دعاؤه عليه السلام في المناجاة

 

عن نوف البكاليّ: رَأَيتُ أميرَ المُؤمِنينَ صَلَواتُ اللهِ عَلَيهِ مُوَلِّياً مُبادِراً. فَقُلتُ: أينَ تُريدُ يا مَولايَ؟ فَقالَ: دَعني يا نَوفُ، إنَّ آمالي تُقَدِّمُني فِي المَحبوبِ. فَقُلتُ: يا مَولايَ، وما آمالُكَ؟قالَ: قَد عَلِمَهَا المَأمولُ، وَاستَغنَيتُ عَن تَبيينِها لِغَيرِهِ، وكَفى بِالعَبدِ أدَباً أن لا يُشرِكَ في نِعَمِهِ وأرَبِهِ غَيرَ رَبِّهِ.فَقُلتُ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، إنّي خائِفٌ عَلى نَفسي مِنَ الشَّرَهِ وَالتَّطَلُّعِ إلى طَمَعٍ مِن أطماعِ الدُّنيا. فَقالَ لي: وأينَ أنتَ عَن عِصمَةِ الخائِفينَ وكَهفِ العارِفينَ؟! فَقُلتُ: دُلَّني عَلَيهِ؟ قالَ: اللهُ العَلِيُّ العَظيمُ، يصِلُ أمَلَكَ بِحُسنِ تَفَضُّلِهِ، وتُقبِلُ عَلَيهِ بِهَمِّكَ، وأعرِض عَنِ النّازِلَةِ في قَلبِكَ، فَإِن أحلَكَ بِها فَأَنَا الضّامِنُ مِن مَورِدِها، وَانقَطِع إلَى اللهِ سُبحانَهُ فَإِنَّهُ يَقولُ:وَعِزَّتي وجَلالي لَاُقَطِّعَنَّ أمَلَ كُلِّ مَن يُؤَمِّلُ غَيري بِاليَأسِ، ولَأَكسُوَنَّهُ ثَوبَ المَذَلَّةِ فِي النّاسِ، ولَاُبَعِّدَنَّهُ مِن قُربي، ولاُقَطِّعَنَّهُ عَن وَصلي، ولَاُخِلينَّ ذِكرَهُ حينَ يَرعى غَيري، أيُؤَمِّلُ وَيلَهُ لِشَدائِدِهِ غَيري وكَشفُ الشَّدائِدِ بِيَدي؟! ويَرجو سِوايَ وأنَا الحَيُّ الباقي؟! ويَطرُقُ أبوابَ عِبادي وهِيَ مُغلَقَةٌ ويَترُكُ بابي وَهُوَ مَفتوحٌ؟! فَمَن ذَا الَّذي رَجاني لِكَثيرِ جُرمِهِ فَخَيَّبتُ رَجاءَهُ؟!جَعَلتُ آمالَ عِبادي مُتَّصِلَةً بي، وجَعَلتُ رَجاءَ هُم مَذخوراً لَهُم عِندي، ومَلأتُ سَماواتي مِمَّن لا يَمِلُّ تَسبيحي، وأمَرتُ مَلائِكَتي أن لا يُغلِقُوا الأَبوابَ بَيني وبَينَ عِبادي. ألَم يَعلَم مَن فَدَحَتهُ (1) نائِبَةٌ مِن نَوائِبي أن لا يَملِكَ أحَدٌ كَشفَها إلّا بِإِذني؟! فَلِمَ يُعرِضُ العَبدُ بِأَمَلِهِ عَنّي وقَد أعطَيتُهُ ما لَم يَسأَلَني؟! فَلَم يَسأَلني وسَأَلَ غَيري.أفَتَراني أبتَدِئُ خَلقي مِن غَيرِ مَسأَلَةٍ ثُمَّ اُسأَلُ فَلا أُجيبُ سائِلي؟ أبَخيلٌ أنَا فَيُبَخِّلُني عَبدي؟! أوَليسَ الدُّنيا وَالآخِرَةُ لي؟! أوَلَيسَ الكَرَمُ وَالجودُ صِفَتي؟! أوَ لَيسَ الفَضلُ وَالرَّحمَةُ بِيَدي؟! أوَ لَيسَ الآمالُ لا يَنتَهي إلّا إلَيَّ؟! فَمَن يَقطَعُها دوني، وما عَسى أن يُؤَمِّلَ المُؤَمِّلونَ مَن سِوايَ!وعِزَّتي وجَلالي، لَو جَمَعتُ آمالَ أهلِ الأَرضِ وَالسَّماءِ ثُمَّ أعطَيتُ كُلَّ واحِدٍ مِنهُم، ما نَقَصَ مِن مِلكي بَعضُ عُضوِ الذَّرَّةِ، وكَيفَ يَنقُصُ نائِلٌ أنَا أفَضتُهُ؟! يا بُؤساً لِلقانِطينَ مِن رَحمَتي! يا بُؤساً لِمَن عَصاني! تَوَثَّبَ عَلى مَحارِمي ولَم يُراقِبني، وَاجتَرَأَ عَلَيَّ.ثُمَّ قالَ عَلَيهِ وعَلى آلِهِ السَّلامُ لي: يا نَوفُ ادعُ بِهذَا الدُّعاءِ:إلهي، إن حَمِدتُكَ فَبِمَواهِبِكَ، وإن مَجَّدتُكَ فَبِمُرادِكَ، وإن قَدَّستُكَ فَبِقُوَّتِكَ، وإن هَلَّلتُكَ فَبِقُدرَتِكَ، وإن نَظَرتُ فَإِلى رَحمَتِكَ، وإن عَضَضتُ فَعَلى نِعمَتِكَ. إلهي إنَّهُ مَن لَم يَشغَلهُ الوَلوعُ بِذِكرِكَ ولَم يَزوِهِ السَّفه (2) بِقُربِكَ كانَت حَياتُهُ عَلَيهِ ميتَةً، وميتَتُهُ عَلَيهِ حَسرَةً.
إلهي تَناهَت أبصارُ النّاظِرينَ إلَيكَ بِسَرائِرِ القُلوبِ، وطالَعَت أصغَى السّامِعينَ (3) لَكَ بخفِيّاتِ الصُّدورِ، فَلَم يَلقَ أبصارَهُم رَدٌّ دونَ ما يُريدونَ، هَتَكتَ بَينَكَ وبَينَهُم حُجُبَ الغَفلَةِ، فَسَكَنوا في نورِكَ، وتَنَفَّسوا بِرَوحِكَ.فَصارَت قُلوبُهُم مغارِس لِمحبَتِكَ، وأبصارُهُم ماكِف لِقُدرَتِكَ، وقَرُبَت أرواحُهُم مِن قُدسِكَ، فَجالَسُوا اسمَكَ بِوَقارِ المُجالَسةِ، وخُضوعِ المُخاطَبَةِ، فَأَقبَلتَ إلَيهِم إقبالَ الشَّفيقِ، وأنصَتَّ لَهمُ إنصاتَ الرَّفيقِ، وأجَبتَهُم إجاباتِ الأَحِبّاءِ، وناجَيتَهُم مُناجاةَ الأَخِلّاءِ، فأَبَلِّغ بِيَ المَحَلَّ الَّذي إلَيهِ وَصَلوا، وَانقُلني مِن ذِكري إلى ذِكرِكَ، ولا تَترُك بَيني وَبَينَ مَلَكوتِ عِزِّكَ باباً إلّا فَتَحتَهُ، ولا حِجاباً مِن حُجُبِ الغَفلَةِ إلّا هَتَكتَهُ، حَتّى تُقيمَ روحي بَينَ ضِياءِ عَرشِكَ، وتَجعَلَ لَها مَقاماً نُصبَ نورِكَ، إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
إلهي ما أوحَشَ طَريقاً لا يَكونُ رَفيقي فيهِ أمَلي فيكَ! وأبعَدَ سَفَراً لا يَكونُ رَجائي مِنهُ دَليلي مِنكَ (4)، خابَ مَنِ اعتَصَمَ بِحَبلِ غَيرِكَ، وضَعُفَ رُكنُ مَنِ استَنَدَ إلى غَيرِ رُكنِكَ. فَيا مُعَلِّمَ مُؤَمِّليهِ الأَمَلَ فَيُذهِبُ عَنهُم كَآبَةَ الوَجَلِ لا تَحرِمني صالِحَ العَمَلِ، وَاكلَأني كِلاءَةَ مَن فارَقَتهُ الحِيَلُ، فَكَيفَ يَلحَقُ مُؤَمِّليكَ ذُلُّ الفَقرِ وأنتَ الغَنِيُّ عَن مَضارِّ المُذنِبينَ.إلهي، وإنَّ كُلَّ حَلاوَةٍ مُنقَطِعَةٌ وحَلاوَةَ الإِيمانِ تَزدادُ حَلاوَتُهَا اتِّصالاً بِكَ، إلهي وإنَّ قَلبي قَد بَسَطَ أمَلَهُ فيكَ، فَأَذِقهُ مِن حَلاوَةِ بَسطِكَ إيّاهُ البُلوغَ لِما أمَّلَ، إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.إلهي، أسأَلُكَ مَسأَلَةَ مَن يَعرِفُكَ كُنهَ مَعرِفَتِكَ مِن كُلِّ خَيرٍ يَنبَغي لِلمُؤمِنِ أن يَسلُكَهُ، وأعوذُ بِكَ مِن كُلِّ شَرٍّ وفِتنَةٍ أعَذتَ بِها أحِبّاءَكَ مِن خَلقِكَ، إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ.إلهي أسأَلُكَ مَسأَلَةَ المِسكينِ الَّذي قَد تَحَيَّرَ في رَجاءهُ فَلا يَجِدُ مَلجَأً ولا مَسنَداً يَصِلُ بِهِ إلَيكَ ولا يَستَدِلُّ بِهِ عَلَيكَ إلّا بِكَ، وبِأَركانِكَ ومَقاماتِكَ الَّتي لا تَعطيلَ لَها مِنكَ.فَأَسأَلُكَ بِاسمِكَ الَّذي ظَهَرتَ بِهِ لِخاصَّةِ أولِيائِكَ فَوَحَّدوكَ، وعَرَفوكَ فَعَبَدوكَ بِحَقيقَتِكَ، أن تُعَرِّفَني نَفسَكَ؛ لِاُقِرَّ لَكَ بِرُبوبِيَّتِكَ عَلى حَقيقَةِ الإِيمانِ بِكَ ولا تَجعَلني يا إلهي مِمَّن يَعبُدُ الاِسمَ دونَ المَعنى، وَالحَظني بِلَحظَةٍ مِن لَحَظاتِكَ تُنَوِّرُ بِها قَلبي بِمَعرِفَتِكَ خاصَّةً ومَعرِفَةِ أولِيائِكَ، إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
*******
المصدر: الصحيفة العلوية
(1) فدحه: اجهده.
(2) يزوه السفه: سفهه عن قربك.
(3) طالت اسماع السامعين (ظ).
(4) لا يكون دليلي فيه رجائي منك (ظ).