما كلمة (الضرر): فقال بعض: إنه أمر وجودي ضد النفع. وقال آخرون: إن التقابل بينه وبين النفع تقابل العدم والملكة، فيكون معناه عدم النفع في موضوع قابل له. والظاهر أن التقابل بينهما تقابل التضاد لا العدم والملكة: لأنه في الموضوع القابل يرجع إلى النقيضين لا يمكن إرتفاعهما، وفيهما يمكن الارتفاع حتى في الموضوع القابل، فالمبيع الذي بيع برأس المال مثلا مع أن تلك المعاملة قابلة للنفع والضرر يصدق أن هذه المعاملة لا نفع فيها ولا ضرر. وعلى كل حال الظاهر من لفظ الضرر عرفا هو النقص في ماله، أو عرضه، أو نفسه، أو في شيء من شؤونه بعد وجوده أو بعد وجود المقتضى القريب له بحيث يراه العرف موجودا. وأما كلمة (الضرار): فقيل بأنه مصدر باب المفاعلة، وحينئذ بناء على أن تكون المفاعلة من الطرفين، يكون معناه الضرر على الغير في مقابل ضرره عليه. وبناء على أن يكون بمعنى تكرار صدور المبدأ من الفاعل سواء أكان الفاعل شخصا واحدا أو شخصين وإن كان يستعمل غالبا فيما كان الفاعل شخصين، ولعل لأجل هذه الغلبة يتبادر بدوا إلى الذهن المشاركة من الطرفين، وإن كان محط النظر فاعلية أحدهما ومفعولية الآخر، كما يقال: ضارب زيد عمرا. وهذا هو الفرق بين باب المفاعلة والتفاعل بعد اشتراكهما في المشاركة، حيث أن النظر في باب التفاعل إلى فاعلية الأثنين، ولذا يقال: تضارب زيد وعمرو برفع الاثنين، بخلاف باب المفاعلة حيث أنه برفع أحدهما ونصب الآخر كما ذكرنا يكون معناه تكرار صدور الضرر. وهذا المعنى مناسب في المقام، لأن قوله صلى الله عليه وآله وسلم لسمرة (أنت رجل مضار) ليس بمعنى صدور الضرر من الطرفين، لأن الأنصاري ما أضر بسمرة، وكون إطلاق لفظة (مضار) عليه بلحاظ موارد الآخر بعيد عن مساق الحديث، بل الظاهر أنه صلى الله عليه وآله وسلم في

 

مقام بيان أن سمرة كثير الضرر ومصر عليه. وأما احتمال أن يكون اسما بمعنى الضرر، لا مصدر باب المفاعلة ففي غاية البعد، لأنه تكرار أولا بدون أي نكتة وفائدة فيه. وثانيا هو خلاف ظاهر هذه الكلمة، لأ نه ظاهر في كونه مصدر باب المفاعلة. ومما يؤيد ما ذكرناه واخترناه في معنى الضرار ورود باب المفاعلة في كثير من الموارد بهذا المعنى، أي كثرة صدور المبدء من شخص وتكراره، كقوله تعالى: (يخادعون الله) (1) وقوله تعالى: (ولا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده) (2) وأمثال ذلك مما في القرآن الشريف أو في غيره. والحاصل: أن لفظ (الضرر) له مفهوم واضح عند العرف، بحيث كل تفسير وشرح له ليس أوضح من نفسه، ومثل هذه المفاهيم ليست قابلة للتعريف الحقيقي، فكل ما يذكر في شرحه يكون تعريفا لفظيا هو أخفى منه. وأما لفظة (الضرار) فهو أيضا كذلك، وهو مصدر باب المفاعلة من نفس المادة، فلا حاجة إلى إيراد ما ذكره اللغويون في المقام والنقض والإبرام فيها. وأما كلمة (لا) فلا شك في أنها لنفي الجنس إذا كان ما بعدها نكرة، نحو: لا رجل في الدار. فتكون ظاهرة في نفي الحقيقة حقيقة، إلا أن يثبت أن النفي إدعائي. هذه شرح كلمات المفردة التي في الحديث. وأما شرح هذه الجملة ومفادها، أعني: لا ضرر ولا ضرار) فالأقوال المعروفة المشهورة التي ذكرها الفقهاء أربعة: الأول: أن يكون مفادها النهي عن ايجاد ضرر الغير، أو مطلقا حتى على النفس،

 

(هامش)

 

(1) البقر ه (2): 9، النساء (4): 142 (2) البقرة (2): 233 (*)

 

فيكون مساقها مساق قوله تعالى: (لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (1) حيث أن الآية الشريفة تدل على حرمة هذه الأمور في الحج. ونظائرها كثيرة في الأخبار، حيث يكون ظاهر الكلام نفي ولكن أريد منه النهي، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل) (2) وغير ذلك من الموارد العديدة. ولقد أصر شيخ الشريعة الإصفهاني (قدس سره) على هذا القول، وتعين هذا الاحتمال من بين الاحتمالات الأربع (3). الثاني: أن يكون مفادها نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ونظائرها كثيرة في الأخبار، كقولهم: - المتصيدة من الروايات - لا شك لكثير الشك (4)، وقوله عليه السلام: (لا سهو في السهو) (5): وقوله عليه السلام: (لا سهو للإمام مع حفظ المأموم) (6) وغيرها من الموارد الكثيرة، فيكون المراد من هذه الجملة بناء على هذا القول أن الموضوعات التي لها أحكام بعناوينها الأولية إذا صارت ضررية وتعنونت بعنوان الضرر يرتفع ذلك الحكم عن ذلك الموضوع، فتكون هذه القاعدة بناء على هذا حاكما على الأدلة الأولية بالحكومة الواقعية تضييقا في جانب الموضوع. وإلى هذا القول ذهب صاحب الكفاية (قدس سره) واختاره (7). الثالث: أن تكون مفادها نفي الحكم الضرري، بمعني أن كل حكم صدر من الشارع فان استلزم ضرر أو حصل من قبل جعله ضرر على العباد - سواء أكان

 

(هامش)

 

(1) البقرة (2): 197 (2) (الكافي) ج 5، ص 50 باب فضل ارتباط الخيل، ح 14، (وسائل الشيعة) ج 13، ص 348، أبواب كتاب السبق والرماية، باب 3، ح 1. (3) (قاعدة لا ضرر ولاضرار) 24 - 27. (4) (وسائل الشيعة) ج 5، ص 329، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 16. (5) (الكافي) ج 3، ص 358، باب من شك في صلاته، ح 5، (وسائل الشيعة) ج 5، ص 340، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 25، ح 2. (6) (وسائل الشيعة) ج 5 ص 338، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب 24. (7) (كفاية الأصول) ص 381. (*)

 

الضرر على نفس المكلف أو على غيره، كوجوب الوضوء الذي حصل من قبل وجوبه ضرر مالي أو بدني على المكلف، وكلزوم المعاملة في المعاملة الغبنية حيث نشأ من قبله ضرر على المغبون - مرفوع ولا يخفى أنه بناء على هذا القول استعمل كلمة (لا) في معناها الحقيقي، لأن معناها الحقيقي كما ذكرنا نفي جنس مدخوله حقيقة لا ادعاء، ولا شك في أن رفع الحكم الضرري من الشارع رفع حقيقي، لأنه لا وجود للحكم الضرري - لو كان - إلا في عالم التشريع، والمفروض أنه رفعه بهذه الجملة بناء على هذا القول. والفرق بين هذا القول والقول الثاني، أي ما ذهب إليه صاحب الكفاية (قدس سره) لا يكاد يخفى، لأن المرفوع ابتداء في القول السابق هو متعلق الحكم، وفي هذا القول نفس الحكم. ويترتب على هذا الفرق آثار، وقد ذكرنا في دليل الانسداد أن لزوم الاحتياط بالجمع بين المحتملات - في حال الانسداد في أطراف المعلوم بالإجمال - بحكم العقل فإذا كان الاحتياط بالمعنى المذكور حرجيا أو ضرريا فإن قلنا بالقول الثاني - أي ما ذهب إليه صاحب الكفاية في قاعدتي الضرر والحرج - فلا يمكن رفع وجوب الاحتياط بكل واحدة من القاعدتين: لأن متعلق الأحكام الواقعية ليس فيها حرج ولا ضرر حتى يرتفع برفعها الأحكام، والاحتياط، أي الجمع بين المحتملات. وإن كان حرجيا أو ضرريا ولكن وجوبه عقلي، ليس من المجعولات الشرعية حتى يرتفع برفع موضوعه في عالم التشريع، وهو (قدس سره) اعترف في الكفاية بذلك. وأما لو قلنا بالقول الثالث، أي كون المرفوع نفس الحكم الذي نشأ من قبله الضرر، فيمكن أن يقال: إن الضرر نشأ من قبل الأحكام المجعولة فترتفع، فلا يبقى موضوع لحكم العقل بوجوب الاحتياط، فيكون الاحتياط لو كان واجبا شرعيا لا عقليا بالمقدار الذي يرفع الخروج من الدين.

 

وخلاصة الكلام: أنه تظهر الثمرة بين القولين - أي الثاني والثالث - في كل مورد لا يكون موضوع الحكم ضرريا، ولكن نفس الحكم يكون ضرريا. وبعبارة أخرى: يكون الضرر مسببا عن نفس الحكم كما ربما تكون المعاملة الغبنية كذلك، فإن الضرر يأتي من قبل لزوم المعاملة، لا من نفس المعاملة، واللزوم حكم شرعي، ففي جميع هذه الموارد بناء على القول الثاني لا حكومة لقاعدة لا ضرر على الأدلة الأولية، بخلاف القول الثالث فإنها بناء عليه تكون حاكمة عليها، فظهر الفرق بين القولين بحسب الماهية والآثار. الرابع: أن مفادها نفي الضرر غير المتدارك، بمعنى أن الشارع ينهى عن الضرر غير المتدارك. وتقريبه بأن يكون الضرر المتدارك في حكم العدم ولا يراه الشارع ضرر، كما هو كذلك عند العرف والعقلاء، فنفي الضرر المطلق بناء على هذا الفرض يرجع إلى نفي الضرر غير المتدارك، والظاهر حينئذ من نفي الضرر غير المتدارك في عالم التشريع لزوم التدارك، لأن المفروض أن الضرر المتدارك منزل منزلة العدم، فإذا كان النفي بمعنى النهي فيكون الضرر غير المتدارك منهيا إيجاده، وهذا كناية عن وجوب تداركه. كما أنه إذا قال: لا تقبل هدية بلا عوض، فيكون كناية عن أنه إذا أهدى اليك شخص هدية فلا تجعله بلا عوض ولا تدارك، بل يجب عليك تداركها باهداء شيء إلى المهدي في مقابلها. إذا عرفت هذه الوجوه والأقوال فنقول: الصحيح من هذه الاحتمالات والأقوال هو الذي ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري (1) وشيخنا الاستاذ (2) (قدس سره) وذلك من جهة أنه لا شك في أنه صلى الله عليه وآله وسلم في مقام

 

(هامش)

 

(1) (المكاسب) ص 372. (2) (منية الطالب) ج 2، ص 201. (*)

 

التشريع، وفي مقام أن الحكم المشروع في المقام حكم إمتناني على الأمة: فالحديث ظاهر سياقا في أمرين: أحدهما: أن الرفع رفع تشريعي، إذ لا معنى لأن يكون إنشاء الرفع لرفع التكويني، لأنه أولا المناسب لمقام الشارعية هو أن يكون رفعه ووضعه رفعا ووضعا تشريعيا لا تكوينيا، لخروج ذلك عن وظيفته وليس من شؤنه. وثانيا: أن الرفع التكويني لا يمكن أن يحصل بإنشاء الرفع، بل لابد له من أسبابه التكوينية. وأما إحتمال أن يكون إخبارا عن الرفع التكويني، ففي غاية السقوط، لأنه كذب أولا: وثانيا لاربط له بمقام الشارعية. وأما كونه في مقام الامتنان يدل عليه مضافا إلى تسالم الأصحاب على ذلك في فتاويهم، سوق الكلام لذلك، حيث يخاطب سمرة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت رجل مضار) أي مصر على الضرر، كما استظهرنا من هذه اللفظة، ثم يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا ضرر ولا ضرار). فإذا ظهر ظهور الحديث الشريف في هذين الأمرين، من دون الاحتياج إلى كلمة (على مؤمن) أو كلمة (في الإسلام) فنقول: لا شك في أن الرفع التشريعي ظاهره أن المرفوع من الأحكام الشرعية: لأن رفعها يكون رفعا حقيقيا لاادعائيا، لأنه لا وجود للأحكام الشرعية إلا في عالم التشريع، فإذا رفعه في عالم التشريع يرتفع من عالم الوجود حقيقة وبقول مطلق، وقد بينا في شرح مفردات والفاظ الحديث أن كلمة (لا) ظاهرة في نفي جنس مدخولها حقيقة إذا كان المدخول نكرة وأما إذا كان المرفوع أمرا تكوينيا فلا بد أن يكون الرفع إدعائيا لا حقيقيا، فتكون النتيجة رفع الحكم حقيقة برفع الموضوع ادعاء، كقولهم - المتصيدة من الروايات - (لا شك لكثير الشك). ولكن هذا المعنى خلاف ظاهر هذه الجملة، لا يصار إليه إلا بعد عدم إمكان رفع المدخول لكلمة (لا) حقيقة. وفيما نحن فيه يمكن ذلك، أي الرفع الحقيقي لمدخول (لا).

 

 

بيان ذلك: أن الضرر الناشئ من قبل الأحكام الشرعية ويكون مسببا عنها يمكن رفعه حقيقة من عالم الوجود برفع أسبابه التشريعية، أي رفع ذلك الحكم الذى ينشأ من قبله الضرر، فالمرفوع حقيقة هذا القسم من الضرر لا بتقييد في لفظ الضرر، أو بتجوز، أو إضمار، أو تقدير أو غير ذلك، بل الرفع التشريعي في مقام الامتنان على الأمة يقتضي ذلك وقاصر عن شموله لأزيد من هذا، إذ رفع سائر الأضرار - أي الأضرار الخارجية - لاربط لها بالشارع في هذا المقام. نعم لا ننكر أن الشارع قد يدعي رفع موضوع خارجي بلحاظ رفع حكمه، ولكن هذا فيما لا يمكن رفعه حقيقة في عالم التشريع، فمقتضى ظاهر هذه الجملة هو رفع الضرر الذي منشأه الحكم الشرعي برفع نفس الحكم، فيكون الحديث حاكما على إطلاقات وعمومات الأدلة الأولية بالحكومة الواقعية تضييقا في جانب المحمول. وهذا من هذه الجهة أيضا يفارق قول صاحب الكفاية (قدس سره) من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، لأن ما قاله تكون نتيجة الحكومة في جانب الموضوع، وهذا القول تكون نتيجة الحكومة في جانب المحمول. ثم أنه ظهر مما ذكرنا فساد سائر الأقوال أما القول الأول: وهو أن يكون النفي بمعنى النهي، فلأجل أنه خلاف الظاهر، لما ذكرنا من ظهور الجملة في الرفع التشريعي، فلاربط له بالضرر الخارجي التكويني كي يتوهم أن النفي بمعنى النهي، وإلا يلزم الكذب، أو يقال أن نفيه إدعائي من باب نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، فهذان القولان متوقفان على أن يكون الرفع رفع الضرر التكويني، حتى يؤول بأحد الوجهين كي لا يلزم الكذب، هذا أولا. وثانيا: ذكرنا ظهور الحديث وسوقه في مقام الامتنان، وأي امتنان في إلزام المكلف بلزوم ترك الإضرار، بل هذا تحميل وتكليف، فتأمل وثالثا: حمل الجملة الخبرية على الانشاء خلاف ظاهر اللفظ، فيحتاج إلى قرينة

 

صارفة مفقودة في المقام. والعجب ممن يصر على ذلك المعنى وظاهر الحديث أجنبي عنه. وأما القول الثاني: - أي نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، الذي ذهب إليه صاحب الكفاية قدس سره) فقد ظهر - فساده أيضا مما ذكرنا من توقفه على أن يكون المراد من الضرر هو الضرر الخارجي التكويني، حتى تخرج عن ظاهر الجملة، (من جهة لزوم الكذب بأنه ليس رفعا حقيقيا، وإنما هو رفع ادعائي باعتبار رفع حكم الموضوع الضرري. وقد عرفت أن الضرر الخارجي يرجع إلى إدعاء الرفع باعتبار رفع حكمه، وهذا خلاف ظاهر كلمة (لا) ولا يصار إليه إلا بعد عدم إمكان الرفع الحقيقي، وفي المقام ممكن كما عرفت: هذا أولا. وثانيا: مرجع رفع الحكم برفع الموضوع في المقام إلى رفع حكم المجعول على نفس عنوان الضرر حتى يصير من مصاديق رفع الحكم برفع الموضوع، وحكم المجعول للضرر بمعناه المصدري - أي الإضرار - ليس إلاالحرمة التكليفية، إذ بمعناه الاسم المصدري - أي الضرر الحاصل من الإضرار - لاحكم له، لا تكليفا ولا وضعا. أما تكليفا فمعلوم، لأنه بهذا المعنى ليس من فعل المكلف حتى يكون مركزا ومحل تعلق التكليف. وأما وضعا فمن جهة أن نفس الضرر بالمعنى الاسم المصدري ليس من أسباب الضمان، فلا بد وأن يكون حكمه المرفوع بناء على هذا القول حرمة الإضرار، وهذا ينتج عكس ما أراده صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الجملة تماما. إن قلت: إن هذا يلزم لو كان المرفوع نفس عنوان الضرر، وأما لو كان الفعل المعنون بهذا العنوان - وبعبارة أخرى: يكون المراد من الضرر ما هو المضر - فلا يرد هذا الإشكال، بل يكون حاكما على العمومات والإطلاقات التي تثبت الأحكام للافعال بعناوينها الأولية بتقييد تلك الإطلاقات، وتخصيص تلك العمومات بصورة

 

عدم تعنون تلك الأفعال بعنوان الضرر. غاية الأمر ذلك التقييد والتخصيص اللبي بلسان الحكومة الواقعية تضييقا في جانب المحمول، وهذا عين الغرض والمقصود من هذه الجملة، فما انتج هذا القول خلاف المقصود. قلت: إن إرادة الفعل الذي صار سببا للضرر من الضرر مجاز لا يصار إليه إلا بالقرينة: لأنه من استعمال المسبب وإرادة السبب. نعم هذا صحيح فيما إذا لا يمكن ارادة نفس المسبب، فلا بد من أن يحمل على إرادة السبب، أو محملا آخر صونا للكلام عن الكذبية أو محذور آخر وقد عرفت أنه في المقام يمكن إرادة نفي نفس الضرر حقيقة بالبيان المتقدم، فلا يقاس ما نحن فيه بحديث الرفع بالنسبة إلى رفع الخطأ والنسيان، حيث حملوها على رفع الفعل الذي صدر عن خطأ ونسيان، لأن الرفع هناك لا يمكن أن يسند إلى نفس الخطأ والنسيان وإرادة نفيهما، لا تكوينا لأنه كذب، ولا تشريعا لأنه يلزم منه أن يكون الفعل الذي صدر خطأ بحكم العمد: لأن حكم الخطأ مرفوع على الفرض، وهذا عكس ما هو المقصود من حديث الرفع، من كونه في مقام الامتنان على الأمة ويكون ضد الامتنان، ومن ايقاعهم في غاية الكلفة والمشقة، فلابد من حملهما على الفعل الذي صدر نسيانا أو خطأ. إن قلت: بناء على ما اخترت من كون مفاد الحديث نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر، أيضا كذلك يلزم أن يكون استعمال الضرر مجازا: لأنه أريد منه أيضا سببه، أي الحكم الذي يكون سببا للضرر، فيكون أيضا من استعمال المسبب وإرادة السبب. قلت: بين المقامين فرق واضح، فإنه في الأول - أي فيما إذا كان المراد من الضرر الضرر الخارجي - لا يمكن أن يكون المراد نفي الضرر، لأنه كذب، فلابد أن يراد منه سببه، وهذا هو المجاز.

 

وأما في المقام فحيث إن المراد من الضرر الضرر الذي ينشأ من قبل الحكم، يمكن رفعه حقيقة بالرفع التشريعي وبرفع منشأه، أي الحكم الذي نشأ من قبله الضرر، فيصح أن يكون المراد نفي الضرر الكذائي من دون تجوز ولا تقدير ولا غير ذلك، فبالدلالة الالتزامية يدل على نفي الحكم الذي يكون سببا للضرر، لا أنه أريد من لفظ الضرر هذا المعنى كي يكون مجازا. وأما القول الرابع: ففيه أولا: أن الضرر المتدارك منزل منزلة العدم - على فرض صحته وتماميته - يكون ذلك فيما إذا تحقق التدارك في الخارج، لا بصرف حكم الشارع بوجوب التدارك، خصوصا إذا كان حكمه تكليفا لا وضعا، فإذا كان المراد من نفي الضرر نفي غير المتدارك منه، بمعنى أنه كل ضرر يجب تداركه، فالضرر الذي لا يجب تداركه منفي في الإسلام. فهذه الدعوى مركبة من أمرين: أحدهما: أن الضرر الذي يجب تداركه نازل منزلة العدم. وهذا هو الذي أشكلنا عليه بأنه بصرف الحكم الشرعي بوجوب تداركه لا يراه العرف والعقلاء منزلة العدم، خصوصا إذا كان حكمه هذا حكما تكليفيا. والثاني: أن يكون نفي الضرر غير المتدارك كناية عن وجوب تدارك كل ضرر بجعل الجملة الخبرية بمعنى الإنشائية، أي النهي عن الضرر غير المتدارك، كي يكون هذا النهي كناية عن وجوب تدارك كل ضرر تكليفا بل وضعا. وفي هذه الدعوى الثانية أنه إذا كان المراد من وجوب تداركه الحكم الوضعي بضمانه، فهذا غير ثابت في الشريعة، وليس الضرر من أسباب الضمان، وقد عدها الفقهاء من الإتلاف واليد والعقود المعاوضية الفاسدة والتغرير وغير ذلك، ولم يذكروا في جملتها الضرر، وإذا كان المراد صرف الوجوب التكليفي، فهذا أيضا غير معلوم في جملة من الموارد، مضافا إلى أنه لا يوجب كونه نازل منزلة العدم، كما ذكرنا، هذا أولا.

 

وأما ثانيا: فيرد عليه كل ما أوردنا عليه في القول الأول من كون النفي بمعنى النهي، بناء على أن يكون مبنى هذا القول أيضا كون النفي بمعنى النهي، كما شرحناه مفصلا. وخلاصة الكلا م: أنه لا يجوز الخروج عما هو ظاهر الجملة إلا من جهة ملزمة لذلك، وقد عرفت ما هو الظاهر منها وعدم جهة ملزمة للخروج عن ذلك الظاهر، فلا مناص إلا عن اختيار ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) من أن ظاهر الحديث هو الاحتمال الثالث الذي ذكرناه من نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر. (1) والحاصل: أن هذه الاحتمالات الأربع كلها ممكنة في عالم الثبوت، ولكن في مقام الإثبات بينها طولية وترتيب. فالمراتب كعدد الاحتمالات أربع مراتب، لا تصل النوبة إلى الثاني إلا بعد تعذر الأول، وهكذا على حسب الترتيب. الأول: هو رفع الضرر الذي ينشأ من قبل الحكم الشرعي حقيقة وواقعا برفع سببه أي الحكم، وهذا هو المعنى الظاهر من هذه الجملة، والظاهر من معنى كلمة (لا) الموضوعة لنفي الجنس بالنفي البسيط مقابل الجعل البسيط، والمراد من البسيط - في كليهما - أن يكون المنفي والمجعول نفس وجود الشيء. ويشهد لما ذكرنا - من ظهور كلمة (لا) لذلك - أنهم اتفقوا على أن خبر (لا) النافية للجنس هو مفهوم (موجود) ودائما محذوف لمعلوميته. فإذا تعذر هذا المعنى - أي النفي الحقيقي حقيقة لا إدعاء - فتصل النوبة إلى الثاني، أي نفى الحكم بلسان نفي الموضوع، وهذا النفي نفي تركيبي، مقابل الجعل التركيبي، أي نفي الحكم عن هذا الموضوع. فقول الفقهاء (لا شك لكثير الشك) في الحقيقة عبارة عن نفي حكم الشك - وهو البناء على الأكثر - عن شك كثير الشك. وإن شئت قلت:

 

(هامش)

 

(1) (المكاسب) ص 372. (*)

 

إنه نفي بسيط أما ادعاء. وبهذا الاعتبار يكون بعد تعذر المعنى الأول الذي هو الموضوع له حقيقة لا إدعاء، ويكون قبل الاحتمالين الأخيرين لأنه أيضا معنى حقيقي لكن ادعاء. وإذا تعذر هذا المعنى تصل النوبة إلى احتمال الثالث الذي هو عبارة عن كون النفي بمعنى النهي الذي هو خروج عن الظاهر، أي المعنيين الحقيقيين التحقيقي والادعائي وان كان بينهما أيضا طولية، كما ذكرنا. ولكن مع أنه خروج عن الظاهر مقدم على احتمال الرابع، وهو أن يكون كناية عن لزوم تدارك الضرر باشتغال ذمة الذى أوقع الضرر، لا بصرف وجوبه تكليفا كما شرحنا س، لأنه خلاف الظاهر من جهتين: الأولى: كون النفي بمعنى النهي، وقلنا إنه خروج عن الظاهر، وإن أصر عليه النراقي، (1) وشيخ الشريعة الاصفهاني قدس سرهما (2). الثانية: تنزيل الضرر المتدارك منزلة المعدوم، وإرادة خصوص الضرر غير المتدارك منه. وينبغي التنبيه على أمور الأول: في الإشكالات على تطبيق هذه الجملة على مواردها التي طبق صلى الله عليه وآله وسلم عليها. فمنها: في قضية سمرة بن جندب التي تقدم ذكرها مفصلا، وأشكل عليه أولا: بأنها لا تنطبق على أمره صلى الله عليه وآله وسلم بقلع العذق والرمي بها وجهه: لأن

 

(هامش)

 

(1) ليس هذا مختار النراقى، فراجع: (عوائد الايام) ص 18 - 19. (2) (قاعدة لاضرر ولاضرار) ص 24 - 27. (*)

 

حق سمرة في ذلك البستان من حيث بقاء عذقه فيه ليس ضرريا، بل الضرر في جواز دخوله فيه بلا استيذان، فيلزم تخصيص المورد وهو مستهجن، فيلزم اجمال العام. وأجيب على هذا الإشكال بأنه (ص) لم يطبق الجملة على هذه القضية من هذه الجهة، وإنما كان حكمه بقلع عذقه من جهة ولا يته (ص) على النفوس والأموال تأديبا وحسما لمادة الفساد بعد أن تمرد من قبول الحكم الشرعي، أي وجوب الإستيذان، أو عدم إباحة دخوله بغير الإذن الذي هو مفاد (لا ضرر ولا ضرار)، فتطبيقه كبرى لا ضرر بلحاظ هذا المعنى لا بلحاظ أمره بقلع العذق، فليس من باب تخصيص المورد - كي يكون مستهجنا ويكون موجبا لسقوط حجية العام وإجماله. وقد أجاب شيخنا الاستاذ (قدس سره) عن هذا الإشكال بأن ضرر الأنصاري ولو كان مستندا إلى جواز الدخول بغير إذنه وهو الجزء الأخير لعلة الضرر، ولكن جواز الدخول من غير إستيذان بالأخرة ينتهي إلى حقه لإبقاء عذقه في ذلك البستان، فذلك الحق الذي هو حكم شرعي وضعي نشأ من قبله الضرر، فيكون الضرر عنوانا ثانويا لذلك الحق، فيرتفع بارتفاع الضرر بالمطابقة أو بالالتزام، فلا يرد إشكال حتى بناء على تطبيقه على مسألة العذق. (1) وفيه أولا: أن صرف كون منشأ الضرر - أي جواز الدخول بغير الإستيذان من آثار الحق - لا يوجب تعنون الحق بعنوان الضرر وأن يكون الضرر عنوانا ثانويا له، فإذا كان الضرر عنوانا ثانويا للدخول بغير الإذن يرتفع نفس جواز الدخول بغير الإذن من دون تأثير في ارتفاع الحق. هذا مضافا إلى ما بينا سابقا أن سوق لا ضرر في مقام الامتنان فلا يجري فيما إذا كان موجبا لضرر الغير: لأنه كما أن بقاء حق السمرة في إبقاء عذقه في بستان الأنصاري لو سلمنا أنه منشأ للضرر كذلك منعه عن حقه وقلع عذقه ضرر عليه (هامش)

 

(1) (منية الطالب) ج 2، ص 209 - 210. (*)

 

فيدخل في باب تعارض الضررين بل تزاحم الحقين. فالصواب في الجواب أن يقال: إن تقديم حق الأنصاري لحفظ عرضه من جهة أهميته في نظر الشارع، كما هو الشأن في باب التزاحم من تقديم الأهم على المهم، وهو أحد المرجحات الخمسة في باب التزاحم بل أهمها. ومنها: تطبيقه (ص) هذه الجملة على عدم جواز منع فضل الماء لمنع الكلاء لأهل البادية. وأشكل على ذلك أيضا بأن هذا التطبيق خلاف الامتنان بالنسبة إلى مالك الماء، بل يكون ضررا عليه لسلب سلطنته ومنعه عن حقه، وهكذا الأمر في تطبيقه (ص) على الشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن، فيشكل على هذا التطبيق بعين الإشكال المتقدم وكذلك في مسألة جدار حائط الجار إذا سقط من عند نفسه فلا يجب عليه أن يبنيه، وأما إذا هدمه هو أي الجار صاحب الجدار فلا يترك ويجب عليه أن يبنيه، فذلك الإشكال - أي منع المالك عن التصرف في ماله - موجود. والجواب عن الجميع أما في مسألة عدم جواز منع الماء، فلعله من جهة أن عدم جواز منعهم ليس من جهة حرمة المنع، بل نهي تنزيهي ومثل هذا النهي ليس منافيا لحق المالك أو لحق الأولوية التي للمانع. ولكن هذا التوجية بعيد، لعدم ملائمته مع كونه من قضائه (ص) بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع نقع الشيء، وبين أهل البادية أنه لا يمنع فضل الماء ليمنع فضل الكلاء. فالأولى أن يقال: قدم رفع ضرر أهل البادية ومشارب النخل لأهل المدينة لأهميته، فإن عدم تلف حيوانات أهل البادية وعدم تلف نخيل أهل المدينة كان أهم من حفظ حق الأولوية الذي كان لصاحب الماء ومالكه أو من كان أولى به، وهذا

 

واضح جدا. وأما مسألة الشفعة فليس جعل حق الشفعة ضررا لا على البائع ولا على المشتري، أما على البائع فمعلوم: لعدم الفرق له بين أن يكون المبيع بعد انتفاله عنه ملكا للشفيع بواسطة أخذه بحق الشفعة، أو يكون ملكا للمشتري. وأما المشتري فلأنه من أول الأمر أقدم على اشتراء مال يصير متعلقا لحق الغير بمحض اشترائه. وأما مسألة الجدار فعدم جواز هدمه ووجوب بنائه عليه لو هدمه وأنه لا يترك، فمن جهة أهمية حق المهدوم عليه من حق الهادم، خصوصا إذا كان مستلزما لهتك عرضه وتلف أمواله. التنبيه الثاني: أشكل شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره) على تمامية هذه القاعدة المستفادة من قوله (ص) (لا ضرر ولا ضرار) بلزوم تخصيص الأكثر. (1) بيان ذلك: أنه بعد ما كان المراد من قوله (ص) كما استفدناه - نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر وأنه لم يجعل في الدين مثل هذا الحكم نرى أنه في كثير من أبواب الفقه مثل هذا الحكم مجعول، كأبواب الحج، والزكوة، والخمس، وأبواب الجهاد، والضمانات بواسطة اليد أو الاتلاف، إلى غير ذلك. ثم أجاب عنه: بأنه من الممكن أن يكون بين الأفراد الخارجة عن تحت هذا العموم جامع، والتخصيص يكون بعنوان إخراج ذلك الجامع الواحد، وقال: إذا كان كذلك فإخراج عنوان واحد عن تحت عموم العام من العناوين التي يتعنون العام بها ليس بمستهجن، وإن كان أفراد العنوان الخارج أكثر من الأفراد الباقي تحت العام. واعترض عليه صاحب الكفاية (قدس سره) بأن خروج عنوان واحد عن العام ليس بمستهجن، ولو كان أفراده أكثر من الأفراد الباقي تحت العام إذا كان عموم العام

 

(هامش)

 

(1) (فرائد الأصول) ج 2، ص 537. (*)

 

أنواعيا وكان محط العموم الأصناف التي للعام. وأما لو كان محط العموم والنظر إلى الأشخاص ومصاديقه، فلا فرق في استهجان تخصيص أكثر الأفراد بين أن يكون بعنوان واحد وتحت جامع واحد (1) فلو كان عنوانا واحدا ولكن محط العموم هو المصاديق والأفراد مثل (أكرم كل عالم) فلو كان المخصص عنوانا واحدا مثل (إلا أن يكون فاسقا) وكان أفراد الخاص أكثر من الباقي بعد الإخراج، يكون هذا التخصيص مستهجنا وإن كان بعنوان واحد. وأما إن كان محط العموم أنواع العالم، من الصرفي والنحوي والأصولي والمنطقي والفقهاء إلى غير ذلك من الأنواع، وكان المخصص عنوان النحويين مثلا، وفرضنا أفراده كان أكثر من مجموع الأنواع الآخر، فهذا التخصيص ليس بمستهجن والسر في ذلك هو أن إلقاء ما ليس بعام عند العرف بحسب مراده بصورة العموم خروج عن طريقة الإفادة والاستفادة عندهم، فيكون ركيكا مستهجنا عندهم، فلا بد وأن يلاحظ مصب العموم، فإن كان الأنواع فخروج المتكلم عن طريقة العرف وأهل المحاورة بإخراج أكثر الأنواع، وإن كان مصبه الأفراد فخروجه عن طريقتهم هو إخراج أكثر الأفراد، سواء أكان بعنوان واحد جامع لتلك الأفراد المختلفة، أم كان بعناوين متعددة. والشاهد على ذلك الوجدان، ومراجعة أرباب المحاورة. ولا فرق في ما ذكرنا بين أن يكون العام من قبيل القضية الخارجية أو القضية الحقيقية. نعم تصوير العموم الأنواعي في القضية الخارجية لا يخلو عن إشكال، بخلاف القضية الحقيقية فإنه قد يكون الحكم فيها على العام بلحاظ جميع وجوداته ومصاديقه وأفراده - كما هو الحال في أغلب المسائل التي لجميع العلوم والفنون، والقضايا التى تجعل كبرى في الشكل الأول - وقد يكون الحكم فيها بلحاظ جميع أنواعه وأصنافه،

 

(هامش)

 

(1) (درر الفوائد في الحاشية على الفرائد) ص 284. (*)

 

ولا نظر للحاكم إلى قلة الأفراد وكثرتها. ففي القسم الأول من القضية الحقيقية تخصيص أكثر الأفراد مستهجن ولو كان بعنوان واحد، وفي القسم الثاني تخصيص أكثر الأنواع مستهجن ولو كان أفراد أكثر الأنواع الخارج بالتخصيص أقل بكثير من أفراد ذلك النوع الواحد الباقي تحت العام. فالمناط كل المناط في الاستهجان هو تخصيص الأكثر مما هومصب العموم، سواء أكان هو الأنواع أو كان هو الأفراد، وسواء أكان الخارج هو بعنوان واحد أو بعناوين. فإشكال صاحب الكفاية (قده) وارد على ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) وما ذكره شيخنا الأستاذ (قدس سره) من الفرق بين القضية الحقيقية والخارجية، وجعله تحقيقا في المقام (1) لا يخلو من الخلل كما عرفت وجهه. هذا كله بحسب الكبرى، وأما بحسب الصغرى فلا شك أن مصب العموم في القاعدة هي الأفراد، إذ مفادها كما استظهرنا من أدلتها هو نفي كل حكم ضرري، أي ينشأ من قبله الضرر. وليس مفادها نفي كل نوع من أنواع الأحكام الضررية حتي لا يكون خروج نوع واحد موجبا للاستهجان، ولو كان أفراده أكثر مما بقى تحت العام. هذا، مضافا إلى أن الخارج من هذا العموم - على فرض تسليم التخصيص - ليس عنوان واحد، وإنما هو صرف فرض شيخنا الأعظم الأنصاري (قدس سره)، لأن الأحكام الضررية مجعولة بعناوين موضوعاتها، كعنوان الحج والجهاد والخمس والزكاة، وعنوان من أتلف واليد والمقبوض بالعقد الفاسد، إلى غير ذلك من العناوين التي يجدها الفقيه المتتبع، بل موضوع الأحكام الضررية موضوعات مسائل هذه الأبواب. فالصواب في الجواب عن أصل إشكال تخصيص الأكثر: أن خروج هذه المذكورات عن تحت القاعدة بالتخصص، وليس تخصيص في البين أصلا.

 

(هامش)

 

(1) (منية الطالب) ج 2، ص 210 - 211. (*)